الجمعة، 20 مايو 2022

مجلد 9 و10 -كتاب : الكامل في التاريخ ابن الأثير

مجلد 9 و10 -كتاب : الكامل في التاريخ ابن الأثير
 
ثم إن الخوارج لقي بعضهم بعضاً واجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فخطبهم فزهدهم في الدنيا وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: اخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضلة. فقال له حرقوص بن زهير: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعوكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها، ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم، ف (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) النحل: 128. فقال حمزة ابن سنان الأسدي: يا قوم إن الرأي ما رأيتم فولوا أمركم رجلاً منكم فإنكم لابد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها وترجعون إليها. فعرضوها على زيد بن حصين الطائي فأبى، وعرضوها على حرقوص بن زهير فأبى، وعلى حمزة بن سنان وشريح بن أوفى العبسي فأبيا، وعرضوها على عبد الله بن وهب، فقال: هاتوها، أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقاً من الموت. فبايعوه لعشر خلون من شوال. وكان يقال له ذو الثفنات.
ثم اجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي، فقال ابن وهب: اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها لإنفاذ حكم الله فإنكم أهل الحق. قال شريح: نخرج إلى المدائن فننزلها ونأخذها بأبوابها ونخرج منها سكانها ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدمون علينا. فقال زيد بن حصين: إنكم إن خرجتم مجتمعين اتبعتم ولكن اخرجوا وحداناً مستخفين، فأما المدائن فإن بها من يمنعكم، ولكن سيروا حتى ننزل جسر النهروان وتكاتبوا إخوانكم من أهل البصرة. قالوا: هذا الرأي.
وكتب عبد الله بن وهب إلى من بالبصرة منهم يعلمونهم ما اجتمعوا عليه ويحثونهم على اللحاق بهم، وسير الكتاب إليهم، فأجابوه أنهم على اللحاق به.
فلما عزموا على المسير تعبدوا ليلتهم، وكانت ليلة الجمعة ويوم الجمعة، وساروا يوم السبت، فخرج شريح بن أوفى العبسي وهو يتلو قول الله تعالى: (فخرج منها خائفاً يترقب) إلى (سواء السبيل) القصص: 21 - 22. وخرج معهم طرفة بن عدي بن حاتم الطائي، فاتبعه أبوه، فلم يقدر عليه، فانتهى إلى المدائن ثم رجع، فلما بلغ ساباط لقيه عبد الله بن وهب الراسبي في نحو عشرين فارساً، فأراد عبد الله قتله فمنعه عمرو بن مالك النبهاني وبشر بن زيد البولاني، وأرسل عدي إلى سعد بن مسعود عامل علي على المدائن يحذره أمرهم فحذر، وأخذ أبواب المدائن وخرج في الخيل واستخلف بها ابن أخيه المختار بن أبي عبيد، وسار في طلبهم. فأخبر عبد الله بن وهب خبره، فرابأ طريقه وسار على بغداذ، ولحقهم سعد بن مسعود بالكرخ في خمسمائة فارس عند المساء، فانصرف إليهم عبد الله في ثلاثين فارساً، فاقتتلوا ساعة وامتنع القوم منهم.
وقال أصحاب سعد لسعد: ما تريد من قتال هؤلاء ولم يأتك فيهم أمر؟ خلهم فليذهبوا، واكتب إلى أمير المؤمنين فإن أمرك باتباعهم اتبعتهم، وإن كفاكهم غيرك كان في ذلك عافية لك. فأبى عليهم. فلما جن عليهم الليل خرج عبد الله بن وهب فعبر دجلة إلى أرض جوخى وسار إلى النهروان فوصل إلى أصحابه وقد أيسوا منه، وقالوا: إن كان هلك ولينا الأمر زيد بن حصين أو حرقوص بن زهير.
وسار جماعة من أهل الكوفة يريدون الخوارج ليكونوا معهم، فردهم أهلوهم كرهاً، منهم القعقاع بن قيس الطائي عم الطرماح بن حكيم، وعبد الله بن حكيم بن عبد الرحمن البكائي، وبلغ علياً أن سالم بن ربيعة العبسي يريد الخروج فأحضره عنده ونهاه فانتهى.
ولما خرجت الخوارج من الكوفة أتى علياً أصحابه وشيعته فبايعوه وقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. فشرط لهم فيه سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فجاءه ربيعة بن أبي شداد الخثعمي، وكان شهد معه الجمل وصفين ومعه راية خثعم، فقال له: بايع على كتاب الله وسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال ربيعة: على سنة أبي بكر وعمر. قال له علي: ويلك! لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يكونا على شيء من الحق. فبايعه. فنظر إليه علي وقال: أما والله لكأني بك وقد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت، وكأني بك وقد وطئتك الخيل بحوافرها. فقتل يوم النهر مع خوارج البصرة.
وأما خوارج البصرة فإنهم اجتمعوا في خمسمائة رجل وجعلوا عليهم مسعر بن فدكي التميمي، فعلم بهم ابن عباس فأتبعهم أبا الأسود الدئلي، فلحقهم بالجسر الأكبر، فتواقفوا حتى حجز بينهم الليل، وأدلج مسعر بأصحابه وأقبل يعترض الناس وعلى مقدمته الأشرس بن عوف الشيباني، وسار حتى لحق بعبد الله بن وهب بالنهر.
فلما خرجت الخوارج وهرب أبو موسى إلى مكة ورد علي ابن عباس إلى البصرة قام في الكوفة فخطبهم فقال: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدثان الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. أما بعد فإن المعصية تورث الحسرة وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وفي هذه الحكومة أمري ونحلتكم رأيي لو كان لقصيرٍ أمرٌ، ولكن أبيتم إلا ما أردتم فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
إلا أن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما وأحييا ما أمات القرآن واتبع كل واحد منهما هواه بغير هدىً من الله فحكما بغير حجة بينةٍ ولا سنة ماضية واختلفا في حكمهما وكلاهما لم يرشد فبرىء الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين، استعدوا وتأهبوا للمسير إلى الشام وأصحبوا في معسكركم إن شاء الله يوم الإثنين.
ثم نزل، وكتب إلى الخوارج بالنهر: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زيد بن حصين وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس. أما بعد فإن هذين الرجلين اللذين ارتضينا حكمين قد خالفا كتاب الله واتبعا هواهما بغير هدىً من الله فلم يعملا بالسنة ولم ينفذا القرآن حكماً فبرىء الله منهما ورسوله والمؤمنون، فإذا بلغكم كتابي هذا فأقبلوا إلينا فإنا سائرون إلى عدونا وعدوكم ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه.
فكتبوا إليه: أما بعد فإنك لم تغضب لربك وإنما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك وإلا فقد نبذناك على سواء، إن الله لا يحب الخائنين.
فلما قرأ كتابهم أيس منهم ورأى أن يدعهم ويمضي بالناس حتى يلقى أهل الشام فيناجزهم، فقام في أهل الكوفة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنه من ترك الجهاد في الله وأدهن في أمره كان على شفا هلكة إلا أن يتداركه الله بنعمته، فاتقوا الله وقاتلوا من حاد الله ورسوله وحاول أن يطفىء نور الله، فقاتلوا الخاطئين الضالين القاسطين الذين ليسوا بقراء القرآن ولا فقهاء في الدين ولا علماء في التأويل، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام، والله لو ولوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل، تيسروا للمسير إلى عدوكم من أهل المغرب، وقد بعثنا إلى إخوانكم من أهل البصرة ليقدموا عليكم، فإذا اجتمعتم شخصنا إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكتب إلى ابن عباس: أما بعد فإنا خرجنا إلى معسكرنا بالنخيلة وقد أجمعنا على المسير إلى عدونا من أهل المغرب، فاشخص إلى الناس حتى يأتيك رسولي، وأقم حتى يأتيك أمري، والسلام عليك.
فقرأ ابن عباس الكتاب على الناس وندبهم مع الأحنف بن قيس، فشخص ألف وخمسمائة، فخطبهم وقال: يا أهل البصرة أتاني كتاب أمير المؤمنين فأمرتكم بالنفير إليه فلم يشخص منكم إليه إلا ألف وخمسمائة وأنتم ستون ألف مقاتل سوى أبنائكم وعبيدكم! ألا انفروا إليه مع جارية بن قدامة السعدي، ولا يجعلن رجل على نفسه سبيلاً، فإني موقع بكل من وجدته متخلفاً عن دعوته عاصياً لإمامه، فلا يلومن رجل إلا نفسه.
فخرج جارية فاجتمع إليه ألف وسبعمائة، فوافوا علياً وهم ثلاثة آلاف ومائتان، فجمع إليه رؤوس أهل الكوفة ورؤوس الأسباع ووجوه الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل الكوفة أنتم إخواني وأنصاري وأعواني على الحق وأصحابي إلى جهاد المحلين بكم أضرب المدبر وأرجو تمام طاعة المقبل، وقد استنفرت أهل البصرة فأتاني منهم ثلاثة آلاف ومائتان، فليكتب لي رئيس كل قبيلة ما في عشيرته من المقاتلة وأبناء المقاتلة الذين أدركوا القتال وعبدان عشيرته ومواليهم ويرفع ذلك إلينا.
فقام إليه سعيد بن قيس الهمذاني فقال: يا أمير المؤمنين سمعاً وطاعة، أنا أول الناس أجاب ما طلبت. وقام معقل بن قيس وعدي بن حاتم وزياد ابن خصفة وحجر بن عدي وأشراف الناس والقبائل فقالوا مثل ذلك، وكتبوا إليه ما طلب، وأمروا أبناءهم وعبيدهم أن يخرجوا معهم ولا يتخلف منهم متخلف، فرفعوا إليه أربعين ألف مقاتل وسبعة عشر ألفاً من الأبناء ممن أدرك وثمانية آلاف من مواليهم وعبيدهم، وكان جميع أهل الكوفة خمسة وستين ألفاً سوى أهل البصرة، وهم ثلاثة آلاف ومائتا رجل.
وكتب إلى سعد بن مسعود بالمدائن يأمره بإرسال من عنده من المقاتلة.
وبلغ علياً أن الناس يقولون: لو سار بنا إلى قتال هذه الحرورية فإذا فرغنا منهم توجهنا إلى قتال المحلين! فقال لهم: بلغني أنكم قلتم كيت وكيت! وإن غير هؤلاء الخارجين أهم إلينا! فدعوا ذكرهم وسيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ملوكاً ويتخذوا عباد الله خولاً. فناداه الناس: أن سر بنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت. وقام إليه صيفي بن فسيل الشيباني فقال: يا أمير المؤمنين نحن حزبك وأنصارك نعادي من عاداك ونشايع من أناب إلى طاعتك من كانوا وأينما كانوا، فإنك إن شاء الله لن تؤتى من قلة عدد وضعف نية أتباع.
ذكر قتال الخوارجقيل: لما أقبلت الخارجة من البصرة حتى دنت من النهروان رأى عصابةٌ منهم رجلاً يسوق بامرأة على حمار، فدعوه فانتهروه فأفزعوه وقالوا له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: أفزعناك؟ قال: نعم. قالوا: لا روع عليك، حدثنا عن أبيك حديثاً سمعه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم تنفعنا به. فقال: حدثني أبي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسي فيها مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح كافراً ويمسي مؤمناً. قالوا: لهذا الحديث سألناك، فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيراً. قالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها؟ قال: إنه كان محقاً في أولها وفي آخرها. قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم. وبعده؟. قال: إنه أعلم بالله منكم وأشد توقياً على دينه وأنفذ بصيرة. فقالوا: إنك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلةً ما قتلناها أحداً.
فأخذوه وكتفوه ثم أقبلوا به وبامرأته، وهي حبلى متم، حتى نزلوا تحت نخل مواقير، فسقطت منه رطبة، فأخذها أحدهم فتركها في فيه، فقال آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن، فألقاها. ثم مر بهم خنزير لأهل الذمة فضربه أحدهم بسيفه، فقالوا: هذا فساد في الأرض، فلقي صاحب الخنزير فأرضاه، فلما رأى ذلك منهم ابن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى فما علي منكم من بأس، إني مسلم ما أحدثت في الإسلام حدثاً، ولقد آمنتموني قلتم: لا روع عليك. فأضجعوه فذبحوه، فسال دمه في الماء، وأقبلوا إلى المرأة فقالت: أنا امرأة ألا تتقون الله! فبقروا بطنها، وقتلوا ثلاث نسوة من طيء، وقتلوا أم سنان الصيداوية.
فلما بلغ علياً قتلهم عبد الله بن خباب واعتراضهم الناس، بعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتيهم وينظر ما بلغه عنهم ويكتب به إليه ولا يكتمه. فلما دنا منهم يسائلهم قتلوه، وأتى علياً الخبر والناس معه، فقالوا: يا أمير المؤمنين علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا؟ سر بنا إلى القوم فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدونا من أهل الشام.
وقام إليه الأشعث بن قيس وكلمه بمثل ذلك، وكان الناس يرون أن الأشعث يرى رأيهم لأنه كان يقول يوم صفين: أنصفنا قوم يدعون إلى كتاب الله. فلما قال هذه المقالة علم الناس أنه لم يكن يرى رأيهم.
فأجمع علي على ذلك وخرج فعبر الجسر وسار إليهم، فلقيه منجم في ميسره فأشار عليه أن يسير وقتاً من النهار، فقال له: إن أنت سرت في غيره لقيت أنت وأصحابك ضراً شديداً. فخالفه علي وسار في الوقت الذي نهاه عنه، فلما فرغ من أهل النهر حمد الله وأثنى عليه ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمر بها المنجم لقال الجهال الذين لا يعلمون شيئاً: سار في الساعة التي أمر بها المنجم فظفر. وكان المنجم مسافر بن عفيف الأزدي.
فأرسل علي إلى أهل النهر: أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم أقتلهم بهم ثم أنا تارككم وكاف عنكم حتى ألقى أهل المغرب فلعل الله يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه من أمركم. فقالوا: كلنا قتلهم وكلنا مستحل لدمائكم ودمائهم. وخرج إليهم قيس بن سعد بن عبادة فقال لهم: عباد الله أخرجوا إلينا طلبتنا منكم وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه وعودوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم فإنكم ركبتم عظيماً من الأمر، تشهدون علينا بالشرك وتسفكون دماء المسلمين! فقال لهم عبد الله بن شجرة السلمي، إن الحق قد أضاء لنا فلسنا مبايعيكم أو تأتونا بمثل عمر، فقال: ما نعلمه فينا غير صاحبنا، فهل تعلمونه فيكم؟ قالوا: لا. قال: نشدتكم الله في أنفسكم أن تهلكوها فإني لا أرى الفتنة إلا وقد غلبت عليكم.
وخطبهم أبو أيوب الأنصاري فقال: عباد الله إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها، أليست بيننا وبينكم فرقة فعلام تقاتلوننا؟ فقالوا: إنا لو تابعناكم اليوم حكمتم غداً. قال: فإني أنشدكم الله أن تعجلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في القابل.
وأتاهم علي فقال: أيتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة! وصدها عن الحق الهوى، وطمع بها النزق، وأصبحت في الخطب العظيم! إني نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غداً صرعى بأثناء هذا الوادي وبأهضام هذا الغائط بغير بينة من ربكم ولا برهان مبين، ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، ونبأتكم أنها مكيدة، وأن القوم ليسا بأصحاب دين، فعصيتموني، فلما فعلت شرطت واستوثقت على الحكمين أن ييحا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة، فنبذنا أمرهما ونحن على الأمر الأول؟ فمن أين أتيتم؟ فقالوا: إنا حكمنا فلما حكمنا أثمنا، وكنا بذلك كافرين وقد تبنا، فإن تبت فنحن معك ومنك، وإن أبيت فإنا منابذوك على سواء. فقال علي: اصابكم حاصب ولا بقي منكم وابر، أبعد إيماني برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر! لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، ثم انصرف عنهم.
وقيل: إنه كان من كلامه لهم: يا هؤلاء إن أنفسكم قد سولت لكم فراقي لهذه الحكومة التي أنتم بدأتموها وسألتموها وأنا لها كاره، وأنبأتكم أن القوم إنما طلبوا مكيدةً ووهناً فأبيتم علي إباء المخالفين، وعندتم عنود النكداء العاصين، حتى صرفت رأيي إلى رأيكم، رأي معاشر والله أخفاء الهام، سفهاء الأحلام، فلم آت، لا أبا لكم، هجراً! والله ما ختلتهم عن أموركم، ولا أخفيت شيئاً من هذا الأمر عنكم، ولا أوطأتكم عشوةً، ولا دنيت لكم الضراء، وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهراً فأجمع رأي ملإكم على أن اختاروا رجلين فأخذنا عليهما أن يحكما بما في القرآن ولا يعدواه، فتاها فتركا الحق وهما يبصرانه وكان الجور هواهما، والثقة في أيدينا حين خالفا سبيل الحق وأتيا بما لا يعرف، فبينوا لنا بماذا تستحلون قتالنا والخروج عن جماعتنا وتضعون أسيافكم على عواتقكم ثم تستعرضون الناس تضربون رقابهم؟ إن هذا لهو الخسران المبين، والله لو قتلتم على هذا دجاجةً لعظم عند الله قتلها! فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام؟ فتنادوا: لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيأوا للقاء الله، الرواح الرواح إلى الجنة! فعاد علي عنهم.
ثم إن الخوارج قصدوا جسر النهر وكانوا غربه، فقال لعلي أصحابه: إنهم قد عبروا النهر. فقال: لن يعبروا. فأرسلوا طليعة فعاد وأخبرهم أنهم عبروا النهر، وكان بينهم وبينه عطفة من النهر، فلخوف الطليعة منهم لم يقربهم، فعاد فقال: إنهم قد عبروا النهر. فقال علي: والله ما عبروه وإن مصارعهم لدون الجسر، ووالله لا يقتل منكم عشرة ولا يسلم منهم عشرة، وتقدم علي إليهم فرآهم عند الجسر لم يعبروه، وكان الناس قد شكوا في قوله وارتاب به بعضهم، فلما رأوا الخوارج لم يعبروا كبروا وأخبروا علياً بحالهم، فقال: والله ما كذبت ولا كذبت! ثم إنه عبأ أصحابه، فجعل على ميمنته حجر ابن عدي، وعلى ميسرته شبث بن ربعي أو معقل بن قيس الرياحي، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة، وهم سبعمائة أو ثمانمائة، قيس بن سعد بن عبادة، وعبأت الخوارج فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدي، وعلى رجالتهم حرقوص بن زهير السعدي.
وأعطى علي أبا أيوب الأنصاري راية الأمان، فناداهم أبو أيوب فقال: من جاء تحت هذه الراية فهو آمن، ومن لم يقتل ولم يستعرض، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم.
فقال فروة بن نوفل الأشجعي: والله ما أدري على أي شيء نقاتل علياً، أرى أن أنصرف حتى يتضح لي بصيرتي في قتاله أو أتابعه. فانصرف في خمسمائة فارس حتى نزل البندنيجين والدسكرة. وخرجت طائفة أخرى متفرقين فنزلوا الكوفة، وخرج إلى علي نحو مائة، وكانوا أربعة آلاف، فبقي مع عبد الله بن وهب ألف وثمانمائة، فزحفوا إلى علي، وكان علي قد قال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدأوكم. فتنادوا: الرواح إلى الجنة! وحملوا على الناس، فافترقت خيل علي فرقتين: فرقة نحو الميمنة وفرقة نحو الميسرة، واستقبلت الرماة وجوههم بالنبل، وعطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف، فما لبثوا أن أناموهم. فلما رأى حمزة بن سنان الهلاك نادى أصحابه: أن انزلوا! فذهبوا لينزلوا فلم يلبثوا أن حمل عليهم الأسود بن قيس المرادي وجاءتهم الخيل من نحو علي فأهلكوا في ساعة، فكأنا قيل لهم موتوا فماتوا.
وجاء أبو أيوب الأنصاري إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين قتلت زيد بن حصين الطائي، طعنته في صدره حتى خرج السنان من ظهره، وقلت له: أبشر يا عدو الله بالنار. فقال: ستعلم غداً أينا أولى بها صلياً. فقال له علي: هو أولى بها صلياً. وجاءه هانىء بن خطاب الأزدي وزياد بن خصفة يحتجان في قتل عبد الله بن وهب، فقال: كيف صنعتما؟ قالا: لما رأيناه عرفناه فابتدرناه وطعناه برمحينا. فقال: كلاكما قاتل.
وحمل جيش بن ربيعة الكناني على حرقوص بن زهير فقتله، وحمل عبد الله ابن زحر الخولاني على عبد الله بن شجرة السلمي فقتله، ووقع شريح بن أوفى إلى جانب جدار فقاتل عليه، وكان جل من يقاتله همدان، فقال:
قد علمت جاريةٌ عبسيه ... ناعمةٌ في أهلها مكفيه
أني سأحمي ثلمتي العشية
فحمل عليه قيس بن معاوية فقطع رجله، فجعل يقاتلهم وهو يقول:
القرم يحمي شوله معقولا
فحمل عليه قيس أيضاً فقتله، فقال الناس:
اقتتلت همدان يوماً ورجل ... اقتتلوا من غدوةٍ حتى الأصل
ففتح الله لهمدان الرجل
ذكر مقتل ذي الثدية
قد روى جماعة أن علياً كان يحدث أصحابه قبل ظهور الخوارج أن قوماً يخرجون يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، علامتهم رجل مخدج اليد، سمعوا ذلك منه مراراً، فلما خرج أهل النهروان سار بهم إليهم علي وكان منه معهم ما كان، فلما فرغ أمر أصحابه أن يلتمسوا المخدج، فالتمسوه، فقال بعضهم: ما نجده، حتى قال بعضهم: ما هو فيهم، وهو يقول: والله إنه لفيهم، والله ما كذبت ولا كذبت! ثم إنه جاءه رجل فبشره فقال: يا أمير المؤمنين قد وجدناه. وقيل: بل خرج علي في طلبه قبل أن يبشره الرجل ومعه سليم بن ثمامة الحنفي والريان بن صبرة فوجده في حفرة على شاطىء النهر في خمسين قتيلاًن فلما استخرجه نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع كثدي المرأة وحلمة عليها شعرات سود فغذا مدت امتدت حتى تحاذي يده الطولى ثم تترك فتعود إلى منكبيه. فلما رآه قال: الله أكبر ما كذبت ولا كذبت، لولا أن تنكلوا عن العمل لأخبرتكم بما قص الله على لسان نبيه، صلى الله عليه وسلم، لمن قاتلهم مستبصراً في قتالهم عارفاً للحق الذي نحن عليه.
وقال حين مر بهم وهم صرعى: بؤساً لكم! لقد ضركم من غركم! قالوا: يا أمير المؤمنين من غرهم؟ قال: الشيطان وأنفسٌ أمارة بالسوء غرتهم بالأماني وزينت لهم المعاصي ونبأتهم أنهم ظاهرون.
قيل: وأخذ ما في عسكرهم من شيء، فأما السلاح والدواب وما شهر عليه فقسمه بين المسلمين، وأما المتاع والإماء والعبيد فإنه رده على أهله حين قدم.
وطاف عدي بن حاتم في القتلى على ابنه طرفة فدفنه، ودفن رجال من المسلمين قتلاهم. فقال علي حين بلغه: أتقتلونهم ثم تدفنونهم؟ ارتحلوا! فارتحل الناس.
فلم يقتل من أصحاب علي إلا سبعة. وقيل: كانت الوقعة سنة ثمان وثلاثين. وكان فيمن قتل من أصحابه يزيد بن نويرة الأنصاري، وله صحبة وسابقة، وشهد له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالجنة، وكان أول من قتل.
ذكر رجوع عليّ إلى الكوفة
ولما فرغ علي من أهل النهر حمد الله وأثنى عليه وقال: إن الله قد أحسن بكم وأعز نصركم فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم. قالوا: يا أمير المؤمنين نفدت نبالنا وكلت سيوفنا ونصلت أسنة رماحنا وعاد أكثرها قصداً، فارجع إلى مصرنا فلنستعد، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا فإنه أقوى لنا على عدونا. وكان الذي تولى كلامه الأشعث بن قيس، فأقبل حتى نزل النخيلة فأمر الناس أن يلزموا عسكرهم ويوطنوا على الجهاد أنفسهم وأن يقلوا زيارة أبنائهم ونسائهم حتى يسيروا إلى عدوهم. فأقاموا فيه أياماً ثم تسللوا من معسكرهم فدخلوا إلا رجالاً من وجوه الناس وترك المعسكر خالياً، فلما رأى ذلك دخل الكوفة وانكسر عليه رأيه في المسير وقال لهم أيضاً: أيها الناس استعدوا للمسير إلى عدوكم ومن في جهاده القربة إلى الله، عز وجل، ودرك الوسيلة عنده، حيارى من الحق جفاة عن الكتاب يعمهون في طغيانهم، فأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل وتوكلوا على الله وكفى بالله وكيلاً وكفى بالله نصيراً. فلم ينفروا ولا تيسروا. فتركهم أياماً حتى إذا أيس من أن يفعلوا دعا رؤساءهم ووجوههم فسألهم عن رأيهم وما الذي يبطىء بهم. فمنهم المعتل ومنهم المتكره، وأقلهم من نشط.
فقام فيهم فقال: عباد الله ما بالكم إذا أمرتكم أن تنفروا (اثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) التوبة: 38، وبالذل والهوان من العز خلفاً؟ وكلما ناديتكم إلى الجهاد دارت أعينكم كأنكم من الموت في سكرة وكأن قلوبكم مألوسة وأنتم لا تعقلون، فكأن أبصاركم كمةٌ وأنتم لا تبصرون! لله أنتم! ما أنتم إلا أسد الشرى في الدعة، وثعالب رواغة حين تدعون إلى البأس. ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي. ما أنتم بركب يصال به. لعمر الله لبئس حشاش الحرب أنتم! إنكم تكادون ولا تكيدون، وتنتقص أطرافكم وأنتم لا تتحاشون، ولا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون. ثم قال: أما بعد فإن لي عليكم حقاً وإن لكم علي حقاً، فأما حقكم علي فالنصيحة لكم ما صحبتكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كي لا تجهلوا، وتأديبكم كي تعلموا، وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصح لي في المغيب والمشهد والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم، فإن يرد الله بكم خيراً تنزعوا عما أكره وترجعوا إلى ما أحب فتنالوا ما تلبون وتدركوا ما تأملون.
ذكر عدة حوادث
قيل: وحج بالناس هذه السنة عبيد الله بن عباس، وكان عامل علي على اليمن؛ وكان على مكة والطائف قثم بن العباس، وكان على المدينة سهل بن حنيف، وقيل تمام بن العباس؛ وكان على البصرة عبد الله بن عباس؛ وعلى مصر محمد بن أبي بكر. ولما سار علي إلى صفين استخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري؛ وكان على خراسان خليد بن قرة اليربوعي؛ وكان بالشام معاوية ابن أبي سفيان.
وفيها قتل حازم بن أبي حازم أخو قيس الأحمسي البجلي بصفين مع علي. وفيها مات خباب بن الأرت، شهد بدراً وما بعدها، وشهد صفين مع علي والنهروان، وقيل لم يشهدها، كان مريضاً ومات قيل قدوم علي إلى الكوفة، وقد تقدم ذكره، وقيل مات سنة تسع وثلاثين وكان عمره ثلاثاً وستين سنة. وفيها قتل أبو الهيثم بن التيهان بصفين مع علي، وقيل عاش بعدها يسيراً، وقتل بها أخوه عبيد بن التيهان، وكان أبو الهيثم أول من بايع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليلة العقبة، في قول، وهو بدري. وفيها قتل يعلى ابن منية، وهي أمه، واسم أبيه أمية التميمي، وهو ابن أخت عتبة بن غزوان، وقيل ابن عمته، وكان قد شهد الجمل مع عائشة، ثم شهد صفين مع علي فقتل بها، وكان إسلامه يوم الفتح، وشهد حنيناً. وقتل بصفين مع علي أبو عمرة الأنصاري النجاري والد عبد الرحمن، وهو أيضاً بدري. وفيها قتل أبو فضالة الأنصاري في قوله، وهو بدري. وفيها توفي سهل ابن حنيف الأنصاري في قول، وهو بدري، وشهد مع علي حروبه. وتوفي بها صهيب بن سنان وصفوان بن بيضاء، وهو بدري. وفي هذه السنة توفي عبد الله بن سعد بن أبي سرح بعسقلان فجأة وهو في الصلاة وكره الخروج مع معاوية في صفين، وقيل شهدها، ولا يصح.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين
ذكر ملك عمرو بن العاص مصر
وقتل محمد بن أبي بكر الصديقفي هذه السنة قتل محمد بن أبي بكر الصديق بمصر وهو عامل علي عليها، وقد ذكرنا سبب تولية علي إياه مصر وعزل قيس بن سعد عنها ودخوله مصر وإنفاذه ابن مضاهم الكلبي إلى أهل خرنبا، فلما مضى ابن مضاهم إليهم قتلوه، وخرج معاوية بن حديج السكوني وطلب بدم عثمان ودعا إليه، فأجابه ناس وفسدت مصر على محمد بن أبي بكر، فبلغ ذلك علياً فقال: ما لمصر إلا أحد الرجلين، صاحبنا الذي عزلنا، يعني قيساً، أو الأشتر، وكان الأشتر قد عاد بعد صفين إلى عمله بالجزيرة، وقال علي لقيس: أقم عندي على شرطتي حتى تنقضي الحكومة ثم تسير إلى أذربيجان. فلما بلغ علياً أمر مصر كتب إلى الأشتر وهو بنصيبين يستدعيه، فحضر عنده، فأخبره خبر أهل مصر وقال: ليس لها غيرك فاخرج إليها، فإني لو لم أوصك اكتفيت برأيك، واستعن بالله واخلط الشدة باللين وارفق ما كان الرفق أبلغ وتشد حين لا يغني إلا الشدة.
فخرج الأشتر يتجهز إلى مصر وأتت معاوية عيونه بذلك، فعظم عليه، وكان قد طمع في مصر، فعلم أن الأشتر إن قدمها كان أشد عليه من محمد بن أبي بكر، فبعث معاوية إلى المقدم على أهل الخراج بالقلزم وقال له: إن الأشتر قد ولي مصر، فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجاً ما بقيت وبقيت. فخرج الحابسات حتى أتى القلزم وأقام به، وخرج الأشتر من العراق إلى مصر، فلما انتهى إلى القلزم استقبله ذلك الرجل فعرض عليه النزول، فنزل عنده، فأتاه بطعام، فلما أكل أتاه بشربة من عسل قد جعل فيه سماً فسقاه إياه، فلما شربه مات.
وأقبل معاوية يقول لأهل الشام: إن علياً قد وجه الأشتر إلى مصر فادعوا الله عليه، فكانوا يدعون اله عليه كل يوم، وأقبل الذي سقاه إلى معاوية فأخبره بمهلك الأشتر، فقام معاوية خطيباً ثم قال: أما بعد فإنه كانت لعلي يمينان فقطعت إحداهما بصفين، يعني عمار بن ياسر، وقطعت الأخرى اليوم، يعني الأشتر.
فلما بلغ علياً موته قال: لليدين وللفمذ وكان قد ثقل عليه لأشياء نقلت عنه، وقيل: إنه لما بلغه قتله قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! مالك وما مالك وهل موجود مثل ذلك؟ لو كان من حديد لكان قيداً أو من حجر لكان صلداً! على مثله فلتبك البواكي! وهذا أصح لأنه لو كان كارهاً لم يوله مصر.
وكان الأشتر قد روى الحديث عن عمر وعلي وخالد بن الوليد وأبي ذر، وروى عنه جماعة، وقال أحمد بن صالح: كان ثقة.
قيل: ولما بلغ محمد بن أبي بكر إنفاذ الأشتر شق عليه فكتب إليه علي: أما بعد فقد بلغني موجدتك من تسريحي الأشتر إلى عملك، وإني لم أفعل ذلك استبطاء لك في الجهاد ولا ازدياداً مني لك في الجد، ولو نزعت ما تحت يدك لوليتك ما هو أيسر عليك مؤونة منه وأعجب إليك ولايةً، إن الرجل الذي كنت وليته أمر مصر كان لنا نصيحاً وعلى عدونا شديداً، وقد استكمل أيامه ولاقى حمامه ونحن عنه راضوان فرضي الله عنه وضاعف له الثواب، اصبر لعدوك وشمر للحرب و (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) النحل: 125، وأكثر ذكر الله والاستعانة به والخوف منه يكفك ما أهمك ويعنك على ما ولاك.
وكتب إليه محمد: أما بعد فقد انتهى إلي كتابك وفهمته، وليس على أحد من الناس ارضى برأي أمير المؤمنين ولا أجهد على عدوه ولا أرأف بوليه مني، وقد خرجت فعسكرت وآمنت الناس إلا من نصب لنا حرباً وأظهر لنا خلافاً، وأنا متبع أمر أمير المؤمنين وحافظه. والسلام.
وقيل: إنما تولى الأشتر مصر بعد قتل محمد بن أبي بكر.
وكان أهل الشام ينتظرون بعد صفين أمر الحكمين، فلما تفرقا بايع أهل الشام معاوية بالخلافة، ولم يزدد إلا قومة، واختلف الناس بالعراق على علي، فما كان لمعاوية هم إلا مصر، وكان يهاب أهلها لقربهم منه وشدتهم على من كان على رأي عثمان، وكان يرجو أنه إذا ظهر عليها ظهر على حرب علي لعظم خراجها، فدعا معاوية عمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة وبسر ابن أبي أرطأة والضحاك بن قيس وعبد الرحمن بن خالد وأبا الأعور السلمي وشرحبيل بن السمط الكندي فقال لهم: أتدرون لم جمعتكم؟ فإني جمعتكم لأمر لي مهم! فقالوا: لم يطلع الله على الغيب أحداً وما نعلم ما تريد. فقال عمرو بن العاص: دعوتنا لتسألنا عن رأينا في مصر، فإن كنت جمعتنا لذلك فاعزم واصبر؛ فنعم الرأي رأيت في افتتاحها! فإن فيه عزك وعز أصحابك وكبت عدوك وذل أهل الشقاق عليك. فقال معاوية: أهمك يا ابن العاص ما أهمك! وذلك أن عمراً كان صالح معاوية على قتال علي على أن له مصر طعمةً ما بقي. وأقبل معاوية على أصحابه وقال: أصاب أبو عبد الله، فما ترون؟ فقالوا: ما نرى إلا ما رأى عمرو. قال: فكيف أصنع؟ فإن عمراً لم يفسر كيف اصنع. فقال عمرو: أرى أن تبعث جيشاً كثيفاً عليهم رجل حازم صابر تأمنه وتثق به فيأتي مصر فإنه سيأتيه من كان على مثل رأينا فيظاهره على عدونا، فإن اجتمع جندك ومن بها على رأينا رجوت أن ينصرك الله.
قال معاوية: أرى أن نكاتب من بها من شيعتنا فنمنيهم ونأمرهم بالثبات، ونكاتب من بها من عدونا فندعوهم إلى صلحنا ونمنيهم شكرنا ونخوفهم حربنا، فإن كان ما أردنا بغير قتال فذاك الذي أردنا وإلا كان حربهم من بعد ذلك. إنك يا ابن العاص بورك لك في الشدة والعجلة، وأنا بورك لي في التؤدة. قال عمرو: افعل ما ترى فما أرى أمرنا يصير إلا إلى الحرب.
فكتب معاوية إلى مسلمة بن مخلد ومعاوية بن حديج السكوني، وكانا قد خالفا علياً، يشكرهما على ذلك ويحثهما على الطلب بدم عثمان ويعدهما المواساة في سلطانه، وبعثه مع مولاة سبيع.
فلما وقفا عليه أجاب مسلمة بن مخلد الأنصاري عن نفسه وعن ابن حديج: أما بع فإن الأمر الذي بذلنا له أنفسنا واتبعنا به أمر الله أمر نرجو به ثواب ربنا والنصر على من خالفنا وتعجيل النقمة على من سعى على إمامنا، وأما ما ذكرت من المواساة في سلطانك، فتالله إن ذلك أمر ما له نهضنا ولا إياه أردنا، فعجل إلينا بخيلك ورجلك فإن عدونا قد أصبحوا لنا هائبين فإن يأتنا مدد يفتح الله عليك. والسلام.
فجاءه الكتاب وهو بفلسطين، فدعا أولئك النفر وقال لهم: ما ترون؟ قالوا: نرى أن تبعث جنداً.
فأمر عمرو بن العاص ليتجهز إليها، وبعث معه ستة آلاف رجل ووصاه بالتؤدة وترك العجلة. وسار عمرو فنزل أداني أرض مصر، فاجتمعت إليه العثمانية، فأقام بهم وكتب إلى محمد بن ابي بكر: أما بعد فتنح عني بدمك يا ابن أبي بكر فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر، إن الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك وهم مسلموك فاخرج منها إني لك من الناصحين. وبعث معه كتاب معاوية في المعنى أيضاً ويتهدده بقصده حصار عثمان.
فأرسل محمد الكتابين إلى علي ويخبره بنزول عمرو بأرض مصر وأنه رأى التثاقل ممن عنده ويستمده. فكتب إليه علي يأمره أن يضم شيعته إليه ويعده إنفاذ الجيوش إليه ويأمره بالصبر لعدوه وقتاله. وقام محمد بن أبي بكر في الناس وندبهم إلى الخروج إلى عدوهم مع كنانة بن بشر، فانتدب معه ألفان. وخرج محمد بن أبي بكر بعده في ألفين وكنانة على مقدمته، وأقبل عمرو نحو كنانة، فلما دنا منه سرح الكتائب كتيبة بعد كتيبة، فجعل كنانة لا تأتيه كتيبة إلا حمل عليها فألحقها بعمرو بن العاص، فلما رأى ذلك بعث إلى معاوية ابن حديج فأتاه في مثل الدهم، فأحاطوا بكنانة وأصحابه، واجتمع أهل الشام عليهم من كل جانب، فلما رأى ذلك كنانة نزل عن فرسه ونزل معه أصحابه فضاربهم بسيفه حتى استشهد.
وبلغ قتله محمد بن أبي بكر فتفرق عنه أصحابه، وأقبل نحوه عمرو، وما بقي معه أحد، فخرج محمد يمشي في الطريق، فانتهى إلى خربة في ناحية الطريق فأوى إليها، وسار عمرو بن العاص حتى دخل الفسطاط، وخرج معاوية بن حديج في طلب محمد بن أبي بكر فانتهى إلى جماعة على قارعة الطريق فسألهم عنه، فقال أحدهم: دخلت تلك الخربة فرأيت فيها رجلاً جالساً. فقال ابن حديج: هو هو. فدخلوا عليه فاستخرجوه وقد كاد يموت عطشاً، وأقبلوا به نحو الفسطاط، فوثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص، وكان في جنده، وقال: أتقتل أخير صبراً؟ ابعث إلى ابن حديج فانهه عنه. فبعث إليه يأمره أن يأتيه بمحمد، فقال: قتلتم كنانة بن بشر وأخلي أنا محمداً؟ (أكفاركم خيرٌ من أولئكم أم لكم براءة في الزبر؟) القمر: 43، هيهات هيهات! فقال لهم محمد بن أبي بكر: اسقوني ماء. فقال له معاوية بن حديج: لا سقاني الله إن سقيتك قطرةً ابداً، إنكم منعتم عثمان شرب الماء، والله لأقتلنك حتى يسقيك الله من الحميم والغساق! فقال له محمد: يا ابن اليهودية النساجة ليس ذلك إليك إنما ذلك إلى الله، يسقي أولياءه ويظمىء أعداءه أنت وأمثالك، أما والله ولو كان سيفي بيدي ما بلغتم مني هذا. ثم قال له: أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار. فقال محمد: إن فعلت بي ذلك فلطالما فعلتم ذلك بأولياء الله، وإني لأرجو أن يجعلها عليك وعلى أوليائك ومعاوية وعمرو ناراً تلظى كلما خبت زادها الله سعيراً. فغضب منه وقتله ثم ألقاه في جيفة حمار ثم أحرقه بالنار.
فلما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعاً شديداً وقنتت في دبر الصلاة تدعو على معاوية وعمرو وأخذت عيال محمد إليها، فكان القاسم بن محمد بن أبي بكر في عيالهم، ولم تأكل من ذلك الوقت شواء حتى توفيت.
وقد قيل: إن محمداً قاتل عمراً ومن معه قتالاً شديداً فقتل كنانة وانهزم محمد واختبأ عند جبلة بن مسروق، فدل عليه معاوية بن حديج فأحاط به، فخرج محمد فقاتل حتى قتل.
وأما علي فلما جاءه كتاب محمد بن أبي بكر فأجابه عنه ووعده المدد، قام في الناس خطيباً وأخبرهم خبر مصر وقصد عمرو إياها وندبهم إلى إنجادهم وحثهم على ذلك وقال: اخرجوا بنا إلى الجرعة، وهي بين الكوفة والحيرة؛ فلما كان الغد خرج إلى الجرعة فنزلها بكرة وأقام بها حتى انتصف النهار فلم يأته أحد، فرجع، فلما كان العشي استدعى أشراف الناس وهو كئيب فقال: الحمد لله على ما قضى من أمره وقدر من فعله وابتلاني بكم، أيتها القرية التي لا تطيع إذا أمرت، ولا تجيب إذا دعوت، لا أبا لغيركم! ما تنتظرون بمصركم والجهاد على حقكم؟ فوالله لئن جاء الموت، وليأتيني، ليفرقن بيني وبينكم وأنا لصحبتكم قالٍ، وبكم غير كثير، لله أنتم! أما دين يجمعكم ولا محمية تحميكم إذا أنتم سمعتم بعدوكم ينتقص بلادكم ويشن الغارة عليكم؟ أوليس عجيباً أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه على غير عطاء ولا معونة في السنة المرة والمرتين والثلاث إلى أي وجه شاء وأنا أدعوكم وأنتم أولو النهى وبقية الناس على العطاء والمعونة فتتفرقون عني تعصونني وتختلفون علي! فقام كعب بن مالك الأرحبي وأمير المؤمنينيا أمير المؤمنين اندب الناس، لهذا اليوم كنت أدخر نفسي. ثم قال: أيها الناس اتقوا الله وأجيبوا إمامكم وانصروا دعوته وقاتلوا عدوه وأنا أسير إليه. فخرج معه ألفان. فقال له: سر فوالله ما أظنك تدركهم حتى ينقضي أمرهم. فسار بهم خمساً.
ثم إن الحجاج بن غزية الأنصاري قدم من مصر فأخبره بقتل محمد بن أبي بكر، وكان معه، وقدم عليه عبد الرحمن بن شبيب الفزاري من الشام، وكان عينه هناك، فأخبره أن البشارة من عمرو وردت بقتل محمد وملك مصر وسرور أهل الشام بقتله. فقال علي: أما إن حزننا عليه بقدر سرورهم به لا بل يزيد أضعافاً! فأرسل علي فأعاد الجيش الذي أنفذه وقام في الناس خيباً وقال: ألا إن مصر قد افتتحها الفجرة أولو الجور والظلمة الذين صدوا عن سبيل الله وبغوا الإسلام عوجاً! ألا وإن محمد بن أبي بكر استشهد فعند الله نحتسبه! أما والله إن كان كما علمت لممن ينتظر القضاء ويعمل للجزاء ويبغض شكل الفاجر ويحب هدى المؤمن، إني والله ما ألوم نفسي على تقصير، وإني لمقاساة الحروب لجدير خبير، وإني لأتقدم على الأمر وأعرف وجه الحزم وأقوم فيكم بالرأي المصيب وأستصرخكم معلناً وأناديكم نداء المستغيث فلا تسمعون لي قولاً ولا تطيعون لي أمراً حتى تصير بي الأمور إلى عواقب المساءة، فأنتم القوم لا يدرك بكم الثار، ولا تنقض بكم الأوتار، دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع وخمسين ليلة فتجرجرتم جرجرة الجمل الأشدق، وتثاقلتهم إلى الأرض تثاقل من ليست له نية في جهاد العدو ولا اكتساب الأجر، ثم خرج إلي منكم جنيد متذانب كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، فأفٍ لكم! ثم نزل.
ومعاوية بن حديج بضم الحاء، وفتح الدال المهملتين. جارية بن قدامة بالجيم وفي آخره ياء تحتها نقطتان. بسر بن أبي أرطأة رضم الباء الموحدة، وسكون السين المهملة.
ذكر إرسال معاوية عبد الله بن الحضرمي إلى البصرةفي هذه السنة بعد مقتل محمد بن أبي بكر واستيلاء عمرو بن العاص على مصر سير معاوية عبد الله بن عمرو بن الحضرمي إلى البصرة وقال له: إن جل أهلها يرون رأينا في عثمان وقد قتلوا في الطلب بدمه، فهم لذلك حنقون يودون أن يأتيهم من يجمعهم وينهض بهم في الطلب بثأرهم ودم إمامهم، فانزل في مضر وتودد الأزد فإنهم كلهم معك، وادع ربيعة فلن ينحرف عنك أحد سواهم لأنهم كلهم ترابية فاحذرهم.
فسار ابن الحضرمي حتى قدم البصرة، وكان ابن عباس قد خرج إلى علي بالكوفة واستخلف زياد بن أبيه على البصرة، فلما وصل ابن الحضرمي إلى البصرة نزل في بني تميم، فأتاه العثمانية مسلمين عليه وحضره غيرهم، فخطبهم وقال: إن عثمان إمامكم إمام الهدى قتل مظلوماً، قتله علي، فطلبتم بدمه فجزاكم الله خيراً.
فقام الضحاك بن قيس الهلالي، وكان على شرطة ابن عباس، فقال: قبح الله ما جئتنا به وما تدعونا إليه، أتيتنا والله بمثل ما أتانا به طلحة والزبير، أتيانا وقد بايعنا علياً واستقامت أمورنا فحملانا على الفرقة حتى ضرب بعضنا بعضاً، ونحن الآن مجتمعون على بيعته، وقد أقال العثرة، وعفا عن المسيء، أفتأمرنا أن ننتضي أسيافنا ويضرب بعضنا بعضاً ليكون معاوية أميراً؟ والله ليوم من أيام علي خير من معاوية وآل معاوية! فقام عبد الله بن خازم السلمي فقال للضحاك: اسكت فلست بأهل أن تتكلم. ثم أقبل على ابن الحضرمي فقال: نحن أنصارك ويدك والقول قولك فاقرأ كتابك. فأخرج كتاب معاوية إليهم يذكرهم فيه آثار عثمان فيهم وحبه العافية وسده ثغورهم ويذكر قتله ويدعوهم إلى الطلب بدمه ويضمن أنه يعمل فيهم بالسنة ويعطيهم عطائين في السنة. فلما فرغ من قراءته قام الأحنف فقال: لا ناقتي في هذا ولا جملي. واعتزل القوم. وقام عمرو بن مرحوم العبدي فقال: أيها الناس الزموا طاعتكم وجماعتكم ولا تنكثوا بيعتكم فنقع بكم الواقعة. وكان عباس بن صحار العبدي مخالفاً لقومه في حب علي فقام وقال: لننصرنك بأيدينا وألسنتنا. فقال له المثنى بن مخربة العبدي: والله لئن لم ترجع إلى مكانك الذي جئتنا منه لنجاهدنك بأسيافنا ورماحنا، ولا يغرنكم هذا الذي يتكلم، يعني ابن صحار.
فقال ابن الحضرمي لصبرة بن شيمان: أنت ناب من أنياب العرب فانصرني. فقال: لو نزلت في داري لنصرتك.
فلما رأى زياد ذلك خاف فاستدعى حضين بن المنذر ومالك بن مسمع فقال: أنتم يا معشر بكر بن ائل أنصار أمير المؤمنين وثقاته وقد كان من ابن الحضرمي ما ترون وأتاه من أتاه فامنعوني حتى يأتيني أمر أمير المؤمنين. فقال حضين بن المنذر: نعم. وقال مالك وكان رأيه مائلاً إلى بني أمية: هذا أمر لي فيه شركاء أستشير فيه وأنظر. فلما رأى زياد تثاقل مالك خاف أن تختلف عليه ربيعة فأرسل إلى صبرة بن شيمان الحداني الأزدي يطلب أن يجيره وبيت مال المسلمين. فقال: إن حملته إلى داري أجرتكما. فنقله إلى داره بالحدان ونقل المنبر أيضاً، فكان يصلي الجمعة بمسجد الحدان ويطعم الطعام. فقال زياد لجابر بن وهب الراسبي: يا أبا محمد إني لا أرى ابن الحضرمي يكف وأراه سيقاتلكم ولا أدري ما عند أصحابك، فانظر ما عندهم. فلما صلى زياد جلس في المسجد واجتمع الناس إليه، فقال جابر: يا معشر الأزد إن تميماً تزعم أنهم هم الناس وأنهم أصبر منكم عند البأس، وقد بلغني أنهم يريدون أن يسيروا إليكم ويأخذوا جاركم ويخرجوه قسراً، فكيف أنتم إذا فعلوا ذلك وقد أجرتموه وبيت مال المسلمين! فقال صبرة بن شميان، وكان مفخماً: إن جاء الأحنف جئت، وإن جاء حتاتهم جئت، وإن جاء شبابهم ففينا شباب.
وكتب زياد إلى علي بالخبر، فأرسل علي إليه أعين بن ضبيعة المجاشعي ثم التميمي ليفرق قومه عن ابن الحضرمي، فإن امتنعوا قاتل بمن أطاعه من عصاه، وكتب إلى زياد يعلمه ذلك. فقدم أعين، فأتى زياداً، فنزل عنده، وجمع رجالاً وأتى قوم ونهض إلى ابن الحضرمي ومن معه ودعاهم، فشتموه، وواقفهم نهاره ثم انصرف عنهم، فدخل عليه قوم، قيل إنهم من الخوارج، وقيل وضعهم ابن الحضرمي على قتله، وكان معهم، فقتلوه غيلةً، فلما قتل أعين أراد زياد قتالهم، فأرسلت تميم إلى الأزد: إنا لم نعرض لجاركم فما تريدون إلى جارنا؟ فكرهت الأزد قتالهم وقالوا: إن عرضوا لجارنا منعناه.
وكتب زياد إلى علي يخبره خبر أعين وقتله، فأرسل علي جارية بن قدامة السعدي، وهو من بني سعد من تميم، وبعث معه خمسين رجلاً، وقيل خمسمائة من تميم، وكتب إلى زياد يأمره بمعونة جارية والإشارة عليه. فقدم جارية البصرة، فحذره زياد ما أصاب أعين، فقام جارية في الأزد فجزاهم خيراً وقال: عرفتم الحق إذ جهله غيركم. وقرأ كتاب علي إلى أهل البصرة يوبخهم ويتهددهم ويعنفهم ويتوعدهم بالمسير إليهم والإيقاع بهم وقعة تكون وقعة الجمل عندها هباء. فقال صبرة بن شيمان: سمعاً لأمير المؤمنين وطاعة! نحن حرب لمن حاربه وسلم لمن سالمه. وقال أبو صفرة، والد المهلب، لزياد: لو أدركت يوم الجمل ما قاتل قومي أمير المؤمنين. وقيل: إن أبا صفرة كان توفي في مسيره إلى صفين، والله أعلم.
وصار جارية إلى قومه وقرأ عليهم كتاب علي ووعدهم، فأجابه أكثرهم، فسار إلى ابن الحضرمي ومعه الأزد ومن تبعه من قومه، وعلى خيل ابن الحضرمي عبد الله بن خازم السلمي، فاقتتلوا ساعة، وأقبل شريك بن الأعور الحارثي فصار مع جارية، فانهزم ابن الحضرمي فتحصن بقصر سنبيل ومعه ابن خازم، فأتته أمه عجلى، وكانت حبشية، فأمرته بالنزول، فأبى، فقالت: والله لتنزلن أو لأنزعن ثيابي! فنزل ونجا، وأحرق جارية القصر بمن فيه، فهلك ابن الحضرمي وسبعون رجلاً معه، وعاد زياد إلى القصر، وكان قصر سنبيل لفارس قديماً وصار لسنبيل السعدي، وحوله خندق، وكان فيمن احترق دراع بن بدر أخو حارثة بن بدر؛ فقال عمرو بن العرندس:
رددنا زياداً إلى داره ... وجار تميمٍ دخاناً ذهب
لحى الله قوماً شووا جارهم ... ولم يدفعوا عنه حر اللهب
في أبيات غر هذه؛ وقال جرير بن عطية الخطفي.
غدرتم بالزبير فما وفيتم ... وفاء الأزد إذ منعوا زيادا
فأصبح جارهم بنجاة عزٍّ ... وجار مجاشعٍ أمسى رمادا
فلو عاقدت حبل أبي سعيدٍ ... لذاد القوم ما حمل النجادا
وأدنى الخيل من رهج المنايا ... وأغشاها الأسنة والصعادا
جارية بن قدامة بالجيم والياء تحتها نقطتان. وحارثة بن بدر بالحاء المهملة، وبعدها ثاء مثلثة. وعبد الله بن خازم بالخاء المعجمة والزاي. والمثنى ابن مخربة بضم الميم، وفتح الخاء المعجمة، وكسر الراء المشددة، وآخره باء موحدة.
ذكر خبر الخريت بن راشد وبني ناجيةقيل: وفي هذه السنة أظهر الخريت بن راشد الناجي الخلاف على علي، فجاء إلى أمير المؤمنين وكان معه ثلاثمائة من بني ناجية خرجوا مع علي من البصرة فشهدوا معه الجمل وصفين وأقاموا معه بالكوفة إلى هذا الوقت، فحضر عند علي في ثلاثين راكباً فقال له: يا علي والله لا أطيع أمرك ولا أصلي خلفك، وإني غداً مفارق لك، وذلك بعد تحكيم الحكمين. فقال له: ثكلتك أمك! إذاً تعصي ربك وتنكث عهدك ولا تضر إلا نفسك! خبرني لم تفعل ذلك؟ فقال: لأنك حكمت وضعفت عن الحق، وركنت إلى القوم الذين ظلموا، فأنا عليك زارٍ وعليهم ناقم، ولكم جميعاً مباين. فقال له علي: هلم أدارسك الكتاب وأناظرك في السنن وأفاتحك أموراً أنا أعلم بها منك فلعلك تعرف ما أنت له الآن منكر، قال: فإني عائدٌ إليك. قال: لا يستهوينك الشيطان، ولا يستخفنك الجهال، والله لئن استرشدتني وقبلت مني لأهدينك سبيل الرشاد.
فخرج من عنده منصرفاً إلى أهله، وسار من ليلته هو وأصحابه. فلما سمع بمسيرهم علي قال: بعداً لهم كما بعدت ثمود! إن الشيطان اليوم استهواهم وأضلهم وهو غداً متبرىء منهم. فقال له زياد بن خصفة البكري: يا أمير المؤمنين، إنه لم يعظم علينا فقدهم فتأسى عليهم، إنهم قل ما يزيدون في عددنا لو أقاموا، ولقل ما ينقصون من عددنا بخروجهم عنا، ولكنا نخاف أن يفسدوا علينا جماعةً كثيرة ممن يقدمون عليك من أهل طاعتك، فأذن لي في اتباعهم حتى أردهم عليك. فقال: أتدري أين توجهوا؟ قال: لا، ولكني أسأل وأتبع الأثر. فقال له: اخرج، رحمك الله، وانزل دير أبي موسى وأقم حتى يأتيك أمري، فإن كانوا ظاهرين فإن عمالي سيكتبون بخبرهم.
فخرج زياد فأتى داره وجمع أصحابه من بكر بن وائل وأعلمهم الخبر، فسار معه مائة وثلاثون رجلاً، فقال: حسبي. ثم سار حتى أتى دير أبي موسى فنزله يوماً ينتظر أمر علي، وأتى علياً كتاب من قرظة بن كعب الأنصاري يخبره أنهم توجهوا نحو نفر، وأنهم قتلوا رجلاً من الدهاقين كان أسلم. فأرسل علي إلى زياد يأمره باتباعهم ويخبره خبرهم وأنهم قتلوا رجلاً مسلماً ويأمره بردهم إليه، فإن أبوا يناجزهم، وسير الكتاب مع عبد الله بن والٍ، فاستأذنه عبد الله في المسير مع زياد، فأذن له، وقال له: إني لأرجو أن تكون من أعواني على الحق وأنصاري على القوم الظالمين. قال ابن وال: فوالله ما أحب أن لي بمقالته تلك حمر النعم.
وسار بكتاب علي إلى زياد، وساروا حتى أتوا نفر، فقيل إنهم ساروا نحو جرجرايا، فتبعوا آثارهم حتى أدركوهم بالمذار وهم نزول قد أقاموا يومهم وليلتهم واستراحوا، فأتاهم زياد وقد تقطع أصحابه وتعبوا، فلما رأوهم ركبوا خيولهم، وقال لهم الخريت: أخبروني ما تريدون. فقال له زياد، وكان مجرباً رفيقاً: قد ترى ما بنا من التعب، والذي جئناك له لا يصلحه الكلام علانية ولكن ننزل ثم نخلو جميعأً فتذاكر أمرنا، فإن رأيت ما جئناك به حظاً لنفسك قبلته، وإن رأينا فيما نسمع منك أمراً نرجو فيه العافية لم نرده عليك. قال: فانزل. فنزل زياد وأصحابه على ماء هناك وأكلوا شيئاً وعلقوا على دوابهم، ووقف زياد في خمسة فوارس بين أصحابه وبين القوم، وكانوا قد نزلوا أيضاً، وقال زياد لأصحابه: إن عدتنا كعدتهم، وأرى أمرنا يصير إلى القتال، فلا تكونوا أعجز الفريقين.
وخرج زياد إلى الخريت فسمعهم يقولون: جاءنا القوم وهم كالون تعبون، فتركناهم حتى استراحوا، هذا والله سوء الرأي. فدعاه زياد وقال له: ما الذي نقمت على أمير المؤمنين وعلينا حتى فارقتنا؟ فقال: لم أرض صاحبكم إماماً ولا سيرتكم سيرة فرأيت أن أعتزل وأكون مع من يدعو إلى الشورى، فقال له زياد: وهل يجتمع الناس على رجل يداني صاحبك الذي فارقته علماً بالله وسنته وكتابه مع قرابته من الرسول، صلى الله عليه وسلم، وسابقته في الإسلام؟ فقال له: ذلك لا أقول لك. فقال له زياد: ففيم قتلت ذلك الرجل المسلم؟ فقال له: ما أنا قتلته وإنما قتله طائفة من أصحابي. قال: فادفعهم إلينا. قال: ما لي إلى ذلك سبيلز فدعا زيادٌ أصحابه ودعا الخريت أصحابه، فاقتتلوا قتالاً شديداً تطاعنوا بالرماح حتى لم يبق رمح، وتضاربوا بالسيوف حتى انحنت، وعقرت عامة خيولهم، وكثرت الجراحة فيهم، وقتل من أصحاب زياد رجلان ومن أولئك خمسة وجاء الليل فحجز بينهما، وقد كره بعضهم بعضاً وجرح زياد، فسار الخريت من الليل وسار زياد إلى البصرة، وأتاهم خبر الخريت أنه أتى الأهواز فنزل بجانب منها وتلاحق به ناسٌ من أصحابهم فصاروا نحو مائتين، فكتب زياد إلى علي يخبرهم وأنه مقيم يداوي الجرحى وينتظر أمره.
فلما قرأ علي كتابه قام إليه معقل بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين كان ينبغي أن يكون مع من يطلب هؤلاء مكان كل واحد منهم عشرة، فإذا لحقوهم استأصلوهم وقطعوا دابرهم، فأما أن يلقاهم عددهم فلعمري ليصبرن لهم فإن العدة تصبر للعدة. فقال: تجهز يا معقل إليهم، وندب معه ألفين من أهل الكوفة، منهم يزيد بن المعقل الأسدي. وكتب علي إلى ابن عباس يأمره أن يبعث من أهل البصرة رجلاً شجاعاً معروفاً بالصلاح في ألفي رجل إلى معقل وهو أمير أصحابه حتى يأتي معقلاً، فإذا لقيه كان معقل الأمير. وكتب إلى زياد ابن خصفة يشكره ويأمره بالعود.
واجتمع على الخريت الناجي علوج من أهل الأهواز كثيرٌ أرادوا كسر الخراج ولصوصٌ وطائفةٌ أخرى من العرب ترى رأيه، وطمع أهل الخراج في كسره فكسروه، وأخرجوا سهل بن حنيف من فارس، وكان عاملاً لعلي عليها، في قول من يزعم أنه لم يمت سنة سبع وثلاثين. فقال ابن عباس لعلي: أنا أكفيك فارس بزياد، يعني ابن أبيه، فأمره بإرساله إليها وتعجيل تسييره، فأرسل زياداً إليها في جمع كثير، فوطىء بلاد فارس، فأدوا الخراج واستقاموا، وسار معقل بن قيس، ووصاه علي فقال له: اتق الله ما استطعت، ولا تبغ على أهل القبلة، ولا تظلم أهل الذمة، ولا تتكبر فإن الله لا يحب المتكبرين.
فقدم معقل الأهواز ينتظر مدد البصرة، فأبطأ عليه فسار عن الأهواز يطلب الخريت، فلم يسر إلا يوماً حتى أدركه المدد مع خالد بن معدان الطائي، فساروا جميعاً، فلحقوهم قريب جبل من جبال رامهرمز، فصف معقل أصحابه، فجعل على ميمنته يزيد بن المعقل، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضبي من أهل البصرة، وصف الخريت أصحابه فجعل من معه من العرب ميمنةً، ومن معه من أهل البلد والعلوج ميسرة، ومعهم الأكراد، وحرض كل واحد منهما أصحابه، وحرك معقل رأسه مرتين ثم حمل في الثالثة، فصبروا له ساعة ثم انهزموا، فقتل أصحاب معقل منهم سبعين رجلاً من بني ناجية ومن معهم من العرب، وقتلوا نحواً من ثلاثمائة من العلوج والأكراد، وانهزم الخريت بن راشد فلحق بأسياف البحر، وبها جماعةٌ كثيرة من قومه، فما زال يسير فيهم ويدعوهم إلى خلاف علي ويخبرهم أن الهدى في حربه حتى اتبعه منهم ناس كثير.
وأقام معقل بأرض الأهواز وكتب إلى علي بالفتح، فقرأ علي الكتاب على أصحابه واستشارهم، فقالوا كلهم: نرى أن تأمر معقلاً أن يتبع آثار الفاسق حتى يقتله أو ينفيه فإنا لا نأمن أن يفسد عليك الناس. فكتب إلى معقل يثني عليه وعلى من معه ويأمره باتباعه وقتله أو نفيه. فسأل معقل عنه، فأخبر بمكانه بالأسياف وأنه قد رد قومه عن طاعة علي وأفسد من عنده من عبد القيس وسائر العرب، وكان قومه قد منعوا الصدقة عام صفين وذلك العام. فسار إليهم معقل فأخذ على فارس وانتهى إلى أسياف البحر.
فلما سمع الخريت بمسيره قال لمن معه من الخوارج: أنا على رأيكم وإن علياً لم ينبغ له أن يحكم. وقال للآخرين من أصحابه: إن علياً حكم ورضي فخلعه حكمه الذي ارتضاه، وهذا كان الرأي الذي خرج عليه من الكوفة وإليه كان يذهب. وقال سراً للعثمانية: إنا والله على رأيكم، قد والله قتل عثمان مظلوماً. فأرضى كل صنف منهم. وقال لمن منع الصدقة: شدوا أيديكم على صدقاتكم وصلوا بها أرحامكم. وكان فيها نصارى كثير قد أسلموا، فلما اختلف الناس قالوا: والله لديننا الذي خرجنا منه خير من دين هؤلاء، لا ينهاهم دينهم عن سفك الدماء. فقال لهم الخريت: ويحكم! لا ينجيكم من القتل إلا قتل هؤلاء القوم والصبر فإن حكمهم فيمن أسلم ثم ارتد أن يقتل ولا يقبلون منه توبةً ولا عذراً. فخدعهم جميعهم. وأتاه من كان من بني ناجية وغيرهم خلق كثير. فلما انتهى معقل إليه نصب راية أمان وقال: من أتاها من الناس فهو آمن إلا الخريت وأصحابه الذين حاربونا أول مرة. فتفرق عن الخريت جل من كان معه من غير قومه، وعبأ معقل أصحابه وزحف نحو الخريت ومعه قومه مسلمهم ونصرانيهم ومانع الزكاة منهم. فقال الخريت لمن معه: قاتلوا عن حريمكم وأولادكم، فوالله لئن ظهروا عليكم ليقتلنكم وليسبنكم. فقال له رجل من قومه: هذا والله ما جرته علينا يدك ولسانك. فقال: سبق السيف العذل.
وسار معقل في الناس يحرضهم ويقول: أيها الناسش ما ترون أفضل مما سبق لكم من الأجر العظيم؟ إن الله ساقكم إلى قوم منعوا الصدقة، وارتدوا عن الإسلام، ونكثوا البيعة ظلماًن فأشهد لمن قتل منكم بالجنة، ومن بقي منكم فإن الله مقر عينه بالفتح. ثم حمل معقل وجميع من معه فقاتلوا قتالاً شديداً وصبروا له، ثم إن النعمان بن صبهان الراسبي بصر بالخريت فحمل عليه فطعنه فصرع عن دابته، ثم اختلفا ضربتين فقتله النعمان وقتل معه في المعركة سبعون ومائة رجل وذهب الباقون يميناً وشمالاً، وسبى معقل من أدرك من حريمهم وذرياتهم، وأخذ رجالاً كثيراً، فأما من كان مسلماً فخلاه وأخذ بيعته وترك له عياله، وأما من كان ارتد فعرض عليهم الإسلام فرجعوا فخلى سبيلهم وسبيل عيالهم، إلا شيخاً كبيراً نصرانياً منهم يقال له الرماحسن لم يسلم فقتله، وجمع من منع الصدقة وأخذ منهم صدقة عامين، وأما النصارى وعيالهم فاحتملهم مقبلاً بهم، وأقبل المسلمون معهم يشيعونهم، فلما ودعوهم بكى الرجال والنساء بعضهم إلى بعض حتى رحمهم الناس.
وكتب معقل إلى علي بالفتح، ثم أقبل بهم حتى مر على مصقلة بن هبيرة الشيباني، وهو عامل علي على أردشير خره، وهم خمسمائة إنسان، فبكى النساء والصبيان وصاح الرجال: يا أبا الفضل! يا حامي الرجال ومأوى المعضب وفكاك العناة امنن علينا واشترنا وأعتقنا! فقال مصقلة: أقسم بالله لأتصدقن عليكم! إن الله يجزي المتصدقين. فبلغ قوله معقلاً فقال: والله لو أعلم أنه قالها توجعاً عليهم وإزراء علينا لضربت عنقه ولو كان في ذلك تفاني تميم وبكر. ثم إن مصقلة اشتراهم من معقل بخمسمائة ألف، فقال له معقل: عجل المال إلى أمير المؤمنين. فقال: أنا أبعث الآن ببعضه ثم كذلك حتى لا يبقى منه شيء.
وأقبل معقل إلى علي فأخبره بما كان منه، فاستحسنه، وبلغ علياً أن مصقلة أعتق الأسرى ولم يسألهم أن يعينوه بشيء، فقال: ما أظن مصقلة إلا قد تحمل حمالة سترونه عن قريب منها مبلداً. وكتب إليه يطلب منه المال أو يحضر عنده، فحضر عنده وحمل من المال مائتي ألف.
قال ذهل بن الحارث: فاستدعاني ليلةً فطعمنا ثم قال: إن أمير المؤمنين يسألني هذا المال ولا أقدر عليه. فقلت: والله لو شئت ما مضت جمعة حتى تحمله. فقال: والله ما كنت لأحملها قومي، أما والله لو كان ابن هند ما طالبني بها ولو كان ابن عفان لوهبها لي، ألم تره أطعم الأشعث بن قيس كل سنة من خراج أذربيجان مائة ألف؟ قال: فقلت: إن هذا لا يرى ذلك الرأي ولا يترك منها شيئاً. فهرب مصقلة من ليلته فلحق بمعاوية، وبلغ علياً ذلك فقال: ما له، ترحه الله، فعل فعل السيد وفر فرار العبد وخان خيانة الفاجر! أما إنه لو أقام فعجز ما زدنا على حبسه، فإن وجدنا له شيئاً أخذناه وإلا تركناه.
ثم سار علي إلى داره فهدمها وأجاز عتق السبي وقال: أعتقهم مبتاعهم وصارت أثمانهم ديناً على معتقهم.
وكان أخوة نعيم بن هبيرة شيعة لعلي، فكتب إليه مصقلة من الشام مع رجل من نصارى تغلب اسمه حلوان يقول له: إن معاوية قد وعدك الإمارة والكرامة فأقبل ساعة يلقاك رسولي، والسلام. فأخذه مالك بن كعب الأرحبي فسرحه إلى علي، فقطع يده، فمات، وكتب نعيم إلى مصقلة يقول:
لا ترمين هداك الله معترضاً ... بالظن منك فما بالي وحلوانا
ذاك الحريص على ما نال من طمع ... وهو البعيد فلا يحزنك إن خانا
ماذا أردت إلى إرساله سفهاً ... ترجو سقاط امرىء لم يلف وسنانا
قد كنت في منظرٍ عن ذا ومستمعٍ ... تحمي العراق وتدعى خير شيبانا
حتى تقحمت أمراً كنت تكرهه ... للراكبين له سراً وإعلانا
عرضته لعلي إنه أسدٌ ... يمشي العرضنة من آساد خفانا
لو كنت أديت مال القوم مصطبراً ... للحق أحييت أحيانا وموتانا
لكن لحقت بأهل الشام ملتمساً ... فضل ابن هندٍ وذاك الرأي أشجانا
فاليوم تقرع سن العجز من ندمٍ ... ماذا تقول وقد كان الذي كانا
أصبحت تبغضك الأحياء قاطبةً ... لم يرفع الله بالبغضاء إنسانا
فلما وقع الكتاب إليه علم أنه قد هلك، وأتاه التغلبيون فطلبوا منه دية صاحبهم، فوداه لهم.
وقال بعض الشعراء في بني ناجية:
سما لكم بالخيل قوداً عوابساً ... أخو ثقةٍ ما يبرح الدهر غازيا
فصحبكم في رجله وخيوله ... بضرب ترى منه المدجج هاويا
فأصبحتم من بعد كبرٍ ونخوةٍ ... عبيد العصا لا تمنعون الذراريا
وقال مصقلة بن هبيرة:
لعمري لئن عاب أهل العراق ... علي انتعاش بني ناجيه
لأعظم من عتقهم رقهم ... وكفي بعتقهم ماليه
وزايدت فيهم لإطلاقهم ... وغاليت إن العلى غاليه
ذكر أمر الخوارج بعد النهروانلما قتل أهل النهروان خرج أشرس بن عوف الشيباني على علي بالدسكرة في مائتين ثم سار إلى الأنبار، فوجه إليه علي الأبرش بن حسان في ثلاثمائة فواقعه، فقتل أشرس في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين.
ثم خرج هلال بن علفة من تيم الرباب ومعه أخوه مجالد فأتى ماسبذان، فوجه إليه علي معقل بن قيس الرياحي فقتله وقتل أصحابه، وهم أكثر من مائتين، وكان قتلهم في جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين.
ثم خرج الأشهب بن بشر، وقيل الأشعث، وهو من بجيلة، في مائة وثمانين رجلاًن فأتى المعركة التي أصيب فيها هلال وأصحابه فصلى عليهم ودفن من قدر عليه منهم، فوجه إليهم علي جارية بن قدامة السعدي، وقيل حجر ابن عدي، فأقبل إليهم الأشهب، فاقتتلا بجرجرايا من أرض جوخى، فقتل الأشهب وأصحابه في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين.
ثم خرج سعيد بن قفل التيمي من تيم الله بن ثعلبة في رجب بالبندنيجين ومعه مائتا رجل فأتى درزنجان، وهي من المدائن على فرسخين، فخرج إليهم سعد بن مسعود فقتلهم في رجب سنة ثمان وثلاثين.
ثم خرج أبو مريم السعدي التميمي فأتى شهرزور، وأكثر من معه من الموالي، وقيل لم يكن معه من العرب غير ستة نفر هو أحدهم، واجتمع معه مائتا رجل، وقيل أربعمائة، وعاد حتى نزل على خمسة فراسخ من الكوفة، فأرسل إليه علي يدعوه إلى بيعته ودخول الكوفة، فلم يفعل وقال: ليس بيننا غير الحرب. فبعث إليه علي شريح بن هانىء في سبعمائة، فحمل الخوارج على شريح وأصحابه فانكشفوا وبقي شريح في مائتين، فانحاز إلى قرية، فتراجع إليه بعض أصحابه ودخل الباقون الكوفة، فخرج علي بنفسه وقدم بين يديه جارية بن قدامة السعدي، فدعاهم جارية إلى طاعة علي وحذرهم القتل فلم يجيبوا، ولحقهم علي أيضاً فدعاهم فأبوا عليه وعلى أصحابه، فقتلهم أصحاب علي ولم يسلم منهم غير خمسين رجلاً استأمنوا فآمنهم. وكان في الخوارج أربعون رجلاً جرحى، فأمر علي بإدخالهم الكوفة ومداواتهم حتى برأوا. وكان قتلهم في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين، وكانوا من أشجع من قائل من الخوارج، ولجرأتهم قاربوا الكوفة.
ذكر عدة حوادث
وحج بالناس في هذه السنة قثم بن العباس من قبل علي، وكان عامله على مكة، وكان على اليمن عبيد الله بن عباس، وعلى البصرة عبد الله بن عباس، وعلى خراسان خليد بن قرة اليربوعي، وقيل كان ابن أبزى، وأما الشام ومصر فكان بهما معاوية وعماله.
وفي هذه السنة مات صهيب بن سنان، في قول بعضهم، وكان عمره سبعين سنة، ودفن بالبقيع.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين
ذكر سرايا أهل الشام
إلى بلاد أمير المؤمنينوفي هذه السنة فرق معاوية جيوشه في العراق في أطراف علي، فوجه النعمان بن بشير في ألف رجل إلى عين التمر وفيها مالك بن كعب مسلحة لعلي في ألف رجل، وكان مالك قد أذن لأصحابه فأتوا الكوفة ولم يبق معه إلا مائة رجل، فلما سمع بالنعمان كتب إلى أمير المؤمنين يخبره ويستمده، فخطب علي الناس وأمرهم بالخروج إليه، فتثاقلوا، وواقع مالكٌ النعمان وجعل جدار القرية في ظهور أصحابه، وكتب مالك إلى مخنف بن سليم يستعينه، وهو قريب منه، واقتتل مالك والنعمان أشد قتال، فوجه مخنف ابنه عبد الرحمن في خمسين رجلاً، فانتهوا إلى مالك وقد كسروا جفون سيوفهم واستقتلوا، فلما رآهم أهل الشام انهزموا عند المساء وظنوا أن لهم مداداً، وتبعهم مالك فقتل منهم ثلاثة نفر.
ولما تثاقل أهل الكوفة عن الخروج إلى مالك صعد علي المنبر فخطبهم ثم قال: يا أهل الكوفة كلما سمعتم بجمع من أهل الشام أظلكم انجحر كل امرىء منكم في بيته وأغلق عليه بابه انجحار الضب في جحره والضبع في وجارها، المغرور من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب، لا أحرار عند النداء ولا إخوان عند النجاء! إنا لله وإنا إليه راجعون! ماذا منيت به منكم؟ عمي لا يبصرون، وبكم لا ينطقون، وصم لا يسمعون! إنا لله وإنا إليه راجعون.
ووجه معاوية في هذه السنة أيضاً سفيان بن عوف في ستة آلاف رجل وأمره أن يأتي هيت فيقطعها، ثم يأتي الأنبار، والمدائن فيوقع بأهلها. فأتى هيت فلم يجد بها أحداً، ثم أتى الأنبار وفيها مسلحة لعلي تكون خمسمائة رجل وقد تفرقوا ولم يبق منهم إلا مائتا رجل، وكان سبب تفرقهم أنه كان عليهم كميل ابن زياد، فبلغه أن قوماً بقرقيسيا يريدون الغارة على هيت فسار إليهم بغير أمر علي، فأتى أصحاب سفيان وكميل غائبٌ عنها، فأغضب ذلك علياً على كميل، فكتب إليه ينكر ذلك عليه، وطمع سفيان في أصحاب علي لقلتهم فقاتلهم، فصبر أصحاب علي ثم قتل صاحبهم، وهو أشرس بن حسان البكري، وثلاثون رجلاً، واحتملوا ما في الأنبار من أموال أهلها ورجعوا إلى معاوية، وبلغ الخبر علياً فأرسل في طلبهم فلم يدركوا.
وفيها أيضاً وجه معاوية عبد الله بن مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر الفزاري في ألف وسبعمائة رجل إلى تيماء وأمره أن يصدق من مر به من أهل البوادي ويقتل من امتنع، ففعل ذلك، وبلغ مكة والمدينة وفعل ذلك، واجتمع إليه بشرٌ كثيرٌ من قومه، وبلغ ذلك علياً فأرسل المسيب بن نجبة الفزاري في ألفي رجل، فلحق عبد الله بتيماء، فاقتتلوا حتى زالت الشمس قتالاً شديداً، وحمل المسيب على ابن مسعدة فضربه ثلاث ضربات لا يريد قتله ويقول له: النجاء النجاء! فدخل ابن مسعدة وجماعة معه الحصن وهرب الباقون نحو الشام، وانتهب الأعراب إبل الصدقة التي كانت مع ابن مسعدة، وحصره ومن معه ثلاثة أيام، ثم ألقى الحطب في الباب وحرقه، فلما رأوا الهلاك أشرفوا عليه وقالوا: يا مسيب قومك، فرق لهم، وأمر بالنار فأطفئت، وقال لأصحابه: قد جاءتني عيوني فأخبروني أن جنداً قد أتاكم من الشام. فقال له عبد الرحمن ابن شبيب: سرحني في طلبهم، فأبى ذلك عليه، فقال: غششت أمير المؤمنين وداهنت في أمرهم.
وفيها أيضاً وجه معاوية الضحاك بن قيس وأمره أن يمر بأسفل واقصة ويغير على كل من مر به ممن هو في طاعة علي من الأعراب، وأرسل ثلاثة آلاف رجل معه، فسار الناس، وأخذ الأموال ومضى إلى الثعلبية، وقتل وأغار على مسلحة علي، وانتهى إلى القطقطانة. فلما بلغ ذلك علياً أرسل إليه حجر بن عدي في أربعة آلاف وأعطاهم خمسين درهماً خمسين درهماً، فلحق الضحاك بتدمر فقتل منهم تسعة عشر رجلاً، وقتل من أصحابه رجلان، وحجز بينهما الليل، فهرب الضحاك وأصحابه ورجع حجر ومن معه.
وفي هذه السنة سار معاوية بنفسه حتى شارف دجلة ثم نكص راجعاً.
واختلف فيمن حج بالناس هذه السنة، فقيل: حج بالناس عبيد الله بن عباس من قبل علي، وقيل: بل حج عبد الله أخوه، وذلك باطل، فإن عبد الله بن عباس لم يحج في خلافة علي، وإنما كان على هذه السنة على الحج عبيد الله بن عباس، وبعث معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي، فاختلف عبيد الله ويزيد بن شجرة واتفقا على أن يحج بالناس شيبة بن عثمان، وقيل: إن الذي حج من جانب علي قثم بن العباس، وكان عمال علي على البلاد من تقدم ذكرهم.
ذكر مسير يزيد بن شجرة إلى مكةوفي هذه السنة دعا معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي، وهو من أصحابه، فقال له: إني أريد أن أوجهك إلى مكة لتقيم للناس الحج وتأخذ لي البيعة بمكة وتنفي عنها عامل علي.
فأجابه إلى ذلك وسار إلى مكة في ثلاثة آلاف فارس وبها قثم بن العباس عامل علي، فلما سمع به قثم خطب أهل مكة وأعلمهم بمسير الشاميين ودعاهم إلى حربهم، فلم يجيبوه بشيء، وأجابه شيبة بن عثمان العبدري بالسمع والطاعة، فعزم قثم على مفارقة مكة واللحاق ببعض شعابها ومكاتبة أمير المؤمنين بالخبر فإن أمده بالجيوش قاتل الشاميين، فنهاه أبو سعيد الخدري عن مفارقة مكة وقال له: أقم فإن رأيت منهم القتال وبك قوة فاعمل برأيك وإلا فالمسير عنها أمامك. فأقام وقدم الشاميون ولم يعرضوا لقتال أحد، وأرسل قثم إلى أمير المؤمنين يخبره، فسير جيشاً فيهم الريان بن ضمرة بن هوذة بن علي الحنفي وأبو الطفيل أول ذي الحجة، وكان قدوم ابن شجرة قبل التروية بيومين، فنادى في الناس: أنتم آمنون إلا من قاتلنا ونازعنا. واستدعى أبا سعيد الخدري وقال له: إني أريد الإلحاد في الحرم ولو شئت لفعلت لما فيه أميركم من الضعف، فقل له يعتزل الصلاة بالناس وأعتزلها أنا ويختار الناس رجلاً يصلي بهم. فقال أبو سعيد لقثم ذلك، فاعتزل الصلاة، واختار الناس شيبة بن عثمان فصلى بهم وحج بهم، فلما قضى الناس حجهم رجع يزيد إلى الشام، وأقبل خيل علي فأخبروا بعود أهل الشام، فتبعوهم، وعليهم معقل بن قيس، فأدروهم وقد رحلوا عن وادي القرى، فظفروا بنفر منهم فأخذوهم أسارى وأخذوا ما معهم ورجعوا بهم إلى أمير المؤمنين، ففادى بهم أسارى كانت له عند معاوية.
الرهاوي منسوب إلى الرهاء: قبيلة من العرب، وقد ضبطه عبد الغني ابن سعيد بفتح الراء: قبيلة مشهورة، وأما المدينة فبضم الراء.
ذكر غارة أهل الشام على أهل الجزيرةوفيها سير معاوية عبد الرحمن بن قباث بن أشيم إلى بلاد الجزيرة وفيها شبيب بن عامر جد الكرماني الذي كان بخراسان، وكان شبيب بنصيبين فكتب إلى كميل بن زياد، وهو بهيت، يعلمه خبرهم، فسار كميل إليه نجدة له في ستمائة فارس، فأدركوا عبد الرحمن ومعه معن بن يزيد السلمي، فقاتلهما كميل وهزمهما فغلب على عسكرهما وأكثر القتل في أهل الشام وأمر أن لا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح، وقتل من أصحاب كميل رجلان، وكتب إلى علي بالفتح فجزاه خيراً وأجابه جواباً حسناً ورضي عنه، وكان ساخطاً عليه لما تقدم ذكره.
وأقبل شبيب بن عامر من نصيبين فرأى كميلاً قد أوقع بالقوم فهنأه بالظفر واتبع الشاميين فلم يلحقهم فعبر الفرات وبث خيله فأغارت على أهل الشام حتى بلغ بعلبك، فوجه معاوية إليه حبيب بن مسلمة فلم يدركه، ورجع شبيب فأغار على نواحي الرقة فلم يدع للعثمانية بها ماشية إلا استاقها ولا خيلاً ولا سلاحاً إلا أخذه وعاد إلى نصيبين وكتب إلى علي، فكتب إليه علي ينهاه عن أخذ أموال الناس إلا الخيل والسلاح الذي يقاتلون به وقال: رحم الله شبيباً، لقد أبعد الغارة وعجل الانتصار.
ذكر غارة الحارث بن نمر التنوخي
ولما قدم يزيد بن شجرة على معاوية وجه الحارث بن نمر التنوخي إلى الجزيرة ليأتيه بمن كان في طاعة علي، فأخذ من أهل دارا سبعة نفر من بني تغلب، وكان جماعة من بني تغلب قد فارقوا علياً إلى معاوية، فسألوه إطلاق أصحابهم فلم يفعل، فاعتزلوه أيضاً، وكتب معاوية إلى علي ليفاديه بمن اسر معقل بن قيس من أصحاب يزيد بن شجرة، فسيرهم علي إلى معاوية، وأطلق معاوية هؤلاء، وبعث علي رجلاً من خثعم يقال له عبد الرحمن إلى ناحية الموصل ليسكن الناس، فلقيه أولئك التغلبيون الذين اعتزلوا معاوية وعليهم قريع بن الحارث التغلبي، فتشاتموا ثم اقتتلوا فقتلوه، فأراد علي أن يوجه إليهم جيشاً، فكلمته ربيعة وقالوا: هم معتزلون لعدوك داخلون في طاعتك وإنما قتلوه خطأ. فأمسك عنهم.
ذكر أمر ابن العشبةبعث معاوية زهير بن مكحول العامري من عامر الأجدار إلى السماوة وأمره أن يأخذ صدقات الناس، وبلغ ذلك علياً فبعث ثلاثة نفر: جعفر بن عبد الله الأشجعي، وعروة بن العشبة والجلاس بن عمير الكلبيين، ليصدقوا من في طاعته من كلب وبكر بن وائل، فوافوا زهيراً فاقتتلوا، فانهزم أصحاب علي وقتل جعفر بن عبد الله ولحق ابن العشبة بعلي، فعنفه وعلاه بالدرة، فغضب ولحق بمعاوية، وكان زهير قد حمل ابن العشبة على فرس فلذلك اتهمه. وأما الجلاس فإنه مر براع فأخذ جبته وأعطاه جبة خز، فأدركته الخيل، فقالوا: أين أخذ هؤلاء الترابيون؟ فأشار إليهم: أخذوا ها هنا، ثم أقبل إلى الكوفة.
ذكر أمر مسلم بن عقبة بدومة الجندلوبعث معاوية مسلم بن عقبة المري إلى دومة الجندل، وكان أهلها قد امتنعوا من بيعة علي ومعاوية جميعاً، فدعاهم إلى طاعة معاوية وبيعته، فامتنعوا، وبلغ ذلك علياً فسير مالك بن كعب الهمداني في جمع إلى دومة الجندل، فلم يشعر مسلم إلا وقد وافاه مالك، فاقتتلوا يوماً ثم انصرف مسلم منهزماً وأقام مالك أياماً يدعو أهل دومة الجندل إلى البيعة لعلي فلم يفعلوا، قالوا: لا نبايع حتى يجتمع الناس على إمام. فانصرف وتركهم.
وفيها توجه الحارث بن مرة العبدي إلى بلاد السند غازياً متطوعاً بأمر أمير المؤمنين علي، فغنم وأصاب غنائم وسبياً كثيراً، وقسم في يوم واحد ألف رأس وبقي غازياً إلى أن قتل بأرض القيقان هو ومن معه إلا قليلاً سنة اثنتين وأربعين أيام معاوية.
ذكر ولاية زياد بن أبيه بلاد فارسوفي هذه السنة ولى علي زياداً كرمان وفارس.
وسبب ذلك أنه لما قتل ابن الحضرمي واختلف الناس على علي طمع أهل فارس وكرمان في كسر الخراج، فطمع أهل كل ناحية وأخرجوا عاملهم، وأخرج أهل فارس سهل بن حنيف، فاستشار علي الناس فقال له جارية بن قدامة: ألا أدلك يا أمير المؤمنين على رجل صلب الرأي عالم بالسياسة كافٍ لما ولي؟ قال: من هو؟ قال: زياد. فأمر علي ابن عباس أن يولي زياداً، فسيره إليها في جمع كثير، فوطىء بهم أهل فارس، وكانت قد اضطرمت، فلم يزل يبعث إلى رؤويسهم يعد من ينصره ويمنيه ويخوف من امتنع عليه، وضرب بعضهم ببعض، فدل بعضهم على عورة بعضٍ، وهربت طائفة، وأقامت طائفة، فقتل بعضهم بعضاً،وصفت له فارس ولم يلق منهم جمعاً ولا حرباًن وفعل مثل ذلك بكرمان. ثم رجع إلى فارس وسكن الناس واستقامت له، ونزل إصطخر، وحصن قلعة تسمى قلعة زياد قريب إصطخر ثم تحصن فيها بعد ذلك منصور اليشكري، فهي تسمى قلعة منصور. وقيل إن ابن عباس أشار بولايته، وقد تقدم ذكره.
وفيها مات أبو مسعود الأنصاري البدري، وقيل في أول خلافة معاوية، وقيل غير ذلك، ولم يشهد بدراً وإنما قيل له بدري لأنه نزل ماء بدر، وانقرض عقبه.
ثم دخلت سنة أربعين
ذكر سرية بسر بن أبي أرطأة
إلى الحجاز واليمن
في هذه السنة بعث معاوية بسر بن أبي أرطاة، وهو من عامر بن لؤي، في ثلاثة آلاف، فسار حتى قدم المدينة، وبها أبو أيوب الأنصاري عامل علي عليها، فهرب أبو أيوب فأتى علياً بالكوفة، ودخل بسر إلى المدينة ولم يقاتله أحد، فصعد منبرها فنادى عليه: يا دينار يا نجار يا زريق! وهذه بطون من الأنصار، شيخي شيخي عهدته ها هنا بالأمس فأين هو؟ يعني عثمان. ثم قال: والله لولا ما عهد إلي معاوية ما تركت بها محتلماً إلا قتلته. فأرسل إلى بني سلمة فقال: والله ما لكم عندي أمان حتى تأتوني بجابر بن عبد الله! فانطلق جابر إلى أم سلمة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال لها: ماذات ترين؟ إن هذه بيعة ضلالة وقد خشيت أن أقتل. قالت: أرى أن تبايع فإني قد أمرت ابني عمر وختني ابن زمعة أن يبايعا، وكانت ابنتها زينب تحت ابن زمعة، فأتاه جابر فبايعه.
وهدم بالمدينة دوراً ثم سار إلى مكة، فخاف أبو موسى الأشعري أن يقتله فهرب منه، وأكره الناس على البيعة، ثم سار إلى اليمن، وكان عليها عبيد الله ابن عباس عاملاً لعلي، فهرب منه إلى علي بالكوفة، واستخلف علي على اليمن عبد الله بن عبد المدان الحارثي، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه وأخذ ابنين لعبيد الله بن عباس صغيرين هما: عبد الرحمن وقثم فقتلهما، وكانا عند رجل من كنانة بالبادية، فلما أراد قتلهما قال له الكناني: لم تقتل هذين ولا ذنب لهما؟ فإن كنت قاتلهما فاقتلني معهما! فقتله وقتلهما بعده. وقيل إن الكناني أخذ سيفه وقاتل عن الغلامين وهو يقول:
الليث من يمنع حافات الدار ... ولا يزال مصلتاً دون الجار
وقاتل حتى قتل. وأخذ الغلامين فدفنهما. فخرج نسوة من بني كنانة فقالت امرأة منهن: يا هذا! قتلت الرجال فعلام تقتل هذين؟ والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية والإسلام! والله يا ابن أبي أرطاة إن سلطاناً لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير والشيخ الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء! وقتل بسر في ميسره ذلك جماعةً من شيعة علي باليمن، وبلغ علياً الخبر فأرسل جارية بن قدامة السعدي في ألفين، ووهب بن مسعود في ألفين، فسار جارية حتى أتى نجران فقتل بها ناساً من شيعة عثمان، وهرب بسر وأصحابه منه واتبعه جارية حتى أتى مكة فقال: بايعوا أمير المؤمنين. فقالوا: قد هلك فمن نبايع؟ قال: لمن بايع له أصحاب علي. فبايعوا خوفاً منه.
ثم سار حتى أتى المدينة وأبو هريرة يصلي بالناس، فهرب منه، فقال جارية: لو وجدت أبا سنور لقتلته. ثم قال لأهل المدينة: بايعوا الحسن بن علي، فبايعوه، وأقام يومه، ثم عاد إلى الكوفة ورجع أبو هريرة يصلي بهم.
وكانت أم ابني عبيد الله أم الحكم جويرية بنت خويلد بن قارظ، وقيل: عائشة بنت عبد الله بن عبد المدان. فلما قتل ولداها ولهت عليهما، فكانت لا تعقل ولا تصفي ولا تزال تنشدهما في المواسم فتقول:
يا من أحس بنيي اللذين هما ... كالدرتين تشظى عنهما الصدف
يا من أحس بنيي اللذين هما ... مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
يا من أحس بنيي اللذين هما ... قلبي وسمعي، فقلبي اليوم مختطف
منن ذل والهةٍ حيرى مدلهةٍ ... على صبيين ذلا إذ غدا السلف
نبئت بسراً وما صدقت ما زعموا ... من إفكهم ومن القول الذي اقترفوا
أحنى على ودجي إبني مرهفةً ... من الشفار، كذاك الإثم يقترف
وهي أبيات مشهورة، فلما سمع أمير المؤمنين بقتلهما جزع جزعاً شديداً ودعا على بسر فقال: اللهم اسلبه دينه وعقله! فاصابه ذلك وفقد عقله فكان يهذي بالسيف ويطلبه فيؤتى بسيف من خشب ويجعل بين يديه زق منفوخ فلا يزال يضربه، ولم يزل كذلك حتى مات.
ولما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه عبيد الله بن عباس وعنده بسر فقال لبسر: وددت أن الأرض أنبتتني عندك حين قتلت ولدي. فقال بسر: هاك سيفي. فأهوى عبيد الله ليتناوله فأخذه معاوية وقال لبسر: أخزاك الله شيخاً قد خرفت! والله لو تمكن منه لبدأ بي! قال عبيد الله: أجل، ثم ثنيت به.
سلمة، بكسر اللام: بطن من الأنصار.
وقيل: إن مسير بسر إلى الحجاز كان سنة اثنتين وأربعين، فأقام بالمدينة شهراً يستعرض الناس لا يقال له عن أحد إنه شرك في دم عثمان إلا قتله.
وفيها جرت مهادنةٌ بين علي ومعاوية بعد مكاتبات طويلة على وضع الحرب، ويكون لعلي العراق ولمعاوية الشام لا يدخل أحدهما بلد الآخر بغارة.
بسر بضم الباء الموحدة، والسين المهملة. زريق، بالزاي والراء: قبيلة من الأنصار أيضاً. وجارية بالجيم والراء.
ذكر فراق ابن عباس البصرةفي هذه السنة خرج عبد الله بن عباس من البصرة ولحق بمكة في قول أكثر أهل السير، وقد أنكر ذلك بعضهم وقال: لم يزل عاملاً عليها لعلي حتى قتل علي، وشهد صلح الحسن مع معاوية ثم خرج إلى مكة. والأول أصح. وإنما كان الذي شهد صلح الحسن عبيد الله بن عباس.
وكان سبب خروجه أنه مر بأبي الأسود فقال: لو كنت من البهائم لكنت جملاً، ولو كنت راعياً لما بلغت المرعى. فكتب أبو الأسود إلى علي: أما بعد فإن الله، عز وجل، جعلك والياً مؤتمناً وراعياً مستولياً، وقد بلوناك فوجدناك عظيم الأمانة، ناصحاً للرعية، توفر لهم فيئهم، وتكف نفسك عن دنياهم، ولا تأكل أموالهم، ولا ترتشي في أحكامهم، وإن ابن عمك قد أكل ما تحت يديه بغير علمك، ولم يسعني كتمانك، رحمك الله، فانظر فيما هناك، واكتب إلي برأيك فيما أحببت، والسلام.
فكتب إليه علي: أما بعد فمثلك نصح الإمام والأمة ووالى على الحق، وقد كتبت إلى صاحبك فيما كتبت إلي، ولم أعلمه بكتابك، فلا تدع إعلامي بما يكون بحضرتك مما النظر فيه صلاح للأمة، فإنك بذلك جدير، وهو حق واجب عليك، والسلام.
وكتب إلى ابن عباس في ذلك، فكتب إليه ابن عباس، أما بعد فإن الذي بلغك باطلٌ، وإني لما تحت يدي لضابطٌ وله حافظٌ، فلا تصدق الظنين، والسلام. فكتب إليه علي: أما بعد فأعلمني ما أخذت من الجزية ومن أين أخذت وفيما وضعت. فكتب إليه ابن عباس: أما بعد فقد فهمت تعظيمك مرزأة ما بلغك، إني رزأته من أهل هذه البلاد، فباعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعنٌ عنه، والسلام.
واستدعى أخواله من بني هلال بن عامر، فاجتمعت معه قيس كلها، فحمل مالاً وقال: هذه أرزاقنا اجتمعت، فتبعه أهل البصرة، فلحقوه بالطف يريدون أخذ المال، فقالت قيس: والله لا يوصل إلينا وفينا عين تطرف! فقال صبرة بن شيمان الحداني: يا معشر الأزد إن قيساً إخواننا وجيراننا وأعواننا على العدو، وإن الذي يصيبكم من هذا المال لقليل وهو لكم خير من المال. فأطاعوه فانصرفوا وانصرفت معهم بكر وعبد اليس، وقاتلهم بنو تميم، فنهاهم الأحنف، فلم يسمعوا منه، فاعتزلهم وحجز الناس بينهم، ومضى ابن عباس إلى مكة.
ذكر مقتل عليّ بن أبي طالب
ذكر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلاموفي هذه السنة قتل علي في شهر رمضان لسبع عشرة خلت منه، وقيل: لإحدى عشرة، وقيل: لثلاث عشرة بقيت منه، وقيل: في شهر ربيع الآخر سنة أربعين. والأول أصح.
قال أنس بن مالك: مرض علي فدخلت عليه وعنده أبو بكر وعمر فجلست عنده، فأتاه النبي، صلى الله عليه وسلم، فنظر في وجهه فقال له أبو بكر وعمر: يا نبي الله ما نراه إلا ميتاً. فقال: لن يموت هذا الآن ولن يموت حتى يملأ غيظاً ولن يموت إلا مقتولاً.
وقيل من غير وجه: إن علياً كان يقول: ما يمنع أشاقكم أن يخضب هذه من هذه؟ يعني لحيته من دم رأسه.
وقال عثمان بن المغيرة: كان علي لما دخل رمضان يتعشى ليلة عند الحسن وليلة عند الحسين وليلة عند أبي جعفر لا يزيد على ثلاث لقم، يقول: أحب أن يأتيني أمر الله وأنا خميص، وإنما هي ليلة أو ليلتان، فلم تمض ليلة حتى قتل.
وقال الحسن بن كثير عن أبيه قال: خرج علي من الفجر فأقبل الإوز يصحن في وجهه فطردوهن عنه، فقال: ذروهن فإنهن نوائح، فضربه ابن ملجم في ليلته.
وقال الحسن بن علي يوم قتل علي: خرجت البارحة وأبي يصلي في مسجد داره فقال لي: يا بني إني بت أوقظ أهلي لأنها ليلة الجمعة صبيحة بدر، فملكتني عيناي فنمت فسنح لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله ماذا لقيت من أمتك من الأود واللدد؟ قال: والأود العوج، واللدد الخصومات - فقال لي: ادع عليهم. فقلت: اللهم أبدلني بهم من هو خير منهم، وأبدلهم بي من هو شر مني! فجاء ابن النباج فآذنه بالصلاة، فخرج وخرجت خلفه، فضربه ابن ملجم فقتله؛ وكان، كرم الله وجهه، إذا رأى ابن ملجم قال:
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليك من مراد
وكان سبب قتله أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي والبرك بن عبد الله التميمي الصريمي، وقيل اسم البرك الحجاج، وعمرو بن بكر التميمي السعدي، وهم من الخوارج، اجتمعوا فتذاكروا أمر الناس وعابوا عمل ولاتهم ثم ذكروا أهل النهر فترحموا عليهم، وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم؟ فلو شرينا أنفسنا وقتلنا أئمة الضلالة وأرحنا منهم البلاد! فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم علياً، وكان من أهل مصر. وقال البرك بن عبد الله: أنا أكفيكم معاوية. وقال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص.
فتعاهدوا أن لا ينكص أحدهم عن صاحبه الذي توجه إليه حتى يقتله أو يموت دونه، وأخذوا سيوفهم فسموها واتعدوا لسبع عشرة من رمضان، وقصد كل رجل منهم الجهة التي يريد؛ فأتى ابن ملجم الكوفة، فلقي أصحابه بالكوفة وكتمهم أمره، ورأى يوماً أصحاباً له من تيم الرباب، وكان علي قد قتل منهم يوم النهر عدة، فتذاكروا قتلى النهر، ولقي معهم امرأة من تيم الرباب اسمها قطام. وقد قتل أبوها وأخوها يوم النهر، وكانت فائقة الجمال. فلما رآها أخذت قلبه فخطبها. فقالت: لا أتزوجك حتى تشتفي لي. فقال: وما تريدين؟ قالت: ثلاثة آلاف وعبداً وقينةً وقتل علي. فقال: أما قتل علي فما أراك ذكرته وأنت تريدينني. قالت: بلى، التمس غرته فإن أصبته شفيت نفسك ونفسي ونفعك العيش معي، وإن قتلت فما عند الله خير من الدنيا وما فيها. قال: والله ما جاء بي إلا قتل علي، فلك ما سألت. قالت: سأطلب لك من يشد ظهرك ويساعدك. وبعثت إلى رجل من قومها اسمه وردان وكلمته، فأجابها، وأتى ابن ملجم رجلاً من أشجع اسمه شبيب بن بجرة فقال له: هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وماذا؟ قال: قتل علي. قال شبيب: ثكلتك أمك! لقد جئت شيئاً إداً! كيف تقدر على قتله؟ قال: أكمن له في المسجد فإذا خرج إلى صلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه، فإن نجونا فقد شفينا أنفسنا، وإن قتلنا فما عند الله خير من الدنيا وما فيها. قال: ويحك! لو كان غير علي كان أهون، قد عرفت سابقته وفضله وبلاءه في الإسلام، وما أجدني أنشرح لقتله. قال: أما تعلمه قتل أهل النهر العباد الصالحين؟ قال: بلى. قال: فنقتله بمن قتل من أصحابنا. فأجابه.
فلما كان ليلة الجمعة، وهي الليلة التي واعد ابن ملجم أصحابه على قتل علي ومعاوية وعمرو، أخذ سيفه ومعه شبيب ووردان وجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي للصلاة، فلما خرج علي نادى: أيها الناس الصلاة الصلاة. فضربه شبيب بالسيف فوقع سيفه بعضادة الباب، وضربه ابن ملجم على قرنه بالسيف، وقال: الحكم لله لا لك يا علي ولا لأصحابك! وهرب وردان فدخل منزله، فأتاه رجل من أهله، فأخبره وردان بما كان، فانصرف عنه وجاء بسيفه فضرب به وردان حتى قتله، وهرب شبيب في الغلس، وصاح الناس، فلحقه رجل من حضرموت يقال له عويمر، وفي يد شبيب السيف، فأخذه وجلس عليه، فلما رأى الحضرمي الناس قد أقبلوا في طلبه وسيف شبيب في يده خشي على نفسه فتركه ونجا، وهرب شبيب في غمار الناس.
ولما ضرب ابن ملجم علياً قال: لا يفوتنكم الرجل. فشد الناس عليه فأخذوه، وتأخر علي وقدم جعدة بن هبيرة، وهو ابن أخته أم هانىء، يصلي بالناس الغداة، وقال علي: أحضروا الرجل عندي. فأدخل عليه. فقال: أي عدو الله! ألم أحسن إليك؟ قال: بلى. قال: فما حملك على هذا؟ قال: شحذته أربعين صباحاً وسألت الله أن يقتل به شر خلقه. فقال علي: لا أراك مقتولاً به ولا أراك إلا من شر خلق الله. ثم قال: النفس بالنفس، إن هلكت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي، يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولون قد قتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلن إلا قاتلي، انظر يا حسن إن أنا مت من ضربتي هذه فاضربه ضربةً بضربة ولا تمثلن بالرجل، فإني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور).
هذا كله وابن ملجم مكتوف. فقالت له أم كلثوم ابنة علي: أي عدو الله! لابأس على أبي، والله مخزيك! قال: فعلى من تبكين؟ والله إن سيفي اشتريته بألف، وسممته بألف، ولو كانت هذه الضربة بأهل مصر ما بقي منهم أحد.
ودخل جندب بن عبد الله على علي فقال: إن فقدناك، ولا نفقدك، فنبايع الحسن؟ قال: ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر، ثم دعا الحسن والحسين فقال لهما: أوصيكما بتقوى الله ولا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تبكيا على شيء زوى عنكما، وقولا الحق، وارحما اليتيم، وأعينا الضائع، واصنعا للآخرة، وكونا للظالم خصيماً، وللمظلوم ناصراً، واعملا بما في كتاب الله، ولا تأخذكما في الله لومة لائم. ثم نظر إلى محمد بن الحنفية فقال: هل حفظت ما أوصيت به أخويك؟ قال: نعم. قال: فإني أوصيك بمثله وأوصيك بتوقير أخويك لعظيم حقهما عليك فاتبع أمرهما ولا تقطع أمراً دونهما. ثم قال: أوصيكما به، فإنه شقيقكما وابن أبيكما وقد علمتما أن أباكما كان يحبه. وقال للحسن: أوصيك أي بني بتقوى الله، وإقام الصلاة لوقتها، وإيتاء الزكاة عند محلها، وحسن الوضوء، فإنه لا صلاة إلا بطهور، وأوصيك بغفر الذنب، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، والحلم عن الجاهل، والتفقه في الدين، والتثبت في الأمر، والتعاهد للقرآن، وحسن الجوار، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واجتناب الفواحش.
ثم كتب وصيته ولم ينطق إلا بلا إله إلا الله، حتى مات، رضي الله عنه وأرضاه.
وغسله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، وكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص، وكبر عليه الحسن سبع تكبيرات.
فلما قبض بعث الحسن إلى ابن ملجم فأحضره، فقال للحسن: هل لك في خصلة؟ إني والله قد أعطيت الله عهداً أن لا أعاهد عهداً إلا وفيت به، وإني عاهدت الله عند الحطيم أن اقتل علياً ومعاوية أو أموت دونهما، فإن شئت خليت بيني وبينه فلك الله علي إن لم أقتله أو قتلته ثم بقيت أن آتيك حتى أضع يدي في يدك. فقال له الحسن: لا والله حتى تعاين النار. ثم قدمه فقتله، وأخذه الناس فأدرجوه في بواري وأحرقوه بالنار.
قال عمرو بن الأصم: قلت للحسن بن علي: إن هذه الشيعة تزعم أن علياً مبعوث قبل القيامة! فقال: كذب والله هؤلاء الشيعة، لو علمنا أنه مبعوث قبل القيامة ما زوجنا نساءه ولا قسمنا ماله، أما قوله: هذه الشيعة، فلا شك أنه يعني طائفة منها، فإن كل شيعة لا تقول هذا إنما تقوله طائفة يسيرة منهم، ومن مشهوري هذه الطائفة: جابر بن يزيد الجعفي الكوفي، وقد انقرض القائلون بهذه المقاتلة فيما نعلمه.
بجرة بفتح الباء والجيم. والبرك بضم الباء الموحدة، وفتح الراء، وآخره كاف.
وأما البرك بن عبد الله فإنه قعد لمعاوية في تلك الليلة التي ضرب فيها علي، فلما خرج معاوية ليصلي الغداة شد عليه بالسيف، فوقع السيف في أليته، فأخذ، فقال: إن عندي خبراً أسرك به، فإن أخبرتك فنافعي ذلك عندك؟ قال: نعم. قال: إن أخاً لي قد قتل علياً هذه الليلة. قال: فلعله لم يقدر على ذلك. قال: بلى، إن علياً ليس معه أحد يحرسه. فأمر به معاوية فقتل.
وبعث معاوية إلى الساعدي، وكان طبيباً، فلما نظر إليه قال: اختر إما أن أحمي حديدة فأضعها موضع السيف، وإما أن أسقيك شربة تقطع منك الولد وتبرأ منها، فإن ضربتك مسمومة. فقال معاوية: أما النار فلا صبر لي عليها، وأما الولد فإن في يزيد وعبد الله ما تقر به عيني. فسقاه شربة فبرأ ولم يولد له بعدها.
وأمر معاوية عند ذلك بالمقصورات وحرس الليل وقيام الشرط على رأسه إذا سجد، وهو أول من عملها في الإسلام. وقيل: إن معاوية لم يقتل البرك وإنما أمر فقطعت يده ورجله وبقي إلى أن ولي زياد البصرة، وكان البرك قد صار إليها وولد له، فقال له زياد: يولد لك وتركت أمير المؤمنين لا يولد له؟ فقتله وصلبه.
وأما عمرو بن بكر فإنه جلس لعمرو بن العاص تلك الليلة فلم يخرج، وكان اشتكى بطنه، فأمر خارجة بن أبي حبيبة، وكان صاحب شرطته، وهو من بني عامر بن لؤي، فخرج ليصلي بالناس، فشد عليه وهو يرى أنه عمرو بن العاص، فضربه فقتله، فأخذه الناس إلى عمرو فسلموا عليه بالإمرة. فقال: من هذا؟ قالوا: عمرو. قال: فمن قتلت؟ قالوا: خارجة. قال: أما والله يا فاسق ما ظننته غيرك! فقال عمرو: أردتني وأراد الله خارجة. فقدمه عمرو فقتله.
قال: ولما بلغ عائشة قتل علي قالت:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر
ثم قالت: من قتله؟ فقيل: رجل من مراد. فقالت:
فإن يك نائياً فلقد نعاه ... نعيٌّ ليس في فيه التراب
فقالت زينب بنت أبي سلمة: أتقولين هذا لعلي؟ فقالت: إنني أنسى فإذا نسيت فذكروني؛ وقال ابن أبي مياس المرادي:
فنحن ضربنا، يا لك الخير، حيدرا ... أبا حسنٍ مأمومةً فتفطرا
ونحن خلعنا ملكه من نظامه ... بضربة سيفٍ إذ علا وتجبرا
ونحن كرامٌ في الصباح أعزةٌ ... إذا المرء بالموت ارتدى وتأزرا
وقال أيضاً:
ولم أر مهراً ساقه ذو سماحةٍ ... كمهر قطام بين عربٍ ومعجمٍ
ثلاثة آلافٍ وعبدٌ وقينةٌ ... وضرب عليٍ بالحسام المصمم
فلا مهر أغلى من عليٍ وإن غلا ... ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
وقال أبو الأسود الدئلي في قتل علي:
ألا أبلغ معاوية بن حربٍ ... فلا قرت عيون الشامتينا
أفي شهر الصيام فجعتمونا ... بخير الناس طراً أجمعينا
قتلتم خير من ركب المطايا ... ورحلها ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال ومن حذاها ... ومن قرأ المثاني والمبينا
إذا استقبلت وجه أبي حسينٍ ... رأيت البدر راع الناظرينا
لقد علمت قريشٌ حيث كانت ... بأنك خيرها حسباً ودينا
وقال بكر بن حسان الباهري:
قل لابن ملجم والأقدار غالبةٌ: ... هدمت للدين والإسلام أركانا
قتلت أفضل من يمشي على قدمٍ ... وأعظم الناس إسلاماً وإيمانا
وأعلم الناس بالقرآن ثم بما ... سن الرسول لنا شرعاً وتبيانا
صهر النبي ومولاه وناصره ... أضحت مناقبه نوراً وبرهانا
وكان منه على رغم الحسود له ... مكان هارون من موسى بن عمرانا
ذكرت قاتله والدمع منحدرٌ ... فقلت سبحان رب العرش سبحانا
إني لأحسبه ما كان من أنسٍ ... كلا ولكنه قد كان شيطانا
قد كان يخبرهم هذا بمقتله ... قبل المنية أزماناً فأزمانا
فلا عفا الله عنه سوء فعلته ... ولا سقى قبر عمران بن حطانا
يا ضربةً من شقيٍ ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
بل ضربة من غوي أوردته لظىً ... وسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
كأنه لم يرد قصداً بضربته ... إلا ليصلى عذاب الخلد نيرانا
ذكر مدة خلافته ومقدار عمرهوقد قال بعضهم: كانت خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر، وكان عمره ثلاثاً وستين سنة، وقيل: كان عمره تسعاً وخمسين، وقيل: خمساً وستين، وقيل: ثمانياً وخمسين. والأول أصح. ولما قتل دفن عند مسجد الجماعة، وقيل: في القصر، وقيل غير ذلك. والأصح أن قبره هو الموضع الذي يزار ويتبرك به.
ذكر نسبه وصفته ونسائه وأولادهكان آدم شديد الأدمة، ثقيل العينين عظيمهما، ذا بطن، أصلع، عظيم اللحية، كثير شعر الصدر، هو إلى القصر أقرب، وقيل: كان فوق الربعة، وكان ضخم عضلة الذراع، دقيق مستدقها، ضخم عضلة الساق، دقيق مستدقها، وكان من أحسن الناس وجهاً، ولا يغير شيبه، كثير التبسم.
وأما نسبه فهو علي بن أبي طالب، واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم، وأما فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. وهو أول خليفة، أبواه هاشميان، ولم يل الخلافة إلى وقتنا هذا من أبواه هاشميان غيره، وغير الحسن ولده، ومحمد الأمين، فإن أباه هارون الرشيد وأمه زبيدة بنت جعفر بن المنصور.
وأما أزواجه فأول زوجة تزوجها فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يتزوج عليها حتى توفيت عنده، وكان له منها الحسن والحسين، وقد ذكر أنه كان له منها ابن آخر يقال له محسن وأنه توفي صغيراً، وزينب الكبرى، وأم كلثوم الكبرى. ثم تزوج بعدها أم البنين بنت حرام الكلابية، فولدت له العباس وجعفراً وعبد الله وعثمان، قتلوا مع الحسين بالطف ولا بقية لهم غير العباس، وتزوج ليلى بنت مسعود بن خالد النهشلية التميمية، فولدت له عبيد الله وأبا بكر، قتلا مع الحسين، وقيل: إن عبيد الله قتله المختار بالمذار، وقيل: لا بقية لهما. وتزوج أسماء بنت عميس الخثعمية، فولدت له محمداً الأصغر ويحيى، ولا عقب لهما، وقيل: إن محمداً لأم ولد، وقتل مع الحسين، وقيل: إنها ولدت له عوناً، وله من الصهباء بنت ربيعة التغلبية، وهي من السبي الذي أغار عليهم خالد بن الوليد بعين التمر، وولدت له عمر بن علي، ورقية بنت علي، فعمر عمر حتى بلغ خمساً وثمانين سنة، فحاز نصف ميراث علي، ومات بينبع. وتزوج علي أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، وأمها زينب بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فولدت له محمداً الأوسط، وله محمد ابن علي الأكبر الذي يقال له ابن الحنفية، أمه خولة بنت جعفر من بني حنيفة. وتزوج علي أيضاً أم سعيد ابنة عروة بن مسعود الثقفية، فولدت له أم الحسن ورملة الكبرى، وأم كلثوم، وكان له بنات من أمهات شتى لم يذكرن لنا، منهن أم هانىء، وميمونة، وزينب الصغرى، ورملة الصغرى، وأم كلثوم الصغرى، وفاطمة، وأمامة، وخديجة، وأم الكرام، وأم سلمة، وأم جعفر، وجمانة، ونفيسة، كلهن من أمهات أولاد. وتزوج أيضاً مخباة بنت امرىء القيس بن عدي الكلبية، فولدت له جارية هلكت صغيرة، كانت تخرج إلى المسجد فيقال لها: من أخوالك؟ فتقول: وه وه، تعني كلباً.
فجميع ولده أربعة عشر ذكراً، وسبع عشرة امرأة، وكان النسل منهن للحسن والحسين ومحمد بن الحنفية والعباس بن الكلابية وعمر بن التغلبية.
ذكر عمالهوكان عامله على البصرة هذه السنة عبد الله بن عباس، وقد ذكرنا الاختلاف في أمره، وكان إليه الصدقات والجند والمعاون أيام ولايته كلها، وكان على قضائها من قبل علي أبو الأسود الدئلي، وكان على فارس زياد، وقد ذكرنا مسيره إليها، وكان على اليمن عبيد الله بن عباس، حتى كان من أمره وأم بسر بن أبي أرطأة ما ذكر، وكان على الطائف ومكة وما اتصل بذلك قثم ابن عباس، وكان على المدينة أبو أيوب الأنصاري، وقيل: سهل بن حنيف، وكان عند قدوم بسر عليه من أمره ما كان، وذكر.
ذكر بعض سيرتهكان أبو رافع مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خازناً لعلي على بيت المال، فدخل علي يوماً وقد زينت ابنته، فرأى عليها لؤلؤة كان عرفها لبيت المال فقال: من أين لها هذه؟ لأقطعن يدها! فلما رأى أبو رافع جده في ذلك قال: أنا والله يا أمير المؤمنين زينتها بها. فقال علي: لقد تزوجت بفاطمة وما لي فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه ناضحنا بالنهار وما لي خادم غيرها.
قال ابن عباس: قسم علم الناس خمسة أجزاء، فكان لعلي منها أربعة أجزاء ولسائر الناس جزء شاركهم علي فيه فكان أعلمهم به.
وقال أحمد بن حنبل: ما جاء لأحد من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، ما جاء لعلي.
وقال عمرو بن ميمون: لما ضرب عمر بن الخطاب وجعل الخلافة في الستة من الصحابة، فلما خرجوا من عنده قال: إن يولوها الأجلح يسلك بهم الطريق، فقال له ابنه عبد الله: فما يمنعك يا أمير المؤمنين من توليته؟ قال: أكره أن أتحملها حياً وميتاً.
وقال عاصم بن كليب عن أبيه: قدم على علي مال من أصبهان فقسمه على سبعة أسهم، فوجد فيه رغيفاً فقسمه على سبعة، ودعا أمراء الأسباع فأقرع بينهم لينظر أيهم يعطى أولاً.
وقال هارون بن عنترة عن أبيه: دخلت على علي بالخورنق وهو فصل شتاء وعليه خلق قطيفة وهو يرعد فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيباً وأنت تفعل هذا بنفسك؟ فقال: والله ما أرزأكم شيئاً وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة.
وقال يحيى بن سلمة: استعمل علي عمرو بن سلمة على أصبهان فقدم ومعه مال وزقاق فيها عسل وسمن فأرسلت أم كلثوم بنت علي إلى عمرو تطلب منه سمناً وعسلاً، فأرسل إليها ظرف عسل وظرف سمن. فلما كان الغد خرج علي وأحضر المال والعسل والسمن ليقسم، فعد الزقاق فنقصت زقين، فسأل عنهما، فكتمه وقال: نحن نحضرهما، فعزم عليه إلا ذكرها له، فأخبره، فأرسل إلى أم كثلوم فأخذ الزقين منها فرآهما قد نقصا فأمر التجار بتقويم ما نقص منهما، فكان ثلاثة دراهم، فأرسل إليها فأخذها منها ثم قسم الجميع.
قيل: وخرج من همذان فرأى رجلين يقتتلان ففرق بينها ثم مضى، فسمع صوتاً: يا غوثاه بالله! يحضر نحوه وهو يقول: أتاك الغوث. فإذا رجل يلازم رجلاً. فقال: يا أمير المؤمنين بعت هذا ثوباً بسبعة دراهم وشرطت أن لا يعطيني مغموزاً ولا مقطوعاً، وكان شرطهم يومئذ، فأتاني بهذه الدراهم، فأتيت ولزمته فلطمني. فقال للاطم: ما تقول؟ فقال: صدق يا أمير المؤمنين. فقال: أعطه شرطه. فأعطاه. وقال للملطوم: اقتص. قال: أو أعفو يا أمير المؤمنين؟ قال: ذلك إليك. ثم قال: يا معشر المسلمين خذوه، فأخذوه، فحمل على ظهر رجل كما يحمل صبيان الكتاب، ثم ضربه خمس عشرة درة وقال: هذا نكالٌ لما انتهكت من حرمته.
ولما قتل، كرم الله وجهه، قام ابنه الحسن خطيباً فقال: لقد قتلتم الليلة رجلاً في ليلة نزل فيها القرآن وفيها رفع عيسى وفيها قتل يوشع بن نون، والله ما سبقه أحد كان قبله ولا يدركه أحد يكون بعده، والله إن كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يبعثه في السرية وجبرائيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، والله ما ترك صفراء ولا بيضاء إلا ثمانمائة أو سبعمائة أرصدها لجارية.
وقال سفيان: إن علياً لم يبن آجرة على آجرة، ولا لبنةً على لبنة، ولا قصبةً على قصبة، وإن كان ليؤتى بحبوبه من المدينة في جراب.
وقيل: إنه أخرج سيفاً له إلى السوق فباعه وقال: لو كان عندي أربعة دراهم ثمن إزار لم أبعه. وكان لا يشتري ممن يعرفه، وإذا اشترى قميصاً قدر كمه على طول يده وقطع الباقي. وكان يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير الذي يأكل منه ويقول: لا أحب أن يدخل بطني إلا ما أعلم.
وقال الشعبي: وجد علي درعاً له عند نصراني فأقبل به إلى شريح وجلس إلى جانبه وقال: لو كان خصمي مسلماً لساويته، وقال: هذه درعي! فقال النصراني: ما هي إلا درعي، ولم يكذب أمير المؤمنين؟ فقال شريح لعلي: ألك بنية؟ قال: لا، وهو يضحك، فأخذ النصراني الدرع ومشى يسيراً ثم عاد وقال: أشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه. ثم أسلم واعترف أن الدرع سقطت من علي عند مسيره إلى صفين، ففرح علي بإسلامه ووهب له الدرع وفرساً، وشهد معه قتال الخوارج.
وقيل: إن علياً رؤي وهو يحمل في ملحفته تمراً قد اشتراه بدرهم، فقيل له: يا أمير المؤمنين ألا نحمله عنك؟ فقال: أبو العيال أحق بحمله.
وقال الحسن بن صالح: تذاكروا الزهاد عند عمر بن عبد العزيز، فقال عمر: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب.
وقال المدائني: نظر علي إلى قوم ببابه فقال لقنبر مولاه: من هؤلاء؟ قال: شيعتك يا أمير المؤمنين. قال: وما لي لا أرى فيهم سيما الشيعة؟ قال: وما سيماهم؟ قال: خمص البطون من الطوى، يبس الشفاه من الظمإ، عمش العيون من البكاء.
ومناقبه لا تحصى، وقد جمع قضاياه في كتاب مفرد.
ذكر بيعة الحسن بن عليوفي هذه السنة، أعني سنة أربعين، بويع الحسن بن علي بعد قتل أبيه. وأول من بايعه قيس بن سعد الأنصاري، وقال له: ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه وقتال المحلين. فقال الحسن: على كتاب الله وسنة رسوله فإنهما يأتيان على كل شرط. فبايعه الناس. وكان الحسن يشترط عليهم: إنكم مطيعون تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت. فارتابوا بذلك وقالوا: ما هذا لكم بصاحب وما يريد هذا إلا القتال.
ذكر عدة حوادثحج بالناس هذه السنة المغيرة بن شعبة، وافتعل كتاباً على لسان معاوية، فيقال: إنه عرف يوم التروية، ونحر يوم عرفة خوفاً أن يفطن لفعله، وقيل: فعل ذلك لأنه بلغه أن عتبة بن أبي سفيان مصبحه والياً على الموسم.
وفيها بويع معاوية بالخلافة ببيت المقدس، وكان قبل ذلك يدعى بالأمير في بلاد الشام، فلما قتل علي دعي بأمير المؤمنين، هكذا قال بعضهم، وقد تقدم أنه بويع بالخلافة بعد اجتماع الحكمين، والله أعلم.
وكانت خلافة الحسن ستة أشهر.
وفيها مات الأشعث بن قيس الكندي بعد قتل علي بأربعين ليلة وصلى عليه الحسن بن علي. وفيها مات حسان بن ثابت وأبو رافع مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهما من الصحابة. وفيها مات شرحبيل بن السمط الكندي وهو من أصحاب معاوية، قيل له صحبة، وقيل لا صحبة له. وفي أول خلافة علي مات جهجاه الغفاري له صحبة. وفيها مات الحارث بن خزمة الأنصاري، شهد بدراً وأحداً وغيرهما. وفيها مات خوات بن جبير الأنصاري بالمدينة، وكان قد خرج مع النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى بدر فرجع لعذر فضرب له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بسهمه، وهو صاحب ذات النحيين.
وفي خلافة علي مات قرظة بن كعب الأنصاري بالكوفة، وقيل: بل مات في إمارة المغيرة على الكوفة لمعاوية، شهد أحداً وغيرها وشهد سائر المشاهد مع علي. ومات معاذ بن عفراء الأنصاري في أول خلافة علي، وهو بدري، شهد المشاهد كلها مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وفي خلافته مات أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري، وكان نقيباً، شهد بدراً، وقيل: بل استخلفه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على المدينة ورده من طريق بدر وضرب له بسهمه. وفيها توفي معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي، له صحبة، قديم الإسلام، هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وكان على خاتم النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان مجذوماً، واستعمله أبو بكر وعمر على بيت المال، وكان معه الخاتم أيام عثمان، فمن يده وقع الخاتم، وقيل: إنه توفي آخر خلافة عثمان.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين
ذكر تسليم الحسن بن علي الخلافة إلى معاويةكان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفاً من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام، فبينما هو يتجهز للمسير قتل، كرم الله وجهه، وإذا أراد الله أمراً فلا مرد له. فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه، فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا علياً وسار عن الكوفة إلى لقاء معاوية، وكان قد نزل مسكن، فوصل الحسن إلى المدائن وجعل قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري على مقدمته في اثني عشر ألفاً، وقيل بل كان الحسن قد جعل على مقدمته عبد الله بن عباس، فجعل عبد الله على مقدمته في الطلائع قيس بن سعد بن عبادة. فلما نزل الحسن المدائن نادى مناد في العسكر: ألا إن قيس بن سعد قتل فانفروا. فنفروا بسرادق الحسن، فنهبوا متاعه حتى نازعوه بساطاً كان تحته، فازداد لهم بغضاً ومنهم ذعراً ودخل المقصورة البيضاء بالمدائن، وكان الأمير على المدائن سعد بن مسعود الثقفي عم المختار بن أبي عبيد، فقال له المختار، وهو شاب: هل لك في الغنى والشرف. قال: وما ذاك؟ قال: تستوثق من الحسن وتستأمن به إلى معاوية. فقال له عمه: عليك لعنة الله! أثب على ابن بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأوثقه؟ بئس الرجل أنت! فلما رأى الحسن تفرق الأمر عنه كتب إلى معاوية وذكر شروطاً وقال له: إن أنت أعطيتني هذا فأنا سامعٌ مطيعٌ وعليك أن تفي لي به. وقال لأخيه الحسين وعبد الله بن جعفر: إنني قد راسلت معاوية في الصلح. فقال له الحسين: أنشدك الله أن تصدق أحدوثة معاوية وتكذب أحدوثة أبيك! فقال له الحسن: اسكت، أنا أعلم بالأمر منك.
فلما انتهى كتاب الحسن إلى معاوية أمسكه، وكان قد أرسل عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس إلى الحسن قبل وصول الكتاب ومعهما صحيفة بيضاء مختوم على أسفلها، وكتب إليه: أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك.
فلما أتت الصحيفة إلى الحسن اشترط أضعاف الشروط التي سأل معاوية قبل ذلك وأمسكها عنده، فلما سلم الحسن الأمر إلى معاوية طلب أن يعطيه الشروط التي في الصحيفة التي ختم عليها معاوية، فأبى ذلك معاوية وقال له: قد أعطيتك ما كنت تطلب. فلما اصطلحا قام الحسن في أهل العراق فقال: يا أهل العراق إنه سخى بنفسي عنكم ثلاثٌ: قتلكم أبي، وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي.
وكان الذي طلب الحسن من معاوية أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة، ومبلغه خمسة آلاف ألف، وخراج دار ابجرد من فارسن وأن لا يشتم علياً، فلم يجبه إلى الكف عن شتم علي، فطلب أن لا يشتم وهو يسمع، فأجابه إلى ذلك ثم لم يف له به أيضاً، وأما خراج دار ابجرد فإن أهل البصرة منعوه منه وقالوا: هو فيئنا لا نعطيه أحداً، وكان منعهم بأمر معاوية أيضاً.
وتسلم معاوية الأمر لخمس بقين من ربيع الأول من هذه السنة، وقيل: في ربيع الآخر، وقيل: في جمادى الأولى، وقيل: إنما سلم الحسن الأمر إلى معاوية لأنه لما راسله معاوية في تسليم الخلافة إليه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: إنا والله ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم، وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر، فشيبت السلام بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم في مسيركم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين: قتيل بصفين تبكون له، وقتيل بالنهروان تطلبون بثأره، وأما الباقي فخاذل، وأما الباكي فثائر، ألا وإن معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفةٌ، فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله، عز وجل، بظبى السيوف، وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضى.
فناداه الناس من كل جانب: البقية البقية! وأمضى الصلح.
ولما عزم على تسليم الأمر إلى معاوية خطب الناس فقال: أيها الناس إنما نحن أمراؤكم وضيفانكم ونحن أهل بيت نبيكم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. وكرر ذلك حتى ما بقي في المجلس إلا من بكى حتى سمع نشيجه. فلما ساروا إلى معاوية في الصلح اصطلحا على ما ذكرناه وسلم إليه الحسن الأمر.
وكانت خلافة الحسن، على قول من يقول: إنه سلم الأمر في ربيع الأول، خمسة أشهر ونحو نصف شهر، وعلى قول من يقول: في ربيع الآخر، يكون ستة أشهر وشيئاً، وعلى قول من يقول: في جمادى الأولى، يكون سبعة أشهر وشيئاً، والله تعالى أعلم.
ولما اصطلحا وبايع الحسن معاوية دخل معاوية الكوفة وبايعه الناس، وكتب الحسن إلى قيس بن سعد، وهو على مقدمته في اثني عشر ألفاً يأمره بالدخول في طاعة معاوية، فقام قيس في الناس فقال: أيها الناس اختاروا الدخول في طاعة إمام ضلالة أو القتال مع غير إمام. فقال بعضهم: بل نختار الدخول في طاعة إمام ضلالة. فبايعوا معاوية أيضاً. فانصرف قيس فيمن تبعه، على ما نذكره.
ولما دخل معاوية الكوفة قال له عمرو بن العاص ليأمر الحسن أن يقوم فيخطب الناس ليظهر لهم عيه. فخطب معاوية الناس ثم أمر الحسن أن يخطبهم. فقام فحمد الله بديهةً ثم قال: أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة والدنيا دولٌ، وإن الله، عز وجل، قال لنبيه (وإن أدري لعله فتنةٌ لكم ومتاعٌ إلى حينٍ) الأنبياء: 111. فلما قاله قال له معاوية: اجلس، وحقدها على عمرو وقال: هذا من رأيك.
ولحق الحسن بالمدينة وأهل بيته وحشمهم، وجعل الناس يبكون عند مسيرهم من الكوفة.
قيل للحسن: ما حملك على ما فعلت؟ فقال: كرهت الدنيا ورأيت أهل الكوفة قوماً لا يثق بهم أحدٌ أبداً إلا غلب، ليس أحد منهم يوافق آخر في رأي ولا هوى، مختلفين لا نية لهم في خير ولا شر، لقد لقي أبي منهم أموراً عظاماً، فليت شعري لمن يصلحون بعدي، وهي أسرع البلاد خراباً! ولما سار الحسن من الكوفة عرض له رجل فقال له: يا مسود وجوه المسلمين! فقال: لا تعذلي فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رأى في المنام بني أمية ينزون على منبره رجلاً فرجلاً فساءه ذلك فأنزل الله، عز وجل: (إنا أعطيناك الكوثر: 1، وهو نهر في الجنة، و (إنا أنزلناه في ليلة القدر) إلى قوله تعالى: (خيرٌ من ألف شهرٍ) القدر: 1 - 3، يملكها بعدك بنو أمية.
ذكر صلح معاوية وقيس بن سعد
وفيها جرى الصلح بين معاوية وقيس بن سعد، وكان قيس امتنع من ذلك، وسبب امتناعه أن عبيد الله بن عباس لما علم بما يريده الحسن من تسليم الأمر إلى معاوية كتب إلى معاوية يسأله الأمان لنفسه على ما أصاب من مال وغيره، فأجابه إلى ذلك، وأرسل عبد الله بن عامر في جيش كثيف، فخرج إليهم عبيد الله ليلاً وترك جنده الذين هو عليهم بغير أمير وفيهم قيس بن سعد، فأمر ذلك الجند عليهم قيس بن سعد وتعاقدوا هو وهم على قتال معاوية حتى يشرط لشيعة علي ولمن كان معه على دمائهم وأموالهم. وقيل: إن قيساً كان هو الأمير على ذلك الجيش في المقدمة، على ما ذكرناه، وكان شديد الكراهة لإمارة معاوية ابن أبي سفيان، فلما بلغه أن الحسن بن علي صالح معاوية اجتمع معه جمع كثير وبايعوه على قتال معاوية حتى يشترط لشيعة علي على دمائهم وأموالهم وما كانوا أصابوا في الفتنة، فراسله معاوية يدعوه إلى طاعته، وأرسل إليه بسجل، وختم على أسفله وقال له: اكتب في هذا ما شئت فهو لك. فقال عمرو لمعاوية: لا تعطه هذا وقاتله. فقال معاوية: على رسلك فإنا لا نخلص إلى قتلهم حتى يقتلوا أعدادهم من أهل الشام، فما خير العيش بعد ذلك؟ فإني والله لا أقاتله أبداً حتى لا أجد من قتاله بداً.
فلما بعث إليه معاوية ذلك السجل اشترط قيس له ولشيعة علي الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال، ولم يسأل في سجله ذلك مالاً، وأعطاه معاوية ما سأل، ودخل قيس ومن معه في طاعته.
وكانوا يعدون دهاة الناس حين ثارت الفتنة خمسةً يقال إنهم ذوو رأي العرب ومكيدتهم: معاوية، وعمرو، والمغيرة بن شعبة، وقيس بن سعد، وعبد الله بن بديل الخزاعي، وكان قيس وابن بديل مع علي، وكان المغيرة معتزلاً بالطائف، ولما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه سعد بن أبي وقاص فقال: السلام عليك أيها الملك! فضحك معاوية وقال: ما كان عليك يا أبا إسحاق لو قلت: يا أمير المؤمنين؟ فقال: أتقولها جذلان ضاحكاً؟ والله ما أحب أني وليتها بما وليتها به!
ذكر خروج الخوارج على معاويةقد ذكرنا فيما تقدم اعتزال فروة بن نوفل الأشجعي في خمسمائة من الخوارج ومسيرهم إلى شهرزور، وتركوا قتال علي والحسن؛ فلما سلم الحسن الأمر إلى معاوية قالوا: قد جاء الآن ما لا شك فيه، فسيروا إلى معاوية فجاهدوه. فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حتى حلوا بالنخيلة عند الكوفة، وكان الحسن ابن علي قد سار يريد المدينة، فكتب إليه معاوية يدعوه إلى قتال فروة، فلحقه رسوله بالقادسية أو قريباً منها، فلم يرجع وكتب إلى معاوية: لو آثرت أن أقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك، فإني تركتك لصلاح الأمة وحقن دمائها.
فأرسل إليهم معاوية جمعاً من أهل الشام، فقاتلوهم، فانهزم أهل الشام، فقال معاوية لأهل الكوفة: والله لا أمان لكم عندي حتى تكفوهم. فخرج أهل الكوفة فقاتلوهم. فقالت لهم الخوارج: أليس معاوية عدونا وعدوكم؟ دعونا حتى نقاتله، فإن أصبنا كنا قد كفيناكم عدوكم، وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا. فقالوا: لابد لنا من قتالكم. فأخذت أشجع صاحبهم فروة فحادثوه ووعظوه فلم يرجع، فأخذوه قهراً وأدخلوه الكوفة، فاستعمل الخوارج عليهم عبد الله بن أبي الحوساء، رجلاً من طيء، فقاتلهم أهل الكوفة فقتلوهم في ربيع الأول، وقيل: في ربيع الآخر، وقتل ابن أبي الحوساء، وكان ابن أبي الحوساء حين ولي أمر الخوارج قد خوف من السلطان أن يصلبه، فقال:
ما إن أبالي إذا أرواحنا قبضت ... ماذا فعلتم بأوصالٍ وأبشار
تجري المجرة والنسران عن قدرٍ ... والشمس والقمر الساري بمقدار
وقد علمت، وخير القول أنفعه، ... أن السعيد الذي ينجو من النار
ذكر خروج حوثرة بن وداع
ولما قتل ابن أبي الحوساء اجتمع الخوارج فولوا أمرهم حوثرة بن وداع ابن مسعود الأسدي، فقام فيهم وعاب فروة بن نوفل لشكه في تقال علي ودعا الخوارج وسار من براز الروز، وكان بها، حتى قدم النخيلة في مائة وخمسين، وانضم إليه فل ابن أبي الحوساء، وهم قليل، فدعا معاوية أبا حوشرة فقال له: اخرج إلى ابنك فلعله يرق إذا رآك. فخرج إليه وكلمه وناشده وقال: ألا أجيئك بابنك فلعلك إذا رأيته كرهت فراقه؟ فقال: أنا إلى طعنة من يد كافر برمح أتقلب فيه ساعة أشوق مني إلى ابني. فرجع أبوه فأخبر معاوية بقوله، فسير معاوية إليهم عبد الله بن عوف الأحمر في ألفين، وخرج أبو حوثرة فيمن خرج فدعا ابنه إلى البراز، فقال: يا أبه لك في غيري سعة. وقاتلهم ابن عوف وصبروا، وبارز حوثرة عبد الله بن عوف فطعنه ابن عوف فقتله وقتل أصحابه إلا خمسين رجلاً دخلوا الكوفة، وذلك في جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين. ورأى ابن عوف بوجه حوثرة أثر السجود، وكان صاحب عبادة، فندم على قتله، وقال:
قتلت أخا بني أسدٍِ سفاهاً ... لعمر أبي فما لقيت رشدي
قتلت مصلياً محياء ليلٍ ... طويل الحزن ذا برٍ وقصد
قتلت أخا تقىً لأنال دنيا ... وذاك لشقوتي وعثار جدي
فهب لي توبةً يا رب واغفر ... لما قارفت من طإٍ وعمد
ذكر خروج فروة بن نوفل ومقتلهثم إن فروة بن نوفل الأشجعي خرج على المغيرة بن شعبة بعد مسير معاوية، فوجه إليه المغيرة خيلاً عليها شبث بن ربعي، ويقال: معقل بن قيس، فلقيه بشهرزور فقتله، وقيل قتل ببعض السواد.
ذكر شبيب بن بجرةكان شبيب مع ابن ملجم حين قتل علياً، فلما دخل معاوية الكوفة أتاه شبيب كالمتقرب إليه فقال: أنا وابن ملجم قتلنا علياً، فوثب معاوية من مجلسه مذعوراً حتى دخل منزله وبعث إلى أشجع وقال: لئن رأيت شبيباً أو بلغني أنه ببابي لأهلكنكم، أخرجوه عن بلدكم، وكان شبيب إذا جن عليه الليل خرج فلم يلق أحداً إلا قتله، فلما ولي المغيرة الكوفة خرج عليه بالقف قريب الكوفة، فبعث إليه المغيرة خيلاً عليها خالد بن عرفطة، وقيل: معقل ابن قيس، فاقتتلوا فقتل شبيب وأصحابه.
ذكر معين الخارجيوبلغ المغيرة أن معين بن عبد الله يريد الخروج، وهو رجل من محارب، وكان اسمه معناً فصغر، فأرسل إليه، وعنده جماعة، فأخذ وحبس، وبعث المغيرة إلى معاوية يخبره أمره، فكتب إليه: إن شهد أني خليفة فخل سبيله. فأحضره المغيرة وقال له: أتشهد أن معاوية خليفة وأنه أمير المؤمنين؟ فقال: أشهد أن الله، عز وجل، حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، فأمر به فقتل، قتله قبيصة الهلالي، فلما كان أيام بشر بن مروان جلس رجل من الخوارج على باب قبيصة حتى خرج فقتله، ولم يعرف قاتله حتى خرج قاتله مع شبيب بن يزيد، فلما قدم الكوفة قال: يا أعداء الله أنا قاتل قبيصة!.
ذكر خروج أبي مريمثم خرج أبو مريم مولى بني الحارث بن كعب ومعه امرأتان: قطام وكحيلة، وكان أول من أخرج معه النساء، فعاب ذلك عليه أبو بلال بن أدية، فقال: قد قاتل النساء مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومع المسلمين بالشام، وسأردهما، فردهما، فوجه إليه المغيرة جابراً البجلي، فقاتله فقتل أبو مريم وأصحابه ببادوريا.
ذكر خروج أبي ليلىوكان أبو ليلى رجلاً أسود طويلاً، فأخذ بعضادتي باب المسجد بالكوفة وفيه عدة من الأشراف وحكم بصوت عال، فلم يعرض له أحد، فخرج وتبعه ثلاثون رجلاً من الموالي، فبعث فيه المغيرة معقل بن قيس الرياحي فقتله بسواد الكوفة سنة اثنتين وأربعين.
ذكر استعمال المغيرة بن شعبة على الكوفةوفيها استعمل معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص على الكوفة، فأتاه المغيرة ابن شعبة فقال له: استعملت عبد الله على الكوفة وأباه على مصر فتكون أميراً بين نابي الأسد. فعزله عنها واستعمل المغيرة على الكوفة. وبلغ عمراً ما قال المغيرة، فدخل على معاوية فقال: استعملت المغيرة على الخراج فيغتال المال ولا تستطيع أن تأخذه منه، استعمل على الخراج رجلاً يخافك ويتقيك. فعزله عن الخراج واستعمله على الصلاة.
ولما ولي المغيرة الكوفة استعمل كثير بن شهاب على الري، وكان يكثر سب علي منبر الري، وبقي عليها إلى أن ولي زياد الكوفة، فأقره عليها، وغزا الديلم ومعه عبد الله بن الحجاج التغلبي، وقتل ديلمياً وأخذ سلبه، فأخذه منه كثير، فناشده الله في رده عليه فلم يفعل، فاختفى له وضربه على وجهه بالسيف أو بعصاً هشم وجهه، فقال:
من مبلغٌ أفناء خندف أنني ... أدركت طائلتي من ابن شهاب
أدركته ليلاً بعقوة داره ... فضربته قدماً على الأنياب
هلا خشيت وأنت عادٍ ظالمٌ ... بقصور أبهر أسرتي وعقابي
ذكر ولاية بسر على البصرةفي هذه السنة ولي بسر بن أبي أرطأة البصرة.
وكان السبب في ذلك أن الحسن لما صالح معاوية أول سنة إحدى وأربعين وثب حمران بن أبان على البصرة فأخذها وغلب عليها، فبعث إليه معاوية بسر ابن أبي أرطأة وأمره بقتل بني زياد بن أبيه، وكان زياد على فارس قد أرسله إليها علي بن أبي طالب، فلما قدم بسر البصرة خطب على منبرها وشتم علياً ثم قال: نشدت الله رجلاً يعلم أني صادق إلا صدقني أو كاذب إلا كذبني. فقال أبو بكرة: اللهم إنا لا نعلمك إلا كاذباً. قال: فأمر به فخنق. فقام أبو لؤلؤة الضبي فرمى بنفسه عليه فمنعه. وأقطعه أبو بكرة مائة جريب، وقيل لأبي بكرة: ما حملك على ذلك؟ فقال: يناشدنا بالله ثم لا نصدقه؟ وأرسل معاوية إلى زياد: إن في يدك مالاً من مال الله فأد ما عندك منه. فكتب إليه زياد: إنه لم يبق عندي شيء، ولقد صرفت ما كان عندي في وجهه، واستودعت بعضه لنازلة إن نزلت، وحملت ما فضل إلى أمير المؤمنين رحمة الله عليه. فكتب إليه معاوية: أن أقبل ننظر فيما وليت فإن استقام بيننا أمر وإلا رجعت إلى مأمنك. فامتنع، فأخذ بسر أولاد زياد الأكابر، منهم: عبد الرحمن وعبيد الله وعباد، وكتب إلى زياد: لتقدمن على أمير المؤمنين أو لأقتلن بنيك. فكتب إليه زياد: لست بارحاً من مكاني حتى يحكم الله بيني وبين صاحبك، وإن قتلت ولدي فالمصير إلى الله ومن ورائنا الحساب، (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون) الشعراء: 227. فأراد بسر قتلهم فأتاه أبو بكرة فقال: قد أخذت ولد أخي بلا ذنب، وقد صالح الحسن معاوية على ما أصاب أصحاب علي حيث كانوا، فليس لك عليهم ولا على أبيهم سبيل. وأجله أياماً حتى يأتيه بكتاب معاوية، فركب أبو بكرة إلى معاوية، وهو بالكوفة، فلما أتاه قال له: يا معاوية إن الناس لم يعطوك بيعتهم على قتل الأطفال! قال: وما ذاك يا أبا بكرة؟ قال: بسر يريد قتل بني أخي زياد. فكتب له بتخليتهم. فأخذ كتابه إلى بسر بالكف عن أولاد زياد، وعاد فوصل البصرة يوم الميعاد، وقد أخرج بسر أولاد زياد مع طلوع الشمس ينتظر بهم الغروب ليقتلهم، واجتمع الناس لذلك وهم ينتظرو أبا بكرة إذ رفع لهم على نجيب أو برذون يكده، فوقف عليه ونزل عنه وألاح بثوبه وكبر وكبر الناس معه، فأقبل يسعى على رجليه فأدرك بسراً قبل أن يقتلهم، فدفع إليه كتاب معاوية، فأطلقهم.
وقد كان معاوية كتب إلى زياد حين قتل علي يتهدده، فقام خطيباً فقال: العجب من ابن آكلة الأكباد، وكهف النفاق، ورئيس الأحزاب يتهددني، وبيني وبينه ابنا عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعني ابن عباس والحسن بن علي، في سبعين ألفاً واضعي سيوفهم على عواتقهم! أما والله لئن خلص إلي ليجدني أحمز ضراباً بالسيف. فلما صالح الحسن معاوية وقدم معاوية الكوفة تحصن زياد في القلعة التي يقال لها قلعة زياد.
قول من قال في هذا: إن زياداً عنى ابن عباس، وهمٌ لأن ابن عباس فارق علياً في حياته.
وقيل: إن معاوية أرسل هذا إلى زياد في حياة علي، فقال زياد هذه المقالة وعنى بها علياً. وكتب زياد إلى علي يخبره بما كتب إليه معاوية، فأجابه بما هو مشهور، وقد ذكرناه في استلحاق معاوية زياداً.
كل ما في هذا الخبر بسر فهو بضم الباء الموحدة والسين المهملة الساكنة.
ذكر ولاية ابن عامر البصرة لمعاوية
ثم أراد معاوية أن يولي عتبة بن أبي سفيان البصرة، فكلمه ابن عامر وقال له: إن لي بالبصرة ودائع وأموالاً، فإن لم تولني عليها ذهبت. فولاه البصرة. فقدمها في آخر سنة إحدى وأربعين، وجعل إليه خراسان وسجستان، فجعل على شرطته حبيب بن شهاب، وعلى القضاء عميرة بن يثربي أخا عمرو، وقد تقدم في وقعة الجمل أن عميرة قتل فيها، وقيل عمرو هو المقتول، والله سبحانه أعلم بالصواب.
ذكر ولاية قيس بن الهيثم خراسانوفي السنة استعمل ابن عامر قيس بن الهيثم السلمي عل خراسان، وكان أهل بادغيس وهراة وبوشنج قد نكثوا، فسار إلى بلخ فأخرب نوبهارها، كان الذي تولى ذلك عطاء بن السائب مولى بني ليث، وهو الخشك، وإنما سمي عطاء الخشك لأنه أول من دخل مدينة هراة من المسلمين من باب خشك، واتخذ قناطر على ثلاثة أنهار من بلخ على فرسخ فقيل قناطر عطاء.
ثم إن أهل بلخ سألوا الصلح ومراجعة الطاعة فصالحهم قيس. وقيل: إنما صالحهم الربيع بن زياد سنة إحدى وخمسين، وسيرد ذكره. ثم قدم قيس على ابن عامر فضربه وحبسه واستعمل عبد الله بن خازم، فأرسل إليه أهل هراة وباذغيس وبوشنج يطلبون الأمان والصلح، فصالحهم وحمل إلى ابن عامر مالاً. عبد الله بن خازم بالخاء المعجمة.
ذكر خروج سهم بن غالبوفي هذه السنة خرج سهم بن غالب الهجيمي على ابن عامر في سبعين رجلاً، منهم الخطيم الباهلي، وهو يزيد بن مالك، وإنما قيل له الخطيم لضربة ضربها على وجهه، فنزلوا بين الجسرين والبصرة، فمر بهم عبادة بن فرص الليثي من الغزو ومعه ابنه وابن أخيه، فقال لهم الخوارج: من أنتم؟ قالوا: قوم مسلمون. قالوا: كذبتم. قال عبادة: سبحان الله! اقبلوا منا ما قبل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مني، فإني كذبته وقاتلته ثم أتيته فأسلمت فقبل ذلك مني. قالوا: أنت كافر، وقتلوه وقتلوا ابنه وابن أخيه. فخرج إليهم ابن عامر بنفسه وقاتلهم فقتل منهم عدة وانحاز بقيتهم إلى أجمة وفيهم سهم والخطيم، فعرض عليهم ابن عامر الأمان فقبلوه، فآمنهم، فرجعوا، فكتب إليه معاوية يأمر بقتلهم، فكتب إليه ابن عامر: إني قد جعلت لهم ذمتك.
فلما أتى زياد البصرة سنة خمس وأربعين هرب سهم والخطيم فخرجا إلى الأهواز، فاجتمع إلى سهم جماعة فأقبل بهم إلى البصرة، فأخذ قوماً، فقالوا: نحن يهود، فخلاهم، وقتل سعداً مولى قدامة بن مظعون، فلما وصل إلى البصرة تفرق عنه أصحابه، فاختفى سهم، وقيل: إنهم تفرقوا عند استخفائه، فطلب الأمان وظن أنه يسوغ له عند زياد ما ساغ له عند ابن عامر، فلم يؤمنه زياد، وبحث عنه، فدل عليه، فأخذه وقتله وصلبه في داره.
وقيل: لم يزل مستخفياً إلى أن مات زياد فأخذه عبيد الله بن زياد فصلبه سنة أربع وخمسين، وقيل: قبل ذلك؛ فقال رجل من الخوارج:
فإن تكن الأحزاب باؤوا بصلبه ... فلا يبعدن الله سهم بن غالب
وأما الخطيم فإنه سأله زياد عن قتله عبادة فأنكره فسيره إلى البحرين ثم أعاده بعد ذلك.
ذكر عدة حوادثقيل: وفي هذه السنة ولد علي بن عبد الله بن عباس، وقيل: ولد سنة أربعين قبل أن يقتل علي، والأول أصح، وباسم علي سماه، وقال: سميته باسم أحب الناس إلي.
وحج بالناس هذه السنة عتبة بن أبي سفيان، وقيل: عنبسة بن أبي سفيان.
وفي هذه السنة استعمل عمرو بن العاص عقبة بن نافع بن عبد قيس، وهو ابن خالة عمرو، على إفريقية، فانتهى إلى لواتة ومزاتة، فأطاعوا ثم كفروا، فغزاهم من سنته، فقتل وسبى، ثم افتتح في سنة اثنتين وأربعين غدامس، فقتل وسبى، وفتح في سنة ثلاث وأربعين كوراً من كور السودان، وافتتح ودان، وهي من برقة، وافتتح عامة بلاد بربر، وهو الذي اختط القيروان سنة خمسين، وسيذكر إن شاء الله تعالى.
وفيها مات لبيد بين ربيعة الشاعر: وقيل: مات يوم دخل معاوية الكوفة وعمره مائة سنة وسبع وخمسون سنة، وقيل: مات في خلافة عثمان، وله صحبة، وترك الشعر مذ أسلم.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعينفي هذه السنة غزا المسلمون اللان وغزوا الروم أيضاً فهزموهم هزيمةً منكرة وقتلوا جماعة من بطارقتهم.
وفيها ولد الحجاج بن يوسف في قول.
وفيها ولى معاوية مروان بن الحكم المدينة، وولى خالد بن العاص بن هشام مكة، فاستقضى مروان عبد الله بن الحارث بن نوفل.
وكان على الكوفة المغيرة بن شعبة وعلى قضائها شريح، وعلى البصرة عبد الله بن عامر وعلى قضائها عمرو بن يثربي وعلى خراسان قيس بن الهيثم استعمله ابن عامر، وقيل: استعمله معاوية لما استقامت له الأمور، فلما ولي ابن عامر البصرة أقره عليها.
ذكر الخبر عن تحرك الخوارجوفي هذه السنة تحركت الخوارج الذين كانوا انحازوا عمن قتل في النهر ومن كان ارتث من جراحته في النهر فبرأوا وعفا علي عنهم، وكان سبب خروجهم أن حيان بن ظبيان السلمي كان خارجياً وكان قد ارتث يوم النهر، فلما برأ لحق بالري في رجال معه، فأقاموا بها حتى بلغهم مقتل علي، فدعا أصحابه، وكانوا بضعة عشر، أحدهم سالم بن ربيعة العبسي، فأعلمهم بقتل علي، فقال سالم: لا شلت يمين علت قذاله بالسيف! وحمدوا الله على قتله، رضي الله عنه ولا رضي عنهم - ثم إن سالماً رجع عن رأي الخوارج بعد ذلك وصلح - ودعاهم حيان إلى الخروج ومقاتلة أهل القبلة، فأقبلوا إلى الكوفة فأقاموا بها حتى قدمها معاوية، واستعمل على الكوفة المغيرة بن شعبة، فأحب العافية وأحسن السيرة، وكان يؤتى فيقال له: إن فلاناً يرى رأي الشيعة وفلاناً يرى رأي الخوارج، فيقول: قضى الله أن لا يزالوا مختلفين وسيحكم الله بين عباده. فأمنه الناس.
وكانت الخوارج يلقى بعضهم بعضاً ويتذاكرون مكان إخوانهم بالنهر، فاجتمعوا على ثلاثة نفر: على المستورد بن علفة التيمي من تيم الرباب، وعلى معاذ بن جوين الطائي وهو ابن عم زيد بن حصين الذي قتل يوم النهر، وعلى حيان بن ظبيان السلمي، واجتمعوا في أربعمائة فتشاوروا فيمن يولون عليهم، فكلهم دفع الإمارة عن نفسه، ثم اتفقوا فولوا المستورد وبايعوه، وذلك في جمادى الآخرة، واتعدوا للخروج واستعدوا، وكان خروجهم غرة شعبان سنة ثلاث وأربعين.
علفة بضم العين المهملة، وتشديد اللام المكسورة، وفتح الفاء.
ذكر قدوم زياد على معاويةوفي هذه السنة قدم زياد على معاوية من فارس.
وكان سبب ذلك أن زياداً كان قد استودع ماله عبد الرحمن بن أبي بكرة، وكان عبد الرحمن يلي ماله بالبصرة، وبلغ معاوية ذلك فبعث المغيرة بن شعبة لينظر في أموال زياد، فأخذ عبد الرحمن فقال له: إن كان أبوك قد أساء إلي لقد أحسن عمك، يعني زياداً. وكتب إلى معاوية: إني لم أجد في يد عبد الرحمن مالاً يحل لي أخذه. فكتب إليه معاوية: أن عذب عبد الرحمن، فأراد أن يعذر، وبلغ ذلك معاوية فقال لعبد الرحمن: احفظ بما في يديك. وألقى على وجهه حريرة ونضحها بالماء، فغشي عليه، ففعل ذلك ثلاث مرات ثم خلاه وكتب إلى معاوية: إني عذبته فلم أصب عنده شيئاً. وحفظ لزياد يده عنده. ثم دخل المغيرة على معاوية، فقال معاوية حين رآه:
إنما موضع سر المرء إن ... باح بالسر أخوه المنتصح
فإذا بحت بسرٍّ فإلى ... ناصحٍ يستره أو لا تبح
فقال المغيرة: يا أمير المؤمنين إن تستودعني تستودع ناصحاً مشفقاً، وما ذلك؟ قال له معاوية: ذكرت زياداً واعتصامه بفارس فلم أنم ليلتي. فقال المغيرة: ما زياد هناك؟ فقال معاوية: داهية العرب معه أموال فارس يدبر الحيل، ما يؤمنني أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت، فإذا هو قد أعاد علي الحرب جذعة، فقال المغيرة: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في إتيانه؟ قال: نعم، فأته وتلطف له.
فأتاه المغيرة وقال له: إن معاوية استخفه الوجل حتى بعثني إليك ولم يكن أحد يمد يده إلى هذا الأمر غير الحسن وقد بايع، فخذ لنفسك قبل التوطين فيستغني معاوية عنك. قال: أشر علي وارم الغرض الأقصى، فإن المستشار مؤتمن. فقال له المغيرة: أرى أن تصل حبلك بحبله وتشخص إليه ويقضي الله. وكتب إليه معاوية بأمانه بعد عود المغيرة عنه. فخرج زياد من فارس نحو معاوية ومعه المنجاب بن راشد الضبي وحارثة بن بدر الغداني.
وسرح عبد الله بن عامر عبد الله بن خازم في جماعة إلى فارس وقال: لعلك تلقى زياداً في طريقك فتأخذه. فسار بن خازم، فلقي زياداً بأرجان، فأخذ بعنانه وقال: انزل يا زياد. فقال: له المنجاب: تنح يا ابن السوداء وإلا علقت يدك بالعنان. وكانت بينهم منازعة. فقال له زياد: قد أتاني كتاب معاوية وأمانه. فتركه ابن خازم، وقدم زياد على معاوية، وسأله عن أموال فارس، فأخبره بما حمل منها إلى علي وبما أنفق منها في الوجوه التي تحتاج إلى النفقة وما بقي عنده وأنه مودع للمسلمين، فصدقه معاوية فيما أنفق وفيما بقي عنده وقبضه منه.
وقيل: إن زياداً لما قال لمعاوية قد بقيت بقية من المال وقد أودعتها، مكث معاوية يردده، فكتب زياد كتباً إلى قوم أودعهم المال وقال لهم: قد علمتم ما لي عندكم من الأمانة فتدبروا كتاب الله: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال) الأحزاب: 72 الآية؛ فاحتفظوا بما قبلكم. وسمى في الكتب المال الذي أقر به لمعاوية، وأمر رسوله أن يتعرض لبعض من يبلغ ذلك معاوية. ففعل رسوله، وانتشر ذلك، فقال معاوية لزياد حين وقف على الكتب: أخاف أن تكون مكرت بي فصالحني على ما شئت. فصالحه على شيء وحمله إليه، ومبلغه: ألف ألف درهم. واستأذنه في نزول الكوفة، فأذن له، فكان المغيرة يكرمه ويعظمه. فكتب معاوية إلى المغيرة ليلزم زياداً وحجر بن عدي وسليمان بن صرد وشبث بن ربعي وابن الكوا بن الحمق بالصلاة في الجماعة، فكانوا يحضرون معه الصلاة. وإنما ألزمهم بذلك لأنهم كانوا من شيعة علي.
ذكر عدة حوادثوحج هذه السنة بالناس عنبسة بن أبي سفيان.
وفيها مات حبيب بن مسلمة الفهري بأرمينية، وكان أميراً لمعاوية عليها، وكان قد شهد معه حروبه كلها. وفيها مات عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري، له صحبة. وفيها مات ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب، وهو الذي صارع النبي، صلى الله عليه وسلم، وصفوان بن أمية بن خلف الجمحي، وله صحبة. وفيها مات هانىء بن نيار بن عمرو الأنصاري، وهو خال البراء بن عازب، وقيل: سنة خمس وأربعين، وكان بدرياً عقبياً.
نيار بكسر النون، وفتح الياء تحتها نقطتاه، وآخره راء.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعينفي هذه السنة غزا بسر بن أبي أرطأة الروم وشتا بأرضهم حتى بلغ القسطنطينية فيما زعم الواقدي، وأنكر ذلك قوم من أهل الأخبار وقالوا: لم يشت بسر بأرض الروم قط.
وفيها مات عمرو بن العاص بمصر يوم الفطر، وكان عمل عليها لعمر أربع سنين، ولعثمان أربع سنين إلا شهرين، ولمعاوية سنتين إلا شهراً.
وفيها ولى معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص مصر فوليها نحواً من سنتين.
وفيها مات محمد بن مسلمة بالمدينة في صفر، وصلى عليه مروان بن الحكم، وعمره سبع وسبعون سنة.
ذكر مقتل المستورد الخارجيوفيها قتل المستورد بن علفة التيمي تيم الرباب، وقد ذكر سنة اثنتين وأربعين: تحرك الخوارج وبيعتهم له ومخاطبته بأمير المؤمنين.
فلما كان هذه السنة أخبر المغيرة بن شعبة بأنهم اجتمعوا في منزل حيان ابن ظبيان السلمي واتعدوا للخروج غرة شعبان، فأرسل المغيرة صاحب شرطته، وهو قبيصة بن الدمون، فأحاط بدار حيان هو ومن معه، وإذا عنده معاذ بن جوين ونحو عشرين رجلاً، وثارت امرأته، وهي أم ولد كانت له كارهة، فأخذت سيوفهم فألقتها تحت الفراش، وقاموا ليأخذوا سيوفهم فلم يجدوها فاستسلموا، فانطلق بهم إلى المغيرة فحبسهم بعد أن قررهم فلم يعترفوا بشيء، وذكروا أنهم اجتمعوا لقراءة القرآن، ولم يزالوا في السجن نحو سنة، وسمع إخوانهم فحذروا، وخرج صاحبهم المستورد فنزل الحيرة، واختلف الخوارج إليه، فرآهم حجار بن أبجر، فسألوه أن يكتم عليهم ليلتهم تلك، فقال لهم: سأكتم عليكم الدهر، فخافوه أن يذكر حالهم للمغيرة، فتحولوا إلى دار سليم بن محدوج العبدي، وكان صهراً للمستورد، ولم يذكر حجار من أخبارهم شيئاً.
وبلغ المغيرة خبرهم وأنهم عازمون على الخروج تلك الأيام، فقام في الناس فحمد الله ثم قال: لقد علمتم أني لم أزل أحب لجماعتهم العافية وأكف عنكم الأذى، وخشيت أن يكون ذلك أدب سوء لسفهائكم، وقد خشيت أن لا نجد بداً من أن يؤخذ الحليم التقي بذنب الجاهل السفيه، فكفوا عنها سفهاءكم قبل أن يشمل البلاء عوامكم، وقد بلغنا أن رجالاً يريدون أن يظهروا في المصر بالشقاق والنفاق والخلاف، وايم الله لا يخرجون في حي من أحياء العرب إلا أهلكتهم وجعلتهم نكالاً لمن بعدهم!.
فقام إليه معقل بن قيس الرياحي فقال: أيها الأمير اعلمنا بهؤلاء القوم، فإن كانوا منا كفيناكهم، وإن كانوا غيرنا أمرت أهل الطاعة فأتاك كل قبيلة بسفهائهم. فقال: ما سمي لي أحد باسمه. فقال معقل: أنا أكفيك قومي فليكفك كل رئيس قومه. فأحضر المغيرة الرؤساء وقال لهم: ليكفني كل رجل منكم قومه وإلا فوالله لا تحولن عما تعرفون إلى ما تنكرون، وعما تحبون إلى ما تكرهون.
فرجعوا إلى قومهم فناشدوهم الله والإسلام إلا دلوهم على كل من يريد أن يهيج الفتنة، وجاء صعصعة بن صوحان إلى عبد القيس، وكان قد علم بمنزل حيان في دار سليم، ولكنه كره أن يؤخذ من عشيرته على فراقه لأهل الشام وبغضه لرأيهم، وكره مساءة أهل بيت من قومه، فقام فيهم فقال: أيها الناس، إن الله، وله الحمد، لما قسم الفضل خصكم بأحسن القسم فأجبتم إلى دين الله الذي اختاره لنفسه وارتضاه لملائكته ورسله، ثم أقمتم حتى قبض الله رسوله، صلى الله عليه وسلم، ثم اختلف الناس بعده فثبتت طائفة وارتدت طائفة وأدهنت طائفة وتربصت طائفة، فلزمتم دين الله إيماناً به وبرسوله وقاتلتم المرتدين حتى قام الدين وأهلك الله الظالمين، ولم يزل الله يزيدكم بذلك خيراً حتى اختلفت الأمة بينها فقالت طائفة: نريد طلحة والزبير وعائشة، وقالت طائفة: نريد أهل المغرب، وقالت طائفة: نريد عبد الله بن وهب الراسبي، وقلتم أنتم: لا نريد إلا أهل بيت نبينا الذين ابتدأنا الله، عز وجل، من قبلهم بالكرامة تسديداً من الله، عز وجل، لكم وتوفيقاً، فلم تزالوا على الحق لازمين له آخذين به حتى أهلك الله بكم وبمن كان على مثل هديكم الناكثين يوم الجمل، والمارقين يوم النهر؛ وسكت عن ذكر أهل الشام لأن السلطان لهم؛ فلا قوم أعدى لله ولكم ولأهل بيت نبيكم من هذه المارقة الخاطئة الذين فارقوا إمامنا واستحلوا دماءنا وشهدوا علينا بالكفر، فإياكم أن تؤووهم في دوركم أو تكتموا عليهم شيئاً، فإنه لا ينبغي لحي من أحياء العرب أن يكون أعدى لهذه المارقة منكم، وقد ذكر لي أن بعضهم في جانب من الحي، وأنا باحث عن ذلك، فإن يك حقاً تقربت إلى الله بدمائهم، فإن دماءهم حلال! وقال: يا معشر عبد القيس إن ولاتنا هؤلاء أعرف شيء بكم وبرأيكم، فلا تجعلوا لهم عليكم سبيلاً، فإنهم أسرع شيء إليكم وإلى مثلكم. ثم جلس وكل قوم قال: لعنهم الله وبرىء منهم، لا نؤويهم، ولئن علمنا بمكانهم لنطلعنك عليهم، غير سليم بن محدوج فإنه لم يقل شيئاً ورجع كئيباً يكره أن يخرج أصحابه من داره فيلوموه، ويكره أن يؤخذوا في داره فيهلكوا ويهلك معهم.
وجاء أصحاب المستورد إليه فأعلموه بما قام به المغيرة في الناس وبما قام به رؤوسهم فيهم. فسأل ابن محدوج عما قام به صعصعة في عبد القيس فأخبره، وقال: كرهت أن أعلمكم فتظنوا أنه ثقل علي مكانكم. فقال له: قد أكرمت المثوى وأحسنت، ونحن مرتحلون عنك.
وبلغ الخبر الذين في محبس المغيرة من الخوارج فقال معاذ بن جوين بن حصين في ذلك:
ألا أيها الشارون قد حان لامرىءٍ ... شرى نفسه لله أن يترحلا
أقمتم بدار الخاطئين جهالةً ... وكل امرىءٍ منكم يصاد ليقتلا
فشدوا على القوم العداة فإنما ... أقامتكم للذبح رأياً مضللا
ألا فاقصدوا يا قوم للغاية التي ... إذا ذكرت كانت أبر وأعدلا
فيا ليتني فيكم على ظهر سابحٍ ... شديد القصيرى دارعاً غير أعزلا
ويا ليتني فيكم أعادي عدوكم ... فيسقيني كأس المنية أولا
يعز علي أن تخافوا وتطردوا ... ولما أجرد في المحلين منصلا
ولما يفرق جمعهم كل ماجدٍ ... إذا قلت قد ولى وأدبر أقبلا
مشيحاً بنصل السيف في حمس الوغى ... يرى الصبر في بعض المواطن أمثلا
وعز علي أن تصابوا وتنقصوا ... وأصبح ذا بثٍ أسيراً مكبلا
ولو أنني فيكم وقد قصدوا لكم ... أثرت إذاً بين الفريقين قسطلا
فيا رب جمعٍ قد فللت وغارةٍ ... شهدت وقرنٍ قد تركت مجدلا
وأرسل المستورد إلى أصحابه فقال لهم: اخرجوا من هذه القبيلة، واتعدوا سوراء. فخرجوا إليها متقطعين، فاجتمعوا بها ثلاثمائة رجل وساروا إلى الصراة، فسمع المغيرة بن شعبة خبرهم فدعا رؤساء الناس فاستشارهم فيمن يرسله إليهم، فقال له عدي بن حاتم: كلنا لهم عدو ولرأيهم مبغضٍ وبطاعتك مستمسك، فأينا شئت سار إليهم. وقال له معقل بن قيس: إنك لا تبعث إليهم أحداً ممن ترى حولك إلا رأيته سامعاً مطيعاً ولهم مفارقاً ولهلاكهم محباً، ولا أرى أن تبعث إليهم أحداً من الناس أعدى لهم مني، فابعثني إليهم، فأنا أكفيكهم بإذن الله تعالى. فقال: اخرج على اسم الله! فجهز معه ثلاثة آلاف. وقال المغيرة لصاحب شرطته: الصق بمعقل شيعة علي فإنه كان من رؤساء أصحابه، فإذا اجتمعوا استأنس بعضهم ببعض وهم أشد استحلالاً لدماء هذه المارقة وأجرأ عليهم من غيرهم، فقد قاتلوهم قبل هذه المرة. وقال له صعصعة بن صوحان نحواً من قول معقل. فقال له المغيرة: اجلس فإنما أنت خطيب. فأحفظه ذلك.
وإنما قال له ذلك لأنه بلغه أنه يعيب عثمان بن عفان ويكثر ذكر علي ويفضله، وكان المغيرة دعاه وقال له: إياك أن يبلغني عنك أنك تعيب عثمان، وإياك أن يبلغني أنك تظهر شيئاً من فضل علي، فأنا أعلم بذلك منك، ولكن هذا السلطان قد ظهر وقد أخذنا بإظهار عيبه للناس فنحن ندع شيئاً كثيراً مما أمرنا به ونذكر الشيء الذي لا نجد منه بداً ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا، فإن كنت ذاكراً فضله فاذكره بينك وبين أصحابك في منازلكم سراً، وأما علانية في المسجد فإن هذا لا يحتمله الخليفة لنا. فكان يقول له: نعم، ثم يبلغه عنه أنه فعل ذلك، فحقد عليه المغيرة فأجابه بهذا الجواب، فقال له صعصعة: وما أنا إلا خطيب فقط! قال: أجل. فقال: والله إني للخطيب الصليب الرئيس، أما والله لو شهدتني يوم الجمل حيث اختلفت القنا فشؤون القنا فشؤون تفرى وهامة تختلى لعلمت أني الليث النهد. فقال: حسبك لعمري لقد أوتيت لساناً فصيحاً.
وخرج معقل ومعه ثلاثة آلاف فارس نقاوة الشيعة وسار إلى سوراء ولحقه أصحابه.
وأما الخوارج فإنهم ساروا إلى بهر سير وأرادوا العبور إلى المدينة العتيقة التي فيها منازل كسرى، فمنعهم سماك بن عبيد الأزدي العبسي، وكان عاملاً عليها، فكتب إليه المستورد يدعوه إلى البراءة من عثمان وعلي وأن يتولاه وأصحابه. فقال سماك: بئس الشيخ أنا إذاً! وأعاد الجواب على المستورد يدعوه إلى الجماعة وأن يأخذ له الأمان، فلم يجب وأقام بالمدائن ثلاثة أيام، ثم بلغه مسير معقل إليهم فجمعهم المستورد وقال لهم: إن المغيرة قد بعث إليكم معقل بن قيس وهو من السبئية المفترين الكاذبين، فأشيروا علي برأيكم. فقال بعضهم: خرجنا نريد الله والجهاد وقد جاؤونا فأين نذهب بل نقيم حتى يحكم الله بيننا. وقال بعضهم: بل نتنحى ندعو الناس ونحتج عليهم بالدعاء. فقال لهم: لا أرى أن نقيم حتى يأتونا وهم مستريحون، بل أرى أن نسير بين أيديهم فيخرجوا في طلبنا فينقطعوا ويتبددوا فنلقاهم على تلك الحال.
فساروا فعبروا بجرجرايا ومضوا إلى أرض جوخى ثم بلغوا المذار فأقاموا بها.
وبلغ ابن عامر بالبصرة خبرهم فسأل كيف صنع المغيرة فأخبر بفعله، فاستدعى شريك بن الأعور الحارثي، وكان من شيعة علي، فقال له: اخرج إلى هذه المارقة. ففعل. وانتخب معه ثلاثة آلاف فارس من الشيعة، وكان أكثرهم من ربيعة، وسار بهم إلى المذار.
وأما معقل بن قيس فسار إلى المدائن حتى بلغها، فبلغه رحيلهم فشق ذلك على الناس، فقال لهم معقل: إنهم ساروا لتتبعوهم وتتبددوا وتنقطعوا فتلحقوهم وقد تعبتم، وإنه لا يصيبكم شيء من ذلك إلا وقد أصابهم مثل ذلك. وسار في آثارهم وقدم بين يديه أبا الرواغ الشاكري في ثلاثمائة فارس، فتبعهم أبو الرواغ حتى لحقهم بالمذار، فاستشار أصحابه في قتالهم قبل قدوم معقل، فقال بعضهم: لا تفعل، وقال بعضهم: بل نقاتلهم. فقال لهم: إن معقلاً أمرني أن لا أقاتلهم. فقالوا له: ينبغي أن تكون قريباً منه حتى يأتي معقل، وكان ذلك عند المساء. فباتوا يتحارسون حتى أصبحوا، فلما ارتفع النهار خرجت الخوارج إليهم، وكانوا أيضاً ثلاثمائة، وحملوا عليهم، فانهزم أصحاب أبي الرواغ ساعةً ثم صاح بهم أبو الرواغ: الكرة الكرة! وحمل ومعه أصحابه، فلما دنوا من الخوارج عادوا منهزمين، إلا أنهم لم يقتل منهم أحد، فصاح بهم أبو الرواغ أيضاً: ثكلتككم أمهاتكم! ارجعوا بنا نكن قريباً منهم لا نفارقهم حتى يقدم علينا أميرنا، وما أقبح بنا أن نرجع إلى الجيش منهزمين من عدونا! فقال له بعض أصحابه: إن الله لا يستحي من الحق، قد والله هزمونا. فقال له: لا أكثر الله فينا مثلك، إنا ما لم نفارق العركة فلم نهزم، ومتى عطفنا عليهم وكنا قريباً منهم فنحن على حال حسنة، فقفوا قريباً منهم فإن أتوكم وعجزتم عنهم فتأخروا قليلاً، فإذا حملوا عليكم وعجزتم عن قتالهم فانحازوا على حامية، فإذا رجعوا عنكم فاعطفوا عليهم وكونوا قريباً منهم، فإن الجيش يأتيكم عن ساعة.
فجعلت الخوارج كلما حملت عليهم انحازوا عنهم، فإذا عاد الخوراج رجع أبو الرواغ في آثارهم، فلم يزالوا كذلك إلى وقت الظهر، فنزل الطائفتان يصلون ثم أقاموا إلى العصر، وكان أهل القرى والسيارة قد أخبروا معقلاً بالتقاء الخوارج وأصحابه، وأن الخوارج تطرد أصحابه بين أيديهم، فإذا رجعوا عاد أصحابه خلفهم. فقال معقل: إن كان ظني في أبي الرواغ صادقاً لا يأتيكم منهزماً أبداً. ثم أسرع السير في سبعمائة من أهل القوة واستخلف محرز بن شهاب التميمي على ضعفة الناس، فلما أشرفوا على أبي الرواغ قال لأصحابه: هذه غبرة فتقدموا بنا إلى عدونا حتى لا يرانا أصحابنا، إنا تنحينا عنهم وهبناهم. فتقدم حتى وقف مقابل الخوارج ولحقهم معقل، فلما دنا منهم غربت الشمس فصلى بأصحابه وصلى أبو الرواغ بأصحابه وصلى الخوارج أيضاً، وقال أبو الرواغ لمعقل: إن لهم شدات منكرات فلا تلها بنفسك ولكن قف وراء الناس تكون ردءاً لهم. فقال: نعم ما رأيت.
فبينا هو يخاطبه حملت الخوارج عليهم فانهزم عامة أصحاب معقل وثبت هو، فنزل إلى الأرض ومعه أبو الرواغ في نحو مائتي رجل، فلما غشيهم المستورد استقبلوه بالرماح والسيوف، فانهزمت خيل معقل ساعةً، ثم ناداهم مسكين بن عامر، وكان شجاعاً: أين الفرار وقد نزل أميركم، ألا تستحيون؟ ثم رجع ورجعت معه خيل عظيمة ومعقل بن قيس يقاتل الخوارج بمن معه، فلم يزل يقاتلهم حتى ردهم إلى البيوت، ثم لم يلبثوا إلا قليلاً حتى جاءهم محرز بن شهاب فيمن معه، فجعلهم معقل ميمنةً وميسرة وقال لهم: لا تبرحوا حتى تصبحوا ونثور إليهم.
ووقف الناس بعضهم مقابل بعض، فبينما هم متواقفون أتى الخوارج عينٌ لهم فأخبرهم أن شريك بن الأعور قد أقبل إليهم من البصرة في ثلاثة آلاف. فقال المستورد لأصحابه: لا أرى أن نقيم لهؤلاء جميعاً، ولكني أرى أن نرجع إلى الوجه الذي جئنا منه، فإن أهل البصرة لا يتبعوننا إلى أرض الكوفة فيهون علينا قتال أهل الكوفة. ثم أمرهم بالنزول يريحوا دوابهم ساعةً، ففعلوا، ثم دخلوا القرية وأخذوا منها من دلهم على الطريق الذي أقبلوا منه وعادوا راجعين.
وأما معقل فإنه بعث من يأتيه بخبرهم حين لم ير سوادهم، فعاد إليه بالخبر أنهم قد ساروا، فخاف أن تكون مكيدة وخاف البيات فاحتاط هو وأصحابه وتحارسوا إلى الصباح، فلما أصبحوا أتاهم من أخبرهم بمسيرهم، وجاء شريك ابن الأعور فيمن معه فلقي معقلاً فتساءلا ساعة وأخبره معقل بخبرهم، فدعا شريك أصحابه إلى المسير مع معقل، فلم يجيبوه، فاعتذر إلى معقل بخلاف أصحابه، وكان صديقاً له يجمعهما رأي الشيعة، ودعا معقل أبا الرواغ وأمره باتباعهم، فقال له: زدني مثل الذين كانوا معي ليكون أقوى لي إن أرادوا مناجزتي. فبعث معه ستمائة فارس، فساروا سراعاً حتى أدركوا الخوارج بجرجرايا وقد نزلوا فنزل بهم أبو الرواغ مع طلوع الشمس، فلما رأوهم قالوا: إن قتال هؤلاء أيسر من قتال من يأتي بعدهم، فحملوا على أبي الرواغ وأصحابه حملة صادقة، فانهزم أصحابه وثبت في مائة فارس، فقاتلهم طويلاً وهو يقول:
إن الفتى كل الفتى من لم يهل ... إذا الجبان حاد عن وقع الأسل
قد علمت أني إذا البأس نزل ... أروع يوم الهيج مقدامٌ بطل
ثم عطف أصحابه من كل جانب فصدقوهم القتال حتى أعادوهم إلى مكانهم، فلما رأى المستورد ذلك علم أنهم إن أتاهم معقل ومن معه هلكوا، فمضى هو وأصحابه فعبروا دجلة ووقفوا في أرض بهرسير وتبعهم أبو الرواغ حتى نزل بهم بساباط، فلما نزل بهم قال المستورد لأصحابه: إن هؤلاء هم حماة أصحاب معقل وفرسانه، ولو علمت أني أسبقهم إليه بساعة لسرت إليه فواقعته. ثم أمر من يسأل عن معقل، فسألوا بعض من على الطريق فأخبروهم أنه نزل ديلمايا وبينهم ثلاثة فراسخ، فلما أخبر المستورد ذلك ركب وركب أصحابه وأقبل حتى انتهى إلى جسر ساباط، وهو جسر نهر ملك، وهو من جانبه الذي يلي الكوفة، وأبو الرواغ من جانب المدائن، فقطع المستورد الجسر، ولما رآهم أبو الرواغ قد ركبوا عبى أصحابه وأقبل حتى انتهى إلى جسر ساباط، وهو جسر نهر ملك، وهو من جانبه الذي يلي الكوفة، وأبو الرواغ من جانب المدائن، فقطع المستورد الجسر، ولما رآهم أبو الرواغ قد ركبوا عبى أصحابه واعتزل إلى صحراء بين المدائن وساباط ليكون القتال بها ووقف ينتظرهم، فلما قطع المستورد الجسر سار إلى ديلمايا نحو معقل ليوقع به، فانتهى إليه وأصحابه متفرقون عنه وهو يريد الرحيل وقد تقدم بعض أصحابه، فلما رآهم معقل نصب رايته ونادى: يا عباد الله الأرض الأرض! فنزل معه نحو مائتي رجل، فحملت الخوارج عليهم فاستقبلوهم بالرماح جثاةً على الركب فلم يقدروا عليهم فتركوهم وعدلوا إلى خيولهم فحالوا بينهم وبينها وقطعوا أعنتها، فذهبت في كل جانب، ثم مالوا على المتفرقين من أصحاب معقل ففرقوا بينهم، ثم رجعوا إلى معقل وأصحابه وهم على الركب فحملوا عليهم، فلم يتجلجلوا، فحملوا أخرى فلم يقدروا عليهم، فقال المستورد لأصحابه: لينزل نصفكم ويبقى نصفكم على الخيل. ففعلوا واشتد الحال على أصحاب معقل وأشرفوا على الهلاك.
فبيما هم كذلك إذ أقبل أبو الرواغ عليهم فيمن معه. وكان سبب عوده إليهم أنه أقام بمكانه ينتظرهم، فلما أبطأوا عليه أرسل من يأتيه بخبرهم، فرأوا الجسر مقطوعاً ففرحوا ظناً منهم أن الخوارج فعلوا ذلك هيبةً لهم، فرجعوا إلى أبي الرواغ فأخبروه أنهم لم يروهم وأن الجسر قد قطعوه هيبةً لهم. فقال لهم أبو الرواغ: لعمري ما فعلوا هذا إلا مكيدةً، وما أراهم إلا وقد سبقوكم إلى معقل حيث رأوا فرسان أصحابه معي، وقد قطعوا الجسر ليشغلوكم به عن لحاقهم، فالنجاء النجاء في الطلب.
ثم أمر أهل القرية فعقدوا الجسر وعبر عليه واتبع الخوارج، فلقيه أوائل الناس منهزمين، فصاح بهم: إلي إلي! فرجعوا إليه وأخبروه الخبر وأنهم تركوا معقلاً يقاتلهم وما يظنونه إلا قتيلاً. فجد في السير ورد معه كل من لقيه من المنهزمين، فانتهى إلى العسكر فرأى راية معقل منصوبة والناس يقتتلون، فحمل أبو الرواغ ومن معه على الخوارج فأزالوهم غير بعيدٍ، ووصل أبو الرواغ إلى معقل فإذا هو متقدم يحرض أصحابه، فشدوا على الخوارج شدةً منكرة، ونزل المستورد ومن معه من الخوارج ونزل أصحاب معقل أيضاً ثم اقتتلوا طويلاً من النهار بالسيوف أشد قتال.
ثم إن المستورد نادى معقلاً ليبرز إليه، فبرز إليه، فمنعه أصحابه، فلم يقبل منهم، وكان معه سيفه ومع المستورد رمحه، فقال أصحاب معقل: خذ رمحك. فأبى وأقبل على المستورد، فطعنه المستورد برمحه فخرج السنان من ظهره، وتقدم معقل والرمح فيه إلى المستورد فضربه بالسيف فخالط دماغه فوقع المستورد ميتاً ومات معقل أيضاً.
وكان معقل قد قال: إن قتلت فأميركم عمرو بن محرز بن شهاب التميمي. فلما قتل أخذ الراية عمرو ثم حمل في الناس على الخوارج فقتلوهم ولم ينج منهم غير خمسة أو ستة.
وقال ابن الكلبي: كان المستورد من تميم ثم من بني تميم ثم من بني رباح، واحتج بقول جرير:
ومنا فتى الفتيان والجود معقلٌ ... ومنا الذي لاقى بدجلة معقلا
يعني هذه الوقعة.
ذكر عود عبد الرحمن إلى ولاية سجستانفي هذه السنة استعمل عبد الله بن عامر عبد الرحمن بن سمرة على سجستان، فأتاها وعلى شرطته عباد بن الحصين الحبطي ومعه من الأشراف عمرو بن عبيد الله بن معمر وغيره، فكان يغزو البلد قد كفر أهله فيفتحه، حتى بلغ كابل فحصرها أشهراً ونصب عليها مجانيق فثلمت سورها ثلمةً عظيمة، فبات عليها عباد بن الحصين ليلةً يطاعن المشركين حتى أصبح فلم يقدروا على سدها وخرجوا من الغد يقاتلون فهزمهم المسلمون ودخلوا البلد عنوةً، ثم سار إلى بست ففتحها عنوةً، وسار إلى زران فهرب أهلها وغلب عليها، ثم سار إلى خشك فصالحه أهلها، ثم أتى الرخج فقاتلوه فظفر بهم وفتحها، ثم سار إلى زابلستان، وهي غزنة وأعمالها، فقاتله أهلها، وقد كانوا نكثوا، ففتحها، وعاد إلى كابل وقد نكث أهلها ففتحها.
ذكر غزوة السنداستعمل عبد الله بن عامر على ثغر الهند عبد الله بن سوار العبدي، ويقال ولاه معاوية من قبله، فغزا القيقان فأصاب مغنماً، ووفد على معاوية وأهدى له خيلاً قيقانية، ورجع فغزا القيقان فاستنجدوا بالترك فقتلوه، وفيه يقول الشاعر:
وابن سوارٍ على عدانه ... موقد النار وقتال الشغب
وكان كريماً لم يوقد أحد في عسكره ناراً، فرأى ذات ليلة ناراً فقال: ما هذه؟ قالوا: امرأة نفساء يعمل لها الخبيص؛ فأمر أن يطعم الناس الخبيص ثلاثة أيام.
ذكر ولاية عبد الله بن خازم خراسانقيل: وفي هذه اسنة عزل عبد الله بن عامر قيس بن الهيثم القيسي ثم السلمي عن خراسان واستعمل عبد الله بن خازم.
وسبب ذلك أن قيساً أبطأ بالخراج والهدية، فقال عبد الله بن خازم لعبد الله بن عامر: ولني خراسان أكفكها. فكتب له عهده، فبلغ ذلك قيساً فخاف ابن خازم وشغبه فترك خراسان وأقبل: فازداد ابن عامر غضباً لتضييعه الثغر، فضربه وحبسه وبعث رجلاً من يشكر على خراسان، وقيل: بعث أسلم بن زرعة الكلابي ثم ابن خازم.
وقيل في عزله غير ذلك، وهو أن ابن خازم قال لابن عامر: إنك استعملت على خراسان قيساً وهو ضعيف، وإني أخاف إن لقي حرباً أن ينهزم بالناس فتهلك خراسان وتفضح أخوالك، يعني قيس عيلان. قال ابن عامر: فما الرأي؟ قال: تكتب لي عهداً إن هو انصراف عن عدو قمت مقامه. فكتب له.
وجاش جماعةٌ من طخارستان فشاوره قيس فأشار عليه ابن خازم أن ينصرف حتى يجتمع إليه أطرافه، فلما سار مرحلة أو اثنتين أخرج ابن خازم عهده وقام بأمر الناس ولقي العدو فهزمهم، وبلغ الخبر الكوفة والبصرة والشام فغضب القيسية وقالوا: خدع قيساً وابن عامر! وشكوا إلى معاوية، فاستقدمه، فاعتذر مما قيل فيه، فقال معاوية: قم غداً فاعتذر في الناس. فرجع إلى أصحابه وقال: إني أمرت بالخطبة ولست بصاحب كلامٍ فاجلسوا حول المنبر فإذا قلت فصدقوني. فقام من الغد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنما يتكلف الخطبة إمامٌ لا يجد منها بداً أو أحمق يهمر من رأسه، ولست بواحد منهما، وقد علم من عرفني أني بصير بالفرص وثاب إليها، وقاف عند المهالك، أنفذ بالسرية وأقسم بالسوية، أنشد الله من عرف ذلك مني فليصدقني. فقال أصحابه: صدقت. فقال: يا أمير المؤمنين إنك فيمن نشدت فقل بما تعلم. فقال: صدقت.
ذكر عدة حوادثوحج هذه السنة مروان بن الحكم وكان على المدينة، وكان على مكة خالد ابن العاص بن هشام؛ وعلى الكوفة المغيرة، وعلى البصرة عبد الله بن عامر.
فيها مات عبد الله بن سلام، وله صحبة مشهورة، وهو من علماء أهل الكتاب، وشهد له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالجنة.
ثم دخلت سنة أربع وأربعينفي هذه السنة دخل المسلمون مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بلاد الروم وشتوا بها، وغزا بسر بن أبي أرطأة في البحر.
ذكر عزل عبد الله بن عامر عن البصرةوفي هذه السنة عزل عبد الله بن عامر عن البصرة.
وسببه أن ابن عامر كان حليماً كريماً ليناً، لا يأخذ على أيدي السفهاء، وفسدت البصرة في أيامه فشكا ذلك إلى زياد، فقال له: جرد السيف. فقال له: إني أكره أن أصلحهم بفساد نفسي. ثم إن ابن عامر وفد وفداً من البصرة إلى معاوية فوافقوا عنده وفد الكوفة، وفيهم ابن الكوا، واسمه عبد الله بن أبي أوفى اليشكري، فسألهم معاوية عن أهل العراق وعن أهل البصرة خاصة، فقال ابن الكوا: يا أمير المؤمنين، إن أهل البصرة قد أكلهم سفاؤهم، وضعف عنهم سلطانهم، وعجز ابن عامر وضعفه. فقال له معاوية: تتكلم عن أهل البصرة وهم حضور؟ فلما عاد أهل البصرة ابلغوا ابن عامر، فغضب وقال: أي أهل العراق أشد عداوةً لابن الكوا؟ فقيل: عبد الله بن أبي شيخ اليشكري، فولاه خراسان، فبلغ ذلك ابن الكوا، فقال: إن ابن دجاجة، يعني ابن عامر، قليل العلم في، ظن أن ولاية عبد الله خراسان تسوءني! لوددت أنه لم يبق يشكري إلا عاداني وأنه ولاه.
وقيل: إن الذي ولاه ابن عامر خراسان طفيل بن عوف اليشكري.
فلما علم معاوية حال البصرة أراد عزل ابن عامر فأرسل إليه يستزيره، فجاء إليه، فرده على عمله، فلما ودعه قال: إني سائلك ثلاثاً فقل هن لك. فقال: هن لك، وأنا ابن أم حكيم. قال: ترد علي عملي ولا تغضب. قال: قد فعلت. قال: وتهب لي مالك بعرفة. قال: قد فعلت. قال: وتهب لي دورك بمكة. قال: قد فعلت. قال: وصلتك رحم؟ فقال ابن عامر: يا أمير المؤمنين إني سائلك ثلاثاً فقل هن لك. فقال: هن لك، وأنا ابن هند. قال: ترد علي مالي بعرفة. قال: قد فعلت. قال: ولا تحاسب لي عاملاً ولا تتبع لي أثراً. قال: قد فعلت. قال: وتنكحني ابنتك هنداً. قال: قد فعلت.
ويقال: إن معاوية قال له: اختر إما أن أتبع أثرك وأحاسبك بما صار وأردك، وإما أن أعزلك وأسوغك ما أصبت. فاختار العزل وأن لا يسوغه ما أصاب، فعزله وولى البصرة الحارث بن عبد الله الأزدي.
ذكر استلحاق معاوية زياداً
وفي هذه السنة استلحق معاوية زياد بن سمية، فزعموا أن رجلاً من عبد القيس كان مع زياد لما وفد على معاوية، فقال لزياد: إن لابن عامر عندي يداً فإن أذنت لي أتيته. قال: على أن تحدثني بما يجري بينك وبينه. قال: نعم. فأذن له فأتاه، فقال له ابن عامر: هيه هيه! وابن سمية يقبح آثاري ويعرض بعمالي! لقد هممت أن آتي بقسامةٍ من قريش يحلفون بالله أن أبا سفيان لم ير سمية.
فلما رجع سأله زياد فلم يخبره، فألح عليه حتى أخبره، فأخبر زيادٌ بذلك معاوية. فقال معاوية لحاجبه: إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب. ففعل ذلك به. فأتى ابن عامر يزيد فشكا ذلك إليه، فركب معه حتى أدخله، فلما نظر إليه معاوية قام فدخل، فقال يزيد لابن عامر: اجلس، فكم عسى أن تقعد في البيت عن مجلسه! فلما أطالا خرج معاوية وهو يتمثل:
لنا سباقٌ ولكم سباق ... قد علمت ذلكم الرفاق
ثم قعد فقال: يا ابن عامر أنت القائل في زياد ما قلت؟ أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزها في الجاهلية وأن الإسلام لم يزدني إلا عزاً، وأني لم أتكثر بزياد من قلة ولم أتعزز به من ذلة، ولكن عرفت حقاً له فوضعته موضعه. فقال: يا أمير المؤمنين نرجع إلى ما يحب زياد. قال: إذاً نرجع إلى ما تحب. فخرج ابن عامر إلى زياد فترضاه.
فلما قدم زياد الكوفة قال: قد جئتكم في أمر ما طلبته إلا لكم. قالوا: ما تشاء؟ قال: تلحقون نسبي بمعاوية. قالوا: أما بشهادة الزور فلا. فأتى البصرة فشهد له رجال.
هذا جميع ما ذكره أبو جعفر في استلحاق معاوية نسب زياد، ولم يذكر حقيقة الحال في ذلك، إنما ذكر حكايةً جرت بعد استلحاقه، وأنا أذكر سبب ذلك وكيفيته، فإنه من الأمور المشهورة الكبيرة في الإسلام لا ينبغي إهمالها.
وكان ابتداء حاله أن سمية أم زياد كانت لدهقان زندورد بكسكر، فمرض الدهقان، فدعا الحارث بن كلدة الطبيب الثقفي، فعالجه فبرأ، فوهبه سمية، فولدت عند الحارث أبا بكرة، واسمه نفيعٍ، فلم يقر به، ثم ولدت نافعاً، فلم يقر به أيضاً، فلما نزل أبو بكرة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، حين حصر الطائف قال الحارث لنافع: أنت ولدي. وكان قد زوج سمية من غلام له اسمه عبيد، وهو رومي، فولدت له زياداً.
وكان أبو سفيان بن حرب سار في الجاهلية إلى الطائف فنزل على خمار يقال له أبو مريم السلولي، وأسلم أبو مريم بعد ذلك وصحب النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال أبو سفيان لأبي مريم: قد اشتهيت النساء فالتمس لي بغياً، فقال له: هل لك في سمية؟ فقال: هاتها على طول ثدييها وذفر بطنها. فأتاه بها، فوقع عليها، فعلقت بزياد، ثم وضعته في السنة الأولى من الهجرة، فلما كبر ونشأ استكتبه أبو موسى الأشعري لما ولي البصرة، ثم إن عمر بن الخطاب استكفى زياداً أمراً فقام فيه مقاماً مرضياً، فلما عاد إليه حضر، وعند عمر المهاجرون والأنصار، فخطب خطبةً لم يسمعوا بمثلها. فقال عمرو ابن العاص: لله هذا الغلام لو كان أبوه من قريش لساق العرب بعصاه!فقال أبو سفيان، وهو حاضر: والله إني لأعرف أباه ومن وضعه في رحم أمه. فقال علي: يا أبا سفيان اسكت فإنك لتعلم أن عمر لو سمع هذا القول منك لكان إليك سريعاً.
فلما ولي علي الخلافة استعمل زياداً على فارس، فضبطها وحمى قلاعها، واتصل الخبر بمعاوية، فساءه ذلك وكتب إلى زياد يتهدده ويعرض له بولادة أبي سفيان إياه، فلما قرأ زياد كتابه قام في الناس وقال: العجب كل العجب من ابن آكلة الأكباد، ورأس النفاق! يخوفني بقصده إياي وبيني وبينه ابنا عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في المهاجرين والأنصار؟ أما والله لو أذن لي في لقائه لوجدني أحمز مخشياً ضراباً بالسيف.
وبلغ ذلك علياً فكتب إليه: إني وليتك ما وليتك وأنا أراك له أهلاً، وقد كانت من أبي سفيان فلتة من أماني الباطل وكذب النفس لا توجب له ميراثاً ولا تحل له نسباً، وإن معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فاحذر ثم احذر، والسلام.
فلما قتل علي، وكان من أمر زياد ومصالحته معاوية ما ذكرناه، واضع زيادٌ مصقلة بن هبيرة الشيباني وضمن له عشرين ألف درهم ليقول لمعاوية: إن زياداً قد أكل فارس براً وبحراً وصالحك على ألفي ألف درهم، والله ما أرى الذي يقال إلا حقاً، فإذا قال لك: وما يقال؟ فقل: يقال إنه ابن أبي سفيان. ففعل مصقلة ذلك، ورأى معاوية أن يستميل زياداً، واستصفى مودته باستلحاقه، فاتفقا على ذلك، وأحضر الناس وحضر من يشهد لزياد، وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي، فقال له معاوية: بم يشهد يا أبا مريم؟ فقال: أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغياً فقلت له: ليس عندي إلا سمية، فقال: إيتني بها على قذرها ووضرها، فأتيته بها، فخلا معها ثم خرجت من عنده وإن إسكتيها لتقطران منياً. فقال له زياد: مهلاً أبا مريم! إنما بعثت شاهداً ولم تبعث شاتماً.
فاستلحقه معاوية، وكان استلحاقه أول ما ردت أحكام الشريعة علانيةً، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قضى بالولد للفراش وللعاهر الحجر.
وكتب زياد إلى عائشة: من زياد بن أبي سفيان، وهو يريد أن تكتب له: إلى زياد بن أبي سفيان، فيحتج بذلك، فكتبت: من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد. وعظم ذلك على المسلمين عامة وعلى بني أمية خاصة، وجرى أقاصيص يطول بذكرها الكتاب فأضربنا عنها.
ومن اعتذر لمعاوية قال: إنما استلحق معاوية زياداً لأن أنكحة الجاهلية كانت أنواعاً، لا حاجة إلى ذكر جميعها، وكان منها أن الجماعة يجامعون البغي فإذا حملت وولدت ألحقت الولد لمن شاءت منهم فيلحقه، فلما جاء الإسلام حرم هذا النكاح، إلا أنه أقر كل ولد كان ينسب إلى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه ولم يفرق بين شيء منها، فتوهم معاوية أن ذلك جائز له ولم يفرق بين استلحاق في الجاهلية والإسلام؛ وهذا مردود لاتفاق المسلمين على إنكاره ولأنه لم يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجة.
قيل: أراد زياد أن يحج بعد أن استلحقه معاوية، فسمع أخوه أبو بكرة، وكان مهاجراً له من حين خالفه في الشهادة بالزنا على المغيرة بن شعبة، فلما سمع بحجه جاء إلى بيته وأخذ ابناً له وقال له: يا بني قل لأبيك إنني سمعت أنك تريد الحج ولابد من قدومك إلى المدينة ولاشك أن تطلب الاجتماع بأم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، فإن أذنت لك فأعظم به خزياً مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإن منعتك فأعظم به فضيحة في الدنيا وتكذيباً لأعدائك. فترك زياد الحج وقال: جزاك الله خيراً فقد أبلغت في النصح.
ذكر غزو المهلب السندوفيها غزا المهلب بن أبي صفرة ثغر السند فأتى بنة والأهور، وهما بين الملتان وكابل، فلقيه العدو وقاتله، ولقي المهلب ببلاد القيقان ثماية عشر فارساً من الترك فقاتلوه فقتلوا جميعاً، فقال المهلب: ما جعل هؤلاء الأعاجم أولى بالتشمير منا! فحذف الخيل، وكان أول من حذفها من المسلمين، وفي يوم بنة يقول الأزدي:
ألم تر أن الأد ليلة بيتوا ... ببنة كانوا خير جيش المهلب؟
ذكر عدة حوادثوحج بالناس في هذه السنة معاوية. وفيها عمل مروان بن الحكم المقصورة بالمدينة، وهو أول من عملها بها، وكان معاوية قد عملها بالشام لما ضربه الخارجي. وفيها توفيت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي، صلى الله عليه وسلم. وفيها قتل رفاعة العدوي من عدي رباب، وهو بصري له صحبة.
ثم دخلت سنة خمس وأربعينفيها ولى معاوية الحارث بن عبد الله الأزدي البصرة في أولها حين عزل ابن عامر، وهو من أهل الشام، فاستعمل الحارث على شرطته عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي، فبقي الحارث أميراً على البصرة أربعة أشهر، ثم عزله وولاها زياداً.
ذكر ولاية زياد بن أبيه البصرةقدم زيادٌ الكوفة فأقام ينتظر إمارته عليها، فقيل ذلك للمغيرة بن شعبة، فسار إلى معاوية فاستقاله الإمارة وطلب منه أن يعطيه منازل بقرقيسيا ليكون بين قيس، فخافه معاوية وقال له: لترجعن إلى عملك. فأبى، فازداد معاوية تهمةً له، فرده على عمله، فعاد إلى الكوفة ليلاً وأرسل إلى زياد فأخرجه منها.
وقيل: إن المغيرة لم يسر إلى الشام وإنما معاوية أرسل إلى زياد، وهو بالكوفة، فأمره بالمسير إلى البصرة، فولاه البصرة وخراسان وسجستان، ثم جمع له الهند والبحرين وعمان، فقدم البصرة آخر شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين والفسق ظاهر فاشٍ، فخطبهم خطبته البتراء، لم يحمد الله فيها، وقيل: بل حمد الله فقال:
الحمد لله على إفضاله وإحسانه، ونسأله مزيداً من نعمه، اللهم كما زدتنا نعماً فألهمنا شكراً على نعمك علينا! أما بعد فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والفجر الموقد لأهله النار، الباقي عليهم سعيرها، ما يأتي سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، فينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير، كأن لم تسمعوا نبي الله، ولم تقرأوا كتاب الله، ولم تعلموا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمد الذي لا يزول، أتكونوا كمن طرفت عينه الدنيا، وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه؛ هذه المواخير المنصوبة والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر، والعدد غير قليل، ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار؟ قربتم القرابة وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر، وتعطفون على المختلس، كل امرىء منكم يذب عن سفيهه، صنيع من لا يخاف عاقبة، ولا يخشى معاداً! ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرقوا وراءكم كنوساً في مكانس الريب، حرام علي الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدماً وإحراقاً! إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، لين في غير ضعف، وشدة في غير جبرية وعنف، وإني لأقسم بالله لأخذن الولي بالولي، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم، إن كذبة المنبر تبقى مشهورة، فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي، من بيت منكم فأنا ضامن لما ذهب له، إياي ودلج الليل فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم، وإياي ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحداً دعا بها إلا قطعت لسانه.
وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرق قوماً غرقناه، ومن حرق على قوم حرقناه، ومن نقب بيتاً نقبت عن قلبه، ومن نبش قبراً دفنته فيه حياً، فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف عنكم لساني ويدي، وإياي لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه، وقد كانت بيني وبين أقوام إحنٌ فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان منكم محسناً فليزدد إحساناً، ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته. إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً، ولم أهتك له ستراً حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره، فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئسٍ بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس.
أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسةً، وعنكم ذادةً، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم، واعلموا أني مهما قصرت عنه فإني لا أقصر عن ثلاث: لست محتجباً عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقاً بليل، ولا حابساً رزقاً ولا عطاء عن إبانه، ولا مجمراً لكم بعثاً، فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى تصلحوا يصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم لكان شراً لكم، أسأل الله أن يعين كلاً على كل، فإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على أذلاله، وإن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرىء منكم أن يكون من صرعاي.
فقام إليه عبد الله بن الأهتم فقال: أشهد أيها الأمير أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب. فقال: كذبت، ذاك نبي الله داود! فقال الأحنف: قد قلت فأحسنت أيها الأمير، والثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وإنا لن نثني حتى نبتلي. فقال زياد: صدقت. فقام إليه أبو بلال مرداس بن أدية، وهو من الخوارج، وقال: أنبأ الله بغير ماقلت، قال الله تعالى: (وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرةٌ وزر أخرى وأن ليس للإنسان ما سعى) النجم: 37 - 39، فأوعدنا الله خيراً مما أوعدتني يا زياد. فقال زياد: إنا لا نجد إلى ما تريد أنت وأصحابك سبيلاً حتى نخوض إليها الدماء.
واستعمل زياد على شرطته عبد الله بن حصن، وأجل الناس حتى بلغ الخبر الكوفة وعاد إليه وصول الخبر، فكان يؤخر العشاء الآخرة ثم يصلي فيأمر رجلاً أن يقرأ سورة البقرة أو مثلها يرتل القرآن، فإذا فرغ أمهل بقدر ما يرى أن إنساناً يبلغ أقصى البصرة، ثم يأمر صاحب شرطته بالخروج، فيخرج فلا يرى إنساناً إلا قتله، فأخذ ذات ليلة أعرابياً فأتى به زياداً فقال: هل سمعت النداء؟ فقال: لا والله! قدمت بحلوبة لي وغشيني الليل فاضطررتها إلى موضع وأقمت لأصبح ولا علم لي بما كان من الأمير. فقال: أظنك والله صادقاً ولكن في قتلك صلاح الأمة. ثم أمر به فضربت عنقه.
وكان زياد أول من شدد أمر السلطان، وأكد الملك لمعاوية، وجرد سيفه، وأخذ بالظنة، وعاقب على الشبهة، وخافه الناس خوفاً شديداً حتى أمن بعضهم بعضاً، وحتى كان الشيء يسقط من يد الرجل أو المرأة فلا يعرض له أحد حتى يأتيه صاحبه فيأخذه، ولا يغلق أحد بابه.
وأدر العطاء، وبنى مدينة الرزق، وجعل الشرط أربعة آلاف، وقيل له: إن السبيل مخوفة. فقال: لا أعاني شيئاً وراء المصر حتى أصلح المصر، فإن غلبني فغيره أشد غلبة منه. فلما ضبط المصر وأصلحه تكلف ما وراء ذلك فأحكمه.
ذكر عمال زياداستعان زياد بعدة من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، منهم: عمران بن حصين الخزاعي ولاه قضاء البصرة، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سمرة، وسمرة بن جندب. فأما عمران فاستعفى من القضاء فأعفاه. واستقضى عبد الله بن فضالة الليثي، ثم أخاه عاصماً، ثم زرارة بن أوفى، وكانت أخته عند زياد.
وقيل إن زياداً أول من سير بين يديه بالحراب والعمد واتخذ الحرس رابطة خمسمائة لا يفارقون المسجد.
وجعل خراسان أرباعاً، واستعمل على مرو أمير بن أحمر، وعلى نيسابور خليد بن عبد الله الحنفي، وعلى مرو الروذ والفارياب والطالقان قيس ابن الهيثم، وعلى هراة وباذغيس وبوشنج نافع بن خالد الطاحي، ثم عتب عليه فعزله.
وسبب تغيره عليه أن نافعاً بعث بخوان باذرهر إلى زياد قوائمه منه، فأخذ نافع منها قائمة وعمل مكانها قائمة من ذهب وبعث الخوان مع غلام له اسمه زيد، وكان يلي أمور نافع كلها، فسعى زيدٌ بنافع إلى زياد وقال: إنه خانك وأخذ قائمة الخوان. فعزله زياد وحبسه وكتب عليه كتاباً بمائة ألف، وقيل: بثمانمائة ألف، فشفع فيه رجالٌ من وجوه الأزد فأطلقه.
واستعمل الحكم بن عمرو الغفاري، وكانت له صحبة، وكان زياد قال لحاجبه: ادع لي الحكم، يريد الحكم بن أبي العاص الثقفي، ليوليه خراسان، فخرج حاجبه فرأى الحكم بن عمرو الغفاري فاستدعاه، فحين رآه زياد قال له: ما أردتك ولكن الله أرادك! فولاه خراسان وجعل معه رجالاً على جباية الخراج، منهم: أسلم بن زرعة الكلابي وغيره. وغزا الحكم طخارستان، فغنم غنائم كثيرة، ثم مات؛ واستخلف أنس بن أبي أناس بن زنيم، فعزله زياد وكتب إلى خليد بن عبد الله الحنفي بولاية خراسان، ثم بعث الربيع بن زياد الحارثي في خمسين ألفاً من البصرة والكوفة.
ذكر عدة حوادثوحج بالناس هذه السنة مروان بن الحكم، وكان على المدينة.
وفيها مات زيد بن ثابت الأنصاري، وقيل: سنة خمس وخمسين، وعاصم ابن عدي الأنصاري البلوي، وكان بدرياً، وقيل: لم يشهدها بل رده رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة وضرب له بسهمه، وكان عمره مائة وعشرين سنة. وفيها مات سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري بالمدينة، وشهد العقبة وبدراً، وكان عمره سبعين سنة. وفيها توفي ثابت بن الضحاك بن خليفة الكلابي، وهو من أصحاب الشجرة، وهو أخو أبي جبيرة بن الضحاك.
ثم دخلت سنة ست وأربعينفي هذه السنة كان مشتى مالك بن عبد الله بأرض الروم، وقيل: بل كان ذلك عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وقيل: بل كان مالك بن هبيرة السكوني.
وفيها انصرف عبد الرحمن بن خالد من بلاد الروم إلى حمص ومات.
ذكر وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد
وكان سبب موته أنه كان قد عظم شأنه عند أهل الشام ومالوا إليه لما عندهم من آثار أبيه ولغنائه في بلاد الروم ولشدة بأسه، فخافه معاوية وخشي على نفسه منه وأمر ابن أثال النصراني أن يحتال في قتله وضمن له أن يضع عنه خراجه ما عاش وأن يوليه جباية خراج حمص. فلما قدم عبد الرحمن من الروم دس إليه ابن أثال شربةً مسمومة مع بعض مماليكه، فشربها، فمات بحمص، فوفى له معاوية بما ضمن له.
وقدم خالد بن عبد الرحمن بن خالد المدينة فجلس يوماً إلى عروة بن الزبير، فقال له عروة ما فعل ابن أثال؟ فقام من عنده وسار إلى حمص فقتل ابن أثال، فحمل إلى معاوية، فحبسه أياماً ثم غرمه ديته، ورجع خالد إلى المدينة فأتى عروة، فقال عروة: ما فعل ابن أثال؟ فقال: قد كفيتك ابن أثال، ولكن ما فعل ابن جرموز؟ يعني قاتل الزبير، فسكت عروة.
ذكر خروج سهم والخطيموفيها خرج الخطيم، وهو يزيد بن مالك الباهلي، وسهم بن غالب الهجيمي، فحكما؛ فأما سهم فإنه خرج إلى الأهواز فحكم بها، ثم رجع فاختفى وطلب الأمان فلم يؤمنه زياد وطلبه حتى أخذه وقتله وصلبه على بابه.
وأما الخطيم فإن زياداً سيره إلى البحرين ثم أقدمه وقال لمسلم بن عمرو الباهلي، والد قتيبة بن مسلم: اضمنه، فأبى وقال: إن بات خارجاً عن بيته أعلمتك، ثم أتاه مسلم فقال له: لم يبت الخطيم الليلة في بيته، فأمر به فقتل وألقي في باهلة، وقد تقدم ذلك أتم من هذا، وإنما ذكرناه ها هنا لأنه قتل هذه السنة.
ذكر عدة حوادثوحج بالناس هذه السنة عتبة بن أبي سفيان، وكان العمال من تقدم ذكرهم.
وفيها توفي صالح بن كيسان مولى بني غفار، وقيل: مولى بني عامر، وقيل: الخزاعي.
ثم دخلت سنة سبع وأربعينفي هذه السنة كان مشتى مالك بن هبيرة بأرض الروم، ومشتى عبد الرحمن القيني بأنطاكية.
ذكر عزل عبد الله بن عمرو عن مصر
وولاية ابن حديجوفيها عزل عبد الله بن عمرو بن العاص عن مصر ووليها معاوية بن حديج وكان عثمانياً، فمر به عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال له: يا معاوية قد أخذت جزاءك من معاوية، قد قتلت أخي محمد بن أبي بكر لتلي مصر فقد وليتها. فقال: ما قتلت محمداً إلا بما صنع بعثمان. فقال عبد الرحمن: فلو كنت إنما تطلب بدم عثمان لما شاركت معاوية فيما صنع حيث عمل عمرو بالأشعري ما عمل فوثبت أول الناس فبايعته.
حديج بضم الحاء المهملة، وفتح الدال المهملة، وبالجيم.
ذكر غزوة الغورفي هذه السنة سار الحكم بن عمرو إلى جبال الغور فغزا من بها، وكانوا ارتدوا، فأخذهم بالسيف عنوةً وفتحها وأصاب منها مغانم كثيرة وسبايا، ولما رجع الحكم من هذه الغزوة مات بمرو في قول بعضهم، وكان الحكم قد قطع النهر في ولايته ولم يفتح. وكان أول المسلمين شرب من النهر مولى للحكم اغترف بترسه فشرب وناوله الحكم فشرب وتوضأ وصلى ركعتين، وكان أول المسلمين فعل ذلك ثم رجع.
ذكر مكيدة للمهلبوكان المهلب مع الحكم بن عمرو بخراسان، وغزا معه بعض جبال الترك فغنموا، وأخذ الترك عليهم الشعاب والطرق، فعيي الحكم بالأمر، فولى المهلب الحرب، فلم يزل يحتال حتى أسر عظيماً من عظماء الترك، فقال له: إما أن تخرجنا من هذا الضيق أو لأقتلنك. فقال له: أوقد النار حيال طريق من هذه الطرق وسير الأثقال نحوه فإنهم سيجتمعون فيه ويخلون ما سواه من الطرق فبادرهم إلى طريق آخر فما يدركونكم حتى تخرجوا منه، ففعل ذلك، فسلم الناس بما معهم من الغنائم.
وحج بالناس هذه السنة عتبة بن أبي سفيان، وقيل: عنبسة بن أبي سفيان؛ وكان الولاة من تقدم ذكرهم.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعينفيها كان مشتى عبد الرحمن القيني بأنطاكية. وصائفة عبد الله بن قيس الفزاري. وغزوة مالك بن هبيرة السكوني البحر. وغزوة عقبة بن عامر الجهني بأهل مصر والبحر وبأهل المدينة.
وفيها استعمل زياد غالب بن فضالة الليثي على خراسان، وكانت له صحبة. وحج بالناس مروان وهو يتوقع العزل لموجدة كانت مع معاوية عليه، وارتجع معاوية منه فدك وكان وهبها له، وكان ولاة الأمصار من تقدم ذكرهم.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين
فيها كان مشتى مالك بن هبيرة بأرض الروم. وفيها كانت غزوة فضالة ابن عبيد حزة وشتا بها، وفتحت على يده، وأصاب فيها شيئاً كثيراً. وفيها كانت صائفة عبد الله بن كرز البجلي. وفيها كانت غزوة يزيد بن شجرة الرهاوي في البحر فشتا بأهل الشام. وفيها كانت غزوة عقبة بن نافع البحر فشتا بأهل مصر.
ذكر غزوة القسطنطينيةفي هذه السنة، وقيل: سنة خمسين، سير معاوية جيشاً كثيفاً إلى بلاد الروم للغزاة وجعل عليهم سفيان بن عوف وأمر ابنه يزيد بالغزاة معهم، فتثاقل واعتل، فأمسك عنه أبوه، فأصاب الناس في غزاتهم جوعٌ ومرض شديد، فأنشأ يزيد يقول:
ما إن أبالي بما لاقت جموعهم ... بالفرقدونة من حمى ومن موم
إذا اتكأت على الأنماط مرتفقاً ... بدير مروان عندي أم كلثوم
وأم كلثوم امرأته، وهي ابنة عبد الله بن عامر.
فبلغ معاوية شعره فأقسم عليه ليلحقن بسفيان في أرض الروم ليصيبه ما أصاب الناس، فسار ومعه جمع كثير أضافهم إليه أبوه، وكان في الجيش ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري وغيرهم وعبد العزيز ابن زرارة الكلابي، فأوغلوا في بلاد الروم حتى بلغوا القسطنطينية، فاقتتل المسلمون والروم في بعض الأيام واشتدت الحرب بينهم، فلم يزل عبد العزيز يتعرض للشهادة فلم يقتل، فأنشأ يقول:
قد عشت في الدهر أطواراً على طرقٍ ... شتى فصادفت منها اللين والبشعا
كلاً بلوت فلا النعماء تبطرني ... ولا تجشمت من لأوائها جزعا
لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه ... ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعا
ثم حمل على من يليه فقتل فيهم وانغمس بينهم، فشجره الروم برماحهم حتى قتلوه، رحمه الله. فبلغ خبر قتله معاوية فقال لأبيه: والله هلك فتى العرب! فقال: ابني أو ابنك؟ قال: ابنك، فآجرك الله. فقال:
فإن يكن الموت أودى به ... وأصبح مخ الكلابي زيرا
فكل فتىً شاربٌ كأسه ... فإما صغيراً وإما كبيرا
ثم رجع يزيد والجيش إلى الشام وقد توفي أبو أيوب الأنصاري عند القسطنطينية فدفن بالقرب من سورها، فأهلها يستسقون به، وكان قد شهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وشهد صفين مع علي وغيرها من حروبه.
ذكر عزل مروان عن المدينة وولاية سعيدوفيها عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة في ربيع الأول وأمر سعيد ابن العاص عليها في ربيع الآخر، وقيل: في ربيع الأول، وكانت ولاية مروان كلها بالمدينة لمعاوية ثماني سنين وشهرين؛ وكان على قضاء المدينة عبد الله بن الحارث بن نوفل، فعزله سعيد حين ولي واستقضى أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
ذكر وفاة الحسن بن علي بن أبي طالب
رضي الله عنهفي هذه السنة توفي الحسن بن علي، سمته زوجته جعدة بنت الأشعث ابن قيس الكندي، ووصى أن يدفن عند النبي، صلى الله عليه وسلم، إلا أن تخاف فتنة فينقل إلى مقابر المسلمين، فاستأذن الحسين عائشة فأذنت له، فلما توفي أرادوا دفنه عند النبي، صلى الله عليه وسلم، فلم يعرض إليهم سعيد بن العاص، وهو الأمير، فقام مروان بن الحكم وجمع بني أمية وشيعتهم ومنع عن ذلك، فأراد الحسين الامتناع فقيل له: إن أخاك قال: إذا خفتم الفتنة ففي مقابر المسلمين، وهذه فتنة. فسكت، وصلى عليه سعيد بن العاص، فقال له الحسين: لولا أنه سنة لما تركتك تصلي عليه.
ثم دخلت سنة خمسينفيها كانت غزوة بسر بن أبي أرطأة وسفيان بن عوف الأزدي أرض الروم، وغزوة فضالة بن عبيد الأنصاري في البحر.
ذكر وفاة المغيرة بن شعبة
وولاية زياد الكوفةفي هذه السنة في شعبان كانت وفاة المغيرة بن شعبة في قول بعضهم، وهو الصحيح، وكان الطاعون قد وقع بالكوفة، فهرب المغيرة منه، فلما ارتفع الطاعون عاد إلى الكوفة فطعن فمات.
وكان طوالاً أعور ذهبت عينه يوم اليرموك، وتوفي وهو ابن سبعين سنة، وقيل: كان موته سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة تسع وأربعين.
فلما مات المغيرة استعمل معاوية زياداً على الكوفة والبصرة، وهو أول من جمعتا له. فلما وليها سار إليها واستخلف على البصرة سمرة بن جندب، وكان زياد يقيم بالوفة ستة أشهر وبالبصرة ستة أشهر، فلما وصل الكوفة خطبهم فحصب وهو على المنبر، فجلس حتى أمسكوا ثم دعا قوماً من خاصته فأمرهم فأخذوا أبواب المسجد ثم قال: ليأخذ كل رجل منكم جليسه ولا يقولن لا أدري من جليسي، ثم أمر بكرسي فوضع له على باب المسجد، فدعاهم أربعةً أربعةً يحلفون: ما منا من حصبك، فمن حلف خلاه ومن لم يحلف حبسه، حتى صار إلى ثلاثين، وقيل: إلى ثمانين، فقطع أيديهم على المكان.
وكان أول قتيل قتله زياد بالكوفة أوفى بن حصن، وكان بلغه عنه شيء، فطلبه فهرب، فعرض الناس زياد، فمر به فقال: من هذا؟ قال: أوفى بن حسن. فقال زياد: أتتك بحائن رجلاه. وقال له: ما رأيك في عثمان؟ قال: ختن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على ابنتيه. قال: فما تقول في معاوية؟ قال: جواد حليم. قال: فما تقول في؟ قال: بلغني أنك قلت بالبصرة والله لآخذن البريء بالسقيم، والمقبل بالمدبر. قال: قد قلت ذاك. قال: خبطتها عشواء! فقال زياد: ليس النفاخ بشر الزمرة! فقتله.
ولما قدم زيادٌ الكوفة قال له عمارة بن عقبة بن أبي معيط: إن عمرو ابن الحمق يجمع إليه شيعة أبي تراب. فأرسل إليه زياد: ما هذه الجماعات عندك؟ من أردت كلامه ففي المسجد. وقيل: الذي سعى بعمرو ويزيد بن رويم. فقال له زياد: قد أشطت بدمه، ولو علمت أن مخ ساقه قد سال من بغضي ما هجته حتى يخرج علي. فاتخذ زياد المقصورة حين حصب.
فلما استخلف زيادٌ سمرة على البصرة أكثر القتل فيها، فقال ابن سيرين: قتل سمرة في غيبة زياد هذه ثمانية آلاف. فقال له زياد: أتخاف أن تكون قتلت بريئاً؟ فقال: لو قتلت معهم مثلهم ما خشيت. وقال أبو السوار العدوي: قتل سمرة من قومي في غداة واحدة سبعة وأربعين كلهم قد جمع القرآن. وركب سمرة يوماً فلقي أوائل خيله رجلاً فقتلوه، فمر به سمرة وهو يتشحط في دمه فقال: ما هذا؟ فقيل: أصابه أوائل خيلك. فقال: إذا سمعتم بنا قد ركبنا فاتقوا أسنتنا.
ذكر خروج قريبوفيها خرج قريب الأزدي وزحاف الطائي بالبصرة، وهما ابنا خالة، وزياد بالكوفة وسمرة على البصرة، فأتيا بني ضبيعة، وهم سبعون رجلاً، وقتلوا منهم شيخاً، وخرج على قريب وزحاف شباب من بني علي وبني راسب فرموهم بالنبل، وقتل عبد الله بن أوس الطاحي قريباً وجاء برأسه.
واشتد زياد في أمر الخوارج فقتلهم، وأمر سمرة بذلك فقتل منهم بشراً كثيراً. وخطب زياد على المنبر فقال: يا أهل البصرة والله لتكفنني هؤلاء أو لأبدأن بكم! والله لئن أفلت منهم رجل لا تأخذون العام من عطائكم درهماً! فثار الناس بهم فقتلوهم.
ذكر إرادة معاوية نقل المنبر من المدينةوفي هذه السنة أمر معاوية بمنبر النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يحمل من المدينة إلى الشام، وقال: لا يترك هو وعصا النبي، صلى الله عليه وسلم، بالمدينة وهم قتلة عثمان، وطلب العصا، وهو عند سعد القرظ، فحرك المنبر فكسفت الشمس حتى رؤيت النجوم باديةً، فأعظم الناس ذلك، فتركه. وقيل: أتاه جابر وأبو هريرة وقالا له: يا أمير المؤمنين لا يصلح أن تخرج منبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من موضع وضعه، ولا تنقل عصاه إلى الشام، فانقل المسجد. فتركه وزاد فيه ست درجات واعتذر مما صنع.
فلما ولي عبد الملك بن مروان هم بالمنبر، فقال له قبيصة بن ذؤيب: أذكرك الله أن تفعل! إن معاوية حركه فكسفت الشمس، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من حلف على منبري آثماً فليتبوأ مقعده من النار)، فتخرجه من المدينة وهو مقطع الحقوق عندهم بالمدينة! فتركه عبد الملك.
فلما كان الوليد ابنه وحج هم بذلك، فأرسل سعيد بن المسيب إلى عمر ابن عبد العزيز فقال: كلم صاحبك لا يتعرض للمسجد ولا لله والسخط له. فكلمه عمر فتركه.
ولما حج سليمان بن عبد الملك أخبره عمر بما كان من الوليد، فقال سليمان: ما كنت أحب أن يذكر عن أمير المؤمنين عبد الملك هذا ولا عن الوليد، ما لنا ولهذا! أخذنا الدنيا فهي في أيدينا ونريد أن نعمد إلى علم من أعلام الإسلام يوفد إليه فنحمله إلى ما قبلنا! هذا ما لا يصلح!.
وفيها عزل معاوية بن حديج السكوني عن مصر ووليها مسلمة بن مخلد مع إفريقية، وكان معاوية بن أبي سفيان بعث قبل أن يولي مسلمة إفريقية ومصر عقبة بن نافع إلى إفريقية، وكان اختط قيروانها، وكان موضعه غيضة لا ترام من السباع والحيات وغيرها، فدعا الله عليها فلم يبق منها شيء إلا خرج هارباً حتى إن كانت السباع لتحمل أولادها هاربة بها، وبنى الجامع. فلما عزل معاوية بن أبي سفيان بن حديج السكوني عن مصر عزل عقبة عن إفريقية وجمعها لمسلمة بن مخلد، فهو أول من جمع له المغرب مع مصر، فولى مسلمة إفريقية مولى له يقال له أبو المهاجر، فلم يزل عليها حتى هلك معاوية بن أبي سفيان.
ذكر ولاية عقبة بن نافع إفريقية
وبناء مدينة القيروانقد ذكر أبو جعفر الطبري أن في هذه السنة ولي مسلمة بن مخلد إفريقية، وأن عقبة ولي قبله إفريقية وبنى القيروان، والذي ذكره أهل التاريخ من المغاربة: أن ولاية عقبة بن نافع إفريقية كانت هذه السنة وبنى القيروان، ثم بقي إلى سنة خمس وخمسين ووليها مسلمة بن مخلد، وهم أخبر ببلادهم، وأنا أذكر ما أثبتوه في كتبهم: قالوا: إن معاوية بن أبي سفيان عزل معاوية بن حديج عن إفريقية حسب واستعمل عليها عقبة بن نافع الفهري، وكان مقيماً ببرقة وزويلة مذ فتحها أيام عمرو بن العاص، وله في تلك البلاد جهاد وفتوح. فلما استعمله معاوية سير إليه عشرة آلاف فارس، فدخل إفريقية وانضاف إليه من أسلم من البربر، فكثر جمعه، ووضع السيف في أهل البلاد لأنهم كانوا إذا دخل إليهم أمير أطاعوا وأظهر بعضهم الإسلام، فإذا عاد الأمير عنهم نكثوا وارتد من أسلم، ثم رأى أن يتخذ مدينة يكون بها عسكر المسلمين وأهلهم وأموالهم ليأمنوا من ثورة تكون من أهل البلاد، فقصد موضع القيروان، وكان أجمةً مشتبكة بها من أنواع الحيوان، من السباع والحيات وغير ذلك، فدعا الله، وكان مستجاب الدعوة، ثم نادى: أيتها الحيات والسباع إنا أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ارحلوا عنا فإنا نازلون ومن وجدناه بعد ذلك قتلناه. فنظر الناس ذلك اليوم إلى الدواب تحمل أولادها وتنتقل، فرآه قبيلٌ كثير من البربر فأسلموا، وقطع الأشجار وأمر ببناء المدينة، فبنيت، وبنى المسجد الجامع، وبنى الناس مساجدهم ومساكنهم، وكان دورها ثلاثة آلاف باع وستمائة باع، وتم أمرها سنة خمس وخمسين وسكنها الناس، وكان في أثناء عمارة المدينة يغزو ويرسل السرايا، فتغير وتنهب، ودخل كثير من البربر في الإسلام، واتسعت خطة المسلمين وقوي جنان من هناك من الجنود بمدينة القيروان وأمنوا واطمأنوا على المقام فثبت الإسلام فيها.
ذكر ولاية مسلمة بن مخلد إفريقيةثم إن معاوية بن أبي سفيان استعمل على مصر وإفريقية مسلمة بن مخلد الأنصاري، فاستعمل مسلمة على إفريقية مولى له يقال له أبو المهاجر، فقدم إفريقية وأساء عزل عقبة واستخف به، وسار عقبة إلى الشام وعاتب معاوية على ما فعله به أبو المهاجر، فاعتذر إليه ووعده بإعادته إلى عمله، وتمادى الأمر فتوفي معاوية وولي بعده ابنه يزيد، فاستعمل عقبة بن نافع على البلاد سنة اثنتين وستين، فسار إليها.
وقد ذكر الواقدي أن عقبة بن نافع ولي إفريقية سنة ست وأربعين واختط القيروان، ولم يزل عقبة على إفريقية إلى سنة اثنتين وستين، فعزله يزيد بن معاوية واستعمل أبا المهاجر مولى الأنصار، فحبس عقبة وضيق عليه، فلما بلغ يزيد ابن معاوية ما فعل بعقبة كتب إليه يأمره بإطلاقه وإرساله إليه، ففعل ذلك، ووصل عقبة إلى يزيد فأعاده إلى إفريقية والياً عليها، فقبض على أبي المهاجر وأوثقه، وساق من خبر كسيلة مث ما نذكره إن شاء الله تعالى سنة اثنتين وستين.
ذكر هرب الفرزدق من زيادوفيها طلب زيادٌ الفرزدق، استعدته عليه بنو نهشل وفقيم.
وسبب ذلك، قال الفرزدق: هاجيت الأشهب بن زميله والبعيث فسقطا، فاستعدى علي بنو نهشل وبنو فقيم زياد بن أبيه، واستعدى علي أيضاً يزيد ابن مسعود بن خالد بن مالك، قال: فلم يعرفني زياد حتى قيل له الغلام الأعرابي الذي أنهب ماله وثيابه، فعرفني.
قال الفرزدق: وكان أبي غالب قد أرسلني في جلب له أبيعه وأمتار له، فبعت الجلب بالبصرة وجعلت ثمنه في ثوبي، فعرض لي رجل فقال: لشد ما تستوثق منها، أما لو كان مكانك رجل أعرفه ما صر عليها. فقلت: ومن هو؟ قال: غالب بن صعصعة وهو أبو الفرزدق. فدعوت أهل المربد ونثرتها. فقال لي قائل: ألق رداءك. ففعلت. فقال آخر: ألق ثوبك. ففعلت. وقال آخر: ألق عمامتك. ففعلت. فقال آخر: ألق إزارك. فقلت: لا ألقيه وأمشي مجرداً، إني لست بمجنون. وبلغ الخبر زياداً فقال: هذا أحمق يضري الناس بالنهب، فأرسل خيلاً إلى المربد ليأتوه بي، فأتاني رجل من بني الهجيم على فرس له وقال: النجاء النجاء! وأردفني خلفه، ونجوت، فأخذ زياد عمين لي: ذهيلاً والزحاف ابني صعصعة، وكانا في الديوان، فحبسهما أياماً ثم كلم فيهما فأطلقهما، وأتيت أبي فأخبرته خبري، فحقدها عليه زياد.
ثم وفد الأحنف بن قيس وجارية بن قدامة السعديان والجون بن قتادة العبشمي والحتات بن يزيد أبو منازل المجاشعي إلى معاوية بن أبي سفيان، فأعطى كل رجل منهم جائزة مائة ألف، وأعطى الحتان سبعين ألفاً. فلما كانوا في الطريق ذكر كل منهم جائزته.
فرجع الحتات إلى معاوية فقال: ما ردك؟ قال: فضحتني في بني تميم! أما حسبي صحيح؟ أولست ذا سن؟ ألست مطاعاً في عشيرتي؟ قال: بلى. قال: فما بالك خسست بي دون القوم وأعطيت من كان عليك أكثر ممن كان لك؟ وكان حضر الجمل مع عائشة، وكان الأحنف وجارية يريدان علياً، وإن كان الأحنف والجون اعتزلا القتال مع علي لكنهما كانا يريدانه. قال: إني اشتريت من القوم دينهم، ووكلتك إلى دينك ورأيك في عثمان، وكان عثمانياً. فقال: وأنا فاشتر مني ديني. فأمر له بإتمام جائزته، ثم مات الحتات فحبسها معاوية، فقال الفرزدق في ذلك؛ شعر:
أبوك وعمي يا معاوي أورثا ... تراثاً فيحتاز التراث أقاربه
فما بال ميراث الحتات أخذته ... وميراث صخر جامدٌ لك ذائبه
فلو كان هذا الأمر في جاهليةٍ ... علمت من المرء القليل حلائبه
ولو كان في دينٍ سوى ذا شنئتم ... لنا حقنا أو غص بالماء شاربه
وأنشد محمد بن علي
ألست أعز الناس قوماً وأسرةً ... وأمنعهم جاراً إذا ضيم جانبه
وما ولدت بعد النبي وآله ... كمثلي حصانٌ في الرجال يقاربه
وبيتي إلى جنب الثريا فناؤه ... ومن دونه البدر المضيء كواكبه
أنا ابن الجبال الشم في عدد الحصى ... وعرق الثرى عرقي فمن ذا يحاسبه
وكم من أبٍ لي يا معاوي لم يزل ... أغر يباري الريح ما ازور جانبه
نمته فروع المالكين ولم يكن ... أبوك الذي من عبد شمسٍ يقاربه
تراه كنصل السيف يهتز للندى ... كريماً يلاقي المجد ما طر شاربه
طويل نجاد السيف مذ كان لم يكن ... قصيٌّ وعبد الشمس ممن يخاطبه
يريد بالمالكين مالك بن حنظلة ومالك بن زيد مناة بن تميم، وهما جداه. لأن الفرزدق ابن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
فلما بلغ معاوية شعره رد على أهله ثلاثين ألفاً، فأغضبت أيضاً زياداً عليه، فلما استعدت عليه نهشل وفقيم ازداد عليه غضباً فطلبه فهرب وأتى عيسى ابن خصيلة السلمي ليلاً وقال له: إن هذا الرجل قد طلبني وقد لفظني الناس وقد أتيتك لتغيثني عندك. فقال: مرحباً بك. فكان عنده ثلاث ليال. ثم قال له: قد بدا لي أن آتي الشام، فسيره. وبلغ زياداً مسيره فأرسل في أثره، فلم يدرك، وأتى الروحاء فنزل في بكر بن وائل فأمن ومدحهم بقصائد.
ثم كان زياد إذا نزل البصرة نزل الفرزدق الكوفة، وإذا نزل الكوفة نزل الفرزدق البصرة، فبلغ ذلك زياداً فكتب إلى عامله على الكوفة، وهو عبد الرحمن بن عبيد، يأمره بطلب الفرزدق، ففارق الكوفة نحو الحجاز، فاستجار بسعيد بن العاص فأجاره فمدحه الفرزدق، ولم يزل بالمدينة مرة وبمكة مرة حتى هلك زياد.
وقد قيل: إن الفرزدق إنما قال هذا الشعر لأن الحتات لما أسمل آخى النبي، صلى الله عليه وسلم، بينه وبين معاوية، فلما مات الحتات بالشام ورثه معاوية بتلك الأخوة فقال الفرزدق هذا الشعر. وهذا القول ليس بشيء لأن معاوية لم يكن يجهل أن هذه الأخوة لا يرث بها أحد.
الحتات بضم الحاء وبتائين مثناتين من فوقهما بينهما ألف.
ذكر وفاة الحكم بن عمرو الغفاريفي هذه السنة توفي الحكم بن عمرو الغفاري بمرو بعد انصرافه من غزوة جبل الأشل في قول، وقد تقدم ذكر وفاته في قول آخر، وكان زياد قد كتب إليه: إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن أصطفي له الصفراء والبيضاء فلا تقسم بين الناس ذهباً ولا فضة. فكتب إليه الحكم: بلغني ما أمر به أمير المؤمنين، وإني وجدت كتاب الله قبل كتابه، وإنه والله لو أن السموات والأرض كانتا رتقاً على عبد ثم اتقى الله لجعل له فرجاً ومخرجاً، ثم قال للناس: اغدوا على أعطياتكم ومالكم، فقسمه بينهم، ثم قال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك. فتوفي بمرو. وله صحبة.
ذكر عدة حوادثحج بالناس هذه السنة معاوية، وقيل: بل حج ابنه يزيد، وكان العمال على البلاد من تقدم ذكرهم.
وفيها توفي سعد بن أبي وقاص بالعقيق فحمل على الرقاب إلى المدينة فدفن بها، وقيل: توفي سنة أربع وخمسين، وقيل: سنة خمس وخمسين، وعمره أربع وسبعون، وقيل: ثلاث وثمانون سنة، وهو أحد العشرة، وكان قصيراً دحداحاً. وفيها توفيت صفية بنت حيي زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، وقيل: توفيت أيام عمر. وفيها توفي عثمان بن أبي العاص الثقفي. وعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس، توفي بالبصرة. وأبو موسى الأشعري، وقيل: توفي سنة اثنتين وخمسين. وفيها توفي زيد بن خالد الجهني، وقيل: توفي سنة ثمان وستين، وقيل: ثمان وسبعين. وفيها توفي مدلاج بن عمر السلمي، وكان قد شهد المشاهد كلها مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكلهم لهم صحبة.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسينوفيها كان مشتى فضالة بن عبيد بأرض الروم، وغزوة بسر بن أبي أرطأة الصائفة.
ذكر مقتل حجر بن عدي
وعمرو بن الحمق وأصحابهمافي هذه السنة قتل حجر بن عدي وأصحابه.
وسبب ذلك أن معاوية استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين، فلما أمره عليها دعاه وقال له: أما بعد فإن لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا، وقد يجزي عنك الحكيم بغير التعليم، وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتماداً على بصرك، ولست تاركاً أيصاءك بخصلة: لا تترك شتم علي وذمه، والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم، والإطراء بشيعة عثمان والإدناء لهم. فقال له المغيرة: قد جربت وجربت، وعملت قبلك لغيرك فلم يذممني، وستبلوا فتحمد أو تذم. فقال: بل نحمد إن شاء الله.
فأقام المغيرة عاملاً على الكوفة وهو أحسن شيء سيرة، غير أنه لا يدع شتم علي والوقوع فيه والدعاء لعثمان والاستغفار له، فإذا سمع ذلك حجر بن عدي قال: بل إياكم ذم الله ولعن! ثم قام وقال: أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل، ومن تزكون أولى بالذم. فيقول له المغيرة: يا حجر اتق هذا السلطان وغضبه وسطوته، فإن غضب السلطان يهلك أمثالك، ثم يكف عنه ويصفح.
فلما كان آخر إمارته قال في علي وعثمان ما كان يقوله، فقام حجر فصاح صيحةً بالمغيرة سمعها كل من بالمسجد وقال له: مر لنا أيها الإنسان بأرزاقنا فقد حبستها عنا وليس ذلك لك، وقد أصبحت مولعاً بذم أمير المؤمنين. فقام أكثر من ثلثي الناس يقولون: صدق حجر وبر، مر لنا بأرزاقنا فإن ما أنت عليه لا يجدي علينا نفعاً! وأكثروا من هذا القول وأمثاله. فنزل المغيرة باستأذن عليه قومه ودخلوا وقالوا: علام نترك هذا الرجل يجترىء عليك في سلطانك ويقول لك هذه المقالة فيوهن سلطانك ويسخط عليك أمير المؤمنين معاوية؟ فقال لهم المغيرة: إني قد قتلته، سيأتي من بعدي أمير يحسبه مثلي فيصنع به ما ترونه يصنع بي فيأخذه ويقتله! إني قد قرب أجلي ولا أحب أن أقتل خيار أهل هذا المصر فيسعدوا وأشقى ويعز في الدنيا معاوية ويشقى في الآخرة المغيرة.
ثم توفي المغيرة وولي زياد، فقام في الناس فخطبهم عند قدومه ثم ترحم على عثمان وأثنى على أصحابه ولعن قاتليه. فقام حجر ففعل كما كان يفعل بالمغيرة. ورجع زياد إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث، فبلغه أن حجراً يجتمع إليه شيعة علي ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه وأنهم حصبوا عمرو بن حريث، فشخص زياد إلى الكوفة حتى دخلها فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وحجر جالسٌ، ثم قال: أما بعد فإن غب البغي والغي وخيمٌ، إن هؤلاء جموا فأشروا، وأمنوني فاجترؤوا على الله، لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم، ولست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر وأدعه نكالاً لمن بعده، ويل أمك يا حجر سقط العشاء بك على سرحانٍ.
وأرسل إلى حجر يدعوه وهو بالمسجد، فلما أتاه رسول زياد يدعوه قال أصحابه: لا تأته ولا كرامة. فرجع الرسول فأخبر زياداً، فأمر صاحب شرطته، وهو شداد بن الهيثم الهلالي، أن يبعث إليه جماعةً ففعل، فسبهم أصحاب حجر، فرجعوا وأخبروا زياداً، فجمع أهل الكوفة وقال: تشجون بيدٍ وتأسون بأخرى! أبدانكم معي وقلوبكم مع حجر الأحمق! هذا والله من دحسكم! والله ليظهرن لي براءتكم أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم! فقالوا: معاذ الله أن يكون لنا رأي إلا طاعتك وما فيه رضاك. قال: فليقم كل رجل منكم فليدع من عند حجر من عشيرته وأهله. ففعلوا وأقاموا أكثر أصحابه عنه. وقال زياد صاحب شرطته: انطلق إلى حجر فإن تبعك فأتني به وإلا فشدوا عليهم بالسيوف حتى تأتوني به.
فأتاه صاحب الشرطة يدعوه، فمنعه أصحابه من إجابته، فحمل عليهم، فقال أبو العمرطة الكندي لحجر: إنه ليس معك من معه سيف غيري وما يغني عنك سيفي، قم فالحق بأهلك يمنعك قومك. وزياد ينظر إليهم وهو على المنبر، وغشيهم أصحاب زياد، وضرب رجلٌ من الحمراء رأس عمرو بن الحمق بعموده فوقع، وحمله أصحابه إلى الأزد فاختفى عندهم حتى خرج، وانحاز أصحاب حجر إلى أبواب كندة، وضرب بعض الشرطة يد عائذ بن حملة التميمي وكسر نابه وأخذ عموداً من بعض الشرط فقاتل به وحمى حجراً وأصحابه حتى خرجوا من أبواب كندة، وأتى حجر بغلته، فقال له أبو العمرطة: اركب فقد قتلتنا ونفسك. وحمله حتى أركبه، وركب أبو العمرطة فرسه، ولحقه يزيد بن طريف المسلي فضرب أبا العمرطة على فخذه بالعمود، وأخذ أبو العمرطة سيفه فضرب به رأسه فسقط، ثم برأ؛ وله يقول عبد الله بن همام السلولي:
ألؤم ابن لؤمٍ ما عدا بك حاسراً ... إلى بطلٍ ذي جرأةٍ وشكيم
معاود ضرب الدارعين بسيفه ... على الهام عند الروع غير لئيم
إلى فارس الغارين يوم تلاقيا ... بصفين قرمٍ خير نجل قروم
حسبت ابن برصاء الحتار قتاله ... قتالك زيداً يوم دار حكيم
وكان ذلك السيف أول سيف ضرب به في الكوفة في اختلاف بين الناس.
ومضى حجر وأبو العمرطة إلى دار حجر واجتمع إليهما ناس كثير، ولم يأته من كندة كثير أحد. فأرسل زياد. وهو على المنبر، مذحج وهمدان إلى جبانة كندة وأمرهم أن يأتوه بحجر، وأرسل سائر أهل اليمن إلى جبانة الصائدين وأمرهم أن يمضوا إلى صاحبهم حجر فيأتوه به، ففعلوا، فدخل مذحج وهمدان إلى جبانة كندة فأخذوا كل من وجدوا، فأثنى عليهم زياد.
فلما رأى حجر قلة من معه أمرهم بالانصراف وقال لهم: لا طاقة لكم بمن قد اجتمع عليكم وماأحب أن تهلكوا. فخرجوا، فأدركهم مذحج وهمدان فقاتلوهم وأسروا قيس بن يزيد ونجا الباقون، فأخذ حجر طريقاً إلى بني حوت فدخل دار رجل منهم يقال له سليم بن يزيد، وأدركه الطلب فأخذ سليم سيفه ليقاتل، فبكت بناته، فقال حجر: بئس ما أدخلت على بناتك إذاً! قال: والله لا تؤخذ من داري أسيراً ولا قتيلاً وأنا حي. فخرج حجر من خوخة في داره فأتى النخع فنزل دار عبد الله بن الحارث أخي الأشتر، فأحسن لقاءه. فبينما هو عنده إذ قيل له: إن الشرط تسأل عنك في النخع. وسبب ذلك أن أمة سوداء لقيتهم فقالت: من تطلبون؟ فقالوا: حجر بن عدي. فقالت: هو في النخع.
فخرج حجر من عنده فأتى الأزد فاختفى عند ربيعة بن ناجد.
فلما أعياهم طلبه دعا زياد محمد بن الأشعث وقال له: والله لتأتيني به أو لأقطعن كل نخلة لك وأهدم دورك ثم لا تسلم مني حتى أقطعك إرباً إرباً. فاستمهله، فأمهله ثلاثاً وأحضر قيس بن يزيد أسيراً، فقال له زياد: لابأس عليك، قد عرفت رأيك في عثمان وبلاءك مع معاوية بصفين وأنك إنما قاتلت مع حجر حميةً وقد غفرتها لك ولكن ائتني بأخيك عمير. فاستأمن له منه على ماله ودمه، فآمنه، فأتاه به وهو جريح فأثقله حديداً، وأمر الرجال أن يرفعوه ويلقوه، ففعلوا به ذلك مراراً، فقال قيس بن يزيد لزياد: ألم تؤمنه؟ قال: بلى قد آمنته على دمه ولست أهريق له دماً. ثم ضمنه وخلى سبيله.
ومكث حجر بن عدي في بيت ربيعة يوماً وليلة، فأرسل إلى محمد بن الأشعث يقول له ليأخذ له من زياد أماناً حتى يبعث به إلى معاوية. فجمع محمد جماعةً، منهم: جرير بن عبد الله، وحجر بن يزيد، وعبد الله بن الحارث أخو الأشتر، فدخلوا على زياد فاستأمنوا له على أن يرسله إلى معاوية، فأجابهم، فأرسلوا إلى حجر بن عدي فحضر عند زياد، فلما رآه قال: مرحباً بك أبا عبد الرحمن، حربٌ أيام الحرب، وحربٌ وقد سالم الناس، على أهلها تجني براقش، فقال حجر: ما خلعت طاعةً، ولا فارقت جماعةً، وإني على بيعتي فقال: هيهات يا حجر! تشج بيد وتأسو بأخرى. فأمر إلى السجن. فلما ولى قال زياد: والله لأحرصن على قطع خيط رقبته! وطلب أصحابه، فخرج عمرو بن الحمق حتى أتى الموصل ومعه رفاعة بن شداد فاختفيا بجبل هناك، فرفع خبرهما إلى عامل الموصل، فسار إليهما، فخرجا إليه فأما عمرو فكان قد استسقى بطنه ولم يكن عنده امتناع، وأما رفاعة فكان شاباً قوياً فركب فرسه ليقاتل عن عمرو، فقال له عمرو: ما ينفعني قتالك عني؟ انج بنفسك! فحمل عليهم، فأفرجوا له، فنجا، وأخذ عمرو أسيراً، فسألوه: من أنت؟ فقال: من إن تركتموه كان أسلم لكم، وإن قتلتموه كان أضر عليكم؛ ولم يخبرهم. فبعثوه إلى عامل الموصل، وهو عبد الرحمن بن عثمان الثقفي الذي يعرف بابن أم الحكم، وهو ابن أخت معاوية، فعرفه فكتب فيه إلى معاوية. فكتب إليه: إنه زعم أنه طعن عثمان تسع طعنات بمشاقص معه فاطعنه كما طعن عثمان. فأخرج وطعن. فمات في الأولى منهن أو الثانية.
وجد زياد في طلب أصحاب حجر فهربوا، وأخذ من قدر عليه منهم. فأتي بقبيصة بن ضبيعة العبسي بأمان فحبسه، وجاء قيس بن عباد الشيباني إلى زياد فقال له: إن امرأً منا يقال له صيفي بن فسيل من رؤوس أصحاب حجر. فبعث زياد فأتي به، فقال: يا عدو الله ما تقول في أبي تراب؟ قال: ما أعرب أبا تراب. فقال: ما أعرفك به! أتعرف علي بن أبي طالب؟ قال: نعم. قال: فذاك أبو تراب. قال: كلا. ذاك أبو الحسن والحسين. فقال له صاحب الشرطة: يقول الأمير هو أبو تراب وتقول لا! قال: فإن كذب الأمير أكذب أنا وأشهد على باطل كما شهد؟ فقال له زياد: وهذا أيضاً، علي بالعصا، فأتي بها، فقال: ما تقول في علي؟ قال: أحسن قول. قال: اضربوه، حتى لصق بالأرض، ثم قال: أقلعوا عنه، ما قولك في علي؟ قال: والله لو شرحتني بالمواسي ما قلت إلا ما سمعت مني. قال: لتلعننه أو لأضربن عنقك! قال: لا أفعل. فأوثقوه حديداً وحبسوه.
قيل: وعاش قيس بن عباد حتى قاتل مع ابن الأشعث في مواطنه. ثم دخل الكوفة فجلس في بيته، فقال حوشب للحجاج: إن هنا امرأً صاحب فتن لم تكن فتنة بالعراق إلا وثب فيها، وهو ترابي يلعن عثمان، وقد خرج مع ابن الأشعث حتى هلك، وقد جاء فجلس في بيته. فبعث إليه الحجاج فقتله، فقال بنو أبيه لآل حوشب: سعيتم بصاحبنا! فقالوا: وأنتم أيضاً سعيتم بصاحبنا، يعني صيفياً الشيباني.
وأرسل زياد إلى عبد الله بن خليفة الطائي، فتوارى، فبعث إليه الشرط فأخذوه، فخرجت أخته النوار فحرضت طيئاً، فثاروا بالشرط وخلصوه، فرجعوا إلى زياد فأخبروه، فأخذ عدي بن حاتم وهو في المسجد فقال: ايتني بعبد الله! قال: وما حاله؟ فأخبره، فقال: لا علم لي بهذا! قال: لتأتيني به. قال: لا آتيك به أبداً، آتيك بابن عمي تقتله! والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه! فأمر به إلى السجن، فلم يبق بالكوفة يمني ولا ربعي إلا كلم زياداً وقالوا: تفعل هذا بعدي بن حاتم صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ فقال: فإني أخرجه على شرط أن يخرج ابن عمه عني فلا يدخل الكوفة ما دام لي سلطان. فأجابوه إلى ذلك، وأرسل عدي إلى عبد الله يعرفه ما كان وأمره أن يلحق بجبلي طيء، فخرج إليهما، وكان يكتب إلى عدي ليشفع فيه ليعود إلى الكوفة، وعدي يمنيه؛ فمما كتب إليه يعاتبه ويرثي حجراً وأصحابه قوله:
تذكرت ليلى والشبيبة أعصرا ... وذكر الصبا برحٌ على من تذكرا
وولى الشباب فافتقدت غصونه ... فيا لك من وجدٍ به حين أدبرا
فدع عنك تذكار الشباب وفقده ... وأسبابه إذ بان عنك فأجمرا
وبك على الخلان لما تخرموا ... ولم يجدوا على منهل الموت مصدرا
دعتهم مناياهم ومن حان يومه ... من الناس فاعلم أنه لن يؤخرا
أولئك كانوا شيعةً لي وموئلاً ... إذا اليوم ألفي ذا احتدامٍ مذكرا
وما كنت أهوى بعدهم متعللاً ... بشيء من الدنيا ولا أن أعمرا
أقول ولا والله أنسى ادكارهم ... سجيس الليالي أو أموت فأقبرا
على أهل عذراء السلام مضاعفاً ... من الله وليسق الغمام الكنهوار
ولاقى بها حجرٌ من الله رحمةً ... فقد كان أرضى الله حجرٌ وأعذرا
ولا زال تهطالٌ ملثٌّ وديمةٌ ... على قبر حجرٍ أو ينادى فيحشرا
فيا حجر من للخيل تدمى نحورها ... وللملك المغري إذا ما تغشمرا
ومن صداعٌ بالحق بعدك ناطقٌ ... بتقوى ومن إن قيل بالجور غيرا
فنعم أخو الإسلام كنت وإنني ... لأطمع أن تؤتى الخلود وتحبرا
وقد كنت تعطي السيف في الحرب حقه ... وترعف معروفاً وتنكر منكرا
فيا أخوينا من هميمٍ عصمتما ... ويسرتما للصالحات فأبشرا
ويا أخوي الخندفيين أبشرا ... بما معنا حييتما أن تتبرا
ويا إخوتا من حضرموت وغالبٍ ... وشيبان لقيتم جناناً مبشرا
سعدتم فلم أسمع بأصوب منكم ... حجاجاً لدى الموت الجليل وأصبرا
سأبكيكم ما لاح نجمٌ وغرد ال ... حمام ببطن الواديين وقرقرا
فقلت ولم أظلم: أغوث بن طيءٍ ... متى كنت أخشى بينكم أن أسيرا
هبلتم ألا قاتلتم عن أخيكم ... وقد دث حتى مال ثم تجورا
تفرجتم عني فغودرت مسلماً ... كأني غريبٌ من إيادٍ وأعصرا
فمن لكم مثلي لدى كل غارةٍ ... ومن لكم مثلي إذا البأس أصحرا
ومن لكم مثلي إذا الحرب قلصت ... وأوضع فيها المستميت وشمرا
فها أنا ذا آوي بأجبال طيءٍ ... طريداً فلو شاء الإله لغيرا
نفاني عدوي ظالماً عن مهاجري ... رضيت بما شاء الإله وقدرا
وأسلمني قومي بغير جنايةٍ ... كأن لم يكونوا لي قبيلاً ومعشرا
فإن ألف في دارٍ بأجبال طيءٍ ... وكان معاناً من عصيرٍ ومحضرا
فما كنت أخشى أن أرى متغرباً ... لحى الله من لاحى عليه وكشرا
لحى الله قيل الحضرميين وائلاً ... ولاقى القناني بالسنان المؤمرا
ولاقى الردى القوم الذين تحزبوا ... علينا وقالوا قول زورٍ ومنكرا
فلا يدعني قومٌ لغوث بن طيءٍ ... لئن دهرهم أشقى بهم وتغيرا
فلم أغزهم في المعلمين ولم أثر ... عليهم عجاجاً بالكويفة أكدرا
فبلع خليلي إن رحلت مشرقاً ... جديلة والحيين معناً وبحترا
ونبهان والأفناء من جذم طيء ... ألم أك فيكم ذا الغناء العشنزرا
ألم تذكروا يوم العذيب أليتي ... أمامكم أن لا أرى الدهر مدبرا
وكري على مهران والجمع حابسٌ ... وقتلي الهمام المستميت المسورا
ويوم جلولاء الوقيعة لم ألم ... ويوم نهاوند الفتوح وتسترا
وتنسونني يوم الشريعة والقنا ... بصفين في أكتافهم قد تكسرا
جزى ربه عني عدي بن حاتمٍ ... برفضي وخذلاني جزاءً موفرا
أتنسى بلائي سادراً يا ابن حاتمٍ ... عشية ما أغنت عديك حزمرا
فدافعت عنك القوم حتى تخاذلوا ... وكنت أنا الخصم الألد العذورا
تولوا وما قاموا مقامي كأنما ... رأوني ليثاً بالأباءة مخدرا
وقد تقدم ما فعله عبد الله مع عدي في وقعة صفين، فلهذا لم نذكره ها هنا.
نصرتك إذ خان القريب وأبعط ال ... بعيد وقد أفردت نصراً مؤزرا
فكان جزائي أن أجرد بينكم ... سحيباً وأن أولى الهوان وأوسرا
وكم عدةٍ لي منك أنك راجعي ... فلم تغن بالميعاد عني حبترا
فأصبحت أرعى النيب طوراً وتارةً ... أهرهر إن راعي الشويهات هرهرا
كأني لم أركب جواداً لغارةٍ ... ولم أترك القرن الكمي مقطرا
ولم أعترض بالسيف منكم مغيرةً ... إذ النكس مشى القهقرى ثم جرجرا
ولم أستحث الركض في إثر عصبةٍ ... ميممةٍ عليا سجاسٍ وأبهرا
ولم أذعر الأبلام مني بغارةٍ ... كورد القطا ثم انحدرت مظفرا
ولم أر في خيلٍ تطاعن مثلها ... بقزوين أو شرودين أو أغر كيدرا
فذلك دهرٌ زال عني حميده ... وأصبح لي معروفه قد تنكرا
فلا يبعدن قومي وإن كنت عاتباً ... وكنت المضاع فيهم والمكفرا
ولا خير في الدنيا ولا العيش بعدهم ... وإن كنت عنهم نائي الدار محصرا
فمات عبد الله بالجبلين قبل موت زياد، ثم أتي زياد بكريم بن عفيف الخثعمي من أصحاب حجر بن عدي، فقال: ما اسمك؟ قال: كريم بن عفيف. قال: ما أحسن اسمك واسم أبيك وأسوأ عملك ورأيك! فقال له: أما والله إن عهدك برأيي منذ قريب.
قال: وجمع زياد من أصحاب عدي اثني عشر رجلاً في السجن ثم دعا رؤساء الأرباع يومئذ، وهم: عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة، وخالد ابن عرفطة على ربع تميم وهمدان، وقيس بن الوليد على ربع ربيعة وكندة، وأبو بردة بن أبي موسى على ربع مذحج وأسد، فشهد هؤلاء أن حجراً جمع إليه الجموع وأظهر شتم الخليفة ودعا إلى حرب أمير المؤمنين، وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل أبي طالب، ووثب بالمصر، وأخرج عامل أمير المؤمنين، وأظهر عذر أبي تراب والترحم عليه، والبراءة من عدوه وأهل حربه، وأن هؤلاء النفر الذين معه هم رؤوس أصحابه على مثل رأيه وأمره. ونظر زياد في شهادة الشهود وقال: إني لأحب أن يكونوا أكثر من أربعة، فدعا الناس ليشهدوا عليه، فشهد إسحاق وموسى ابنا طلحة بن عبيد الله، والمنذر ابن الزبير، وعمارة بن عقبة بن أبي معيط، وعمرو بن سعد بن أبي وقاص، وغيرهم، وكتب في الشهود شريح بن الحارث القاضي وشريح بن هانىء، فأما شريح بن هانىء فكان يقول: ما شهدت وقد لمته.
ثم دفع زيادٌ حجر بن عدي وأصحابه إلى وائل بن حجر الحضرمي وكثير ابن شهاب، وأمرهما أن يسيرا بهم إلى الشام، فخرجوا عشية، فلما بلغوا الغريين لحقهم شريح بن هانىء وأعطى وائلاً كتاباً وقال: أبلغه أمير المؤمنين، فأخذه، وساروا حتى انتهوا بهم إلى مرج عذراء عند دمشق، وكانوا: حجر ابن عدي الكندي، والأرقم بن عبد الله الكندي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيعة العبسي، وكريم بن عفيف الخثعمي، وعاصم بن عوف البجلي، وورقاء بن سمي البجلي، وكدام بن حيان، وعبد الرحمن بن حسان العنزيين، ومحرز بن شهاب التميمي، وعبد الله بن حوية السعدي التميمي، فهؤلاء اثنا عشر رجلاًن وأتبعهم زياد برجلين، وهما: عتبة بن الأخنس من سعد بن بكر، وسعد بن نمران الهمداني، فتموا أربعة عشر رجلاً.
فبعث معاوية إلى وائل بن حجر وكثير بن شهاب، فأدخلهما وأخذ كتابهما فقرأه، ودفع إليه وائل كتاب شريح بن هانىء، فإذا فيه: بلغني أن زياداً كتب شهادتي، وإن شهادتي على حجر أنه ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويديم الحج والعمرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حرام الدم والمال، فإن شئت فاقتله وإن شئت فدعه. فقال معاوية: ما أرى هذا إلا قد أخرج نفسه من شهادتكم وحبس القوم بمرج عذراء. فوصل إليهم الرجلان اللذان ألحقهما زياد بحجر وأصحابه، فلما وصلا سار عامر بن الأسود العجلي إلى معاوية ليعلمه بهما، فقام إليه حجر بن عدي في قيوده فقال له: أبلغ معاوية أن دماءنا عليه حرام، وأخبره أنا قد أومنا وصالحناه وصالحنا، وأنا لم نقتل أحداً من أهل القبلة فيحل له دماؤنا.
فدخل عامر على معاوية فأخبره بالرجلين، فقام يزيد بن أسد البجلي فاستوهبه ابني عمه، وهما: عاصم وورقاء وكان جرير بن عبد الله البجلي قد كتب فيهما يزكيهما ويشهد لهما بالبراءة مما شهد عليهما، فأطلقهما معاوية، وشفع حمرة بن مالك الهمداني في سعد بن نمران فوهبه له، وشفع حبيب بن مسلمة في ابن حوية فتركه له، وقام مالك بن هبيرة السكوني فقال: دع لي ابن عمي حجراً. فقال له: هو رأس القوم وأخاف إن خليت سبيله أن يفسد علي مصره فنحتاج أن نشخصك إليه بالعراق. فقال: والله ما أنصفتني يا معاوية! قاتلت معك ابن عمك يوم صفين حتى ظفرت وعلا كعبك ولم تخف الدوائر، ثم سألتك ابن عمي فمنعتني! ثم انصرف فجلس في بيته.
فبعث معاوية هدبة بن فياض القضاعي، والحصين بن عبد الله الكلابي، وأبا شريف البدي إلى حجر وأصحابه ليقتلوا من أمروا بقتله منهم، فأتوهم عند المساء. فلما رأى الخثعمي أحدهم أعور قال: يقتل نصفنا ويترك نصفنا، فتركوا ستة وقتلوا ثمانية، وقالوا لهم قبل القتل: إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له، فإن فعلتم تركناكم وإن أبيتم قتلناكم. فقالوا: لسنا فاعلي ذلك. فأمر فحفرت القبور وأحضرت الأكفان وقام حجر وأصحابه يصلون عامة الليل. فلما كان الغد قدموهم ليقتلوهم فقال لهم حجر بن عدي: اتركوني أتوضأ وأصلي فإني ما توضأت ولا صلي، فتركوه، فصلى ثم انصرف منها وقال: والله ما صليت صلاةً قط أخف منها، ولولا أن تظنوا في جزعاً من الموت لاستكثرت منها. ثم قال: اللهم إنا نستعديك على أمتنا! فإن أهل الكوفة شهدوا علينا، وإن أهل الشام يقتلوننا، أما والله لئن قتلتوني بها فإني لأول فارس من المسلمين هلك في واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها! ثم مشى إليه هدبة بن فياض بالسيف فارتعد، فقالوا له: زعمت أنك لا تجزع من الموت، فابرأ من صاحبك وندعك. فقال: وما لي لا أجزع وأرى قبراً محفوراً، وكفناً منشوراً، وسيفاً مشهوراً! وإني والله إن جزعت من القتل لا أقول ما يسخط الرب. فقتلوه وقتلوا ستة.
فقال عبد الرحمن بن حسان العنزي وكريم الخثعمي: ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته. فاستأذنوا معاوية فيهما، فأذن بإحضارهما. فلما دخلا عليه قال الخثعمي: الله الله يا معاوية! فإنك منقول من هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة، ثم مسؤول عما أردت بسفك دمائنا! فقال له: ما تقول في علي؟ قال: أقول فيه قولك. قال: أتبرأ من دين علي الذي يدين الله به؟ فسكت، وقام شمر بن عبد الله من بني قحافة ابن خثعم فاستوهبه، فوهبه له على أن لا يدخل الكوفة، فاختار الموصل، فكان يقول: لو مات معاوية قدمت الكوفة، فمات قبل معاوية بشهر. ثم قال لعبد الرحمن بن حسان: يا أخا ربيعة ما تقول في علي؟ قال: دعني ولا تسألني فهو خير لك. قال: والله لا أدعك. قال: أشهد أنه كان من الذاكرين الله تعالى كثيراً من الآمرين بالحق والقائمين بالقسط والعافين عن الناس. قال: فما قولك في عثمان؟ قال: هو أول من فتح أبواب الظلم، وأغلق أبواب الحق. قال: قتلت نفسك! قال: بل إياك قتلت؛ ولا ربيعة بالوادي، يعني ليشفعوا فيه، فرده معاوية إلى زياد وأمره أن يقتله شر قتلة، فدفنه حياً.
فكان الذين قتلوا: حجر بن عدي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيعة العبسي، ومحرز بن شهاب السعدي التميمي، وكدام بن حيان العنزي، وعبد الرحمن بن حسان العنزي الذي دفنه زياد حياً، فهؤلاء السبعة قتلوا ودفنوا وصلي عليهم.
قيل: ولما بلغ الحسن البصري قتل حجر وأصحابه قال: صلوا عليهم وكفنوهم ودفنوهم واستقبلوا بهم القبلة؟ قالوا: نعم. قال: حجوهم ورب الكعبة! وأما مالك بن هبيرة السكوني فحين لم يشفعه معاوية في حجر جمع قومه وسار بهم إلى عذراء ليخلص حجراً وأصحابه، فلقيته قتلتهم، فلما رأوه علموا أنه جاء ليخلص حجراً، فقال لهم: ما وراءكم؟ قالوا: قد تاب القوم وجئنا لنخبر أمير المؤمنين. فسكت وسار إلى عذراء، فلقيه بعض من جاء منها فأخبره بقتل القوم، فأرسل الخيل في إثر قتلتهم فلم يدركوهم، ودخلوا على معاوية فأخبروه، فقال لهم: إنما هي حرارة يجدها في نفسه وكأنها طفئت، وعاد مالك إلى بيته ولم يأت معاوية، فلما كان الليل أرسل إليه معاوية بمائة ألف درهم وقال: ما منعني أن أشفعك إلا خوفاً أن يعيدوا لنا حرباً فيكون في ذلك من البلاء على المسلمين ما هو أعظم من قتل حجر. فأخذها وطابت نفسه.
ولما بلغ خبر حجر عائشة أرسلت عبد الرحمن بن الحارث إلى معاوية فيه وفي أصحابه، فقدم عليه وقد قتلهم، فقال له عبد الرحمن: أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟ قال: حين غاب عني مثلك من حلماء قومي وحملني ابن سمية فاحتملت.
وقالت عائشة: لولا أنا لم نغير شيئاً إلا صارت بنا الأمور إلى ما هو أشد منه لغيرنا قتل حجر، أما والله إن كان ما علمت لمسلماً حجاجاً معتمراً.
وقال الحسن البصري: أربع خصال كن في معاوية، لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة. انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه بعده ابنه سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، وقتله حجراً وأصحاب حجر، فيا ويلاً له من حجر! ويا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر! قيل: وكان الناس يقولون: أول ذل دخل الكوفة موت الحسن بن علي، وقتل حجر، ودعوة زياد؛ وقالت هند بنت زيد الأنصارية ترثي حجراً، وكانت تتشيع:
ترفع أيها القمر المنير ... تبصر هل ترى حجراً يسير
يسير إلى معاوية بن حربٍ ... ليقتله كما زعم الأمير
تجبرت الجبابر بعد حجرٍ ... وطاب لها الخورنق والسدير
وأصبحت البلاد له محولاً ... كأن لم يحيها مزنٌ مطير
ألا يا حجر حجر بني عدي ... تلقتك السلامة والسرور
أخاف عليك ما أردى عدياً ... وشيخاً في دمشق له زئير
فإن تهلك فكل زعيم قومٍ ... من الدنيا إلى هلكٍ يصير
وقد قيل في قتله غير ما تقدم: وهو أن زياداً خطب يوم جمعة فأطال الخطبة وأخر الصلاة، فقال له حجر بين عدي: الصلاة. فمضى في خطبته. فقال له: الصلاة. فمضى في خطبته. فلما خشي حجر بن عدي فوت الصلاة ضرب بيده إلى كف من حصى وقام إلى الصلاة وقام الناس معه. فلما رأى زياد ذلك نزل فصلى بالناس وكتب إلى معاوية وكثر عليه، فكتب إليه معاوية ليشده في الحديد ويرسله إليه. فلما أراد أخذه قام قومه ليمنعوه، فقال حجر: لا ولكن سمعاً وطاعة. فشد في الحديد وحمل إلى معاوية. فلما دخل عليه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فقال معاوية: أأمير المؤمنين أنا؟ والله لا أقيلك ولا أستقيلك! أخرجوه فاضربوا عنقه! فقال حجر للذين يلون أمره: دعوني حتى أصلي ركعتين. فقالوا: صل، فصلى ركعتين خفف فيهما. ثم قال: لولا أن تظنوا بي غير الذي أردت لأطلتهما، وقال لمن حضره من قومه: لا تطلقوا عني حديداً ولا تغسلوا عني دماً، فإني لاقٍ معاوية غداً على الجادة؛ وضربت عنقه. قال: فلقيت عائشة معاوية فقالت له: أين كان حلمك عن حجر؟ فقال: لم يحضرني رشيد. قال ابن سيرين: بلغنا أن معاوية لما حضرته الوفاة جعل يقول: يومي منك يا حجر طويل! عباد بضم العين، وفتح الباء الموحدة وتخفيفها.
ذكر استعمال الربيع على خراسانوفي هذه السنة وجه زيادٌ الربيع بن زياد الحارثي أميراً على خراسان، وكان الحكم بن عمرو الغفاري قد استخلف عند موته أنس بن أبي أناس، فعزله زياد وولى خليد بن عبد الله الحنفي، ثم عزله وولى الربيع بن زياد أول سنة إحدى وخمسين وسير معه خمسين ألفاً بعيالاتهم من أهل الكوفة والبصرة، منهم: بريدة بن الحصيب، وأبو برزة، ولهما صحبة، فسكنوا خراسان، فلما قدمها غزا بلخ ففتحها صلحاً، وكانت قد أغلقت بعدما صالحهم الأحنف بن قيس في قول بعضهم. وفتح قهستان عنوةً وقتل من بناحيتها من الأتراك، وبقي منهم نيزك طرخان، فقتله قتيبة بن مسلم في ولايته.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة مات جرير بن عبد الله البجلي، وقيل: سنة أربع وخمسن، وكان إسلامه في السنة التي توفي فيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وفيها مات سعيد بن زيد، وقيل: سنة اثنتين، وقيل: ثمان وخمسين، ودفن بالمدينة، وهو أحد العشرة. وأبو بكرة نفيع بن الحارث، له صحبة، وهو أخو زياد لأمه. وفيها ماتت ميموتة بنت الحارث زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، بسرف، وفيها دخل بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقيل: ماتت سنة ثلاث وستين، وقيل: ست وستين.
وحج بالناس هذه السنة يزيد بن معاوية. وكان العمال بهذه السنة من تقدم ذكرهم.
بريدة بضم الباء الموحدة، وفتح الراء المهملة. والحصيب بضم الحاء المهملة، وفتح الصاد المهملة، وآخره باء موحدة.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسينفيها كانت غزوة سفيان بن عوف الأسدي الروم وشتى بأرضهم، وتوفي بها في قول، فاستخلف عبد الله بن مسعدة الفزاري، وقيل: إن الذي شتى هذه السنة بأرض الروم بسر بن أبي أرطأة ومعه سفيان بن عوف، وغزا الصائفة هذه السنة محمد بن عبد الله الثقفي.
ذكر خروج زياد بن خراش العجليوفي هذه السنة خرج زياد بن خراش العجلي في ثلاثمائة فارس فأتى أرض مسكن من السواد، فسير إليه زياد خيلاً عليها سعد بن حذيفة أو غيره، فقتلوهم وقد صاروا إلى ماه.
ذكر خروج معاذ الطائيوخرج على زياد أيضاً رجل من طيء يقال له معاذ، فأتى نهر عبد الرحمن ابن أم الحكم في ثلاثين رجلاً هذه السنة، فبعث إليه زياد من قتله وأصحابه، وقيل: بل حل لواءه واستأمن. ويقال لهم أصحاب نهر عبد الرحمن.
ذكر عدة حوادثوحج بالناس سعيد بن العاص. وكان العمال من تقدم ذكرهم.
وفيها مات عمران بن الحصين الخزاعي بالبصرة. وأبو أيوب الأنصاري، واسمه خالد بن زيد، شهد العقبة وبدراً، وقد تقدم أنه توفي سنة تسع وأربعين عند القسطنطينية. وكعب بن عجرة، وله خمس وسبعون سنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسينفيها كان مشتى عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي بأرض الروم.
وفيها فتحت رودس، جزيرة في البحر، فتحها جنادة بن أمية الأزدي ونزلها المسلمون وهم على حذر من الروم، وكانوا أشد شيء على الروم يعترضونهم في البحر فيأخذون سفنهم، وكان معاوية يدر لهم العطاء، وكان العدو قد خافهم. فلما توفي معاوية أقفلهم ابنه يزيد.
وقيل: فتحت سنة ستين.
ذكر وفاة زيادوفي هذه السنة توفي زياد بن أبيه بالكوفة في شهر رمضان.
وكان سبب موته أنه كتب إلى معاوية: إني قد ضبطت العراق بشمالي ويميني فارغة فاشغلها بالحجاز. فكتب له عهده على الحجاز، فبلغ أهل الحجاز فأتى نفرٌ منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب فذكروا ذلك، فقال: أدعو الله عليه ثم استقبل القبلة. ودعا ودعوا معه، وكان من دعائه أن قال: اللهم اكفنا شر زياد. فخرجت طاعونةٌ على إصبع يمينة فمات منها. فلما حضرته الوفاة دعا شريحاً القاضي فقال له: قد حدث ما ترى وقد أمرت بقطعها فأشر علي. فقال له شريح: إني أخشى أن يكون الأجل قد دنا فتلقى الله أجذم وقد قطعت يدك كراهية لقائه، أو أن يكون في الأجل تأخير فتعيش أجذم وتعير ولدك. فقال: لا أبيت والطاعون في لحاف واحد. فخرج شريح من عنده، فسأله الناس، فأخبرهم، فلاموه وقالوا: هلا أشرت بقطعها؟ فقال: المستشار مؤتمن.
وأراد زياد قطعها، فلما نظر إلى النار والمكاوي جزع وتركه، وقيل: بل تركه لما أشار عليه شريح بتركه، ولما حضرته الوفاة قال له ابنه: قد هيأت لك ستين ثوباً أكفنك بها. فقال له: يا بني قد دنا من أبيك لباس هو خير من لباسه، أو سلب سريع! فمات فدفن بالثوبة إلى جانب الكوفة.
فلما بلغ موته ابن عمر قال: اذهب ابن سمية، لا الآخرة أدركت ولا الدنيا بقيت عليك.
وكان مولده سنة إحدى من الهجرة؛ قال مسكين الدرامي يرثيه:
رأيت زيادة الإسلام ولت ... جهاراً حين ودعنا زياد
فقال الفرزدق يجيبه، ولم يكن هجا زياداً حتى مات:
أمسكين أبكى الله عينيك إنما ... جرى في ضلالٍ دمعها فتحدرا
بكيت أمرأً من أهل ميسان كافراً ... ككسرى على عدانه أو كقيصرا
أقول له لما أتاني نعيه ... به لا بظبيٍ بالصريمة أعفرا
وكان زياد فيه حمرة، وفي عينه اليمنى انكسار، أبيض اللحية مخروطها، عليه قميص ربما رقعه.
ذكر وفاة الربيعوفيها مات الربيع بن زياد الحارثي عامل خراسان من قبل زياد.
وكان سبب موته أنه سخط قتل حجر بن عدي حتى إنه قال: لا تزال العرب تقتل صبراً بعده، ولو نفرت عند قتله لم يقتل رجل منهم صبراً، ولكنها أقرت فذلت. ثم مكث بعد هذا الكلام جمعة، ثم خرج يوم الجمعة فقال: أيها الناس إني قد مللت الحياة وإني داعٍ بدعوة فأمنوا! ثم رفع يديه بعد الصلاة فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك عاجلاً! وأمن الناس، ثم خرج فما توارت ثيابه حتى سقط فحمل إلى بيته، واستخلف ابنه عبد الله ومات من يومه، ثم مات ابنه بعده بشهرين واستخلف خليد ابن يربوع الحنفي، فأقره زياد. ولما مات زياد كان على البصرة ثمانية عشر شهراً، وقيل: ستة أشهر، ثم عزله معاوية، فقال سمرة: لعن الله معاوية! والله لو أطعت الله كما أطعته ما عذبني أبداً. وجاء رجل إلى سمرة فأدى زكاة ماله ثم دخل المسجد فصلى، فأمر سمرة بقتله فقتل، فمر به أبو بكرة فقال: يقول الله تعالى: (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) الأعلى: 14 - 15، قال: وما مات سمرة حتى أخذه الزمهرير فمات شر ميتة.
الثوية بضم الثاء المثلثة، وفتح الواو، والياء تحتها نقطتان: موضع فيه مقبرة.
ذكر عدة حوادثحج بالناس هذه السنة سعيد بن العاص، وكان عامل المدينة، وخرجت هذه السنة وعلى الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى البصرة سمرة، وعلى خراسان خليد بن يربوع الحنفي.
أسيد بفتح الهمزة، وكسر السين المهملة، وسكون الياء المعجمة باثنتين من تحتها.
وفيها مات عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بطريق مكة في نومة نامها، وقيل: توفي بعد ذلك. وفيها توفي فيروز الديلمي، وكانت له صحبة، وكان معاوية قد استعمله على صنعاء. وفيها مات عمرو بن حزم الأنصاري. وفيها مات فضالة بن عبيد الأنصاري بدمشق، وكان قاضيها لمعاوية، وقيل: مات آخر أيام معاوية، وقيل غير ذلك، شهد أحداً وما بعدها.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين
ذكر غزوة الروم وفتح جزيرة أروادفيها كان مشتى محمد بن مالك بأرض الروم، وصائفة معن بن يزيد السلمي.
وفيها فتح المسلمون ومقدمهم جنادة بن أبي أمية جزيرة أرواد قريب القسطنطينية، فأقاموا بها سبع سنين، وكان معهم مجاهد بن جبر، فلما مات معاوية وولي ابنه يزيد أمرهم بالعود فعادوا.
ذكر عزل سعيد عن المدينة واستعمال مروانوفيها عزل معاوية سعيد بن العاص عن المدينة واستعمل مروان.
وكان سبب ذلك أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص أن يهدم دار مروان ويقبض أمواله كلها ليجعلها صافيةً ويقبض منه فدك، وكان وهبها له، فراجعه سعيد بن العاص في ذلك، فأعاد معاوية الكتاب بذلك، فلم يفعل سعيد ووضع الكتابين عنده، فعزله معاوية وولى مروان وكتب إليه يأمره بقبض أموال سعيد بن العاص وهدم داره، فأخذ الفعلة وسار إلى دار سعيد ليهدمها، فقال له سعيد: يا أبا عبد الملك أتهدم داري؟ قال: نعم، كتب إلي أمير المؤمنين، ولو كتب إليك في هدم داري لفعلت. فقال: ما كنت لأفعل. قال: بلى والله. قال: كلا. وقال لغلامه: ايتني بكتاب معاوية؛ فجاءه بالكتابين، فلما رآهما مروان قال: كتب إليك فلم تفعل ولم تعلمني؟ فقال سعيد: ما كنت لأمن عليك، وإنما أراد معاوية أن يحرض بيننا. فقال مروان: أنت والله خير مني. وعاد ولم يهدم دار سعيد، وكتب سعيد إلى معاوية: العجب مما صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا! إنه يضغن بعضنا على بعض، فأمير المؤمنين في حلمه وصبره على ما يكره من الأخبثين، وعفوه وإدخاله القطيعة بيننا والشحناء وتوارث الأولاد ذلك، فوالله لو لم نكن أولاد أب واحد لما جمعنا الله عليه من نصرة أمير المؤمنين الخليفة المظلوم، واجتماع كلمتنا، لكان حقاً على أمير المؤمنين أن يرعى ذلك.
فكتب إليه معاوية يعتذر من ذلك ويتنصل وأنه عائد إلى أحسن ما يعهده. وقدم سعيد على معاوية فسأله عن مروان فأثنى عليه خيراً، فقال له معاوية: ما باعد بينه وبينك؟ قال: خافني على شرفه وخفته على شرفي. قال: فماذا له عندك؟ قال: أسره شاهداً وغائباً.
ذكر استعمال عبيد الله بن زياد على خراسانوفي هذه السنة عزل معاوية سمرة بن جندب واستعمل على البصرة عبد الله بن عمرو بن غيلان ستة أشهر.
وفيها استعمل معاوية عبيد الله بن زياد على خراسان.
وكان سبب ولايته أنه قدم عليه بعد موت أبيه، من استعمل أبوك على الكوفة والبصرة؟ فأخبره، فقال: لو استعملك أبوك لاستعملتك. فقال عبيد الله: أنشدك الله أن يقولها لي أحد بعدك: لو استعملك أبوك وعمك لاستعملتك. فولاه خراسان وقال له: اتق الله ولا تؤثرن على تقواه شيئاً، فإن في تقواه عوضاً، ووفر عرضك من أن تدنسه، وإذا أعطيت عهداً فف به، ولا تبيعن كثيراً بقليل، ولا يخرجن منك أمر حتى تبرمه، فإذا خرج فلا يردن عليك، وإذا لقيت عدوك فغلبوك على ظهر الأرض فلا يغلبوك على بطنها، ولا تطمعن أحداً في غير حقه، ولا تؤيسن أحداً من حق هو له. ثم ودعه، وكان عمر عبيد الله خمساً وعشرين سنة، وسار إلى خراسان، فقطع النهر إلى جبال بخارى على الإبل، فكان أول من قطع جبال بخارى في جيش، ففتح رامني ونسف وبيكند، وهي من بخارى، فمن ثم أصاب البخارية وغنم منهم غنائم كثيرة، ولما لقي الترك وهزمهم كان مع ملكهم زوجته فعجلوها عن لبس خفيها فلبست أحدهما وبقي الآخر، فأخذه المسلمون، فقوم بمائتي ألف درهم، وكان قتاله الترك من زحوف خراسان التي تذكر، فظهر منه بأس شديد، وأقام بخراسان سنتين.
ذكر عدة حوادثوحج بالناس هذه السنة مروان بن الحكم وهو أمير المدينة.
وكان على الكوفة عبد الله بن خالد، وقيل: الضحاك بن قيس، وعلى البصرة عبد الله بن عمرو بن غيلان.
وفي هذه السنة توفي أبو قتادة الأنصاري وعمره سبعون سنة، وقيل: مات سنة أربعين، وصلى عليه علي وكبر عليه سبعاً، وشهد مع علي حروبه كلها، وهو بدري. وفيها توفي حويطب بن عبد العزى وله مائة وعشرون سنة. وفيها توفي ثوبان مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وأسامة بن زيد، وقيل: توفي أسامة سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة تسع وخمسين. وفيها توفي سعيد بن يربوع بن عنكثة، وكان عمره مائة وأربعاً وعشرين سنة، وله صحبة. ومخرمة بن نوفل، وهو من مسلمة الفتح، وعمره مائة سنة وخمس عشرة سنة، وعبد الله بن أنيس الجهني. وفيها قتل يزيد بن شجرة الرهاوي في غزوة غزاها، وقيل: سنة ثمان وخمسين.
ثم دخلت سنة خمس وخمسينفي هذه السنة كان مشتى سفيان بن عوف الأزدي في قول، وقيل: بل الذي شتى هذه السنة عمرو بن محرز، وقيل: بل عبد الله بن قيس الفزاري، وقيل: بل مالك بن عبد الله.
ذكر ولاية ابن زياد البصرةفي هذه السنة عزل معاوية عبد الله بن عمرو بن غيلان عن البصرة وولاها عبيد الله بن زياد.
وكان سبب ذلك: أن عبد الله خطب على منبر البصرة فحصبه رجل من بني ضبة فقطع يده، فأتاه بنو ضبة وقالوا: إن صاحبنا جنى ما جنى وقد عاقبته ولا نأمن أن يبلغ خبرنا أمير المؤمنين فيعاقب عقوبة تعم، فاكتب لنا كتاباً إلى أمير المؤمنين يخرج به أحدنا إليه يخبره أنك قطعت على شبهة وأمر لم يتضح. فكتب لهم، فلما كان رأس السنة توجه عبد الله إلى معاوية ووافاه الضبيون بالكتاب وادعوا أنه قطع صاحبهم ظلماً. فلما رأى معاوية الكتاب قال: أما القود من عمالي فلا سبيل إليه ولكن أدي صاحبكم من بيت المال. وعزل عبد الله عن البصرة واستعمل ابن زياد عليها، فولى ابن زياد على خراسان أسلم بن زرعة الكلابي، فلم يغزو ولم يغز ولم يفتح بها شيئاً.
ذكر عدة حوادثوفيها عزل معاوية عبد الله بن خالد عن الكوفة وولاها الضحاك بن قيس، وقيل ما تقدم. وفيها مات الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وهو الذي كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يختفي في داره بمكة، وكان عمره ثمانين سنة وزيادة، وقيل: مات يوم مات أبو بكرة. وفيها توفي أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري، وهو بدري، وشهد صفين مع علي، وقيل: توفي قبل. وحج بالناس هذه السنة مروان بن الحكم.
ثم دخلت سنة ست وخمسينفيها كان مشتى جنادة بن أبي أمية بأرض الروم، وقيل: عبد الرحمن ابن مسعود. وقيل: غزا فيها في البحر يزيد بن شجرة، وفي البر عياض بن الحارث، واعتمر معاوية فيها في رجب، وحج بالناس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
ذكر البيعة ليزيد بولاية العهدوفي هذه السنة بايع الناس يزيد بن معاوية بولاية عهد أبيه.
وكان ابتداء ذلك وأوله من المغيرة بن شعبة، فإن معاوية أراد أن يعزله عن الكوفة ويستعمل عوضه سعيد بن العاص، فبلغه ذلك فقال: الرأي أن أشخص إلى معاوية فأستعفيه ليظهر للناس كراهتي للولاية. فسار إلى معاوية وقال لأصحابه حين وصل إليه: إن لم أكسبكم الآن ولاية وإمارة لا أفعل ذلك أبداً. ومضى حتى دخل على يزيد وقال له: إنه قد ذهب أعيان أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وآله وكبراء قريش وذوو أسنانهم، وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأياً وأعلمهم بالسنة والسياسة، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة. قال: أوترى ذلك يتم؟ قال: نعم.
فدخل يزيد على أبيه وأخبره بما قال المغيرة، فأحضر المغيرة وقال له ما يقول يزيد، فقال: يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان، وفي يزيد منك خلف، فاعقد له فإن حدث بك حادثٌ كان كهفاً للناس وخلفاً منك ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة. قال: ومن لي بهذا؟ قال: أكفيك أهل الكوفة ويكفيك زيادٌ أهل البصرة وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. قال: فارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق إليه في ذلك وترى ونرى. فودعه ورجع إلى أصحابه. فقالوا: مه؟ قال: لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمه محمد وفتقت عليهم فتقاً لا يرتق أبداً؛ وتمثل:
بمثلي شاهدي النجوى وغالي ... بي الأعداء والخصم الغضابا
وسار المغيرة حتى قدم الكوفة وذاكر من يثق إليه ومن يعلم أنه شيعة لبني أمية أمر يزيد، فأجابوا إلى بيعته، فأوفد منهم عشرة، ويقال أكثر من عشرة، وأعطاهم ثلاثين ألف درهم، وجعل عليهم ابنه موسى بن المغيرة، وقدموا على معاوية فزينوا له بيعة يزيد ودعوه إلى عقدها. فقال معاوية: لا تعجلوا بإظهار هذا وكونوا على رأيكم. ثم قال لموسى: بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال: بثلاثين ألفاً. قال: لقد هان عليهم دينهم.
وقيل: أرسل أربعين رجلاً وجعل عليهم ابنه عروة، فلما دخلوا على معاوية قاموا خطباء فقالوا: إنما أشخصهم إليه النظر لأمة محمد، صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا أمير المؤمنين كبرت سنك وخفنا انتشار الحبل فانصب لنا علماً وحد لنا حداً ننتهي إليه. فقال: أشيروا علي. فقالوا: نشير بيزيد ابن أمير المؤمنين. فقال: أوقد رضيتموه؟ قالوا: نعم. قال: وذلك رأيكم؟ قالوا: نعم، ورأي من وراءنا. فقال معاوية لعروة سراً عنهم. بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال: بأربعمائة دينار. قال: لقد وجد دينهم عندهم رخيصاً. وقال لهم: ننظر ما قدمتم له ويقضي الله ما أراد، والأناة خير من العجلة. فرجعوا.
وقوي عزم معاوية على البيعة ليزيد، فأرسل إلى زياد يستشيره، فأحضر زياد عبيد بن كعب النميري وقال له: إن لكل مستشير ثقة، ولكل سر مستودع، وإن الناس قد أبدع بهم خصلتان: إذاعة السر وإخراج النصيحة إلى غير أهلها، وليس موضع السر إلا أحد رجلين: رجل آخرة يرجو ثوابها، ورجل دنيا له شرف في نفسه وعقل يصون حسبه، وقد خبرتهما منك، وقد دعوتك لأمرٍ اتهمت عليه بطون الصحف، إن أمير المؤمنين كتب يستشيرني في كذا وكذا، وإنه يتخوف نفرة الناس ويرجو طاعتهم، وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد، فالق أمير المؤمنين وأد إليه فعلات يزيد وقل له رويدك بالأمر، فأحرى أن يتم لك ما تريد، لا تعجل فإن دركاً في تأخير خيرٌ من فوت في عجلة.
فقال له عبيد: أفلا غير هذا؟ قال: وما هو؟ قال: لا تفسد على معاوية رأيه، ولا تبغض إليه ابنه، وألقى أنا يزيد فأخبره أن أمير المؤمنين كتب إليك يستبشرك في البيعة له، وأنك تتخوف خلاف الناس عليه لهنات ينقمونها عليه، وأنك ترى له ما ينقم عليه لتستحكم له الحجة على الناس ويتم ما تريد فتكون قد نصحت أمير المؤمنين وسلمت مما تخاف من أمر الأمة. فقال زياد: لقد رميت الأمر بحجره، اشخص على بركة الله، فإن أصبت فما لا ينكر، وإن يكن خطأ فغير مستغش، وتقول بما ترى، ويقضي الله بغيب ما يعلم.
فقدم على يزيد فذكر ذلك له، فكف عن كثير مما كان يصنع، وكتب زياد معه إلى معاوية يشير بالتؤدة وأن لا يعجل، فقبل منه.
فلما مات زياد عزم معاوية على البيعة لابنه يزيد، فأرسل إلى عبد الله بن عمر مائة ألف درهم، فقبلها، فلما ذكر البيعة ليزيد قال ابن عمر: هذا أراد أن ديني عندي إذن لرخيص. وامتنع.
ثم كتب معاوية بعد ذلك إلى مروان بن الحكم: إني قد كبرت سني، ودق عظمي، وخشيت الاختلاف على الأمة بعدي، وقد رأيت أن أتخير لهم من يقوم بعدي، وكرهت أن أقطع أمراً دون مشورة من عندك، فاعرض ذلك عليهم وأعلمني بالذي يردون عليك. فقام مروان في الناس فأخبرهم به، فقال الناس: أصاب ووفق، وقد أحببنا أن يتخير لنا فلا يألو.
فكتب مروان إلى معاوية بذلك، فأعاد إليه الجواب يذكر يزيد، فقام مروان فيهم وقال: إن أمير المؤمنين قد اختار لكم فلم يأل، وقد استخلف ابنه يزيد بعده.
فقام عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: كذبت والله يا مروان وكذب معاوية! ما الخيار أردتما لأمة محمد، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل. فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه: (والذي قال لوالديه أفٍ لكما) الأحقاف: 17 الآية.
فسمعت عائشة مقالته فقامت من وراء الحجاب وقالت: يا مروان يا مروان! فأنصت الناس وأقبل مروان بوجهه. فقالت: أنت القائل لعبد الرحمن إنه نزل فيه القرآن؟ كذبت! والله ما هو به ولكنه فلان بن فلان، ولكنك أنت فضضٌ من لعنة نبي الله.
وقام الحسين بن علي فأنكر ذلك، وفعل مثله ابن عمر وابن الزبير، فكتب مروان بذلك إلى معاوية، وكان معاوية قد كتب إلى عماله بتقريظ يزيد ووصفه وأن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار، فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو ابن حزم من المدينة، والأحنف بن قيس في وفد أهل البصرة، فقال محمد بن عمرو لمعاوية: إن كل راعٍ مسؤول عن رعيته، فانظر من تولي أمر أمة محمد. فأخذ معاوية بهرٌ حتى جعل يتنفس في يوم شاتٍ ثم وصله وصرفه، وأمر الأحنف أن يدخل على يزيد، فدخل عليه، فلما خرج من عنده قال له: كيف رأيت ابن أخيك؟ قال: رأيت شباباً ونشاطاً وجلداً ومزاحاً.
ثم إن معاوية قال للضحاك بن قيس الفهري، لما اجتمع الوفود عنده: إني متكلم فإذا سكت فكن أنت الذي تدعو إلى بيعة يزيد وتحثني عليها. فلما جلس معاوية للناس تكلم فعظم أمر الإسلام وحرمة الخلافة وحقها وما أمر الله به من طاعة ولاة الأمر، ثم ذكر يزيد وفضله وعلمه بالسياسة وعرض ببيعته، فعارضه الضحاك فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أمير المؤمنين إنه لابد للناس من والٍ بعدك، وقد بلونا الجماعة والألفة فوجدناهما أحقن للدماء، وأصلح للدهماء، وآمن للسبل، وخيراً في العاقبة، والأيام عوج رواجع، والله كل يوم في شأن، ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن هديه وقصد سيرته على ما علمت، وهو من أفضلنا علماً وحلماً، وأبعدنا رأياً، فوله عهدك واجعله لنا علماً بعدك ومفزعاً نلجأ إليه ونسكن في ظله.
وتكلم عمرو بن سعيد الأشدق بنحو من ذلك. ثم قام يزيد بن المقنع العذري فقال: هذا أمير المؤمنين، وأشار إلى معاوية، فإن هلك فهذا، وأشار إلى يزيد، ومن أبى فهذا، وأشار إلى سيفه. فقال معاوية: اجلس فأنت سيد الخطباء. وتكلم من حضر من الوفود.
فقال معاوية للأحنف: ما تقول يا أبا بحر؟ فقال: نخافكم إن صدقنا، ونخاف الله إن كذبنا، وأنت يا أمير المؤمنين أعلم بيزيد في ليله ونهاره وسره وعلانيته ومدخله ومخرجه، فإن كنت تعلمه لله تعالى وللأمة رضى فلا تشاور فيه، وإن كنت تعلم فيه غير ذلك فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة، وإنما علينا أن نقول سمعنا وأطعنا. وقام رجل من أهل الشام فقال: ما ندري ما تقول هذه المعدية العراقية وإنما عندنا سمع وطاعة وضرب وازدلاف.
فتفرق الناس يحكون قول الأحنف، وكان معاوية يعطي المقارب ويداري المباعد ويلطف به حتى استوثق له أكثر الناس وبايعه. فلما بايعه أهل العراق والشام سار إلى الحجاز في ألف فارس، فلما دنا من المدينة لقيه الحسين بن علي أول الناس، فلما نظر إليه قال: لا مرحباً ولا أهلاً! بدنة يترقرق دمها والله مهريقه! قال: مهلاً فإني والله لست بأهل لهذه المقالة! قال: بلى ولشر منها. ولقيه ابن الزبير فقال: لا مرحباً ولا أهلاً! خب ضب تلعة، يدخل رأسه ويضرب بذنبه ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه ويدق ظهره، نحياه عني، فضرب وجه راحلته. ثم لقيه عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال له معاوية: لا أهلاً ولا مرحباً! شيخ قد خرف وذهب عقله؛ ثم أمر فضرب وجه راحلته، ثم فعل بابن عمر نحو ذلك، فأقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتى دخل المدينة، فحضروا بابه، فلم يؤذن لهم على منازلهم ولم يروا منه ما يحبون، فخرجوا إلى مكة فأقاموا بها، وخطب معاوية بالمدينة فذكر يزيد فمدحه وقال: من أحق منه بالخلافة في فضله وعقله وموضعه؟ وما أظن قوماً بمنتهين حتى تصيبهم بواثق تجتث أصولهم، وقد أنذرت إن أغنت النذر؛ ثم أنشد متمثلاً:
قد كنت حذرتك آل المصطلق ... وقلت يا عمرو أطعني وانطلق
إنك إن كلفتني ما لم أطق ... ساءك ما سرك مني من خلق
دونك ما استسقيته فاحس وذق
ثم دخل على عائشة، وقد بلغها أنه ذكر الحسين وأصحابه، فقال: لأقتلنهم إن لم يبايعوا، فشكاهم إليها، فوعظته وقالت له: بلغني أنك تتهددهم بالقتل، فقال: يا أم المؤمنين هم أعز من ذلك ولكني بايعت ليزيد وبايعه غيرهم، أفترين أن أنقض بيعة قد تمت؟ قالت: فارفق بهم فإنهم يصيرون إلى ما تحب إن شاء الله. قال: أفعل. وكان في قولها له: ما يؤمنك أن أقعد لك رجلاً يقتلك، وقد فعلت بأخي ما فعلت؟ تعني أخاها محمداً. فقال لها: كلا يا أم المؤمنين، إني في بيت أمن. قالت: أجل.
ومكث بالمدينة ما شاء الله ثم خرج إلى مكة فلقيه الناس، فقال أولئك النفر: نتلقاه فلعله قد ندم على ما كان منه، فلقوه ببطن مر، فكان أول من لقيه الحسين، فقال له معاوية: مرحباً وأهلاً يا ابن رسول الله وسيد شباب المسلمين! فأمر له بدابة فركب وسايره، ثم فعل بالباقين مثل ذلك وأقبل يسايرهم لا يسير معه غيرهم حتى دخل مكة، فكانوا أول داخل وآخر خارج، ولا يمضي يوم إلا ولهم صلة ولا يذكر لهم شيئاً، حتى قضى نسكه وحمل أثقاله وقرب مسيره، فقال بعض أولئك النفر لبعض: لا تخدعوا فما صنع بكم هذا لحبكم وما صنعه إلا لما يريد. فأعدوا له جواباً فاتفقوا على أن يكون المخاطب له ابن الزبير.
فأحضرهم معاوية وقال: قد علمتم سيرتي فيكم وصلتي لأرحامكم وحملي ما كان منكم، ويزيد أخوكم وابن عمكم وأردت أن تقدموه باسم الخلافة وتكونوا أنتم تعزلون وتؤمرون وتجبون المال وتقسمونه لا يعارضكم في شيء من ذلك.. فسكتوا. فقال: ألا تجيبون؟ مرتين.
ثم أقبل علي بن الزبير، فقال: هات لعمري إنك خطيبهم. فقال: نعم، نخيرك بين ثلاث خصال. قال: اعرضهن. قال: تصنع كما صنع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو كما صنع أبو بكر أو كما صنع عمر. قال معاوية: ما صنعوا؟ قال: قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم يستخلف أحداً فارتضى الناس أبا بكر. قال: ليس فيكم مثل أبي بكر وأخاف الاختلاف. قالوا: صدقت فاصنع كما صنع أبو بكر فإنه عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه، وإن شئت فاصنع كما صنع عمر، جعل الأمر شورى في ستة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه. قال معاوية: هل عندك غير هذا؟ قال: لا. ثم قال: فأنتم؟ قالوا: قولنا قوله. قال: فإني قد أحببت أن أتقدم إليكم، إنه قد أعذر من أنذر، إني كنت أخطب فيكم فيقوم إلي القائم منكم فيكذبني على رؤوس الناس فأحمل ذلك وأصفح. وإني قائم بمقالة فأقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يبقين رجل إلا على نفسه.
ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف، فإن ذهب رجل منهم يرد علي كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما. ثم خرج وخرجوا معه حتى رقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم لا يبتز أمر دونهم ولا يقضى إلا عن مشورتهم، وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا على اسم الله! فبايع الناس، وكانوا يتربصون بيعة هؤلاء النفر، ثم ركب رواحله وانصرف إلى المدينة، فلقي الناس أولئك النفر فقالوا لهم: زعمتم أنكم لا تبايعون فلم أرضيتم وأعطيتم وبايعتم؟ قالوا: والله ما فعلنا. فقالوا: ما منعكم أن تردوا على الرجل؟ قالوا: كادنا وخفنا القتل.
وبايعه أهل المدينة، ثم انصرف إلى الشام وجفا بني هاشم، فأتاه ابن عباس فقال له: ما بالك جفوتنا؟ قال: إن صاحبكم لم يبايع ليزيد فلم تنكروا ذلك عليه. فقال: يا معاوية إني لخليق أن أنحاز إلى بعض السواحل فأقيم به ثم أنطق بما تعلم حتى أدع الناس كلهم خوارج عليك. قال: يا أبا العباس تعطون وترضون وترادون.
وقيل: إن ابن عمر قال لمعاوية: أبايعك على أني أدخل فيما تجتمع عليه الأمة، فوالله لو اجتمعت على حبشي لدخلت معها! ثم عاد إلى منزله فأغلق بابه ولم يأذن لأحد.
قلت: ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر لا يستقيم على قول من يجعل وفاته سنة ثلاث وخمسين، وإنما يصح على قول من يجعلها بعد ذلك الوقت.
ذكر عزل ابن زياد عن خراسان
واستعمال سعيد بن عثمان بن عفانفي هذه السنة استعمل معاوية سعيد بن عثمان بن عفان على خراسان وعزل ابن زياد.
وسبب ذلك أنه سأل معاوية أن يستعمله على خراسان، فقال: إن بها عبيد الله بن زياد. فقال: والله لقد اصطنعك أبي حتى بلغت باصطناعة المدى الذي لا تجارى إليه ولا تسامى، فما شكرت بلاءه ولا جازيته وقدمت هذا - يعني يزيد - وبايعت له، والله لأنا خير منه أباً وأماً ونفساً! فقال معاوية: أما بلاء أبيك فقد يحق عليك الجزاء به، وقد كان من شكري لذلك أني قد طلبت بدمه، وأما فضل أبيك على أبيه فهو والله خير مني، وأما فضل أمك على أمه فلعمري امرأة من قريش خير من امرأة من كلب، وأما فضلك عليه فوالله ما أحب أن الغوطة ملئت رجالاً مثلك. فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين ابن عمك وأنت أحق من نظر في أمره، قد عتب عليك فأعتبه.
فولاه حرب خراسان، وولى إسحاق بن طلحة خراجها، وكان إسحاق ابن خالة معاوية، أمه أم أبان بنت عتبة بن ربيعة، فلما صار بالري مات إسحاق فولي سعيد حربها وخراجها، فلما قدم خراسان قطع النهر إلى سمرقند، فخرج إليه الصغد فتواقفوا يوماً إلى الليل ولم يقتتلوا، فقال مالك بن الريب:
ما زلت يوم الصغد ترعد واقفاً ... من الجبن حتى خفت أن تنتصرا
فلما كان من الغد اقتتلوا فهزمهم سعيد وحصرهم في مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهناً منهم خمسين غلاماً من أبناء عظمائهم، فسار إلى ترمذ ففتحها صلحاً ولم يف لأهل سمرقند وجاء بالغلمان معه إلى المدينة. وكان ممن قتل معه قثم بن عباس بن عبد المطلب.
وفي هذه السنة ماتت جويرية بنت الحارث زوج النبي، صلى الله عليه وسلم.
ثم دخلت سنة سبع وخمسينفيها كان مشتى عبد الله بن قيس بأرض الروم.
وفيها عزل مروان بن الحكم عن المدينة، واستعمل عليها الوليد بن عتبة ابن أبي سفيان، وقيل: لم يعزل مروان هذه السنة. وحج بالناس الوليد بن عتبة. وكان العامل على الكوفة الضحاك بن قيس، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان سعيد بن عثمان. وفي هذه السنة مات عبد الله بن عامر، وقيل: سنة تسع وخمسين. وعبد الله بن قدامة السعدي، وله صحبة، وقيل: هو عبد الله بن عمرو بن وقدان السعدي، وإنما قيل له السعدي لأن أباه استرضع في بني سعدي بن بكر، وهو من بني عامر بن لؤي. وعثمان بن شيبة بن أبي طلحة العبدري، وهو جد بني شيبة سدنة الكعبة ومفتاحها معهم إلى الآن، وأسلم يوم الفتح، وقيل يوم حنين، وجبير بن مطعم بن نوفل القرشي، له صحبة. وأم سلمة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، وقيل: بقيت إلى قتل الحسين.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسينفي هذه السنة غزا مالك بن عبد الله الخثعمي أرض الروم وعمرو بن يزيد الجهني في البحر، وقيل: جنادة بن أبي أمية.
ذكر عزل الضحاك عن الكوفة
واستعمال ابن أم الحكموفي هذه السنة عزل معاوي الضحاك بن قيس عن الكوفة واستعمل عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي، وهو ابن أم الحكم، وهو ابن أخت معاوية.
وفي عمله هذه السنة خرجت الخوارج الذين كان المغيرة بن شعبة حبسهم فجمعهم حيان بن ظبيان السلمي ومعاذ بن جوين الطائي فخطباهم وحثاهم على الجهاد، فبايعوا حيان بن ظبيان وخرجوا إلى بانقيا، فسار إليهم الجيش من الكوفة فقتلوهم جميعاً.
ثم إن عبد الرحمن بن أم الحكم طرده أهل الكوفة لسوء سيرته، فلحق بخاله معاوية فولاه مصر، فاستقبله معاوية بن حديج على مرحلتين من مصر، فقال له: ارجع إلى خالك، فلعمري لا تسير فينا سيرتك في إخواننا من أهل الكوفة! فرجع إلى معاوية.
ثم إن معاوية بن حديج وفد إلى معاوية، وكان إذا قدم إلى معاوية زينت له الطرق بقباب الريحان تعظيماً لشأنه، فدخل على معاوية وعنده أخته أم الحكم، فقالت: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: بخ بخ! هذا معاوية بن حديج. قالت: لا مرحباً، تسمع بالمعيدي خير من أن تراه! فسمعها معاوية بن حديج فقال: على رسلك يا أم الحكم، والله لقد تزوجت فما أكرمت، وولدت فما أنجبت، أردت أن يلي ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار في إخواننا من أهل الكوفة وما كان الله ليريه ذلك، ولو فعل ذلك لضربناه ضرباً يطأطىء منه، ولو كره هذا القاعد، يعني خاله معاوية. فالتفت إليها معاوية وقال: كفي، فكفت.
ذكر خروج طواف بن غلاقٍ
كان قوم من الخوارج بالبصرة يجتمعون إلى رجل اسمه جدار فيتحدثون عنده ويعيبون السلطان، فأخذهم ابن زياد فحبسهم ثم دعا بهم وعرض عليهم أن يقتل بعضهم بعضاً ويخلي سبيل القاتلين، ففعلوا، فأطلقهم، وكان ممن قتل طواف، فعذلهم أصحابهم وقالوا: قتلتم إخوانكم! قالوا: أكرهنا وقد يكره الرجل على الكفر وهو مطمئن بالإيمان.
وندم طوافٌ وأصحابه، فقال طواف: أما من توبة؟ فكانوا يبكون، وعرضوا على أولياء من قتلوا الدية فأبوا، وعرضوا عليهم القود فأبوا، ولقي طوافٌ الهثهاث بن ثور السدوسي فقال له: أما ترى لنا من توبة؟ فقال: ما أجد لك إلا آية في كتاب الله، عز وجل، قوله: (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفورٌ رحيمٌ) النحل:110. فدعا طواف أصحابه إلى الخروج وإلى أن يفتكوا بابن زياد، فبايعوه في سنة ثمان وخمسين، وكانوا سبعين رجلاً من بني عبد القيس بالبصرة، فسعى بهم رجلٌ من أصحابهم إلى ابن زياد، فبلغ ذلك طوافاً فعجل الخروج، فخرجوا من ليلتهم فقتلوا رجلاً ومضوا إلى الجلحاء، فندب ابن زياد الشرط البخارية، فقاتلوهم، فانهزم الشرط حتى دخلوا البصرة واتبعوهم، وذلك يوم عيد الفطر، وكثرهم الناس فقاتلوا فقتلوا، وبقي طواف في ستة نفر، وعطش فرسه فأقحمه الماء، فرماه البخارية بالنشاب حتى قتلوه وصلبوه، ثم دفنه أهله؛ فقال شاعر منهم:
يا رب هب لي التقى والصدق في ثبتٍ ... واكف المهم فأنت الرزاق الكافي
حتى أبيع التي تفنى بآخرةٍ ... تبقى على دين مرداسٍ وطواف
وكهمس وأبي الشعثاء إذ نفروا ... إلى الإله ذوي اخباب زحاف
ذكر قتل عروة بن أدية وغيره من الخوارجفي هذه السنة اشتد عبيد الله بن زياد على الخوارج فقتل منهم جماعةً كثيرة، منهم: عروة بن أدية أخو أبي بلال مرداس بن أدية، وأدية أمهما، وأبوهما حدير، وهو تميمي.
وكان سبب قتله أن ابن زياد كان قد خرج في رهان له، فلما جلس ينتظر الخيل اجتمع إليه الناس وفيهم عروة، فأقبل على ابن زياد يعظه، وكان مما قال له: (أتبنون بكل ريعٍ آيةً تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين) الشعراء: 128 - 130. فلما قال ذلك ظن ابن زياد أنه لم يقل ذلك إلا ومعه جماعة، فقام وركب وترك رهانه. فقيل لعروة: ليقتلنك! فاختفى، فطلبه ابن زياد فهرب وأتى الكوفة، فأخذ وقدم به على ابن زياد، فقطع يديه ورجليه وقتله، وقتل ابنته.
وأما أخوه أبو بلال مرداس فكان عابداً مجتهداً عظيم القدر في الخوارج، وشهد صفين مع علي فأنكر التحكيم، وشهد النهروان مع الخوارج، وكانت الخوارج كلها تتولاه، ورأى على ابن عامر قباء أنكره فقال: هذا لباس الفساق! فقال أبو بكرة: لا تقل هذا للسلطان فإن من أبغض السلطان أبغضه الله. وكان لا يدين بالاستعراض، ويحرم خروج النساء، ويقول: لا نقاتل إلا من قاتلنا ولا نجبي إلا من حمينا.
وكانت البثجاء، امرأة من بني يربوع، تحرض على ابن زياد وتذكر تجبره وسوء سيرته، وكانت من المجتهدات، فذكرها ابن زياد، فقال لها أبو بلال: إن التقية لابأس بها فتغيبي فإن هذا الجبار قد ذكرك. قالت: أخشى أن يلقى أحدٌ بسبي مكروهاً. فأخذها ابن زياد فقطع يديها ورجليها، فمر بها أبو بلال في السوق فعض على لحيته وقال: أهذه أطيب نفساً بالموت منك يا مرداس؟ ما ميتةٌ أموتها أحب إلي من ميتة البثجاء! ومر أبو بلال ببعير قد طلي بقطران فغشي عليه ثم أفاق فتلا: (سرابيلهم من قطرانٍ وتغشى وجوههم النار) إبراهيم: 50.
ثم إن ابن زياد ألح في طلب الخوراج فملأ منهم السجن وأخذ الناس بسببهم وحبس أبا بلال قبل أن يقتل أخاه عروة، فرأى السجان عبادته فأذن له كل ليلة في إتيان أهله، فكان يأتيهم ليلاً ويعود مع الصبح، وكان صديق مرداس إليه فأعلمه الخبر، وبات السجان بليلة سوء خوفاً أن يعلم مرداس فلا يرجع، فلما كان الوقت الذي كان يعود فيه إذا به قد أتى، فقال له السجان: أما بلغك ما عزم عليك الأمير؟ قال: بلى. قال: ثم جئت؟ قال: نعم، لم يكن جزاؤك مني مع إحسانك إلي أن تعاقب. وأصبح عبيد الله فقتل الخوارج، فلما أحضر مرداس قام السجان، وكان ظئراً لعبيد الله، فشفع فيه وقص عليه قصته، فوهبه له وخلى سبيله.
ثم أنه خاف ابن زياد فخرج في أربعين رجلاً إلى الأهواز، فكان إذا اجتاز به مالٌ لبيت المال أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ثم يرد الباقي، فلما سمع ابن زياد برهم بعث إليهم جيشاً عليهم أسلم بن زرعة الكلابي سنة ستين، وقيل: أبو حصين التميمي، وكان الجيش ألفي رجل، فلما وصلوا إلى أبي بلال ناشدهم الله أن يقاتلوه فلم يفعلوا، ودعاهم أسلم إلى معاودة الجماعة، فقالوا: أتردوننا إلى ابن زياد الفاسق؟ فرمى أصحاب أسلم رجلاً من أصحاب أبي بلال فقتلوه، فقال أبو بلال: قد بدؤوكم بالقتال. فشد الخوارج على أسلم وأصحابه شدة رجل واحد فهزموهم فقدموا البصرة، فلام ابن زياد أسلم وقال: هزمك أربعون وأنت في ألفين، لا خير فيك! فقال: لأن تلومني وأنا حي خير من أن تثني علي وأنا ميتٌ. فكان الصبيان إذا رأوا أسلم صاحوا به: أما أبو بلال وراءك! فشكا ذلك إلى ابن زياد، فنهاهم فانتهوا.
وقال رجل من الخوارج:
أألفا مؤمنٍ منكم زعمتم ... ويقتلهم بآسك أربعونا
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم ... ولكن الخوارج مؤمنونا
ذكر عدة حوادثوحج بالناس الوليد بن عتبة. في هذه السنة مات عقبة بن عامر الجهني، وله صحبة، وشهد صفين مع معاوية. وفيها توفيت عائشة، رضي الله عنها، وسمرة بن جندب، له صحبة. ومالك بن عبادة الغافقي، وله صحبة. وعميرة بن يثربي قاضي البصرة، واستقضي مكانه هشام بن هبيرة.
ثم دخلت سنة تسع وخمسينفي هذه السنة كان مشتى عمرو بن مرة الجهني بأرض الروم البر، وغزا في البحر جندة بن أبي أمية، وقيل: لم يكن في البحر غزوة هذه السنة. وفي هذه السنة عزل عبد الرحمن بن أم الحكم عن الكوفة واستعمل عليها النعمان بن بشير الأنصاري، وقد تقدم سبب عزله، وقيل: كان عزله سنة ثمان وخمسين.
ذكر ولاية عبد الرحمن بن زياد خراسانوفيها استعمل معاوية عبد الرحمن بن زياد على خراسان، وقدم بين يديه قيس بن الهيثم السلمي، وأخذ أسلم بن زرعة فحبسه وأخذ منه ثلاثمائة ألف درهم، ثم قدم عبد الرحمن، وكان كريماً حريصاً ضعيفاً لم يغز غزوةً واحدة، وبقي بخراسان إلى أن قتل الحسين، فقدم على يزيد ومعه عشرون ألف ألف درهم، فقال: إن شئت حاسبناك وأخذنا ما معك ورددناك إلى عملك، وإن شئت أعطيناك ما معك وعزلناك وتعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم. قال: بل تعطيني ما معي وتعزلني. ففعل فأرسل عبد الرحمن إلى ابن جعفر بألف ألف وقال: هذه خمسمائة ألف من يزيد وخمسمائة ألف مني.
ذكر عزل ابن زياد عن البصرة وعوده إليهافي هذه السنة عزل معاوية عبيد الله بن زياد عن البصرة وأعاده إليها.
وسبب ذلك أن ابن زياد وفد على معاوية في وجوه أهل البصرة وفيهم الأحنف، وكان سيء المنزلة من عبيد الله، فلما دخلوا رحب معاوية بالأحنف وأجلسه معه على سريره، فأحس القوم الثناء على ابن زياد والأحنف ساكت، فقال له معاوية: ما لك يا أبا بحر لا تتكلم؟ فقال: إن تكلمت خالفت القوم. فقال معاوية: انهضوا فقد عزلته عنكم واطلبوا والياً ترضونه؛ فلم يبق أحد إلا أتى رجلاً من بني أمية أو من أهل الشام والأحنف لم يبرح من منزله فلم يأت أحداً، فلبثوا أياماً، ثم جمعهم معاوية وقال لهم: من اخترتم؟ فاختلفت كلمتهم والأحنف ساكت، فقال: ما لك لا تتكلم؟ فقال: إن وليت علينا أحداً من أهل بيتك لم نعدل بعبيد الله أحداً، وإن وليت من غيرهم فانظر في ذلك. فرده معاوية عليهم وأوصاه بالأحنف وقبح رأيه في مباعدته، فما هاجت الفتنة لم يف له غير الأحنف.
ذكر هجاء يزيد بن مفرغ الحميري بني زياد وما كان منهكان يزيد بن مفرغ الحميري مع عباد بن زياد بسجستان، فاشتغل عنه بحرب الترك، فاستبطأه ابن مفرغ، وأصاب الجند الذين مع عباد ضيقٌ في علوفات دوابهم، فقال ابن مفرغ:
ألا ليت اللحى كانت حشيشاً ... فنعلفها دواب المسلمينا
وكان عباد بن زياد عظيم اللحية، فقيل: ما أراد غيرك. فطلب فهرب منه وهجاه بقصائد، وكان مما هجاه به قوله:
إذا أودى معاوية بن حربٍ ... فبشر شعب رحلك بانصداع
فأشهد أن أمك لم تباشر ... أبا سفيان واضعة القناع
ولكن كان أمراً فيه لبسٌ ... على وجلٍ شديدٍ وارتياع
وقال أيضاً:
ألا أبلغ معاوية بن حربٍ ... مغلغلةً من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عفٌّ ... وترضى أن يقال أبوك زان
فأشهد أن رحمك من زيادٍ ... كرحم الفيل من ولد الأتان
وقدم يزيد بن مفرغ البصرة وعبيد الله بن زياد بالشام عند معاوية، فكتب إليه أخوه عباد بما كان منه، فأعلم عبيد الله معاوية به وأنشده الشعر واستأذنه في قتل ابن مفرغ، فلم يأذن له وأمره بتأديبه.
ولما قدم ابن مفرغ البصرة استجا بالأحنف وغيره من الرؤساء فلم يجره أحد، فاستجار بالمنذر بن الجارود فأجاره وأدخله داره، وكانت ابنته عند عبيد الله بن زياد، فلما قدم عبيد الله البصرة أخبر بمكان ابن مفرغ، وأتى المنذر عبيد الله مسلماً، فأرسل عبيد الله الشرط إلى دار المنذر فأخذوا ابن مفرغ وأتوه به والمنذر عنده، فقال له المنذر: أيها الأمير إي قد أجرته! فقال: يا منذر يمدحك وأباك ويهجوني وأبي وتجبره علي! ثم أمر به فسقي دواء ثم حمل على حمار وطيف به وهو يسلح في ثيابه، فقال يهجو المنذر:
تركت قريشاً أن أجاور فيهم ... وجاورت عبد القيس أهل المشقر
أناسٌ أجارونا فكان جوارهم ... أعاصير من فسو العراق المبذر
فأصبح جاري من جذيمة نائماً ... ولا يمنع الجيران غير المشمر
فقال لعبيد الله:
يغسل الماء ما صنعت وقولي ... راسخٌ منك في العظام البوالي
ثم سيره عبد الله إلى أخيه عباد بسجستان، فكلمت اليمانية بالشام معاوية فيه، فأرسل إلى عباد فأخذه من عنده، فقدم على معاوية وقال في طريقه:
عدس ما لعبادٍ عليك إمارةٌ ... أمنت وهذا تحملين طليق
لعمري لقد نجاك من هوة الردى ... إمامٌ وحبلٌ للإمام وثيق
سأشكر ما أوليت من حسن نعمةٍ ... ومثلي بشكر المنعمين حقيق
فلما دخل على معاوية بكى وقال: ركب مني ما لم يرتكب من مسلم مثله على غير حدث، قال: أولست القائل:
ألا أبلغ معاوية بن حربٍ
القصيدة؟ فقال: لا والله الذي عظم حق أمير المؤمنين ما قلت هذا، وإنما قاله عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان واتخذني ذريعة إلى هجاء زياد. قال: ألست القائل:
فأشهد أن أمك لم تباشر ... أبا سفيان واضعة القناع
في أشعار كثيرة هجوت بها ابن زياد؟ اذهب فقد عفونا عنك فانزل أي أرض الله شئت. فنزل الموصل وتزوج بها. فلما كان ليلة بنائه بامرأته خرج حين أصبح إلى الصيد فلقي إنساناً على حمار. فقال: من أين أقبلت؟ فقال: من الأهواز. قال: فما فعل ماء مسرقان؟ قال: على حاله. فارتاح إلى البصرة فقدمها ودخل على عبيد الله فآمنه.
وغضب معاوية على عبد الرحمن بن الحكم فكلم فيه فقال: لا أرضى عنه حتى يرضى عنه ابن زياد. فقدم البصرة على عبيد الله وقال له:
لأنت زيادةٌ في آل حربٍ ... أحب إلي من إحدى بناتي
أراك أخاً وعماً وابن عمٍ ... فلا أدري بغيبٍ ما تراني
فقال: أراك شاعر سوء! ورضي عنه.
ذكر عدة حوادثحج بالناس هذه السنة عثمان بن محمد بن أبي سفيان.
وكان الوالي على الكوفة النعمان بن بشير، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى المدينة الوليد بن عتبة، وعلى خراسان عبد الرحمن بن زياد، على سجستان عباد بن زياد، وعلى كرمان شريك بن الأعور.
وفيها مات قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري بالمدينة، وقيل: سنة ستين، وكان قد شهد مع علي مشاهده كلها. وفيها مات سعيد بن العاص، وولد عام الهجرة، وقتل أبوه يوم بدر كافراً. وفيها مات مرة بن كعب البهري السلمي، وله صحبة. وفيها مات أبو محذورة الجمحي مؤذن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة، ولم يزل يؤذن بها حتى مات وولده من بعده، وقيل: مات سنة تسع وستين. وفيها مات عبد الله بن عامر بن كريز بمكة فدفن بعرفات. وفيها مات أبو هريرة، فحمل جنازته ولد عثمان بن عفان لهواه كان في عثمان.
وفيها غزا المسلمون حصن كمخ ومعهم عمير بن الحباب السلمي، فصعد عمير السور ولم يزل يقاتل عليه وحده حتى كشف الروم فصعد المسلمون، ففتحه بعمير، وبذلك كان يفتخر ويفخر له بذلك.
ثم دخلت سنة ستين
في هذه السنة كانت غزوة مالك بن عبد الله سورية ودخول جنادة رودس وهدمه مدينتها في قول بعضهم وفيها توفي معاوية بن أبي سفيان، وكان قد أخذ على وفد أهل البصرة البيعة ليزيد.
ذكر وفاة معاوية بن أبي سفيانخطب معاوية قبل مرضه وقال: إني كزرع مستحصد وقد طالت إمرتي عليكم حتى مللتكم ومللتموني وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي، ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه، كما أن من قبلي كان خيراً مني، وقد قيل: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي وبارك لي فيه! فلم يمض غير قليل حتى ابتدأ به مرضه، فلما مرض المرض الذي مات فيه دعا ابنه يزيد فقال: يا بني إني قد كفيتك الشد والترحال، ووطأت لك الأمور، وذللت لك الأعداء، وأخضعت لك رقاب العرب، وجمعت لك ما لم يجمعه أحد، فانظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، وأكرم من قدم عليك منهم، وتعاهد من غاب، وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أيسر من أن يشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن رابك من عدوك شيء فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم تغيرت أخلاقهم؛ وإني لست أخاف عليك أن ينازعك في هذا الأمر إلا أربعة نفر من قريش: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر؛ فأما ابن عمر فإنه رجل قد وقذته العبادة، فإذا لم يبق أحد غيره بايعك؛ وأما الحسين بن علي فهو رجل خفيف ولن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه، فإن خرج وظفرت به فاصفح عنه، فإن له رحماً ماسة وحقاً عظيماً وقرابة من محمد صلى الله عليه وسلم، وأما ابن أبي بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله، ليس له همة إلا في النساء واللهو، وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإن أمكنته فرصةٌ وثب فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فظفرت به فقطعه إرباً إرباً؛ واحقن دماء قومك ما استطعت.
هكذا في الرواية ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر، وليس بصحيح؛ فإن عبد الرحمن بن أبي بكر كان قد مات قبل معاوية. وقيل: إن يزيد كان غائباً في مرض أبيه وموته، وإن معاوية أحضر الضحاك بن قيس ومسلم بن عقبة المري فأمرهما أن يؤديا عنه هذه الرسالة إلى يزيد ابنه، وهو الصحيح.
ثم مات بدمشق لهلال رجب، وقيل للنصف منه، وقيل لثمان بقين منه، وكان ملكه تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يوماً مذ اجتمع له الأمر وبايع له الحسن بن علي، وقيل كان ملكه تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر، وقيل وثلاثة أشهر إلا أياماً، وكان عمره خمساً وسبعين سنة، وقيل ثلاثاً وسبعين سنة. وقيل توفي وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وقيل خمس وثمانين.
وقيل: ولما اشتدت علته وأرجف به قال لأهله: احشوا عيني إثمداً وادهنوا رأسي. ففعلوا وبرقوا وجهه بالدهن ثم مهد له فجلس وأذن للناس، فسلموا قياماً ولم يجلس أحد، فلما خرجوا عنه قالوا: هو أصح الناس. فقال معاوية عند خروجهم من عنده:
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع
وكان به التفاتات، فمات من يومه فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كساني قميصاً فحفظته، وقلم أظفاره يوماً فأخذت قلامته فجعلتها في قارورة، فإذا مت فألبسوني ذلك القميص واسحقوا تلك القلامة وذروها في عيني وفمي فعسى الله أن يرحمني ببركتها؛ ثم تمثل بشعر الأشهب بن زميلة النهشلي:
إذا مت مات الجود وانقطع الندى ... من الناس إلا من قليلٍ مصرد
وردت أكف السائلين وأمسكوا ... من الدين والدنيا بخلفٍ مجدد
فقالت إحدى بناته: كلا يا أمير المؤمنين بل يدفع الله عنك. فقال متمثلاً بشعر الهذلي: وإذا المنية، البيت. وقال لأهله: اتقوا الله فإنه لا واقي لمن لا يتقي الله. ثم قضى وأوصى أن يرد نصف ماله إلى بيت المال، كأنه أراد أن يطيب له الباقي لأن عمر قاسم عماله؛ وأنشد لما حضرته الوفاة:
إن تناقش يكن نقاشك يا ر ... ب عذاباً لا طوق لي بالعذاب
أو تجاوز فأنت رب صفوحٌ ... عن مسيءٍ ذنوبه كالتراب
ولما اشتد مرضه أخذت ابنته رملة رأسه في حجرها وجعلت تفليه، فقال: إنك لتفلينه حولاً قلباً، جمع المال من شب إلى دب فليته لا يدخل النار! ثم تمثل:
لقد سعيت لكم من سعي ذي نصبٍ ... وقد كفيتكم التطواف والرحلا
وبلغه أن قوماً يفرحون بموته، فأنشد:
فهل من خالدٍ إن ما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عارٌ؟
وكان في مرضه ربما اختلط في بعض الأوقات، فقال مرة: كم بيننا وبين الغوطة؟ فصاحت بنته: واحزناه! فأفاق فقال: إن تنفي فقد رأيت منفراً.
فلما مات خرج الضحاك بن قيس حتى صعد المنبر وأكفان معاوية على يديه، فحمد الله وأثن عليه ثم قال: إن معاوية كان عود العرب وحد العرب وجد العرب، قطع الله به الفتنة وملكه على العباد وفتح به البلاد، إلا أنه قد مات وهذه أكفانه ونحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره ومخلون بينه وبين عمله ثم هو الهرج إلى يوم القيامة، فمن كان يريد أن يهده فعنده الأولى. وصلى عليه الضحاك.
وقيل: لما اشتد مرضه، أي مرض معاوية، كان ولده يزيد بحوارين، فكتبوا إليه يحثونه على المجيء ليدركه، فقال يزيد شعراً:
جاء البريد بقرطاسٍ يخب به ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا: لك الويل ماذا في كتابكم؟ ... قال: الخليفة أمسى مثبتاً وجعا
ثم انبعثنا إلى خوضٍ مزممةٍ ... نرمي الفجاج بها لا نأتلي سرعا
فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ... كأن أغبر من أركانها انقطعا
من لم تزل نفسه توفي على شرفٍ ... توشك مقاليد تلك النفس أن تقعا
لما انتهينا وباب الدار منصفقٌ ... وصوت رملة ريع القلب فانصدعا
ثم ارعوى القلب شيئاً بعد طيرته ... والنفس تعلم أن قد أثبتت جزعا
أودى ابن هندٍ وأودى المجد يتبعه ... كانا جميعاً فماتا قاطنين معا
أغر أبلج يستسقى الغمام به ... لو قارع الناس عن أحسابهم قرعا
فأقبل يزيد وقد دفن فأتى قبره فصلى عليه.
ذكر نسبه وكنيته وأزواجه وأولادهأما نسبه فهو: معاوية بن أبي سفيان، واسم أبي سفيان صخر بن حرب ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، وكنيته أبو عبد الرحمن.
وأما نساؤه وولده، فمنهن: ميسون بنت بحدل بن أنيف الكلبية أم يزيد ابنه، وقيل ولدت بنتاً اسمها أمة رب المشارق فماتت صغيرة، ومنهن فاختة ابنة قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف، فولدت له عبد الرحمن وعبد الله ابني معاوية، وكان عبد الله أحمق، اجتاز يوم بطحان وبغله يطحن وفي عنقه جلاجل فسأل عن الجلاجل فقال: جعلتها في عنقه لأعلم أن قد قام فلم تدر الرحا. فقال: أرأيت إن قام وحرك رأسه كيف تعلم؟ فقال الطحان: إن بغلي ليس له عقل مثل عقل الأمير. وأما عبد الرحمن فمات صغيراً. ومنهن نائلة ابنة عمارة الكلابية، تزوجها وقال لميسون: انظري إليها، فنظرت إليها وقالت: رأيتها جميلة، ولكني رأيت تحت سرتها خالاً، ليوضعن رأس زوجها في حجرها! فطلقها معاوية وتزوجها حبيب بن مسلمة الفهري، ثم خلف عليها بعده النعمان بن بشير، وقتل فوضع رأسه في حجرها. ومنهن كتوة بنت قرظة أخت فاختة، وغزا قبرس وهي معه فماتت هناك.
ذكر بعض سيرته وأخباره وقضاته وكتابهلما بويع معاوية بالخلافة استعمل على شرطته قيس بن حمزة الهمداني، ثم عزله واستعمل زمل بن عمرو العذري، وقيل السكسكي وكان كاتبه وصاحب أمره سرجون الرومي، وعلى حرسه رجل من الموالي يقال له المختار، وقيل أبو المخارق مالك مولى حمير، وكان أول من اتخذ الحرس، وكان على حجابه سعد مولاه، وعلى القضاء فضالة بن عبيد الأنصاري، فمات، فاستقضى أبا إدريس الخولاني. وكان على ديوان الخاتم عبد الله بن محصن الحميري، وكان أول من اتخذ ديوان الخاتم، وكن سبب ذلك أن معاوية أمر لعمرو بن الزبير بمائة ألف درهم وكتب له بذلك إلى زياد، ففتح عمرو الكتاب وصير المائة مائتين، فلما رفع زياد حسابه أنكرها معاوية وطلبها من عمرو وحبسه، فقضاها عنه أخوه عبد الله بن الزبير، فأحدث عند ذلك معاوية ديوان الخاتم وحزم الكتب، ولم تكن تحزم.
قال عمر بن الخطاب: يذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية!
قيل: وقدم عمرو بن العاص من مصر على معاوية ومعه من أهل مصر، فقال لهم عمرو: لا تسلموا على معاوية بالخلافة فإنه أهيب لكم في قلبه وصغروا ما استطعتم. فلما قدموا قال معاوية لحجابه: كأني بابن النابغة وقد صغر أمري عند القوم، فانظروا إذا دخل القوم فتعتعوهم أشد ما يحضركم. فكان أول من دخل عليه رجلٌ منهم يقال له ابن الخياط فقال: السلام عليك يا رسول الله! وتتابع القوم على ذلك، فلما خرجوا قال لهم عمرو: لعنكم الله! نهيتكم أن تسلموا عليه بالإمارة فسلمتم عليه بالنبوة! قيل: ودخل عبيد الله بن أبي بكرة على معاوية ومعه ولد له فأكثر من الأكل، فلحظه معاوية، وفطن عبيد الله وأراد أن يغمز ابنه فلم يرفع رأسه حتى فرغ من الأكل، ثم عاد عبيد الله وليس معه ابنه، فقال معاوية: ما فعل ابنك التقامة؟ قال: اشتكى. قال: قد علمت أن أكله سيورثه داء.
قال جويرية بن أسماء: قدم أبو موسى الأشعري على معاوية في برنس أسود فقال: السلام عليك يا أمين الله! قال: وعليك السلام. فلما خرج قال معاوية: قدم الشيخ لأوليه، والله لا أوليه! وقال عمرو بن العاص لمعاوية: ألست أنصح الناس لك؟ قال: بذلك نلت ما نلت.
قال جويرية بن أسماء أيضاً: كان بسر بن أبي أرطاة عند معاوية فنال من علي وزيد بن عمر بن الخطاب حاضرٌ، وأمه أم كلثوم بنت علي، فعلاه بالعصا وشجه، فقال معاوية لزيد: عمدت إلى شيخ قريش وسيد أهل الشام فضربته! وأقبل على بسر فقال: تشتم علياً وهو جده وابن الفاروق على رؤوس الناس! أترى أن يصبر على ذلك؟ فأرضاهما جميعاً.
وقال معاوية: إني لأرفع نفسي من أن يكون ذنبٌ أعظم من عفوي، وجهلٌ أكبر من حلمي، وعورة لا أواريها بستري، وإساءة أكثر من إحساني.
وقال معاوية لعبد الرحمن بن الحكم: يا ابن أخي إنك قد لهجت بالشعر، فإياك والتشبيب بالنساء فتعر الشريفة، والهجاء فتعر كريماً وتستثير لئيماً، والمدح فإنه طعمة الوقاح، ولكن افخر بمفاخر قومك وقل من الأمثال ما تزين به نفسك وتؤدب به غيرك.
قال عبد الله بن صالح: قيل لمعاوية: أي الناس أحب إليك؟ قال: أشدهم لي تحبيباً إلى الناس.
وقال معاوية: العقل والحلم والعلم أفضل ما أعطي العباد، فإذا ذكر ذكر، وإذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا غضب كظم، وإذا قدر غفر، وإذا أساء استغفر، وإذا وعد أنجز.
قال عبد الله بن عمير: أغلظ لمعاوية رجلٌ فأكثر، فقيل له: أتحلم عن هذا؟ فقال: إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم مالم يحولوا بيننا وبين ملكنا.
وقال محمد بن عامر: لأم معاوية عبد الله بن جعفر على الغناء، فدخل عبد الله على معاوية ومعه بديح ومعاوية واضع رجلاً على رجل، فقال عبد الله لبديح: إيهاً يا بديح! فتغنى، فحرك معاوية رجله، فقال عبد الله: مه يا أمير المؤمنين! فقال معاوية: إن الكريم طروبٌ.
قال ابن عباس: ما رأيت أخلق للملك من معاوية، إن كان ليرد الناس منه على أرجاء وادٍ رحب، ولم يكن كالضيق الحصحص الحصر، يعني ابن الزبير، وكان مغضباً.
وقال صفوان بن عمرو: وقف عبد الملك بقبر معاوية فوقف عليه فترحم، فقال رجل: قبر من هذا؟ فقال: قبر رجل كان والله فيما علمته ينطق عن علم ويسكت عن حلم، إذا أعطى أغنى، وإذا حارب أفنى، ثم عجل له الدهر ما أخره لغيره ممن بعده، هذا قبر أبي عبد الرحمن معاوية.
ومعاوية أول خليفة بايع لولده في الإسلام، وأول من وضع البريد، وأول من سمى الغالية التي تطيب من الطيب غالية، وأول من عمل المقصورة في المساجد، وأول من خطب جالساً، في قول بعضهم.
ذكر بيعة يزيد
قيل: وفي رجب من هذه السنة بويع يزيد بالخلافة بعد موت أبيه، على ما سبق من الخلاف فيه، فلما تولى كان على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى مكة عمرو بن سعيد بن العاص، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى الكوفة النعمان بن بشير، ولم يكن ليزيد همة إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعته، فكتب إلى الوليد يخبره بموت معاوية، وكتاباً آخر صغيراً فيه: أما بعد فخذ حسيناً وعبد الله بن عمر وابن الزبير بالبيعة أخذاً ليس فيه رخصة حتى يبايعوا، والسلام. فلما أتاه نعي معاوية فظع به وكبر عليه وبعث إلى مروان بن الحكم فدعاه. وكان مروان عاملاً على المدينة من قبل الوليد، فلما قدمها الوليد كان مروان يختلف إليه متكارهاً، فلما رأى الوليد ذلك منه شتمه عند جلسائه، فبلغ ذلك مروان فانقطع عنه ولم يزل مصارماً له حتى جاء نعي معاوية، فلما عظم على الوليد هلاكه وما أمر به من بيعة هؤلاء النفر، استدعى مروان فلما قرأ الكتاب بموت معاوية استرجع وترحم عليه، واستشاره الوليد كيف يصنع. قال: أرى أن تدعوهم الساعة وتأمرهم بالبيعة، فإن فعلوا قبلت منهم وكففت عنهم، وإن أبوا ضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية، فإنهم إن علموا بموته وثب كل رجل منهم بناحية وأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه، أما ابن عمر فلا يرى القتال ولا يحب أن يلي على الناس إلا أن يدفع إليه هذا الأمر عفواً.
فأرسل الوليد عبد الله بن عمرو بن عثمان، وهو غلامٌ حدثٌ، إلى الحسين وابن الزبير يدعوهما، فوجدهما في المسجد وهما جالسان، فأتاهما في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس فقال: أجيبا الأمير. فقالا: انصرف، الآن نأتيه. وقال ابن الزبير للحسين: ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟ فقال الحسين: أظن أن طاغيتهم قد هلك فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر. فقال: وأنا ما أظن غيره، فما تريد أن تصنع؟ قال الحسين: أجمع فتياني الساعة ثم أمشي إليه وأجلسهم على الباب وأدخل عليه. قال: فإني أخافه عليك إذا دخلت. قال: لا آتيه إلا وأنا قادر على الامتناع.
فقام فجمع إليه أصحابه وأهل بيته ثم أقبل على باب الوليد وقال لأصحابه: إني داخلٌ فإذا دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فادخلوا علي بأجمعكم وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم. ثم دخل فسلم، ومروان عنده، فقال الحسين: الصلة خير من القطيعة، والصلح خير من الفساد، وقد آن لكما أن تجتمعا، أصلح الله ذات بينكما؛ وجلس، فأقرأه الوليد الكتاب ونعى له معاوية ودعاه إلى البيعة، فاسترجع الحسين وترحم على معاوية وقال: أما البيعة فإن مثلي لا يبايع سراً ولا يجترأ بها مني سراً، فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم للبيعة ودعوتنا معهم كان الأمر واحداً. فقال له الويد، وكان يحب العافية: انصرف. فقال له مروان: لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، احبسه فإن بايع وإلا ضربت عنقه. فوثب عند ذلك الحسين وقال: ابن الزرقاء أأنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله ولؤمت! ثم خرج حتى أتى منزله.
فقال مروان للوليد: عصيتني، لا والله لا يمنكم من نفسه بمثلها أبداً. فقال الوليد: ونج عيرك يا مروان، والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأني قتلت حسيناً إن قال لا أبايع، والله إني لأظن أن أمرأً يحاسب بدم الحسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة. قال مروان: قد أصبت. يقول له هذا وهو غير حامد له على رأيه.
وأما ابن الزبير فقال: الآن آتيكم. ثم أتى داره فكمن فيها، ثم بعث إليه الوليد فوجده قد جمع أصحابه واحترز، فألح عليه الوليد وهو يقول: أمهلوني. فبعث إليه الوليد مواليه، فشتموه وقالوا له: يا ابن الكاهلية لتأتين الأمي أو ليقتلنك! فقال لهم: والله لقد استربت لكثرة الإرسال فلا تعجلوني حتى أبعث إلى الأمير من يأتيني برأيه. فبعث إليه أخاه جعفر بن الزبير، فقال: رحمك الله، كف عن عبد الله فإنك قد أفزعته وذعرته وهو يأتيك غداً إن شاء الله تعالى، فمر رسلك فلينصرفوا عنه. فبعث إليهم فانصرفوا. وخرج ابن الزبير من ليلته فأخذ طريق الفرغ هو وأخوه جعفر ليس معهما ثالث وسارا نحو مكة، فسرح الرجال في طلبه فلم يدركوه، فرجعوا وتشاغلوا به عن الحسين ليلتهم، ثم أرسل الرجال إلى الحسين فقال لهم: أصبحوا ثم ترون ونرى. وكانوا يبقون عليه، فكفوا عنه.
فسار من ليته، وكان مخرج ابن الزبير قبله بليلة، وأخذ معه بنيه وإخوته وبني أخيه وجل أهل بيته إلا محمد بن الحنفية فإنه قال له: يا أخي أنت أحب الناس إلي وأعزهم إلي وأعزهم علي ولست أذخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك، تنح ببيعتك عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت وابعث رسلك إلى الناس وادعهم إلى نفسك فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا تذهب به مروءتك ولا فضلك، إني أخاف أن تأتي مصراً وجماعة من الناس فيختلفوا عليك، فمنهم طائفة معك وأخرى عليك، فيقتتلون فتكون لأول الأسنة، فإذا خير هذه الأمة كلها نفساً وأباً وأماً أضيعها دماً وأذلها أهلاً. قال الحسين: فأين أذهب يا أخي؟ قال: انزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فبسبيل ذلك، وإن نأت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس، ويفرق لك الرأي، فإنك أصوب ما يكون رأياً وأحزمه عملاً حين تستقبل الأمور استقبالاً، ولا تكون الأمور عليك أبداً أشكل منها حين تستبدرها. قال: يا أخي قد نصحت وأشفقت وأرجو أن يكون رأيك سديداً وموفقاً إن شاء الله. ثم دخل المسجد وهو يتمثل بقول يزيد بن مفرغ:
لا ذعرت السوام في شفق الصب ... ح مغيراً ولا دعيت يزيدا
يوم أعطى من المهانة ضيماً ... والمنايا يرصدنني أن أحيدا
ولما سار الحسين نحو مكة قرأ: (فخرج منها خائفاً يترقب) القصص: 21 الآية.
ثم إن الوليد أرسل إلى ابن عمر ليبايع فقال: إذا بايع الناس بايعت؛ فتركوه وكانوا لا يتخوفونه. وقيل: إن ابن عمر كان هو وابن عباس بمكة فعادا إلى المدينة، فلقيهما الحسين وابن الزبير فسألاهما: ما وراءكما؟ فقالا: موت معاوية وبيعة يزيد. فقال ابن عمر: لا تفرقا جماعة المسلمين. وقدم هو وابن عباس المدينة. فلما بايع الناس بايعا. قال: ودخل ابن الزبير مكة وعليها عمرو بن سعيد، فلما دخلها قال: أنا عائذ بالبيت. ولم يكن يصلي بصلاتهم ولا يفيض بإفاضتهم، وكان يقف هو وأصحابه ناحيةً.
ذكر عزل الوليد عن المدينة
وولاية عمرو بن سعيدفي هذه السنة عزل الوليد بن عتبة عن المدينة، عزله يزيد، واستعمل عليها عمرو بن سعيد الأشدق، فقدمها في رمضان، فدخل عليه أهل المدينة، وكان عظيم الكبر، واستعمل على شرطته عمرو بن الزبير لما كان بينه وبين أخيه عبد الله من البغضاء، فأرسل إلى نفر من أهل المدينة فضربهم ضرباً شديداً لهواهم في أخيه عبد الله، منهم: أخوه المنذر بن الزبير، وابنه محمد بن المنذر، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، ومحمد بن عمار بن ياسر، وغيرهم، فضربهم الأربعين إلى الخمسين إلى الستين.
فاستشار عمرو بن سعيد عمرو بن الزبير فيمن يرسله إلى أخيه. فقال: لا توجه إليه رجلاً أنكأ له مني. فجهز معه الناس وفيهم أنيس بن عمرو الأسلمي في سبعمائة، فجاء مروان بن الحكم إلى عمرو بن سعيد فقال له: لا تغز مكة واتق الله ولا تحل حرمة البيت وخلوا ابن الزبير فقد كبر وله ستون سنة وهو لجوجٌ. فقال عمرو بن الزبير: والله لنغزونه في جوف الكعبة على رغم أنف من رغم.

============
مجلد 10.كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير
وأتى أبو شريح الخزاعي إلى عمرو فقال له: لا تغز مكة فإني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (إنما أذن لي بالقتال فيها ساعةً من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس). فقال له عمرو: نحن أعلم بحرمتها منك أيها الشيخ. فسار أنيس في مقدمته.
وقيل: إن يزيد كتب إلى عمرو بن سعيد ليرسل عمرو بن الزبير إلى أخيه عبد الله، ففعل، فأرسله ومعه جيش نحو ألفي رجل، فنزل أنيس بذي طوىً ونزل عمرو بالأبطح، فأرسل عمرو إلى أخيه: بر يمين يزيد، وكان حلف أن لا يقبل بيعته إلا أن يؤتى به في جامعة، ويقال: حتى أجعل في عنقك جامعة من فضة لا ترى ولا يضرب الناس بعضهم بعضاً فإنك في بلد حرام. فأرسل عبد الله بن الزبير عبد الله بن صفوان نحو أنيس فيمن معه من أهل مكة ممن اجتمع إليه، فهزمه ابن صفوان بذي طوىً وأجهز على جريحهم وقتل أنيس بن عمرو وسار مصعب بن عبد الرحمن إلى عمرو بن الزبير، فتفرق عن عمرو أصحابه، فدخل دار ابن علقمة، فأتاه أخوه عبيدة فأجاره، ثم أتى عبد الله فقال له: إني قد أجرت عمراً. فقال: أتجبر من حقوق الناس! هذا ما لا يصلح وما أمرتك أن تجير هذا الفاسق المستحل لحرمات الله. ثم أقاد عمراً من كل من ضربه إلا المنذر وابنه فإنهما أبيا أن يستقيدا، ومات تحت السياط.
ذكر مراسلة الكوفيين الحسين بن علي
ليسير إليهم وقتل مسلم بن عقيللما خرج الحسين من المدينة إلى مكة لقيه عبد الله بن مطيع فقال له: جعلت فداك! أين تريد؟ قال: أما الآن فمكة، وأما بعد فإني أستخير الله. قال: خار الله لك وجعلنا فداك! فإذا أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة فإنها بلدة مشؤومة بها قتل أبوك وخذل أخوك واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه، الزم الحرم فإنك سيد العرب لا يعدل بك أهل الحجاز أحداً ويتداعى إليك الناس من كل جانب، لا تفارق الحرم، فداك عمي وخالي! فوالله لئن هلكت لنسترقن بعدك.
فأقبل حتى نزل مكة وأهلها مختلفون إليه ويأتونه ومن بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة فهو قائم يصلي عندها عامة النهار ويطوف ويأتي الحسين فيمن يأتيه ولا يزال يشير عليه بالرأي، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، لأن أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين باقياً بالبلد.
ولما بلغ أهل الكوفة موت معاوية وامتناع الحسين وابن عمر وابن الزبير عن البيعة أرجفوا بيزيد، واجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي، فذكروا مسير الحسين إلى مكة وكتبوا إليه عن نفر، منهم: سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجبة، ورفاعة بن شداد، وحبيب بن مظاهر وغيرهم: بسم الله الرحمن الرحيم، سلامٌ عليك، فإننا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتأمر عليها بغير رضىً منها ثم قتل خيارها واستبقى شرارها وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبعدت له كما بعدت ثمود، وأنه ليس علينا إمام فاقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا عيد، ولو بلغنا إقبالك إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وسيروا الكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن والٍ؛ ثم كتبوا إليه كتاباً آخر وسيروه بعد ليلتين، فكتب الناس معه نحواً من مائة وخمسين صحيفة ثم أرسلوا إليه رسولاً ثالثاً يحثونه على المسير إليهم، ثم كتب إليه شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث ويزيد بن رويم وعروة بن قيس وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومحمد ابن عمير التميمي بذلك.
فكتب إليهم الحسين عند اجتماع الكتب عنده: أما بعد فقد فهمت كل الذي اقتصصتم وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إلي أنه قد اجتمع رأي ملإكم وذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم إليكم وشيكاً إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والقائم بالقسط والدائن بدين الحق، والسلام.
واجتمع ناس من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبد القيس يقال لها مارية بنت سعد، وكانت تتشيع، وكان منزلها لهم مألفاً يتحدثون فيه. فعزم يزيد ابن بنيط على الخروج إلى الحسين، وهو من بعد القيس، وكان له بنون عشرة، فقال: أيكم يخرج معي؟ فخرج معه ابنان له: عبد الله وعبيد الله، فساروا فقدموا عليه بمكة ثم ساروا معه فقتلوا معه.
ثم دعا الحسين مسلم بن عقيل فسيره نحو الكوفة وأمره بتقوى الله وكتمان أمره واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين له عجل إليه بذلك. فأقبل مسلم إلى المدينة فصلى في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وودع أهله واستأجر دليلين من قيس، فأقبلا به، فضلا الطريق وعطشوا، فمات الدليلان من العطش وقالا لمسلم: هذا الطريق إلى الماء. فكتب مسلم إلى الحسين: إني اقبلت إلى المدينة واستأجرت دليلين فضلا الطريق واشتد عليهما العطش فماتا، واقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا، وذلك الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبيث، وقد تطيرت، فإن رأتي أعفيتني وبعثت غيري. فكتب إليه الحسين: أما بعد فقد خشيت أن لا يكون حملك على الكتاب إلي إلا الجبن، فامض لوجهك، والسلام.
فسار مسلم حتى أتى الكوفة ونزل في دار المختار، وقيل غيرها، وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فكلما اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب الحسين فيبكون ويعدونه من أنفسهم القتال والنصرة، واختلفت إليه الشيعة حتى علم بمكانه وبلغ ذلك النعمان بن بشير، وهو أمير الكوفة، فصعد المنبر فقال: أما بعد فلا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإن فيهما تهلك الرجال وتسفك الدماء وتغصب الأموال. وكان حليماً ناسكاً يحب العافية، ثم قال: إني لا أقاتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب علي، ولا أنبه نائمكم، ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنة ولا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمة بيدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر ولا معين، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل.
فقام إليه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي حليف بني أمية فقال: إنه لا يصلح ما ترى إلا الغشم، إن هذا الذي أنت عليه رأي المستضعفين. فقال: أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله. ونزل. فكتب عبد الله بن مسلم إلى يزيد يخبره بقدوم مسلم بن عقيل الكوفة ومبايعة الناس له، ويقول له: إن كان لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قوياً ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك، فإن النعمان رجل ضعيف أو هو يتضعف. وكان هو أول من كتب إليهم، ثم كتب إليه عمارة بن الوليد بن عقبة وعمرو بن سعد بن أبي وقاص بنحو ذلك.
فلما اجتمعت الكتب عند يزيد دعا سرجون مولى معاوية فأقرأه الكتب واستشاره فيمن يوليه الكوفة، وكان يزيد عاتباً على عبيد الله بن زياد، فقال له سرجون: أرأيت لو نشر لك معاوية كنت تأخذ برأيه؟ قال: نعم. قال: فأخرج عهد عبيد الله على الكوفة. فقال: هذا رأي معاوية، ومات وقد أمر بهذا الكتاب. فأخذ برأيه وجمع الكوفة والبصرة لعبيد الله وكتب إليه بعهده وسيره إليه مع مسلم بن عمرو الباهلي والد قتيبة، فأمره بطلب مسلم بن عقيل وبقتله أو نفيه. فلما وصل كتابه إلى عبيد الله أمر بالتجهز ليبرز من الغد.
وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة نسخةً واحدة إلى الأشراف، فكتب إلى مالك بن مسمع البكري، والأحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود، ومسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، وعمر بن عبيد الله بن معمر، يدعوهم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأن السنة قد ماتت والبدعة قد أحييت، فكلهم كتموا كتابه إلا المنذر بن الجارود فإنه خاف أن يكون دسيساً من ابن زياد، فأتاه بالرسول والكتاب فضرب عنق الرسول وخطب الناس وقال:
أما بعد فوالله ما بي تقرن الصعبة، وما يقعقع لي بالشنان، وإني لنكلٌ لمن عاداني وسلمٌ لمن حاربني، وأنصف القارة من راماها، يا أهل البصرة إن أمير المؤمنين قد ولاني الكوفة وأنا غادٍ إليها بالغداة وقد استخلفت عليكم أخي عثمان بن زياد، فإياكم والخلاف والإرجاف، فوالله لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لأقتلنه وعريفه ووليه، ولآخذن الأدنى بالأقصى، حتى تستقيموا ولا يكون فيكم مخالف ولا مشاق، وإني أنا ابن زياد أشبهته من بين من وطىء الحصى فلم ينتزعني شبه خال ولا ابن عم.
ثم خرج من البصرة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي وشريك بن الأعور الحارثي وحشمة وأهل بيته، وكان شريك شيعياً، وقيل: كان معه خمسمائة فتساقطوا عنه، فكان أول من سقط شريك، ورجوا أن يقف عليهم ويسبقه الحسين إلى الكوفة، فلم يقف على أحد منهم حتى دخل الكوفة وحده، فجعل يمر بالمجالس فلا يشكون أنه الحسين فيقولون: مرحباً بك يا ابن رسول الله! وهو لا يكلمهم، وخرج إليه الناس من دورهم، فساءه ما رأى منهم، وسمع النعمان فأغلق عليه الباب وهو لا يشك أنه الحسين، وانتهى إليه عبيد الله ومعه الخلق يصيحون، فقال له النعمان: أنشدك الله ألا تنحيت عني! فوالله ما أنا بمسلم إليك أمانتي وما لي في قتالك من حاجة! فدنا منه عبيد الله وقال له: افتح لا فتحت - فسمعها إنسان خلفه فرجع إلى الناس وقال لهم: إنه ابن مرجانة. ففتح له النعمان فدخل، وأغلقوا الباب وتفرق الناس، وأصبح فجلس على المنبر، وقيل: بل خطبهم من يومه فقال: أما بعد فإن أمير المؤمنين ولاني مصركم وثغركم وفيئكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشدة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متبع فيكم أمره، ومنفذٌ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم كالوالد البر، ولمطيعكم كالأخ الشقيق، وسيفي وسوطي على من ترك أمري وخالف عهدي، فليبق امرء على نفسه.
ثم نزل فأخذ العرفاء والناس أخذاً شديداً وقال: اكتبوا إلي الغرباء، ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين، ومن فيكم من الحرورية وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق، فمن كتبهم إلي فبرىء، ومن لم يكتب لنا أحداً فليضمن لنا ما في عرافته أن لا يخالفنا فيهم مخالف ولا يبغي علينا منهم باغٍ، فمن لم يفعل فبرئت منه الذمة وحلال لنا دمه وماله، وأيما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحدٌ لم يرفعه إلينا صلب على باب داره وألقيت تلك العرافة من العطاء وسير إلى موضع بعمان الزارة. ثم نزل.
وسمع مسلم بمقالة عبيد الله فخرج من دار المختار وأتى دار هانىء بن عروة المرادي فدخل بابه واستدعى هانئاً، فخرج إليه، فلما رآه كره مكانه فقال له مسلم: أتيتك لتجيرني وتضيفني. فقال له هانىء: لقد كلفتني شططاً، ولولا دخولك داري لأحببت أن تنصرف عني، غير أنه يأخذني من ذلك ذمام، ادخل. فآواه، فاختلفت الشيعة إليه في دار هانىء.
ودعا ابن زياد مولى له وأعطاه ثلاثة آلاف درهم وقال له: اطلب مسلم ابن عقيل وأصحابه والقهم وأعطهم هذا المال وأعلمههم أنك منهم واعلم أخبارهم. ففعل ذلك وأتى مسلم بن عوسجة الأسدي بالمسجد فسمع الناس يقولون: هذا يبايع للحسين، وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته قال له: يا عبد الله إني امرؤ من أهل الشام أنعم الله علي بحب أهل هذا البيت، وهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد سمعت نفراً يقولون إنك تعلم أمر هذا البيت وإني أتيتك لتقبض المال وتدخلني على صاحبك أبايعه، وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائي إياه.
فقال: لقد سرني لقاؤك إياي لتنال الذي تحب وينصر الله بك أهل بيت نبيه، وقد ساءني معرفة الناس هذا الأمر مني قبل أن يتم مخافة هذا الطاغية وسطوته. فأخذ بيعته والمواثيق المعظمة ليناصحن وليكتمن، واختلف إليه أياماً ليدخله على مسلم بن عقيل.
ومرض هانىء بن عروة، فأتاه عبيد الله يعوده، فقال له عمارة بن عبد السلولي: إنما جماعتنا وكيدنا قتل هذا الطاغية وقد أمكنك الله فاقتله. فقال هانىء: ما أحب أن يقتل في داري. وجاء ابن زياد فجلس عنده ثم خرج، فما مكث إلا جمعة حتى مرض شريك بن الأعور، وكان قد نزل على هانىء وكان كريماً على ابن زياد وعلى غيره من الأمراء، وكان شديد التشيع، قد شهد صفين مع عمار، فأرسل إليه عبيد الله: إني رائحٌ إليك العشية. فقال لمسلم: إن هذا الفاجر عائدي العشية فإذا جلس اخرج إليه فاقتله ثم اقعد في القصر ليس أحد يحول بينك وبينه، فإن برأت من وجعي سرت إلى البصرة حتى أكفيك أمرها. فلما كان من العشي أتاه عبيد الله، فقام مسلم بن عقيل ليدخل، فقال له شريك: لا يفوتنك إذا جلس. فقال هانىء بن عروة: لا أحب أن يقتل في داري. فجاء عبيد الله فجلس وسأل شريكاً عن مرضه، فأطال، فلما رأى شريك أن مسلماً لا يخرج خشي أن يفوته فأخذ يقول:
ما تنظرون بسلمى لا تحيوها ... اسقونيها وإن كانت بها نفسي
فقال ذلك مرتين أو ثلاثاً، فقال عبيد الله: ما شأنه؟ أترونه يخلط؟ فقال له هانىء: نعم، ما زال هذا دأبه قبيل الصبح حتى ساعته هذه، فانصرف.
وقيل: إن شريكاً لما قال اسقونيها وخلط كلامه فطن به مهران فغمز عبيد الله فوثب، فقال له شريك: أيها الأمير إني أريد أن أوصي إليك. فقال: أعود إليك. فقال له مهران: إنه أراد قتلك. فقال: وكيف مع إكرامي له وفي بيت هانىء ويد أبي عنده؟ فقال له مهران: هو ما قلت لك.
فلما قام ابن زياد خرج مسلم بن عقيل، فقال له شريك: ما منعك من قتله؟ قال: خصلتان، أما إحداهما فكراهية هانىء أن يقتل في منزله، وأما الأخرى فحديث حدثه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان قيد الفتك، فلا يفتك مؤمن بمؤمن). فقال له هانىء: لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً كافراً غادراً!.
ولبث شريك بعد ذلك ثلاثاً ثم مات، فصلى عليه عبيد الله. فلما علم عبيد الله أن شريكاً كان حرض مسلماً على قتله قال: والله لا أصلي على جنازة عراقي أبداً، ولولا أن قبر زياد فيهم لنبشت شريكاً.
ثم إن مولى ابن زياد الذي دسه بالمال اختلف إلى مسلم بن عوسجة بعد موت شريك، فأدخله على مسلم بن عقيل فأخذ بيعته وقبض ماله وجعل يختلف إليهم ويعلم أسرارهم وينقلها إلى ابن زياد. وكان هانىء قد انقطع عن عبيد الله بعذر المرض، فدعا عبيد الله محمد بن الأشعث واسماء بن خارجة، وقيل: دعا معهما بعمرو بن الحجاج الزبيدي فسألهم عن هانىء وانقطاعه، فقالوا: إنه مريض. فقال: بلغني أنه يجلس على باب داره وقد برأ، فالقوه فمروه أن لا يدع ما عليه في ذلك.
فأتوه فقالوا له: إن الأمير قد سأل عنك وقال: لو أعلم أنه شاك لعدته، وقد بلغه أنك تجلس على باب دارك، وقد استبطأك، والجفاء لا يحتمله السلطان، أقسمنا عليك لو ركبت معنا. فلبس ثيابه وركب معهم. فلما دنا من القصر أحست نفسه بالشر فقال لحسان بن أسماء بن خارجة: يا ابن أخي إني لهذا الرجل لخائفٌ، فما ترى؟ فقال: ما أتخوف عليك شيئاً فلا تجعل على نفسك سبيلاً، ولم يعلم أسماء مما كان شيئاً. وأما محمد بن الأشعث فإنه علم به، قال: فدخل القوم على ابن زياد وهانىء معهم، فلما رآه ابن زياد قال لشريح القاضي: أتتك بحائن رجلاه؛ فلما دنا منه قال عبيد الله:
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
وكان ابن زياد مكرماً له، فقال هانىء: وما ذاك؟ فقال: يا هانىء ما هذه الأمور التي تربص في دارك لأمير المؤمنين والمسلمين! جئت بمسلم فأدخلته دارك وجمعت له السلاح والرجال وظننت أن ذلك يخفى علي! قال: ما فعلت. قال: بلى. وطال بينهما النزاع، فدعا ابن زياد مولاه ذاك العين، فجاء حتى وقف بين يديه، فقال: أتعرف هذا؟ قال: نعم، وعلم هانىء أنه كان عيناً عليهم، فسقط في يده ساعة ثم راجعته نفسه، قال: اسمع مني وصدقني، فوالله لا أكذبك، والله ما دعوته ولا علمت بشيء من أمره حتى رأيته جالساً على بابي يسألني النزول علي، فاستحييت من رده ولزمني من ذلك ذمام فأدخلته داري وضفته، وقد كان من أمره الذي بلغك، فإن شئت أعطيتك الآن موثقاً تطمئن به ورهينةً تكون في يدك حتى أنطلق وأخرجه من داري وأعود إليك. فقال: لا والله. لا تفارقني أبداً حتى تأتيني به. قال: لا آتيك بضيفي تقتله أبداً.
فلما كثر الكلام قام مسلم بن عمرو الباهلي، وليس بالكوفة شامي ولا بصري غيره، فقال: خلني وإياه حتى أكلمه، لما رأى من لجاجه، وأخذ هانئاً وخلا به ناحية من ابن زياد بحيث يراهما، فقال له: يا هانىء أنشدك الله أن تقتل نفسك وتدخل البلاء على قومك! إن هذا الرجل ابن عم القوم وليسوا بقاتليه ولا ضائريه، فادفعه إليه فليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة إنما تدفعه إلى السلطان! قال: بلى والله إن علي في ذلك خزياً وعاراً، لا أدفع ضيفي وأنا صحيح شديد الساعد كثير الأعوان، والله لو كنت واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه.
فسمع ابن زياد ذلك فقال: أدنوه مني. فأدنوه منه. فقال: والله لتأتيني به أو لأضربن عنقك! قال: إذن والله تكثر البارقة حول دارك! وهو يرى أن عشيرته ستمنعه. فقال: أبا البارقة تخوفني؟.
وقيل إن هانئاً لما رأى ذلك الرجل الذي كان عيناً لعبيد الله علم أنه قد أخبره الخبر فقال: أيها الأمير قد كان الذي بلغك ولن أضيع يدك عندي وأنت آمن وأهلك فسر حيث شئت. فأطرق عبيد الله عند ذلك ومهران قائم على رأسه وفي يده معكزة، فقال: واذلاه! هذا الحائك يؤمنك في سلطانك! فقال: خذه، فأخذ مهران ضفيرتي هانىء وأخذ عبيد الله القضيب ولم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وسيل الدماء على ثيابه ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتى كسر القضيب، وضرب هانىء يده إلى قائم سيف شرطي وجبذه فمنع منه، فقال له عبيد الله: أحروري أحللت بنفسك وحل لنا قتلك! ثم أمر به فألقي في بيت وأغلق عليه.
فقام إليه أسماء بن خارجة فقال: أرسله يا غادر! أمرتنا أن نجيئك بالرجل فلما أتيناك به هشمت وجهه وسيلت دماءه وزعمت أنك تقتله. فأمر به عبيد الله فلهز وتعتع ثم ترك فجلس. فأما ابن الأشعث فقال: رضينا بما رأى الأمير، لنا كان أو علينا.
وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانئاً قد قتل فأقبل في مذحج حتى أحاطوا بالقصر، ونادى: أنا عمرو بن الحجاج، هذه فرسان مذحج ووجوهها، لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعةً. فقال عبيد الله لشريح القاضي، وكان حاضراً: ادخل على صاحبهم فانظر إليه ثم اخرج إليهم فأعلمهم أنه حي. ففعل شريح، فلما دخل عليه قال له هانىء: يا للمسلمين! أهلكت عشيرتي؟ أين أهل الدين؟ أين أهل النصر؟ أيخلونني وعدوهم وابن عدوهم! وسمع الضجة فقال: يا شريح إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إنه إن دخل علي عشرة نفر أنقذوني. فخرج شريح ومعه عين أرسله ابن زياد، قال شريح: لولا مكان العين لأبلغتهم قول هانىء. فلما خرج شريح إليهم قال: قد نظرت إلى صاحبكم وإنه حي لم يقتل. فقال عمرو وأصحابه: فأما إذ لم يقتل فالحمد لله! ثم انصرفوا.
وأتى الخبر مسلم بن عقيل فنادى في أصحابه: يا منصور أمت! وكان شعارهم، وكان قد بايعه ثمانية عشر ألفاً وحوله في الدور أربعة آلاف، فاجتمع إليه ناس كثير، فعقد مسلم لعبد الله بن عزير الكندي على ربع كندة وقال: سر أمامي، وعقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج وأسد، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة، وأقبل نحو القصر. فلما بلغ ابن زياد إقباله تحرز في القصر وأغلق الباب، وأحاط مسلم بالقصر وامتلأ المسجد والسوق من الناس وما زالوا يجتمعون حتى المساء، وضاق بعبيد الله أمره وليس معه في القصر إلا ثلاثون رجلاً من الشرط وعشرون رجلاً من الأشراف وأهل بيته ومواليه، وأقبل أشراف الناس يأتون ابن زياد من قبل الباب الذي يلي دار الروميين والناس يسبون ابن زياد وأباه. فدعا ابن زياد كثير بن شهاب الحارثي وأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيسير ويخذل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم، وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي وشبث بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي وشمر بن ذي الجوشن الضبابي، وترك وجوه الناس عنده استئناساً بهم لقلة من معه.
وخرج أولئك النفر يخذلون الناس، وأمر عبيد الله من عنده من الأشراف أن يشرفوا على الناس من القصر فيمنوا أهل الطاعة ويخوفوا أهل المعصية، ففعلوا، فلما سمع الناس مقالة أشرافهم أخذوا يتفرقون حتى إن المرأة تأتي ابنها وأخاها وتقول: انصرف، الناس يكفونك، ويفعل الرجل مثل ذلك، فما زالوا يتفرقون حتى بقي ابن عقيل في المسجد في ثلاثين رجلاً.
فلما رأى ذلك خرج متوجهاً نحو أبواب كندة، فلما خرج إلى الباب لم يبق معه أحد، فمضى في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب، فانتهى إلى باب امرأة من كندة يقال لها طوعة أم ولد كانت للأشعث وأعتقها فتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالاً، وكان بلال قد خرج مع الناس وهي تنتظره، فسلم عليها ابن عقيل وطلب الماء فسقته، فجلس، فقالت له: يا عبد الله ألم تشرب؟ قال: بلى. قالت: فاذهب إلى أهلك، فسكت، فقالت له ثلاثاً فلم يبرح، فقالت: سبحان الله! إني لا أحل لك الجلوس على بابي. فقال لها: ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك إلى أجر ومعروف ولعلي أكافئك به بعد اليوم؟ قالت: وما ذاك؟ قال: أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء القوم وغروني. قالت: ادخل. فأدخلته بيتاً في دارها وعرضت عليه العشاء فلم يتعش. وجاء ابنها فرآها تكثر الدخول في ذلك البيت، فقال لها: إن لك لشأناً في ذلك البيت. وسألها فلم تخبره، فألح عليها فأخبرته واستكتمته وأخذت عليه الأيمان بذلك، فسكت.
وأما ابن زياد فلما لم يسمع الأصوات قال لأصحابه: انظروا هل ترون منهم أحداً؟ فنظروا فلم يروا أحداً، فنزل إلى المسجد قبيل العتمة وأجلس أصحابه حول المنبر وأمر فنودي: ألا برئت الذمة من رجل من الشرط والعرفاء والمناكب والمقاتلة صلى العتمة إلا في المسجد. فامتلأ المسجد، فصلى بالناس ثم قام فحمد الله ثم قال: أما بعد فإن ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشقاق فبرئت الذمة من رجل وجدناه في داره، ومن أتانا به فله ديته. وأمرهم بالطاعة ولزومها، وأمر الحصين بن تميم أن يمسك أبواب السكك ثم يفتش الدور، وكان على الشرط، وهو من بني تميم.
ودخل ابن زياد وعقد لعمرو بن حريث وجعله على الناس، فلما أصبح جلس للناس. ولما أصبح بلال ابن تلك العجوز التي آوت مسلم بن عقيل أتى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأخبره بمكان ابن عقيل، فأتى عبد الرحمن أباه، وهو عند ابن زياد، فأسر إليه بذلك، فأخبر به محمدٌ ابن زياد، فقال له ابن زياد: قم فأتني به الساعة، وبعث معه عمرو بن عبيد الله بن عباس السلمي في سبعين من قيس حتى أتوا الدار التي فيها ابن عقيل. فلما سمع الأصوات عرف أنه قد أتي، فخرج إليهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عاودا إليه فحمل عليهم فأخرجهم مراراً، وضرب بكير بن حمران الأحمري فم مسلم فقطع شفته العليا وسقطت ثنيتاه، وضربه مسلم على رأسه وثنى بأخرى على حبل العاتق كادت تطلع على جوفه، فلما رأوا ذلك أشرفوا على سطح البيت وجعلوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في القصب ويلقونها عليه. فلما رأى ذلك خرج عليهم بسيفه فقاتلهم في السكة، فقال له محمد بن الأشعث: لك الأمان فلا تقتل نفسك! فأقبل يقاتلهم وهو يقول:
أقسمت لا أقتل إلا حراً ... وإن رأيت الموت شيئاً نكرا
أو يخلط البارد سخناً مراً ... رد شعاع الشمس فاستقرا
كل امرىءٍ يوماً يلاقي شراً ... أخاف أن أكذب أو أغرا
فقال له محمد: إنك لا تكذب ولا تخدع، القوم بنو عمك وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك. وكان قد أثخن بالحجارة وعجز عن القتال، فأسند ظهره إلى حائط تلك الدار، فآمنه ابن الأشعث والناس غير عمرو بن عبيد الله السلمي، فإنه قال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل، وأتي ببغلة فحمل عليها وانتزعوا سيفه، فكأنه أيس من نفسه، فدمعت عيناه ثم قال: هذا أول الغدر. قال محمد: أرجو أن لا يكون عليك بأس. قال: وما هو إلا الرجاء، أين أمانكم؟ ثم بكى. فقال له عمرو بن عبيد الله بن عباس السلمي: من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك! فقال: ما أبكي لنفسي ولكني أبكي لأهلي المنقلبين إليكم، أبكي للحسين وآل الحسين. ثم قال لمحمد بن الأشعث: إني أراك ستعجز عن أماني فهل تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً يخبر الحسين بحالي ويقول له عني ليرجع بأهل بيته ولا يغره أهل الكوفة فإنهم أصحاب أبيك الذين كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل؟ فقال له ابن الأشعث: والله لأفعلن! ثم كتب بما قال مسلم إلى الحسين، فلقيه الرسول بزبالة فأخبره، فقال: كلما قدر نازلٌ عند الله نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا.
وكان سبب مسيره من مكة كتاب مسلم إليه يخبره أنه بايعه ثمانية عشر ألفاً ويستحثه للقدوم. وأما مسلم فإن محمداً قدم به القصر، ودخل محمد على عبيد الله فأخبره الخبر وأمانه له، فقال له عبيد الله: ما أنت والأمان! ما أرسلناك لتؤمنه إنما أرسلناك لتأتينا به! فسكت محمد، ولما جلس مسلم على باب القصر رأى جرةً فيها ماء بارد، فقال: اسقوني من هذا الماء. فقال له مسلم بن عمرو الباهلي: أتراها ما أبردها! والله لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنم! فقال لهم ابن عقيل: من أنت؟ قال: أنا من عرف الحق إذ تركته، ونصح الأمة والإمام إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته، أنا مسلم بن عمرو. فقال له ابن عقيل: لأمك الثكل ما أجفاك وأفظك وأقسى قلبك وأغلظك! أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم مني! قال: فدعا عمارة بن عقبة بماء بارد فصب له في قدح فأخذ ليشرب فامتلأ القدح دماً، ففعل ذلك ثلاثاً، فقال: لو كان من الرزق المقسوم شربته.
وأدخل على ابن زياد فلم يسلم عليه بالإمارة، فقال له الحرسي: ألا تسلم على الأمير؟ فقال: إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه، وإن كان لا يريد قتلي فليكثرن تسليمي عليه. فقال له ابن زياد: لعمري لتقتلن! فقال: كذلك؟ قال: نعم. قال: فدعني أوصي إلى بعض قومي. قال: افعل. فقال لعمر بن سعد: إن بيني وبينك قرابة ولي إليك حاجة وهي سر، فلم يمكنه من ذكرها، فقال له ابن زياد: لا تمتنع من حاجة ابن عمك. فقام معه فقال: إن علي بالكوفة ديناً استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمائة درهم فاقضها عني وانظر جثتي فاستوهبها فوارها وابعث إلى الحسين من يرده.
فقال عمر لابن زياد: إنه قال كذا وكذا. فقال ابن زياد: لا يخونك الأمين ولكن قد يؤتمن الخائن، أما مالك فهو لك تصنع به ما شئت، وأما الحسين فإن لم يردنا لم نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه، وأما جثته فإنا لن نشفعك فيها، وقيل إنه قال: أما جثته فإنا إذا قتلناه لا نبالي ما صنع بها.
ثم قال لمسلم: يا ابن عقيل أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة لتشتت بينهم وتفرق كلمتهم! فقال: كلا ولكن أهل هذا المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب والسنة. فقال: وما أنت وذاك يا فاسق؟ ألم يكن يعمل بذلك فيهم إذ أنت تشرب الخمر بالمدينة؟ قال: أنا أشرب الخمر! والله إن الله يعلم أنك تعلم أنك غير صادق وأني لست كما ذكرت، وإن أحق الناس بشرب الخمر مني من يلغ في دماء المسلمين فيقتل النفس التي حرم الله قتلها على الغضب والعداوة وهو يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئاً. فقال له ابن زياد: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في الإسلام! قال: أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما ليس فيه، أما إنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة ولا أحد من الناس أحق بها منك. فشتمه ابن زياد وشتم الحسين وعلياً وعقيلاً، فلم يكلمه مسلم، ثم أمر به فأصعد فوق القصر لتضرب رقبته ويتبعوا رأسه جسده، فقال مسلم لابن الأشعث: والله لولا أمانك ما استسلمت، قم بسيفك دوني، قد أخفرت ذمتك. فأصعد مسلم فوق القصر وهو يستغفر ويسبح، وأشرف به على موضع الحدائين فضربت عنقه، وكان الذي قتله بكير بن حمران الذي ضربه مسلم، ثم أتبع رأسه جسده.
فلما نزل بكير قال له ابن زياد: ما كان يقول وأنتم تصعدون به؟ قال: كان يسبح ويستغفر، فلما أدنيته لأقتله قلت له: ادن مني، الحمد لله الذي أمكن منك وأقادني منك! فضربته ضربة لم تغن شيئاً، فقال: أما ترى في خدش تخدشينه وفاء من دمك أيها العبد؟ فقال ابن زياد: وفخراً عند الموت! قال: ثم ضربته الثانية فقتلته.
وقام محمد بن الأشعث فكلم ابن زياد في هانىء وقال له: قد عرفت منزلته في المصر وبيته، وقد علم قومه أني أنا وصاحبي سقناه إليك، فأنشدك الله لما وهبته لي فإني أكره عداوة قومه. فوعده أن يفعل. فلما كان من مسلم ما كان بدا له فأمبر بهانىء حين قتل مسلم فأخرج إلى السوق فضربت عنقه، قتله مولى تركيٌّ لابن زياد، قال: فبصر به عبد الرحمن بن الحصين المرادي بعد ذلك بخازر مع ابن زياد فقتله. فقال عبد الله بن الزبير الأسدي في قتل هانىء ومسلم، وقيل قاله الفرزدق، الزبير بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة:
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري ... إلى هانىء في السوق وابن عقيل
إلى بطلٍ قد هشم السيف وجهه ... وآخر يهوي من طمار قتيل
وهي أبيات. وبعث ابن زياد برأسيهما إلى يزيد، فكتب إليه يزيد يشكره ويقول له: وقد بلغني أن الحسين قد توجه نحو العراق، فضع المراصد والمسالح واحترس واحبس على التهمة وخذ على الظنة، غير أن لا تقتل إلا من قاتلك.
وقيل: وكان مخرج ابن عقيل بالكوفة لثماني ليال مضين من ذي الحجة سنة ستين، وقيل: لتسع مضين منه، قيل: وكان فيمن خرج معه المختار بن أبي عبيد وعبد الله بن الحارث بن نوفل، فطلبهما ابن زياد وحبسهما، وكان فيمن قاتل مسلماً محمد بن الأشعث وشبث بن ربعي التميمي والقعقاع بن شور، وجعل شبث يقول: انتظروا بهم الليل يتفرقوا، فقال له القعقاع: إنك قد سددت عليهم وجه مهربهم فافرج لهم يتفرقوا.
ذكر مسير الحسين إلى الكوفة
قيل: لما أراد الحسين المسير إلى الكوفة بكتب أهل العراق إليه أتاه عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وهو بمكة فقال له: إني أتيتك لحاجته أريد ذكرها نصيحةً لك، فإن كنت ترى أنك مستنصحي قلتها وأديت ما علي من الحق فيها، وإن ظننت أنك لا مستنصحي كففت عما أريد. فقال له: قل فوالله ما أستغشك وما أظنك بشيء من الهوى. قال له: قد بلغني أنك تريد العراق، وإني مشفقٌ عليك، إنك تأتي بلداً فيه عماله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال، وإنما الناس عبيد الدينار والدرهم، فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحب إليه ممن يقاتلك معه. فقال له الحسين: جزاك الله خيراً يا ابن عم، فقد علمت أنك مشيت بنصح وتكلمت بعقل، ومهما يقض من أمر يكن، أخذت برأيك أو تركته، فأنت عندي أحمد مشير، وأنصح ناصح.
قال: وأتاه عبد الله بن عباس فقال له: قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبين لي ما أنت صانع؟ فقال له: قد أجمعت السير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى. فقال له ابن عباس: فإني أعيذك بالله من ذلك، خبرني، رحمك الله، أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم؟ فإن كانوا فعلوا ذلك فسر إليهم، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنما دعوك إلى الحرب، ولا آمن عليك أن يغزوك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك ويستنفروا ويخذلوك ويستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عليك. فقال الحسين: فإني أستخير الله وأنظر ما يكون.
فخرج ابن عباس وأتاه ابن الزبير فحدثه ساعةً ثم قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفنا ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم، خبرني ما تريد أن تصنع؟ فقال الحسين: لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتبت إلي شيعتي بها وأشراف الناس وأستخير الله. فقال له ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك لما عدلت عنها. ثم خشي أن يتهمه فقال له: أما إنك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر ههنا لما خالفنا عليك وساعدناك وبايعناك ونصحنا لك. فقال له الحسين: إن أبي حدثني أن لها كبشاً به تستحل حرمتها، فما أحب أن أكون أنا ذلك الكبش. قال: فأقم إن شئت وتوليني أنا الأمر فتطاع ولا تعصى. قال: ولا أريد هذا أيضاً. ثم إنهما أخفيا كلامهما دوننا، فالتفت الحسين إلى من هناك وقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا ندري، جعلنا الله فداك! قال: إنه يقول: أقم في هذا المسجد أجمع لك الناس، ثم قال له الحسين: والله لئن أقتل خارجاً منها بشبر أحب إلي من أن أقتل فيها، ولأن أقتل خارجاً منها بشبرين أحب إلي من أن أقتل خارجاً منها بشبر، وايم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم! والله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت. فقام ابن الزبير فخرج من عنده.
فقال الحسين: إن هذا ليس شيء من الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز، وقد علم أن الناس لا يعدلونه بي فود أني خرجت حتى يخلو له.
قال: فلما كان من العشي أو من الغد أتاه ابن عباس فقال: يا ابن عم، إني أتصبر ولا أصبر، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إن أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عاملهم وعدوهم ثم أقدم عليهم، فإن أبيت إلا أن تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصوناً وشعاباً، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وترسل وتبث دعاءك، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية.
فقال له الحسين: يا ابن عم إني والله لأعلم أنك ناصح مشفق، وقد أزمعت وأجمعت المسير. فقال له ابن عباس: فإن كنت سائراً فلا تسر بنسائك وصبيتك فإني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه. ثم قال له ابن عباس: لقد أقررت عين ابن الزبير بخروجك من الحجاز وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك، والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علينا الناس أطعتني فأقمت لفعلت ذلك.
ثم خرج ابن عباس من عنده فمر بابن الزبير فقال: قرت عينك يا ابن الزبير! ثم أنشد قائلاً:
يا لك من قبرةٍ بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
هذا الحسين يخرج إلى العراق ويخليك والحجاز.
قيل: وكان الحسين يقول: والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرم المرأة. قال: والفرم خرقة تجعلها المرأة في قبلها إذا حاضت.
ثم خرج الحسين يوم التروية، فاعترضه رسل عمرو بن سعيد بن العاص، وهو أمير على الحجاز ليزيد بن معاوية مع أخيه يحيى، يمنعونه، فأبى عليهم ومضى، وتضاربوا بالسياط، وامتنع الحسين وأصحابه وساروا فمروا بالتنعيم، فرأى بها عيراً قد أقبلت من اليمن بعث بها بحير بن ريسان من اليمن إلى يزيد بن معاوية، وكان عامله على اليمن، وعلى العير الورس والحلل، فأخذها الحسين وقال لأصحاب الإبل: من أحب منكم أن يمضي معنا إلى العراق أوفينا كراءه وأحسنا صحبته، ومن أحب أن يفارقنا من مكاننا أعطيناه نصيبه من الكراء؛ فمن فارق منهم أعطاه حقه، ومن سار معه أعطاه كراءه وكساه.
ثم سار، فلما انتهى إلى الصفاح لقيه الفرزدق الشاعر فقال له: أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب. فقال له الحسين: بين لي خبر الناس خلفك. قال: الخبير سألت، قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء. فقال الحسين: صدقت، لله الأمر يفعل ما يشاء وكل يوم ربنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحق نيته، والتقوى سريرته.
قال: وأدرك الحسين كتاب عبد الله بن جعفر مع ابنيه عون ومحمد، وفيه: أما بعد فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تقرأ كتابي هذا، فإني مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكت اليوم طفىء نور الأرض، فإنك علم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير فإني في إثر كتابي، والسلام.
وقيل: وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد فقال له: اكتب للحسين كتاباً تجعل له الأمان فيه وتمنيه في البر والصلة واسأله الرجوع. وكان عمرو عامل يزيد على مكة، ففعل عمرو ذلك وأرسل الكتاب مع أخيه يحيى بن سعيد ومع عبد الله بن جعفر، فلحقاه وقرآ عليه الكتاب وجهدا أن يرجع، فلم يفعل، وكان مما اعتذر به إليهما أن قال: إني رأيت رؤيا رأيت فيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأمرت فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له، علي كان أو لي. فقالا: ما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدثت بها أحداً وما أنا محدث بها أحداً حتى ألقى ربي.
ولما بلغ ابن زياد مسير الحسين من مكة بعث الحصين بن نمير التميمي صاحب شرطته فنزل القادسية ونظم الخيل ما بين القادسية إلى خفان، وما بين القادسية إلى القطقطانة وإلى جبل لعلع. فلما بلغ الحسين الحاجر كتب إلى أهل الكوفة مع قيس بن مسهر الصيداوي يعرفهم قدومه ويأمرهم بالجد في أمرهم، فلما انتهى قيسٌ إلى القادسية أخذه الحصين فبعث به إلى ابن زياد، فقال له ابن زياد: اصعد القصر فسب الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي. فصعد قيسٌ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنا رسوله إليكم وقد فارقته بالحاجر فأجيبوه؛ ثم لعن ابن زياد وأباه واستغفر لعلي. فأمر به ابن زياد فرمي من أعلى القصر فتقطع فمات.
ثم أقبل الحسين يسير نحو الكوفة فانتهى إلى ماء من مياه العرب، فإذا عليه عبد الله بن مطيع، فلما رآه قام إليه فقال: بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله! ما أقدمك؟ فاحتمله فأنزله، فأخبره الحسين، فقال له عبد الله: أذكرك الله يا ابن رسول الله وحرمة الإسلام أن تنتهك، أنشدك الله في حرمة قريش، أنشدك الله في حرمة العرب، فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً أبداً، والله إنها لحرمة الإسلام تنتهك وحرمة قريش وحرمة العرب، فلا تفعل ولا تأت الكوفة ولا تعرض نفسك لبني أمية! فأبى إلا أن يمضي.
وكان زهير بن القين البجلي قد حج، وكان عثمانياً، فلما عاد جمعهما الطريق، وكان يساير الحسين من مكة إلا أنه لا ينزل معه، فاستدعاه يوماً الحسين فشق عليه ذلك ثم أجابه على كره، فلما عاد من عنده نقل ثقله إلى ثقل الحسين ثم قال لأصحابه: من أحب منكم أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد، وسأحدثكم حديثاً، غزونا بلنجر ففتح علينا وأصبنا غنائم ففرحنا وكان معنا سلمان الفارسي فقال لنا: إذا أدركتم سيد شباب أهل محمد فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه بما أصبتم اليوم من الغنائم، فأما أنا فأستودعكم الله! ثم طلق زوجته وقال لها: الحقي بأهلك فإني لا أحب أن يصيبك في سببي إلا خير. ولزم الحسين حتى قتل معه.
وأتاه خبر قتل مسلم بن عقيل بالثعلبية فقال له بعض أصحابه: ننشدك إلا رجعت من مكانك فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة بل نتخوف عليك أن يكونوا عليك! فوثب بنو عقيل وقالوا: والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق كما ذاق مسلم! فقال الحسين: لا خير في العيش بعد هؤلاء. فقال له بعض أصحابه: إنك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيلٍ، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع. ثم ارتحلوا فانتهوا إلى زبالة، وكان لا يمر بماء إلا اتبعه من عليه حتى انتهى إلى زبالة، فأتاه خبر مقتل أخيه من الرضاعة عبد الله بن بقطر، وكان سرحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يعلم بقتله، فأخذته خيل الحصين، فسيره من القادسية إلى ابن زياد، فقال له: اصعد فوق القصر والعن الكذاب ابن الكذاب ثم انزل حتى أرى فيك رأيي. فصعد فأعلم الناس بقدوم الحسين ولعن ابن زياد وأباه، فألقاه من القصر فتكسرت عظامه، وبقي به رمق، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه، فلما عيب ذلك عليه قال: إنما أردت أن أريحه.
قال بعضهم: لم يكن الذي ذبحه عبد الملك بن عمير ولكنه رجل يشبه عبد الملك.
فلما أتى الحسين خبر قتل أخيه من الرضاعة ومسلم بن عقيل أعلم الناس ذلك وقال: قد خذلنا شيعتنا، فمن أحب أن ينصرف فلينصرف ليس عليه منا ذمام. فتفرقوا يميناً وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من مكة، وإنما فعل ذلك لأنه علم أن الأعراب ظنوا أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله فأراد أن يعلموا علام يقدمون.
ثم سار حتى نزل بطن العقبة، فلقيه رجلٌ من العرب فقال له: أنشدك الله لما انصرفت فوالله ما تقدم إلا على الأسنة وحد السيوف، إن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطؤوا لك الأشياء فقدمت عليهم لكان ذلك رأياً، فأما على هذه الحال التي تذكر فلا أرى أن تفعل. فقال: إنه لا يخفى علي ما ذكرت ولكن الله، عز وجل، لا يغلب على أمره. ثم ارتحل منها.
ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة حج بالناس عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق، وكان العامل على مكة والمدينة وفيها مات جرهد الأسلمي له صحبة. وفي أيام معاوية مات حارثة بن النعمان الأنصاري، وهو بدريٌّ. وفي أيامه أيضاً مات دحية ابن خليفة الكلبي الذي كان يشبهه جبرائيل إذا أنزل بالوحي. وفي أول خلافته مات رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان الأنصاري، وكان بدرياً، وشهد مع علي الجمل وصفين. وفي أيامه مات عمرو بن أمية الضمري بالمدينة. وفي أيامه مات عثمان بن حنيف الأنصاري، وعثمان بن أبي العاص الثقفي. وفي أيامه مات عتبان بن مالك الأنصاري، بدمشق. وفي أيامه بعد سنة سبع وخمسين مات السائب بن أبي وداعة السهمي. ومات في أيامه سراقة بن عمرو الأنصاري، وهو بدريٌّ. وفي أيامه مات زياد بن لبيد الأنصاري في أولها، وهو بدريٌّ. وفي أيامه مات معقل بن يسار المزني، وإليه ينسب نهر معقل بالبصرة، وقيل: مات في أيام يزيد.
معقل بالعين المهملة والقاف. ويسار بالياء المثناة والسين المهملة.
وفي أيامه مات ناجية بن جندب بن عمير صاحب بدن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها مات نعيمان بن عمرو بن رفاعة الأنصاري، وهو الذي كان فيه مزاح ودعابة، وشهد بدراً، وقيل: بل الذي مات ابنه. وفي آخر أيامه مات عبد الله بن مالك بن بحينة، له صحبة. وفيها مات عبد الله بن مغفل بن عبد غنم المزني بالبصرة.
ومغفل بضم الميم، وفتح الغين المعجمة، وفتح الفاء المشددة.
وفي أيامه مات هند بن جارية بن هند الأسلمي. وفي سنة ستين توفي حكيم بن حزام وله مائة وعشرون سنة، ستون في الجاهلية وستون في الإسلام. وفيها مات أبو أسيد الساعدي، واسمه مالك بن ربيعة، وهو بدريٌّ، وقيل: مات سنة خمس وستين، وهو آخر من مات من البدريين، وقيل: مات سنة ثلاثين، ولا يصح. وفي أول أيام معاوية مات أبو بردة هانىء بن نيار البلوي حليف الأنصار، وهو عقبيٌّ بدريٌّ، وشهد مع علي حروبه كلها. وفي أيامه مات أبو ثعلبة الخشني، له صحبة، وقيل: مات سنة خمس وسبعين. وفي أيامه مات أبو جهم بن حذيفة العدوي القرشي في آخرها، وقيل: شهد بنيان الكعبة أيام ابن الزبير، وكان قد شهد قريشاً حين بنتها. وفي أول أيامه مات أبو حثمة الأنصاري والد سهل. وفي آخر أيامه مات أبو قيس الجهني، شهد الفتح. وفي سنة ستين توفي صفوان بن المعطل السلمي بسميساط، وقيل: إنه قتل شهيداً قبل هذا. وفيها توفيت الكلابية التي استعاذت من النبي صلى الله عليه وسلم، حين تزوجها ففارقها، وكانت قد أصابها جنون، وتوفي بلال بن الحارث المزني أبو عبد الرحمن. وفي آخر أيامه مات وائل بن حجر الحضرمي، وأبو إدريس الخولاني.
هند بن جارية بالجيم، والياء المثناة من تحتها. وحارثة بن النعمان بالحاء المهملة، والثاء المثلثة. أبو أسيد بضم الهمزة وفتح السين.
ثم دخلت سنة إحدى وستين
ذكر مقتل الحسين رضي الله عنهوسار الحسين من شراف، فلما انتصف النهار كبر رجلٌ من أصحابه، فقال له: مم كبرت؟ قال: رأيت النخل. فقال رجلان من بني أسد: ما بهذه الأرض نخلة قط! فقال الحسين: فما هو؟ فقالا: لا نراه إلا هوادي الخيل. فقال: وأنا أيضاً أره ذلك. وقال لهما: أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟ فقالا: بلى، هذا ذو حسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد. فمال إليه، فما كان بأسرع من أن طلعت الخيل وعدلوا إليهم، فسبقهم الحسين إلى الجبل فنزل، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي ثم اليربوعي، فوقفوا مقابل الحسين وأصحابه في نحر الظهيرة، فقال الحسين لأصحابه وفتيانه: اسقوا القوم ورشفوا الخيل ترشيفاً. ففعلوا، وكان مجيء القوم من القادسية، أرسلهم الحصين بن نمير التميمي في هذه الألف يستقبل الحسين، فلم يزل مواقفاً الحسين حتى حضرت صلاة الظهر، فأمر الحسين مؤذنه بالأذان، فأذن، وخرج الحسين إليهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنها معذرة إلى الله وإليكم، إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ورسلكم أن اقدم إلينا فليس لنا إمام لعل الله أن يجعلنا بك على الهدى، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا أو كنتم بمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه.
فسكتوا وقالوا للمؤذن: أقم، فأقام، وقال الحسين للحر: أتريد أن تصلي أنت بأصحابك؟ فقال: بل صل أنت ونصلي بصلاتك. فصلى بهم الحسين، ثم دخل واجتمع إليه أصحابه وانصرف الحر إلى مكانه، ثم صلى بهم الحسين العصر، ثم استقبلهم بوجهه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان، فإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقنا وكان رأيكم غير ما أتتني به كتبكم ورسلكم انصرفت عنكم.
فقال الحر: إنا والله ما ندري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر. فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنثرها بين أيديهم. فقال الحر: فإنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا أنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد. فقال الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك! ثم أمر أصحابه فركبوا لينصرفوا فمنعهم الحر من ذلك. فقال له الحسين: ثكلتك أمك! ما تريد؟ قال له: أما والله لو غيرك من العرب يقولها لي ما تركت ذكر أمه بالثكل كائناً من كان، ولكني والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه. فقال له الحسين: ما تريد؟ قال الحر: أريد أن أنطلق بك إلى ابن زياد. قال الحسين: إذن والله لا أتبعك. قال الحر: إذن والله لا أدعك. فترادا الكلام، فقال له الحر: إني لم أؤمر بقتالك وإنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة ولا تردك إلى المدينة حتى أكتب إلى ابن زياد وتكتب أنت إلى يزيد أو إلى ابن زياد فلعل الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلى بشيء من أمرك. فتياسر عن طريق العذيب والقادسية والحر يسايره.
ثم إن الحسين خطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير ما عليه بفعلٍ ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من غير، وقد أتتني كتبكم ورسلكم ببيعتكم، وأنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، وأنا الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهلكم، فلكم في أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدي وخلعتم بيعتي فلعمري ما هي لكم بنكير، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم بن عقيل، والمغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم، (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) الفتح: 10، وسيغني الله عنكم، والسلام.
فقال له الحر: إني أذكرك الله في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن. فقال له الحسين: أبالموت تخوفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ وما أدري ما أقول لك! ولكني أقول كما قال أخو الأوسي لابن عمه وهو يريد نصرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال له: أين تذهب؟ فإنك مقتول! فقال:
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى ... إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما
وواسى رجالاً صالحين بنفسه ... وخالف مثبوراً وفارق مجرما
فإن عشت لم أندم وإن مت لم ألم ... كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما
فلما سمع ذلك الحر تنحى عنه، فكان يسير ناحيةً عنه حتى انتهى إلى عذيب الهجانات، كان به هجائن النعمان ترعى هناك فنسب إليها، فإذا هو بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يجنبون فرساً لنافع بن هلال يقال له الكامل ومعهم دليلهم الطرماح بن عدي وانتهوا إلى الحسين، فأقبل إليهم الحر وقال: إن هؤلاء النفر من أهل الكوفة وأنا حابسهم أو رادهم. فقال الحسين: لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي، إنما هؤلاء أنصاري وهم بمنزلة من جاء معي، فإن تممت على ما كان بيني وبينك وإلا ناجزتك. فكف الحر عنهم، فقال لهم الحسين: أخبروني خبر الناس خلفكم. فقال له مجمع بن عبيد الله العائذي، وهو أحدهم: أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم، وملئت غرائرهم، فهم ألبٌ واحدٌ عليك، وأما سائر الناس بعدهم فإن قلوبهم تهوي إليك وسيوفهم غداً مشهورة إليك.
وسألهم عن رسوله قيس بن مسهر، فأخبروه بقتله وما كان منه، فترقرقت عيناه بالدموع ولم يملك دمعته، ثم قرأ: (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) الأحزاب: 23، اللهم اجعل لنا ولهم الجنة واجمع بيننا وبينهم في مستقر رحمتك ورغائب مذخور ثوابك.
وقال له الطرماح بن عدي: والله ما أرى معك كثير أحدٍ، ولو لم يقاتلك إلا هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفى بهم، ولقد رأيت قبل خروجي من الكوفة بيومٍ ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناي جمعاً في صعيد واحد أكثر منه قط ليسيروا إليك، فأنشدك الله إن قدرت على أن لا تقدم إليهم شبراً فافعل، فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتى ترى رأيك ويستبين لك ما أنت صانع فسر حتى أنزلك جبلنا أجأ، فهو والله جبل امتنعنا به من ملوك غسان وحمير والنعمان بن المنذر ومن الأحمر والأبيض، والله ما إن دخل علينا ذل قط، فأسير معك حتى أنزلك القرية، ثم تبعث إلى الرجال ممن بأجأ وسليم من طيء، فوالله لا يأتي عليك عشرة أيام حتى يأتيك طيء رجالاً وركباناً، ثم أقم فينا ما بدا لك، فإن هاجك هيجٌ فأنا زعيمٌ لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، فوالله لا يوصل إليك أبداً وفيهم عين تطرف. فقال له: جزاك الله وقومك خيراً! إنه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر جمعه على الانصراف ولا ندري علام تتصرف بنا وبهم الأمور. فودعه وسار إلى أهله ووعده أن يوصل الميرة إلى أهله ويعود إلى نصره، ففعل، ثم عاد إلى الحسين، فلما بلغ عذيب الهجانات لقيه خبر قتله فرجع إلى أهله.
ثم سار الحسين حتى بلغ قصر بني مقاتل فرأى فسطاطاً مضروباً فقال: لمن هذا؟ فقيل: لعبيد الله بن الحر الجعفي. فقال: ادعوه لي. فلما أتاه الرسول يدعوه قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله ما خرجت من الكوفة إلا كراهية أن يدخلها الحسين وأنا بها، والله ما أريد أن أراه ولا يراني. فعاد الرسول إلى الحسين فأخبره، فلبس الحسين نعليه ثم جاء فسلم عليه ودعاه إلى نصره، فأعاد عليه ابن الحر تلك المقالة، قال: فإن لا تنصرني فاتق الله أن تكون ممن يقاتلنا، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلا هلك. فقال له: إما هذا فلا يكون أبداً إن شاء الله تعالى.
ثم قام الحسين فخرج إلى رحله ثم سار ليلاً ساعةً فخفق برأسه خفقة ثم انتبه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين. فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين فقال: يا أبت جعلت فداك! مم حمدت واسترجعت؟ قال: يا بني إني خفقت برأسي خفقةً فعن لي فارس على فرس، فقال: القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم؛ فعلمت أن أنفسنا نعيت إلينا. فقال: يا أبت لا أراك الله سوءاً. ألسنا على الحق؟ قال: بلى والذي يرجع إليه العباد. قال: إذن لا نبالي أن نموت محقين. فقال له: جزاك الله من ولد خيراً ما جزى ولداً عن والده.
فلما أصبح نزل فصلى ثم عجل الركوب فأخي يتياسر بأصحابه يريد أن يفرقهم، فأتى الحر فرده وأصحابه، فجعل إذا ردهم نحو الكوفة رداً شديداً امتنعوا عليه وارتفعوا، فلم يزالوا يتياسرون حتى انتهوا إلى نينوى، المكان الذي نزل به الحسين، فلما نزلوا إذا راكب مقبل من الكوفة، فوقفوا ينتظرونه، فسلم على الحر ولم يسلم على الحسين وأصحابه، ودفع إلى الحر كتاباً من ابن زياد، فإذا فيه: أما بعد فجعجع بالحسين حتى يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصين وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام.
فلما قرأ الكتاب قال لهم الحر: هذا كتاب الأمير يأمرني أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه، وقد أمر رسوله أن لا يفارقني حتى أنفذ رأيه وأمره. وأخذهم الحر بالنزول على غير ماء ولا في قرية، فقالوا: دعنا ننزل في نينوى أو الغاضرية أو شفية. فقال: لا أستطيع، هذا الرجل قد بعث عيناً علي. فقال زهير بن القين للحسين: إنه لا يكون والله بعد ما ترون إلا ما هو أشد منه يا ابن رسول الله، وإن قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به! فقال الحسين: ما كنت لأبدأهم بالقتال. فقال له زهير: سر بنا إلى هذه القرية حتى ننزلها فإنها حصينة وهي على شاطىء الفرات، فإن منعونا قاتلناهم فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء بعدهم. فقال الحسين: ما هي؟ قال: العقر. قال: اللهم إني أعوذ بك من العقر! ثم نزل، وذلك يوم الخميس الثاني من محرم سنة إحدى وستين.
فلما كان الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف، وكان سبب مسيره إليه أن عبيد الله بن زياد كان قد بعثه على أربعة آلاف في دستبى، وكانت الديلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها، وكتب له عهده على الري، فعسكر بالناس في حمام أعين، فلما كان من أمر الحسين ما كان دعا ابن زياد عمر بن سعد وقال له: سر إلى الحسين فإذا فرغنا مما بيننا وبينه سرت إلى عملك. فاستعفاه. فقال: نعم، على أن ترد عهدنا. فلما قال له ذلك قال: أمهلني اليوم حتى أنظر. فاستشار نصحاءه فكلهم نهاه، وأتاه حمزة بن المغيرة بن شعبة، وهو ابن أخته، فقال: أنشدك الله يا خالي أن تسير إلى الحسين فتأثم وتقطع رحمك، فوالله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض لو كان لك خير من أن تلقى الله بدم الحسين! فقال: أفعل. وبات ليلته مفكراً في أمره، فسمع وهو يقول:
أأترك ملك الري والري رغبةً ... أم أرجع مذموماً بقتل حسين
وفي قتله النار التي ليس دونها ... حجابٌ وملك الري قرة عين
ثم أتى ابن زياد فقال له: إنك قد وليتني هذا العمل وسمع الناس به، فإن رأيت أن تنفذ لي ذلك فافعل وابعث إلى الحسين من أشراف الكوفة من لست أغنى في الحرب منه؛ وسمى أناساً. فقال له ابن زياد: لست أستأمرك فيمن أريد أن أبعث، فإن سرت بجندنا وإلا فابعث إلينا بعهدنا. قال: فإني سائر. فأقبل في ذلك الجيش حتى نزل بالحسين، فلما نزل به بعث إليه رسولاً يسأله ما الذي جاء به، فقال الحسين: كتب إلي أهل مصركم هذا أن أقدم عليهم، فأما إذ كرهوني فإني أنصرف عنهم. فكتب عمر إلى ابن زياد يعرفه ذلك، فلما قرأ ابن زياد الكتاب قال:
الآن إذ علقت مخالبنا به ... يرجو النجاة ولات حين مناص
ثم كتب إلى عمر يأمره أن يعرض على الحسين بيعة يزيد فإن فعل ذلك رأينا رأينا، وأن يمنعه ومن معه الماء. فأرسل عمر بن سعد عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس، فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين وبين الماء. وذلك قبل قتل الحسين بثلاثة أيام، ونادى عبد الله بن أبي الحصين الأزدي، وعداده في بجيلة: يا حسين أما تنظر إلى الماء؟ لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشاً! فقال الحسين: اللهم اقتله عطشاً ولا تغفر له أبداً. قال: فمرض فيما بعد فكان يشرب الماء القلة ثم يقيء ثم يعود فيشرب حتى يبغر ثم يقيء ثم يشرب فيما يروى، فما زال كذلك حتى مات.
فلما اشتد العطش على الحسين وأصحابه أمر أخاه العباس بن علي فسار في عشرين راجلاً يحملون القرب وثلاثين فارساً فدنوا من الماء فقاتلوا عليه وملؤوا القرب وعادوا، ثم بعث الحسين إلى عمر بن سعد عمرو بن قرظة بن كعب الأنصاري أن القني الليلة بين عسكري وعسكرك. فخرج إليه عمر، فاجتمعا وتحادثا طويلاً ثم انصرف كل واحد منهما إلى عسكره، وتحدث الناس أن الحسين قال لعمر بن سعد: اخرج معي إلى يزيد بن معاوية وندع العسكرين. فقال عمر: أخشى أن تهدم داري. قال: أبنيها لك خيراً منه. قال: تؤخذ ضياعي. قال: أعطيك خيراً منها من مالي بالحجاز. فكره ذلك عمر.
وتحدث الناس بذلك ولم يسمعوه، وقيل: بل قاله له: اختاروا مني واحدة من ثلاث: إما أن أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه، وإما أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بيني وبينه رأيه، وإما أن تسيروا بي إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئتم فأكون رجلاً من أهله لي ما لهم وعلي ما عليهم.
وقد روي عن عقبة بن سمعان أنه قال: صحبت الحسين من المدينة إلى مكة ومن مكة إلى العراق ولم أفارقه حتى قتل، وسمعت جميع مخاطباته للناس إلى يوم مقتله، فوالله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس أنه يضع يده في يد يزيد، ولا أن يسيروه إلى ثغر من ثغور المسلمين، ولكنه قال: دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس. فلم يفعلوا.
ثم التقى الحسين وعمر بن سعد مراراً ثلاثاً أو أربعاً فكتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد: إما بعد فإن الله أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وقد أعطاني الحسين أن يرجع إلى المكان الذي أقبل منه أو أن نسيره إلى أي ثغر من الثغور شئنا، أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين فيضع يده في يده، وفي هذا لكم رضى وللأمة صلاح. فلما قرأ ابن زياد الكتاب قال: هذا كتاب رجل ناصح لأميره، مشفق على قومه، نعم قد قبلت.
فقام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال: أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك؟ والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة والعزة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت كنت ولي العقوبة، وإن عفوت كان ذلك لك، ولله لقد بلغني أن الحسين وعمر يتحدثان عامة الليل بين العسكرين.
فقال ابن زياد: نعم ما رأيت الرأي رأيك اخرج بهذا الكتاب إلى عمر فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، فإن فعلوا فليبعث بهم إلي سلماً، وإن أبوا فليقاتلهم، وإن فعل فاسمع له وأطع، وإن أبى فأنت الأمير عليه وعلى الناس واضرب عنقه وابعث إلي برأسه. وكتب معه إلى عمر بن سعد: أما بعد فإني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه ولا لتمنيه ولا لتطاوله ولا لتقعد له عندي شافعاً، انظر فإن نزل الحسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إلي سلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم فإنهم لذلك مستحقون، فإن قتل الحسين فأوطىء الخيل صدره وظهره فإنه عاقٌّ شاقٌّ قاطع ظلوم، فإن أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أنت أبيت فاعتزل جندنا وخل بين شمر وبين العسكر، والسلام.
فلما أخذ شمر الكتاب كان معه عبد الله بن أبي المحل بن حزام عند ابن زياد، وكانت عمته أم البنين بنت حزام عن علي، فولدت له العباس وعبد الله وجعفراً وعثمان، فقال لابن زياد: إن رأيت أن تكتب لبني أختنا أماناً فافعل، فكتب لهم أماناً فبعث به مع مولى له إليهم، فلما رأوا الكتاب قالوا: لا حاجة لنا في أمانكم، أمان الله خير من أمان ابن سمية. فلما أتى شمر بكتاب ابن زياد إلى عمر قال له: ما لك ويلك قبح الله ما جئت به! والله إني لأظنك أنت ثنيته أن يقبل ما كنت كتبت إليه به، أفسدت علينا أمراً كنا رجونا أن يصلح، والله لا يستسلم الحسين أبداً، والله إن نفس أبيه لبين جنبيه. فقال له شمر: ما أنت صانع؟ قال: أتولى ذلك. ونهض إليه عشية الخميس لتسع مضين من المحرم، وجاء شمر فدعا العباس بن علي وإخوته فخرجوا إليه، فقال: أنتم يا بني أختي آمنون. فقالوا له: لعنك الله ولعن أمانك! لئن كنت خالنا أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟ ثم ركب عمر والناس معه بعد العصر والحسين جالس أمام بيته محتبياً بسيفه إذ خفق برأسه على ركبته، وسمعت أخته زينب الضجة فدنت منه فأيقظته، فرفع رأسه فقال: إني رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في المنام، فقال: إنك تروح إلينا. قال: فلطمت أخته وجهها وقالت: يا ويلتاه! قال: ليس لك الويل يا أخية، اسكتي رحمك الله! قال له العباس أخوه: يا أخي أتاك القوم. فنهض فقال: يا أخي أركب بنفسي. فقال له العباس: بل أروح أنا. فقال: اركب أنت حتى تلقاهم فتقول: ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عما جاء بهم. فأتاهم في نحو عشرين فارساً فيهم زهير بن القين فسألهم، فقالوا: جاء أمر الأمير بكذا وكذا. قال: فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم. فوقفوا ورجع العباس إليه بالخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويذكرونهم الله، فلما أخبره العباس بقولهم قال له الحسين: ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة لعلنا نصلي لربنا هذه الليلة وندعوه ونستغفره فهو يعلم أني كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار. وأراد الحسين أيضاً أن يوصي أهله. فرجع إليهم العباس وقال لهم: انصرفوا عنا العشية حتى ننظر في هذا الأمر، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله، فإما رضيناه وإما رددناه.
فقال عمر بن سعد: ما ترى يا شمر؟ قال: أنت الأمير. فأقبل على الناس فقال: ما ترون؟ فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي: سبحان الله! والله لو كانوا من الديلم ثم سألوكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوهم. وقال قيس بن الأشعث بن قيس: أجبهم لعمري ليصبحنك بالقتال غدوة. فقال: لو أعلم أن يفعلوا ما أخرتهم العشية. ثم رجع عنهم.
فجمع الحسين أصحابه بعد رجوع عمر فقال: أثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين فاجعلنا لك من الشاكرين، أما بعد فإني لاأعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً عني خيراً، ألا وإني لأظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإني قد أذنت لكم جميعاً فانطلقوا في حل ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي فجزاكم الله جميعاً، ثم تفرقوا في البلاد في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فإن القوم يطلبونني ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري. فقال له إخوته وأبناؤه وأبناء إخوته وابناء عبد الله بن جعفر: لم نفعل هذا؟ لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبداً! فقال الحسين: يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا فقد أذنت لكم. قالوا: وما نقول للناس؟ نقول: تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن منهم برمح ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا؟ لا والله لا نفعل ولكنا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك! وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال: أنحن نتخلى عنك ولم نعذر إلى الله في أداء حقك. أما والله لا أفارقك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمة بيدي، والله لو لم يكن معي سلاحي لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك. وتكلم أصحابه بنحو هذا، فجزاهم الله خيراً.
وسمعته أخته زينب تلك العشية وهو في خباء له يقول، وعنده حوي مولى أبي ذر الغفاري يعالج سيفه:
يا دهر أفٍ لك من خليل ... كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالبٍ قتيل ... والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل ... وكل حيٍ سالك السبيل
فأعادها مرتين أو ثلاثاً، فلما سمعته لم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها حتى انتهت إليه ونادت: واثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة اليوم! ماتت فاطمة أمي وعلي أبي والحسن أخي يا خليفة الماضي وثمال الباقي! فذهب فنظر إليها وقال: يا أخية لا يذهبن حلمك الشيطان. قالت: بأبي أنت وأمي استقتلت! نفسي لنفسك الفدى! فردد غصته وترقرقت عيناه ثم قال: لو ترك القطا ليلاً لنام. فلطمت وجهها وقالت: وا ويلتاه! أفتغصبك نفسك اغتصاباً، فذلك أقرح لقلبي وأشد على نفسي! ثم لطمت وجهها وشقت جيبها وخرت مغشياً عليها. فقام إليها الحسين فصب الماء على جهها وقال: اتقي الله وتعزي بعزاء الله واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون وأن كل شيء هالكٌ إلا وجه الله، أبي خير مني وأمي خير مني وأخي خير مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة. فعزاها بهذا ونحوه وقال لها: يا أخية إني أقسم عليك لا تشقي علي جيباً، ولا تخمشي علي وجهاً، ولا تدعي علي بالويل والثبور إن أنا هلكت.
ثم خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقربوا بعض بيوتهم من بعض وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض ويكونوا بين يدي البيوت فيستقبلون القوم من وجه أحد والبيوت على أيمانهم وعن شمائلهم ومن ورائهم.
فلما أمسوا قاموا الليل كله يصلون ويستغفرون ويتضرعون ويدعون. فلما صلى عمر بن سعد الغداة يوم السبت، وقيل الجمعة، يوم عاشوراء، خرج فيمن معه من الناس، وعبى الحسين أصحابه وصلى بهم صلاة الغداة، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مطهر في ميسرتهم، وأعطى رايته العباس أخاه، وجعلوا البيوت في ظهورهم، وأمر بحطب وقصب فألقي في مكان منخفض من ورائهم كأنه ساقية عملوه في ساعة من الليل لئلا يؤتوا من ورائهم وأضرم ناراً تمنعهم ذلك.
وجعل عمر بن سعد على ربع أهل المدينة عبد الله بن زهير الأزدي، وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس، وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي، وعلى ربع تميم وهمدان الحر بن يزيد الرياحي، فشهد هؤلاء كلهم مقتل الحسين إلا الحر بن يزيد فإنه عدل إلى الحسين وقتل معه، وجعل عمر على ميمنته عمرو بن الحجاج الزبيدي، وعلى ميسرته شمر ابن ذي الجوشن، وعلى الخيل عروة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجال شبث بن ربعي اليربوعي التميمي، وأعطى الراية دريداً مولاه.
فلما دنوا من الحسين أمر فضرب له فسطاط، ثم أمر بمسك فميث في جفنة، ثم دخل الحسين فاستعمل النورة، ووقف عبد الرحمن بن عبد ربه وبرير بن حضير الهمداني على باب الفسطاط وازدحما أيهما يطلي بعده، فجعل برير يهازل عبد الرحمن، فقال له: والله ما هذه بساعة باطل. فقال برير: والله إن قومي لقد علموا أني ما أحببت الباطل شاباً ولا كهلاً، ولكني مستبشر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم. فلما فرغ الحسين دخلا، ثم ركب الحسين دابته ودعا بمصحف فوضعه أمامه، واقتتل أصحابه بين يديه، فرفع يديه ثم قال: اللهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من همٍ يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت به العدو أنزلته بك وشكوته إليك رغبةً إليك عمن سواك ففرجته وكشفته وكفيتنيه، فأنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة.
فلما رأى أصحاب عمر النار تلتهب في القصب نادى شمر الحسين: تعجلت النار في الدنيا قبل القيامة! فعرفه الحسين فقال: أنت أولى بها صلياً! ثم ركب الحسين راحلته وتقدم إلى الناس ونادى بصوت عال يسمعه كل الناس فقال: أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتى أعظهم بما يجب لكم علي وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي وأنصفتموني كنتم بذلك أسعد ولم يكن لكم علي سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر (فأجموا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمةً ثم اقضوا إلي ولا تنظرون) يونس: 71، (إن وليي الله الذي نزل الكتاب، وهو يتولى الصالحين) الأعراف: 196،! قال: فلما سمع أخواته قوله بكين وصحن وارتفعت أصواتهن، فأرسل إليهن أخاه العباس وابنه علياً ليسكتاهن، وقال: لعمري ليكثرن بكاؤهن! فلما ذهب قال: لا يبعد ابن عباس، وإنما قالها حين سمع بكاءهن لأنه كان نهاه أن يخرج بهن معه.
فلما سكتن حمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد وعلى الملائكة والأنبياء وقال ما لا يحصى كثرة، فما سمع أبلغ منه، ثم قال: أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا ثم راجعوا أنفسكم فعاتبوها وانظروا هل يصلح ويحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي، ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وبان عمه، وأولى المؤمنين بالله والمصدق لرسوله؟ أوليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أوليس جعفر الشهيد الطيار في الجنة عمي؟ أولم يبلغكم قول مستفيض فيكم: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لي ولأخي: أنتما سيدا شباب أهل الجنة وقرة عين أهل السنة؟ فإن صدقتموني بما أقول، وهو الحق، والله ما تعمدت كذباً مذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله أو أبا سعيد أو سهل بن سعد أو زيد بن أرقم أو أنساً يخبروكم أنهم سمعوه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أما في هذا حاجز يحجزكم عن سفك دمي؟.
فقال له شمر: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول! فقال له حبيب بن مطهر: والله إني أراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وإن الله قد طبع على قلبك فلا تدري ما تقول.
ثم قال الحسين: فإن كنتم في شك مما أقول أو تشكون في أني ابن بنت نبيكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم. أخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو بمال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟ فلم يكلموه، فنادى: يا شبث بن ربعي! ويا حجار بن أبجر! ويا قيس بن الأشعث! ويا زيد بن الحارث! ألم تكتبوا إلي في القدوم عليكم؟ قالوا: لم نفعل. ثم قال: بلى فعلتم. ثم قال: أيها الناس إذ كرهتموني فدعوني أنصرف إلى مأمني من الأرض.
قال: فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم ابن عمك، يعني ابن زياد، فإنك لن ترى إلا ما تحب. فقال له الحسين: أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله ولا أعطيهم بيدي عطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبد. عباد الله إني عذت بربي وربكم أن ترجمون، أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ثم أناخ راحلته ونزل عنها.
وخرج زهير بن القين على فرس له في السلاح فقال: يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار، إن حقاً على المسلم نصيحة المسلم، ونحن حتى الآن إخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنا نحن أمة وأنتم أمة، إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا ندعوكم إلى نصره وخذلان الطاغية ابن الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنكم لا تدركون مهما إلا سوءاً، يسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقراءكم، أمثال حجر بن عدي وأصحابه، وهانىء بن عروة وأشباهه! قال: فسبوه وأثنوا على ابن زياد وقالوا: والله لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله بن زياد سلماً. فقال لهم: يا عبدا الله إن ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمية، فإن كنتم لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم، خلوا بين الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية، فلعمري إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين. فرماه شمرٌ بسهم وقال: اسكت اسكت الله نأمتك، أبرمتنا بكثرة كلامك! فقال زهر: يا ابن البوال على عقبيه! ما إياك أخاطب، إنما أنت بهيمة! والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم. فقال شمر: إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة. قال: أفبالموت تخوفني؟ والله للموت معه أحب إلي من الخلد معكم! ثم رفع صوته وقال: يا عباد الله لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافي، فوالله لا تنال شفاعة محمد قوماً أهرقوا دماء ذريته وأهل بيته وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم. فأمره الحسين فرجع.
ولما زحف عمر نحو الحسين أتاه الحر بن يزيد فقال له: أصلحك الله! أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال له: إي إي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي. قال: أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضىً؟ فقال عمر بن سعد: والله لو كان الأمر إلي لفعلت ولكن أميرك قد أبى ذلك. فأقبل يدنو نحو الحسين قليلاً قليلاً، وأخذته رعدة، فقال له رجل من قومه يقال له المهاجر بن أوس: والله إن أمرك لمريب! والله ما رأيت منك في موقف قط ما أراه الآن! ولو قيل من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك. فقال له: إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار ولا أختار على الجنة شيئاً ولو قطعت وحرقت. ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين، فقال له: جعلني الله فداك يا ابن رسول الله! أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان، ووالله ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً، فقلت في نفسي: لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ولا يرون أني خرجت من طاعتهم، وأما هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه، ووالله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك، وإني قد جئتك تائباً مما كان مني إلى ربي مؤاسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أفترى ذلك توبة؟ قال: نعم، يتوب الله عليك ويغفر لك.
وتقدم الحر أمام أصحابه ثم قال: أيها القوم ألا تقبلون من الحسين خصلةً من هذه الخصال التي عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله؟ فقال عمر: لقد حرصت لو وجدت إلى ذلك سبيلاً. فقال: يا أهل الكوفة لأمكم الهبل والعبر! أدعوتموه حتى إذا أتاكم أسلمتموه وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه؟ أمسكتم بنفسه وأحطتم به ومنعتموه من التوجه في بلاد الله العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته، فأصبح كالأسير لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضراً، ومنعتموه ومن معه عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهودي والنصراني والمجوسي ويتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه وها هو وأهله قد صرعهم العطش! بئسما خلفتم محمداً في ذريته! لا سقاكم الله يوم الظمإ إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عليه! فرموه بالنبل، فرجع حتى وقف أمام الحسين.
ثم قدم عمر بن سعد برايته، وأخذ سهماً فرمى به وقال: اشهدوا لي أني أول رامٍ! ثم رمى الناس، وبرز يسار، مولى زياد، وسالم، مولى عبيد الله، وطلبا البراز، فخرج إليهما عبد الله بن عمير الكلبي، وكان قد أتى الحسين من الكوفة وسارت معه امرأته، فقالا له: من أنت؟ فانتسب لهما. فقالا: لا نعرفك، ليخرج إلينا زهير بن القين، أو حبيب بن مطهر، أو برير بن حضير. وكان يسار أمام سالم، فقال له الكلبي: يا ابن الزانية وبك رغبة عن مبارزة أحد من الناس، وما يخرج إليك أحد إلا وهو خير منك! ثم حمل عليه فضربه بسيفه حتى برد فاشتغل به يضربه، فحمل عليه سالم، فلم يأبه له حتى غشيه فضربه، فاتقاه الكلبي بيده فأطار أصابع كفه اليسرى، ثم مال عليه الكلبي فضربه حتى قتله، وأخذت امرأته عموداً، وكانت تسمى أم وهب، وأقبلت نحو زوجها وهي تقول: فداك أبي وأمي! قاتل دون الطيبين ذرية محمد! فردها نحو النساء، فامتنعت وقالت: لن أدعك دون أن أموت معك. فناداها الحسين فقال: جزيتم من أهل بيت خيراً! ارجعي رحمك الله، ليس الجهاد إلى النساء. فرجعت.
فزحف عمرو بن الحجاج في ميمنة عمر، فلما دنا من الحسين جثوا له على الركب وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تقدم خيلهم على الرماح، فذهبت الخيل لترجع فرشقوهم بالنبل فصرعوا منهم رجالاً وجرحوا آخرين.
وتقدم رجل منهم يقال له ابن حوزة فقال: أفيكم الحسين؟ فلم يجبه أحد، فقالها ثلاثاً، فقالوا: نعم، فما حاجتك؟ قال: يا حسين أبشر بالنار! قال له: كذبت بل أقدم على رب رحيم وشفيع مطاع، فمن أنت؟ قال: ابن حوزة. فرفع الحسين يديه فقال: اللهم حزه إلى النار! فغضب ابن حوزة فأقحم فرسه في نهر بينهما فتعلقت قدمه بالركاب وجالت به الفرس فسقط عنها فانقطعت فخذه وساقه وقدمه وبقي جنبه الآخر متعلقاً بالركاب يضرب به كل حجر وشجر حتى مات.
وكان مسروق بن وائل الحضرمي قد خرج معهم وقال لعلي: أصيب رأس الحسين، فأصيب به منزلة عند ابن زياد، فلما رأى ما صنع الله بابن حوزة بدعاء الحسين رجع وقال: لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئاً، لا أقاتلهم أبداً.
ونشب القتال وخرج يزيد بن معقل حليف عبد القيس فقال: يا بربر ابن حضير كيف ترى الله صنع بك؟ قال: والله لقد صنع بي خيراً وصنع بك شراً. فقال: كذبت وقبل اليوم ما كنت كذاباً، وأنا أشهد أنك من الضالين. فقال له ابن حضير: هل لك أن أباهلك أن يلعن الله الكاذب ويقتل المبطل، ثم أخرج أبارزك! فخرجها فتباهلا أن يلعن الله الكاذب ويقتل المحق المبطل ثم تبارزا فاختلفا ضربتين فضرب يزيد بن معقل برير بن حضير فلم يضره شيئاً وضربه ابن حضير ضربةً قدت المغفر وبلغت الدماغ فسقط والسيف في رأسه، فحمل عليه رضى بن منقذ العبدي، فاعتنق ابن حضير، فاعتركا ساعة ثم إن ابن حضير قعد على صدره، فحمل كعب بن جابر الأزدي عليه بالرمح فوضعه في ظهره حتى غيب السنان فيه، فلما وجد مس الرمح نزل على رضى فعض أنفه وقطع طرفه، وأقبل إليه كعب بن جابر فضربه بسيفه حتى قتله، وقام رضى ينفض التراب عن قبائه، فلما رجع كعب قالت له امرأته: أعنت على ابن فاطمة وقتلت بريراً سيد القراء، والله لا أكلمك أبداً!
وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري وقاتل دون الحسين فقتل، وكان أخوه مع عمر بن سعد، فنادى: يا حسين يا كذاب ابن الكذاب! أضللت أخي وغررته حتى قتلته! فقال: إن الله لم يضل أخاك بل هداه وأضلك. قال: قتلني الله إن لم أقتلك أو أموت دونك. فحمل واعترضه نافع بن هلال المرادي فطعنه فصرعه، فحمل أصحابه فاستنقذوه فدووي بعد فبرأ.
وقاتل الحر بن يزيد مع الحسين قتالاً شديداً، وبرز إليه يزيد بن سفيان فقتله الحر، وقاتل نافع بن هلال مع الحسين أيضاً فبرز إليه مزاحم بن حريث فقتله نافع.
فصاح عمرو بن الحجاج بالناس: أتدرون من تقاتلون؟ فرسان المصر، قوماً مستميتين، لا يبرز إليهم منكم أحد فإنهم قليل وقل ما يبقون، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم. يا أهل الكوفة الزموا طاعتكم وجماعتكم، لا ترتابوا في قتل من مرق من الدين وخالف الإمام. فقال عمر: الرأي ما رأيت. ومنع الناس من المبارزة. قال: وسمعه الحسين فقال: يا عمرو بن الحجاج أعلي تحرض الناس؟ أنحن مرقنا من الدين أم أنتم؟ والله لتعلمن لو قبضت أرواحكم ومتم على أعمالكم أينا المارق.
ثم حمل عمرو بن الحجاج على الحسين من نحو الفرات فاضطربوا ساعةً، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي، وانصرف عمرو ومسلم صريع، فمشى إليه الحسين وبه رمقٌ فقال: رحمك الله يا مسلم بن عوسجة، (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) الأحزاب: 23. ودنا منه حبيب بن مطهر وقال: عز علي مصرعك، أبشر بالجنة، ولولا أني أعلم أنني في أثرك لاحقٌ بك لأحببت أن توصيني حتى أحفظك بما أنت له أهل. فقال: أوصيك بهذا، رحمك الله، وأومأ بيده نحو الحسين، أن تموت دونه. فقال: أفعل. ثم مات مسلم وصاحت جاريةٌ له فقالت: يابن عوسجة! فنادي أصحاب عمرو: قتلنا مسلماً. فقال شبث لبعض من حوله: ثكلتكم أمهاتكم! إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم وتذلون أنفسكم لغيركم، أتفرحون بقتل مثل مسلم؟ أما والذي أسلمت له لرب موقف له قد رأيته في المسلمين، فلقد رأيته يوم سلق أذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تنام خيول المسلمين، أفيقتل مثله وتفرحون؟ وكان الذي قتله مسلم بن عبد الله الضبابي وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي.
وحملى شمر في المسيرة فثبتوا له وحملوا على الحسين وأصحابه من كل جانب، فقتل الكلبي وقد قتل رجلين بعد الرجلين الأولين وقاتل قتالاً شديداً، فقتله هانىء بن ثبيت الحضرمي وبكير بن حي التميمي من تيم الله بن ثعلبة، وقاتل أصحاب الحسين قتالاً شديداً، وهم اثنان وثلاثون فارساً، فلم تحمل على جانب من خيل الكوفة إلا كشفته. فلما رأى ذلك عزرة بن قيس، وهو على خيل الكوفة، بعث إلى عمر فقال: ألا ترى ما تلقى خيلي هذا اليوم من هذه العدة اليسيرة؟ ابعث إليهم الرجال والرماة. فقال لشبث بن ربعي: ألا تقدم إليهم! فقال: سبحان الله! شيخ مضر وأهل المصر عامة تبعثه في الرماة، لم تجد لهذا غيري! ولم يزالوا يرون من شبث الكراهة للقتال حتى إنه كان يقول في إمارة مصعب: لا يعطي الله أهل هذا المصر خيراً أبداً ولا يسددهم لرشد، ألا تعجبون أنا قاتلنا مع علي بن أبي طالب ومع ابنه آل أبي سفيان خمس سنين ثم عدونا على ابنه وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية، ضلال يا لك من ضلال! فلما قال شبث ذلك دعا عمر بن سعد الحصين بن نمير فبعث معه المجففة وخمسمائة من المرامية، فلما دنوا من الحسين وأصحابه رشقوهم بالنبل فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وصاروا رجالة كلهم، وقاتل الحر بن يزيد راجلاً قتالاً شديداً، فقاتلوهم، إلى أن انتصف النهار، أشد قتال خلقه الله لا يقدرون يأتونهم إلا من وجه واحد لاجتماع مضاربهم. فلما رأى ذلك عمر أرسل رجالاً يقوضونها عن أيمانهم وشمائلهم ليحيطوا بهم، فكان النفر من أصحاب الحسين الثلاثة والأربعة يتخللون البيوت فيقلتون الرجل وهو يقوض وينهب ويرمونه من قريب أو يعقرونه، فأمر بها عمر بن سعد فأحرقت، فقال لهم الحسين: دعوهم فليحرقوها فإنهم إذا حرقوها لا يستطيعون أن يجوزوا إليكم منها. فكان كذلك.
وخرجت امرأة الكلبي تمشي إلى زوجها فجلست عند رأسه تمسح التراب عن وجهه وتقول: هنيئاً لك الجنة! فأمر شمر غلاماً اسمه رستم فضرب رأسها بالعمود فماتت مكانها.
وحمل شمر حتى بلغ فسطاط الحسين ونادى: علي بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله. فصاح النساء وخرجن، وصاح به الحسين: أنت تحرق بيتي على أهلي؟ حرقك الله بالنار! فقال حميد بن مسلم لشمر: إن هذا لا يصلح لك، تعذب بعذاب الله وتقتل الولدان والنساء، والله إن في قتل الرجال لما يرضى به أميرك! فلم يقبل منه، فجاءه شبث بن ربعي فنهاه فانتهى، وذهب لينصرف فحمل عليه زهير بن القين في عشرة فكشفهم عن البيوت وقتلوا أبا عزة الضبابي، وكان من أصحاب شمر. وعطف الناس عليهم فكثروهم، وكانوا إذا قتل منهم الرجل والرجلان يبين فيهم لقلتهم، وإذا قتل في أولئك لا يبين فيهم لكثرتهم.
ولما حضر وقت الصلاة قال أبو ثمامة الصائدي للحسين: نفسي لنفسك الفداء! أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، والله لا تقتل حتى أقتل دونك، وأحب أن ألقى ربي وقد صليت هذه الصلاة! فرفع الحسين رأسه وقال: ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين، نعم هذا أول وقتها، ثم قال: سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي. ففعلوا، فقال لهم الحصين: إنها لا تقبل. فقال له حبيب بن مطهر: زعمت لا تقبل الصلاة من آل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتقبل منك يا حمار! فحمل عليه الحصين، وخرج إليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف فشب فسقط عنه الحصين فاستنقذه أصحابه، وقاتل حبيب قتالاً شديداً فقتل رجلاً من بني تميم اسمه بديل بن صريم، وحمل عليه آخر من تميم فطعنه فذهب ليقوم فضربه الحصين على رأسه بالسيف فوقع ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه، فقال له الحصين: أنا شريكك في قتله. فقال الآخر: لا والله! فقال له الحصين: أعطنيه أعلقه في عنق فرسي كيما يرى الناس أني شركت في قتله ثم خذه وامض به إلى ابن زياد فلا حاجة لي فيما تعطاه.
ففعل وجال به في الناس ثم دفعه إليه، فلما رجعوا إلى الكوفة أخذ الرأس وجعله في عنق فرسه ثم أقبل به إلى ابن زياد في القصر، فبصر به القاسم بن حبيب، وقد راهق، فأقبل مع الفارس لا يفارقه، فارتاب به الرجل، فسأله عن حاله، فأخبره وطلب الرأس ليدفنه، فقال: إن الأمير لا يرضى أن يدفن وأرجو أن يثيبني الأمير. فقال له: لكن الله لا يثيبك إلا أسوأ الثواب. ولم يزل يطلب غرة قاتل أبيه حتى كان زمان مصعب، وغزا مصعب ياجميرى، ودخل القاسم عسكره فإذا قاتل أبيه في فسططه فدخل عليه نصف النهار فقتله.
فلما قتل حبيب هد ذلك الحسين وقال عند ذلك: أحتسب نفسي وحماة أصحابي. وحمل الحر وزهير بن القين فقاتلا قتالاً شديداً، وكان إذا حمل أحدهما وغاص فيهم حمل الآخر حتى يخلصه، فعلا ذلك ساعة ثم إن رجاله حملت على الحر بن يزيد فقتلته، وقتل أبو ثمامة الصائدي ابن عم له كان عدوه، ثم صلوا الظهر، صلى بهم الحسين صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعد الظهر، فاشتد قتالهم، ووصلى إلى الحسين، فاستقدم الحنفي أمامه فاستهدف لهم يرمونه بالنبل وهو بين يديه حتى سقط.
وقاتل زهير بن القين قتالاً شديداً، فحمل عليه كثير بن عبيد الله الشعبي ومهاجر بن أوس فقتلاه، وكان نافع بن هلال الجملي قد كتب اسمه على أفواق نبله، وكانت مسمومة، فقتل بها اثني عشر رجلاً سوى من جرح، فضرب حتى كسرت عضداه وأخذ أسيراً، فأخذه شمر بن ذي الجوشن فأتى به عمر بن سعد والدم على وجهه وهو يقول: لقد قتلت منكم اثني عشر رجلاً سوى من جرحت، ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني. فانتضى شمرٌ سيفه ليقتله، فقال له نافع: والله لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا، فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه! فقتله شمرٌ ثم حمل على أصحاب الحسين.
فلما رأوا أنهم قد كثروا وأنهم لا يقدرون يمنعون الحسين ولا أنفسهم تنافسوا أن يقتلوا بين يديه، فجاء عبد الله وعبد الرحمن ابنا عروة الغفاريان إليه فقالا: قد حازنا الناس إليك. فجعلا يقاتلان بين يديه، وأتاه الفتيان الجابريان وهما سيف بن الحارث بن سريع ومالك بن عبد بن سريع، وهما ابنا عم وأخوان لأم وهما يبكيان، فقال لهما: ما يبكيكما؟ إني لأرجو أن تكونا عن ساعة قريري عين. فقالا: والله ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك، نراك قد أحيط بك ولا نقدر أن نمنعك! فقال: جزاكما الله جزاء المتقين!
وجاء حنظلة بن أسعد الشبامي فوقف بين يدي الحسين وجعل ينادي: (يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب، مثل دأب قوم نوحٍ وعادٍ وثمود والذين من بعدهم، وما الله يريد ظلماً للعباد، ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد، يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصمٍ، ومن يضلل الله فما له من هادٍ) غافر: 30 - 33. يا قوم لا تقتلوا الحسين فيسحتكم الله بعذاب (وقد خاب من افترى) طه: 61، فقال له الحسين: رحمك الله! إنهم قد استوجبوا العذاب حين ردوا ما دعوتهم إليه من الحق، ونهضوا ليستبيحوك وأصحابك فكيف بهم الآن قد قتلوا إخوانك الصالحين! فسلم على الحسين وصلى عليه وعلى أهل بيته وتقدم وقاتل حتى قتل.
وتقدم الفتيان الجابريان فودعا الحسين وقاتلا حتى قتلا.
وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري وشوذب مولى شاكر إلى الحسين فسلما عليه وتقدما فقاتلا فقتل شوذب، وأما عابس فطلب البراز فتحاماه الناس لشجاعته، فقال لهم عمر: ارموه بالحجارة، فرموه من كل جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره وحمل على الناس فهزمهم بين يديه، ثم رجعوا عليه فقتلوه وادعى قتله جماعةٌ.
وجاء الضحاك بن عبد الله المشرفي إلى الحسين فقال: يا ابن رسول الله قد علمت أني قلت لك إني أقاتل عنك ما رأيت مقاتلاً، فإذا لم أر مقاتلاً فأنا في حل من الإنصراف. فقال له الحسين: صدقت، وكيف لك بالنجاء؟ إن قدرت عليه فأنت في حل. قال: فأقبلت إلى فرسي، وكنت قد تركته في خباء حيث رأيت خيل أصحابنا تعقر، وقاتلت راجلاً وقتلت رجلين وقطعت يد آخر، ودعا إلى الحسين مراراً، قال: واستخرجت فرسي واستويت عليه وحملت على عرض القوم فأفرجوا لي وتبعني منهم خمسة عشر رجلاً ففتهم وسلمت.
وجثا أبو الشعثاء الكندي، وهو يزيد بن أبي زياد، بين يدي الحسين، فرمى بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم، وكلما رمى يقول له الحسين: اللهم سدد رميته واجعل ثوابه الجنة! وكان يزيد هذا فيمن خرج مع عمر بن سعد، فلما ردوا الشروط على الحسين عدل إليه فقاتل بين يديه، وكان أول من قتل.
وأما الصيداوي عمرو بن خالد وجبار بن الحارث السلماني وسعد مولى عمرو بن خالد ومجمع بن عبيد الله العائذي فإنهم قاتلوا أول القتال، فلما وغلوا فيهم عطفوا إليهم فقطعوهم عن أصحابهم، فحمل العباس بن علي فاستنقذهم وقد جرحوا، فلما دنا منهم عدوهم حملوا عليهم فقاتلوا فقتلوا في أول الأمر في مكان واحد.
وكان آخر من بقي من أصحاب الحسين سويد بن أبي المطاع الخثعمي، وكان أول من قتل من آل بني أبي طالب يومئذٍ علي الأكبر ابن الحسين، وأمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفية، وذلك أنه حمل عليهم وهو يقول:
أنا علي بن الحسين بن علي ... نحن ورب البيت أولى بالنبي
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي
ففعل ذلك مراراً، فحمل عليه مرة بن منقذ العبدي فطعنه فصرع وقطعه الناس بسيوفهم، فلما رآه الحسين قال: قتل الله قوماً قتلوك! يا بني ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول! على الدنيا بعدك العفاء! وأقبل الحسين إليه ومعه فتيانه فقال: احملوا أخاكم، فحملوه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه.
ثم إن عمرو بن صبيح الصدائي رمى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم فوضع كفه على جبهته فلم يستطع أن يحركها ثم رماه بسهم آخر فقتله.
وحمل الناس عليهم من كل جانب، فحمل عبد الله بن قطبة الطائي على عون بن عبد الله بن جعفر فقتله، وحمل عثمان بن خالد بن أسير الجهني وبشر بن سوط الهمداني على عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب فقتلاه، ورمى عبد الله بن عروة الخثعمي جعفر بن عقيل فقتله. ثم حمل القاسم بن الحسن بن علي وبيده السيف، فحمل عليه عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي فضرب رأسه بالسيف فسقط القاسم إلى الأرض لوجهه وقال: يا عماه! فانقض الحسين إليه كالصقر ثم شد شدة ليث أغضب فضرب عمراً بالسيف فاتقاه بيده فقطع يده من المرفق فصاح، وحملت خيل الكوفة ليستنقذوا عمراً فاستقبلته بصدورها وجالت عليه فوطئته حتى مات، وانجلت الغبرة والحسين واقف على رأس القاسم وهو يفحص برجليه والحسين يقول: بعداً لقوم قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك! ثم قال: عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك ثم لا ينفعك صوته، والله هذا يوم كثر واتره وقل ناصره! ثم احتمله على صدره حتى ألقاه مع ابنه علي ومن قتل معه من أهل بيته.
ومكث الحسين طويلاً من النهار كلما انتهى إليه رجل من الناس رجع عنه وكره أن يتولى قتله وعظم إثمه عليه، ثم إن رجلاً من كندة يقال له مالك بن النسير أتاه فضربه على رأسه بالسيف فقطع البرنس وأدمى رأسه وامتلأ البرنس دماً، فقال له الحسين: لا أكلت بها ولا شربت وحشرك الله مع الظالمين! وألقى البرنس ولبس القلنسوة، وأخذ الكندي البرنس، فلما قدم على أهله أخذ البرنس يغسل الدم عنه، فقالت له امرأته: اسلب ابن بنت رسول الله تدخل بيتي؟ أخرجه عني! قال: فلم يزل ذلك الرجل فقيراً بشر حتى مات.
ودعا الحسين بابنه عبد الله وهو صغير فأجلسه في حجره، فرماه رجل من بني أسد فذبحه، فأخذ الحسين دمه فصبه في الأرض ثم قال: ربي إن تكن حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير وانتقم من هؤلاء الظالمين.
ورمى عبد الله بن عقبة الغنوي أبا بكر بن الحسين بن علي بسهم فقتله، وقال العباس بن علي لإخوته من أمه عبد الله وجعفر وعثمان: تقدموا حتى أرثكم فإنه لا ولد لكم. ففعلوا فقتلوا، وحمل هانىء بن ثبيت الحضرمي على عبد الله بن علي فقتله، ثم حمل على جعفر بن علي فقتله، ورمى خولي بن يزيد الأصبحي عثمان بن علي، ثم حمل عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله وجاء برأسه، ورمى رجل من بني أبان أيضاً محمد بن علي بن أبي طالب فقتله وجاء برأسه.
وخرج غلام من خباء من تلك الأخبية فأخذ بعود من عيدانه وهو ينظر كأنه مذعور، فحمل عليه رجل قيل إنه هانىء بن ثبيت الحضرمي فقتله.
واشتد عطش الحسين فدنا من الفرات ليشرب فرماه حصين بن نمير بسهم فوقع في فمه فجعل يتلقى الدم بيده ورمى به إلى السماء، ثم حم الله وأثنى عليه ثم قال: اللهم إني أشكو إليك ما يصنع بابن بنت نبيك! اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً! قيل الذي رماه رجل من بني أبان بن دارم، فمكث ذلك الرجل يسيراً ثم صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروى فكان يروح عنه ويبرد له الماء فيه السكر وعساس فيها اللبن ويقول: اسقوني، فيعطى القلة أو العس فيشربه، فإذا شربه اضطجع هنيهةً ثم يقول: اسقوني قتلني الظمأ، فما لبث إلا يسيراً حتى انقدت بطنه انقداد بطن البعير.
ثم إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في نفر نحو عشرة من رجالهم نحو منزل الحسين فحالوا بينه وبين رحله، فقال لهم الحسين: ويلكم! إن لم يكن لكم دين ولا تخافون يوم المعاد فكونوا أحراراً ذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم وجهالكم. فقالوا: ذلك لك يا ابن فاطمة. وأقدم عليه شمر بالرجالة منهم: أبو الجنوب، واسمه عبد الرحمن الجعفي، والقشعم بن نذير الجعفي، وصالح بن وهب اليزني، وسنان بن أنس النخعي، وخولي بن يزيد الأصبحي، وجعل شمر يحرضهم على الحسين وهو يحمل عليهم فينكشفون عنه، ثم إنهم أحاطوا به. وأقبل إلى الحسين غلام من أهله فقام إلى جنبه وقد أهوى بحر بن كعب بن تيم الله بن ثعلبة إلى الحسين بالسيف، فقال الغلام: يا ابن الخبيثة أتقتل عمي! فضربه بالسيف، فاتقاه الغلام بيده فأطنها إلى الجلدة، فنادى الغلام: يا أمتاه! فاعتنقه الحسين وقال له: يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك فإن الله يلحقك بآبائك الطاهرين الصالحين، برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعلي وحمزة وجعفر والحسن. وقال الحسين: اللهم أمسك عنهم قطر السماء وامنعهم بركات الأرض! اللهم فإن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقاً واجعلهم طرائق قدداً ولا ترض عنهم الولاة أبداً، فإنهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا فقتلونا! ثما ضارب الرجالة حتى انكشفوا عنه.
ولما بقي الحسين في ثلاثة أو أربعة دعا بسراويل ففزره ونكثه لئلا يسلبه، فقال له بعضهم: لو لبست تحته التبان. قال: ذلك ثوب مذلة ولا ينبغي لي أن ألبسه. فلما قتل سلبه بحر بن كعب، وكان يداه في الشتاء تنضحان بالماء، وفي الصيف تيبسان كأنهما عود. وحمل الناس عليه عن يمينه وشماله، فحمل على الذين عن يمينه فتفرقوا، ثم حمل على الذين عن يساره فتفرقوا، فما رؤي مكثور قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أرط جأشاً منه ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً منه، إن كانت الرجالة لتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب.
فبينما هو كذلك إذ خرجت زينب وهي تقول: ليت السماء انطبقت على الأرض! وقد دنا عمر بن سعد، فقالت: يا عمر أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ فدمعت عيناه حتى سالت دموعه على خديه ولحيته وصرف وجهه عنها.
وكان على الحسين جبة من خز، وكان معتماً مخصوباً بالوسمة، وقاتل راجلاً قتال الفارس الشجاع يتقي الرمية ويفترص العورة ويشد على الخيل وهو يقول: أعلى قتلي تجتمعون؟ أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله الله أسخط عليكم لقتله مني! وايم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بهوانم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون! أما والله لوقتلتموني لألقى الله بأسكم بينكم وسفك دماءكم ثم لا يرضى بذلك منكم حتى يضاعف لكم العذاب الأليم.
قال: ومكث طويلاً من النهار، ولو شاء الناس أن يقتلوه لقتلوه ولكنهم كان يتقي بعضهم ببعض ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء، فنادى شمر في الناس: ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم! فحملوا عليه من كل جانب، فضرب زرعة بن شريك التميمي على كفه اليسرى، وضرب أيضاً على عاتقه، ثم انصرفوا عنه وهو يقوم ويكبو، وحمل عليه في تلك الحال سنان بن أنس النخعي فطعنه بالرمح فوقع، وقال لخولي بن يزيد الأصبحي: احتز رأسه، فأراد أن يفعل فضعف وأرعد، فقال له سنان: فت الله عضدك! ونزل إليه فذبحه واحتز رأسه فدفعه إلى خولي، وسلب الحسين ما كان عليه، فأخذ سراويله بحر بن كعب وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته، وهي من خز، فكان يسمى بعد قيس قطيفة، وأخذ نعليه الأسود الأودي، وأخذ سيفه رجل من دارم، ومال الناس على الفرش والحلل والإبل فانتهبوها، ونهبوا ثقله ومتاعه وما على النساء حتى إن كانت المرأة لتنزع ثوبها من ظهرها فيؤخذ منها.
ووجد بالحسين ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة غير الرمية.
وأما سويد بن المطاع فكان قد صرع فوقع بين القتلى مثخناً بالجراحات، فسمعهم يقولون: قتل الحسين! فوجد خفةً فوثب ومعه سكين، وكان سيفه قد أخذ، فقاتلهم بسكينة ساعة ثم قتل، قتله عروة بن بطان الثعلبي وزيد بن رقاد الجنبي، وكان آخر من قتل من أصحاب الحسين.
ثم انتهوا إلى علي بن الحسين زين العابدين، فأراد شمر قتله، فقال له حميد بن مسلم: سبحان الله أتقتل الصبيان! وكان مريضاً، وجاء عمر بن سعد فقال: لا يدخلن بيت هذه النسوة أحد ولا يعرضن لهذا الغلام المريض، ومن أخذ من متاعهم شيئاً فليرده، فلم يرد أحد شيئاً. فقال الناس لسنان بن أنس النخعي: قتلت الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قتلت أعظم العرب خطراً، أراد أن يزيل ملك هؤلاء، فأت أمراءك فاطلب ثوابك منهم فإنهم لو أعطوك بيوت أموالهم في قتله كان قليلاً. فأقبل على فرسه، وكان شجاعاً شاعراً به لوثة، حتى وقف على باب فسطاط عمر بن سعد ثم نادى بأعلى صوته:
أوقر ركابي فضةً وذهبا ... إني قتلت السيد المحجبا
قتلت خير الناس أماً وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون نسبا
فقال عمر بن سعد: أشهد إنك مجنون، أدخلوه علي. فلما دخل حذفه بالقضيب وقال: يا مجنون أتتكلم بهذا الكلام. والله لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك! وأخذ عمر بن سعد عقبة بن سمعان مولى الرباب ابنة امرىء القيس الكلبية امرأة الحسين، فقال: ما أنت؟ فقال: أنا عبد مملوك. فخلى سبيله، فلم ينج منهم غيره وغير المرقع بن ثمامة الأسدي، وكان قد نثر نبله فقاتل، فجاء نفر من قومه فآمنوه فخرج إليهم، فلما أخبر ابن زياد خبره نفاه إلى الزرارة.
ثم نادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب إلى الحسين فيوطئه فرسه، فانتدب عشرة، منهم إسحاق بن حيوة الحضرمي، وهو الذي سلب قميص الحسين، فبرص بعد، فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتى روا ظهره وصدره.
وكان عدة من قتل من أصحبا الحسين اثنين وسبعين رجلاً.
ودفن الحسين وأصحابه أهل الغاضرية من بني أسد بعد قتلهم بيوم.
وقتل من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون رجلاً سوى الجرحى فصلى عليهم عمر ودفنهم.
ولما قتل الحسين أرسل رأسه ورؤوس أصحابه إلى ابن زياد مع خولي بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدي، فوجد خولي القصر مغلقاً فأتى منزله فوضع الرأس تحت إجانة في منزله ودخل فراشه وقال لامرأته النوار: جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين معك في الدار. فقالت: ويلك! جاء الناس بالذهب والفضة وجئت برأس ابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والله لا يجمع رأسي ورأسك بيت أبداً! وقامت من الفراش فخرجت إلى الدار، قالت: فما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الإجانة، ورأيت طيراً أبيض يرفرف حولها. فلما أصبح غدا بالرأس إلى ابن زياد.
وقيل: بل الذي حمل الرؤوس كان شمر وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج وعروة بن قيس، فجلس ابن زياد وأذن للناس فأحضرت الرؤوس بين يديه وهو ينكت بقضيب بين ثنيته ساعة، فلما رآه زيد بن الأرقم لا يرفع قضيبه قال: أعل هذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فوالذي لا إله غره لقد رأيت شفتي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على هاتين الشفتين يقبلهما! ثم بكى، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك! فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك. فخرج وهو يقول: أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم، فرضيتم بالذل، فبعداً لمن يرضى بالذل! فأقام عمر بعد قتله يومين ثم ارتحل إلى الكوفة وحمل معه بنات الحسين وأخواته ومن كان معه من الصبيان، وعلي بن الحسين مريض، فاجتازوا بهم على الحسين وأصحابه صرعى، فصاح النساء ولطمن خدودهن، وصاحت زينب أخته: يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء! هذا الحسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا! فأبكت كل عدو وصديق.
فلما أدخلوهم على ابن زياد لبست زينب أرذل ثيابها وتنكرت وحفت بها إماؤها، فقال عبيد الله: من هذه الجالسة؟ فلم تكلمه، فقال ذلك ثلاثاً وهي لا تكلمه، فقال بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة. فقال لها ابن زياد: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم! فقالت زينب: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهيراً، لا كما تقول أنت، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر. فقال: فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ قالت: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتختصمون عنده. فغضب ابن زياد وقال: قد شفى الله غيظي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك. فبكت وقالت: لعمري لقد كان أبوك شجاعاً! فقالت: ما للمرأة والشجاعة! ولما نظر ابن زياد إلى علي بن الحسين قال: ما اسمك؟؛ قال: علي بن الحسين. قال: أولم يقتل الله علي بن الحسين؟ فسكت. فقال: ما لك لا تتكلم؟ فقال: كان لي أخ يقال له أيضاً عليٌّ فقتله الناس. فقال: إن الله قتله. فسكت عليٌّ. فقال: ما لك لا تتكلم؟ فقال: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) الزمر: 42، (وما كان لنفسٍ أن تموت إلا بإذن الله) آل عمران: 145. قال: أنت والله منهم. ثم قال لرجل: ويحك! انظر هذا هل أدرك؟ إني لأحسبه رجلاً. قال: فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري فقال: نعم قد أدرك. قال: اقتله. فقال علي: من توكل بهذه النسوة؟ وتعلقت به زينب فقالت: يا ابن زياد حسبك منا، أما رويت من دمائنا، وهل أبقيت منا أحداً! واعتنقته وقالت: أسألك بالله إن كنت مؤمناً إن قتلته لما قتلتني معه! وقال له علي: يا ابن زياد إن كانت بينك وبينهن قرابة فابعث معهن رجلاً تقياً يصحبهن بصحبة الإسلام. فنظر إليها ساعة ثم قال: عجباً للرحم! والله إني لأظنها ودت لو أني قتلته أني قتلتها معه، دعوا الغلام ينطلق مع نسائه.
ثم نادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فصعد المنبر فخطبهم وقال: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته.
فوثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدي ثم الوالبي، وكان ضريراً قد ذهب إحدى عينيه يوم الجمل مع علي والأخرى بصفين معه أيضاً، وكان لا يفارق المسجد يصلي فيه إلى الليل ثم ينصرف، فلما سمع مقالة ابن زياد قال: يا ابن مرجانة! إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك والذي ولاك وأبوه! يا ابن مرجانة أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين؟ فقال: علي به. فأخذوه، فنادى بشعار الأزد: يا مبرور! فوثب إليه فتية من الأزد فانتزعوه، فأرسل إليه من أتاه به فقتله وأمر بصلبه في المسجد، فصلب، رحمه الله.
وأمر ابن زياد برأس الحسين فطيف به في الكوفة، وكان رأسه أول رأس حمل في الإسلام على خشبة في قول، والصحيح أن أول راس حمل في الإسلام رأس عمرو بن الحمق.
ثم أرسل ابن زياد رأس الحسين ورؤوس أصحابه مع زحر بن قيس إلى الشام إلى يزيد ومعه جماعة، وقيل: مع شمر وجماعة معه، وارسل معه النساء والصبيان، وفيهم علي بن الحسين، قد جعل ابن زياد الغل في يديه ورقبته، وحملهم على الأقتاب، فلم يكلمهم علي بن الحسين في الطريق حتى بلغوا الشام، فدخل زحر بن قيس على يزيد، فقال: ما وراءك؟ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله وبنصره، ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته، وستين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن ينزلوا على حكم الأمير عبيد الله أو القتال فاختاروا القتال فعدونا عليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية حتى إذا أخذت السيوف مآخذها من هام القوم جعلوا يهربون إلى غير وزر، ويلوذون بالإكام والحفر، كما لاذ الحمائم من صقر، فوالله ما كان إلا جزر جزور، أو نومة قائل، حتى أتينا على آخرهم! فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس، وتسفي عليهم الريح، زوارهم العقبان والرخم بقي سبسب.
قال: فدمعت عينا يزيد وقال: كنت أرضى من طاغيتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سمية! أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه، فرحم الله الحسين! ولم يصله بشيءٍ.
وقيل: إن آل الحسين لما وصلوا إلى الكوفة حبسهم ابن زياد وأرسل إلى يزيد بالخبر، فبينما هم في الحبس إذ سقط عليهم حجر فيه كتاب مربوط وفيه: إن البريد سار بأمركم إلى يزيد فيصل يوم كذا ويعود يوم كذا، فإن سمعتم النكير فأيقنوا بالقتل، وإن لم تسمعوا تكبيراً فهو الأمان. فلما كان قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة إذا حجر قد ألقي وفيه كتاب يقول فيه: أوصوا واعهدوا فقد قارب وصول البريد. ثم جاء البريد بأمر يزيد بإرسالهم إليه، فدعا ابن زياد محفر بن ثعلبة وشمر بن ذي الجوشن وسيرهما بالثقل والرأس، فلما وصلوا إلى دمشق ندى محفر بن ثعلبة على باب يزيد: جئنا برأس أحمق الناس وألأمهم! فقال يزيد: ما ولدت أم محفر ألأم وأحمق منه، ولكنه قاطع ظالم.
ثم دخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه وحدثوه، فسمعت الحديث هندٌ بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وكانت تحب يزيد، فتقنعت بثوبها وخرجت فقالت: يا أمير المؤمنين أرأس الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، فأعولي عليه وحدي على ابن بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصريحة قريش، عجل عليه ابن زياد فقتله، قتله الله! ثم أذن للناس فدخلوا عليه والرأس بين يديه ومعه قضيب وهو ينكت به ثغره، ثم قال: إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام:
أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت ... قواضب في أيماننا تقطر الدما
يفلقن هاماً من رجالٍ أعزةٍ ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فقال أبو برزة الأسلمي: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين؟ أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذاً، لربما رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يرشفه، أما إنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا ومحمد شفيعه. ثم قام فولى.
فقال يزيد: والله يا حسين لو كنت أنا صاحبك ما قتلتك. ثم قال: أتدرون من أين أتى هذا؟ قال: أبى علي خير من أبيه، وفاطمة أمير خير من أمه، وجدي رسول الله خير من جده، وأنا خير منه وأحق بهذا الأمر منه؛ فأما قوله أبوه خير من أبي فقد حاج أبي أباه إلى الله وعلم الناس أيهما حكم له؛ وأما قوله أمي خير من أمه فلعمري فاطمة بنت رسول الله خير من أمي؛ وأما قوله جدي رسول الله خير من جده فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلاً ولا نداً، ولكنه إنما أتي من قبل فقهه، ولم يقرأ: (قل اللهم مالك الملك) آل عمران: 26.
ثم أدخل نساء الحسين عليه والرأس بين يديه، فجعلت فاطمة وسكينة ابنتا الحسين تتطاولان لتنظرا إلى الرأس، وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس. فلما رأين الرأس صحن، فصاح نساء يزيد وولول بنات معاوية. فقات فاطمة بنت الحسين، وكانت أكبر من سكينة: أبنات رسول الله سبايا يا يزيد؟ فقال: يا ابنة أخي أنا لهذا كنت أكره. قالت: والله ما ترك لنا خرص. فقال: ما أتى إليكن أعظم مما أخذ منكن. فقام رجل من أهل الشام فقال: هب لي هذه، يعني فاطمة، فأخذت بثياب أختها زينب، وكانت أكبر منها، فقالت زينب: كذبت ولؤمت، ما ذلك لك ولا له. فغضب يزيد وقال: كذبت والله، إن ذلك لي ولو شئت أن أفعله لفعلته. قالت: كلا والله ما جعل الله لك ذلك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا. فغضب يزيد واستطار ثم قال: إياي تستقبلين بهذا؟ إنما خرج من الدين أبوك وأخوك! قالت زينب: بدين الله ودين أبي وأخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك. قال: كذبت يا عدوة الله! قالت: أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك؟ فاستحى وسكت، ثم أخرجن وأدخلن دور يزيد، فلم تبق امرأة من آل يزيد إلا أتتهن وأقمن المأتم وسألهن عما أخذ منهن فأضعفه لهن، فكانت سكينة تقول: ما رأيت كافراً بالله خيراً من يزيد بن معاوية.
ثم أمر بعلي بن الحسين فأدخل مغلولاً فقال: لو رآنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مغلولين لفك عنا. قال: صدقت. وأمر بفك غله عنه. فقال عليٌّ: لو رآنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعداء لأحب أن يقربنا. فأمر به فقرب منه، وقال له يزيد: إيه يا علي بن الحسين، أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما رأيت. فقال علي: (ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتابٍ من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسيرٌ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختالٍ فخورٍ) الحديد: 22 - 23. فقال يزيد: (ما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم) الشورى: 30. ثم سكت عنه وأمر بإنزاله وإنزال نسائه في دار علي جده، وكان يزيد لا يتغدى ولا يتعشى إلا دعا علياً إليه، فدعاه ذات يوم ومعه عمرو بن الحسن، وهو غلام صغير، فقال لعمرو: أتقاتل هذا؟ يعني خالد بن يزيد، فقال عمرو: أعطني سكيناً وأعطه سكيناً حتى أقاتله. فضمه يزيد إليه وقال: شنشنةٌ أعرفها من أخزم، هل تلد الحية إلا حية! وقيل: ولما وصل رأس الحسين إلى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده وزاده ووصله وسره ما فعل، ثم لم يلبث إلا يسيراً حتى بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبهم، فندم على قتل الحسين، فكان يقول: وما علي لو احتملت الأذى وأنزلت الحسين معي في داري وحكمته فيما يريد وإن كان علي في ذلك وهنٌ في سلطاني حفظاً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورعاةً لحقه وقرابته، لعن الله ابن مرجانة فإنه اضطره، وقد سأله أن يضع يده في يدي أو يلحق بثغر حتى يتوفاه الله، فلم يجبه إلى ذلك فقتله، فبغضني بقتله إلى المسلمين، وزرع في قلوبهم العداوة، فأبغضني البر والفاجر بما استعظموه من قتلي الحسين، ما لي ولابن مرجانة، لعنه الله وغضب عليه! ولما أراد أن يسيرهم إلى المدينة أمر يزيد النعمان بن بشير أن يجهزهم بما يصلحهم ويسير معهم رجلاً أميناً من أهل الشام ومعه خيل يسير بهم إلى المدينة، ودعا علياً ليودعه وقال له: لعن الله ابن مرجانة! أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلةً أبداً إلا أعطيته إياها ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن قضى الله ما رأيت. يا بني كاتبني حاجةً تكون لك. وأوصى بهم هذا الرسول، فخرج بهم فكان يسايرهم ليلاً فيكونون أمامه بحيث لا يفوتون طرفه، فإذا نزلوا تنحى عنهم هو وأصحابه، فكانوا حولهم كهيئة الحرس، وكان يسألهم عن حاجتهم ويلطف بهم حتى دخلوا المدينة. فقالت فاطمة بنت علي لأختها زينب: لقد أحسن هذا الرجل إلينا فهل لك أن نصله بشيء؟ فقالت: والله ما معنا ما نصله به إلا حلينا، فأخرجتا سوارين ودملجين لهما فبعثتا ها إليه واعتذرتا، فرد الجميع وقال: لو كان الذي صنعت للدنيا لكان في هذا ما يرضيني، ولكن والله ما فعلته إلا لله ولقرابتكم من رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وكان مع الحسين امرأته الرباب بنت امرىء القيس، وهي أم ابنته سكينة، وحملت إلى الشام فيمن حمل من أهله، ثم عادت إلى المدينة، فخطبها الأشراف من قريش، فقالت: ما كنت لأتخذ حمواً بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وبقيت بعده سنة لم يظلها سقف بيت حتى بليت وماتت كمداً، وقيل: إنها أقامت على قبره سنة وعادت إلى المدينة فماتت أسفاً عليه.
فأرسل عبيد الله بن زياد مبشراً إلى المدينة بقتل الحسين إلى عمرو بن سعيد، فلقيه رجل من قريش فقال: ما الخبر؟ فقال: الخبر عند الأمير. فقال القرشي: إنا لله وإنا إليه راجعون، قتل الحسين.
ودخل البشير على عمرو بن سعيد فقال: ما وراءك؟ قال: ما سر الأمر، قتل الحسين بن علي. فقال: ناد بقتله، فنادى، فصاح نساء بني هاشم وخرجت ابنة عقيل بن أبي طالب ومعها نساؤها حاسرةً تلوي ثوبها وهي تقول:
ماذا تقولون إن قال النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
فلما سمع عمرو أصواتهن ضحك وقال:
عجت نساء بني زيادٍ عجةً ... كعجيج نسوتنا غداة الأرنب
والأرنب وقعة كانت لبني زبيد على بني زياد من بني الحارث بن كعب، وهذا البيت لعمرو بن معدي كرب.
ثم قال عمرو: واعية كواعية عثمان؛ ثم صعد المنبر فأعلم الناس قتله.
ولما بلغ عبد الله بن جعفر قتل ابنيه مع الحسين دخل عليه بعض مواليه يعزيه والناس يعزونه، فقال مولاه: هذا ما لقيناه من الحسين! فحذفه ابن جعفر بنعله وقال: يا ابن اللخناء أللحسين تقول هذا؟ والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أقتل معه، والله إنه لمما يسخي بنفسي عنهما ويهون علي المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين له صابرين معه. ثم قال: إن لم تكن آست الحسين يدي فقد آساه ولدي.
ولما وفد أهل الكوفة بالرأس إلى الشام ودخلوا مسجد دمشق أتاهم مروان بن الحكم فسألهم كيف صنعوا؟ فأخبروه، فقام عنهم ثم أتاهم أخوه يحيى ابن الحكم فسألهم فأعادوا عليه الكلام، فقال: حجبتم عن محمد صلى الله عليه وسلم، يوم القيامة، لن أجامعكم على أمر أبداً! ثم انصرف عنهم. فلما دخلوا على يزيد قال يحيى بن أكثم:
لهام بجنب الطف أدنى قرابة ... من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
سمية أمسى نسلها عدد الحصى ... وليس لآل المصطفى اليوم من نسل
فضرب يزيد في صدره وقال: اسكت. قيل: وسمع بعض أهل المدينة ليلة قتل الحسين منادياً ينادي:
أيها القاتلون جهلاً حسيناً ... أبشروا بالعذاب والتنكيل
كل أهل السماء يدعو عليكم ... من نبيٍ وملأكٍ وقبيل
قد لعنتم على لسان ابن داو ... د وموسى وصاحب الإنجيل
ومكث الناس شهرين أو ثلاثة كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع. قال رأس جالوت ذلك الزمان: ما مررت بكربلاء إلا وأنا أركض دابتي حتى أخلف المكان، لأنا كنا نتحدث أن ولد نبي يقتل بذلك المكان، فكنت أخاف، فلما قتل الحسين أمنت فكنت أسير ولا أركض.
قيل وكان عمر الحسين يوم قتل خمساً وخمسين سنة، وقيل: قتل وهو ابن إحدى وستين، وليس بشيءٍ.
وكان قتله يوم عاشوراء سنة إحدى وستين.
برير بن خضير بضم الباء الموحدة، وفتح الراء المهملة، وسكون الياء المثناة من تحتها، وآخره راء. وخضير بالخاء والضاد المعجمتين. ثبيت بضم الثاء المثلثة، وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء المثناة من تحتها، وآخره تاء مثناة من فوقها. ومحفر بضم الميم، وفتح الحاء المهملة، وتشديد الفاء المكسورة، وآخره راء.
وقال... التيمي تيم مرة يرثي الحسين وأهله وكان منقطعاً إلى بني هاشم:
مررت على أبيات آل محمدٍ ... فلم أرها أمثالها يوم حلت
فلا يبعد الله الديار وأهلها ... وإن أصبحت من أهلها قد تخلت
وإن قتيل الطف من آل هاشمٍ ... أذل رقاب المسلمين فذلت
وكانوا رجاءً ثم أضحوا رزية ... لقد عظمت تلك الرزايا وجلت
وعند غنيٍ قطرةٌ من دمائنا ... سنجزيهم يوماً بها حيث حلت
إذا افتقرت قيسٌ جبرنا فقيرها ... تقتلنا قيسٌ إذا النعل زلت
ذكر أسماء من قتل معهقال سليمان: لما قتل الحسين ومن معه حملت رؤوسهم إلى ابن زياد، فجاءت كندة بثلاثة عشر رأساً، وصاحبهم قيس بن الأشعث، وجاءت هوازن بعشرين رأساً، وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن الضبابي، وجاءت بنو تميم بسبعة عشر رأساً، وجاءت بنو أسد بستة أرؤس، وجاءت مذحج بسبعة أرؤس، وجاء سائر الجيش بسبعة أرؤس، فذلك سبعون رأساً.
وقتل الحسين، قتله سنان بن أنس النخعي، لعنه الله، وقتل العباس بن علي، وأمه أم البنين بنت حزام، قتله زيد بن داود الجنبي وحكيم بن الطفيل السنسبي. وقتل جعفر بن علي، وأمه أم البنين أيضاً. وقتل عبد الله بن علي، وأمه أم البنين أيضاً. وقتل عثمان بن علي، وأمه أم البنين أيضاً، رماه خولي بن يزيد بسهم فقتله. وقتل محمد بن علي، وأمه أم ولد، قتله رجل من بني دارم. وقتل أبو بكر بن علي، وأمه ليلى بنت مسعود الدارمية، وقد شك في قتله. وقتل علي بن الحسين بن علي، وأمه ليلى ابنة أبي مرة ابن عروة الثقفي، وأمها ميمونة ابنة أبي سفيان بن حرب، قتله منقذ بن النعمان العبدي، وقتل عبد الله بن الحسين بن علي، وأمه الرباب ابنة امرىء القيس الكلبي، قتله هانىء بن ثبيت الحضرمي. وقتل أبو بكر ابن أخيه الحسن أيضاً، وأمه أم ولد، قتله حرملة بن الكاهن، رماه بسهم. وقتل القاسم بن الحسن أيضاً، قتله سعد بن عمرو بن نفيل الأزدي. وقتل عون بن أبي جعفر بن أبي طالب، وأمه جمانة بنت المسيب بن نجبة الفزاري، قتله عبد الله بن قطبة الطائي. وقتل محمد بن عبد الله بن جعفر، وأمه الخوصاء بنت خصفة بن تيم الله بن ثعلبة، قتله عامر بن نهشل التيمي. وقتل جعفر بن عقيل بن أبي طالب، وأمه أم بنين ابنة الشقر بن الهضاب، قتله بشر بن الخوط الهمداني. وقتل عبد الرحمن بن عقيل، وأمه أم ولد، قتله عثمان بن خالد الجهني. وقتل عبد الله بن عقل، وأمه أم ولد، رماه عمرو بن صبيح الصيداوي بسهم فقتله. وقتل مسلم بن عقيل بالكوفة، وأمه أم ولد. وقتل عبد الله بن مسلم بن عقيل، وأمه رقية ابنة علي بن أبي طالب، قتله عمرو بن صبيح الصيداوي، ويقال قتله مالك بن أسيد الحضرمي. وقتل محمد بن أبي سعيد بن عقيل، وأمه أم ولد، قتله لقيط بن ياسر الجهني.
واستصغر الحسن بن الحسن بن علي، وأمه خولة بنت منظور بن زبان الفزاري، واستصغر عمور بن الحسن، وأمه أم ولد، فلم يقتلا.
وقتل من الموالي سليمان مولى الحسين، قتله سليمان بن عوف الحضرمي، وقتل منجح مولى الحسين أيضاً، وقتل عبد الله بن بقطر رضيع الحسين.
قال ابن عباس: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، الليلة التي قتل فيها الحسين وبيده قارورة وهو يجمع فيها دماً. فقلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال: هذه دماء الحسين وأصحابه أرفعها إلى الله تعالى . فأصبح ابن عباس فأعلم الناس بقتل الحسين وقص رؤياه، فوجد قد قتل في ذلك اليوم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم، أعطى أم سلمة تراباً من تربة الحسين حمله إليه جبرائيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، لأم سلمة: إذا صار هذا التراب دماً فقد قتل الحسين. فحفظت أم سلمة ذلك التراب في قارورة عندها، فلما قتل الحسين صار التراب دماً، فأعلمت الناس بقتله أيضاً. وهذا يستقيم على قول من يقول أم سلمة توفيت بعد الحسين.
ثم إن ابن زياد قال لعمر بن سعد بعد عوده من قتل الحسين: يا عمر إيتني بالكتاب الذي كتبته إليك في قتل الحسين. قال: مضيت لأمرك وضاع الكتاب. قال: لتجيئني به. قال: ضاع. قال: لتجيئني به. قال: ترك والله يقرأ على عجائز قريش بالمدينة اعتذاراً إليهن، أما والله لقد نصحتك في الحسين نصيحة لو نصحتها أبي سعد بن أبي وقاص لكنت قد أديت حقه. فقال عثمان بن زياد، أخو عبيد الله: صدق والله! لوددت أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة، وأن الحسين لم يقتل! فما أنكر ذلك عبيد الله بن زياد. آخر المقتل.
ذكر مقتل أبي بلال مرداس حدير الحنظليقد تقدم ذكر سبب خروجه وتوجيه عبيد الله بن زياد العساكر إليه في ألفي رجل فالتقائهم بآسك وهزيمة عسكر ابن زياد، فلما هزمهم أبو بلال وبلغ ذلك ابن زياد ارسل إليه ثلاثة آلاف عليهم عباد بن الأخضر، والأخضر زوج أمه، نسب إليه، وهو عباد بن علقمة بن عباد التميمي، فاتبعه حتى لحقه بتوج فصف له عباد وحمل عليهم أبو بلال فيمن معه، فثبتوا واشتد القتال حتى دخل وقت العصر، فقال أبو بلال: هذا يوم جمعة وهو يوم عظيم وهذا وقت العصر فدعونا حتى نصلي. فأجابهم ابن الأخضر وتحاجزوا، فعجل ابن الأخضر الصلاة، وقيل قطعها، والخوارج يصلون، فشد عليهم هو وأصحابه وهم ما بين قائم وراكع وساجد لم يتغير منهم أحد من حاله، فقتلوا من آخرهم وأخذ رأس أبي بلال.
ورجع عباد إلى البصرة فرصده بها عبيدة بن هلال ومعه ثلاثة نفر، فأقبل عباد يريد قصر الإمارة وهو مردف ابناً صغيراً له، فقالوا له: قف حتى نستفتيك. فوقف، فقالوا: نحن إخوة أربعة قتل أخونا فما ترى؟ قال: استعدوا الأمير. قالوا: قد استعديناه فلم يعدنا. قال: فاقتلوه قتله الله! فوثبوا عليه وحكموا به فألقى ابنه فنجا وقتل هو، فاجتمع الناس على الخوارج فقتلوا غير عبيدة.
ولما قتل ابن عباد كان ابن زياد بالكوفة ونائبه بالبصرة عبيد الله بن أبي بكرة، فكتب إليه يأمره أن يتبع الخوارج، ففعل ذلك وجعل يأخذهم، فإذا شفع في أحدهم ضمنه إلى أن يقدم ابن زياد، ومن لم يكفله أحد حبسه، وأتي بعروة بن أدية فأطلقه وقال: أنا كفيلك. فلما قدم ابن زياد أخذ من في الحبس من الخوارج فقتلهم وطلب الكفلاء بمن كفلوا به فمن أتى بخارجي أطلقه وقتل الخارجي، ومن لم يأت بالخارجي قتله، ثم طلب عبيد الله بن أبي بكرة بعروة بن أدية، قال: لا أقدر عليه. فقال: إذن أقتلك به، فلم يزل يبحث عنه حتى ظفر به وأحضره عند ابن زياد، فقال له ابن زياد: لأمثلن بك. فقال: اختر لنفسك من القصاص ما شئت به، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه وصلبه، وقيل: إنه قتل سنة ثمان وخمسين.
ذكر ولاية سلم بن زياد على خراسان وسجستانقيل: في هذه السنة استعمل يزيد سلم بن زياد على خراسان.
وسبب ذلك أن سلماً قدم على يزيد، فقال له يزيد: يا أبا حرب أوليك عمل أخويك عبد الرحمن وعباد. فقال: ما أحب أمير المؤمنين. فولاه خراسان وسجستان، فوجه سلمٌ الحارث بن معاوية الحرثي جد عيسى بن شبيب إلى خراسان، وقدم سلم البصرة فتجهز منها، فوجه أخاه يزيد إلى سجستان، فكتب عبيد الله بن زياد إلى أخيه عباد يخبره بولاية سلم، فقسم عباد ما في بيت المال على عبيدة وفضل فضلٌ فنادى: من أراد سلفاً فليأخذ، فأسلف كل من أتاه، وخرج عباد من سجستان. فلما كان بجيرفت بلغه مكان سلم، وكان بينهما جبل، فعدل عنه، فذهب لعباد تلك الليلة ألف مملوك أقل ما مع أحدهم عشرة آلاف. وسار عباد على فارس فقدم على يزيد فسأله عن المال، فقال: كنت صاحب ثغر فقسمت ما أصبت بين الناس.
ولما سار سلم إلى خراسان كتب معه يزيد إلى أخي عبيد الله بن زياد ينتخب له ستة آلاف فارس، وقيل: ألفي فارس، وكان سلم ينتخب الوجوه، فخر معه عمران بن الفضيل البرجمي والمهلب بن أبي صفرة وعبد الله بن خازم السلمي وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي وحنظلة بن عرادة ويحيى بن يعمر العدواني وصلة بن أشيم العدوي وغيرهم، وسار سلم إلى خراسان وعبر النهار غازياً، وكان عمال خراسان قبله يغزون، فإذا دخل الشتاء رجعوا إلى مرو الشاهجان، فإذا انصرف المسلمون اجتمع ملوك خراسان بمدينة مما يلي خوارزم فيتعاقدون أن لا يغزو بعضهم بعضاً ويتشاورون في أمورهم، فكان المسلمون يطلبون إلى أمرائهم غزو تلك المدينة فيأبون عليهم، فلما قدم سلم غزا فشتا في بعض مغازيه، فألح عليه المهلب بن أبي صفرة وساله التوجه إلى تلك المدينة، فوجهه في ستة آلاف، وقيل: أربعة آلاف، فحاصرهم، فطلبوا أن يصالحهم على أن يفدوا أنفسهم، فأجابهم إلى ذلك وصالحوه على نيف وعشرين ألف ألف، وكان في صلحهم أن يأخذ منهم عروضاً، فكان يأخذ الرأس والدابة والمتاع بنصف ثمنه، فبلغت قيمة ما أخذ منهم خمسين ألف ألف، فحظي بها المهلب عند سلم، وأخذ سلم من ذلك ما أعجبه وبعث به إلى يزيد.
وغزا سلم سمرقن وعبرت معه النهر امرأته أم محمد ابنة عبد الله بن عثمان بن أبي العاص الثقفية، وهي أول امرأة من العرف قطع بها النهر، فولدت له ابناً سماه صغدى، واستعارت امرأته من امرأة صاحب الصغد حليها فلم تعده إليها وذهبت به. ووجه جيشاً إلى خجندة فيهم أعشى همدان فهزموا، فقال أعشى:
ليت خيلي يوم الخجندة لم ته ... زم وغودرت في المكر سليبا
تحضر الطير مصرعي وتروح ... ت إلى الله بالدماء خضيبا
ذكر ولاية يزيد بن زياد وطلحة الطلحات سجستان
ولما استعمل يزيد بن معاوية سلم بن زياد على خراسان استعمل أخاه يزيد على سجستان، فغدر أهل كابل فنكثوا وأسروا أبا عبيدة بن زياد، فسار إليهم يزيد بن زياد في جيش فاقتتلوا وانهزم المسلمون وقتل منهم كثير، فممن قتل يزيد بن عبد الله بن أبي مليكة وصلة بن أشيم أبو الصهباء العدوي زوج معاذة العدوية، فلما بلغ الخبر سلم بن زياد سير طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، وهو طلحة الطلحات، ففدى أبا عبيدة بن زياد بخمسمائة ألف درهم، وسار طلحة من كابل إلى سجستان والياً عليها، فجبى المال وأعطى زواره، ومات بسجستان واستخلف رجلاً من بني يشكر، فأخرجته المضرية ووقعت العصبية فطمع فيهم رتبيل.
ذكر ولاية الوليد بن عتبة المدينة
والحجاز وعزل عمرو بن سعيدقيل: وفي هذه السنة عزل يزيد عمرو بن سعيد عن المدينة وولاها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
وكان سبب ذلك أن عبد الله بن الزبير أظهر الخلاف على يزيد وبويع بمكة بعد قتل الحسين، فإنه لما بلغه قتل الحسين قام في الناس فعظم قتله وعاب أهل الكوفة خاصة وأهل العراق عامة، فقال بعد حمد الله والصلاة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن أهل العراق غدرٌ فجرٌ إلا قليلاً، وإن أهل الكوفة شرار أهل العراق، وإنهم دعوا الحسين لينصروه ويولوه عليهم، فلما قدم عليهم ثاروا عليه فقالوا: إما أن تضع يدك في أيدينا فنبعث بك إلى ابن زياد بن سمية فيمضي فيك حكمه، وإما أن تحارب؛ فرأى والله أنه هو وأصحابه قليل في كثير، فإن كان الله لم يطلع على الغيب أحداً أنه مقتول ولكنه اختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة، فرحم الله الحسين وأخزى قاتله! لعمري لقد كان من خلافهم إياه وعصيانهم ما كان في مثله واعظٌ وناهٍ عنهم، ولكنه ما قرر نازل، وإذا أراد الله أمراً لم يدفع، أفبعد الحسين نطمئن إلى هؤلاء القوم ونصدق قولهم ونقبل لهم عهداً؟ لا والله لا نراهم لذلك أهلاً، أما والله لقد قتلوه طويلاً بالليل قيامه، كثيراً في النهار صيامه، أحق بما هم فيه منهم وأولى به في الدين والفضل، أما والله ما كان يبدل بالقرآن غياً، ولا بالبكاء من خشية الله حداً، ولا بالصيام شرب الخمر، ولا بالمجالس في حلق الذكر بكلاب الصيد - يعرض بيزيد - (فسوف يلقون غياً) مريم: 59.
فثار إليه أصحابه وقالوا: أظهر بيعتك فإنك لم يبق أحد إذ هلك الحسين ينازعك هذا الأمر. وقد كان يبايع سراً ويظهر أنه عائذ بالبيت. فقال لهم: لا تعجلوا، وعمرو بن سعيد يومئذٍ عامل مكة، وهو أشد شيء على ابن الزبير، وهو مع ذلك يداري ويرفق، فلما استقر عند يزيد ما قد جمع ابن الزبير بمكة من الجموع أعطى الله عهداً ليوثقنه في سلسلة، فبعث إليه سلسلة من فضة مع ابن عطاء الأشعري وسعد وأصحابهما ليأتوه به فيها، وبعث معهم برنس خز ليلبسوه عليها لئلا تظهر للناس.
فاجتاز ابن عطاء بالمدينة وبها مروان بن الحكم فأخبره ما قدم له، فأرسل مروان معه ولدين له أحدهما عبد العزيز وقال: إذا بلغته رسل يزيد فتعرضا له وليتمثل أحدكما بهذا القول، فقال:
فخذها فليست للعزيز بخطةٍ ... وفيها فعالٌ لامرىءٍ متذلل
أعامر إن القوم ساموك خطةً ... وذلك في الجيران غزلٌ بمغزل
أراك إذا ما كنت للقوم ناصحاً ... يقال له بالدلو أدبر وأقبل
فلما بلغه الرسول الرسالة قال عبد العزيز الأبيات، فقال ابن الزبير: يا بني مروان قد سمعت ما قلتما فأخبرا أباكما:
إني لمن نبعةٍ صمٍ مكاسرها ... إذا تناوحت البكاء والعشر
فلا ألين لغير الحق أسأله ... حتى يلين لضرس الاضغ الحجر
وامتنع ابن الزبير من رسل يزيد، فقال الوليد بن عتبة وناس من بني أمية ليزيد: لو شاء عمرو لأخذ ابن الزبير وسرحه إليك. فعزل عمرو وولي الوليد الحجاز، وأخذ الوليد غلمان عمرو ومواليه فحبسهم، فكلمه عمرو فأبى أن يخليهم، فسار عن المدينة ليلتين وأرسل إلى غلمانه بعدتهم من الإبل، فكسروا الحبس وساروا إليه فلحقوه عند وصوله إلى الشام، فدخل على يزيد وأعلمه ما كان فيه من مكايدة ابن الزبير، فعذره وعلم صدقه.
ذكر عدة حوادثحج بالناس الوليد بن عتبة هذه السنة.
وكان الأمير بالعراق عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان سلم بن زياد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة.
وفي هذه السنة مات علقمة بن قيس النخعي صاحب ابن مسعود، وقيل: سنة اثنتين، وقيل: خمس، وله تسعون سنة. وفيها توفي المنذر بن الجارود العبدي. وجابر بن عتيك الأنصاري، وقيل حر، وكان عمره إحدى وتسعين سنة، وشهد بدراً. وفيها مات حمزة بن عمرو الأسلمي، وعمره إحدى وسبعون سنة، وقيل ثمانون سنة، له صحبة. وفيها توفي خالد بن عرفطة الليثي، وقيل العذري، حليف بني زهرة، وقيل مات سنة ستين، وله صحبة.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين
ذكر وفد أهل المدينة إلى الشاملما ولي الوليد الحجاز أقام يريد غرة ابن الزبير فلا يجده إلا محترزاً ممتنعاً، وثار نجدة بن عامر النخعي باليمامة حين قتل الحسين، وثار ابن الزبير بالحجاز، وكان الوليد يفيض من المعرف ويفيض معه سائر الناس، وابن الزبير واقف وأصحابه، ونجدة واقفٌ في أصحابه، ثم يفيض ابن الزبير بأصحابه ونجدة بأصحابه، وكان نجدة يلقى ابن الزبير فيكثر، حتى ظن أكثر الناس أنه سيبايعه، ثم إن ابن الزبير عمل بالمكر في أمر الوليد، فكتب إلى يزيد: إنك بعثت إلينا رجلاً أخرق لا يتجه لرشد ولا يرعوي لعظة الحكيم، فلو بعثت رجلاً سهل الخلق رجوت أن يسهل من الأمور ما استوعر منها، وأن يجتمع ما تفرق.
فعزل يزيد الوليد وولى عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وهو فتى غرٌّ حدث لم يجرب الأمور ولم يحنكه السن، لا يكاد ينظر في شيء من سلطانه ولا عمله، فبعث إلى يزيد وفداً من أهل المدينة فيهم عبد الله بن حنظلة، غسيل الملائكة، وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي، والمنذر بن الزبير، ورجالاً كثيراً من أشراف أهل المدينة، فقدموا على يزيد، فأكرمهم وأحسن إليهم وأعظم جوائزهم، فأعطى عبد الله بن حنظلة، وكان شريفاً فاضلاً عابداً سيداً، مائة ألف درهم، وكان معه ثمانية بنين، فأعطى كل ولد عشرة آلاف.
فلما رجعوا قدموا المدينة كلهم إلا المنذر بن الزبير، فإنه قدم العراق على ابن زياد، وكان يزيد قد أجازه بمائة ألف، فلما قدم أولئك النفر الوفد المدينة قاموا فيهم فأظهروا شتم يزيد وعيبه. وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين يشرب الخمر ويضرب بالطنابير ويعزف عنده القيان ويلعب بالكلاب ويسمر عنده الحراب، وهم اللصوص، وإنا نشهدكم أنا قد خلعناه.
وقام عبد الله بن حنظلة الغسيل فقال: جئتكم من عند رجل لو لم أجد إلا بني هؤلاء لجاهدته بهم، وقد أعطاني وأكرمني وما قبلت منه عطاءه إلا لأتقوى به. فخلعه الناس وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل على خلع يزيد وولوه عليهم.
وأما المنذر بن الزبير فإنه قدم على ابن زياد فأكرمه وأحسن إليه، وكان صديق زياد، فأتاه كتاب يزيد حيث بلغه أمر المدينة يأمره بحبس المنذر، فكره ذلك لأنه ضيفه وصديق أبيه، فدعاه وأخبره بالكتاب، فقال له: إذا اجتمع الناس عندي فقم وقل ائذن لي لأنصرف إلى بلادي، فإذا قلت بل تقم عندي فلك الكرامة والمواساة، فقل إن لي ضيعةً وشغلاً ولا أجد بداً لي من الانصراف، فإني آذن لك في الانصراف فتلحق بأهلك.
فلما اجتمع الناس على ابن زياد فعل المنذر ذلك فأذن له في الانصراف، فقدم المدينة، فكان ممن يحرض الناس على يزيد، وقال: إنه قد أجازني بمائة ألف ولا يمنعني ما صنع بي أن أخبركم خبره، والله إنه ليشرب الخمر، والله إنه ليسكر حتى يدع الصلاة! وعابه بمثل ما عابه به أصحابه وأشد. فبعث يزيد النعمان بن بشير الأنصاري وقال له: إن عدد الناس بالمدينة قومك، فإنهم ما يمنعهم شيء عما يريدون، فإنهم إن لم ينهضوا في هذا الأمر لم يجترىء الناس على خلافي.
فأقبل النعمان فأتى قومه فأمرهم بلزوم الطاعة وخوفهم الفتنة، قال لهم: إنكم لا طاقة لكم بأهل الشام. فقال عبد الله بن مطيع العدوي: يا نعمان ما يحملك على فساد ما أصلح الله من أمرنا وتفريق جماعتنا؟ فقال النعمان: والله لكأني بك لو نزل بك الجموع وقامت لك على الركب تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيف ودارت رحا الموت بين الفريقين قد ركبت بغلتك إلى مكة وخلفت هؤلاء المساكين، يعني الأنصار، يقتلون في سككهم ومساجدهم وعلى أبواب دورهم. فعصاه الناس وانصرف، وكان الأمر كما قال.
ذكر ولاية عقبة بن نافع إفريقية ثانيةً
وما افتتحه فيها وقتلهقد ذكرنا عزل عقبة عن إفريقية وعوده إلى الشام، فلما وصل إلى معاوية وعده بإعادته إلى إفريقية، وتوفي معاوية وعقبة بالشام، فاستعمله يزيد على إفريقية في هذه السنة وأرسله إليها، فوصل إلى القيروان مجداً، وقبض أبا المهاجر أميرها وأوثقه في الحديد وترك بالقيروان جنداً مع الذراري والأموال واستخلف بها زهير بن قيس البلوي، وأحضر أولاده، فقال له: إني قد بعت نفسي من الله، عز وجل، فلا أزال أجاهد من كفر بالله. وأوصى بما يفعل بعده.
ثم سار في عسكر عظيم حتى دخل مدينة باغاية، وقد اجتمع بها خلق كثير من الروم، فقاتلوه قتالاً شديداً وانهزموا عنه وقتل فيهم قتلاً ذريعاً وغنم منهم غنائم كثيرة، ودخل المنهزمون المدينة وحاصرهم عقبة. ثم كره المقام عليهم فسار إلى بلاد الزاب، وهي بلاد واسعة فيها عدة مدن وقرى كثيرة، فقصد مدينتها العظمى واسمها أربة، فامتنع بها من هناك من الروم والنصارى، وهرب بعضهم إلى الجبال، فاقتتل المسلمون ومن بالمدينة من النصارى عدة دفعات ثم انهزم النصارى وقتل كثير من فرسانهم، ورحل إلى تاهرت.
فلما بلغ الروم خبره استعانوا بالبربر فأجابوهم ونصروهم، فاجتمعوا في جمع كثير والتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً، واشتد الأمر على المسلمين لكثرة العدو، ثم إن الله تعالى نصرهم فانهزمت الروم والبربر وأخذهم السيف وكثر فيهم القتل وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم.
ثم سار حتى نزل على طنجة فلقيه بطريق من الروم اسمه يليان فأهدى له هدية حسنة ونزل على حكمه، ثم سأله عن الأندلس فعظم الأمر عليه، فسأله عن البربر، فقال: هم كثيرون لا يعلم عددهم إلا الله، وهم بالسوس الأدنى، وهم كفار لم يدخلوا في النصرانية ولهم بأس شديد.
فسار عقبة إليهم نحو السوس الأدنى، وهي مغرب طنجة، فانتهى إلى أوائل البربر، فلقوه في جمع كثير، فقتل فيهم قتلاً ذريعاً وبعث خيله في كل مكان هربوا إليه، وسار هو حتى وصل إلى السوس الأقصى، وقد اجتمع له البربر في عالم لا يحصى، فلقيهم وقاتلهم وهزمهم، وقتل المسلمون فيهم حتى ملوا وغنموا منهم وسبوا سبياً كثيراً، وسار حتى بلغ ماليان ورأى البحر المحيط، فقال: يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك.
ثم عاد فنفر الروم والبربر عن طريقه خوفاً منه، واجتاز بمكان يعرف اليوم بماء الفرس فنزله، ولم يكن به ماءٌ، فلحق الناس عطشٌ كثير أشرفوا منه على الهلاك، فصلى عقبة ركعتين ودعا فبحث فرس له الأرض بيديه فكشف له عن صفاة فانفجر الماء، فنادى عقبة في الناس فحفروا أحساء كثيرة وشربوا، فسمي ماء الفرس.
فلما وصل إلى مدينة طبنة، وبينها وبين القيروان ثمانية أيام، أمر أصحابه أن يتقدموا فوجاً فوجاً ثقة منه بما نال من العدو، وأنه لم يبق أحداً يخشاه، وسار إلى تهوذة لينظر إليها في نفر يسير، فلما رآه الروم في قلة طمعوا فيه فأغلقوا باب الحصن وشتموه وقاتلوه وهو يدعوه إلى الإسلام فلم يقبلوا منه.
ذكر خروج كسيلة بن كمرم البربري على عقبةهذا كسيلة بن كمرم البربري كان قد أسلم لما ولي أبو المهاجر إفريقية وحسن إسلامه، وهو من أكابر البربر وأبعدهم صوتاً، وصحب أبا المهاجر، فلما ولي عقبة عرفه أبو المهاجر محل كسيلة وأمره بحفظه، فلم يقبل واستخف به، وأتى عقبة بغنم فأمر كسيلة بذبحها وسلخها مع السلاخين، فقال كسيلة: هؤلاء فتياني وغلماني يكفونني المؤونة. فشتمه وأمره بسلخها، ففعل، فقبح أبو المهاجر هذا عند عقبة، فلم يرجع، فقال له: أوثق الرجل فإني أخاف عليك منه! فتهاون به عقبة. فأضمر كسيلة الغدر، فلما كان الآن ورأى الروم قلة من مع عقبة أرسلوا إلى كسيلة وأعلموه حاله، وكان في عسكر عقبة مضمراً للغدر، وقد أعلم الروم ذلك وأطمعهم. فلما راسلوه أظهر ما كان يضمره وجمع أهله وبني عمه وقصد عقبة، فقال أبو المهاجر: عاجله قبل أن يقوى جمعه. وكان أبو المهاجر موثقاً في الحديد مع عقبة. فزحف عقبة إلى كسيلة، فتنحى كسيلة عن طريقه ليكثر جمعه، فلما رأى أبو المهاجر ذلك تمثل بقول أبي محجن الثقفي:
كفى حزناً أن تمرغ الخيل بالقنا ... وأترك مشدوداً علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت ... مصارع من دوني تصم المناديا
فبلغ عقبة ذلك فأطلقه، فقال له: الحق بالمسلمين وقم بأمرهم وأنا أغتنم الشهادة. فلم يفعل وقال: وأنا أيضاً اريد الشهادة. فكسر عقبة والمسلمون أجفان سيوفهم وتقدموا إلى البربر وقاتلوهم، فقتل المسلمون جميعهم لم يفلت منهم أحد، وأسر محمد بن أوس الأنصاري في نفر يسير، فخلصهم صاحب قفصة وبعث بهم إلى القيروان. فعزم زهير بن قيس البلوي على القتال، فخالفه حنش الصنعاني وعاد إلى مصر، فتبعه أكثر الناس، فاضطر زهير إلى العود معهم، فسار إلى برقة وأقام بها.
وأما كسيلة فاجتمع إليه جميع أهل إفريقية، وقصد إفريقية، وبها أصحاب الأنفال والذراري من المسلمين، فطلبوا الأمان من كسيلة فآمنهم ودخل القيروان واستولى على إفريقية وأقام بها إلى أن قوي أمر عبد الملك بن مروان فاستعمل على إفريقية زهير بن قيس البلوي، وكان مقيماً ببرقة مرابطاً.
ذكر ولاية زهير بن قيس إفريقية وقتله وقتل كسيلةلما ولي عبد الملك بن مروان ذرك عنده من بالقيروان من المسلمين وأشار عليه أصحابه بإنفاذ الجيوش إلى إفريقية لاستنقاذهم، فكتب إلى زهير بن قيس البلوي بولاية إفريقية وجهز له جيشاً كثيراً، فسار سنة تسع وستين إلى إفريقية.
فبلغ خبره إلى كسيلة، فاحتفل وجمع وحشد البربر والروم وأحضر أشراف أصحابه وقال: قد رأيت أن أرحل إلى ممش فأنزلها فإن بالقيروان خلقاً كثيراً من المسلمين ولهم علينا عهد فلا نغدر بهم ونخاف إن قاتلنا زهيراً أن يثب هؤلاء من ورائنا، فإذا نزلنا ممش أمناهم وقاتلنا زهيراً، فإن ظفرنا بهم تبعناهم إلى طرابلس وقطعنا أثرهم من إفريقية، وإن ظفروا بنا تعلقنا بالجبال ونجونا. فأجابوه إلى ذلك، ورحل إلى ممش، وبلغ ذلك زهيراً فلم يدخل القيروان بل أقام ظاهرها ثلاثة أيام حتى أراح واستراح، ورحل في طلب كسيلة، فلما قاربه نزل وعبى أصحابه وركب إليه، فالتقى العسكران، واشتد القتال، وكثر القتل في الفريقين، حتى أيس الناس من الحياة، فلم يزالوا كذلك أكثر النهار، ثم نصر الله المسلمين وانهزم كسيلة وأصحابه وقتل هو وجماعة من أعيان أصحابه بممش، وتبع المسلمون البربر والروم فقتلوا من أدركوا منهم فأكثروا، وفي هذه الوقعة ذهب رجال البربر والروم وملوكهم وأشرافهم، وعاد زهير إلى القيروان.
ثم إن زهيراً رأى بإفريقية ملكاً عظيماً فأبى أن يقيم وقال: إنما قدمت للجهاد فأخاف أن أميل إلى الدنيا فأهلك.
وكان عابداً زاهداً، فترك بالقيروان عسكراً وهم آمنون لخلو البلاد من عدو أو ذي شوكة، ورحل في جمع كثير إلى مصر.
وكان قد بلغ الروم بالقسطنطينية مسير زهير من برقة إلى إفريقية لقتال كسيلة، فاغتنموا خلوها فخرجوا إليها في مراكب كثيرة وقوة قوية من جزيرة صقلية وأغاروا على برقة، فأصابوا منها سبياً كثيراً، وقتلوا ونهبوا، ووافق ذلك قدوم زهير من إفريقية إلى برقة، فأخبر الخبر، فأمر العسكر بالسرعة والجد في قتالهم، ورحل هو ومن معه، وكان الروم خلقاً كثيراً، فلما رآه المسلمون استغاثوا به فلم يمكنه الرجوع وباشر القتال واشتد الأمر وعظم الخطب وتكاثر الروم عليهم فقتلوا زهيراً وأصحابه ولم ينج منهم أحد، وعاد الروم بما غنمو إلى القسطنطينية.
ولما سمع عبد الملك بن مروان بقتل زهير عظم عليه واشتد ثم سير إلى إفريقية حسان بن النعمان الغساني، وسنذكره سنة أربع وسبعين إن شاء الله.
وكان ينبغي أن نذكر ولاية زهير وقتله سنة تسع وستين، وإنما ذكرناه ههنا ليتصل خبر كسيلة ومقتله، فإن الحادثة واحدة وإذا تفرقت لم تعلم حقيقتها.
ذكر عدة حوادثحج بالناس هذه السنة الوليد بن عتبة.
وفيها ولد محمد بن علي بن عبد الله بن عباس والد السفاح والمنصور.
وفيها توفي عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، وله صحبة. ومسلمة بن مخلد الأنصاري، وكان عمره لما مات النبي صلى الله عليه وسلم، عشر سنين. وتوفي بمصر مسروق بن الأجدع، وقيل توفي سنة ثلاث وستين.
مخلد بضم الميم، وفتح الخاء المعجمة، وفتح اللام وتشديدها.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين
ذكر وقعة الحرة
كان أول وقعة الحرة ما تقدم من خلع يزيد، فلما كان هذه السنة أخرج أهل المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان عامل يزيد وحصروا بني أمية بعد بيعتهم عبد الله بن حنظلة، فاجتمع بنو أمية ومواليهم ومن يرى رأيهم في ألف رجل حتى نزلوا دار مروان بن الحكم، فكتبوا إلى يزيد يستغيثون به، فقدم الرسول إليه وهو جالس على كرسي وقد وضع قدميه في طشت فيه ماء لنقرس كان بهما، فلما قرأ الكتاب تمثل:
لقد بدلوا الحلم الذي في سجيتي ... فبدلت قومي غلظةً بليان
ثم قال: أما يكون بنو أمية ألف رجل؟ فقال الرسول: بلى والله وأكثر. قال: فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من النهار! فبعث إلى عمرو بن سعيد فأقرأه الكتاب وأمره أن يسير إليهم في الناس، فقال: قد كنت ضبطت لك الأمور والبلاد، فأما الآن إذ صارت دماء قريش تهرق بالصعيد فلا أحب أن أتولى ذلك.
وبعث إلى عبيد الله بن زياد يأمره بالمسير إلى المدينة ومحاصرة ابن الزبير بمكة، فقال: والله لا جمعتهما للفاسق، قتل ابن رسول الله وغزو الكعبة. ثم أرسل إليه يعتذر.
فبعث إلى مسلم بن عقبة المري، وهو الذي سمي مسرفاً، وهو شيخ كبير مريض، فأخبره الخبر، فقال: أما يكون بنو أمية ألف رجل؟ فقال الرسول: بلى. قال: فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من النهار! ليس هؤلاء بأهل أن ينصروا فإنهم الأذلاء، دعهم يا أمير المؤمنين حتى يجهدوا أنفسهم في جهاد عدوهم ويتبين لك من يقاتل على طاعتك ومن يستسلم. قال: ويحك! إنه لا خير في العيش بعدهم، فاخرج بالناس.
وقيل: إن معاوية قال ليزيد: إن لك من أهل المدينة يوماً، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة، فإنه رجل قد عرفت نصيحته. فلما خلع أهل المدينة أمر مسلماً بالمسير إليهم، فنادى في الناس بالتجهز إلى الحجاز وأن يأخذوا عطاءهم ومعونة مائة دينار، فانتدب لذلك اثنا عشر ألفاً، وخرج يزيد يعرضهم وهو متقلد سيفاً متنكب قوساً عربية، وهو يقول:
أبلغ أبا بكرٍ إذا الليل سرى ... وهبط القوم على وادي القرى
أجمع سكران من القوم ترى ... أم جمع يقظان نفى عنه الكرى
يا عجباً من ملحدٍ يا عجباً ... مخادعٍ بالدين يعفو بالعرى
وسار الجيش وعليهم مسلم، فقال له يزيد: إن حدث بك حدثٌ فاستخلف الحصين بن نمير السكوني، وقال له: ادع القوم ثلاثاً، فإن أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليهم فانهبها ثلاثاً، فكل ما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند، فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس، وانظر علي بن الحسين فاكفف عنه واستوص به خيراً، فإنه لم يدخل مع الناس، وإنه قد أتاني كتابه.
وقد كان مروان بن الحكم كلم ابن عمر لما أخرج أهل المدينة عامل يزيد وبني أمية في أن يغيب أهله عنده، فلم يفعل، فكلم علي بن الحسين، فقال: إن لي حرماً وحرمي تكون مع حرمك. فقال: أفعل، فبعث بامرأته، وهي عائشة ابنة عثمان بن عفان، وحرمه إلى علي بن الحسين، فخرج علي بحرمه وحرم مروان إلى ينبع، وقيل: بل أرسل حرم مروان وأرسل معهم ابنه عبد الله بن علي إلى الطائف.
ولما سمع عبد الملك بن مروان أن يزيد قد سير الجنود إلى المدينة قال: ليت السماء وقعت على الأرض، إعظاماً لذلك.
ثم إنه ابتلي بعد ذلك بأن وجه الحجاج فحصر مكة ورمى الكعبة بالمنجنيق وقتل ابن الزبير. وأما مسلم فإنه أقبل بالجيش فبلغ أهل المدينة خبرهم، فاشتد حصارهم لبني أمية بدار مروان، وقالوا: والله لا نكف عنكم حتى نستنزلكم ونضرب أعناقكم أو تعطونا عهد الله وميثاقه أن لا تبغونا غائلةً، ولا تدلوا لنا على عورة، ولا تظاهروا علينا عدواً، فنكف عنكم ونخرجكم عنا. فعاهدوهم على ذلك فأخرجوهم من المدينة.
وكان أهل المدينة قد جعلوا في كل منهل بينهم وبين الشام زقاً من قطران وعور، فأرسل الله السماء عليهم فلم يستقوا بدلوٍ حتى وردوا المدينة.
فلما أخرج أهل المدينة بني أمية ساروا بأثقالهم حتى لقوا مسلم بن عقبة بوادي القرى فدعا بعمرو بن عثمان بن عفان أول الناس فقال له: خبرني ما وراءك وأشر علي. فقال: لا أستطيع أن أخبرك، قد أخذ علينا العهود والمواثيق أن لا ندل على عورة ولا نظاهر عدواً. فانتهره وقال: والله لولا أنك ابن عثمان لضربت عنقك، وايم الله لا أقيلها قرشياً بعدك! فخرج إلى أصحابه فأخبرهم خبره، فقال مروان بن الحكم لابنه عبد الملك: ادخل قبلي لعله يجترىء بك عني. فدخل عبد الملك فقال: هات ما عندك. فقال: نعم، أرى أن تسير بمن معك، فإذا انتهيت إلى ذي نخلة نزلت فاستظل الناس في ظله فأكلوا من صقره، فإذا أصبحت من الغد مضيت وتركت المدينة ذات اليسار ثم درت بها حتى تأتيهم من قبل الحرة مشرقاً ثم تستقبل القوم، فإذا استقبلتهم وقد أشرقت عليهم الشمس طلعت بين أكتاف أصحابك فلا تؤذيهم ويصيبهم أذاها ويرون من ائتلاق بيضكم وأسنة رماحكم وسيوفكم ودروعكم ما لا ترونه أنتم ما داموا مغربين، ثم قاتلهم واستعن الله عليهم.
فقال له مسلم: لله أبوك أي امرىءٍ ولد! ثم إن مروان دخل عليه فقال له: إيه! فقال: أليس قد دخل عليك عبد الملك. قال: بلى؛ وأي رجل عبد الملك! قل ما كلمت من رجال قريش رجلاً به شبيهاً. فقال مروان: إذا لقيت عبد الملك فقد لقيتني. ثم إنه صار في كل مكان يصنع ما أمر به عبد الملك، فجاءهم من قبل المشرق، ثم دعاهم مسلم فقال: إن أمير المؤمنين يزعم أنكم الأصل، وإني أكره إراقة دمائكم، وإني أؤجلكم ثلاثاً، فمن ارعوى وراجع الحق قبلنا منه وانصرفت عنكم وسرت إلى هذا المحل الذي بمكة، وإن أبيتم كنا قد اعتذرنا إليكم.
فلما مضت الثلاث قال: يا أهل المدينة ما تصنعون، أتسالمون أم تحاربون؟ فقالوا: بل نحارب. فقال لهم: لا تفعلوا بل ادخلوا في الطاعة ونجعل جدنا وشوكتنا على أهل هذا الملحد الذي قد جمع إليه المراق والفساق من كل أوب - يعني ابن الزبير - فقالوا له: يا أعداء الله لو أردتم أن تجوزوا إليه ما تركناكم، نحن ندعكم أن تأتوا بيت الله الحرام فتخيفوا أهله وتلحدوا فيه وتستحلوا حرمته! لا والله لا نفعل.
وكان أهل المدينة قد اتخذوا خندقاً وعليه جمع منهم، وكان عليه عبد الرحمن بن زهير بن عبد عوف، وهو ابن عم عبد الرحمن بن عوف، وكان عبد الله بن مطيع على ربع آخر، وهم قريش في جانب المدينة، وكان معقل بن سنان الأشجعي، وهو من الصحابة، على ربع آخر، وهم المهاجرون، وكان أمير جماعتهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري في أعظم تلك الأرباع، وهم الأنصار.
وصمد مسلم فيمن معه، فأقبل من ناحية الحرة حتى ضرب فسطاطه على طريق الكوفة، وكان مريضاً، فأمر فوضع له كرسيٌّ بين الصفين وقال: يا أهل الشام قاتلوا عن أميركم وادعوا. فأخذوا لا يقصدون ربعاً من تلك الأرباع إلا هزموه، ثم وجه الخيل نحو ابن الغسيل، فحمل عليهم ابن الغسيل فيمن معه فكشفهم، فانتهوا إلى مسلم، فنهض في وجوههم بالرجال وصاح بهم، فقاتلوا قتالاً شديداً.
ثم إن الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب جاء إلى ابن الغسيل فقاتل معه في نحو من عشرين فارساً قتالاً حسناً، ثم قال لابن الغسل: من كان معك فارساً فليأتني فليقف معي، فإذا حملت فليحملوا، فوالله لا أنتهي حتى أبلغ مسلماً فأقتله أو أقتل دونه. ففعل ذلك وجمع الخيل إليه، فحمل بهم الفضل على أهل الشام فانكشفوا، فقال لأصحابه: احملوا أخرى جعلت فداكم، فوالله لئن عاينت أميرهم لأقتلنه أو أقتل دونه. إنه ليس بعد الصبر إلا النصر! ثم حمل وحمل أصحابه، فانفرجت خيل الشام عن مسلم بن عقبة ومعه نحو خمسمائة راجل جثاة على الركب مشرعي الأسنة نحو القوم، ومضى الفضل كما هو نحو راية مسلم فضرب رأس صاحبها، فقط المغفر وفلق هامته وخر ميتاً، وقال: خذها مني وأنا ابن عبد المطلب! وظن أنه مسلم، فقال: قتلت طاغية القوم ورب الكعبة! فقال: أخطأت استك الحفرة! وإنما كان ذلك غلاماً رومياً وكان شجاعاً، فأخذ مسلم رايته وحرض أهل الشام وقال: شدوا مع هذه الراية. فمشى برايته وشدت تلك الرجال أمام الراية، فصرع الفضل بن عباس، فقتل وما بينه وبين أطناب مسلم بن عقبة إلا نحو من عشرة أذرع، وقتل معه زيد بن عبد الرحمن بن عوف.
وأقبلت خيل مسلم ورجالته نحو ابن الغسيل، وهو يحرض أصحابه ويذم أهل المدينة، ويقدم أصحابه إلى ابن الغسيل، فلم يقدم عليهم للرماح التي بأيديهم والسيوف، وكانت تتفرق عنهم، فنادى مسلمٌ الحصين بن نمير وعبد الله بن عضاة الأشعري وأمرهما أن ينزلا في جندهما، ففعلا وتقدما إليهم، فقال ابن الغسيل لأصحابه: إن عدوكم قد أصاب وجه القتال الذي كان ينبغي أن يقاتلكم به، وإني قد ظننت ألا يلبثوا إلا ساعة حتى يفصل الله بينكم وبينهم إما لكم وإما عليكم، أما إنكم أهل النصرة ودار الهجرة وما أظن ربكم أصبح عن أهل بلد من بلدان المسلمين بأرضى منه عنكم، ولا على أهل بلد من بلدان العرب بأسخط منه على هؤلاء الذين يقاتلونكم، وإن لكل امرىء منكم ميتة هو ميت بها لا محالة، ووالله ما من ميتة أفضل من ميتة الشهادة، وقد ساقها الله إليكم فاغتنموها.
ثم دنا بعضهم من بعض فأخذ أهل الشام يرمونهم بالنبل، فقال ابن الغسيل لأصحابه: علام تستهدفون لهم! من أراد التعجيل إلى الجنة فليلزم هذه الراية. فقام إليه كل مستميت فنهض بعضهم إلى بعض فاقتتلوا أشد قتال رؤي لأهل هذا القتال، وأخذ ابن الغسيل يقدم بنيه واحداً واحداً حتى قتلوا بين يديه وهو يضرب بسيفه ويقول:
بعداً لمن رام الفساد وطغى ... وجانب الحق وآيات الهدى
لا يبعد الرحمن إلا من عصى
ثم قتل وقتل معه أخوه لأمه محمد بن ثابت بن قيس بن شماس، فقال: ما أحب أن الديلم قتلوني مكان هؤلاء القوم! وقتل معه عبد الله بن زيد بن عاصم ومحمد بن عمرو بن حزم الأنصاري: فمر به مروان بن الحكم فقال: رحمك الله! رب سارية قد رأيتك تطيل القيام في الصلاة إلى جنبها. وانهزم الناس، وكان فيمن انهزم محمد بن سعد بن أبي وقاص بعد ما أبلى.
وأباح مسلم المدينة ثلاثاً يقتلون الناس ويأخذون المتاع والأموال، فأفزع ذلك من بها من الصحابة. فخرج أبو سعيد الخدري حتى دخل في كهف الجبل، فتبعه رجل من أهل الشام، فاقتحم عليه الغار، فانتضى أبو سعيد سيفه يخوف به الشامي، فلم ينصرف عنه، فعاد أبو سعيد وأغمد سيفه وقال: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي إلي لأقتلك) المائدة: 28. فقال: من أنت؟ قال: أنا أبو سعيد الخدري. قال: صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قال: نعم. فتركه ومضى.
وقيل: إن مسلماً لما نزل بأهل المدينة خرج إليه أهلها بجموع كثيرة وهيئة حسنة، فهابهم أهل الشام وكرهوا أن يقاتلوهم، فلما رآهم مسلم، وكان شديد الوجع، سبهم وذمهم وحرضهم، فقاتلوهم.
فبينما الناس في قتالهم إذ سمعوا تكبيراً من خلفهم في جوف المدينة، وكان سببه أن بني حارثة أدخلوا أهل الشام المدينة فانهزم الناس، فكان من أصيب في الخندق أكثر ممن قتل.
ودعا مسلم الناس إلى البيعة ليزيد على أنهم خول له يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم من شاء، فمن امتنع من ذلك قتله، وطلب الأمان ليزيد بن عبد الله بن ربيعة بن الأسود، ولمحمد بن أبي الجهم بن حذيفة، ولمعقل بن سنان الأشجعي، فأتي بهم بعد الوقعة بيوم، فقال: بايعوا على الشرط.
فقال القرشيان: نبايعك على كتاب الله وسنة رسوله. فضرب أعناقهما. فقال مروان: سبحان الله! أتقتل رجلين من قريش أتيا بأمان؟ فطعن بخاصرته بالقضيب، فقال: وأنت والله لو قلت بمقالتهما لقتلتك! وجاء معقل بن سنان فجلس مع القوم فدعا بشراب ليسقى، فقال له مسلم: أي الشراب أحب إليك؟ قال: العسل. قال: اسقوه، فشرب حتى ارتوى، فقال له: أرويت؟ قال: نعم. قال: والله لا تشرب بعدها شربة إلا في نار جهنم. فقال: أنشدك الله والرحم! فقال له: أنت الذي لقيتني بطبرية ليلة خرجت من عند يزيد فقلت: سرنا شهراً، ورجعنا شهراً، وأصبحنا صفراً، نرجع إلى المدينة فنخلع هذا الفاسق ابن الفاسق ونبايع لرجل من المهاجرين أو الأنصار! فيم غطفان وأشجم من الخلق والخلافة! إني آليت بيمين لا ألقاك في حرب أقدر منه على قتلك إلا فعلت. ثم أمر به فقتل.
وأتي بيزيد بن وهب، فقال له: بايع. قال: أبايعك على الكتاب والسنة. قال: اقتلوه. قال: أنا أبايعك! قال: لا والله، فتكلم فيه مروان لصهر كان بينهما، فأمر بمروان فوجئت عنقه ثم قتل يزيد.
ثم أتى مروان بعلي بن الحسين، فجاء يمشي بين مروان وابنه عبد الملك حتى جلس بينهما عنده، فدعا مروان بشراب ليتحرم بذلك من مسلم، فشرب منه يسيراً ثم ناوله علي بن الحسين، فلما وقع في يده قال له مسلم: لا تشرب من شرابنا! فارتعدت كفه ولم يأمنه على نفسه وأمسك القدح، فقال له: أجئت تمشي بين هؤلاء لتأمن عندي؟ والله لو كان إليهما أمر لقتلتك! ولكن أمير المؤمنين أوصاني بك وأخبرني أنك كاتبته، فإن شئت فاشرب. فشرب ثم أجلسه معه على السرير ثم قال له: لعل أهلك فزعوا؟ قال: إي والله. فأمر بدابة فأسرجت له فحمله عليها فرده ولم يلزمه بالبيعة ليزيد على ما شرط على أهل المدينة.
وأحضر علي بن عبد الله بن عباس ليبايع، فقال الحصين بن نمير السكوني: لا يبايع ابن أختنا إلا كبيعة علي بن الحسين، وكانت أم علي بن عبد الله كندية، فقامت كندة مع الحصين، فتركه مسلم، فقال عليٌّ:
أبي العباس قرم بني قصيٍ ... وأخوالي الملوك بنو وليعه
هم منعوا ذماري يوم جاءت ... كتائب مسرفٍ وبنو اللكيعه
أرادوني التي لا عز فيها ... فحالت دونه أيدٍ سريعه
يعني بقوله مسرف مسلم بن عقبة، فإنه سمي بعد وقعة الحرة مسرفاً، وبنو وليعة بطن من كندة، منهم أمه، واللكيعة أم أمه.
وقيل: إن عمرو بن عثمان بن عفان لم يكن فيمن خرج من بني أمية، فأتي به يومئذٍ إلى مسلم فقال: يا أهل الشام تعرفون هذا؟ قالوا: لا. قال: هذا الخبيث ابن الطيب، هذا عمرو بن عثمان، هيه يا عمرو إذا ظهر أهل المدينة قلت أنا رجل منكم، وإن ظهر أهل الشام قلت أنا ابن أمير المؤمنين عثمان. فأمر به فنتفت لحيته، ثم قال: يا أهل الشام إن أم هذا كانت تدخل الجعل في فيها ثم تقول: يا أمير المؤمنين حاجيتك ما في فمي؟ وفي فمها ما شاها وباها وكانت من دوس. ثم خلى سبيله.
وكانت وقعة الحرة لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين.
قال محمد بن عمارة: قدمت الشام في تجارة فقال لي رجل: من أين أنت؟ فقلت: من المدينة. فقال: خبيثة. فقلت: يسميها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، طيبة وتسميها خبيثة! فقال: إن لي ولها لشأناً، لما خرج الناس إلى وقعة الحرة رأيت في المنام أني قتلت رجلاً اسمه محمد أدخل بقتله النار، فاجتهدت في أني لا أسير معهم فلم يقبل مني، فسرت معهم ولم أقاتل حتى انقضت الوقعة، فمررت برجل من القتلى به رمق فقال: تنح يا كلب! فأنفت من كلامه وقتلته، ثم ذكرت رؤياي فجئت برجل من أهل المدينة يتصفح القتلى، فلما رأى الرجل الذي قتلته قال: إنا لله، لا يدخل قاتل هذا الجنة. قلت: ومن هذا؟ قال: هو محمد بن عمرٍو بن حزم ولد على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسماه محمداً وكناه أبا عبد الملك؛ فأتيت أهله فعرضت عليهم أن يقتلوني فلم يفعلوا، وعرضت عليهم الدية فلم يأخذوا.
وممن قتل بالحرة عبد الله بن عاصم الأنصاري، وليس بصاحب الأذان، ذاك ابن زيد بن ثعلبة. وقتل أيضاً فيها عبيد الله بن عبد الله بن موهب. ووهب بن عبد الله بن زمعة بن الأسود. وعبد الله بن عبد الرحمن بن حاطب. وزبير ابن عبد الرحمن بن عوف. وعبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب.
ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة توفي الربيع بن خثيم الكوفي الزاهد.
وحج بالناس هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان يسمى يومئذٍ العائذ، ويرون الأمر شورى، وأتاه الخبر بوقعة الحرة هلال المحرم مع سعيد مولى المسور بن مخرمة، فجاءه أمر عظيم، فاستعد هو وأصحابه وعرفوا أن مسلمً نازل بهم.
ثم دخلت سنة أربع وستين
ذكر مسير مسلم لحصار ابن الزبير وموته
فلما فرغ مسلم من قتال أهل المدينة ونهبها شخص بمن معه نحو مكة يريد ابن الزبير ومن معه، واستخلف على المدينة روح بن زنباع الجذامي، وقيل: استخلف عمرو بن مخرمة الأشجعي، فلما انتهى إلى المشلل نزل به الموت، وقيل: مات بثنية هرشى، فلما حضره الموت أحضر الحصين بن النمير وقال له: يابن برذعة الحمار! لو كان الأمر إلي ما وليتك هذا الجند، ولكن أمير المؤمنين ولاك. خذ عني أربعاً: أسرع السير، وعجل المناجزة، وعم الأخبار، ولا تمكن قرشياً من أذنك. ثم قال: اللهم إني لم أعمل قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله عملاً أحب إلي من قتلي أهل المدينة ولا أرجى عندي في الآخرة.
فلما مات سار الحصين بالناس فقدم مكة لأربع بقين من المحرم سنة أربع وستين وقد بايع أهلها وأهل الحجاز عبد الله بن الزبير واجتمعوا عليه، ولحق به المنهزمون من أهل المدينة، وقدم عليه نجدة بن عامر الحنفي في الناس من الخوارج يمنعون البيت، وخرج ابن الزبير إلى لقاء أهل الشام ومعه أخوه المنذر، فبارز المنذر رجلاً من أهل الشام فضرب كل واحد منهما صاحبه ضربةً مات منها، ثم حمل أهل الشام عليهم حملةً انكشف منها أصحاب عبد الله، وعثرت بغلة عبد الله فقال: تعساً! ثم نزل فصاح بأصحابه، فأقبل إليه المسور بن مخرمة ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف فقاتلا حتى قتلا جميعاً، وضاربهم ابن الزبير إلى الليل ثم انصرفوا عنه. هذا في الحصر الأول.
ثم أقاموا عليه يقاتلونه بقية المحرم وصفر كله حتى إذا مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين يوم السبت رموا البيت بالمجانيق وحرقوه بالنار وأخذوا يرتجزون ويقولون:
خطارةٌ مثل الفنيق المزبد ... نرمي بها أعواد هذا المسجد
وقيل: إن الكعبة احترقت من نار كان يوقدها أصحاب عبد الله حول الكعبة وأقبلت شرارة هبت بها الريح فاحترقت ثياب الكعبة واحترق خشب البيت، والأول أصح، لأن البخاري قد ذكر في صحيحه أن ابن الزبير ترك الكعبة ليراها الناس محترقةً يحرضهم على أهل الشام.
وأقام أهل الشام يحاصرون ابن الزبير حتى بلغهم نعي يزيد بن معاوية لهلال ربيع الآخر.
ذكر وفاة يزيد بن معاويةوفي هذه السنة توفي يزيد بن معاوية بحوارين من أرض الشام لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة في قول بعضهم، وقيل: تسع وثلاثين، وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر، وقيل: ثمانية أشهر، وقيل: توفي في ربيع الأول سنة ثلاث وستين، وكان عمره خمساً وثلاثين سنة، وكانت خلافته سنتين وثمانية أشهر، والأول أصح.
وأمه ميسون بنت بحدل بن أنيف الكلبية.
وكان له من الولد معاوية، وكنيته أبو عبد الرحمن وأبو ليلى، وهو الذي ولي بعده، وخالد ويكنى أبا هاشم، يقال إنه أصاب عمل الكيميا، ولا يصح ذلك لأحد، وأبو سفيان، وأمهم أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة، تزوجها بعده مروان بن الحكم؛ وله أيضاً عبد الله بن يزيد، كان أرمى العرب، وأمه أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر، وهو الأسوار، وعبد الله الأصغر وعمرو وأبو بكر وعتبة وحرب وعبد الرحمن ومحمد لأمهات شتى.
ذكر بعض سيرته وأخباره
قال محمد بن عبيد الله بن عمرو العتبي: نظر معاوية ومعه امرأته ابنة قرظة إلى يزدي وأمه ترجله، فلما فرغت منه قبلته، فقالت ابنة قرظة: لعن الله سواد ساقي أمك! فقال معاوية: أما والله لما تفرجت عنه وركاها خير مما تفرجت عنه وركاك! وكان لمعاوية من ابنة قرظة عبد الله، وكان أحمق، فقالت: لا والله ولكنك تؤثر هذا. قال: سوف أبين لك ذلك، فأمر فدعي له عبد الله، فلما حضر قال: أي بني إني أردت أن أعطيك ما أنت أهله ولست بسائل شيئاً إلا أجبتك إليه. فقال: حاجتي أن تشتري لي كلباً فارهاً وحماراً. فقال: أي بني، أنت حمار وأشتري لك حماراً! قم فاخرج. ثم أحضر يزيد وقال له مثل قوله لأخيه، فخر ساجداً ثم قال حين رفع رأسه: الحمد لله الذي بلغ أمير المؤمنين هذه المدة وأراه في هذا الرأي، حاجتي أن تعتقني من النار لأن من ولي أمر الأمة ثلاثة أيام أعتقه الله من النار، فتعقد لي العهد بعدك، وتوليني العام الصائفة، وتأذن لي في الحج إذا رجعت، وتوليني الموسم، وتزيد لأهل الشام كل رجل عشرة دنانير، وتفرض لأيتام بني جمح وبني سهم وبني عدي لأنهم حلفائي. فقال معاوية: قد فعلت، وقبل وجهه. فقال لامرأته ابنة قرظة: كيف رأيت؟ قالت: أوصه به يا أمير المؤمنين. ففعل.
وقال عمر بن سبينة: حج يزيد في حياة أبيه، فلما بلغ المدينة جلس على شراب له، فاستأذن عليه ابن عباس والحسين، فقيل له: إن ابن عباس إن وجد ريح الشراب عرفه، فحجبه وأذن للحسين، فلما دخل وجد رائحة الشراب مع الطيب فقال: لله در طيبك ما أطيبه! فما هذا؟ قال: هو طيب يصنع بالشام، ثم دعا بقدح فشربه، ثم دعا بآخر فقال: اسق أبا عبد الله. فقال له الحسين: عليك شرابك أيها المرء لا عين عليك مني، فقال يزيد:
ألا يا صاح للعجب ... دعوتك ولم تجب
إلى الفتيات والشهوا ... ت والصهباء والطرب
باطية مكللة ... عليها سادة العرب
وفيهن التي تبلت ... فؤادك ثم لم تثب
فنهض الحسين وقال: بل فؤادك يا ابن معاوية تبلت.
وقال شقيق ابن سلمة: لما قتل الحسين ثار عبد الله بن الزبير فدعا ابن عباس إلى بيعته، فامتنع وظن يزيد أن امتناعه تمسك منه ببيعته، فكتب إليه: أما بعد فقد بلغني أن الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته وأنك اعتصمت ببيعتنا وفاء منك لنا، فجزاك الله من ذي رحم خير ما يجزي الواصلين لأرحامهم الموفين بعهودهم، فما أنس من الأشياء فلست بناسٍ برك وتعجيل صلتك بالذي أنت له أهل، فانظر من طلع عليك من الآفاق ممن سحرهم ابن الزبير بلسانه فأعلمهم بحاله فإنهم منك أسمع الناس ولك أطوع منهم للمحل.
فكتب إليه ابن عباس: أما بعد فقد جاءني كتابك، فأما تركي بيعة ابن الزبير فوالله ما أرجو بذلك برك ولا حمدك ولكن الله بالذي أنوي عليمٌ، وزعمت أنك لست بناسٍ بري، فاحبس أيها الإنسان برك عني فإني حابسٌ عنك بري، وسألت أن أحبب الناس إليك وأبغضهم وأخذلهم لابن الزبير، فلا ولا سرور ولا كرامة، كيف وقد قتلت حسيناً وفتيان عبد المطلب مصابيح الهدى ونجوم الأعلام غادرتهم خيولك بأمرك في صعيد واحد مرملين بالدماء، مسلوبين بالعراء، مقتولين بالظماء؛ لا مكفنين ولا موسدين، تسفي عليهم الرياح، وينشى بهم عرج مجلسك الذي جلست، فما أنس من الأشياء فلست بناسٍ اطرادك حسيناً من حرم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى حرم الله، وتسييرك الخيول إليه، فما زلت بذلك حتى أشخصته إلى العراق، فخرج خائفاً يترقب، فنزلت به خيلك عداوةً منك لله ولرسوله ولأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فطلب إليكم الموادعة وسألكم الرجعة، فاغتنمتم قلة أنصاره واستئصال أهل بيته وتعاونتم عليه كأنكم قتلتم أهل بيت من الترك والكفر، فلا شيء أعجب عندي من طلبتك ودي وقد قتلت ولد أبي وسيفك يقطر من دمي وأنت أحد ثأري ولا يعجبك أن ظفرت بنا اليوم فلنظفرن بك يوماً، والسلام.
قال الشريف أبو يعلى حمزة بن محمد بن أحمد بن جعفر العلوي، وقد جرى عنده ذكر يزيد: أنا لا أكفر يزيد لقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إني سألت الله أن لا يسلط على بني أحداً من غيرهم، فأعطاني ذلك.
ذكر بيعة معاوية بن يزيد بن معاوية
وعبد الله بن الزبير
في هذه السنة بويع لمعاوية بن يزيد بالخلافة بالشام، ولعبد الله بن الزبير بالحجاز، ولما هلك يزيد بلغ الخبرعبد الله بن الزبير بمكة قبل أن يعلم الحصين بن نمير ومن معه من عسكر الشام، وكان الحصار قد اشتد من الشاميين على ابن الزبير، فناداهم ابن الزبير وأهل مكة: علام تقاتلون وقد هلك طاغيتكم؟ فلم يصدقوهم.
فلما بلغ الحصين خبر موته بعث إلى ابن الزبير فقال: موعد ما بيننا الليلة الأبطح؛ فالتقيا وتحادثا، فراث فرس الحصين، فجاء حمام الحرم يلتقظ روث الفرس، فكف الحصين فرسه عنهن وقال: أخاف أن يقتل فرسي حمام الحرم. فقال ابن الزبير: تتحرجون من هذا وأنتم تقتلون المسلمين في الحرم؟ فكان فيما قال له الحصين: أنت أحق بهذا الأمر، هلم فلنبايعك ثم اخرج معنا إلى الشام، فإن هذا الجند الذين معي هم وجوه الشام وفرسانهم، فوالله لا يختلف عليك اثنان وتؤمن الناس وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك وبين أهل الحرم. فقال له: أنا لا أهدر الدماء، والله لا أرضى أن أقتل بكل رجل مهم عشرة منكم. وأخذ الحصين يكلمه سراً، وهو يجهر ويقول: والله لا أفعل. فقال له الحصين: قبح الله من يعدك بعد ذاهباً وآيباً، قد كنت أظن أن لك رأياً، وأنا أكلمك سراً وتكلمني جهراً، وأدعوك إلى الخلافة وأنت لا تريد إلا القتل والهلكة. ثم فارقه ورحل هو وأصحابه نحو المدينة، وندم ابن الزبير على ما صنع، فأرسل إليه: أما المسير إلى الشام فلا أفعله ولكن بايعوا لي هناك فإني مؤمنكم وعادل فيكم. فقال الحصين: إن لم تقدم بنفسك لا يتم الأمر، فإن هناك ناساً من بني أمية يطلبون هذا الأمر.
وسار الحصين إلى المدينة، فاجترأ أهل المدينة على أهل الشام، فكان لا ينفرد منهم أحد إلا أخذت دابته، فلم يتفرقوا، وخرج معهم بنو أمية من المدينة إلى الشام، ولو خرج معهم ابن الزبير لم يختلف عليه أحد.
فوصل أهل الشام دمشق وقد بويع معاوية بن يزيد، فلم يمكث إلا ثلاثة أشهر حتى هلك، وقيل: بل ملك أربعين يوماً ومات. وعمره إحدى وعشرون سنة وثمانية عشر يوماً.
ولما كان في آخر إمارته أمر فنودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني ضعفت عن أمركم فابتغيت لكم مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت ستة مثل ستة الشورى فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم. ثم دخل منزله وتغيب حتى مات.
وقيل: إنه مات مسموماً، وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، ثم أصابه الطاعون من يومه فمات أيضاً، وقيل: لم يمت، وكان معاوية أوصى أن يصلي الضحاك بن قيس بالناس حتى يقوم لهم خليفة، وقيل لمعاوية: لو استخلفت؟ فقال: لا أتزود مرارتها وأترك لبني أمية حلاوتها.
ذكر حال ابن زياد بعد موت يزيدلما مات يزيد وأتى الخبر عبيد الله بن زياد مع مولاه حمران، وكان رسوله إلى معاوية بن أبي سفيان، ثم إلى يزيد بعده، فلما أتاه الخبر أسره إليه وأخبره باختلاف الناس في الشام، فأمر فنودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، وصعد المنبر فنعى يزيد وثلبه، فقال الأحنف: إنه قد كانت ليزيد في أعناقنا بيعة، ويقال في المثل: أعرض عن ذي فترة، وأعرض عنه عبيد الله، وقال: يا أهل البصرة إن مهاجرنا إليكم ودارنا فيكم ومولدي فيكم، ولقد وليتكم وما يحصى ديوان مقاتلتكم إلا سبعين ألفاً، ولقد أحصى اليوم مائة الف، وما كان يحصي ديوان عمالكم إلا تسعين ألفاً، ولقد أحصى اليوم مائة وأربعين ألفاً، وما تركت لكم قاطبة أخافه عليكم إلا وهو في سجنكم، وإن يزيد قد توفي وقد اختلف الناس بالشام وأنتم اليوم أكثر الناس عدداً وأعرضهم فناءً وأغنى عن الناس وأوسعهم بلاداً، فاختاروا لأنفسكم رجلاً ترضونه لدينكم وجماعتكم، فأنا أول راضٍ من رضيتموه، فإن اجتمع أهل الشام على رجل ترضونه لدينكم وجماعتكم دجلتم فيما دخل فيه المسلمون، وإن كرهتم ذلك كنتم على أحد يليكم حتى تقضوا حاجتكم، فما بكم إلى أحد من أهل البلدان حاجة ولا يستغني الناس عنكم. فقام خطباء أهل البصرة وقالوا: قد سمعنا مقالتك وما نعلم أحداً أقوى عليها منك، فهلم فلنبايعك. فقال: لا حاجة لي في ذلك. فكرروا عليه فأبى عليهم ثلاثاً، ثم بسط يده فبايعوه ثم انصرفوا ومسحوا أيديهم بالحيطان وقالوا: أيظن ابن مرجانة أننا ننقاد له في الجماعة والفرقة!
فلما بايعوه أرسل إلى أهل الكوفة مع عمرو بن مسمع وسعد بن القرحاء التميمي يعلم أهل الكوفة ما صنع أهل البصرة ويدعوهم إلى البيعة له، فلما وصلا إلى الكوفة، وكان خليفته عليها عمرو بن حريث، جمع الناس وقام الرسولان فخطبا أهل الكوفة وذكرا لهم ذلك، فقام يزيد بن الحارث بن يزيد الشيباني، وهو ابن رويم، فقال: الحمد لله الذي اراحنا من ابن سمية! أنحن نبايعه؟ لا ولا كرامة! وحصبهما أول الناس ثم حصبهما الناس بعده، فشرفت تلك الفعلة يزيد بن رويم في الكوفة ورفعته.
ورجع الرسولان إلى البصرة فأعلماه الحال، فقال أهل البصرة: أيخلعه أهل الكوفة ونوليه نحن! فضعف سلطانه عندهم، فكان يأمر بالأمر فلا يقضى ويرى الرأي فيرد عليه، ويأمر بحبس المخطىء فيحال بين أعوانه وبينه.
ثم جاء إلى البصرة سلمة بن ذؤيب الحنظلي التميمي فوقف في السوق وبيده لواءٌ وقال: أيها الناس هلموا إلي، إني أدعوكم إلى ما لم يدعكم إليه أحد، أدعوكم إلى العائذ بالحرم، يعني عبد الله بن الزبير. فاجتمع إليه ناس وجعلوا يصفقون على يديه يبايعونه. فبلغ الخبر ابن زياد، فجمع الناس فخطبهم وذكر لهم أمره معهم وأنه دعاهم إلى من يرتضونه، فبايعه منهم أهل البصرة وأنهم أبوا غيره، وقال: إني بلغني أنكم مسحتم أكفكم بالحيطان وباب الدار وقلتم ما قلتم، وإني آمر بالأمر فلا ينفذ ويرد علي رأيي ويحال بين أعواني وبين طلبتي، ثم إن هذا سلمة بن ذؤيب يدعو إلى الخلاف عليكم ليفرق جماعتكم ويضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف.
فقال الأحنف والناس: نحن نأتيك بسلمة، فأتوه بسلمة فإذا جمعه قد كثف والفتق قد اتسع، فلما رأوا ذلك قعدوا عن ابن زياد فلم يأتوه. فدعا عبيد الله رؤساء محاربة السلطان وأرادهم ليقاتلوا معه، قالوا: إن أمرنا قوادنا فعلنا. فقال له إخوته: ما من خليفة فتقاتل عنه فإن هزمت رجعت إليه فأمدك، ولعل الحرب تكون عليك وقد اتخذنا بين هؤلاء القوم أموالاً فإن ظفروا بنا أهلكونا وأهلكوها فلم تبق لك بقية.
فلما رأى ذلك أرسل إلى الحارث بن قيس بن صهباء الجهضمي الأزدي فأحضره وقال له: يا حارث إن أبي أوصاني أني احتجت إلى العرب يوماً أن أختاركم. فقال الحارث: إن قومي قد اختبروا أباك فلم يجدوا عنده مكاناً ولا عندك مكافأة، ولا أردك إذا أخترتنا، وما أدري كيف أماني لك، إن أخرجتك نهاراً أخاف أن تقتل وأقتل، ولكني أقيم معك إلى الليل ثم أردفك خلفي لئلا تعرف. فقال عبيد الله. نعم ما رأيت. فأقام عنده فلما كان الليل حمله خلفه.
وكان في بيت المال تسعة عشر ألف ألف، ففرق ابن زياد بعضها في مواليه وادخر الباقي فبقي لآل زياد.
وسار الحارث بعبيد الله بن زياد، فكان يمر به على الناس وهم يتحارسون مخافة الحرورية وعبيد الله يسأله: أين نحن؟ والحارث يخبره، فلما كانوا في بني سليم قال: أين نحن؟ قال: في بني سليم. قال: سلمنا إن شاء الله. فلما أتى بني ناجية قال: أين نحن؟ قال: في بني ناجية. قال: نجونا إن شاء الله. فقال بنو ناجية: من أنت؟ قال: الحارث بن قيس، كان يعرف رجلٌ منهم عبيد الله، فقال: ابن مرجانة! وأرسل سهماً فوقع في عمامته.
ومضى به الحارث فأنزله في دار نفسه في الجهاضم، فقال له ابن زياد: يا حارث إنك أحسنت فاصنع ما أشير به عليك، قد علمت منزلة مسعود بن عمرو في قومه وشرفه وسنه وطاعة قومه له، فهل لك أن تذهب بي إليه فأكون في داره فهي في وسط الأزد، فإنك إن لم تفعل فرق عليك أمر قومك. فأخذه الحارث فدخلا على مسعود، ولم يشعر وهو جالس يصلح خفاً له، فلما رآهما عرفهما فقال للحارث: أعوذ بالله من شرٍ طرقتني به! قال: ما طرقتك إلا بخير، قد علمت أن قومك أنجوا زياداً ووفوا له فصارت مكرمة يفتخرون بها على العرب، وقد بايعتم عبيد الله بيعة الرضى عن مشورة وبيعة أخرى قبل هذه، يعني بيعة الجماعة. قال مسعود: أترى لنا أن نعادي أهل مصرنا في عبيد الله ولم نجد من أبيه مكافأة ولا شكراً فيما صنعنا معه؟ قال الحارث: إنه لا يعاديك أحد على الوفاء على بيعتك حتى تبلغه مأمنه، أفتخرجه من بيتك بعد ما دخله عليك؟
وأمره مسعود فدخل بيت أخيه عبد الغافر بن عمرو، ثم ركب مسعود من ليلته ومعه الحارث وجماعة من قومه فطافوا في الأزد فقالوا: إن ابن زياد فقد وإنا لا نأمن أن تلحظوا به. فأصبحوا في السلاح. وفقد الناس ابن زياد فقالوا: ما هو إلا في الأزد.
وقيل: إن الحارث لم يكلم مسعوداً بل أمر عبيد الله فحمل معه مائة ألف وأتى بها أم بسطام امرأة مسعود، وهي بنت عمرو بن الحارث، ومعه عبيد الله، فاستأذن عليها فأذنت له، فقال لها: قد أتيتك بأمر تسودين به نساء العرب وتتعجلين به الغنى. وأخبرها الخبر، وأمرها أن تدخل ابن زياد البيت وتلبسه ثوباً من ثياب مسعود، ففعلت، ولما جاء مسعود أخبرته أخذ برأسها يضربها، فخرج عبيد الله والحارث عليه وقال له: قد أجارتني وهذا ثوبك علي وطعامك في بطني. وشهد الحارث وتلطفوا به حتى رضي، فلم يزل ابن زياد في بيته حتىقتل مسعود فسار إلى الشام.
ولما فقد ابن زياد بقي أهل البصرة في غير أمير، فاختلفوا فيمن يؤمرون عليهم ثم تراضوا بقيس بن الهيثم السلمي وبالنعمان بن سفيان الراسبي الحرمي ليختارا من يرضيان لهم، وكا رأي قيس في بني أمية، ورأي النعمان في بني هاشم، فقال النعمان: ما أرى أحداً أحق بهذا الأمر من فلان، لرجل من بني أمية، وقيل: بل ذكر له عبد الله بن الأسود الزهري، وكان هوى قيس فيه، وإنما قال النعمان ذلك خديعةً ومكراً بقيس، فقال قيس: قد قلدتك أمري ورضيت من رضيت، ثم خرجا إلى الناس، فقال قيس: قد رضيت من رضي النعمان.
ذكر ولاية عبد الله بن الحارث البصرةلما اتفق قيس والنعمان ورضي قيس بمن يؤمره النعمان أشهد عليه النعمان بذلك وأخذ على قيس وعلى الناس العهود بالرضى، ثم أتى عبد الله بن الأسود وأخذ بيده واشترط عليه حتى ظن الناس أنه بايعه، ثم تركه وأخذ بيد عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الملقب بببة واشترط عليه مثل ذلك، ثم حمد الله وأثنى عليه وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وحق أهل بيته وقرابته وقال: أيها الناس ما تنقمون من رجل من بني عم نبيكم وأمه هند بنت أبي سفيان قد كان الأمر فيهم، فهو ابن أختكم، ثم أخذ بيده وقال: رضيت لكم به، فنادوه: قد رضينا، وبايعوه وأقبلوا به إلى دار الإمارة حتى نزلها، وذلك أول جمادى الآخرة سنة أربع وستين. وقال الفرزدق في بيعته:
وبايعت أقواماً وفيت بعهدهم ... وببة قد بايعته غير نادم
ذكر هرب ابن زياد إلى الشامثم إن الأزد وربيعة جددوا الحلف الذي كان بينهم وبين الجماعة، وأنفق ابن زياد مالاً كثيراً فيهم حتى تم الحلف وكتبوا بذلك بينهم كتابين، فكان أحدهما عند مسعود بن عمرو. فلما سمع الأحنف أن الأزد طلبت إلى ربيعة ذلك، قال: لا يزالون لهم أتباعاً إذا أتوهم. فلما تحالفوا اتفقوا على أن يردوا ابن زياد إلى دار الإمارة، فساروا، ورئيسهم مسعود بن عمرو، وقالوا لابن زياد: سر معنا، فلم يفعل وأرسل معه مواليه على الخيل وقال لهم: لا تتحدثوا بخير ولا بشر إلا أتيتموني به، فجعل مسعود لا يأتي سكة ولا يتجاوز قبيلة إلا أتى بعض أولئك الغلمان ابن زياد بالخبر، وسارت ربيعة، وعليهم مالك بن مسمع، فأخذوا سكة المربد، وجاء مسعود فدخل المسجد فصعد المنبر وعبد الله بن الحارث في دار الإمارة، فقيل له: إن مسعوداً وأهل اليمن وربيعة قد ساروا وسيهيج بين الناس شرٌّ فلو أصلحت بينهم أو ركبت في بني تميم عليهم. فقال: أبعدهم الله، لا والله لا أفسدن نفسي في إصلاحهم! وجعل رجل من أصحاب مسعود يقول:
لأنكحن ببه ... جاريةً في قبه
تمشط رأس لعبه
هذا قول الأزد، وأما قول مضر فيقولون: إن أمه كانت ترقصه وتقول هذا.
وصعد مسعود المنبر وسار مالك بن مسمع نحو دور بني تميم حتى دخل سكة بني العدوية فحرق دورهم لما في نفسه لاستعراض ابن خازم ربيعة بهراة. وجاء بنو تميم إلى الأحنف فقالوا: يا أبا بحر، إن ربيعة والأزد قد تحالفوا وقد ساروا إلى الرحبة فدخلوها. فقال: لستم بأحق بالمسجد منهم. فقالوا: قد دخلوا الدار. فقال: لستم بأحق بالدار منهم. فأتته امرأة بمجمر وقالت له: مالك وللرياسة، إنما أنت امرأة تتجمر! فقال: است المرأة أحق بالمجمر، فما سمع منه كلمة أسوأ منها، ثم أتوه فقالوا: إن امرأة منا قد سلبت خلخالها، وقد قتلوا الصباغ الذي على طريقك وقتلوا المقعد الذي على باب المسجد، وقد دخل مالك بن مسمع سكة بني العدوية فحرق. فقال الأحنف: أقيموا البينة على هذا، ففي دون هذا ما يحل قتالهم. فشهدوا عنده على ذلك. فقال الأحنف: أجاء عباد بن الحصين؟ قالوا: لا، وهو عباد بن الحصين بن يزيد بن عمرو بن أوس من بني عمرو بن تميم، ثم قال: أجاء عباد؟ قالوا: لا. قال: أهاهنا عبس بن طلق بن ربيعة الصريمي من بني سعد بن زيد مناة بن تميم؟ قالوا: نعم، فدعاه فانتزع معجراً في رأسه فعقده في رمح ثم دفعه إليه وقال: سر، فلما ولى قال: اللهم لا تخزها اليوم فإنك لم تخزها فيما مضى، وصاح الناس: هاجت زيرا! وهي أم الأحنف كنوا بها عنه.
فسار عبس إلى المسجد، فلما سار عبس جاء عباد فقال: ما صنع الناس؟ فقيل: سار بهم عبس. فقال: لا أسير تحت لواء عبس، وعاد إلى بيته ومعه ستون فارساً. فلما وصل عبس إلى المسجد قاتل الأزد على أبوابه ومسعود على المنبر يحضض الناس، فقاتل غطفان بن أنيف التميمي وهو يقول:
يال تميمٍ إنها مذكوره ... إن فات مسعودٌ بها مشهوره
فاستمسكوا بجانب المقصوره
أي لا يهرب فيفوت. وأتوا مسعوداً وهو على المنبر فاستنزلوه فقتلوه، وذلك أول شوال سنة أربع وستين، وانهزم أصحابه، وهرب أشيم بن شقيق بن ثور فطعنه أحدهم فنجا بها، فقال الفرزدق:
لو أن أشيم لم يسبق أسنتنا ... وأخطأ الباب إذ نيراننا تقد
إذاً لصاحب مسعوداً وصاحبه ... وقد تهافتت الأعفاج والكبد
ولما صعد مسعود المنبر أتي ابن زياد فقيل له ذلك، فتهيأ ليجيء إلى دار الإمارة، فأتوه وقالوا له: إنه قتل مسعود، فركب ولحق بالشام.
فأما مالك بن مسمع فأتاه ناس من مضر فحصروه في داره وحرقوا داره.
ولما هرب ابن زياد تبعوه فأعجزهم فنهبوا ما وجدوا له، ففي ذلك يقول واقد بن خليفة التميمي:
يا رب جبار شديد كلبه ... قد صار فينا تاجه وسلبه
منهم عبيد الله يوم نسلبه ... جياده وبزه وننهبه
يوم التقى مقنبنا ومقنبه ... لو لم ينج ابن زيادٍ هربه
وقد قيل في قتل مسعود ومسير ابن زياد غير ما تقدم، وهو أنه لما استجار ابن زياد بمسعود بن عمرو أجاره، ثم سار ابن زياد إلى الشام وأرسل معه مسعود مائة من الأزد حتى قدموا به إلى الشام، فبينما هو يسير ذات ليلة قال: قد ثقل علي ركوب الإبل فوطئوا لي على ذي حافر؛ فجعلوا له قطيفةً على حمار، فركبه ثم سار وسكت طويلاً.
قال مسافر بن شريح اليشكري: فقلت في نفسي: لئن كان نائماً لأنغصن عليه نومه، فدنوت منه فقلت: أنائم أنت؟ قال: لا، كنت أحدث نفسي. قلت: أفلا أحدثك بما كنت تحدث به نفسك؟ قال: هات. قلت: كنت تقول. ليتني كنت لم أقتل حسيناً. قال: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني لم أكن قتلت من قتلت. قال: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني لم أكن بنيت البيضاء. قال: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني لم أكن استعملت الدهاقين. قال: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني كنت أسخى مما كنت.
قال: أما قتلي الحسين فإنه أشار إلي يزيد بقتله أو قتلي فاخترت قتله، وأما البيضاء فإني اشتريتها من عبد الله بن عثمان الثقفي وأرسل إلي يزيد بألف ألف فأنفقتها عليها، فإن بقيت فلأهلي وإن هلكت لم آس عليها، وأما استعمال الدهاقين فإن عبد الرحمن بن أبي بكرة أراد أن يروج فوقع في عند معاوية حتى ذكرا قشور الأرز فبلغا بخراج العراق مائة ألف ألف فخيرني معاوية بين العزل والضمان، فكرهت العزل، فكنت إذا استعملت العربي كسر الخراج، فإن أغرمت عشيرته أو طالبته أوغرت صدورهم، وإن تركته تركت مال الله وأنا أعرف مكانه، فوجدت الدهاقين أبصر بالجباية وأوفى بالأمانة وأهون بالمطالبة منكم مع أني قد جعلتكم أمناء عليهم لئلا يظلموا أحداً. وأما قولك في السخاء فما كان لي مال فأجود به عليكم، ولو شئت لأخذت بعض مالكم فخصصت به بعضكم دون بعض فيقولون ما أسخاه. وأما قولك ليتني لم أكن قتلت من قتلت فما عملت بعد كلمة الإخلاص عملاً هو أقرب إلى الله عندي من قتل من قتلت من الخوارج، ولكني سأخبرك بما حدثت به نفسي، قلت: ليتني كنت قاتلت أهل البصرة فإنهم بايعوني طائعين، ولقد حرصت على ذلك ولكن بني زياد قالوا: إن قاتلتهم فظهروا عليك لم يبقوا منا أحداً، وإن تركتهم تغيب الرجل منا عند أخواله وأصهاره فوقعت بهم، فكنت أقول: ليتني أخرجت أهل السجن فضربت أعناقهم، وأما إذ فاتت هاتان فليتني أقدم الشام ولم يبرموا أمراً.
قال: فقدم الشام ولم يبرموا أمراً، فكأنما كانوا معه صبياناً، وقيل: بل قدم وقد أبرموا فنقض عليهم ما أبرموا.
فلما سار من البصرة استخلف مسعوداً عليها، فقال بنو تميم وقيس: لا نرضى به ولا نولي إلا رجلاً ترضاه جماعتنا. فقال مسعود: قد استخلفني ولا أدع ذلك أبداً.
وخرج حتى انتهى إلى القصر ودخله، واجتمعت تميم إلى الأحنف فقالوا له: إن الأزد قد دخلوا المسجد. قال: إنما هو لهم ولكم. قالوا: قد دخلوا القصر وصعد مسعود المنبر، وكانت خوارج قد خرجوا فنزلوا نهر الأساورة حين خرج عبيد الله إلى الشام، فزعم الناس أن الأحنف بعث إليهم أن هذا الرجل الذي قد دخل القصر هو لنا ولكم عدوٌّ فما يمنعكم عنه! فجاءت عصابة منهم حتى دخلوا المسجد ومسعود على المنبر يبايع من أتاه، فرماه علجٌ يقال له مسلم من أهل فارس، دخل البصرة فأسلم ثم دخل في الخوارج، فأصاب قلبه فقتله، فقال الناس: قتله الخوارج، فخرجت الأزد إلى تلك الخوارج فقتلوا منهم وجرحوا فطردوهم عن البصرة.
ثم قيل للأزد: إن تميماً قتلوا مسعوداً، فأرسلوا يسألون، فإذا ناس من تميم تقول، فاجتمعت الأد عند ذلك فرأسوا عليهم زياد بن عمرو أخا مسعود بن عمرو ومعهم مالك بن مسمع في ربيعة، وجاءت تميم إلى الأحنف يقولون: قد خرج القوم، وهو يتمكث لا يخف للفتنة، فجاءته امرأة بمجمر فقالت: اجلس على هذا، أي إنما أنت امرأة.
فخرج الأحنف في بني تميم ومعهم من بالبصرة من قيس فالتقوا، فقتل بينهم ققتلى كثيرة، فقال لهم بنو تميم: الله الله يا معشر الأزد في دمائنا ودمائكم! بيننا وبينكم القرآن ومن شئتم من أهل الإسلام فإن لكم علينا بينة فاختاروا أفضل رجل فينا فاقتلوه، وإن لم تكن لكم بينة فإنا نحلف بالله ما قتلنا ولا أمرنا ولا نعلم له قائلاً، وإن لم تريدوا ذلك فنحن ندي صاحبكم بمائة ألف درهم. وأتاهم الأحنف واعتذر إليهم مما قيل، وسفر بينهم عمر بن عبيد الله بن معمر وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فطلبوا عشر ديات، فأجابهم إلى ذلك واصطلحوا عليه.
وأما عبد الله بن الحارث ببة فإنه أقام يصلي بهم حتى قدم عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر أميراً من قبل ابن الزبير. وقيل: بل كتب ابن الزبير إلى عمر بعهده على البصرة، فأتاه الكتاب وهو متوجه إلى العمرة، فكتب عمر إلى أخيه عبيد الله يأمره أن يصلي بالناس، فصلى بهم حتى قدم عمر، فبقي عمر أميراً شهراً حتى قدم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي بعزله ووليها الحارث، وهو القباع.
وقيل: اعتزل عبيد الله بن الحارث ببة أهل البصرة بعد قتل مسعود بسبب العصبية وانتشار الخوارج، فكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير، فكتب ابن الزبير إلى أنس بن مالك يأمره أن يصلي بالناس، فصلى بهم أربعين يوماً، وكان عبد الله بن الحارث يقول: ما أحب أن أصلح الناس بفساد نفسي، وكان يتدين.
وفي أيامه سار نافع بن الأزرق إلى الأهواز من البصرة.
وأما أهل الكوفة فإنه لما ردوا رسول ابن زياد، على ما ذكرناه قبل، عزلوا خليفته عليهم، وهو عمرو بن حريث، واجتمع الناس وقالوا: نؤمر علينا رجلاً إلى أن يجتمع الناس على خليفة، فاجتمعوا على عمر بن سعد، فجاءت نساء همدان يبكين الحسين، ورجالهم متقلدوا السيوف، فأطافوا بالمنبر، فقال محمد بن الأشعث: جاء أمرٌ غير ما كنا فيه. وكانت كندة تقوم بأمر عمر بن سعد لأنهم أخواله، فاجتمعوا على عامر بن مسعود بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة الجمحي، فخطب أهل الكوفة فقال: إن لكل قوم أشربة ولذات فاطلبوها في مظانها، وعليكم بما يحل ويحمد، واكسروا شرابكم بالماء، وتواروا عني بهذه الجدران؛ فقال ابن همام:
اشرب شرابك وانعم غير محسود ... واكسره بالماء لا تعص ابن مسعود
إن الأمير له في الخمر مأربةٌ ... فاشرب هنيئاً مريئاً غير مرصود
من ذا يحرم ماء المزن خالطه ... في قعر خابيةٍ ماء العناقيد
إني لأكره تشديد الرواة لنا ... فيها ويعجبني قول ابن مسعود
ولما بايعه أهل الكوفة وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير أقره عليها، وكان يلقب دحروجة الجعل، وكان قصيراً، فمكث ثلاثة أشهر من مهلك يزيد بن معاوية، ثم قدم عليهم عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري على الصلاة، وإبراهيم بن محمد بن طلحة على الخراج من عند ابن الزبير، واستعمل محمد بن الأشعث بن قيس على الموصل، فاجتمع لابن الزبير أهل الكوفة والبصرة ومن بالقبلة من العرب وأهل الجزيرة وأهل الشام إلا أهل الأردن في إمارة عمر بن عبيد الله بن معمر.
وكان طاعون الجارف بالبصرة فماتت أمه فما وجد لها من يحملها حتى استأجروا لها أربعة أعلاج فحملوها.
ذكر خلاف أهل الريفي هذه السنة بعد موت يزيد خالف أهل الري، وكان عليهم الفرخان الرازي، فوجه إليهم عامر بن مسعود، وهو أمير الكوفة، محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي، فلقيه أهل الري، فانهزم محمد، فبعث إليهم عامرٌ عتاب بن ورقاء الرياحي التميمي، فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل الفرخان وانهزم المشركون، وكان هذا محمد بن عمير مع علي بصفين على تميم الكوفة، ثم عاش بعد ذلك، فلما ولي الحجاج الكوفة فارقها وسار إلى الشام لكراهته ولاية الحجاج.
ذكر بيعة مروان بن الحكمفي هذه السنة بويع مروان بن الحكم بالشام.
وكان السبب فيها أن ابن الزبير لما بويع له بالخلافة ولى عبيدة بن الزبير المدينة، وعبد الرحمن بن جحدم الفهري مصر، وأخرج بني أمية ومروان بن الحكم إلى الشام، وعبد الملك بن مروان يومئذٍ ابن ثمان وعشرين سنة، فلما قدم الحصين بن نمير ومن معه إلى الشام أخبر مروان بما كان بينه وبين ابن الزبير، وقال له ولبني أمية: نراكم في اختلاط فأقيموا أميركم قبل أن يدخل عليكم شأمكم فتكون فتنة عمياء صماء. وكان من رأي مروان أن يسير إلى ابن الزبير فيبايعه بالخلافة، فقدم ابن زياد من العراق، وبلغه ما يريد مروان أن يفعل، فقال له: قد استحييت لك من ذلك، أنت كبير قريش وسيدها تمضي إلى أبي خبيب فتبايعه، يعني ابن الزبير، لأنه كان يكنى بابنه خبيب! فقال: ما فات شيء بعد، فقام معه بنو أمية ومواليهم وتجمع إليه أهل اليمن فسار إلى دمشق وهو يقول: ما فات شيء بعد، فقدم دمشق والضحاك بن قيس قد بايعه أهلها على أن يصلي بهم ويقيم لهم أمرهم حتى يجتمع الناس، وهو يدعو إلى ابن الزبير سراً.
وكان زفر بن الحارث الكلائي بقنسرين يبايع لابن الزبير، والنعمان بن بشير بحمص يبايع له أيضاً، وكان حسان بن مالك بن بحدل الكلبي بفلسطين عاملاً لمعاوية ولابنه يزيد وهو يريد بني أمية، فسار إلى الأردن واستخلف على فلسطين روح بن زنباع الجذامي، فثار ناتل بن قيس بروح فأخرجه من فلسطين وبايع لابن الزبير.
وكان حسان في الأردن يدعو إلى بني أمية، فقال لأهل الأردن: ما شهادتكم على ابن الزبير وقتلى الحرة؟ قالوا: نشهد أنه منافق وأن قتلى الحرة في النار. قال: فما شهادتكم على يزيد وقتلاكم بالحرة؟ قالوا: نشهد أنه على الحق وأن قتلانا في الجنة. قال: فأنا أشهد لئن كان يزيد وشيعته على حق إنهم اليوم على حق، ولئن كان ابن الزبير وشيعته على باطل إنهم اليوم عليه. فقالوا له: صدقت، نحن نبايعك على أن نقاتل من خالفك وأطاع ابن الزبير على أن تجنبنا هذين الغلامين، يعنون ابني يزيد عبد الله وخالداً، فإنا نكره أن يأتينا الناس بشيخ ونأتيهم بصبي.
وكتب حسان إلى الضحاك كتاباً يعظم فيه حق بني أمية وحسن بلائهم عنده ويذم ابن الزبير وأنه خلع خليفتين، وأمره أن يقرأ كتابه على الناس، وكتب كتاباً آخر وسلمه إلى الرسول، واسمه باغضة، وقال له: إن قرأ كتابي على الناس وإلا فاقرأ هذا الكتاب عليهم. وكتب حسان إلى بني أمية يأمرهم أن يحضروا ذلك، فقدم باغضة فدفع كتاب الضحاك إليه وكتاب بني أمية إليهم، فلما كانت الجمعة صعد الضحاك المنبر، فقال له باغضة ليقرأ كتاب حسان على الناس. فقال له الضحاك: اجلس، فقام إليه الثانية والثالثة وهو يقول له: اجلس، فأخرج باغضة الكتاب وقرأه على الناس، فقال الوليد بن عتبة بن أبي سفيان: صدق حسان وكذب ابن الزبير، وشتمه.
وقيل: كان الوليد قد مات بعد موت معاوية بن يزيد وقام يزيد بن أبي الغمس الغساني وسفيان بن الأبرد الكلبي فصدقا حساناً وشتما ابن الزبير، وقام عمرو بن يزيد الحكمي فشتم حساناً وأثنى على ابن الزبير، فأمر الضحاك بالوليد ويزيد بن أبي الغمس وسفيان فحبسوا، وجال الناس ووثبت كلب على عمرو بن يزيد الحكمي فضربوه ومزقوا ثيابه، وقام خالد بن يزيد فصعد مرقاتين من المنبر وسكن الناس، ونزل الضحاك فصلى الجمعة ودخل القصر. فجاءت كلب فأخرجوا سفيان، وجاءت غسان فأخرجوا يزيد، وجاء خالد بن يزيد وأخوه عبد الله معهما أخوالهما من كلب فأخرجوا الوليد بن عتبة، وكان أهل الشام يسمون ذلك اليوم يوم جيرون الأول.
ثم خرج الضحاك إلى المسجد فجلس فيه وذكر يزيد بن معاوية فسبه، فقام إليه شاب من كلب فضربه بعصا، فقام الناس بعضهم إلى بعض فاقتتلوا، قيس تدعو إلى ابن الزبير ونصرة الضحاك، وكلب تدعو إلى بني أمية ثم إلى خالد بن يزيد لأنه ابن أختهم.
ودخل الضحاك دار الإمارة ولم يخرج من الغد إلى صلاة الفجر، وبعث إلى بني أمية فاعتذر إليهم وأنه لا يريد ما يكرهون، وأمرهم أن يكتبوا إلى حسان ويكتب معهم ليسير من الأردن إلى الجابية ويسيرون هم من دمشق فيجتمعون معه بالجابية ويبايعون لرجل من بني أمية، فرضوا وكتبوا إلى حسان، وسار الضحاك وبنو أمية نحو الجابية، فأتاه ثور بن معن السلمي فقال: دعوتنا إلى ابن الزبير فبايعناك على ذلك وأنت تسير إلى هذا الأعرابي من كلب تستخلف ابن أخته خالد بن يزيد! قال الضحاك: فما الرأي؟ قال: الرأي أن تظهر ما كنا نكتم وتدعو إلى ابن الزبير.
فرجع الضحاك ومن معه من الناس فنزل بمرج راهط ودمشق بيده، واجتمع بنو أمية وحسان وغيرهم بالجابية، فكان حسان يصلي بهم أربعين يوماً والناس يتشاورون، وكان مالك بن هبيرة السكوني يهوى خالد بن يزيد، والحصين بن نمير يميل إلى مروان، فقال مالك للحصين: هل نبايع هذا الغلام الذي نحن ولدنا أباه وقد عرفت منزلتنا من أبيه فإنه يحملنا على رقاب العرب غداً؟ يعني خالداً. فقال الحصين: لا والله لا تأتينا العرب بشيخ ونأتيها بصبي. فقال مالك: والله لئن استخلفت مروان ليحسدك على سوطك وشراك نعلك وظل شجرة تستظل بها، إن مروان أبو عشيرة وأخو عشيرة فإن بايعتموه كنتم عبيداً لهم، ولكن عليكم بابن أختكم، فقال الحصين: إني رأيت في المنام قنديلاً معلقاً من السماء وأن من يلي الخلافة يتناوله فلم ينله أحد إلا مروان، والله لنستخلفنه.
وقام روح بن زنباع الجذامي فقال: أيها الناس إنكم تذكرون عبد الله بن عمر وصحبته وقدمه في الإسلام، وهو كما تذكرون، ولكنه ضعيف، وليس بصاحب أمة محمد الضعيف، وتذكرون ابن الزبير وهو كما تذكرون أنه ابن حواري رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنه ابن ذات النطاقين، ولكنه منافق قد خلع خليفتين يزيد وابنه معاوية وسفك الدماء وشق عصا المسلمين، وليس المنافق بصاحب أمة محمد، وأما مروان بن الحكم فوالله ما كان في الإسلام صدعٌ إلا كان ممن يشعبه، وهو الذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل، وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير ويستشيروا الصغير، يعني بالكبير مروان، وبالصغير خالد بن يزيد.
فاجتمع رأيهم على البيعة لمروان بن الحكم، ثم خالد بن يزيد، ثم لعمرو بن سعيد بن العاص من بعد خالد، على أن إمرة دمشق لعمرو وإمرة حمص لخالد بن يزيد.
فدعا حسان خالداً فقال: يا ابن أختي إن الناس قد أبوك لحداثة سنك وإني والله ما أريد هذا الأمر إلا لك ولأهل بيتك وما أبايع مروان إلا نظراً لكم. فقال خالد: بل عجزت عنا. قال: والله ما عجزت عنكم ولكن الرأي لك ما رأيت.
ثم بايعوا مروان لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع وستين؛ وقال مروان حين بويع له:
لما رأيت الأمر أمراً نهبا ... يسرت غسان لهم وكلبا
والسكسكيين رجالاً غلبا ... وطيئاً تأباه إلا ضربا
والقين تمشي في الحديد نكبا ... ومن تنوخ مشمخراً صعبا
لا يأخذون الملك إلا غصبا ... فإن دنت قيسٌ فقل لا قربا
خبيب بضم الخاء المعجمة، وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء تحتها نقطتان، وآخره باء موحدة.
ذكر وقعة مرج راهط وقتل الضحاك
والنعمان بن بشيرثم إن مروان لما بايعه الناس سار من الجابية إلى مرج راهط، وبه الضحاك بن قيس ومعه ألف فارس، وكان قد استمد الضحاك النعمان بن بشير وهو على حمص فأمده بشرحبيب بن ذي الكلاع، واستمد أيضاً زفر بن الحارث وهو على قنسرين فأمده بأهل قنسرين، وأمده ناتل بأهل فلسطين، فاجتمعوا عنده، واجتمع على مروان كلب وغسان والسكاسك والسكون، وجعل على ميمنته عمرو بن سعيد وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد، وكان يزيد بن أبي الغمس الغساني مختفياً بدمشق لم يشهد الجابية، فغلب على دمشق وأخرج عامل الضحاك بن قيس وغلب على الخزائن وبيت المال وبايع لمروان وأمده بالأموال والرجال والسلاح، فكان أول فتح على بني أمية.
وتحارب مروان والضحاك بمرج راهط عشرين ليلة واقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل الضحاك، قتله دحية بن عبد الله، وقتل معه ثمانون رجلاً من أشراف أهل الشام، وقتل أهل الشام مقتلة عظيمة، وقتلت قيس مقتلة لم يقتل مثلها في موطن قط، وكان فيمن قتل هانىء بن قبيصة النميري سيد قومه، كان مع الضحاك، قتله وازع بن ذؤالة الكلبي، فلما سقط جريحاً قال:
تعست ابن ذات النوف أجهز على فتىً ... يرى الموت خيراً من فرارٍ وألزما
ولا تتركني بالحشاشة إنني ... صبورٌ إذا ما النكس مثلك أحجما
فعاد إليه وازع فقتله.
وكانت الوقعة في المحرم سنة خمس وستين، وقيل: بل كانت في آخر سنة أربع وستين.
ولما رأى مروان رأس الضحاك ساءه ذلك وقال: الآن حين كبرت سني ودق عظمي وصرت في مثل ظمء الحمار، أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض! ولما انهزم الناس من المرج لحقوا بأجنادهم، فانتهى أهل حمص إليها وعليها النعمان بن بشير، فلما بلغه الخبر خرج هرباً ليلاً ومعه امرأته نائلة بنت عمارة الكلبية وثقله وأولاده، فتحير ليلته كلا، وأصبح أهل حمص فطلبوه، وكان الذي طلبه عمرو بن الجلي الكلاعي، فقتله ورد أهله والرأس معه، وجاءت كلب من أهل حمص فأخذوا نائلة وولدها معها.
ولما بلغت الهزيمة زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين هرب منها فلحق بقرقيسيا وعليها عياض الحرشي، وكان يزيد ولاه إياها، فطلب منه أن يدخل الحمام ويحلف له بالطلاق والعتاق على أنه حينما يخرج من الحمام لا يقيم بها، فأذن له، فدخلها فغلب عليها وتحصن بها ولم يدخل حمامها، فاجتمعت إليه قيس.
وهرب ناتل بن قيس الجذامي عن فلسطين فلحق بابن الزبير بمكة، واستعمل مروان بعده على فلسطين روم بن زنباع واستوثق الشام لمروان واستعمل عماله عليها.
وقيل: إن عبيد الله بن زياد إنما جاء إلى بني أمية وهم بتدمر ومروان يريد أن يسير إلى ابن الزبير ليبايعه ويأخذ منه الأمان لبني أمية، فردع عن ذلك وأمره أن يسير بأهل تدمر إلى الضحاك فيقاتله، ووافقه عمرو بن سعيد وأشار على مروان بأن يتزو أم خالد بن يزيد ليسقط من أعين الناس، فتزوجها، وهي فاختة ابنة أبي هاشم بن عتبة، ثم جمع بني أمية فبايعوه وبايعه أهل تدمر، وسار إلى الضحاك في جمع عظيم، فخرج الضحاك إليه فتقاتلا فانهزم الضحاك ومن معه وقتل الضحاك.
وسار زفر بن الحارث إلى قرقيسيا واجتمعت عليه قيس، وصحبه في هزيمته إلى قرقيسيا شابان من بني سليم، فجاءت خيل مروان تطلبهم، فقال الشابان لزفر: انج بنفسك فإنا نحن نقتل، فمضى زفر وتركهما فقتلا؛ وقال زفر في ذلك:
أريني سلاحي لا أبا لك إنني ... أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
أتاني عن مروان بالغيب أنه ... مقيدٌ دمي أو قاطعٌ من لسانيا
ففي العيش منجاةٌ وفي الأرض مهربٌ ... إذا نحن رفعنا لهن المبانيا
فلا تحبسوني إن تغيبت غافلاً ... ولا تفرحوا إن جئتكم بلقائيا
فقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... له ورقٌ من تحته الشر باديا
ونمضي ولا يبقى على الأرض دمنةٌ ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
لعمري لقد أبقت وقيعة راهطٍ ... لحسان صدعاً بيناً متنائيا
فلم تر مني نبوةٌ قبل هذه ... فراري وتركي صاحبي ورائيا
عشية أدعو في القران فلا أرى ... من الناس إلا من علي ولا ليا
أيذهب يومٌ واحدٌ إن أسأته ... بصالح أيامي وحسن بلائيا؟
فلا صلح حتى تنحط الخيل بالقنا ... وتثأر من نسوان كلبٍ نسائيا
ألا ليت شعري هل تصيبن غارتي ... تنوخاً وحيي طيءٍ من شفائيا
فأجابه جواس بن القعطل:
لعمري لقد أبقت وقيعة راهطٍ ... على زفرٍ مراً من الداء باقيا
مقيماً ثوى بين الضلوع محله ... وبين الحشا أعيا الطبيب المداويا
تبكي على قتلى سليمٍ وعامرٍ ... وذبيان معذور وتبكي البواكيا
دعا بالسلاح ثم أحجم إذ رأى ... سيوف جنابٍ والطوال المذاكيا
عليها كأسد الغاب فتيان نجدةٍ ... إذا شرعوا نحو الطوال العواليا
وقال عمرو بن الجلي الكلبي:
بكى زفر القيسي من هلك قومه ... بعبرة عينٍ ما يجف سجومها
يبكي على قتلى أصيبت براهطٍ ... تجاوبه هام القفار وبومها
أبحنا حمىً للحي قيسٍ براهطٍ ... وولت شلالاً واستبيح حريمها
يبكيهم حران تجري دموعه ... ترجي نزاراً أن تؤوب حلومها
فمت كمداً أو عش ذليلاً مهضماً ... بحسرة نفسٍ لا تنام همومها
في أبيات.
يزيد بن أبي الغمس بالسين المهملة، وقيل بالشين المعجمة، وكان قد ارتد عن الإسلام ودخل الروم مع جبلة بن الأيهم ثم عاود الإسلام وشهد صفين مع معاوية وعاش إلى أيام عبد الملك بن مروان. وناتل بالنون، والتاء المعجمة من فوق باثنتين.
ذكر فتح مروان مصرفلما قتل الضحاك وأصحابه واستقر الشام لمروان سار إلى مصر فقدمها وعليها عبد الرحمن بن جحدم القرشي يدعو إلى ابن الزبير، فخرج إلى مروان فيمن معه، وبعث مروان عمرو بن سعيد من ورائه حتى دخل مصر، فقيل لابن جحدم ذلك، فرجع وبايع الناس مروان ورجع إلى دمشق. فلما دنا منها بلغه أن ابن الزبير قد بعث إليه أخاه مصعباً في جيش، فأرسل إليه مروان عمرو بن سعيد قبل أن يدخل الشام، فقاتله، فانهزم مصعب وأصحابه، وكان مصعب شجاعاً. ثم عاد مروان إلى دمشق واستقر بها.
وقد كان الحصين بن نمير ومالك بن هبيرة قد اشترطا على مروان شروطاً لهما ولخالد بن يزيد، فلما توطن ملكه قال ذات يوم ومالك عنده: إن قوماً يدعون شروطاً، منهم عطارة مكحلة - يعني مالكاً - وكان يتطيب ويتكحل، فقال مالك: هذا ولما تردي تهامة ويبلغ الحزام الطبيين. فقال مروان: مهلاً يا أبا سليمان، إنما داعبناك! فقال: هو ذاك.
ذكر بيعة أهل خراسان سلم بن زياد وأمر عبد الله بن خازمولما بلغ سلم بن زياد، وهو بخراسان، موت يزيد كتم ذلك؛ فقال ابن عرادة:
يا أيها الملك المغلق بابه ... حدثت أمورٌ شأنهن عظيم
قتلى بحرة والذين بكابلٍ ... ويزيد أغلق بابه المكتوم
أبني أمية إن آخر ملككم ... جسدٌ بحوارين ثم مقيم
طرقت منيته وعند وساده ... كوبٌ وزقٌّ راعفٌ مرثوم
ومزنةٌ تبكي على نشوانه ... بالصبح تقعد مرةً وتقوم
فلما أظهر شعره أظهر سلم موت يزيد بن معاوية وابنه معاوية بن يزيد ودعا الناس إلى البيعة على الرضى حتى يستقيم أمر الناس على خليفة، فبايعوه ثم نكثوا به بعد شهرين، وكان محسناً إليهم محبوباً فيهم، فلما خلع عنهم استخلف عليهم المهلب بن أبي صفرة، ولما كان بسرخس لقيه سليمان بن مرثد، أحد بني قيس بن ثعلبة بن ربيعة، فقال له: ضاقت عليك نزار حتى خلفت على خراسان رجلاً من اليمن؟ يعني المهلب، وكان أزدياً والأزد من اليمن، فولاه مرو الروذ والفارياب والطالقان والجوزجان، وولى أوس بن ثعلبة بن زفر، وهو صاحب قصر أوس بالبصرة، هراة، فلما وصل إلى نيسابور لقيه عبد الله بن خازم فقال: من وليت خراسان؟ فأخبره، فقال: أما وجدت في المصر من تستعمله حتى فرقت خراسان بين بكر بن وائل واليمن؟ اكتب لي عهداً على خراسان. فكتب له وأعطاه مائة ألف درهم.
وسار ابن خازم إلى مرو، وبلغ خبره المهلب فأقبل واستخلف رجلاً من بني جشم بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فلما وصلها ابن خازم منعه الجشمي وجرت بينهما مناوشة، فأصابت الجشمي رمية بحجر في جبهته، وتحاجزوا، ودخلها ابن خازم، ومات الجشمي بعد ذلك بيومين.
ثم سار ابن خازم إلى سليمان بن مرثد بمرو الروذ فقاتله أياماً فقتل سليمان، ثم سار إلى عمرو بن مرثد وهو بالطالقان فاقتتلوا طويلاً فقتل عمرو بن مرثد وانهزم أصحابه فلحقوا بهراة بأوس بن ثعلبة، ورجع ابن خازم إلى مرو وهرب من كان بمرو الروذ من بكر بن وائل إلى هراة وانضم إليها من كان بكور خراسان من بكر وكثر جمعهم وقالوا لأوس بن ثعلبة: نبايعك على أن تسير إلى ابن خازم وتخرج مضر من خراسان، فأبى عليهم، فقال له بنو صهيب، وهم موالي بني جحدم: لا نرضى أن نكون نحن ومضر في بلد واحد وقد قتلوا سليمان وعمراً ابني مرثد، فإما أن تبايعنا على هذا وإلا بايعنا غيرك. فأجابهم، فبايعوه، فسار إليهم ابن خازم فنزل على وادٍ بينه وبين هراة، فأشار البكريون بالخروج من هراة وعمل خندق، فقال أوسٍ: بل نلزم المدينة فإنها حصينة ونطاول ابن خازم نحو سنة، وقال له هلال الضبي: إنما تقاتل إخوتك وبني أبيك، فإن نلت منهم الذي تريد فما في العيش خير، فلو أعطيتهم شيئاً يرضون به وأصلحت هذا الأمر. قال: والله لو خرجنا لهم من خراسان ما رضوا. قال هلال: والله لا أقاتل معك أنا ولا رجل أو تطيعني حتى تعتذر إليهم. قال: فأنت رسولي إليهم فأرضهم.
فأتى هلالٌ أوس بنن ثعلبة فناشده الله والقرابة في نزار وأن يحفظ ولاءها. فقال: هل لقيت بني صهيب؟ قال: لا. قال: فالقهم. قال: فخرج فلقي جماعة من رؤساء أصحابه فأخبرهم ما أتى له. فقالوا له: هل لقيت بني صهيب؟ فقال: لقد عظم أمر بني صهيب عندكم، فأتاهم فكلمهم، فقالوا: لولا أنك رسول لقتلناك. قال: فهل يرضيكم شيء؟ قالوا: واحدة من اثنتين: إما أن تخرجوا من خراسان، وإما أن تقيموا وتخرجوا لنا عن كل سلاح وكراع وذهب وفضة.
فرجع إلى ابن خازم، فقال: ما عندك؟ فأخبره. فقال: إن ربيعة لم تزل غضاباً على ربها منذ بعث نبيه من مضر. وأقام ابن خازم يقاتلهم، فقال يوماً لأصحابه: قد طال مقامنا، وناداهم: يا معشر ربيعة أرضيتم من خراسان بخندقكم! فأحفظهم ذلك، فتنادوا للقتال، فنهاهم أوس بن ثعلبة عن الخروج بجماعتهم وأن يقاتلوا كما كانوا يقاتلون، فعصوه. فقال ابن خازم لأصحابه: اجعلوه يومكم فيكون الملك لمن غلب، وإذا لقيتم الخيل فاطعنوها في مناخرها. فاقتتلوا ساعة وانهزمت بكر بن وائل حتى انتهوا إلى خندقهم وتفرقوا يميناً وشمالاً وسقط الناس في الخندق وقتلوا قتلاً ذريعاً وهرب أوس بن ثعلبة إلى سجستان فمات بها أو قريباً منها، وقتل من بكر يومئذٍ ثمانية آلاف، وغلب ابن خازم على هراة واستعمل عليها ابنه محمداً وضم إليه شماس بن دثار العطاردي، وجعل بكير بن وساج الثقفي على شرطته، ورجع ابن خازم إلى مرو.
وأغارت الترك على قصر اسغاد، وابن خازم على هراة، وكان فيه ناس من الأزد، فحصروهم، فأرسلوا إلى ابن خازم، فوجه إليهم زهير بن حيان في بني تميم وقال له: إياك ومناوأة الترك، إذا رأيتموهم فاحملوا عليهم. فوافاهم في يوم بارد، فلما التقوا حمل عليهم فانهزمت الترك واتبعوهم حتى مضى عامة الليل، فرجع زهير وقد يبست يده على رمحه من البرد، فجعلوا يخنون الشحم فيضعه على يده ودهنوه وأوقدوا له ناراً فانتفخت يده، ثم رجع إلى هراة؛ فقال في ذلك ثابت قطنة:
فدت نفسي فوارس من تميمٍ ... على ما كان من ضنك المقام
بقصر الباهلي وقد أراني ... أحامي حين قل به المحامي
بسيفي بعد كسر الرمح فيهم ... أذودهم بذي شطبٍ حسام
أكر عليهم اليحموم كراً ... ككر الشرب آنية المدام
فلولا الله ليس له شريكٌ ... وضربي قونس الملك الهمام
إذاً فاضت نساء بني دثارٍ ... أمام الترك بادية الخدام
ذكر أمر التوابينقيل: لما قتل الحسين ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة ودخل الكوفة تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندم، ورأت أن قد أخطأت خطأً كبيراً بدعائهم الحسين وتركهم نصرته وإجابته حتى قتل إلى جانبهم، ورأوا أنه لا يغسل عارهم والإثم عليهم إلا قتل من قتله أو القتل فيهم، فاجتمعوا بالكوفة إلى خمسة نفر من رؤساء الشيعة: إلى سليمان بن صرد الخزاعي، وكانت له صحبة، وإلى المسيب بن نجبة الفزاري، وكان من أصحاب علي، وإلى عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وإلى عبد الله بن والٍ التيمي، تيم بكر بن وائل، وإلى رفاعة بن شداد البجلي، وكانوا من خيار أصحاب علي، فاجتمعوا في منزل سليمان بن صرد الخزاعي، فبدأهم المسيب بن نجبة فقال بعد حمد الله: أما بعد فإنا ابتلينا بطول العمر والتعرض لأنواع الفتن، فنرغب إلى ربنا أن لا يجعلنا ممن يقول له غداً: (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) فاطر: 37، فإن أمير المؤمنين علياً قال: العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة، وليس فينا رجل إلا وقد بلغه، وقد كنا مغرمين بتزكية أنفسنا فوجدنا الله كاذبين في كل موطن من مواطن ابن بنت نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد بلغنا قبل ذلك كتبه ورسله وأعذر إلينا فسألنا نصره عوداً وبدءاً وعلانيةً فبخلنا عنه بأنفسنا حتى قتل إلى جانبنا لا نحن نصرناه بأيدينا ولا جادلنا عنه بألسنتنا ولا قويناه بأموالنا ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا، فما عذرنا عند ربنا وعند لقاء نبينا وقد قتل فينا ولد حبيبه وذريته ونسله؟ لا والله لا عذر دون أن تقتلوا قاتله والموالين عليه، أو تقتلوا في طلب ذلك، فعسى ربنا أن يرضى عنا عند ذلك، ولا أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن. أيها القوم ولوا عليكم رجلاً منكم فإنه لابد لكم من أمير تفزعون إليه وراية تحفون بها.
وقام رفاعة بن شداد وقال: أما بعد فإن الله قد هداك لأصوب القول وبدأت بأرشد الأمور بدعائك إلى جهاد الفاسقين وإلى التوبة من الذنب العظيم، فمسموع منك مستجاب إلى قولك، وقلت: ولوا أمركم رجلاً تفزعون إليه وتحفون برايته، وقد رأينا مثل الذي رأيت، فإن تكن أنت ذلك الرجل تكن عندنا مرضياً، وفينا منتصحاً، وفي جماعتنا محبوباً، وإن رأيت ورأى أصحابنا ذلك ولينا هذا الأمر شيخ الشيعة وصاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وذا السابقة والقدم سليمان بن صرد الخزاعي، المحمود في بأسه ودينه، الموثوق بحزمه.
وتكلم عبد الله بن سعد بنحو ذكل وأثنيا على المسيب وسليمان. فقال المسيب: قد أصبتم فولوا أمركم سليمان بن صرد.
فتكلم سليمان فقال بعد حمد الله: أما بعد فإني لخائف ألا يكون آخرنا إلى هذا الدهر الذي نكدت فيه المعيشة وعظمت فيه الرزية وشمل فيه الجور أولي الفضل من هذه الشيعة لما هو خير، إنا كنا نمد أعناقنا إلى قدوم آل بيت نبينا، صلى الله عليه وسلم، نمنيهم النصر ونحثهم على القدوم، فلما قدموا ونينا وعجزنا وأدهنا وتربصنا حتى قتل فينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمه ودمه إذ جعل يستصرخ ويسأل النصف فلا يعطى، اتخذه الفاسقون غرضاً للنبل ودريئة للرماح حتى أقصدوه، وعدوا عليه فسلبوه. ألا انهضوا، فقد سخط عليكم ربكم ولا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتى يرضى الله، والله ما أظنه راضياً دون أن تناجزوا من قتله، ألا لا تهابوا الموت فما هابه أحدٌ قط إلا ذل، وكونوا كبني إسرائيل إذ قال لهم نبيهم: (إنكم ظلمتم أنفسكم) (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) البقرة: 54، ففعلوا وجثوا على الركب ومدوا الأعناق حين علموا أنهم لا ينجيهم من عظيم الذنب إلا القتل، فكيف بكم لو دعيتم إلى ما دعوا! أحدوا السيوف وركبوا الأسنة (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباط الخيل) الأنفال: 60، حتى تدعوا وتستنفروا.
فقال خالد بن سعد بن نفيل: أما أنا فوالله لو أعلم أنه ينجيني من ذنبي ويرضي ربي عني قتلي نفسي لقتلتها، وأنا أشهد كل من حضر أن كل ما أصبحت أملكه سوى سلاحي الذي أقاتل به عدوي صدقة على المسلمين أقويهم به على قتال الفاسقين. قال أبو المعتمر بن حنش بن ربيعة الكناني مثل ذلك. فقال سليمان: حسبكم، من أراد من هذا شيئاً فليأت به عبد الله بن والٍ التيمي، فإذا اجتمع عنده كل ما تريدون إخراجه جهزنا به ذوي الخلة والمسكنة من أشياعكم.
وكتب سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة بن اليمان يعلمه بما عزموا عليه ويدعوه إلى مساعدتهم ومن معه من الشيعة بالمدائن، فقرأ سعد بن حذيفة الكتاب على من بالمدائن من الشيعة، فأجابوا إلى ذلك، فكتبوا إلى سليمان بن صرد يعلمونه أنهم على الحركة إليه والمساعدة له.
وكتب سليمان أيضاً كتاباً إلى المثنى بن مخربة العبدي بالبصرة مثل ما كتب إلى سعد بن حذيفة، فأجابه المثنى: إننا معشر الشيعة حمدنا الله على ما عزمتم عليه ونحن موافوك إن شاء الله للأجل الذي ضربت. وكتب في أسفل الكتاب:
تبصر كأني قد أتيتك معلماً ... على أتلع الهادي أجش هزيم
طويل القرا نهد الشواة مقلصٍ ... ملحٍ على فأس اللجام أزوم
بكل فتىً لا يملأ الروع قلبه ... محشٍ لنار الحرب غير سؤوم
أخي ثقةٍ ينوي الإله بسعيه ... ضروبٍ بنصل السيف غير أثيم
فكان أول ما ابتدأوا به أمرهم بعد قتل الحسين سنة إحدى وستين، فما زالوا بجمع آلة الحرب ودعاء الناس في السر إلى الطلب بدم الحسين، فكان يجيبهم النفر، ولم يزالوا على ذلك إلى أن هلك يزيد بن معاوية سنة أربع وستين، فلما مات يزيد جاء إلى سليمان أصحابه فقالوا: قد هلك هذا الطاغية والأمر ضعيف، فإن شئت وثبنا على عمرو بن حريث، وكان خليفة ابن زياد على الكوفة، ثم أظهرنا الطلب بدم الحسين وتتبعنا قتلته ودعونا الناس إلى أهل هذا البيت المستأثر عليهم المدفوعين عن حقهم.
فقال سليمان بن صرد: لا تعجلوا، إني قد نظرت فيما ذكرتم فرأيت أن قتلة الحسين هم أشراف الكوفة وفرسان العرب وهم المطالبون بدمه، ومتى علموا ما تريدون كانوا أشد الناس عليكم، ونظرت فيمن تبعني منكم فعلمت أنهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم ولم يشفوا نفوسهم وكانوا جزراً لعدوهم، ولكن بثوا دعاتكم وادعوا إلى أمركم. ففعلوا واستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك يزيد.
ثم إن أهل الكوفة أخرجوا عمرو بن حريث وبايعوا لابن الزبير، وسليمان وأصحابه يدعون الناس.
فلما مضت ستة أشهر بعد هلال يزيد قدم المختار بن أبي عبيد الكوفة في النصف من رمضان، وقدم عبد الله بن يزيد الأنصاري أميراً على الكوفة من قبل ابن الزبير لثمان بقين من رمضان، وقدم إبراهيم بن محمد بن طلحة معه على خراج الكوفة. فأخذ المختار يدعو الناس إلى قتال قتلة الحسين ويقول: جئتكم من عند المهدي محمد بن الحنفية وزيراً أميناً. فرجع إليه طائفةٌ من الشيعة، وكان يقول: إنما يريد سليمان أن يخرج فيقتل نفسه ومن معه وليس له بصرٌ بالحرب. وبلغ الخبر عبد الله بن يزيد بالخروج عليه بالكوفة في هذه الأيام، وقيل له ليحبسه، وخوف عاقبة أمره إن تركه.
فقال عبد الله: إن هم قاتلونا قاتلناهم، وإن تركونا لم نطلبهم. إن هؤلاء القوم يطلبون بدم الحسين بن علي، فرحم الله هؤلاء القوم، إنهم آمنون، فليخرجوا ظاهرين وليسيروا إلى من قاتل الحسين، فقد أقبل إليهم، يعني ابن زياد، وأنا لهم ظهير، هذا ابن زياد قاتل الحسين وقاتل أخياركم وأمثالكم قد توجه إليكم، وقد فارقوه على ليلة من جسر منبج فالقتال والاستعداد إليه أولى من أن تجعلوا بأسكم بينكم فيقتل بعضكم بعضاً فيلقاكم عدوكم وقد ضعفتم، وتلك أمنيته، وقد قدم عليكم أعدى خلق الله لكم، من ولي عليكم هو وأبوه سبع سنين لا يقلعان عن قتل أهل العفاف والدين، هو الذي من قبله أتيتم، والذي قتل من تنادون بدمه قد جاءكم فاستقبلوه بحدكم وشوكتكم واجعلوها به ولا تجعلوها بأنفسكم، إني لكم ناصحٌ.
وكان مروان قد سير ابن زياد إلى الجزيرة، ثم إذا فرغ منها سار إلى العراق.
فلما فرغ عبد الله بن يزيد من قوله قال إبراهيم بن محمد بن طلحة: أيها الناس لا يغرنكم من السيف والغشم مقالة هذا المداهن، والله لئن خرج علينا خارج لنقتله، ولئن استيقنا أن قوماً يريدون الخروج علينا لنأخذن الوالد بولده والمولود بوالده والحميم بالحميم والعريف بما في عرافته حتى يدينوا للحق ويذللوا للطاعة.
فوثب إليه المسيب بن نجبة فقطع عليه منطقة ثم قال: يا ابن الناكثين! أنت تهددنا بسيفك وغشمك! أنت والله أذل من ذلك! إنا لا نلومك على بغضنا وقد قتلنا أباك وجدك، وأما أنت أيها الأمير فقد قلت قولاً سديداً.
فقال إبرهيم: والله لتقتلن وقد أدهن هذا، يعني عبد الله بن يزيد. فقال له عبد الله بن وال: ما اعتراضك فيما بيننا وبين أميرنا؟ ما أنت علينا بأمير إنما أنت أمير هذه الجزية، فأقبل على خراجك، ولئن أفسدت أمر هذه الأمة فقد أفسده والداك وكانت عليهما دائرة السوء! فشتمهم جماعة ممن مع إبراهيم فشاتموه، فنزل الأمير من على المنبر، وتهدده إبراهيم بأنه يكتب إلى ابن الزبير يشكوه، فجاءه عبد الله في منزله واعتذر إليه، فقبل عذره. ثم إن أصحاب سليمان خرجوا ينشرون السلاح ظاهرين ويتجهزون.
ذكر فراق الخوارج عبد الله بن الزبير وما كان بينهموفي هذه السنة فارق الخوارج الذين كانوا قدموا مكة عبد الله بن الزبير، وكانوا قد قاتلوا معه أهل الشام.
وكان سبب قدومهم عليه أنهم لما اشتد عليهم ابن زياد بعد قتل أبي بلال اجتمعوا فتذاكروا ذلك، فقال لهم نافع بن الأزرق: إن الله قد أنزل عليكم الكتاب، وفرض عليكم الجهاد، واحتج عليكم بالبيان، وقد جرد أهل الظلم فيكم السيوف فاخرجوا بنا إلى هذا الذي قد ثار بمكة فإن كان على رأينا جاهدنا معه، وإن يكن على غير رأينا جاهدنا معه، وإن يكن على غير رأينا دافعناه عن البيت. وكان عسكر الشام قد سار نحو ابن الزبير.
فسار الخوارج حتى قدموا على ابن الزبير، فسر بمقدمهم وأخبرهم أنه على مثل رأيهم من غير تفتيش. فقاتلوا معه أهل الشام حتى مات يزيد بن معاوية وانصرف أهل الشام.
ثم إنهم اجتمعوا وقالوا: إن الذي صنعتم أمس لغير رأي، تقاتلون مع رجل لا تدرون لعله ليس على مثل رأيكم، وقد كان أمس يقاتلكم هو وأبوه وينادي: يا ثارات عثمان! فأتوه واسألوه عن عثمان فإن برىء منه كان وليكم، وإن أبى كان عدوكم. فأتوه فسألوه، فنظر فإذا أصحابه حوله قليل، فقال: إنكم أتيتموني حين أردت القيام، ولكن روحوا إلي العشية حتى أعلمكم.
فانصرفوا، وبعث إلى أصحابه فجمعهم حوله بالسلاح، وجاءت الخوارج وأصحابه حوله وعلى رأسه وبأيديهم العمد، فقال ابن الأزرق لأصحابه: إن الرجل قد أزمع خلافكم، فتقدم إليه نافع بن الأزرق وعبيدة بن هلال، فقال عبيدة بعد حمد الله: أما بعد فإن الله بعث محمداً يدعو إلى عبادته وإخلاص الدين له، فدعا إلى ذلك فأجابه المسلمون، فعمل فيهم بكتاب الله حتى قبضه الله واستخلف الناس أبا بكر واستخلف أبو بكر عمر، فكلاهما عمل بكتاب الله وسنة نبيه، ثم إن الناس استخلفوا عثمان، فحمى الأحماء وآثر القربى واستعمل الفتى ورفع الدرة ووضع السوط ومزق الكتاب وضرب منكر الجور وآوى طريد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وضرب السابقين بالفضل وحرمهم، وأخذ فيء الله الذي أفاء عليهم فقسمه في فساق قريش ومجان العرب، فسارت إليه طائفة فقتلوه، فنحن لهم أولياء ومن ابن عفان وأوليائه برآء، فما تقول أنت يا ابن الزبير؟ فقال: قد فهمت الذي ذكرت به النبي، صلى الله عليه وسلم، فهو فوق ما ذكرت وفوق ما وصفت، وفهمت ما ذكرت به أبا بكر وعمر، وقد وفقت وأصبت، وفهمت الذي ذكرت به عثمان، وإني لا أعلم مكان أحد من خلق الله اليوم أعلم بابن عفان وأمره مني، كنت معه حيث نقم القوم عليه واستعتبوه فلم يدع شيئاً إلا أعتبهم، ثم رجعوا إليه بكتاب له يزعمون أنه كتبه يأمر فيه بقتلهم، فقال لهم: ما كتبته فإن شئتم فهاتوا بينتكم فإن لم تكن حلفت لكم، فوالله ما جاؤوه ببينة ولا استحلفوه ووثبوا عليه فقتلوه، وقد سمعت ما عتبته به، فليس كذلك بل هو لكل خير أهل، وأنا أشهدكم ومن حضرني أني ولي لابن عفان وعدو أعدائه فبرىء الله منكم.
وتفرق القوم فاقبل نافع بن الأزرق الحنظلي وعبد الله بن الصفار السعدي وعبد الله بن إباض وحنظلة بن بيهس وبنو الماحوز: عبد الله وعبيد الله والزبير من بني سليط بن يربوع، وكلهم من تميم، حتى أتوا البصرة، وانطلق أبو طالوت، من بني بكر بن وائل، وأبو فديك عبد الله بن ثور بن قيس بن ثعلبة، وعطية بن الأسود اليشكري إلى اليمامة، فوثبوا بها مع أبي طالوت، ثم أجمعوا بعد ذلك على نجدة بن عامر الحنفي وتركوا أبا طالوت.
فأما نافع وأصحابه فإنهم قدموا البصرة وهم على رأي أبي بلال، واجتمعوا وتذاكروا فضيلة الجهاد، فخرج نافع على ثلاثمائة، وذلك عند وثوب الناس بابن زياد وكسر الخوارج باب السجن، وخرجوا واشتغل الناس عنهم بحرب الأزد وربيعة وتميم، فلما خرج نافع تبعوه، واصطلح أهل البصرة على عبد الله بن الحارث، فتجرد الناس للخوارج وأخافوهم، فلحق نافع بالأهواز في شوال سنة أربع وستين، وخرج من بقي منهم بالبصرة إلى ابن الأزرق إلا من لم يرد الخروج يومه ذلك، منهم: عبد الله بن الصفار، وعبد الله بن إباض، ورجال معهما على رأيهما، ونظر نافع فرأى أن ولاية من تخلف عن الجهاد من الذين قعدوا من الخوارج لا تحل له، وأن من تخلف عنه لا نجاة له، فقال لأصحابه ذلك ودعاهم إلى البراءة منهم وأنهم لا يحل لهم مناكحتهم ولا أكل ذبائحهم، ولا يجوز قبول شهادتهم وأخذ علم الدين عنهم، ولا يحل ميراثهم، ورأى قتل الأطفال والاستعراض، وأن جميع المسلمين كفار مثل كفار العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل.
فأجابه إلى ذلك بعضهم وفارقه بعضهم، وممن فارقه نجدة بن عامر، وسار إلى اليمامة، فأطاعه الخوارج الذين بها وتركوا أبا طالوت، فكتب نافع إلى ابن إباض وابن الصفار يدعوهما ومن معهما إلى ذلك، فقرأ ابن الصفار الكتاب ولم يقرأه على أصحابه خشية أن يتفرقوا ويختلفوا، فأخذه ابن إباض فقرأه، فقال: قاتله الله أي رأي رأى! صدق نافع، لو كان القوم مشركين كان أصوب الناس رأياً وكانت سيرته كسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في المشركين، ولكنه قد كذب فيما يقول، إن القوم برآء من الشرك ولكنهم كفار بالنعم والأحكام ولا يحل لنا إلا دماؤهم، وما سوى ذلك فهو حرام علينا.
فقال له ابن الصفار: برىء الله منك فقد قصرت، وبرىء الله من ابن الأزرق فقد غلا. فقال الآخر: برىء الله منك ومنه.
فتفرق القوم واشتدت شوكة ابن الأزرق وكثرت جموعه وأقام بالأهواز يجبي الخراج ويتقوى به، ثم أقبل نحو البصرة حتى دنا من الجسر، فبعث إليه عبد الله بن الحارث مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة من أهل البصرة.
عبيس بالعين المهملة المضمومة، والباء الموحدة، والياء المعجمة المثناة من تحت، وبالسين المهملة. وعبيدة بن بلال بضم العين المهملة، والباء الموحدة.
ذكر قدوم المختار الكوفةكانت الشيعة تسب المختار وتعيبه لما كان منه في أمر الحسن بن علي حين طعن في ساباط وحمل إلى أبيض المدائن، حتى إذا كان زمن الحسين، بعث الحسين مسلم بن عقيل إلى الكوفة، وكان المختار في قرية له تدعى لفغا، فجاءه خبر ابن عقيل عند الظهر أنه قد ظهر، ولم يكن خروجه عن ميعاد كما سبق، فأقبل المختار في مواليه فانتهى إلى باب الفيل بعد المغرب، وقد أقعد عبيد الله بن زياد عمرو بن حريث بالمسجد ومعه راية، فوقف المختار لا يدري ما يصنع، فبلغ خبره عمراً فاستدعاه وآمنه، فحضر عنده.
فلما كان الغد ذكر عمارة بن الوليد بن عقبة أمره لعبيد الله، فأحضره فيمن دخل وقال له: أنت المقبل في الجموع لتنصر ابن عقيل؟ قال: لم أفعل ولكني أقبلت ونزلت تحت راية عمرو، فشهد له عمرو، فضرب وجه المختار فشتر عينه وقال: لولا شادة عمرو لقتلتك! ثم حبسه حتى قتل الحسين.
ثم إن المختار بعث إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب يسأله أن يشفع فيه، وكان ابن عمر تزوج أخت المختار صفية بنت أبي عبيد، فكتب ابن عمر إلى يزيد يشفع فيه، فأرسل يزيد إلى ابن زياد يأمره بإطلاقه، فأطلقه وأمره أن لا يقيم غير ثلاث.
فخرج المختار إلى الحجاز، فلقيه ابن العرق وراء واقصة فسلم عليه وسأله عن عينه، فقال: خبطها ابن الزانية بالقضيب فصارت كما ترى، ثم قال: قتلني الله إن لم أقطع أنامله وأعضاءه إرباً إرباً! ثم سأله المختار عن ابن الزبير، فقال: إنه عائذ بالبيت وإنه يبايع سراً ولو اشتدت شوكته وكثرت رجاله لظهر.
فقال المختار: إنه رجل العرب اليوم وإن اتبع رأيي أكفه أمر الناس. إن الفتنة أرعدت وأبرقت وكأن قد انبعثت، فإذا سمعت بمكان قد ظهرت به في عصابة من المسلمين أطلب بدم الشهيد المظلوم المقتول بالطف، سيد المسلمين وابن بنت سيد المرسلين وابن سيدها، الحسين بن علي، فوربك لأقتلن بقتله عدة من قتل على دم يحيى بن زكرياء.
ثم سار وابن العرق يعجب من قوله، قال ابن العرق: فوالله لقد رأيت ما ذكره وحدثت به الحجاج بن يوسف، فضحك وقال: لله دره أي رجل ديناً، ومسعر حرب، ومقارع أعداء كان! ثم قدم المختار على ابن الزبير، فكتم عنه ابن الزبير أمره، ففارقه وغاب عنه سنة، ثم سأل عنه ابن الزبير فقيل إنه بالطائف وإنه يزعم أنه صاحب الغضب ومسير الجبارين. فقال ابن الزبير: ما له قاتله الله؟ لقد انبعث كذاباً متكهناً، إن يهلك الله الجبارين يكن المختار أولهم.
فهو في حديثه إذ دخل المختار المسجد فطاف وصلى ركعتين وجلس، فأتاه معارفه يحدثونه، ولم يأت ابن الزبير، فوضع ابن الزبير عليه عباس بن سهل بن مسعر، فأتاه وسأله عن حاله ثم قال له: مثلك يغيب عن الذي قد اجتمع عليه الأشراف من قريش والأنصار وثقيف! لم تبق قبيلة إلا وقد أتاه زعيمها فبايع هذا الرجل. فقال: إني أتيته العام الماضي وكتم عني خبره، فلما استغنى عني أحببت أن أريه أني مستغنٍ عنه. فقال له العباس: القه الليلة وأنا معك. فأجابه إلى ذلك، ثم حضر عند ابن الزبير بعد العتمة، فقال المختار: أبايعك على أن لا تقضي الأمور دوني وعلى أن أكون أول داخل، وإذا ظهرت استعنت بي على أفضل عملك. فقال ابن الزبير: أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله. فقال: وشر علماني تبايعه على ذلك، والله لا أبايعك أبداً إلا على ذلك.
فبايعه، فأقام عنده وشهد معه قتال الحصين بن نمير وأبلى أحسن بلاء وقاتل أشد قتال، وكان أشد الناس على أهل الشام.
فلما هلك يزيد بن معاوية وأطاع أهل العراق ابن الزبير أقام عنده خمسة أشهر، فلما رآه لا يستعمله جعل لا يقدم عليه أحد من أهل الكوفة إلا سأله عن حال الناس، فأخبره هانىء بن جبة الوادعي باتساق أهل الكوفة على طاعة ابن الزبير إلا أن طائفة من الناس هم عدد أهلها لو كان لهم من يجمعهم على رأيهم أكل بهم الأرض إلى يوم ما.
فقال المختار: أنا أبو إسحاق، أنا والله لهم أن أجمعهم على الحق وألقى بهم ركبان الباطل وأهلك بهم كل جبار عنيد. ثم ركب راحلته نحو الكوفة فوصل إلى نهر الحيرة يوم الجمعة فاغتسل ولبس ثيابه ثم ركب فمر بمسجد السكون وجبانة كندة لا يمر على مجلس إلا سلم على أهله وقال: أبشروا بالنصرة والفلج، أتاكم ما تحبون.
ومر ببني بدء فلقي عبيدة بن عمرو البدي من كندة، فسلم عليه وقال له: أبشر بالنصر والفلج، إنك أبا عمرٍو على رأي حسن، لن يدع الله لك معه إثماً إلا غفره لك ولا ذنباً إلا ستره. وكان عبيدة من أشجع الناس وأشعرهم وأشدهم تشيعاً وحباً لعلي، وكان لايصبر عن الشراب، فقال له: بشرك الله بالخير! فهل أنت مبين لنا؟ قال: نعم، القني الليلة.
ثم سافر ببني هند فلقي إسماعيل بن كثير فرحب به وقال له: القني أنت وأخوك الليلة فقد أتيتكم بما تحبون. ومر على حلقة من همدان فقال: قد قدمت عليكم بما يسركم، ثم أتى المسجد واستشرف له الناس، فقام إلى سارية فصلى عندها حتى أقيمت الصلاة وصلى مع الناس ثم صلى ما بين الجمعة والعصر ثم انصرف إلى داره، واختلف إليه الشيعة، وأتى إسماعيل بن كثير وأخوه وعبيدة بن عمرو فسألهم فأخبروه خبر سليمان بن صرد وأنه على المنبر، فحمد الله ثم قال: إن المهدي ابن الوصي بعثني إليكم أميناً ووزيراً ومنتخباً وأميراً وأمرني بقتل الملحدين والطلب بدم أهل بيته والدفع عن الضعفاء، فكونوا أول خلق الله إجابةً.
فضربوا على يده وبايعوه؛ وبعث إلى الشيعة وقد اجتمعت عند سليمان بن صرد وقال لهم نحو ذلك، وقال لهم: إن سليمان ليس له بصر بالحرب ولا تجربة بالأمور وإنما يريد أن يخرجكم فيقتلكم ويقتل نفسه، وأنا أعمل على مثال مثل لي وأمر بين لي عن وليكم، وأقتل عدوكم وأشفي صدوركم، فاسمعوا قولي وأطيعوا أمري، ثم انتشروا.
وما زال بهذا ونحوه حتى استمال طائفةً من الشيعة وصاروا يختلفون إليه ويعظمونه، وعظماء الشيعة مع سليمان لا يعدلون به أحداً، وهو أثقل خلق الله على المختار، وهو ينظر إلى ما يصير أمر سليمان.
فلما خرج سليمان نحو الجزيرة قال عمر بن سعد وشبث بن ربعي وزيد بن الحارث بن رويم لعبد الله بن يزيد الخطمي وإبراهيم بن محمد بن طلحة: إن المختار أشد عليكم من سليمان، إنما خرج يقاتل عدوكم، وإن المختار يريد أن يثب عليكم في مصركم، فأوثقوه واسجنوه حتى يستقيم أمر الناس.
فأتوه فأخذوه بغتةً، فلما رآهم قال: ما لكم؟ فوالله ما ظفرت أكفكم! فقال إبراهيم بن محمد بن طلحة: شدة كتافاً ومشه حافياً. فقال عبد الله: ما كنت لأفعل هذا برجل لم يظهر لنا غدره، إنما أخذناه على الظن. فقال إبراهيم: ليس هذا بعشك فادرجي. ما هذا الذي بلغنا عنك يا ابن أبي عبيد؟ فقال: ما بلغك عني إلا باطل وأعوذ بالله من غشٍ كغش أبيك وجدك! ثم حمل إلى السجن غير مقيد، وقيل: بل كان مقيداً، فكان يقول في السجن: أما ورب البحار، النخيل والأشجار، والمهامه والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لدن خطار، ومهند بتار، بجموع الأنصار، ليسوا بميل أغمار، ولا بعزل أشرار؛ حتى إذا أقمت عمود الدين، وزايلت شعب صدع المسلمين، وشفيت غليل صدور المؤمنين، وأدركت ثأر النبيين، لم يكبر علي زوال الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا أتى.
وقيل في خروج المختار إلى الكوفة وسببه غير ما تقدم، وهو أن المختار قال لابن الزبير وهو عنده: إني لأعلم قوماً لو أن لهم رجلاً له فقه وعلم بما يأتي ويذر لاستخرج لك منهم جنداً تقاتل بهم أهل الشام. قال: من هم؟ قال: شيعة علي بالكوفة. قال: فكن أنت ذلك الرجل. فبعثه إلى الكوفة، فنزل ناحية منها يبكي على الحسين ويذكر مصابه حتى لقوه وأحبوه فنقلوه إلى وسط الكوفة وأتاه منهم بشر كثير، فلما قوي أمره سار إلى ابن مطيع.
ذكر عدة حوادث
حج بالناس هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان عامله على المدينة فيها أخوه عبيدة بن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى البصرة عمر بن عبيد الله بن عمر التيمي، وعلى خراسان عبد الله بن خازم.
وفيها مات شداد بن أوس بن ثابت، وهو ابن أخي حسان بن ثابت. وفيها توفي المسور بن مخرمة بمكة في اليوم الذي ورد فيه خبر موت يزيد بن معاوية، وكان سبب موته أن أصابته فلقة حجر منجنيق في جانب وجهه فمرض أياماً ومات. وفيها توفي أبو برزة الأشهلي بخراسان. وفيها توفي الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في قول. وفي أيام يزيد مات أبو ثعلبة الخشني، وقيل: مات سنة خمس وسبعين، له صحبة. وفي أيامه أيضاً مات عائذ بن عمرو المزني بالبصرة، وشهد بيعة الرضوان. وفي أيام ابن زياد بالكوفة مات قيس بن خرشة، وهو صحابي، وخبر موته عجيب مع ابن زياد لأنه كان قوالاً بالحق. وفي أيامه مات نوفل بن معاوية بن عمرو الدئلي. وفي أيامه مات أبو خيثمة الأنصاري، شهد أحداً، وذكره في تبوك مشهور. وفي أيامه مات عتبان بن مالك، وهو بدريٌّ. وفي هذه السنة توفي شقيق بن ثور السدوسي.
ثم دخلت سنة خمس وستين
ذكر مسير التوابين وقتلهملما أراد سليمان بن صرد الخزاعي الشخوص سنة خمس وستين بعث إلى رؤوس أصحابه فأتوه، فلما أهل ربيع الآخر خرج في وجوه أصحابه، وكانوا تواعدوا للخروج تلك الليلة، فلما أتى النخيلة دار في الناس فلم يعجبه عددهم، فأرسل حكيم بن منقذ الكندي والوليد بن عصير الكناني، فناديا في الكوفة: يا لثارات الحسين! فكانا أول خلق الله دعوا: يا لثارات الحسين.
فأصبح من الغد وقد أتاه نحو مما في عسكره، ثم نظر في ديوانه فوجدهم ستة عشر ألفاً ممن بايعه، فقال: سبحان الله! ما وافانا من ستة عشر ألفاً إلا أربعة آلاف. فقيل له: إن المختار يثبط الناس عنك، إنه قد تبعه ألفان. فقال: قد بقي عشرة آلاف، أما هؤلاء بمؤمنين؟ أما يذكرون الله والعهود والمواثيق؟ فأقام بالنخيلة ثلاثاً يبعث إلى من تخلف عنه، فخرج إليه نحو من ألف رجل. فقام إليه المسيب بن نجبة فقال: رحمك الله! إنه لا ينفعك الكاره ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية، فلا تنتظر أحداً وجد في أمرك. قال: نعم ما رأيت.
ثم قام سليمان في أصحابه فقال: أيها الناس من كان خرج يريد بخروجه وجه الله والآخرة فذلك منا ونحن منه فرحمة الله عليه حياً وميتاً، ومن كان إنما يريد الدنيا فوالله ما نأتي فيئاً نأخذه وغنيمة نغنمها ما خلا رضوان الله، وما معنا من ذهب ولا فضة ولا متاع، وما هو إلا سيوفنا على عواتقنا، وزادٌ قدر البلغة، فمن كان ينوي غير هذا فلا يصحبنا. فتنادى أصحاب من كل جانب: إنا لا نطلب الدنيا وليس لها خرجنا إنما خرجنا نطلب التوبة والطلب بدم ابن بنت رسول الله نبينا صلى الله عليه وسلم.
فلما عزم سليمان على المسير قال له عبد الله بن سعد بن نفيل: إني قد رأيت رأياً إن يكن صواباً فالله الموفق، وإن يكن ليس صواباً فمن قبلي؛ إنا خرجنا نطلب بدم الحسين، وقتلته كلهم بالكوفة، منهم عمر بن سعد ورؤوس الأرباع والقبائل، فأين نذهب ها هنا وندع الأوتار؟ فقال أصحابه كلهم: هذا هو الرأي.
فقال سليمان: لكن أنا لا أرى ذلك، إن الذي قتله وعبأ الجنود إليه وقال لا أمان له عندي دون أن يستسلم فأمضي فيه حكمي، هذا الفاسق ابن الفاسق عبيد الله بن زياد، فسيروا إليه على بركة الله فإن يظهركم الله عليه رجونا أن يكون من بعده أهون علينا منه، ورجونا أن يدين لكم أهل مصركم في عافية فينظرون إلى كل من شرك في دم الحسين فيقتلونه ولا يفشوا، وإن تستشهدوا فإنما قاتلتم المحلين، وما عند الله خير للأبرار، إني لا أحب أن تجعلوا جدكم بغير المحلين، ولو قاتلتم أهل مصركم ما عدم رجل أن يرى رجلاً قد قتل أخاه وأباه وحميمه ورجلاً يريد قتله، فاستخيروا الله وسيروا.
وبلغ عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة خروج ابن صرد، فأتياه في أشراف أهل الكوفة ولم يصحبهم من شرك في دم الحسين خوفاً منه، وكان عمر بن سعد تلك الأيام يبيت في قصر الإمارة خوفاً منهم. فلما أتياه قال عبد الله بن يزيد: إن المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يغشه، وأنتم إخواننا وأهل بلدنا وأحب أهل مصر خلقه الله إلينا، فلا تفجعونا بأنفسكم ولا تنقصوا عددنا بخروجكم من جماعتنا، أقيموا معنا حتى نتهيأ، فإذا سار عدونا إلينا خرجنا إليه بجماعتنا فقاتلناه.
وجعل لسليمان وأصحابه خراج جوخي إن أقاموا. وقال إبراهيم بن محمد مثله؛ فقال سليمان لهما: قد محضتما النصيحة واجتهدتما في المشورة، فنحن بالله وله، ونسأل الله العزيمة على الرشد ولا نرانا إلا سائرين. فقال عبد الله: فأقيموا حتى نعبي معكم جريداً كثيفاً فتلقوا عدوكم بجمع كثيف. وكان قد بلغهم إقبال عبيد بن زياد من الشام في جنود. فلم يقم سليمان، فسار عشية الجمعة لخمس مضين من ربيع الآخر سنة خمس وستين، فوصل دار الأهواز وقد تخلف عنه ناس كثير، فقال: ما أحب أن تتخلفوا ولو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً، إن الله كره انبعاثكم فثبطهم واختصكم بفضل ذلك.
ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين، فلما وصلوا صاحوا صيحةً واحدة، فما رئي أكثر باكياً من ذلك اليوم، فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه وترك القتال معه وأقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرعون ويترحمون عليه وعلى أصحابه، وكان من قولهم عند ضريحه: اللهم ارحم حسيناً الشهيد ابن الشهيد، المهدي ابن المهدي، الصديق ابن الصديق، اللهم إنا نشهدك أنا على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم وأولياء محبيهم، اللهم إنا خذلنا ابن بنت نبينا، صلى الله عليه وسلم، فاغفر لنا ما مضى منا وتب علينا وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصديقين، وإنا نشهدك أنا على دينهم وعلى ما قتلوا عليه، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين! وزادهم النظر إليه حنقاً.
ثم ساروا بعد أن كان الرجل يعود إلى ضريحه كالمودع له، فازدحم الناس عليه أكثر من ازدحامهم على الحجر الأسود، ثم أخذوا على الأنبار، وكتب إليهم عبد الله بن يزيد كتاباً، منه: يا قومنا لا تطيعوا عدوكم، أنتم في أهل بلادكم خيار كلكم، ومتى يصبكم عدوكم يعلموا أنكم أعلام مصركم فيطمعهم ذلك فيمن وراءكم، يا قومنا (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذاً ابداً) الكهف: 20، يا قوم إن أيدينا وأيدكم واحدة وعدونا وعدوكم واحد ومتى تجتمع كلمتنا على عدونا نظهر على عدونا ومتى تختلف تهن شوكتنا على من خالفنا، يا قومنا لا تستغشوا نصحي ولا تخالفوا أمري وأقبلوا حين يقرأ كتابي عليكم. والسلام.
فقال سليمان وأصحابه: قد أتانا هذا ونحن في مصرنا، فحين وطأنا أنفسنا على الجهاد ودنونا من أرض عدونا، ما هذا برأي. فكتب إليه سليمان يشكره ويثني عليه ويقول: إن القوم قد استبشروا ببيعهم أنفسهم من ربهم، وإنهم قد تابوا من عظيم ذنبهم وتوجهوا إلى الله وتوكلوا عليه ورضوا بما قضى الله عليهم.
فلما جاء الكتاب إلى عبد الله قال: استمات القوم، أول خبر يأتيكم عنهم قتلهم، والله ليقتلن كراماً مسلمين.
ثم ساروا حتى انتهوا إلى قرقيسيا على تعبية، وبها زفر بن الحارث الكلابي قد تحصن بها منهم ولم يخرج إليهم، فأرسل إليه المسيب بن نجبة يطلب إليه أن يخرج إليه سوقاً، فأتى المسيب إلى باب قرقيسيا فعرفهم نفسه وطلب الإذن على زفر، فأتى هذيل بن زفر أباه فقال: هذا رجل حسن الهيئة اسمه المسيب بن نجبة يستأذن عليك. فقال أبوه: أما تدري يا بني من هذا؟ هذا فارس مضر الحمراء كلها، إذا عد من أشرافها عشرة كان أحدهم هو، وهو بعد رجل ناسك له دين، إيذن له. فأذن له، فلما دخل عليه أجلسه إلى جانبه وسأله، فعرفه المسيب حاله وما عزموا عليه، فقال زفر: إنا لم نغلق أبواب المدينة إلا لنعلم إيانا تريدون أم غيرنا، وما بنا عجز عن الناس وما نحب قتالكم، وقد بلغنا عنكم صلاح وسيرة جميلة.
ثم أمر ابنه فأخرج لهم سوقاً، وأمر للمسيب بألف درهم وفرس، فرد المال وأخذ الفرس وقال: لعلي أحتاج إليه إن عرج فرسي. وبعث زفر إليهم بخبز كثير وعلف ودقيق حتى استغنى الناس عن السوق، إلا إن كان الرجل يشتري سوطاً أو ثوباً.
ثم ارتحلوا من الغد، وخرج إليهم زفر يشيعهم وقال لسليمان: إنه قد سار خمسة أمراء من الرقة هم الحصين بن نمير وشرحبيل بن ذي الكلاع وأدهم بن محرز وجبلة بن عبد الله الخثعمي وعبيد الله بن زياد في عدد كثير مثل الشوك والشجر، فإن شئتم دخلتم مدينتنا وكانت أيدينا واحدة، فإذا جاءنا هذا العدو قاتلناهم جميعاً. فقال سليمان: قد طلب أهل مصرنا ذلك منا فأبينا عليهم.
قال زفر: فبادروهم إلى عين الوردة وهي رأس عين فاجعلوا المدينة في ظهوركم ويكون الرستاق والماء والمادة في أيديكم وما بيننا وبينكم فأنتم آمنون منه، فاطووا المنازل، فوالله ما رأيت جماعةً قط أكرم منكم، فإني أرجو أن تسبقوهم، وإن قاتلتموهم فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم وتطاعنونهم فإنهم أكثر منكم، ولا آمن أن يحيطوا بكم، فلا تقفوا لهم فيصرعوكم، ولا تصفوا لهم، فإني لا أرى معكم رجالة ومعهم الرجالة والفرسان بعضهم يحمي بعضاً، ولكن القوهم في الكتائب والمقانب ثم بثوها فيما بين ميمنتهم وميسرتهم واجعلوا مع كل كتيبة أخرى إلى جانبها، فإن حمل على إحدى الكتيبتين رحلت الأخرى فنفست عنها، ومتى شاءت كتيبة ارتفعت، ومتى شاءت كتيبة انحطت، ولو كنتم صفاً واحداً فزحفت إليكم الرجالة فدفعتم عن الصف انتقض فكانت الهزيمة. ثم ودعهم ودعا لهم ودعوا له وأثنوا عليه.
ثم ساروا مجدين فانتهوا إلى عين الوردة فنزلوا غربيها وأقاموا خمساً فاستراحوا وأراحوا.
وأقبل أهل الشام في عساكرهم حتى كانوا من عين الوردة على مسيرة يوم وليلة، فقام سليمان في أصحابه وذكر الآخرة ورغب فيها ثم قال: أما بعد فقد أتاكم عدوكم الذي دأبتم إليه في السير آناء الليل والنهار، فإذا لقيتموهم فاصدقوهم القتال واصبروا إن الله مع الصابرين، ولا يولينهم امرءٌ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة، ولا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيراً من أهل دعوتكم إلا أن يقاتلكم بعد أن تأسروه، فإن هذه كانت سيرة علي في أهل هذه الدعوة.
ثم قال: إن أنا قتلت فأمير الناس مسيب بن نجبة، فإن قتل فالأمير عبد الله بن سعد بن نفيل، فإنقتل فالأمير عبد الله بن وال، فإن قتل فالأمير رفاعة بن شداد، رحم الله امرأً صدق ما عاهد الله عليه.
ثم بعث المسيب في أربعمائة فارس ثم قال: سر حتى تلقى أول عساكرهم فشن عليهم الغارة، فإن رأيت ما تحبه وإلا رجعت، وإياك أن تترك واحداً من أصحابك أو يستقبل آخر ذلك، حتى لا تجد منه بداً. فسار يومه وليلته ثم نزل السحر. فلما أصبحوا أرسل أصحابه في الجهات ليأتوه بمن يلقون، فأتوه بأعرابي، فسأله عن أدنى العساكر منه، فقال: أدنى عسكر من عساكرهم منك عسكر شرحبيل بن ذي الكلاع، وهو منك على رأس ميل، وقد اختلف هو والحصين، ادعى الحصين أنه على الجماعة وأبى شرحبيل ذلك، وهما ينتظران أمر ابن زياد.
فسار المسيب ومن معه مسرعين فأشرفوا عليهم وهم غارون، فحملوا في جانب عسكرهم، فانهزم العسكر وأصاب المسيب منهم رجالاً، فأكثروا فيهم الجراح وأخذوا الدواب، وخلى الشاميون عسكرهم وانهزموا، فغنم منه أصحاب المسيب ما أرادوا ثم انصرفوا إلى سليمان موفورين.
وبلغ الخبر ابن زياد فسرح الحصين بن نمير مسرعاً حتى نزل في اثني عشرة ألفاً، فخرج أصحاب سليمان إليه لأربع بقين من جمادى الأولى، وعلى ميمنتهم عبد الله بن سعد، وعلى ميسرتهم المسيب بن نجبة، وسليمان في القلب، وجعل الحصين على ميمنته جبلة بن عبد الله، وعلى ميسرته ربيعة بن المخارق الغنوي، فلما دنا بعضهم من بعض دعاهم أهل الشام إلى الجماعة على عبد الملك بن مروان، ودعاهم أصحاب سليمان إلى خلع عبد الملك وتسليم عبيد الله بن زياد إليهم وأنهم يخرجون من بالعراق من أصحاب ابن الزبير ثم يرد الأمر إلى أهل بيت النبي، صلى الله عليه وسلم، فأبى كل منهم، فحملت ميمنة سليمان على ميسرة الحصين، والميسرة أيضاً على الميمنة، وحمل سليمان في القلب على جماعتهم، فانهزم أهل الشام إلى عسكرهم، وما زال الظفر لأصحاب سليمان إلى أن حجز بينهم الليل.
فلما كان الغد صبح الحصين جيش مع ابن ذي الكلاع ثمانية آلاف، أمدهم بهم عبيد الله بن زياد، وخرج أصحاب سليمان فقاتلوهم قتالاً لم يكن أشد منه جميع النهار لم يحجز بينهم إلا الصلاة، فلما أمسوا تحاجزوا وقد كثرت الجراح في الفريقين، وطاف القصاص على أصحاب سليمان يحرضونهم.
فلما أصبح أهل الشام أتاهم أدهم بن محرز الباهلي في نحو من عشرة آلاف من ابن زياد، فاقتتلوا يوم الجمعة قتالاً شديداً إلى ارتفاع الضحى، ثم إن أهل الشام كثروهم وتعطفوا عليهم من كل جانب، ورأى سليمان ما لقي أصحابه، فنزل ونادى: عباد الله من أراد البكور إلى ربه والتوبة من ذنبه فإلي! ثم كسر جفنة سيفه ونزل معه ناس كثير وكسروا جفون سيوفهم ومشوا معه، فقاتلوهم، فقتل من أهل الشام مقتلة عظيمة وجرحوا فيهم فأكثروا الجراح. فلما رأى الحصين صبرهم وبأسهم بعث الرجالة ترميهم بالنبل واكتنفتهم الخيل والرجال، فقتل سليمان، رحمه الله، رماه يزيد بن الحصين بسهم فوقع ثم وثب ثم وقع.
فلما قتل سليمان أخذ الراية المسيب بن نجبة وترحم على سليمان ثم تقدم فقاتل بها ساعةً ثم رجع ثم حمل، فعل ذلك مراراً، ثم قتل، رحمه الله، بعد أن قتل رجالاً.
فلما قتل أخذ الراية عبد الله بن سعد بن نفيل وترحم عليهما، ثم قرأ: (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) الأحزاب: 23. وحف به من كان معه من الأزد. فبينما هم في القتال أتاهم فرسانٌ ثلاثة من سعد بن حذيفة يخبرون بمسيرهم في سبعين ومائة من أهل المدائن ويخبرون أيضاً بمسير أهل البصرة مع المثنى بن مخربة العبدي في ثلاثمائة، فسر الناس فقال عبد الله بن سعد: ذلك لو جاؤونا ونحن أحياء.
فلما نظر الرسل إلى مصارع إخوانهم ساءهم ذلك واسترجعوا وقاتلوا معهم، وقتل عبد الله بن سعد بن نفيل، قتله ابن أخي ربيعة بن مخارق، وحمل خالد بن سعد بن نفيل على قاتل أخيه فطعنه بالسيف، واعتنقه الآخر فحمل أصحابه عليه فخلصوه بكثرتهم وقتلوا خالداً، وبقيت الراية ليس عندها أحد، فنادوا عبد الله بن والٍ فإذا هو قد اصطلى الحرب في عصابة معه، فحمل رفاعة بن شداد فكشف أهل الشام عنه، فأتى فأخذ الراية وقاتل ملياً ثم قال لأصحابه: من أراد الحياة التي ليس بعدها موت والراحة التي ليس بعدها نصب، والسرور الذي ليس بعده حزن، فليتقرب إلى الله بقتال هؤلاء المحلين، والرواح إلى الجنة، وذلك عند العصر، فحمل هو وأصحابه فقتلوا رجالاً وكشفوهم.
ثم إن أهل الشام تعطفوا عليهم من كل جانب حتى ردوهم إلى المكان الذي كانوا فيه، وكان مكانهم لا يؤتى إلا من وجه واحد، فلما كان المساء تولى قتالهم أدهم بن محرز الباهلي فحمل عليهم في خيله ورجله، فوصل ابن محرز إلى ابن والٍ وهو يتلو: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً) آل عمران: 169 الآية؛ فغاظ ذلك أدهم بن محرز فحمل عليه فضرب يده فأبانها ثم تنحى عنه وقال: إني أظنك وددت أنك عند أهلك. قال ابن وال: بئس ما ظننت، والله ما أحب أن يدك مكانها إلا أن يكون لي من الأجر مثل ما في يدي ليعظم وزرك ويعظم أجري. فغاظه ذلك أيضاً، فحمل عليه وطعنه فقتله وهو مقبل ما يزول. وكان ابن وال من الفقهاء العباد.
فلما قتل أتوا رفاعة بن شداد البجلي وقالوا: لتأخذ الراية. فقال: ارجعوا بنا لعل الله يجمعنا ليوم شرهم. فقال له عبد الله بن عوف بن الأحمر: هلكنا والله، لئن انصرفت ليركبن أكتافنا فلا نبلغ فرسخاً حتى نهلك عن آخرنا، وإن نجا منا ناجٍ أخذته العرب يتقربون به إليهم فقتل صبراً، هذه الشمس قد قاربت الغروب فنقاتلهم على خيلنا، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أول الليل وسرنا حتى نصبح ونسير على مهل ويحمل الرجل صاحبه وجريحه ونعرف الوجه الذي نأخذه. فقال رفاعة: نعم ما رأيت! وأخذ الراية وقاتلهم قتالاً شديداً، ورام أهل الشام أهلاكهم قبل الليل فلم يصلوا إلى ذلك لشدة قتالهم، وتقدم عبد الله بن عزيز الكناني فقاتل أهل الشام ومعه ولده محمد وهو صغير، فنادى بني كنانة من أهل الشام وسلم ولده إليهم ليوصلوه إلى الكوفة، فعرضوا عليه الأمان، فأبى ثم قاتلهم حتى قتل.
وتقدم كرب بن يزيد الحميري عند المساء في مائة من أصحابه فقاتلهم أشد قتال، فعرض عليه وعلى أصحابه ابن ذي الكلاع الحميري الأمان، قال: قد كنا آمنين في الدنيا وإنما خرجنا نطلب أمان الآخرة. فقاتلوهم حتى قتلوا. وتقدم صخر بن هلال المزني في ثلاثين من مزينة فقاتلوا حتى قتلوا.
فلما أمسوا رجع أهل الشام إلى معسكرهم، ونظر رفاعة إلى كل رجل قد عقر به فرسه وجرح فدفعه إلى قومه ثم سار ليلته، وأصبح الحصين ليلتقيهم فلم يرهم، فلم يبعث في آثارهم، وساروا حتى أتوا قرقيسيا، فعرض عليهم زفر الإقامة، فأقاموا ثلاثاً، فأضافهم ثم زودهم وساروا إلى الكوفة.
ثم أقبل سعد بن حذيفة بن اليمان في أهل المدائن فبلغ هيت، فأتاه الخبر، فرجع فلقي المثنى بن مخربة العبدي في أهل البصرة بصندوداء فأخبره، فأقاموا حتى أتاهم رفاعة فاستقبلوه، وبكى بعضهم إلى بعض وأقاموا يوماً وليلة ثم تفرقوا، فسار كل طائفة إلى بلدهم.
ولما بلغ رفاعة الكوفة كان المختار محبوساً، فأرسل إليه: أما بعد فمرحباً بالعصبة الذين عظم الله لهم الأجر حين انصرفوا ورضي فعله حين قتلوا، أما ورب البيت ما خطا خاطٍ منكم خطوةً ولا ربا ربوة إلا كان ثواب الله له أعظم من الدنيا! إن سليمان قد قضى ما عليه وتوفاه الله وجعل وجهه مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون، إني أنا الأمير المأمور، والأمين المأمون، وقاتل الجبارين، والمنتقم من أعداء الدين، المقيد من الأوتار، فأعدوا واستعدوا وأبشروا، أدعوكم إلى كتاب الله، وسنة نبيه، والطلب بدم أهل البيت، والدفع عن الضعفاء، وجهال المحلين، والسلام.
وكان قتل سليمان ومن معه في شهر ربيع الآخر.
ولما سمع عبد الملك بن مروان بقتل سليمان وانهزام أصحابه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فإن الله قد أهلك من رؤوس أهل العراق ملقح فتنةٍ ورأس ضلالةٍ سليمان بن صرد، ألا وإن السيوف تركن رأس المسيب خذاريف، وقد قتل الله منهم رأسين عظيمين ضالين مضلين: عبد الله بن سعد الأزدي، وعبد الله بن والٍ البكري، ولم يبق بعدهم من عنده امتناع وفي هذا نظر فإن أباه كان حياً قال أعشى همدان في ذلك، وهي مما يكتم ذلك الزمان:
ألم خيالٌ منك يا أم غالب ... فحييت عنا من حبيب مجانب
وما زلت في شجوٍ وما زلت مقصداً ... لهم غير أني من فراقك ناصب
فما أنس لا أنس انفتالك في الضحى ... إلينا مع البيض الحسان الخراعب
تراءت لنا هيفاء مهضومة الحشا ... لطيفة طي الكشح ريا الحقائب
مشيكة غزار ودسى بهائها ... كشمس الضحى تنكل بين السحائب
فلما تغشاها السحاب وحوله ... بدا حاجبٌ منها وضنت بجانب
فتلك الهوى وهي الجوى لي والمنى ... فأحبب بها من خلةٍ لم تصاقب
ولا يبعد الله الشباب وذكره ... وحب تصافي المعصرات الكواعب
ويزداد ما أحببته من عتابنا ... لعاباً وسقياً للخدين المقارب
فإني وإن لم أنسهن لذاكرٌ ... رؤية مخبأة كريم المناصب
توسل بالتقوى إلى الله صادقاً ... وتقوى الإله خير تكساب كاسب
وخلى عن الدنيا فلم يلتبس بها ... وتاب إلى الله الرفيع المراتب
تخلى عن الدنيا وقال اطرحتها ... فلست إليها ما حييت بآيب
وما أنا فيما يكره الناس فقده ... ويسعى له الساعون فيها براغب
فوجهه نحو الثوية سائراً ... إلى ابن زيادٍ في الجموع الكتائب
بقومٍ هم أهل التقية والنهى ... مصاليت أنجادٌ سراة مناجب
مضوا تاركي رأي ابن طلحة حسبةً ... ولم يستجيبوا للأمير المخاطب
فساروا وهم ما بين ملتمس التقى ... وآخر مما جر بالأمس تائب
فلاقوا بعين الوردة الجيش ناضلا ... إليهم فحسوهم ببيضٍ قواضب
يمانيةٍ تذري الأكف وتارةً ... بخيلٍ عتاقٍ مقرباتٍ سلاهب
فجاءهم جمعٌ من الشام بعده ... جموعٌ كموج البحر من كل جانب
فما برحوا حتى أبيدت سراتهم ... فلم ينج منهم ثم غير عصائب
وغودر أهل الصبر صرعى فأصبحوا ... تعاورهم ريح الصبا والجنائب
فأضحى الخزاعي الرئيس مجدلاً ... كأن لم يقاتل مرةً ويحارب
ورأس بني شمخٍ وفارس قومه ... شنوءة والتيمي هادي الكتائب
وعمرو بن بشرٍ والوليد وخالدٌ ... وزيد بن بكرٍ والحليس بن غالب
وضارب من همدان كل مشيع ... إذا شد لم ينكل كريم المكاسب
ومن كل قومٍ قد أصبت زعيمهم ... وذو حسبٍ في ذروة المجد ثاقب
أبوا غير ضربٍ يفلق الهام وقعه ... وطعنٍ بأطراف الأسنة صائب
وإن سعيداً يوم يدمر عامراً ... لأشجع من ليثٍ بدربٍ مواثب
فيا خير جيشٍ بالعراق وأهله ... سقيتم روايا كل أسحم ساكب
فلا يبعدن فرساننا وحماتنا ... إذا البيض أبدت عن خدام الكواعب
وما قتلوا حتى أثاروا عصابةً ... محلين نوراً كالشموس الضوارب
وقيل: قتل سليمان ومن معه في شهر ربيع الآخر.
الخزاعي الذي هو في هذا الشعر هو سليمان بن صرد الخزاعي. ورأس بني شمخ هو المسيب بن نجبة الفزاري. ورأس شنوءة هو عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي أزد شنوءة. والتيمي هو عبد الله ابن والٍ التيمي من تيم اللات بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. والوليد هو ابن عصير الكناني. وخالد هو خالد بن سعد بن نفيل أخو عبد الله.
نجبة بالنون، والجيم، والباء الموحدة المفتوحات.
ذكر بيعة عبد الملك وعبد العزيز
ابني مروان بولاية العهدفي هذه السنة أمر مروان بن الحكم بالبيعة لابنيه عبد الملك وعبد العزيز.
وكان السبب في ذلك أن عمرو بن سعيد بن العاص لما هزم مصعب بن الزبير حين وجهه أخوه عبد الله إلى فلسطين رجع إلى مروان وهو بدمشق قد غلب على الشام ومصر، فبلغ مروان أن عمراً يقول: إن الأمر لي بعد مروان، فدعا مروان حسان بن مالك بن بحدل فأخبره أنه يريد أن يبايع لابنيه عبد الملك وعبد العزيز وأخبره بما بلغه عن عمرو، فقال: أنا أكفيك عمراً، فلما اجتمع الناس عند مروان عشياً قام حسان فقال: إنه قد بلغنا أن رجالاً يتمنون أماني، قوموا فبايعوالعبد الملك وعبد العزيز من بعده، فبايعوا عن آخرهم.
ذكر بعث ابن زياد وحبيشفي هذه السنة سير مروان بن الحكم بعثين: أحدهما مع عبيد الله بن زياد إلى الجزيرة ومحاربة زفر بن الحارث بقرقيسيا واستعمله على كل ما يفتحه، فإذا فرغ من الجزيرة توجه لقصد العراق وأخذه من ابن الزبير، فلما كان بالجزيرة بلغه موت مروان وأتاه كتاب عبد الملك بن مروان يستعمله على ما استعمله عليه أبوه ويحثه على المسير إلى العراق.
والبعث الآخر إلى المدينة مع حبيش بن دلجة القيني، فسار بهم حتى انتهى إلى المدينة وعليها جابر بن الأسود بن عوف ابن أخي عبد الرحمن بن عوف من قبل ابن الزبير، فهرب منه جابر.
ثم إن الحارث بن أبي ربيعة، وهو أخو عمرو بن أبي ربيعة، وجه جيشاً من البصرة، وكان والياً عليها، لابن الزبير وجعل عليهم الحنيف بن السجف التيمي لحرب حبيش، فلما سمع بهم حبيش سار إليهم من المدينة، وأرسل عبد الله بن الزبير العباس بن سهل بن سعد الساعدي إلى المدينة أميراً وأمره أن يسير في طلب حبيش حتى يوافي الجند من أهل البصرة الذين عليهم الحنيف، فأقبل عباس في آثارهم حتى لحقهم بالربذة، فقاتلهم حبيش، فرماه يزيد بن سنان بسهم فقتله، وكان معه يومئذٍ يوسف بن الحكم وابنه الحجاج، وهما على جمل واحد، وانهزم أصحابه، فتحرز منهم خمسمائة بالمدينة، فقال العباس بن سهل: انزلوا على حكمي، فنزلوا، فقتلهم، ورجع فل حبيش إلى الشام، ولما دخل يزيد بن سنان المدينة كان عليه ثياب بيض فاسودت مما مسحه الناس ومما صبوا عليه من الطيب.
ذكر موت مروان بن الحكم
وولاية ابنه عبد الملكفي شهر رمضان من هذه السنة مات مروان بن الحكم.
وكان سبب موته أن معاوية بن يزيد لما حضرته الوفاة لم يستخلف أحداً، وكان حسان بن بحدل يريد أن يجعل الأمر من بعده في أخيه خالد بن يزيد، وكان صغيراً، وحسان خال أبيه يزيد، فبايع حسان مروان بن الحكم وهو يريد أن يجعل الأمر بعده لخالد، فلما بايعه هو وأهل الشام قيل لمروان تزوج أم خالد، وهي بنت أبي هاشم بن عتبة، حتى يصغر شأنه فلا يطلب الخلافة، فتزوجها، فدخل خالد يوماً على مروان وعنده جماعة وهو يمشي بين صفين، فقال مروان: والله إنك لأحمق! تعال يا ابن الرطبة الاست! يقصر به ليسقطه من أعين أهل الشام.
فرجع خالد إلى أمه فأخبرها، فقالت له: لا يعلمن ذلك منك إلا أنا، أنا أكفيكه. فدخل عليها مروان فقال لها: هل قال لك خالد في شيئاً؟ قالت: لا، إنه أشد لك تعظيماً من أن يقول فيك شيئاً. فصدقها ومكث أياماً، ثم إن مروان نام عندها يوماً، فغطته بوسادة حتى قتلته، فمات بدمشق وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقيل: إحدى وستين. وأراد عبد الملك قتل أم خالد، فقيل له: يظهر عند الخلق أن امرأة قتلت أباك، فتركها.
ولما توفي مروان قام بأمر الشام بعده ابنه عبد الملك، وكان بمصر ابنه عبد العزيز بطاعة أخيه عبد الملك.
وكان عبد الملك ولد لسبعة أشهر، فكان الناس يذمونه لذلك، قيل: إنه اجتمع عنده قوم من الأشراف، فقال لعبيد الله بن زياد بن ظبيان البكري: بلغني أنك لا تشبه أباك، فقال: بلى والله إني لأشبه به من الماء بالماء والغرب بالغراب، ولكن إن شئت أخبرتك بمن لم تنضجه الأرحام، ولم يولد بالتمام، ولم يشبه الأخوال والأعمام. قال: من ذلك؟ قال: سويد بن منجوف، فلما خرج عبيد الله وسويد قال له سويد: ما سرني بمقالتك له حمر النعم. فقال عبيد الله: وما سرني والله باحتمالك إياي وسكوتك سودها.
ذكر صفته ونسبه وأخبارههو مروان بن الحكم بن أبي لحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وأمه آمنة بنت علقمة بن صفوان بن أمية من كنانة، وكان مولده سنة اثنتين من الهجرة، وكان أبوه قد أسلم عام الفتح، ونفاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الطائف لأنه يتجسس عليه، ورآه النبي، صلى الله عليه وسلم، يوماً يمشي ويتخلج في مشيه كأنه يحكيه، فقال له: كن كذلك، فما زال كذلك حتى مات.
ولما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كلم عثمان أبا بكر في رده، لأنه عمه، فلم يفعل، فلما توفي أبو بكر وولي عمر كلمه أيضاً في رده فلم يفعل، فلما ولي عثمان رده وقال: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعدني أن يرده إلى المدينة، فكان ذلك مما أنكر الناس عليه.
وتوفي في خلافة عثمان فصلى عليه، وقد رويت أخبار كثيرة في لعنه ولعن من في صلبه، رواها الحافظ، في أسانيدها كلام.
وكان مروان قصيراً أحمر أوقص، يكنى أبا الحكم، وأبا عبد الملك، وأعتق في يوم واحد مائة رقبة، وولي المدينة لمعاوية مرات، فكان إذا ولي يبالغ في سب علي، وإذا عزل وولي سعيد بن العاص كف عنه، فسئل عنه محمد بن علي الباقر وعن سعيد، فقال: كان مروان خيراً لنا في السر، وسعيد خيراً لنا في العلانية.
وقد أخرج حديث مروان في الصحيح، وكان الحسن والحسين يصليان خلفه ولا يعيدان الصلاة. وهو أول من قدم الخطبة في صلاة العيد وقبل الصلاة.
ولما مات بويع لولده عبد الملك بن مروان في اليوم الذي مات فيه، وكان يقول له ولولده بنو الزرقاء، يقول ذلك من يريد ذمهم وعيبهم، وهي الزرقاء بنت موهب جدة مروان بن الحكم لأبيه، وكانت من ذوات الرايات التي يستدل بها على بيوت البغاء، فلهذا كانوا يذمون بها، ولعل هذا كان منها قبل أن يتزوجها أبو العاص بن أمية والد الحكم، فإنه كان من أشراف قريش، لا يكون هذا من امرأة وهي عنده، والله أعلم.
حبيش بن دلجة بضم الحاء المههملة، وفتح الباء الموحدة المفتوحة، ثم الياء المثناة من تحت، وآخره شين معجمة، ودلجة بفتح الدال واللام.
ذكر مقتل نافع بن الأزرقفي هذه السنة اشتد شوكة نافع بن الأزرق، وهو الذي ينتسب إليه الأزارقة من الخوارج.
وكان سبب قوته اشتغال أهل البصرة واختلافهم بسبب مسعود بن عمرو وقتله، وكثرت جموعه وأقبل نحو الجسر، فبعث إليه عبد الله بن الحارث مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة، فخرج إليه فرفعه عن أرض البصرة حتى بلغ دولاب من أرض الأهواز، فاقتتلوا هناك، وجعل مسلم بن عبيس على ميمنته الحجاج بن باب الحميري، وعلى ميسرته حارثة بن بدر الغداني، وجعل ابن الأزرق على ميمنته عبيدة بن هلال اليشكري، وعلى ميسرته الزبير بن الماحوز التميمي، واشتد قتالهم، فقتل مسلم أمير أهل البصرة، وقتل نافع بن الأزرق أمير الخوارج في جمادى الآخرة، فأمر أهل البصرة عليهم الحجاج بن باب الحميري، وأمرت الخوارج عبد الله بن الماحوز التميمي، واقتتلوا، فقتل عبد الله والحجاج فأمر أهل البصر عليهم ربيعة بن الأجرم التميمي، وأمرت الخوارج عبيد الله بن الماحوز التميمي، ثم عادوا فاقتتلوا حتى أمسوا وقد كره بعضهم بعضاً وملوا القتال.
فإنهم كذلك متواقفون متاجزون إذ جاءت الخوارج سريةٌ مستريحةٌ لم تشهد القتال، فحملت على الناس من ناحية عبد القيس، فانهزم الناس وقتل أمير أهل البصرة ربيعة بعد أن قتل أيضاً دغفل بن حنظلة الشيباني النسابة، وأخذ الراية حارثة بن يزيد، فقاتل ساعةً، وقد ذهب الناس عنه، فقاتل وحمى الناس ومعه جماعةٌ من أهل البصرة، ثم أقبل حتى نزل بالأهواز، وبلغ ذلك أهل البصرة فأفزعهم، وبعث عبد الله بن الزبير الحارث بن أبي ربيعة وعزل عبد الله بن الحارث، فأقبلت الخوارج نحو البصرة.
ذكر محاربة المهلب الخوارجلما قربت الخوارج من البصرة أتى أهلها الأحنف بن قيس وسألوه أن يتولى حربهم، فأشار بالمهلب بن أبي صفرة لما يعلم فيه من الشجاعة والرأي والمعرفة بالحرب، وكان قد قدم من عند ابن الزبير وقد ولاه خراسان، فقال الأحنف: ما لهذا الأمر غير المهلب.
فخرج إليه أشراف أهل البصرة فكلموه، فأبى، فكلمه الحارث بن أبي ربيعة، فاعتذر بعهده على خراسان، فوضع الحارث وأهل البصرة كتاباً إليه عن ابن الزبير يأمره بقتال الخوارج وأتوه بالكتاب، فلما قرأه قال: والله لا أسير إليهم إلا أن تجعلوا لي ما غلبت عليه وتقطعوني من بيت المال ما أقوي به من معي.
فأجابوه إلى ذلك وكتبوا له به كتاباً، وأرسلوا إلى ابن الزبير فأمضاه، فاختار المهلب من أهل البصرة ممن يعرف نجدته وشجاعته اثني عشر ألفاً، منهم: محمد بن واسع وعبد الله بن رياح الأنصاري ومعاوية بن قرة المزني وأبو عمران الجوبي، وخرج المهلب إلى الخوارج وهم عند الجسر الأصغر، فحاربهم وهو في وجوه الناس وأشرافهم، فدفعهم عن الجسر، ولم يكن بقي إلا أن يدخلوا، فارتفعوا إلى الجسر الأكبر، فسار إليهم في الخيل والرجال. فلما رأوه قد قاربهم ارتفعوا فوق ذلك.
ولما بلغ حارثة بن بدر تأمير المهلب على قتال الأزارقة قال لمن معه من الناس:
كرنبوا ودولبوا ... حيث شئتم فاذهبوا
فأقبل بمن معه نحو البصرة فرد الحارث بن أبي ربيعة إلى المهلب، وركب حارثة في سفينة في نهر دجيل يريد البصرة، فأتاه رجل من تميم وعليه سلاحه والخوارج وراءه، فصاح التميمي بحارثة يستغيث به ليحمله معه، فقرب السفينة إلى شاطىء النهر، وهو جرف، فوثب التميمي إليها فغاصت بجميع من فيها فغرقوا.
وأما المهلب فإنه سار حتى نزل بالخوارج وهم بنهر تيرى وتنحوا عنه إلى الأهواز، وسير المهلب إلى عسكرهم الجواسيس تأتيه بأخبارهم، فلما أتاه خبرهم سار نحوهم واستخلف أخاه المعارك بن أبي صفرة على نهر تيرى، فلما وصل الأهواز قاتلت الخوارج مقدمته، وعليهم ابنه المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة، فجال أصحابه ثم عادوا.
فلما رأى الخوارج صبرهم ساروا عن سوق الأهواز إلى مناذر، فسار يريدهم، فلما قاربهم سير الخوارج جمعاً عليهم واقد مولى أبي صفرة إلى نهر تيرى وبها المعارك فقتلوه وصلبوه، وبلغ الخبر إلى المهلب فسير ابنه المغيرة إلى نهر تيرى، فأنزل عمه المعارك ودفنه وسكن الناس واستخلف بها جماعةً وعاد إلى أبيه وقد نزل سولاف.
وكان المهلب شديد الاحتياط والحذر لا ينزل إلا في خندق وهو على تعبية ويتولى الحرس بنفسه، فلما نازل الخوارج بسولاف ركبوا ووقفوا له واقتتلوا قتالاً شديداً صبر فيه الفريقان، ثم حملت الخوارج حملةً صادقةً على المهلب وأصحابه فانهزموا وقتل منهم، وثبت المهلب وأبلى ابنه المغيرة يومئذٍ بلاءً حسناً ظهر فيه أثره، ونادى المهلب أصحابه فعادوا إليه معهم جمع كثير نحو أربعة آلاف فارس، فلما كان الغد أراد القتال بمن معه فنهاه بعض أصحابه لضعفهم وكثرة الجراح فيهم، فترك القتال وسار وقطع دجيل ونزل بالعاقول لا يؤتى إلا من جهة واحدة، وفي يوم سولاف يقول ابن قيس الرقيات:
الا طرقت من آل مية طارقه ... على أنها معشوقة الدل عاشقه
تميس وأرض السوس بيني وبينها ... وسولاف رستاقٌ حمته الأزارقه
إذا نحن شتى صادفتنا عصابةٌ ... حروريةٌ أضحت من الدين مارقه
أجازت إلينا العسكرين كليهما ... فباتت لنا دون اللحاف معانقه
وقال فيه بعض الخوارج:
وكائن تركنا يوم سولاف منهم ... اسارى وقتلى في الجحيم مصيرها
وأكثر الشعراء فيه.
فلما وصل المهلب إلى العاقول نزل فيه وأقام ثلاثة أيام، ثم ارتحل وسار نحو الخوارج، وهم بسلى وسلبرى، فنزل قريباً منهم، وكان كثيراً ما يفعل أشياء يحدث بها الناس لينشطوا إلى القتال فلا يرون لها أثراً، حتى قال الشاعر:
أنت الفتى كل الفتى ... لو كنت تصدق ما تقول
وسماه بعضهم الكذاب، وبعض الناس يظن أنه كذاب في كل حال، وليس كذلك إنما كان يفعل ذلك مكايدة للعدو.
فلما نزل المهلب قريباً من الخوارج وخندق عليهم وضع المسالح وأذكى العيون والحرس والناس على راياتهم ومواقفهم وأبواب الخندق محفوظة، فكان الخوارج إذا أرادوا بياته وغرته وجدوا أمراً محكماً فرجعوا، فلم يقاتلهم إنسان كان أشد عليهم منه.
ثم إن الخوارج أرسلوا عبيدة بن هلال والزبير بن الماحوز في عسكر ليلاً إلى عسكر المهلب ليبيتوه، فصاحوا بالناس عن يمينهم ويسارهم فوجدوهم على تعبية قد حذروا فلم ينالوا منهم شيئاً، وأصبح المهلب فخرج إليهم في تعبية، وجعل الأزد وتميماً ميمنةً، وبكر بن وائل وعبد القيس ميسرةً، وأهل العالية في القلب، وخرجت الخوارج وعلى ميمنتهم عبيدة بن هلال اليشكري، وعلى ميسرتهم الزبير بن الماحوز، وكانوا أحسن عدة وأكرم خيلاً من أهل البصرة لأنهم مخروا الأرض وجردوها ما بين كرمان إلى الأهواز. فالتقى الناس واقتتلوا أشد قتال، وصبر الفريقان عامة النهار، ثم إن الخوارج شدت على الناس شدةً منكرةً، فأجفلوا وانهزموا لا يلوي أحد على أحدٍ، حتى بلغت الهزيمة البصرة، وخاف أهلها السباء.
وأسرع المهلب حتى سبق المنهزمين إلى مكان مرتفع، ثم نادى: إلي عباد الله! فاجتمع إليه ثلاثة آلاف أكثرهم من قومه من الأزد، فلما رآهم رضي عدتهم فخطبم وحثهم على القتال ووعدهم النصر وأمرهم أن يأخذ كل رجل منهم عشرة أحجار، وقال: سيروا بنا نحو عسكرهم فإنهم الآن آمنون وقد خرجت خيلهم في طلب إخوانكم، فوالله إني لأرجو أن لا يرجع إليهم خيلهم حتى تستبيحوا عسكرهم وتقتلوا أميرهم. فأجابوه، فأقبل بهم راجعاً، فما شعرت الخوارج إلا والمهلب يقاتلهم في جانب عسكرهم، فلقيهم عبد الله بن الماحوز والخوارج، فرماهم أصحاب المهلب بالأحجار حتى أثخنوهم ثم طعنوهم بالرماح وضربوهم بالسيوف، فاقتتلوا ساعة، فقتل عبد الله بن الماحوز وكثيرٌ من أصحابه، وغنم المهلب عسكرهم، وأقبل من كان في طلب أهل البصرة راجعاً، وقد وضع المهلب لهم خيلاً ورجالاً تختطفهم وتقتلهم، وانكفأوا راجعين مذلولين مغلوبين، فارتفعوا إلى كرمان وجانب أصبهان.
قال بعض الخوارج لما رأى قتال أصحاب المهلب بالحجارة:
أتانا بأحجارٍ ليقتلنا بها ... وهل تقتل الأقران ويحك بالحجر
ولما فرغ المهلب منهم أقام مكانه حتى قدم مصعب بن الزبير على البصرة أميراً، وعزل الحارث بن أبي ربيعة؛ وفي هذا اليوم يقول الصلتان العبدي:
بسلى وسلبرى مصارع فتيةٍ ... كرامٍ وقتلى لم توسد خدودها
فلما قتل عبد الله بن الماحوز استخلف الخوارج الزبير بن الماحوز.
وكتب المهلب إلى الحارث بن أبي ربيعة يعرفه ظفره، فأرسل الحارث الكتاب إلى ابن الزبير بمكة ليقرأه على الناس هناك، وكتب الحارث إلى المهلب: أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه نصر الله وظفر المسلمين، فهنيئاً لك يا أخا الأزد شرف الدنيا وعزها وثواب الآخرة وفضلها.
فلما قرأ المهلب كتابه ضحك وقال: أما يعرفني إلا بأخي الأزد! ما هو إلا أعرابي جافٍ.
وقيل: إن عثمان بن عبيد الله بن معمر قاتل الخوارج ونافع بن الأزرق قبل مسلم فقتل عثمان وانهزم أصحابه بعد أن قتل من الخوارج خلقٌ كثير، فسير إليهم من البصرة بعده حارثة بن بدر الغداني، فلما رآهم عرف أنه لا طاقة له بهم فقال لأصحابه:
كرنبوا ودولبوا ... كيف شئتم فاذهبوا
يعني ما شاء؛ ثم سار بعده مسلم بن عبيس.
وقيل: إن المهلب لما دفع الخوارج من البصرة إلى ناحية الأهواز أقام بقية سنته يجبي كور دجلة، ورزق أصحابه، وأتاه المدد من البصرة حتى بلغ أصحابه ثلاثين ألفاً.
فعلى هذا تكون هزيمة الخوارج سنة ست وستين.
ذكر نجدة بن عامر الحنفيهو نجدة بن عامر بن عبد الله بن ساد بن المفرج الحنفي، وكان مع نافع ابن الأزرق، ففارقه لإحداثه في مذهبه ما تقدم ذكره، وسار إلى اليمامة، ودعا أبا طالوت إلى نفسه، فمضى إلى الحضارم فنهبها، وكانت لبني حنيفة، فأخذها منهم معاوية بن أبي سفيان فجعل فيها من الرقيق ما عدتهم وعدة أبنائهم ونسائهم أربعة آلاف، فغنم ذلك وقسمه بين أصحابه، وذلك سنة خمس وستين، فكثر جمعه.
ثم إن عيراً خرجت من البحرين، وقيل من البصرة، تحمل مالاً وغيره يراد بها ابن الزبير، فاعترضها نجدة فأخذها وساقها حتى أتى بها أبا طالوت بالحضارم فقسمها بين أصحابه، وقال: اقتسموا هذا المال وردوا هؤلاء العبيد واجعلوهم يعملون الأرض لكم فإن ذلك أنفع. فاقتسموا المال وقالوا: نجدة خير لنا من أبي طالوت؛ فخلعوا أبا طالوت وبايعوا نجدة وبايعه أبو طالوت، وذلك في سنة ست وستين، ونجدة يومئذٍ ابن ثلاثين سنة.
ثم سار في جمع إلى بني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، فلقيهم بذي المجاز فهزمهم وقتلهم قتلاً ذريعاً، وصبر كلاب وعطيف ابنا قرة بن هبيرة القشيريان وقاتلا حتى قتلا، وانهزم قيس بن الرقاد الجعدي فلحقه أخوه لأبيه معاوية فسأله أن يحمله ردفاً فلم يفعل.
ورجع نجدة إلى اليماامة فكثر أصحابه فصاروا ثلاثة آلاف، ثم سار نجدة إلى البحرين سنة سبع وستين، فقالت الأزد: نجدة أحب إلينا من ولاتنا لأنه ينكر الجور وولاتنا يجوزونه، فعزموا على مسالمته، واجتمعت عبد القيس ومن بالبحرين غير الأزد على محاربته، فقال بعض الأزد: نجدة أقرب إليكم منه إلينا لأنكم كلكم من ربيعة فلا تحاربوه! وقال بعضهم: لا ندع نجدة وهو حروريٌّ ما رق تجري علينا أحكامه. فالتقوا بالقطيف فانهزمت عبد القيس وقتل منهم جمعٌ كثير وسبى نجدة من قدر عليه من أهل القطيف؛ فقال الشاعر:
نصحت لعبد القيس يوم قطيفها ... وما نفع نصحٍ، قيل، لا يتقبل
وأقام نجدة بالقطيف ووجه ابنه المطرح في جمع إلى المنهزمين من عبد القيس، فقاتلوه بالثوير، فقتل المطرح بن نجدة وجماعة من أصحابه.
وأرسل نجدة سريةً إلى الخط فظفر بأهله، وأقام نجدة بالبحرين. فلما قدم مصعب بن الزبير إلى البصرة سنة تسع وستين بعث إليه عبد الله بن عمير الليثي الأعور في أربعة عشر ألفاً فجعل يقول: اثبت نجدة فإنا لا نفر، فقدم ونجدة بالقطيف، فأتى نجدة إلى ابن عمير، وهو غافل، فقاتلهم طويلاً وافترقوا، وأصبح ابن عمير فهاله ما رأى في عسكره وأصاب جواري فيهن أم ولد لابن عمير، فعرض عليها أن يرسلها إلى مولاها فقالت: لا حاجة بي إلى من فرعني وتركني.
وبعث نجدة أيضاً بعد هزيمة ابن عمير جيشاً إلى عمان واستعمل عليهم عطية بن الأسود الحنفي، وقد غلب عليها عباد بن عبد الله، وهو شيخ كبير، وابناه سعيد وسليمان يعشران السفن ويجيبان البلاد، فلما أتاهم عطية قاتلوه فقتل عباد واستولى عطية على البلاد فأقام بها أشهراً ثم خرج منها واستخلف رجلاً يكنى أبا القاسم، فقتله سعيد وسليمان ابنا عباد وأهل عمان.
ثم خالف عطية نجدة، على ما نذركه إن شاء الله، فعاد إلى عمان فلم يقدر عليها فركب في البحر وأتى كرمان وضرب بها دراهم سماها العطوية وأقام بكرمان. فأرسل إليه المهلب جيشاً، فهرب إلى سجستان ثم إلى السند، فلقيه خيل المهلب بقندابيل فقتله، وقيل: قتله الخوارج.
ثم بعث نجدة إلى البوادي بعد هزيمة ابن عمير أيضاً من يأخذ من أهلها الصدقة، فقاتل أصحابه بني تميم بكاظمة، وأعان أهل طويلع بني تميم، فقتلوا من الخوارج رجلاً، فأرسل نجدة إلى أهل طويلع من أغار عليهم وقتل منهم نيفاً وثلاثين رجلاً وسبى. ثم إنه دعاهم بعد ذلك فأجابوه، فأخذ منهم الصدقة، ثم سار نجدة إلى صنعاء في خف من الجيش، فبايعه أهلها وظنوا أن وراءه جيشاً كثيراً، فلما لم يروا مدداً يأتيه ندموا على بيعته، وبلغه ذلك فقال: إن شئتم أقلتكم بيعتكم وجعلتكم في حل منها وقاتلتكم. فقالوا: لا نستقيل بيعتنا. فبعث إلى مخالفيها فأخذ منهم الصدقة، وبعث نجدة أبا فديك إلى حضرموت فجبى صدقات أهلها.
وحج نجدة سنة ثمان وستين، وقيل سنة تسع وستين، وهو في ثمانمائة وستين رجلاً، وقيل في ألفي رجل وستمائة رجل، وصالح ابن الزبير على أن يصلي كل واحد بأصحابه ويقف بهم ويكف بعضهم عن بعض.
فلما صدر نجدة عن الحج سار إلى المدينة، فتأهب أهلها لقتاله، وتقلد عبد الله بن عمر سيفاً، فلما كان نجدة بنخل أخبر بلبس ابن عمر السلاح، فرجع إلى الطائف وأصاب بنتاً لعبد الله بن عمرو بن عثمان كانت عند ظئر لها فضمها إليه، فقال بعض أصحابه: إن نجدة ليتعصب لهذه الجارية فامتحنوه، فسأله بعضهم بيعها منه، فقال: قد أعتقت نصيبي منها فهي حرة. قال: فزوجني إياها. قال: هي بالغ وهي أملك بنفسها فأنا استأمرها؛ فقام من مجلسه ثم عاد، قال: قد استأمرتها وكرهت الزواج.
فقيل: إن عبد الملك أو عبد الله بن الزبير كتب إليه: والله لئن أحدثت فيها حدثاً لأطأن بلادك وطأة لا يبقى معها بكري.
وكتب نجدة إلى ابن عمر يسأله عن أشياء، فقال: سلوا ابن عباس، فسألوه، ومساءلة ابن عباس مشهورة.
ولما سار نجدة من الطائف أتاه عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي فبايعه عن قومه، ولم يدخل نجدة الطائف، فلما قدم الحجاج الطائف لمحاربة ابن الزبير قال لعاصم: يا ذا الوجهين بايعت نجدة! قال: إي والله وذو عشرة أوجه، أعطيت نجدة الرضى ودفعته عن قومي وبلدي.
واستعمل الحاروق، وهو حراق، على الطائف وتبالة والسراة، واستعمل سعد الطلائع على ما يلي نجران، ورجع نجدة إلى البحرين فقطع الميرة عن أهل الحرمين منها ومن اليمامة، فكتب إليه ابن عباس: إن ثمامة بن أثال لما أسلم قطع الميرة عن أهل مكة وهم مشركون فكتب إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن أهل مكة أهل الله فلا تمنعهم الميرة، فجعلها لهم، وإنك قطعت الميرة عنا ونحن مسلمون. فجعلها نجدة لهم.
ولم يزل عمال نجدة على النواحي حتى اختلف عليه أصحابه فطمع فيهم الناس؛ فأما الحاروق فطلبوه بالطائف فهرب، فلما كان من العقبة في طريقه لحقه قوم يطلبونه فرموه بالحجارة حتى قتلوه.
ذكر الاختلاف على نجدة وقتله وولاية أبي فديكثم إن أصحاب نجدة اختلفوا عليه لأسباب نقموها منه، فمنها: أنا أبا سنان حي بن وائل أشار على نجدة بقتل من أجابه تقية، فشتمه نجدة، فهم بالفتك به، فقال له نجدة: كلف الله أحداً علم الغيب؟ قال: لا. قال: فإنما علينا أن نحكم بالظاهر. فرجع أبو سنان إلى نجدة.
ومنها: أن عطية بن الأسود خالف على نجدة، وسببه أن نجدة سير سريةً بحراً وسريةً براً، فأعطى سرية البحر أكثر من سرية البر، فنازعه عطية حتى أغضبه، فشتمه نجدة، فغضب عليه وألب الناس عليه. وكلم نجدة في رجل يشرب الخمر في عسكره فقال: هو رجل شديد النكاية على العدو وقد استنصر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالمشركين. وكتب عبد الملك إلى نجدة يدعوه إلى طاعته ويوليه اليمامة ويهدر له ما أصاب من الأموال والدماء، فطعن عليه عطية وقال: ما كاتبه عبد الملك حتى علم منه دهاناً في الدين، وفارقه إلى عمان.
ومنها أن قوماً فارقوا نجدة واستنابوه فحلف أن لا يعود، ثم ندموا على استنابته وتفرقوا ونقموا عليه أشياء أخر فخالف عليه عامة من معه فانحازوا عنه وولوا أمرهم أبا فديك عبد الله بن ثور، أحد بني قيس بن ثعلبة، واستخفى نجدة، فأرسل أبو فديك في طلبه جماعةً من أصحابه وقال: إن ظفرتم به فجيئوني به. وقيل لأبي فديك: إن لم تقتل نجدة تفرق الناس عنك، فألح في طلبه. وكان نجدة مستخفياً في قرية من قرى حجر، وكان للقوم الذين اختفى عندهم جاريةٌ يخالف إليها راعٍ لهم، فأخذت الجارية من طيب كان مع نجدة، فسألها الراعي عن أمر الطيب، فأخبرته، فأخبر الراعي أصحاب أبي فديك بنجدة، فطلبوه، فنذر بهم، فأتى أخواله من بني تميم فاستخفى عندهم. ثم أراد المسير إلى عبد الملك فأتى بيته ليعهد إلى زوجته، فعلم به الفديكية وقصدوه، فسبق إليه رجل منهم فأعلمه، فخرج وبيده السيف، فنزل الفديكي عن فرسه وقال: إن فرسي هذا لا يدرك فاركبه فلعلك تنجو عليه. فقال: ما أحب البقاء ولقد تعرضت للشهادة في مواطن ما هذا بأحسنها، وغشيه أصحاب أبي فديك فقتلوه، وكان شجاعاً كريماً، وهو يقول:
وإن جر مولانا علينا جريرةً ... صبرنا لها إن الكرام الدعائم
ولما قتل نجدة سخط قتله قوماً من أصحاب أبي فديك ففارقوه، وثار به مسلم بن جبير فضربه اثنتي عشرة ضربة بسكين، فقتل مسلم وحمل أبو فديك إلى منزله فبرأ.
ذكر استعمال مصعب على المدينةفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير أخاه عبيدة بن الزبير عن المدينة واستعمل أخاه مصعباً.
وسبب ذلك أن عبيدة خطب الناس فقال لهم: قد ترون ما صنع الله بقوم في ناقة قيمتها خمسة دراهم، فسمي مقوم الناقة، فبلغ ذلك أخاه عبد الله فعزله واستعمل مصعباً.
ذكر بناء ابن الزبير الكعبةلما احترقت الكعبة حين غزا أهل الشام عبد الله بن الزبير أيام يزيد تركها ابن الزبير يشنع بذلك على أهل الشام، فلما مات يزيد واستقر الأمر لابن الزبير شرع في بنائها، فأمر بهدمها حتى ألحقت بالأرض، وكانت قد مالت حيطانها من حجارة المنجنيق، وجعل الحجر الأسود عنده، وكان الناس يطوفون من وراء الأساس، وضرب عليها السور وأدخل فيها الحجر، واحتج بأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لعائشة: لولا حدثان عهد قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم وأزيد فيها الحجر.
فحفر ابن الزبير فوجد أساساً أمثال الجمال فحركوا منها صخرة فبرقت بارقة فقال: أقروها على أساسها وبنائها، وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر.
وقيل: كانت عمارتها سنة أربع وستين.
ذكر الحرب بين ابن خازم وبني تميمفي هذه السنة كانت الحرب بين ابن خازم السلمي وبني تميم بخراسان.
وسبب ذلك أن من كان بخراسان من بني تميم أعانوا ابن خازم على من بها من ربيعة، وقد تقدم ذكر ذلك، فلما صفت له خراسان جفا بني تميم، وكان قد جعل ابنه محمداً على هراة، وجعل على شرطته بكير بن وساج وضم إليه شماس بن دثار العطاردي، وكانت أم محمد تميمية، فلما جفا ابن خازم بني تميم أتوا ابنه محمداً بهراة، فكتب ابن خازم إلى ابنه محمد وإلى بكير وشماس يأمرهم بمنعهم عن هراة، فأما شماس فصار مع بني تميم، وأما بكير فإنه منعهم، فأقاموا ببلاد هرا، فأرسل بكير إلى شماس: إني أعطيتك ثلاثين ألفاً فأعط كل رجل من بني تميم ألفاً على أن ينصرفوا.
فأبوا عليه وأقاموا يترصدون محمداً، فخرج يتصيد فأخذوه وشدوه وثاقاً وشربوا ليلتهم وجعلوا يبولون عليه كلما أرادوا البول، فقال لهم شماس: أما إذا بلغتم هذا منه فاقتلوه بصاحبيكما اللذين قتلهما بالسياط. وكان قد ضرب رجلين من تميم بالسياط حتى ماتا. فقاموا إليه ليقتلوه، فنهاهم عنه حيان بن مشحبة الضبي وألقى نفسه عليه، فلم يقبلوا منه وقتلوا محمداً. فشكر ابن خازم لجيهان ذلك فلم يقتله فيمن قتل يوم فرتنا.
وكان الذي تولى قتل محمد رجلان اسم أحدهما عجلة واسم الآخر كسيب. فقال ابن خازم: بئس ما اكتسب كسيب لقومه، ولقد عجل عجلة لقومه شراً.
وأقبلت تميم إلى مرو وأمروا عليهم الحريش بن هلال القريعي، وأجمع أكثرهم على قتال ابن خازم، فقاتل الحريش بن هلال عبد الله بن خازم سنتين، فلما طالت الحرب خرج الحريش فنادى ابن خازم وقال له: طالت الحرب بيننا فعلام تقتل قومي وقومك؟ ابرز إلي فأينا قتل صاحبه صارت الأرض له.
فقال له ابن خازم: قد أنصفت. فبرز إليه فتضاربا وتصاولا تصاول الفحلين لا يقدر أحدهما على صاحبه، ثم غفل ابن خازم فضربه الحريش على رأسه فألقى فروة رأسه على وجهه وانقطع ركاب الحريش وانتزع السيف، ولزم ابن خازم عنق فرسه راجعاً إلى أصحابه، ثم غاداهم القتال، فمكثوا بذلك بعد الضربة أياماً ثم مل الفريقان فتفرقوا ثلاث فرق: فرقة إلى نيسابور مع بحير بن ورقاء، وفرقة إلى ناحية أخرى، وفرقة فيها الحريش إلى مرو الروذ، فاتبعه ابن خازم إلى قرية تسمى الملحمة والحريش في اثني عشر رجلاً، وقد تفرقت عنه أصحابه، وهم في خربة، فلما انتهى إليه ابن خازم خرج إليه في أصحابه، فحمل مولىً لابن خازم على الحريش فضربه فلم يصنع شيئاً، فقال الحريش لرجل معه: إن سيفي لا يصنع في سلاحه شيئاً فأعطني خشبة، فأعطاه عوداً من عناب، فحمل على المولى فضربه فسقط وقيذاً، ثم قال لابن خازم: ما تريد مني وقد خليتك والبلاد؟ قال: إنك تعود إليها. قال: لا أعود، فصالحه على أن يخرج من خراسان ولا يعود إلى قتاله، فأعطاه اب خازم أربعين ألفاً، وفتح له الحريش باب القصر، فدخله ابن خازم وضمن له وفاء دينه وتحدثا طويلاً.
وطارت قطنةٌ عن الضربة التي برأس ابن خازم، فأخذها الحريش ووضعها مكانها، فقال له ابن خازم: مسك اليوم ألين من مسك أمس. فقال الحريش: معذرة إلى الله وإليك، أما والله لولا أن ركابي انقطع لخالط السيف رأسك؛ قال الحريش في ذلك:
أزال عظم ذراعي عن مركبه ... حمل الرديني في الإدلاج بالسحر
حولين ما اغتمضت عيني بمنزلةٍ ... إلا وكفي وسادٌ لي على حجر
بزي الحديد وسربالي إذا هجعت ... عني العيون مجال الفالح الذكر
بحير بن ورقاء بفتح الباء الموحدة، والحاء المهملة المكسورة. والحريش بالحاء والراء المهملتين، والشين المعجمة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وقع طاعون الجارف بالبصرة وعليها عبيد الله بن معمر، فهلك به خلق كثير، فماتت أم عبيد الله، فلم يجدوا لها من يحملها حتى استأجروا من حملها، وهو الأمير.
وحج بالناس عبد الله بن الزبير. وكان على المدينة مصعب، وعلى الكوفة ابن مطيع، وعلى البصرة الحارث بن ربيعة المخزومي، وعلى خراسان عبد الله بن خازم.
وفيها توفي عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي، وكان قد عمي آخر عمره، وكات وفاته بمصر، وقيل: توفي سنة ثمان وستين.
ثم دخلت سنة ست وستين
ذكر وثوب المختار بالكوفةفي هذه السنة رابع عشر ربيع الأول وثب المختار بالكوفة وأخرج عنها عبد الله بن مطيع عامل عبد الله بن الزبير.
وسبب ذلك أن سليمان بن صرد لما قتل قدم من بقي من أصحابه الكوفة، فلما قدموا وجدوا المختار محبوساً قد حبسه عبد الله بن يزيد الخطمي وإبراهيم بن محمد بن طلحة، وقد تقدم ذكر ذلك، فكتب إليهم من الحبس يثني عليهم ويمنيهم الظفر ويعرفهم أنه هو الذي أمره محمد بن علي، المعروف بابن الحنفية، بطلب الثأر، فقرأ كتابه رفاعة بن شداد والمثنى بن مخربة العبدي وسعد بن حذيفة بن اليمان ويزيد بن أنس وأحمر بن شميط الأحمسي وعبد الله بن شداد البجلي وعبد الله بن كامل، فلما قرأوا كتابه بعثوا إليه ابن كامل يقولون له: إننا بحيث يسرك، فإن شئت أن نأتيك ونخرجك من الحبس فعلنا. فأتاه فأخبره، فسر بذلك وقال لهم: إني أخرج في أيامي هذه.
وكان المختار قد أرسل إلى ابن عمر يقول له: إنني قد حبست مظلوماً، ويطلب إليه أن يشفع فيه إلى عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة، فكتب إليهما ابن عمر في أمره، فشفعاه وأخرجاه من السجن وضمناه وحلفاه أنه لا يبغيهما غائلةً ولا يخرج عليهما ما كان لهما سلطان، فإن فعل فعليه ألف بدنة ينحرها عند الكعبة ومماليكه أحرار ذكرهم وأنثاهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب { متن الدرة المضيئة في السيرة}الدرة المضية

    كتاب { متن الدرة المضيئة في السيرة}الدرة المضية بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي  ----------------- قال الشيخ الإمام الحبر الحافظ أبو...