الجمعة، 20 مايو 2022

مجلد 11.ومجلد 12. كتاب : الكامل في التاريخ ابن الأثير


مجلد 11.ومجلد 12. كتاب : الكامل في التاريخ ابن الأثير
فلما خرج نزل بداره، فقال لمن يثق به: قاتلهم الله ما أحمقهم حين يرون أني أفي لهم! أما حلفي بالله فإنني إذا حلفت على يمين فرأيت خيراً منها كفرت عن يميني، وخروجي عليهم خير من كفي عنهم، وأما هدي البدن وعتق المماليك فهو أهون علي من بصقة، فوددت أن تم لي أمري ولا أملك بعده مملوكاً أبداً.
ثم اختلفت إليه الشيعة واتفقوا على الرضى به، ولم يزل أصحابه يكثرون وأمره يقوى حتى عزل ابن الزبير عبد الله بن يزيد الخطمي وإبراهيم بن محمد بن طلحة واستعمل عبد الله بن مطيع على عملهما بالكوفة، فلقيه بحير بن رستان الحميري عند مسيره إلى الكوفة فقال له: لا تسر الليلة فإن القمر بالناطح فلا تسر، فقال له: وهل نطلب إلا النطح! فلقي نطحاً كما يريد، فكان البلاء موكلاً بمنطقه، وكان شجاعاً.
وسار إبراهيم إلى المدينة وكسر الخراج وقال: كانت فتنة، فسكت عنه ابن الزبير.
وكان قدوم ابن مطيع في رمضان لخمس بقين منه، وجعل على شرطته إياس بن أبي مضارب العجلي، وأمره بحسن السيرة والشدة على المريب، ولما قدم صعد المنبر فخطبهم وقال: أما بعد فإن أمير المؤمنين بعثني على مصركمك وثغوركم، وأمرني بجابية فيئكم وأن لا أحمل فضل فيئكم عنكم إلا برضى منكم، وأن أتبع وصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وسيرة عثمان بن عفان، فاتقوا الله واستقيموا ولا تختلفوا وخذوا على أيدي سفهائكم، فإن لم تفعلوا فلوموا أنفسكم ولا تلوموني، فوالله لأوقعن بالسقيم العاصي، ولأقيمن درء الأصعر المرتاب.
فقام إليه السائب بن مالك الأشعري فقال: أما حمل فيئنا برضانا فإنا نشهد أنا لا نرضى أن يحمل عنا فضله وأن لا يقسم إلا فينا، وأن لا يسار فينا إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا هذه حتى هلك، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا، ولا في سيرة عمر بن الخطاب فينا، وإن كانت أهون السيرتين علينا، وقد كان يفعل بالناس خيراً.
فقال يزيد بن أنس: صدق السائب وبر.
فقال ابن مطيع: نسير فيكم بكل سيرة أحببتموها. ثم نزل.
وجاء إياس بن مضارب إلى ابن مطيع فقال له: إن السائب بن مالك من رؤوس أصحاب المختار، فابعث إلى المختار فليأتك، فإذا جاء فاحبسه حتى يستقيم أمر الناس، فإن أمره قد استجمع له وكأنه قد وثب بالمصر.
فبعث ابن مطيع إلى المختار زائدة بن قدامة وحسين بن عبد الله البرسمي من همدان، فقالا: أجب الأمير، فعزم على الذهاب، فقرأ زائدة: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) الأنفال: 30 الآية؛ فألقى المختار ثيابه وقال: ألقوا علي قطيفةً فقد وعكت، إني لأجد برداً شديداً، ارجعا إلى الأمير فأعلماه حالي. فعادا إلى ابن مطيع فأعلماه، فتركه.
ووجه المختار إلى أصحابه فجمعهم حوله في الدور وأراد أن يثب في الكوفة في المحرم، فجاء رجلٌ من أصحاب شبام، وشبام حي من همدان، وكان شريفاً اسمه عبد الرحمن بن شريح، فلقي سعيد بن منقذ الثوري وسعر بن أبي سعر الحنفي والأسود بن جراد الكندي وقدامة بن مالك الجشمي فقال لهم: إن المختار يريد أن يخرج بنا ولا ندري أرسله ابن الحنفية أم لا، فانهضوا بنا إلى ابن الحنفية نخبره بما قدم علينا به المختار، فإن رخص لنا في اتباعه تبعناه وإن نهانا عنه اجتنبناه، فوالله ما ينبغي أن يكون شيء من الدنيا آثر عندنا من سلامة ديننا. قالوا له: أصبت.
فخرجوا إلى ابن الحنفية، فلما قدموا عليه سألهم عن حال الناس فأخبروه عن حالهم وما هم عليه وأعلموه حال المختار وما دعاهم إليه واستأذنوه في اتباعه. فلما فرغوا من كلامهم قال لهم بعد أن حمد الله وأثنى عليه وذكر فضيلة أهل البيت والمصيبة بقتل الحسين، ثم قال لهم: وأما ما ذكرتم ممن دعاكم إلى الطلب بدمائنا فوالله لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه، ولو كره لقال لا تفعلوا.
فعادوا وناس من الشيعة ينتظرونهم ممن أعلموه بحالهم، وكان ذلك قد شق على المختار وخاف أن يعودوا بأمر يخذل الشيعة عنه، فلما قدموا الكوفة دخلوا على المختار قبل دخولهم إلى بيوتهم، فقال لهم: ما وراءكم فقد فتنتم وارتبتم! فقالوا له: إنا قد أمرنا بنصرك. فقال: الله أكبر، اجمعوا إلي الشيعة، فجمع من كان قريباً منهم، فقال لهم: إن نفراً قد أحبوا أن يعلموا مصداق ما جئت به فرحلوا إلى الإمام المهدي، فسألوه عما قدمت به عليكم، فنبأهم أني وزيره وظهيره ورسوله وأمركم باتباعي وطاعتي فيما دعوتكم إليه من قتال المحلين والطلب بدماء أهل بيت نبيكم المصطفين.
فقام عبد الرحمن بن شريح وأخبرهم بحالهم ومسيرهم وأن ابن الحنفية أمرهم بمظاهرته ومؤازرته، وقال لهم: ليبلغ الشاهد الغائب واستعدوا وتأهبوا. وقام جماعة من أصحابه فقالوا نحواً من كلامه.
فاستجمعت له الشيعة، وكان من جملتهم الشعبي وأبوه شراحيل، فلما تهيأ أمره للخروج قال له بعض أصحابه: إن أشراف أهل الكوفة مجمعون على قتالكم مع ابن مطيع، فإن أجابنا إلى أمرنا إبراهيم بن الأشتر رجونا القوة على عدونا، فإنه فتىً رئيس، وابن رجل شريف، له عشيرة ذات عز وعدد.
فقال لهم المختار: فالقوه وادعوه. فخرجوا إليه ومعهم الشعبي فأعلموه حالهم وسألوه مساعدتهم عليه وذكروا له ما كان أبوه عليه من ولاء علي وأهل بيته. فقال لهم: إني قد أجبتكم إلى الطلب بدم الحسين وأهل بيته على أن تولوني الأمر. فقالوا له: أنت لذلك أهل ولكن ليس إلى ذلك سبيل، هذا المختار قد جاءنا من قبل المهدي وهو المأمور بالقتال وقد أمرنا بطاعته. فسكت إبراهيم ولم يجبهم، فانصرفوا عنه فأخبروا المختار، فمكث ثلاثاً ثم سار في بضعة عشر من أصحابه والشعبي وأبوه فيهم إلى إبراهيم فدخلوا عليه، فألقى لهم الوسائد، فجلسوا عليها وجلس المختار معه على فراشه، فقال له المختار: هذا كتاب من المهدي محمد بن علي أمير المؤمنين وهو خير أهل الأرض اليوم وابن خير أهلها قبل اليوم بعد أنبياء الله ورسله، وهو يسألك أن تنصرنا وتؤازرنا.
قال الشعبي: وكان الكتاب معي، فلما قضى كلامه قال لي: ادفع الكتاب إليه، فدفعه إليه الشعبي، فقرأه فإذا فيه: من محمد المهدي إلى إبراهيم بن مالك الأشتر، سلام عليك فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإني قد بعثت إليكم وزيري وأميني الذي ارتضيته لنفسي وأمرته بقتال عدوي والطلب بدماء أهل بيتي فانهض معهم بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك فإنك إن تنصرني وأجبت دعوتي كانت لك بذلك عندي فضيلة، ولك أعنة الخيل وكل جيشٍ غازٍ وكل مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فيما بين الكوفة وأقصى بلاد الشام.
فلما فرغ من قراءة الكتاب قال: قد كتب إلي ابن الحنفية قبل اليوم وكتبت فلم يكتب إلي إلا باسمه واسم أبيه. قال المختار: إن ذلك زمان وهذا زمان. قال: فمن يعلم أن هذا كتابه إلي؟ فشهد جماعة ممن معه، منهم: زيد بن أنس وأحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وجماعتهم إلا الشعبي.
فلما شهدوا تأخر إبراهيم عن صدر الفراش وأجلس المختار عليه وبايعه ثم خرجوا من عنده، وقال إبراهيم للشعبي: قد رأيتك لم تشهد مع القوم أنت ولا أبوك، أفترى هؤلاء شهدوا على حق؟ فقال له: هؤلاء سادة القراء ومشيخة المصر وفرسان العرب ولا يقول مثلهم إلا حقاً.
فكتب أسماءهم وتركها عنده، ودعا إبراهيم عشيرته ومن أطاعه وأقبل يختلف إلى المختار كل عشية عند المساء يدبرون أمورهم، واجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة من ربيع الأول سنة ست وستين.
فلما كان تلك الليلة عند المغرب صلى إبراهيم بأصحابه ثم خرج يريد المختار وعليه وعلى أصحابه السلاح، وقد أتى إياس بن مضارب عبد الله بن مطيع فقال له: إن المختار خارج عليك بإحدى هاتين الليلتين وقد بعثت ابني إلى الكناسة فلو بعثت في كل جبانة عظيم بالكوفة رجلاً من أصحابك في جماعة من أهل الطاعة لهاب المختار وأصحاب الخروج عليك.
فبعث ابن مطيع عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني إلى جبانة السبيع، وقال: اكفني قومك ولا تحدثن بها حدثاً. وبعث كعب بن أبي كعب الخثعمي إلى جبانة بشر. وبعث زحر بن قيس الجعفي إلى جبانة كندة. وبعث عبد الرحمن بن مخنف إلى جبانة الصائدين. وبعث شمر بن ذي الجوشن إلى جبانة سالم. وبعث يزيد بن رويم إلى جبانة المراد، وأوصى كلاً منهم أن لا يؤتى من قبله. وبعث شبث بن ربعي إلى السبخة وقال: إذا سمعت صوت القوم فوجه نحوهم.
وكان خروجهم إلى الجبابين يوم الاثنين، وخرج إبراهيم بن الأشتر يريد المختار ليلة الثلاثاء وقد بلغه أن الجبابين قد ملئت رجالاً، وأن إياس بن مضارب في الشرط قد أحاط بالسوق والقصر، فأخذ معه من أصحابه نحو مائة دارع وقد لبسوا عليها الأقبية، فقال له أصحابه: تجنب الطريق. فقال: والله لأمرن وسط السوق بجنب القصر ولأرعبن عدونا ولأرينهم هوانهم علينا.
فسار على باب الفيل ثم على دار عمرو بن حريث، فلقيهم إياس بن مضارب في الشرط مظهرين السلاح. فقال: من أنتم؟ فقال إبراهيم: أنا إبراهيم بن الأشتر. فقال إياس: ما هذا الجمع الذي معك وما تريد؟ لست بتاركك حتى آتي بك الأمير. فقال إبراهيم: خل سبيلاً. قال: لا أفعل، وكان مع إياس بن مضارب رجل من همدان يقال له أبو قطن، وكان يكرمه، وكان صديقاً لابن الأشتر، فقال له ابن الأشتر: ادن مني يا أبا قطن، فدنا منه، وهو يظن أن إبراهيم يطلب منه أن يشفع فيه إلى إياس، فلما دنا منه أخذ رمحاً كان معه وطعن به إياساً في ثغرة نحره فصرعه وأمر رجلاً من قومه فأخذ رأسه، وتفرق أصحاب إياس ورجعوا إلى ابن مطيع.
فبعث مكانه ابنه راشد بن إياس على الشرط، وبعث مكان راشد إلى الكناسة سويد بن عبد الرحمن المنقري أبا القعقاع بن سويد. وأقبل إبراهيم بن الأشتر إلى المختار وقال له: إنا اتعدنا للخروج القابلة، وقد جاء أمر لابد من الخروج الليلة، وأخبره الخبر، ففرح المختار بقتل إياس وقال: هذا أول الفتح إن شاء الله تعالى! ثم قال لسعيد بن منقذ: قم فأشعل النيرا في الهوادي والقصب وارفعها وسر أنت يا عبد الله بن شداد فناد: يا منصور أمت، وقم أنت يا سفيان بن ليلى وأنت يا قدامة بن مالك فناديا: يا لثارات الحسين! ثم لبس سلاحه.
فقال له إبراهيم: إن هؤلاء الذين في الجبابين يمنعون أصحابنا من إتياننا، فلو سرت إلى قومي بمن معي ودعوت من أجابني وسرت بهم في نواحي الكوفة ودعوت بشعارنا لخرج إلينا من أراد الخروج ومن أتاك حبسته عندك إلى من معك، فإن عوجلت كان عندك من يمنعك إلى أن آتيك. فقال له: افعل وعجل وإياك أن تسير إلى أميرهم تقاتله ولا تقاتل أحداً وأنت تستطيع أن لا تقاتله إلا أن يبدأك أحد بقتال.
فخرج إبراهيم وأصحابه حتى أتى قومه، واجتمع إليه جل من كان أجابه، وسار بهم في سكك المدينة ليلاً طويلاً وهو يتجنب المواضع التي فيها الأمراء الذين وضعهم ابن مطيع، فلما انتهى إلى مسجد السكون أتاه جماعة من خيل زحر بن قيس الجعفي ليس عليهم أمير، فحمل عليهم إبراهيم فكشفهم حتى أدخلهم جبانة كندة وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنا غضبنا لأهل بيت نبيك وثرنا لهم فانصرنا على هؤلاء.
ثم رجع إبراهيم عنهم بعد أن هزمهم، ثم سار إبراهيم حتى أتى جبانة أثير، فتنادوا بشعارهم، فوقف فيها، فأتاه سويد بن عبد الرحمن المنقري ورجا أن يصيبهم فيحظى بها عند ابن مطيع، فلم يشعر به إبراهيم إلا وهو معه، فقال إبراهيم لأصحابه: يا شرطة الله انزلوا فإنكم أولى بالنصر من هؤلاء الفساق الذين خاضوا في دماء أهل بيت نبيكم. فنزلوا، ثم حمل عليهم إبراهيم حتى أخرجهم إلى الصحراء فانهزموا، فركب بعضهم بعضاً وهم يتلاومون، وتبعهم حت أدخلهم الكناسة، فقال لإبراهيم أصحابه: اتبعهم واغتنم ما دخلهم من الرعب. فقال: لا ولكن نأتي صاحبنا يؤمن الله بنا وحشته ويعلم ماكان من نصرنا له فيزداد هو وأصحابه قوةً مع أني لا آمن أن يكون قد أتي.
ثم سار إبراهيم حتى أتى باب المختار، فسمع الأصوات عاليةً والقوم يقتتلون، وقد جاء شبث بن ربعي من قبل السبخة، فعبأ له المختار يزيد بن أنس. وجاء حجار بن أبجر العجلي فجعل المختار في وجهه أحمر بن شميط. فبينما الناس يقتتلون إذ جاء إبراهيم من قبل القصر فبلغ حجاراً وأصحابه أن إبراهيم قد أتاهم من ورائهم، فتفرقوا في الأزقة قبل أن يأتيهم، وجاء قيس بن طهفة النهدي في قريب من مائة، وهو من أصحاب المختار، فحمل على شبث بن ربعي وهو يقاتل يزيد بن أنس، فخلى لهم الطريق حتى اجتمعوا وأقبل شبث إلى ابن مطيع وقال له: اجمع الأمراء الذين بالجبابين وجميع الناس ثم أنفذ إلى هؤلاء القوم فقاتلهم فإن أمرهم قد قوي وقد خرج المختار وظهر واجتمع له أمره.
فلما بلغ قوله المختار خرج في جماعة من أصحابه حتى نزل في ظهر دير هند في السبخة، وخرج أبو عثمان النهدي فنادى في شاكر وهم مجتمعون في دورهم يخافون أن يظهروا لقرب كعب الخثعمي منهم، وكان قد أخذ عليهم أفواه السكك. فلما أتاهم أبو عثمان في جماعة من أصحابه نادى: يا لثارات الحسين! يا منصو أمت أمت! يا أيها الحي المهتدون إن أمين آل محمد ووزيرهم قد خرج فنزل دير هند وبعثني إليكم داعياً ومبشراً، فاخرجوا رحمكم الله! فخرجوا يتداعون: يا لثارات الحسين! وقاتلوا كعباً حتى خلى لهم الطريق، فأقبلوا إلى المختار فنزلوا معه، وخرج عبد الله بن قتادة في نحو من مائتين فنزل مع المختار، وكان قد تعرض لهم كعب، فلما عرفهم أنهم من قومه خلى عنهم.
وخرجت شبام، وهم حي من همدان، من آخر ليلتهم، فبلغ خبرهم عبد الرحمن بن سعيد الهمداني، فأرسل إليهم: إن كنتم تريدون المختار فلا تمروا على جبانة السبيع. فلحقوا بالمختار، فتوافى إلى المختار ثلاثة آلاف وثمانمائة من اثني عشر ألفاً كانوا بايعوه، فاجتمعوا له قبل الفجر، فأصبح وقد فرغ من تعبيته وصلى بأصحابه بغلس.
وأرسل ابن مطيع إلى الجبابين فأمر من بها أن يأتوا المسجد، وأمر راشد بن إياس فنادى في الناس: برئت الذمة من رجل لم يأت المسجد الليلة. فاجتمعوا فبعث ابن مطيع شبث بن ربعي في نحو ثلاثة آلاف إلى المختار، وبعث راشد بن إياس في أربعة آلاف من الشرط.
فسار شبث إلى المختار، فبلغه خبره وقد فرغ من صلاة الصبح، فأرسل من أتاه بخبرهم، وأتى إلى المختار ذلك الوقت سعر بن أبي سعر الحنفي، وهو من أصحابه، لم يقدر على إتيانه إلا تلك الساعة، فرأى راشد بن إياس في طريقه فأخبره المختار خبره أيضاً، فبعث إبراهيم بن الأشتر إلى راشد في سبع مائة، وقيل في ستمائة فارس وستمائة راجل، وبعث نعيم بن هبيرة، أخا مصقلة بن هبيرة، في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل وأمره بقتال شبث ابن ربعي ومن معه، وأمرهما بتعجيل القتال وأن لا يستهدفا لعدوهما فإنه أكثر منهما، فتوجه إبراهيم إلى راشد، وقدم المختار يزيد بن أنس في موضع مسجد شبث بن ربعي في تسعمائة أمامه، فتوجه نعيم إلى شبث فقاتله قتالاً شديداً، فجعل نعيم سعر بن أبي سعر على الخيل ومشى هو في الرجالة فقاتلهم حتى أشرقت الشمس وانبسطت، فانهزم أصحاب شبث حتى دخلوا البيوت، فناداهم شبث وحرضهم، فرجع إليه منهم جماعة، فحملوا على أصحاب نعيم وقد تفرقوا، فهزمهم، وصبر نعيم فقتل، وأسر سعر بن أبي سعر وجماعة من أصحابه، فأطلق العرب وقتل الموالي، وجاء شبث حتى أحاط بالمختار، وكان قد وهن لقتل نعيم.
وبعث ابن مطيع يزيد بن الحارث بن رويم في ألفين، فوقفوا في أفواه السكك، وولى المختار يزيد بن أنس خيله وخرج هو في الرجالة، فحملت عليه خيل شبث فلم يبرحوا مكانهم، فقال لهم يزيد بن أس: يا معشر الشيعة إنكم كنتم تقتلون وتقطع أيديكم وأرجلكم وتسمل أعينكم وترفعون على جذوع النخل في حب أهل بيت نبيكم، وأنتم مقيمون في بيوتكم وطاعة عدوكم، فما ظنكم بهؤلاء القوم إذا ظهروا عليكم اليوم؟ والله لا يدعون منكم عيناً تطرف، وليقتلنكم صبراً، ولترون منهم في أولادكم وأزواجكم وأموالكم ما الموت خير منه، والله لا ينجيكم منهم إلا الصدق والصبر والطعن الصائب والضرب الدراك، فتهيأوا للحملة. فتيسروا ينتظرون أمره وجثوا على ركبهم.
وأما إبراهيم بن الأشتر فإنه لقي راشداً فإذا معه أربعة آلاف، فقال إبراهيم لأصحابه: لا يهولنكم كثرة هؤلاء، فوالله لرب رجل خير من عشرة، والله مع الصابرين. وقدم خزيمة بن نصر إليهم في الخيل، ونزل هو يمشي في الرجالة، وأخذ إبراهيم يقول لصاحب رايته: تقدم برايتك، امض بهؤلاء وبها.
واقتتل الناس قتالاً شديداً، وحمل خزيمة بن نصر العبسي على راشد فقتله، ثم نادى: قتلت راشداً ورب الكعبة! وانهزم أصحاب راشد، وأقبل إبراهيم وخزيمة ومن معهما بعد قتل راشد نحو المختار، وأرسل البشير إلى المختار بقتل راشد، فكبر هو وأصحابه وقويت نفوسهم، ودخل أصحاب بن مطيع الفشل.
وأرسل ابن مطيع حسان بن فائد بن بكر العبسي في جيش كثيف نحو ألفين، فاعترض إبراهيم ليرده عمن بالسبخة من أصحاب ابن مطيع، فقدم إليهم إبراهيم، فانهزموا من غير قتال، وتأخر حسان يحمي أصحابه، فحمل عليه خزيمة، فعرفه فقال: يا حسان لولا القرابة لقتلتك، فانج بنفسك. فعثر به فرسه فوقع، فابتدره الناس، فقاتل ساعةً، فقال له خزيمة: أنت آمن فلا تقتل نفسك، وكف عنه الناس وقال لإبراهيم: هذا ابن عمي وقد آمنته، فقال: أحسنت! وأمر بفرسه فأحضر فأركبه وقال: الحق بأهلك.
وأقبل إبراهيم نحو المختار وشبث بن ربعي محيط به، فلقيه يزيد بن الحارث بن رويم وهو على أفواه السكك التي تلي السبخة، فأقبل إلى إبراهيم ليصده عن شبث وأصحابه، فبعث إبراهيم إليه طائفةً من أصحابه مع خزيمة بن نصر وسار نحو المختار وشبث فيمن بقي معه، فلما دنا منهم إبراهيم حمل على شبث، وحمل يزيد بن أنس، فانهزم شبث ومن معه إلى أبيات الكوفة، وحمل خزيمة بن نصر على يزيد بن الحارث بن رويم فهزمه، وازدحموا على أفواه السكك وفوق البيوت وأقبل المختار. فلما انتهى إلى أفواه السكك رمته الرماة بالنبل فصدوه عن الدخول إلى الكوفة من ذلك الوجه.
ورجع الناس من السبخة منهزمين إلى ابن مطيع، وجاءه قتل راشد بن إياس فسقط في يده، فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي: أيها الرجل لا تلق بيدك واخرج إلى الناس واندبهم إلى عدوك، فإن الناس كثير وكلهم معك إلا هذه الطائفة التي خرجت والله يخزيها، وأنا أول منتدب، فانتدب معي طائفةً ومع غيري طائفة.
فخرج ابن مطيع فقام في الناس ووبخهم على هزيمتهم وأمرهم بالخروج إلى المختار وأصحابه.
ولما رأى المختار أنه قد منعه يزيد بن الحارث من دخول الكوفة عدل إلى بيوت مزينة وأحمس وبارق، وبيوتهم منفردة، فسقوا أصحابه الماء ولم يشرب هو، فإنه كان صائماً، فقال أحمر بن شميط لابن كامل: أتراه صائماً؟ قال: نعم. قال: لو أفطر كان أقوى له. قال: إنه معصوم، وهو أعلم بما يصنع. فقال أحمر: صدقت، أستغفر الله.
فقال المختار: نعم المكان للقتال هذا. فقال إبراهيم: إن القوم قد هزمهم الله وأدخل الرعب في قلوبهم، سر بنا، فوالله ما دون القصر مانع. فترك المختار هناك كل شيخ ضعيف ذي علة ونقله واستخلف عليهم أبا عثمان النهدي، وقدم إبراهيم أمامه؛ وبعث ابن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفين، فخرج عليهم؛ فأرسل المختار إلى إبراهيم أن اطوه ولا تقم عليه؛ فطواه وأقام؛ وأمر المختار يزيد بن أنس أن يواقف عمرو بن الحجاج، فمضى إليه، وسار المختار في أثر إبراهيم، ثم وقف في موضع مصلى خالد بن عبد الله، ومضى إبراهيم ليدخل الكوفة من نحو الكناسة، فخرج إليه شمر بن ذي الجوشن في ألفين، فسرح إليه المختار سعيد بن منقذ الهمداني فواقعه، وأرسل إلى إبراهيم يأمره بالمسير، فسار حتى انتهى إلى سكة شبث، فإذا نوفل بن مساحق في ألفين، وقيل خمسة آلاف، وهو الصحيح، وقد أمر ابن مطيع منادياً فنادى في الناس أن الحقوا بابن مساحق.
وخرج ابن مطيع فوقف بالكناسة واستخلف شبث بن ربعي على القصر، فدنا ابن الأشتر من ابن مطيع فأمر أصحابه بالنزول وقال لهم: لا يهولنكم أن يقال جاء شبث وآل عتيبة بن النهاس وآل الأشعث وآل يزيد بن الحارث وآل فلان، فسمى بيوتات أهل الكوفة، ثم قال: إن هؤلاء لو وجدوا حر السيوف لانهزموا عن ابن مطيع انهزام المعزى من الذئب. ففعلوا ذلك.
وأخذ ابن الأشتر أسفل قبائه فأدخله في منطقته، وكان القباء على الدرع، فلم يلبثوا حين حمل عليهم أن انهزموا يركب بعضهم بعضاً على أفواه السكك وازدحموا، وانتهى ابن الأشتر إلى ابن مساحق، فأخذ بعنان دابته ورفع السيف عليه، فقال له: يا ابن الأشتر أنشدك الله هل بيني وبينك من إحنة أو تطلبني بثأر؟ فخلى سبيله، وقال: اذكرها. فكان يذكرها له.
ودخلوا الكناسة في آثارهم حتى دخلوا السوق والمسجد وحصروا ابن مطيع ومعه الأشراف من الناس غير عمرو بن حريث، فإنه أتى داره ثم خرج إلى البر، وجاء المختار حتى نزل جانب السوق. وولى إبراهيم حصار القصر ومعه يزيد بن أنس وأحمر بن شميط، فحصروهم ثلاثاً، فاشتد الحصار عليهم، فقال شبثٌ لابن مطيع: انظر لنفسك ولمن معك فوالله ما عندهم غناء عنك ولا عن أنفسهم. فقال: أشيروا علي. فقال شبث: الرأي أن تأخذ لنفسك ولنا أماناً وتخرج ولا تهلك نفسك ومن معك. فقال ابن مطيع: إني لأكره أن آخذ منه أماناً والأمور لأمير المؤمنين مستقيمة بالحجاز والبصرة. قال: فتخرج ولا يشعر بك أحد فتنزل بالكوفة عند من تثق إليه حتى تلحق بصاحبك.
وأشار بذلك عبد الرحمن بن سعيد وأسماء بن خارجة وعبد الرحمن بن مخنف وأشراف الكوفة، فأقام حتى أمسى وقال لهم: قد علمت أن الذين صنعوا هذا بكم إنهم أراذلكم وأخساؤكم وأن أشرافكم وأهل الفضل منكم سامعون مطيعون، وأنا مبلغٌ ذلك صاحبي ومعلمه طاعتكم وجهادكم حتى كان الله الغالب على أمره. فأثنوا عليه خيراً.
وخرج عنهم وأتى دار أبي موسى، فجاء ابن الأشتر ونزل القصر، ففتح أصحابه الباب وقالوا: يا ابن الأشتر آمنون نحن؟ قال: أنتم آمنون. فخرجوا فبايعوا المختار، ودخل المختار القصر فبات فيه، وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر، وخرج المختار فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه فقال: الحمد لله الذي وعد وليه النصر، وعدوه الخسر، وجعله فيه إلى آخر الدهر، وعداً مفعولاً وقضاء مقضياً، وقد خاب من افترى، أيها الناس إنا رفعت لنا رايةٌ ومدت لنا غاية، فقيل لنا في الراية: أن ارفعوها وفي الغاية: أن اجروا إليها ولا تعدوها، فسمعنا دعوة الداعي ومقالة الواعي، فكم من ناعٍ وناعية لقتلى في الواعية وبعداً لمن طغى وأدبر وعصى وكذب وتولى، ألا فادخلوا أيها الناس وبايعوا بيعة هدى، فلا والذي جعل السماء سقفاً مكفوفاً والأرض فجاجاً سبلاً ما بايعتم بعد بيعة علي بن أبي طالب وآل علي أهدى منها! ثم نزل ودخل عليه أشراف الكوفة فبايعوه على كتاب الله وسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والطلب بدماء أهل البيت وجهاد المحلين والدفع عن الضعفاء وقتال من قاتلنا وسلم من سالمنا.
وكان ممن بايعه المنذر بن حسان وابنه حسان، فلما خرجا من عنده استقبله سعيد بن منقذ الثوري في جماعة من الشيعة، فلما رأوهما قالوا: هذان والله من رؤوس الجبارين، فقتلوا المنذر وابنه حسان، فنهاهم سعيد حتى يأخذوا أمر المختار، فلم ينتهوا، فلما سمع المختار ذلك كرهه، وأقبل المختار يمني الناس ويستجر مودة الأشراف ويحسن السيرة.
وقيل له: إن ابن مطيع في دار أبي موسى، فسكت، فلما أمسى بعث له بمائة ألف درهم وقال: تجهز بهذه فقد علمت مكانك وأنك لم يمنعك من الخروج إلا عدم النفقة. وكان بينهما صداقة.
ووجد المختار في بيت المال تسعة آلاف ألف، فأعطى أصحابه الذين قاتل بهم حين حصر ابن مطيع في القصر، وهم ثلاثة وخمسمائة، لكل رجل منهم خمسمائة درهم، وأعطى ستة آلاف من أصحابه أتوه بعدما أحاط بالقصر وأقاموا معه تلك الليلة وتلك الأيام الثلاثة مائتين مائتين، واستقبل الناس بخير، وجعل الأشراف جلساءه، وجعل على شرطته عبد الله بن كامل الشاكري، وعلى حرسه كيسان أبا عمرة.
فقام أبو عمرة على رأسه ذات يوم وهو مقبل على الأشراف بحديثه ووجهه، فقال لأبي عمرة بعض أصحابه من الموالي: أما ترى أبا إسحاق قد أقبل على العرب ما ينظر إلينا؟ فسأله المختار عما قالوا له، فأخبره، فقال: قل لهم لا يشق عليهم ذلك فأنتم مني وأنا منكم، وسكت طويلاً ثم قرأ: (إنا من المجرمين منتقمون) السجدة: 22. فلما سمعوها قال بعضهم لبعض: أبشروا، كأنكم والله قد قتلتم، يعني الرؤساء.
وكان أول راية عقدها المختار لعبد الله بن الحارث أخي الأشتر على أرمينية، وبعث محمد بن عمير بن عطارد علىأذربيجان، وبعث عبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل، وبعث إسحاق بن مسعود على المدائن وأرض جوخى، وبعث قدامة بن أبي عيسى بن زمعة النصري حليف ثقيف على بهقباذ الأعلى، وبعث محمد بن كعب بن قرظة على بهقباذ الأوسط، وبعث سعد بن حذيفة بن اليمان على حلوان وأمره بقتال الأكراد وإقامة الطرق.
وكان ابن الزبير قد استعمل على الموصل محمد بن الأشعث بن قيس، فلما ولي المختار وبعث عبد الرحمن بن سعيد إلى الموصل أميراً سار محمد عنها إلى تكريت ينظر ما يكون من الناس، ثم سار إلى المختار فبايعه.
فلما فرغ المختار مما يريد صار يجلس للناس ويقضي بينهم، ثم قال: إن لي فيما أحاول لشغلاً عن القضاء؛ ثم أقام شريحاً يقضي بين الناس، ثم خافهم شريح فتمارض، وكانوا يقولون: إنه عثماني، وإنه شهد على حجر بن عدي، وإنه لم يبلغ هانىء بن عروة ما أرسله به، وإن علياً عزله عن القضاء. فلما بلغ شريحاً ذلك منهم تمارض، فجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم إن عبد الله مرض فجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائي.
ذكر قتل المختار قتله الحسين
رضي الله عنهوفي هذه السنة وثب المختار بمن بالكوفة من قتلة الحسين.
وكان سبب ذلك أن مروان بن الحكم لما استوسق له الشام بعث جيشين: أحدهما إلى الحجاز عليه حبيش بن دلجة القيني، وقد ذكرنا أمره وقتله، والجيش الآخر إلى العراق مع عبد الله بن زياد، وقد ذكرنا ما كان من أمره وأمر التوابين، وكان قد جعل لابن زياد ما غلب عليه وأمره أن ينهب الكوفة ثلاثاً، فاحتبس بالجزيرة وبها قيس عيلان مع زفر بن الحارث على طاعة ابن الزبير فلم يزل عبيد الله بن زياد مشتغلاً بهم عن العراق نحو سنة.
فتوفي مروان وولي بعده ابنه عبد الملك بن مروان، فأقر ابن زياد على ما كان أبوه ولاه وأمره بالجد في أمره.
فلما لم يمكنه في زفر ومن معه من قيس شيء أقبل إلى الموصل، فكتب عبد الرحمن بن سعيد عامل المختار يخبره بدخول ابن زياد أرض الموصل وأنه قد تنحى له عن الموصل إلى تكريت. فدعا المختار يزيد بن أنس الأسدي وأمره أن يسير إلى الموصل فينزل بأداني أرضها حتى يمده بالجنود، فقال له يزيد: خلني أنتخب ثلاثة آلاف فارس، وخلني مما توجهني إليه، فإن احتجت كتبت إليك أستمدك. فأجابه المختار، فانتخب ثلاثة آلاف، وسار عن الكوفة، وسار معه المختار والناس يشيعونه، فلما ودعه قال له: إذا لقيت عدوك فلا تناظرهم، وإذا مكنتك الفرصة فلا تؤخرها، وليكن خبرك كل يوم عندي، وإن احتجت إلى مددٍ فاكتب إلي مع أني ممدك وإن لم تستمد لأنه أشد لعضدك وأرعب لعدوك. ودعا له الناس بالسلامة، ودعوا له، فقال لهم: اسألوا الله لي بالشهادة فوالله لئن فاتني النصر لا تفوتني الشهادة.
فكتب المختار إلى عبد الرحمن بن سعيد أن خل بين يزيد وبين البلاد. فسار يزيد إلى المدائن، ثم سار إلى أرض جوخى والرذانات إلى أرض الموصل فنزل بباتلى، وبلغ خبره ابن زياد، فقال: لأبعثن إلى كل ألف ألفين، فأرسل ربيعة بن مخارق الغنوي في ثلاثة آلاف، وعبد الله بن جملة الخثعمي في ثلاثة آلاف، فسار ربيعة قبل عبد الله بيوم فنزل بيزيد بن أنس بباتلي، فخرج يزيد بن أنس وهو مريض شديد المرض راكب على حمار يمسكه الرجال، فوقف على أصحابه وعبأهم وحثهم على القتال وقال: إن هلكت فأميركم ورقاء بن العازب الأسدي، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العذري، فإن هلك فأميركم سعر بن أبي سعر الحنفي، وجعل على ميممنته عبد الله، وعلى ميسرته سعراً، وعلى الخيل ورقاء، ونزل هو، فوضع بين الرجال على سرير، وقال: قاتلوا عن أميركم إن شئتم أو فروا عنه، وهو يأمر الناس بما يفعلون، ثم يغمى عليه ثم يفيق.
واقتتل الناس عند فلق الصبح يوم عرفة واشتد قتالهم إلى ارتفاع الضحى، فانهزم أهل الشام وأخذ عسكرهم وانتهى أصحاب يزيد إلى ربيعة بن مخارق وقد انهزم عنه أصحابه وهو نازل ينادي: يا أولياء الحق أنا ابن مخارق، إنما تقاتلون العبيد الأباق ومن ترك الإسلام وخرج منه! فاجتمع إليه جماعة فقاتلوا معه، فاشتد القتال، ثم انهزم أهل الشام وقتل ربيعة بن مخارق، قتله عبد الله ابن ورقاء الأسدي وعبد الله بن ضمرة العذري، فلم يسر المنهزمون غير ساعة حتى لقيهم عبد الله بن جملة في ثلاثة آلاف فرد معه المنهزمين.
ونزل يزيد بباتلى فباتوا ليلتهم يتحارسون، فلما أصبحوا يوم الأضحى خرجوا إلى القتال فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم نزلوا فصلوا الظهر، ثم عادوا إلى القتال فانهزم أهل الشام وترك ابن جملة في جماعة فقاتل قتالاً شديداً، فحمل عليه عبد الله بن قراد الخثعمي فقتله، وحوى أهل الكوفة عسكرهم وقتلوا فيهم قتلاً ذريعاً وأسروا منهم ثلاثمائة أسير، وأمر يزيد بن أنس بقتلهم، وهو بآخر رمق، فقتلوا، ثم مات آخر النهار، فدفنه أصحابه وسقط في أيديهم.
وكان قد استخلف ورقاء بن عازب الأسدي، فصلى عليه ثم قال لأصحابه: ماذا ترون؟ إنه قد بلغني أن ابن زياد قد أقبل إليكم في ثمانين ألفاً، وإنما أنا رجل منكم فأشيروا علي فإني لا أرى لا بأهل الشام طاقة على هذه الحال وقد هلك يزيد وتفرق عنا بعض من معنا، فلو انصرفنا اليوم من تلقاء أنفسنا لقالوا: إنما رجعنا عنهم لموت أميرنا ولم يزالوا لنا هائبين، وإن لقيناهم اليوم كنا مخاطرين، فإن هزمونا اليوم لم تنفعنا هزيمتنا إياهم بالأمس. فقالوا: نعم ما رأيت. فانصرفوا.
فبلغ ذلك المختار وأهل الكوفة، فأرجف الناس بالمختار وقالوا: إن يزيد قت، ولم يصدقوا أنه مات. فدعا المختار إبراهيم بن الأشتر وأمره على سبعة آلاف وقال له: سر فإذا لقيت جيش يزيد بن أنس فأنت الأمير عليهم فارددهم معك حتى تلقى ابن زياد وأصحابه فتناجزهم. فخرج إبراهيم فعسكر بحمام أعين وسار، فلما سار اجتمع أشراف الكوفة عند شبث بن ربعي وقالوا: والله إن المختار تأمر علينا بغير رضى منا، ولقد أدنى موالينا فحملهم على الدواب وأعطاهم فيئنا. وكان شبث شيخهم، وكان جاهلياً إسلامياً، فقال لهم شبث: دعوني حتى ألقاه.
فذهب إليه فلم يدع شيئاً أنكروه إلا ذكره له، فأخذ لا يذكر خصلة إلا قال له المختار: أنا أرضيهم في هذه الخصلة وآتي لهم كل ما أحبوا، وذكر له الموالي ومشاركتهم في الفيء، فقال له: إن أنا تركت مواليكم وجعلت فيئكم لكم تقاتلون معي بني أمية وابن الزبير وتعطوني على الوفاء عهد الله وميثاقه وما أطمئن إليه من الأيمان؟ فقال شبث: حتى أخرج إلى أصحابي فأذكر لهم ذلك. فخرج إليهم فلم يرجع إليه وأجمع رأيهم على قتاله.
فاجتمع شبث بن ربعي ومحمد بن الأشعث وعبد الرحمن بن سعيد بن قيس وشمر حتى دخلوا على كعب بن أبي كعب الخثعمي فكلموه في ذلك، فأجابهم إليه، فخرجوا من عنده حتى دخلوا على عبد الرحمن بن مخنف الأزدي فدعوه إلى ذلك، فقال لهم: إن أطعتموني لم تخرجوا. فقالوا له: لم؟ فقال: لأني أخاف أن تتفرقوا وتختلفوا ومع الرجل شجعانكم وفرسانكم مثل فلان وفلان، ثم معه عبيدكم ومواليكم وكلمة هؤلاء واحدة، ومواليكم أشد حنقاً عليكم من عدوكم، فهم مقاتلوكم بشجاعة العرب وعداوة العجم، وإن انتظرتموه قليلاً كفيتموه بقدوم أهل الشام أو مجيء أهل البصرة فتكفونه بغيركم ولم تجعلوا بأسكم بينكم. فقالوا: ننشدك الله أن تخالفنا وتفسد علينا رأينا وما أجمعنا عليه! فقال: إنما أنا رجل منكم، فإذا شئتم فاخرجوا.
فوثبوا بالمختار بعد مسير إبراهيم بن الأشتر وخرجوا بالجبابين كل رئيس بجبانة. فلما بلغ المختار خروجهم أرسل قاصداً مجداً إلى إبراهيم بن الأشتر، فلحقه وهو بساباط يأمره بالرجوع والسرعة، وبعث المختار إليهم في ذلك: أخبروني ماذا تريدون فإني صانع كل ما أحببتم. قالوا: نريد أن تعتز لنا فإنك زعمت أن ابن الحنفية بعثك ولم يبعثك. قال: فأرسلوا إليه وفداً من قبلكم وأرسل أنا إليه وفداً، ثم انظروا في ذلك حتى يظهر لكم. وهو يريد أن يرثيهم بهذه المقالة حتى يقدم عليه إبراهيم بن الأشتر، وأمر أصحابه فكفوا أيديهم، وقد أخذ عليهم أهل الكوفة بأفواه السكك فلا يصل إليهم شيء إلا القليل. وخرج عبد الله بن سبيع في الميدان فقاتله بنو شاكر قتالاً شديداً، فجاءه عقبة بن طارق الجشمي فقاتل معه ساعة حتى ردهم عنه، ثم أقبل فنزل عقبة مع شمر ومعه قيس عيلان في جبانة سلول، ونزل عبد الله بن سبيع مع أهل اليمن في جبانة السبيع.
ولما سار رسول المختار وصل إلى ابن الأشتر عشية يومه، فرجع ابن الأشتر بقية عشيته تلك الليلة، ثم نزل حتى أمسى وأراحوا دوابهم قليلاً ثم سار ليلته كلها ومن الغد فوصل العصر وبات ليلته في المسجد ومعه من أصحابه أهل القوة. ولما اجتمع أهل اليمن بجبانة السبيع حضرت الصلاة، فكره كل رأس من أهل اليمن أن يتقدمه صاحبه، فقال لهم عبد الرحمن بن مخنف: هذا أول الاختلاف، قدموا الرضى فيكم سيد القراء رفاعة بن شداد البجلي، ففعلوا، فلم يزل يصلي بهم حتى كانت الوقعة.
ثم إن المختار عبأ أصحابه في السوق وليس فيه بنيان، فأمر ابن الأشتر فسار إلى مضر وعليهم شبث بن ربعي ومحمد بن عمير بن عطارد وهم بالكناسة، وخشي أن يرسله إلى أهل اليمن فلا يبالغ في قتال قومه. وسار المختار نحو أهل اليمن بجبانة السبيع ووقف عند دار عمرو بن سعيد وسرح بين يديه أحمر بن شميط البجلي وعبد الله بن كامل الشاكري وأمر كلاً منهما بلزوم طريقٍ ذكره له يخرج إلى جبانة السبيع وأسر إليهما أن شباماً قد أرسلوا إليه يخبرونه أنهم يأتون القوم من ورائهم، فمضيا كما أمرهما.
فبلغ أهل اليمن مسيرهما فافترقوا إليهما واقتتلوا أشد قتال رآه الناس، ثم انهزم أصحاب أحمر بن شميط وأصحاب ابن كامل ووصلوا إلى المختار، فقال: ما وراءكم؟ قالوا: هزمنا وقد نزل أحمر بن شميط ومعه ناس من أصحابه. وقال أصحاب ابن كامل: ما ندري ما فعل ابن كامل.
فأقبل بهم المختار نحو القوم حتى بلغ دار أبي عبد الله الجدلي، فوقف ثم أرسل عبد الله بن قراد الخثعمي في أربعمائة إلى ابن كامل وقال له: إن كان قد هلك فأنت مكانه وقاتل القوم، وإن كان حياً فاترك عنده ثلاثمائة من أصحابك وامض في مائة حتى تأتي جبانة السبيع فتأتي أهلها من ناحية حمام قطن.
فمضى فوجد ابن كامل يقاتلهم في جماعة من أصحابه قد صبروا معه، فترك عنده ثلاثمائة رجل وسار في مائة حتى أتى مسجد عبد القيس، وقال لأصحابه: إني أحب أن يظهر المختار وأكره أن تهلك أشراف عشيرتي اليوم، ووالله لأن أموت أحب إلي من أن يهلكوا على يدي، ولكن قفوا فقد سمعت أن شباماً يأتونهم من ورائهم فلعلهم يفعلون ذلك ونعافى نحن منه. فأجابه إلى ذلك فبات عند مسجد عبد القيس.
وبعث المختار مالك بن عمرو النهدي، وكان شجاعاً، وعبد الله بن شريك النهدي في أربعمائة إلى أحمر بن شميط، فانتهوا إليه وقد علاه القوم وكثروه، فاشتد قتالهم عند ذلك.
وأما ابن الأشتر فإنه مضى إلى مضر فلقي شبث بن ربعي ومن معه، فقال لهم إبراهيم: ويحكم انصرفوا فما أحب أن يصاب من مضر على يدي. فأبوا وقاتلوه، فهزمهم وجرح حسان بن فائد العبسي فحمل إلى أهله فمات، فكان مع شبث، وجاءت البشارة إلى المختار بهزيمة مضر، فأرسل إلى أحمر بن شميط وابن كامل يبشرهما، فاشتد أمرهما.
فاجتمع شبام، وقد رأسوا عليهم أبا القلوص، ليأتوا أهل اليمن من ورائهم، فقال بعضهم لبعض: لو جعلتم جدكم على مضر وربيعة لكان أصوب، وأبوا القلوص ساكتٌ، فقالوا: ما تقول؟ فقال: قال الله تعالى: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) التوبة: 123، فساروا معه نحو أهل اليمن، فلما خرجوا إلى جبانة السبيع لقيهم على فم السكة الأعسر الشاكري فقتلوه ونادوا في الجباة، وقد دخلوها: يا لثارات الحسين! فسمعها يزيد بن عمير بن ذي مران الهمداني فقال: يا لثارات عثمان! فقال لهم رفاعة بن شداد: ما لنا ولعثمان! لا أقاتل مع قوم يبغون دم عثمان. فقال له ناس من قومه: جئت بنا وأطعناك حتى إذا رأينا قومنا تأخذهم السيوف قلت انصرفوا ودعوهم! فعطف عليهم وهو يقول، شعر:
أنا ابن شدادٍ على دين علي ... لست لعثمان بن أروى بولي
لأصلين اليوم فيمن يصطلي ... بحر نار الحرب غير مؤتل
فقاتل حتى قتل.
وكان رفاعة مع المختار، فلما رأى كذبه أراد قتله غيلةً، قال: فمنعني قول النبي، صلى الله عليه وسلم: (من ائتمنه رجل على دمه فقتله فأنا منه بريءٌ).
فلما كان هذا اليوم قاتل مع أهل الكوفة، فلما سمع يزيد بن عمير يقول: يا لثارات عثمان، عاد عنهم فقاتل مع المختار حتى قتل؛ وقتل يزيد بن عمير بن ذي مران والنعمان بن صهبان الجرمي، وكان ناسكاً، وقتل الفرات بن زحر بن قيس، وجرح أبوه زحر، وقتل عبد الله بن سعيد بن قيس، وقتل عمر بن مخنف، وقاتل عبد الرحمن بن مخنف حتى جرح وحملته الرجال على أيديهم وما يشعر، وقاتل حوله رجالٌ من الأزد، وانهزم أهل اليمن هزيمةً قبيحةً، وأخذ من دور الوادعيين خمسمائة أسير فأتى بهم المختار مكتفين، فأمر المختار بإحضارهم وعرضهم عليه، وقال: انظروا من شهد منهم قتل الحسين فأعلموني. فقتل كل من شهد قتل الحسين، فقتل منهم مائتين وثمانية وأربعين قتيلاً، وأخذ أصحابه يقتلون كل من كان يؤذيهم.
فلما سمع المختار بذلك أمر بإطلاق كل من بقي من الأسارى وأخذ عليهم المواثيق أن لا يجامعوا عليه عدواً ولا يبغوه وأصحابه غائلة، ونادى منادي المختار: من أغلق بابه فهو آمن إلا من شرك في دماء آل محمد، صلى الله عليه وسلم.
وكان عمرو بن الحجاج الزبيدي ممن شهد قتل الحسين فركب راحلته وأخذ طريق واقصة فلم ير له خبر حتى الساعة، وقيل: أدركه أصحاب المختار وقد سقط من شدة العطش فذبحوه وأخذوا رأسه.
ولما قتل فرات بن زحر بن قيس أرسلت عائشة بنت خليفة بن عبد الله الجعفية، وكانت امرأة الحسين، إلى المختار تسأله أن يأذن لها في دفنه، ففعل، فدفنته.
وبعث المختار غلاماً له يدعى زربي في طلب شمر بن ذي الجوشن ومعه أصحابه، فلما دنوا منه قال شمر لأصحابه: تباعدوا عني لعلي يطمع في، فتباعدوا عنه، فطمع زربي عن أصحابه ثم حمل عليه شمر فقتله، وسار شمر حتى نزل مساء ساتيدما، ثم سار حتى نزل منه قرية يقال لها الكلتانية على شاطىء نهر إلى جانب تل، ثم أرسل إلى أهل تلك القرية فأخذ منها علجاً فضربه وقال: امض بكتابي هذا إلى مصعب بن الزبير. فمضى العلج حتى دخل قرية فيها أبو عمرة صاحب المختار، وكان قد أرسله المختار إلى تلك القرية ليكون مسلحة بينه وبين أهل البصرة، فلقي ذلك العلج علجاً آخر من تلك القرية فشكا إليه ما لقي من شمر، فبينا هو يكلمه إذ مر به رجل من أصحاب أبي عمرة اسمه عبد الرحمن بن أبي الكنود فرأى الكتاب وعنوانه: لمصعب بن الزبير من شمر، فقالوا للعلج: أين هو؟ فأخبرهم، فإذا ليس بينه وبينهم إلا ثلاثة فراسخ، قال: فأقبلوا يسيرون إليه. وكان قد قال لشمر أصحابه: لو ارتحلت بنا من هذه القرية فإنا نتخوف بها. فقال: أوكل هذا فزعاً من الكذاب! والله لا أتحول منها ثلاثة أيام، ملأ الله قلوبهم رعباً. فإنهم لنيام إذ سمع وقع الحوافر، فقالوا في أنفسهم: هذا صوت الدبا، ثم اشتد، فذهب أصحابه ليقوموا فإذا بالخيل قد أشرفت من التل، فكبروا وأحاطوا بالأبيات، فولى أصحابه هاربين وتركوا خيولهم، وقام شمر وقد اتزر ببرد، وكان أبرص، فظهر بياض برصه من فوق البرد وهو يطاعنهم بالرمح وقد عجلوه عن لبس ثيابه وسلاحه، وكان أصحابه قد فارقوه، فلما أبعدوا عنه سمعوا التكبير وقائلاً يقول: قتل الخبيث، قتله ابن أبي الكنود، وهو الذي رأى الكتاب مع العلج، وألقيت جثته للكلاب، قال: وسمعته بعد أن قاتلنا بالرمح ثم ألقاه وأخذ السيف فقاتلنا به وهو يرتجز، شعر:
نبهتم ليث عرين باسلا ... جهماً محياه يدق الكاهلا
لم ير يوماً عن عدوٍ ناكلا ... إلا كذا مقاتلاً أو قاتلا
ينزحهم ضرباً ويروي العاملا
وأقبل المختار إلى القصر من جبانة السبيع ومعه سراقة بن مرداس البارقي أسيراً فناداه، شعر:
امنن علي اليوم يا خير معد ... وخير من حل بنجر والجند
وخير من لبى وحيا وسجد
فأرسله المختار إلى السجن ثم أحضره من الغد، فأقبل إليه وهو يقول، شعر:
ألا أبلغ أبا إسحاق أنا ... نزونا نزوةً كانت علينا
خرجنا لا نرى الضعفاء شيئاً ... وكان خروجنا بطراً وحينا
لقينا منهم ضرباً طلحفاً ... وطعناً صائباً حتى انثينا
كنصر محمدٍ في يوم بدرٍ ... ويوم الشعب إذ لاقى حنينا
فأسجح إذ ملكت فلو ملكنا ... لجرنا في الحكومة واعتدينا
تقبل توبةً مني فإني ... سأشكر إن جعلت النقد دينا
قال: فلما انتهى إلى المختار قال: أصلح الله الأمير، أحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت الملائكة تقاتل معك على الخيول البلق بين السماء والأرض. فقال له المختار: اصعد المنبر فأعلم الناس. فصعد فأخبرهم بذلك ثم نزل، فخلا به المختار فقال له: إني قد علمت أنك لم تر شيئاً وإنما أردت ما قد عرفت أن لا أقتلك، فاذهب عني حيث شئت لا تفسد علي أصحابي؛ فخرج إلى البصرة فنزل عند مصعب وقال، شعر:
ألا أبلغ أبا إسحاق أني ... رأيت البلق دهماً مصمتات
كفرت بوحيكم وجعلت نذراً ... علي قتالكم حتى الممات
أرى عيني ما لم تبصراه ... كلانا عالمٌ بالترهات
وقتل يومئذٍ عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، وادعى قتله سعر بن أبي سعر، وأبو الزبير الشبامي، وشبام من همدان، ورجل آخر، فقال ابن عبد الرحمن لأبي الزبير الشبامي: أتقتل أبي عبد الرحمن سيد قومك؟ فقرأ: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) الآية المجادلة: 22.
وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلاً من قومه، وكان أكثر القتل ذلك اليوم في أهل اليمن. وكانت الوقعة لست ليال بقين من ذي الحجة سنة ست وستين.
وخرج أشراف الناس فلحقوا بالبصرة، وتجرد المختار لقتلة الحسين، وقال: ما من ديننا أن نترك قتلة الحسين أحياء، بئس ناصر آل محمد، صلى الله عليه وسلم، أنا إذاً في الدنيا، أنا إذاً الكذاب كما سموني، وإني أستعين بالله عليهم فسموهم لي، ثم اتبعوهم حتى تقتلوهم، فإني لا يسوغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الأرض مهم. فدل على عبد الله بن أسيد الجهني ومالك بن بشير البدي وحمل بن مالك المحاربي، فبعث إليهم المختار فأحضرهم من القادسية، فلما رآهم قال: يا أعداء الله ورسوله! أين الحسن بن علي؟ أدوا إلي الحسين، قتلتم من أمرتم بالصلاة عليهم. فقالوا: رحمك الله! بعثا كارهين فامنن علينا واستبقنا. فقال لهم: هلا مننتم على الحسين ابن بنت نبيكم فاستبقيتموه وسقيتموه؟ وكان البدي صاحب برنسه فأمر بقطع يديه ورجليه وترك يضطرب حتى مات، وقتل الآخرين وأمر بزياد بن مالك الضبعي وبعمران بن خالد القشيري وبعبد الرحمن بن أبي خشارة البجلي وبعبد الله بن قيس الخولاني فأحضروا عنده، فلما رآهم قال: يا قتلة الصالحين وقتلة سيد شباب أهل الجنة، قد أقاد الله منكم اليوم، لقد جاءكم الورس في يوم نحس. وكانوا نهبوا من الورس الذي كان مع الحسين. ثم أمر بهم فقتلوا.
وأحضر عنده: عبد الله وعبد الرحمن ابنا صلخت وعبد الله بن وهب بن عمرو الهمداني، وهو ابن عم أعشى همدان، فأمر بقتلهم، فقتلوا، وأحضر عنده: عثمان بن خالد بن أسيد الدهماني الجهني وأبو أسماء بشر بن شميط القانصي، وكانا قد اشتركا في قتل عبد الرحمن بن عقيل وفي سلبه، فضرب أعناقهما وأحرقا بالنار.
ثم أرسل إلى خولي بن يزيد الأصبحي، وهو صاحب رأس الحسين، فاختفى في مخرجه، فدخل أصحاب المختار يفتشون عليه، فخرجت امرأته، واسمها العيوف بنت مالك، وكات تعاديه منذ جاء برأس الحسين، فقالت لهم: ما تريدون؟ فقالوا لها: أين زوجك؟ قالت: لا أدري، وأشارت بيدها إلى المخرج، فدخلوا فوجدوه وعلى رأسه قوصرة، فأخرجوه وقتلوه إلى جانب أهله وأحرقوه بالنار.
ذكر مقتل عمر بن سعد وغيره
ممن شهد قتل الحسينثم إن المختار قال يوماً لأصحابه: لأقتلن غداً رجلاً عظيم القدمين غائر العينين مترف الحاجبين يسر قتله المؤمنين والملائكة المقربين. وكان عنده الهيثم بن الأسود النخعي، فعلم أنه يعني عمر بن سعد، فرجع إلى منزله وأرسل إلى عمر مع ابنه العريان يعرفه ذلك، فلما قاله له قال: جزى الله أباك خيراً، كيف يقتلني بعد العهود والمواثيق؟ وكان عبد الله بن جعدة بن هبيرة أكرم الناس على المختار لقرابته بعلي، وكلمه عمر بن سعد ليأخذ له أماناً من المختار، ففعل وكتب له المختار أماناً وشرط فيه أن لا يحدث، وعنى بالحدث دخول الخلاء، ثم إن عمر بن سعد خرج من بيته بعد عود العريان عنه فأتى حمامه فأخبر مولى له بما كان منه وبأمانه. فقال له مولاه: وأي حدث أعظم مما صنعت؟ تركت أهلك ورحلك وأتيت إلى هاهنا، ارجع ولا تجعل عليك سبيلاً. فرجع وأتى المختار فأخبره بانطلاقه، فقال: كلا، إن في عنقه سلسلة سترده. وأصبح المختار فبعث إليه أبا عمرة فأتاه وقال: أجب الأمير. فقام عمر فعثر في جبة له، فضربه أبو عمرة بسيفه فقتله وأخذ رأسه فأحضره عند المختار. فقال المختار لابنه حفص بن عمر وهو جالسٌ عنده: أتعرف من هذا. قال: نعم ولا خير في العيش بعده! فأمر به فقتل، وقال المختار: هذا بحسين وهذا بعلي بن الحسين ولا سواء، والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامله.
وكان السبب في تهيج المختار على قتله أن يزيد بن شراحيل الأنصاري أتى محمد بن الحنفية وسلم عليه وجرى الحديث إلى أن تذاكرا المختار، فقال ابن الحنفية: إنه يزعم أنه لنا شيعة وقتلة الحسين عنده على الكراسي يحدثونه.
فلما عاد يزيد أخبر المختار بذلك، فقتل عمر بن سعد وبعث برأسه ورأس ابنه إلى ابن الحنفية وكتب إليه يعلمه أنه قد قتل من قدر عليه، وأنه في طلب الباقين ممن حضر قتل الحسين.
قال عبد الله بن شريك: أدركت أصحاب الأزدية المعلمة وأصحاب البرانس السود من أصحاب السواري إذا مر بهم عمرو بن سعد قالوا: هذا قاتل الحسين، وذلك قبل أن يقتله. وقال ابن سيرين: قال علي لعمر بن سعد: كيف أنت إذا قمت مقاماً تخير فيه بين الجنة والنار فتختار النار؟
ثم إن المختار أرسل إلى حكيم بن طفيل الطائي، وكان أصاب سلب العباس بن علي ورمى الحسين بسهم، وكان يقول: تعلق سهمي بسرباله وما ضره، فأتاه أصحاب المختار فأخذوه، وذهب أهله فشفعوا بعدي بن حاتم، فكلمهم عدي فيه، فقالوا: ذلك إلى المختار. فمضى عدي إلى المختار ليشفع فيه، وكان المختار قد شفعه في نفر من قومه أصابهم يوم جبانة السبيع، فقالت الشيعة: إنا نخاف أن يشفعه المختار فيه، فقتلوه رمياً بالسهام كما رمى الحسين حتى صار كأنه القنفذ؛ ودخل عدي بن حاتم على المختار، فأجلسه معه، فشفع فيه عدي، فقال المختار: أتستحل أن تطلب في قتلة الحسين؟ فقال عدي: إنه مكذوبٌ عليه. قال: إذاً ندعه لك.
فدخل ابن كامل فأخبر المختار بقتله، فقال: ما أعجلكم إلى ذلك؟ ألا أحضرتموه عندي؟ وكان قد سره قتله. فقال ابن كامل: غلبتني عليه الشيعة. فقال عدي لابن كامل: كذبت ولكن ظننت أن من هو خير منك سيشفعني فقتلته. فسبه ابن كامل، فنهاه المختار عن ذلك.
وبعث المختار إلى قاتل علي بن الحسين، وهو مرة بن منقذ من عبد القيس، وكان شجاعاً، فأحاطوا بداره، فخرج إليهم على فرسه وبيده رمحه فطاعنهم فضرب على يده وهرب منهم فنجا ولحق بمصعب بن الزبير وشلت يده بعد ذلك.
وبعث المختار إلى زيد بن رقاد الحباني، كان يقول: لقد رميت فتىً منهم بسهم وكفه على جبهته يتقي النبل فأثبت كفه في جبهته فما استطاع أن يزيل كفه عن جبهته، وكان ذلك الفتى عبد الله بن مسلم بن عقيل، وإنه قال حين رميته: اللهم إنهم استقلونا واستذلونا فاقتلهم كما قتلونا! ثم إنه رمى الغلام بسهم آخر وكان يقول: جثته وهو ميت فنزعت سهمي الذي قتلته به من جوفه، فلم أزل أنضنضه من جبهته حتى أخذته وبقي النصل؛ فلما أتاه أصحاب المختار خرج إليهم بالسيف، فقال لهم ابن كامل: لا تطعنوه ولا تضربوه بالسيف ولكن ارموه بالنبل والحجارة. ففعلوا ذلك به، فسقط، فأحرقوه حياً.
وطلب المختار سنان بن أنس الذي كان يدعي قتل الحسين، فرآه قد هرب إلى البصرة، فهدم داره.
وطلب عبد الله بن عقبة الغنوي فوجده قد هرب إلى الجزيرة، فهدم داره، وكان قد قتل منهم غلاماً. وطلب آخر من بني أسد يقال له حرملة بن الكاهن، كان قد قتل رجلاً من أهل الحسين ففاته.
وطلب أيضاً رجلاً من خثعم اسمه عبد الله بن عروة الخثعمي، كان يقول: رميت فيهم باثني عشر سهماً؛ ففاته ولحق بمصعب بن الزبير، فهدم داره.
وطلب أيضاً عمرو بن الصبيح الصدائي، كان يقول: لقد طعنت فيهم وجرحت وما قتلت منهم أحداً، فأتي ليلاً فأخذ وأحضر عند المختار، فأمر بإحضار الرماح وطعن بها حتى مات.
وأرسل إلى محمد بن الأشعث، وهو في قرية له إلى جنب القادسية، فطلبوه فلم يجدوه، وكان قد هرب إلى مصعب، فهدم المختار داره وبنى بلبنها وطينها دار حجر بن عدي الكندي، كان زياد قد هدمها.
بحير بن ريسان بفتح الباء الموحدة، وكسر الحاء المهملة. شبام بكسر الشين المعجمة، والباء الموحدة: بطن من همدان؛ وهمدان بسكون الميم، وبالدال المهملة. وسعر بكسر السين المهملة. وأحمر بن شميط بالحاء المهملة، والراء المهملة، وشميط بالشين المعجمة. وشبث بفتح الشين المعجمة واباء الموحدة. جبانة أثير بضم الهمزة، وبالثاء المثلثة، وبالياء المثناة من تحت، وبالراء المهملة. عتيبة بن النهاس بالعين المهملة، وبالتاء المثناة من فوق، ثم بالياء المثناة من تحت، وبالباء الموحدة. حسان بن فائد بالفاء.
ذكر بيعة المثنى العبدي للمختار بالبصرةوفي هذه السنة دعا المثنى بن مخربة العبدي بالبصرة إلى بيعة المختار، وكان ممن شهد عين الوردة مع سليمان بن صرد، ثم رجع فبايع للمختار، فسيره إلى البصرة يدعو بها إليه، فقدم البصرة ودعا بها، فأجابه رجال من قومه وغيرهم، ثم أتى مدينة الرزق فعسكر عندها، وجمعوا الميرة بالمدينة، فوجه إليهم القباع أمير البصرة، ودعا بها عباد بن حصين، وهو على شرطته، وقيس بن الهيثم في الشرط والمقاتلة، فخرجوا إلى السبخة، ولزم الناس بيوتهم فلم يخرج أحد، وأقبل عباد فيمن معه، فتواقف هو والمثنى، فسار عباد نحو مدينة الرزق وترك قيساً مكانه.
فلما أتى عباد مدينة الرزق أصعد على سورها ثلاثين رجلاً وقال لهم: إذا سمعتم التكبير فكبروا، ورجع عباد إلى قيس، وأنشبوا القتال مع المثنى، وسمع الرجال الذين في دار الرزق التكبير فكبروا، وهرب من كان بالمدينة، وسمع المثنى التكبير من ورائهم فهرب فيمن معه، فكف عنهم قيس وعباد ولم يتبعاهم.
وأتى المثنى قومه عبد القيس، فأرسل القباع عسكراً إلى عبد القيس ليأتوه بالمثنى ومن معه. فلما رأى زياد بن عمرو العتكي ذكل أقبل إلى القباع فقال له: لتردن خيلك عن إخواننا أو لنقاتلنهم. فأرسل القباع الأحنف بن قيس وعمر بن عبد الرحمن المخزومي ليصلحا بين الناس، فأصلح الأحنف الأمر على أن يخرج وأصحابه عنهم، فأجابوه إلى ذلك وأخرجوهم عنهم، فسار المثنى إلى الكوفة في نفر يسير من أصحابه.
مخربة بضم الميم، وفتح الخاء المعجمة، وتشديد الراء وكسرها، ثم باء مفتوحة.
ذكر مكر المختار بابن الزبيرفلما أخرج المختار عامل ابن الزبير عن الكوفة، وهو ابن مطيع، سار إلى البصرة وكره أن يأتي ابن الزبير مهزوماً، فلما استجمع للمختار أمر الكوفة أخذ يخادع ابن الزبير، فكتب إليه: قد عرفت مناصحتي إياك وجهدي على أهل عداوتك وما كنت أعطيتني إذا أنا فعلت ذلك من نفسك، فلما وفيت لك لم تف بما عاهدتني عليه، فإن ترد مراجعتي ومناصحتي فعلت، والسلام.
وكان قصد المختار أن يكف ابن الزبير عنه ليتم أمره، والشيعة لا يعلمون بشيء من أمره، فأراد ابن الزبير أن يعلم أسلم هو أم حب، فدعا عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي فولاه الكوفة وقال له: إن المختار سامع مطيع؛ فتجهز بما بين ثلاثين ألف درهم إلى أربعين ألفاً وسار نحو الكوفة. وأتى الخبر إلى المختار بذلك، فدعا المختار زائدة بن قدامة وأعطاه سبعين ألف درهم وقال له: هذا ضعف ما أنفق عمر بن عبد الرحمن في طريقه إلينا، وأمره أن يأخذ معه خمسمائة فارس ويسير حتى يلقاه بالطريق ويعطيه النفقة ويأمره بالعود، فإن فعل وإلا فليره الخيل.
فأخذ زائدة بن قدامة المال وسار حتى لقي عمر فأعطاه المال وأمره بالانصراف، فقال له: إن أمير المؤمنين قد ولاني الكوفة ولابد من إتيانها. فدعا زائدة بالخيل، وكان قد كمنها، فلما رآها قد أقبلت أخذ المال وسار نحو البصرة، فاجتمع هو وابن مطيع في إمارة الحارث بن أبي ربيعة، وذلك قبل وثوب المثنى بن مخربة العبدي بالبصرة.
وقيل: إن المختار كتب إلى ابن الزبير: إني اتخذت الكوفة داراً، فإن سوغتني ذلك وأمرت لي بألف ألف درهم سرت إلى الشام فكفيتك ابن مروان. فقال ابن الزبير: إلى متى أماكر كذاب ثقيف ويماكرني؟ ثم تمثل، شعر:
عاري الجواعر من ثمود أصله ... عبدٌ ويزعم أنه من يقدم
وكتب إليه: والله ولا درهم:
ولا أمتري عبد الهوان ببدرتي ... وإني لآتي الحتف ما دمت أسمع
ثم إن عبد الملك بن مروان بعث عبد الملك بن الحارث بن أبي الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى، وكان المختار قد وادع ابن الزبير ليكف عنه ليتفرغ لأهل الشام. فكتب المختار إلى ابن الزبير: قد بلغني أن ابن مروان قد بعث إليك جيشاً، فإن أحببت أمددتك بمدد.
فكتب إليه ابن الزبير: إن كنت على طاعتي فبايع لي الناس قبلك وعجل إنفاذ الجيش ومرهم ليسيروا إلى من بوادي القرى من جند ابن مروان فليقاتلوهم، والسلام.
فدعا المختار شرحبيل بن ورس الهمداني فسيره في ثلاثة آلاف أكثرهم من الموالي وليس فيهم من العرب إلا سبعمائة رجل، وقال: سر حتى تدخل المدينة، فإذا دخلتها فاكتب إلي بذلك حتى يأتيك أمري. وهو يريد إذا دخلوا المدينة أن يبعث عليهم أميراً ثم يأمر ابن ورس بمحاصرة ابن الزبير بمكة. وخشي ابن الزبير أن يكون المختار إنما يكيده، فبعث من مكة عباس بن سهل بن سعد في ألفين، وأمره أن يستنفر الأعراب، وقال له: إن رأيت القوم على طاعتي وإلا فكايدهم حتى تهلكهم.
فأقبل عباس بن سهل حتى لقي ابن ورس بالرقيم وقد عبأ ابن ورس أصحابه، وأتى عباس وقد تقطع أصحابه، ورأى ابن ورس على الماء وقد عبأ أصحابه، فدنا منهم وسلم عليهم ثم قال لابن ورس سراً: ألستم على طاعة ابن الزبير؟ قال: بلى. قال: فسر بنا على عدوه الذي بوادي القرى. فقال ابن ورس: ما أمرت بطاعتكم إنما أمرت أن آتي المدينة، فإذا أتيتهما رأيت رأيي. فقال له عباس: إن كنتم في طاعة ابن الزبير فقد أمرني أن أسيركم إلى وادي القرى. فقال: لا أتبعك، أقدم المدينة وأكتب إلى صاحبي فيأمرني بأمره. فقال عباس: رأيك أفضل، وفطن لما يريد وقال: إما أنا فسائرٌ إلى وادي القرى.
ونزل عباس أيضاً وبعث إلى ابن ورس بجزائر وغنم مسلخة، وكانوا قد ماتوا جوعاً، فذبحوا واشتغلوا بها واختلطوا على الماء، وجمع عباس من أصحابه نحو ألف رجل من الشجعان وأقبل نحو فسطاط ابن ورس، فلما رآهم نادى في أصحابه، فلم يجتمع إليه مائة رجل حتى انتهى إليه عباس واقتتلوا يسيراً، فقتل ابن ورس في سبعين من أهل الحفاظ، ورفع عباس راية أمانٍ لأصحاب ابن ورس، فأتوها إلا نحو من ثلاثمائة رجل من سليمان بن حمير الهمداني وعباس بن جعدة الجدلي، فظفر ابن سهل منهم بنحو من مائتين فقتلهم وأفلت الباقون فرجعوا، فمات أكثرهم في الطريق.
وكتب المختار بخبرهم إلى ابن الحنفية يقول: إني أرسلت إليك جيشاً ليذلوا لك الأعداء ويحرزوا البلاد فلما قاربوا طيبة فعل بهم كذا وكذا، فإن رأيت أن أبعث إلى المدينة جيشاً كثيفاً وتبعث إليهم من قبلك رجلاً يعلموا أني في طاعتك فافعل فإنك ستجدهم بحقك أعرف وبكم أهل البيت أرأف منهم بآل الزبير، والسلام.
فكتب إليه ابن الحنفية: أما بعد فقد قرأت كتابك وعرفت تعظيمك لحقي وما تنويه من سروري، وإن أحب الأمور كلها إلي ما أطيع الله فيه، فأطع الله ما استطعت، وإني لو أردت القتال لوجدت الناس إلي سراعاً والأعوان لي كثيراً، ولكن أعتزلكم وأصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. وأمره بالكف عن الدماء.
ذكر حال ابن الحنفية مع ابن الزبير
ومسير الجيش من الكوفةثم إن ابن الزبير دعا محمد بن الحنفية ومن معه من أهل بيته وشيعته وسبعة عشر رجلاً من وجوه أهل الكوفة، منهم أبو الطفيل عامر بن واثلة، له صحبة، ليبايعوه، فامتنعوا وقالوا: لا نبايع حتى تجتمع الأمة؛ فأكثر الوقيعة في ابن الحنفية وذمه، فأغلظ له عبد الله بن هانىء الكندي وقال: لئن لم يضرك إلا تركنا ببيعتك لا يضرك شيء، وإن صاحبنا يقول: لو بايعتني الأمة كلها غير سعد مولى معاوية ما قبلته. وإنما عرض بذكر سعد لأن ابن الزبير أرسل إليه فقتله، فسبه عبد الله وسب أصحابه وأخرجهم من عنده، فأخبروا ابن الحنفية بما كان منهم، فأمرهم بالصبر، ولم يلح عليهم ابن الزبير.
فلما استولى المختار على الكوفة وصارت الشيعة تدعو لابن الحنفية، خاف ابن الزبير أن يتداعى الناس إلى الرضا به فألح عليه وعلى أصحابه في البيعة له، فحبسهم بزمزم وتوعدهم بالقتل والإحراق وإعطاء الله عهداً إن لم يبايعوا أن ينفذ فيهم ما توعدهم به، وضرب لهم في ذلك أجلاً.
فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه أن يبعث إلى المختار يعلمه حالهم، فكتب إلى المختار بذلك وطلب منه النجدة. فقرأ المختار الكتاب على الناس وقال: إن هذا مهديكم وصريح أهل بيت نبيكم وقد تركوا محظوراً عليهم كما يحظر على الغنم ينتظرون القتل والتحريق في الليل والنهار، لست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصراً مؤزراً، وإن لم أسرب في أثر الخيل كالسيل يتلوه السيل حتى يحل بابن الكاهلية الويل! يعني ابن الزبير، وذلك أن أم خويلد أبي العوام زهرة بنت عمرو من بني كاهل بن أسد بن خزيمة.
فبكى الناس وقالوا: سرحنا إليه وعجل. فوجه أبا عبد الله الجدلي في سبعين راكباً من أهل القوة، ووجه ظبيان بن عمارة أخا بني تميم ومعه أربعمائة، وبعث معه لابن الحنفية أربعمائة ألف درهم، وسير أبا المعمر في مائة، وهانىء بن قيس في مائة، وعمير بن طارق في أربعين، ويونس بن عمران في أربعين. فوصل أبو عبد الله الجدلي إلى ذات عرق، فأقام بها حتى أتاه عمير ويونس في ثمانين راكباً، فبلغوا مائةً وخمسين رجلاً، فسار بهم حتى دخلوا المسجد الحرام، ومعهم الرايات، وهم ينادون: يا لثارات الحسين! حتى انتهوا إلى زمزم، وقد أعد ابن الزبير الحطب ليحرقهم، وكان قد بقي من الأجل يومان، فكسروا الباب ودخلوا على ابن الحنفية فقالوا: خل بيننا وبين عدو الله ابن الزبير! فقال لهم: إني لا أستحل القتال في الحرم. فقال ابن الزبير: واعجباً لهذه الخشبية! ينعون الحسين كأني أنا قتلته، والله لو قدرت على قتلته لقتلتهم.
وإنما قيل لهم خشبية لأنهم دخلوا مكة وبأيديهم الخشب كراهة إشهار السيوف في الحرم، وقيل: لأنهم أخذوا الحطب الذي أعده ابن الزبير.
وقال ابن الزبير: أتحسبون أني أخلي سبيلهم دون أن يبايع ويبايعوا؟ فقال الجدلي: إي ورب الركن والمقام لتخلين سبيله أو لنجادلنك بأسيافنا جدالاً يرتاب منه المبطلون! فكف ابن الحنفية أصحابه وحذرهم الفتنة.
ثم قدم باقي الجند ومعهم المال حتى دخلوا المسجد الحرام فكبروا وقالوا: يا لثارات الحسين! فخافهم ابن الزبير، وخرج محمد بن الحنفية ومن معه إلى شعب علي وهم يسبون ابن الزبير ويستأذنون محمداً فيه، فأبى عليهم. فاجتمع مع محمد في الشعب أربعة آلاف رجل، فقسم بينهم المال وعزوا وامتنعوا.
فلما قتل المختار تضعضعوا واحتاجوا. ثم إن البلاد استوثقت لابن الزبير بعد قتل المختار، فارسل إلى ابن الحنفية: ادخل في بيعتي وإلا نابذتك. وكان رسوله عروة بن الزبير. فقال ابن الحنفية: بؤساً لأخيك ما ألجه فيما أسخط الله وأغفله عن ذات الله! وقال لأصحابه: إن ابن الزبير يريد أن يثور بنا وقد أذنت لمن أحب الانصراف عنا فإنه لا ذمام عليه منا ولا لوم، فإني عبد الرحمن بن أم الحكم لقيه أصحاب المختار معهم الكرسي يحملونه على بغل أشهب وهم يدعون الله له بالنصر ويستنصرونه، وكان سادن الكرسي حوشب البرسمي، فلما رآهم المختار قال: مقيم حتى يفتح الله بيني وبين ابن الزبير، وهو خير الفاتحين.
فقام إليه أبو عبد الله الجدلي وغيره فأعلموه أنهم غير مفارقيه. وبلغ خبره عبد الملك بن مروان، فكتب إليه يعلمه أنه إن قدم عليه أحسن إليه وأنه ينزل إلى الشام إن أراد حتى يستقيم أمر الناس، فخرج ابن الحنفية وأصحابه إلى الشام، وخرج معه كثير عزة، وهو يقول، شعر:
هديت يا مهدينا ابن المهتدي ... أنت الذي نرضى به ونرتجي
أنت ابن خير الناس بعد النبي ... أنت إمام الحق لسنا نمتري
يا بن عليٍ سر ومن مثل علي
فلما وصل مدين بلغه غدر عبد الملك بعمرو بن سعيد، فندم على إتيانه وخافه، فنزل أيلة، وتحدث الناس بفضل محمد وكثرة عبادته وزهده وحسن هديه. فلما بلغ ذلك عبد الملك ندم على إذنه له في قدومه بلده، فكتب إليه: إنه لا يكون في سلطاني من لم يبايعني.
فارتحل إلى مكة ونزل شعب بن أبي طالب، فأرسل إليه ابن الزبير يأمره بالرحيل عنه، وكتب إلى أخيه مصعب بن الزبير يأمره أن يسير نساء من مع ابن الحنفية، فسير نساء، منهن امرأة أبي الطفيل عامر بن واثلة، فجاءت حتى قدمت عليه، فقال الطفيل، شعر:
إن يك سيرها مصعب ... فإني إلى مصعب متعب
اقود الكتيبة مستلئماً ... كأني أخو عزةٍ أحرب
وهي عدة أبيات.
وألح ابن الزبير على ابن الحنفية بالانتقال إلى مكة، فاستأذنه أصحابه في قتال ابن الزبير، فلم يأذن لهم وقال: اللهم ألبس ابن الزبير لباس الذل والخوف وسلط عليه وعلى أشياعه من يسومهم الذي يسوم الناس.
ثم سار إلى الطائف، فدخل ابن عباس على ابن الزبير وأغلظ له، فجرى بينهما كلام كرهنا ذكره. وخرج ابن عباس أيضاً فلحق بالطائف، ثم توفي، فصلى عليه ابن الحنفية وكبر عليه أربعاً، وبقي ابن الحنفية حتى حصر الحجاج ابن الزبير، فأقبل من الطائف فنزل الشعب، فطلبه الحجاج ليبايع عبد الملك، فامتنع حتى يجتمع الناس.
فلما قتل ابن الزبير كتب ابن الحنفية إلى عبد الملك يطلب منه الأمان له ولمن معه، وبعث إليه الحجاج يأمره بالبيعة، فأبى وقال: قد كتبت إلى عبد الملك فإذا جاءني جوابه بايعت.
وكان عبد الملك كتب إلى الحجاج يوصيه بابن الحنفية، فتركه، فلما قدم رسول ابن الحنفية، وهو أبو عبد الله الجدلي، ومعه كتاب عبد الملك بأمانه وبسط حقه وتعظيم أهله، حضر عند الحجاج وبايع لعبد الملك بن مروان، وقدم عليه الشام وطلب منه أن لا يجعل للحجاج عليه سبيلاً، فأزال حكم الحجاج عنه.
وقيل: إن ابن الزبير أرسل إلى ابن عباس وابن الحنفية أن يبايعا، فقالا: حتى يجتمع الناس على إمام ثم نبايع، فإنك في فتنة. فعظم الأمر بينهما وغضب من ذلك وحبس ابن الحنفية في زمزم وضيق على ابن عباس في منزله واراد إحراقهما، فأرسل المختار جيشاً، كما تقدم، فأزال عنهما ضرار ابن الزبير.
فلما قتل المختار قوي عليهما ابن الزبير وقال: لا تجاوراني. فخرجا إلى الطائف، وأرسل ابن عباس ابنه علياً إلى عبد الملك بالشام وقال: لئن يربني بنو عمي أحب إلي من أن يربني رجل من بني أسد؛ يعني ببني عمه بني أمية لأنهم جميعهم من ولد عبد مناف، ويعني برجل من بني أسد ابن الزبير، فإنه من بني أسد بن عبد العزى بن قصي. ولما وصل علي بن عبد الله بن عباس إلى عبد الملك، سأله عن اسمه وكنيته، فقال: اسمي علي، والكنية أبو الحسن. فقال: لا يجتمع هذا الاسم وهذه الكنية في عسكري، أنت أبو محمد.
ولما وصل ابن عباس إلى الطائف توفي به، وصلى عليه ابن الحنفية.
ذكر الفتنة بخراسانفي هذه السنة كان حصار عبد الله بن خازم من كان بخراسان من بني تميم بسبب قتلهم ابنه محمداً، وقد تقدم ذكره، فلما تفرقت بنو تميم بخراسان، على ما تقدم، أتى قصر فرتنا عدة من فرسانهم ما بين السبعين إلى الثمانين فولوا أمرهم عثمان بن بشر بن المحتفز المازني ومعه شعبة بن ظهير النهشلي وورد بن الفلق العنبري وزهير بن ذؤيب العدوي وجيهان بن مشجعة الضبي والحجاج بن ناشب العدوي ورقية بن الحر في فرسان من تميم وشجعانهم، فحاصرهم ابن خازم، فكانوا يخرجون إليه فيقاتلونه ثم يرجعون إلى القصر.
فخرج ابن خازم يوماً في ستة آلاف، وخرج إليه أهل القصر، فقال لهم عثمان بن بشر: ارجعوا فلن تطيقوه، فحلف زهير بن ذؤئب بالطلاق أنه لا يرجع حتى يتعرض صفوفهم. فاستبطن نهراً قد يبس، فلم يشعر به أصحاب عبد الله حتى حمل عليهم فحط أولهم على آخرهم واستدار وكر راجعاً، واتعبوه يصيحون به، ولم يجسر أحد أن ينزل إليه حتى رجع إلى موضعه، فحمل عليهم فافرجوا له حتى رجع.
فقال ابن خازم لأصحابه: إذا طاعنتم زهيراً فاجعلوا في رماحكم كلاليب ثم علقوها في سلاحه. فخرج إليهم يوماً فطاعنهم فأعلقوا فيه أربعة أرماح بالكلاليب، فالتفت إليهم ليحمل عليهم فاضطربت أيديهم وخلوا رماحهم فعاد يجر اربعة أرماح حتى دخل القصر.
فأرسل ابن خازم إلى زهير يضمن له مائة ألف وميسان طعمة ليناصحه، فلم يجبه. فلما طال الحصار عليهم أرسلوا إلى ابن خازم ليمكنهم من الخروج ليتفرقوا، فقال: لا إلا على حكمي، فأجابوا إلى ذلك. فقال زهير: ثكلتكم أمهاتكم! والله ليقتلنكم عن آخركم، وإن طبتم بالموت نفساً فموتوا كراماً، اخرجوا بنا جميعاً فإما أن تموتوا كرماً وإما أن ينجو بعضكم ويهلك بعضكم، وايم الله لئن شددتم عليهم شدةً صادقةً ليفرجن لكم، فإن شئتم كنت أمامكم، وإن شئتم كنت خلفكم. فأبوا عليه. فقال: ساريكم. ثم خرج هو ورقبة ابن الحر وغلام تركي وابن ظهير فحملوا على القوم حملةً منكرةً، فأفرجوا لهم، فمضوا، فأما زهير فرجع ونجا أصحابه.
فلما رجع زهير إلى من بالقصر قال: قد رأيتم، أطيعوني: قالوا: إنا نضعف عن هذا ونطمع في الحياة. فقال: لا أكون أعجزكم عند الموت. فنزلوا على حكم ابن خازم، فأرسل إليهم فقيدهم وحملوا إليه رجلاً رجلاً، فأراد أن يمن عليهم فأبى عليه ابنه موسى وقال له: إن عفوت عنهم قتلت نفسي، فقتلهم إلا ثلاثة: أحدهم الحجاج بن ناشب، فشفع فيه بعض من معه، فأطلقه، والآخر جيهان بن مشجعة الضبي الذي ألقى نفسه على محمد بن عبد الله، كما تقدم، والآخر رجل من بني سعد من تميم، وهو الذي رد الناس عن ابن خازم يوم لحقوه، وقال: انصرفوا عن فارس مضر.
وقال: ولما أرادوا حمل زهير بن ذؤيب وهو مقيد أبى واعتمد على رمحه فوثب الخندق، ثم أقبل إلى ابن خازم يحجل في قيوده، فجلس بين يديه، فقال له ابن خازم: كيف شكرك إن أطلقتك وأطعمتك ميسان؟ قال: لو لم تصنع بي إلا حقن دمي لشكرتك. فلم يمكنه ابنه موسى من إطلاقه، فقال له أبوه: ويحك نقتل مثل زهير! من لقتال عدو المسلمين؟ من لحمى نساء العرب؟ فقال: والله لو شركت في دم أخي لقتلتك! فأمر بقتله. فقال زهير: إن لي حاجة، لا تقتلني ويخلط دمي بدماء هؤلاء اللئام، فقد نهيتهم عما صنعوا وأمرتهم أن يموتوا كراماً ويخرجوا عليكم مصلتين، وايم الله لو فعلوا لأذعروا بنيك هذا وشغلوه بنفسه عن طلب ثأر أخيه، فأبوا، ولو فعلوا ما قتل منهم رجل حتى يقتل رجالاً. فأمر به ابن خازم فقتل ناحيةً.
فلما بلغ الحريش قتلهم قال:
أعاذل إني لم ألم في قتالهم ... وقد عض سيفي كبشهم ثم صمما
أعاذل ما وليت حتى تبددت ... رجالٌ وحتى لم أجد متقدما
أعاذل أفناني السلاح، ومن يطل ... مقارعة الأبطال يرجع مكلما
أعيني إن أنزفتما الدمع فاسكبا ... دماً لازماً لي دون أن تسكبا دما
أبعد زهيرٍ وابن بشرٍ تتابعا ... ووردٍ أرجي في خراسان مغنما
أعاذ كم من يوم حربٍ شهدته ... أكر إذا ما فارس السوء أحجما
يعني زهير بن ذؤيب، وابن بشر هو عثمان، وورد بن الفلق.
ذكر مسير ابن الأشتر إلى قتال ابن زيادوفي هذه السنة لثمان بقين من ذي الحجة يوم السبت سار إبراهيم بن الأشتر لقتال عبيد الله بن زياد، وكان مسيره بعد فراغ المختار من وقعة السبيع بيومين، وأخرج المختار معه فرسان أصحابه ووجوههم وأهل البصائر منهم ممن له تجربة، وخرج معه المختار يشيعه، فلما بلغ دير
أما ورب المرسلات عرفا ... لنقتلن بعد صفٍ صفا
وبعد ألف قاسطين ألف
ثم ودعه المختار وقال له: خذ عني ثلاثاً: خف الله، عز وجل، في سر امرك وعلانيتك، وعجل السير، وإذا لقيت عدوك فناجزهم ساعة تلقاهم.
ورجع المختار وسار إبراهيم فانتهى إلى أصحاب الكرسي، وهم عكوف عليه قد رفعوا أيديهم إلى السماء يدعون الله، فقال إبراهيم: اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، هذه سنة بني إسرائيل، والذي نفسي بيده، إذ عكفوا على عجلهم، ثم رجعوا وسار إلى قصده.
ذكر حال الكرسي الذي كان المختار يستنصر بهقال الطفيل بن جعدة بن هبيرة: أضقنا إضاقةً شديدة فخرجت يوماً فإذا جار لي زيات عنده كرسيٌّ ركبه الوسخ، فقلت في نفسي: لو قلت للمختار في هذا شيئاً فأخذته من الزيات وغسلته فخرج عود نضار قد شرب الدهن وهو يبص، قال فقلت للمختار: إني كنت أكتمك شيئاً وقد بدا لي أن أذكره لك، إن أبي جعدة كان يجلس على كرسي عندنا ويروي أن فيه أثراً من علي. قال: سبحان الله أخرته إلى هذا الوقت! ابعث به، فأحضرته عنده وقد غشي، فأمر لي باثني عشر ألفاً ثم دعا: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فقال المختار: إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله، وإنه كان في بني إسرائيل التابوت، وإن هذا فينا مثل التابوت. فكشفوا عنه، وقامت السبئية فكبروا.
ثم لم يلبثوا أن أرسل المختار الجند لقتال ابن زياد، وخرج بالكرسي على بغل وقد غشي، فقتل أهل الشام مقتلة عظيمة، فزادهم ذلك فتنة، فارتفعوا حتى تعاطوا الكفر، فندمت على ما صنعت وتكلم الناس في ذلك تعيبه.
وقيل: إن المختار قال لآل جعدة بن هبيرة، وكانت أم جعدة أم هانىء أخت علي بن أبي طالب لأبويه: إيتوني بكرسي علي. فقالوا: والله ما هو عندنا. فقال: لتكونن حمقى، اذهبوا فأتوني به. قال: فظنوا أنهم لا يأتونه بكرسي غلا قال هذا هو وقبله منهم. فأتوه بكرسي، وقبضه منهم، وخرجت شبام وشاكر ورؤوس أصحاب المختار وقد جعلوا عليه الحرير، وكان أول من سدنه موسى بن أبي موسى الأشعري، كان يلم بالمختار لأن أمه أم كلثوم بنت الفضل بن العباس، فعتب الناس على موسى، فتركه وسدنه حوشب البرسمي حتى هلك المختار؛ وقال أعشى همدان في ذلك، شعر:
شهدت عليكم أنكم سبئيةٌ ... وإني بكم يا شرطة الشرك عارف
فأقسم ماكرسيكم بسكينةٍ ... وإن كان قد لفت عليه اللفائف
وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت ... شبامٌ حواليه ونهدٌ وخارف
وإني امرؤٌ أحببت آل محمدٍ ... وتابعت وحياً ضمنته المصاحف
وبايعت عبد الله لما تتابعت ... عليه قريشٌ شمطها والغطارف
وقال المتوكل الليثي:
أبلغ أبا إسحاق إن جئته ... أني بكرسيكم كافر
تروا شبام حول أغواده ... وتحمل الوحي له شاكر
محمرةً أعينهم حوله ... كأنهن الحمص الحادر
ذكر عدة حوادثوحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير.
وكان على المدينة مصعب بن الزبير عاملاً لأخيه عبد الله، وعلى البصرة عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي لابن الزبير أيضاً، كان بالكوفة المختار متغلباً عليها، وبخراسان عبد الله بن خازم.
وفي هذه السنة توفي اسماء بن حارثة الأسلمي، وله صحبة، وهو من أصحاب الصفة، وقيل: بل مات بالبصرة في إمارة ابن زياد. وتوفي جابر بن سمرة وهو ابن أخت سعد بن أبي وقاص، وقيل: مات في إمارة بشر بن هارون. وتوفي أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري سيد قومه.
حارثة بالحاء المهملة، والثاء المثلثة.
المجلد الثالث
ثم دخلت سنة سبع وستين
ذكر مقتل ابن زيادولما سار إبراهيم بن الأشتر من الكوفة أسرع السير ليلقوا بن زياد قبل أن يدخل أرض العراق، وكان ابن زياد قد سار في عسكر عظيم من الشام، فبلغ الموصل وملكها، كما ذكرناه أولاً، فسار إبراهيم وخلف أرض العراق وأوغل في أرض الموصل وجعل على مقدمته الطفيل بن لقيط النخعي، وكان شجاعاً. فلما دنا ابن زياد عبأ أصحابه ولم يسر إلا على تعبية واجتماع، إلا أنه يبعث الطفيل على الطلائع حتى يبلغ نهر الخازر من بلد الموصل فنزل بقرية بارشيا. وأقبل ابن زياد إليه حتى نزل قريباً منهم على شاطئ الخازر وأرسل عمير بن الحباب السلمي، وهو من أصحاب ابن زياد، إلى ابن الأشتر أن القني، وكانت قيس كلها مضطغنة على ابن مروان وقعة مرج راهط، وجند عبد الملك يومئذٍ كلب. فاجتمع عمير وابن الأشتر، فأخبره عمير أنه على ميسرة ابن زياد وواعده أن ينهزم بالناس، فقال له ابن الأستر: ما رأيك؟ أخندق علي وأتوقف يومين أو ثلاثة؟ فقال عمير: لا تفعل، وهل يريدون إلا هذا؟ فإن المطاولة خير لهم، هم كثير أضعافكم وليس يطيق القليل الكثير في المطاولة، ولكن ناجز القوم فإنهم قد ملئوا منكم رعباً، وإن هم شاموا أصحابك وقاتلوهم يوماً بعد يوم ومرة بعد مرة أنسوا بهم واجترأوا عليهم. وقال إبراهيم: الآن علمت أنك لي مناصح وبهذا أوصاني صاحبي. قال عمير: أطعه فإن الشيخ قد ضرسته الحرب وقاس منها ما لم يقاسه أحد، وإذا أصبحت فناهضهم.
وعاد عمير إلى أصحابه وأذكى ابن الأشتر ضرسه ولم يدخل عينه غمض حتى إذا كان السحر الأول عبأ أصحابه وكتائبه وأمر أمراءه، فجعل سفيان بن يزيد الأزدي على ميمنته، وعلي بن مالك الجشمي على ميسرته، وهو أخو أبي الأحوص، وجعل عبد الرحمن بن عبد الله، وهو أخوا إبراهيم بن الأشتر لأمه، على الخيل، وكانت خيله قليلة، وجعل الطفيل بن لقيط على الرجالة، وكانت رايته مع مزاحم بن مالك. فلما انفجر الفجر صلى الصبح بغلس ثم خرج فصف أصحابه وألحق كل أمير بمكانه، ونزل إبراهيم يمشي ويحرض الناس ويمنيهم الظفر، وسار بهم رويداً، فأشرف على تل عظيم مشرف على القوم، وإذا أولئك القوم لم يتحرك منهم أحد، فأرسل عبد الله بن زهير السلولي ليأتيه بخبر القوم، فعاد إليه وقال له: قد خرج القوم على دهش وفشل، لقيني رجل منهم وليس له الكلام إلا: يا شيعة أبي تراب! يا شيعة المختار الكذاب! قال: فقلت له: الذي بيننا أجل من الشتم.
وركب إبراهيم وسار على الرايات يحثهم ويذكر لهم فعل ابن زياد بالحسين وأصحابه وأهل بيته من السبي والقتل ومنع الماء، وحرضهم على قتله.
وتقدم القوم إليه، وقد جعل ابن زياد على ميمنته الحصين بن نمير السكوني، وعلى ميسرته عمير بن الحباب السلمي، وعلى الخيل شر حيل بن ذي الكلاع الحميري. فلما تدانى الصفان حمل الحصين بن نمير في ميمنة أهل الشام على ميسرة إبراهيم، فثبت له علي بن مالك الجشمي فقتل، في رجال من أهل البأس وانهزمت الميسرة، فأخذ الراية عبد الله بن ورقاء بن جنادة السلولي ابن أخي حبشي بن جنادة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبل المنهزمين، فقال: إلي يا شرطة الله. فأقبل إليه أكثرهم. فقال: هذا أميركم يقاتل ابن زياد، ارجعوا بينا إليه. فرجعوا، وإذا إبراهيم كاشف رأسه ينادي: إلي شرطة الله، أنا ابن الأشتر ، إن خير فراركم كراركم، ليس مسيئاً من أعتب. فرجع إليه أصحابه، وحملت ميمنة إبراهيم على ميسرة ابن زياد وهم يرجون أن ينهزم عمير بن الحباب، كما زعم، فقاتلهم عمير قتالاً شديداً وأنف من الفرار. فلما رأى ذلك إبراهيم قال لأصحابه: اقصدوا هذا السواد الأعظم، فو الله لو هزمناه لانجفل من ترون يمنةً ويسرةً انجفال طير ذعرتها. فمشى أصحابه إليهم فتطاعنوا ثم صاروا إلى السيوف والعمد فاضطربوا بها ملياً، وكان صوت الضرب بالحديد كصوت القصارين، وكان إبراهيم يقول لصاحب رايته: انغمس برايتك فيهم. فيقول: ليس لي متقدم. فيقول: بلى، فإذا تقدم شد إبراهيم بسيفه فلا يضرب به رجلاً إلا صرعه، وكره إبراهيم الرجالة من بين يديه كأنهم الحملان، وحمل أصحابه حملة رجل واحد. واشتد القتال فانهزم أصحاب ابن زياد وقتل من الفريقين قتلى كثيرة.
وقيل: إن عمير بن الحباب أول من انهزم، وإنما كان قتاله أولاً تعذيراً.
فلما انهزموا قال إبراهيم: إني قد قتلت رجلا تحت راية منفردة على شاطئ نهر الخازر فالتمسوه فإني شممت منه رائحة المسك، شرقت يداه وغربت رجلاه. فالتمسوه فغذا هو ابن زياد قتيلاً بضربة إبراهيم فقد قدته بنصفين وسقط، كما ذكر إبراهيم، فاخذ رأسه وأحرقت جثته.
وحمل شريك بن جدير التغلبي على الحصين بن نمير السكوني وهو يظنه عبيد الله بن زياد، فاعتنق كل واحد منهما صاحبه، فنادى التغلبي: اقتلوني وابن الزاني فقتلوا الحصين وقيل: إن الذي قتل ابن زياد شريك بن جدير، وكان هذا شريك شهد صفين مع علي وأصيبت عينه، فلما انقضت أيام علي لحق شريك ببيت المقدس فأقام به، فلما قتل الحسين عاهد الله تعالى إن ظهر من يطلب بدمه ليقتلن ابن زياد أو ليموتن دونه. فلما ظهر المختار للطلب بثأر الحسين أقبل إليه وسار مع إبراهيم بن الأشتر، فلما التقوا حمل على خيل الشام يهتكها صفاً صفاً مع أصحابه من ربيعة حتى وصلوا إلى ابن زياد وثار الرهج فلا يسمع إلا وقع الحديد، فانفرجت عن الناس وهما قتيلان شريك وابن زياد. والأول أصح. وشريك هو القائل:
كل عيشٍ قد أراه باطلا ... غير ركز الرمح في ظل الفرس
قال: وقتل شر حبيل بن ذي الكلاع الحميري، وادعى قتله سفيان بن يزيد الأزدي وورقاء بن عازب الأسدي وعبيد الله بن زهير السلمي، وكان عيينة بن أسماء مع ابن زياد، فلما انهزم أصحابه حمل أخته هند بنت أسماء، وكانت زوجة عبيد الله بن زياد، فذهب بها وهو يرتجز:
إن تصرمي حبالنا فربما ... أرديت في الهيجا الكمي المعلما
ولما انهزم أصحاب ابن زياد تبعهم أصحاب إبراهيم، فكان من غرق أكثر ممن قتل، وأصابوا عسكرهم وفيه من كل شيء.
وأرسل إبراهيم البشارة إلى المختار وهو بالمدائن، وأنفذ إبراهيم عماله إلى اللاد، فبعث أخاه عبد الرحمن بن عبيد الله إلى نصيبين وغلب على سنجار ودارا وما والاهما من أرض الجزيرة، فولى زفر بن الحارث قرقيسيا، وحاتم بن النعمان الاهلي حران والرهاء وسميساط وناحيتها، وولى عمير بن الحباب السلمي كفرتوثا وطور عبدين.
وأقام إبراهيم بالموصل، وأنفذ رأس عبيد الله بن زياد إلى المختار ومعه رؤوس قواده، فألقيت في القصر، فجاءت حية دقيقة فتخللت الرؤوس حتى دخلت في فم عبيد الله بن زياد ثم خرجت من منخره ودخلت في منخره وخرجت من فيه، فعلت هذا مراراً؛ أخرج هذا الترمذي في جامعه.
وقال المغيرة: أول من ضرب الزيوف في الإسلام عبيد الله بن زياد، وقال بعض حجاب ابن زياد: دخلت مهع القصر حين قتل الحسين فاضطرم في وجهه ناراً فقال بكمه هكذا على وجهه وقال: لا تحدثن بهذا أحداً.
وقال المغيرة: قالت مرجانة لابنها عبيد الله بعد قتل الحسين: يا خبيث قتلت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ترى الجنة أبداً! وقال ابن مفرغ حين قتل ابن زياد:
إن المنايا إذا ما زرن طاغيةً ... هتكن أستار حجابٍ وأبواب
أقول بعداً وسحقاً عند مصرعه ... لابن الخبيثة وابن الكودن الكابي
لا أنت زوحمت عن ملكٍ فتمنعه ... ولا متت إلى قومٍ بأسباب
لا من نزارٍ ولا من جذم ذي يمنٍ ... جلمود ذا ألقيت من بين ألهاب
لا تقبل الأرض موتاهم إذا قبروا ... وكيف تقبل رجساً بين أثواب؟
وقال سراقة البارقي يمدح إبراهيم بن الأشتر:
أتاكم غلام من عرانين مذحجٍ ... جري على الأعداء غير نكول
فيا ابن زيادٍ بؤبأعظم مالكٍ ... وذق حد ماضي الشفرتين صقيل
جزا الله خيراً شرطة الله إنهم ... شفوا من عبيد الله أمس غليلي
وقال عمير بن الحباب السلمي يذم جيش ابن زياد:
وما كان جيش يجمع الخمر والزنا ... محلاً إذا لا قى العدو لينصرا
ذكر ولاية مصعب بن الزبير البصرةوفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير الحارث بن أبي ربيعة، وهو القباع، عن البصرة واستعمل عليها أخاه مصعباً. فقدمها مصعب ملثماً ودخل المسجد وصعد المنبر، فقال الناس: أمير أمير! وجاء الحارث بن أبي ربيع، وهو الأمير،فسفر مصعب لثامه فعرفوه، وأمر مصعب الحارث بالصعود إليه فأجلسه تحته بدرجة ثم قام مصعب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم " طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون " إلى قوله: " من المفسدين " القصص:1 - 4؛ فأشار بيده نحو الشام و " نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " القصص:5؛ وأشار نحو الحجاز " ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " القصص:6؛وأشار نحو الكوفة، وقال: يا أهل البصرة بلغني أنكم تلقبون أمراءكم وقد لقبت نفسي بالجزار.
ذكر مسير مصعب إلى المختار
وقتل المختارولما هرب أشراف الكوفة من وقعة السبيع أتى جماعة منهم إلى مصعب فأتاه شبث بن ربعي على بغلة قد قطع ذنبها وطرف أنها وشق قباءه وهو ينادي: يا غوثاه! فرفع خبره إلى مصعب، فقال: هذا شبث بن ربعي، فأدخل عليه، فأتاه أشراف الكوفة فدخلوا عليه وأخبروه بما اجتمعوا عليه وسألوه النصر لهم والمسير إلى المختار معهم.
وقدم عليه محمد بن الأشعث أيضاً واستحثه على المسير، فأدناه مصعب وأكرمه لشرفه، وقال لأهل الكوفة حين أكثروا عليه: لا أسير حتى يأتيني المهلب بن أبي صفرة. وكتب إليه، وهو عامله على فارس، يستدعيه ليشهد معهم قتال المختار، فأبطأ المهلب واعتل بشيء من الخراج لكراهية الخروج، فأمر مصعب محمد بن الأشعث أن يأتي المهلب يستحثه، فأتاه محمد ومعه كتاب مصعب، فلما قرأه قال له: أما وجد مصعب بريداً غيرك؟ فقال: ما أنا ببريد لأحد، غير أن نساءنا وأبناءنا وحرمنا غلبنا عليهم عبيدنا.
فأقبل المهلب معه بجموع كثيرة وأموال عظيمة فقدم البصرة، وأمر مصعب بالعسكر عند الجسر الأكبر، وأرسل عبد الرحمن بن مخنف إلى الكوفة فأمره أن يخرج إليه من قدر عليه وأن يثبط الناس عن المختار ويدعوهم إلى بيعة ابن الزبير سراً، ففعل، ودخل بيته مستتراً، ثم سار مصعب فقدم أمامه عباد بن الحصين الحطمي التميمي، وبعث عمر بن عبيد الله بن معمر على ميمنته، والمهلب على ميسرته، وجعل مالك بن مسمع على بكر، ومالك بن المنذر على عبد القيس، والأحنف بن قيس على تميم، وزياد بن عمر العتكي على الأزد، وقيس بن الهيثم على أهل العالية.
وبلغ الخبر المختار فقام في أصحابه فأعلمهم ذلك وندبهم إلى الخروج مع أحمر بن شميط، فخرج وعسكر بحمام أعين، ودعا المختار رؤوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر فبعث مع أحمر بن شميط، فسار وعلى مقدمته ابن كامل الشاكري، فوصلوا إلى المذار، وأتى مصعب فعسكر قريباً منه، وعبأ كل واحد منهما جنده ثم تزاحفا، فجعل ابن شميط ابن كامل على ميمنته، وعلى الميسرة عبد الله بن وهيب الجشمي، وجعل أبا عمرة مولى عرينة على الموالي.
فجاء عبد الله بن وهيب الجشمي إلى ابن شميط فقال له: إن الموالي والعبيد أولو خور عند المصدوقة، وإن معهم رجالاً كثيراً على الخيل وأنت تمشي فمرهم فليمشوا معك فإني أتخوف أن يطيروا عليها ويسلموك. وكان هذا غشاً منه للموالي لما كانوا لقوا منهم بالكوفة، فأحب أن كانت عليهم الهزيمة وأن لا ينجو منهم أحد. فلم يتهمه ابن شميط، ففعل ما أشار به، فنزل الموالي معه.
وجاء مصعب وقد جعل عباد بن الحصين على الخيل، فدنا عباد من أحمر وأصحابه وقال: إنما ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإلى بيعة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير؛ وقال الآخرون: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله وإلى بيعة المختار وإلى أن نجعل هذا الأمر شورى في آل الرسول. فرجع عباد فأخبر مصعباً، فقال له: ارجع فاحمل عليهم. فرجع وحمل على ابن شميط وأصحابه، فلم ينزل منهم أحد، ثم انصرف إلى موقفه، وحمل المهلب على ابن كامل، فجال بعضهم في بعض، فنزل ابن كامل فانصرف عنه المهلب، ثم قال المهلب لأصحابه: كروا عليهم كرةً صادقةً، فحملوا عليهم حملةً منكرة، فولوا، وصبر ابن كامل في رجال من همدان ساعة ثم انهزم، وحمل عمر بن عبيد الله على عبد الله بن أنس، فصبر ساعةً ثم انصرف، وحمل الناس جميعاً على ابن شميط، فقاتل حتى قتل، وتنادوا: يا معشر بجيلة وخثعم الصبر! فناداهم المهلب: الفرار اليوم أنجى لكم، علام تقتلون أنفسكم مع هذه العبيد؟ ثم قال: والله ما أرى كثرة القتل اليوم إلا في قومي.
ومالت الخيل على رجالة ابن شميط فانهزمت، وبعث مصعب عباداً على الخيل، فقال: أيما أسير أخذته فاضرب عنقه. وسرح محمد بن الأشعث في خيل عظيمة من أهل الكوفة فقال: دونكم ثأركم. فكانوا أشد على المنهزيمن من أهل البصرة لا يدركون منهزماً إلا قتلوه، ولا يأخذون أسيراً فيعفون عنه، فلم ينج من ذلك الجيش إلا طائفة أصحاب الخيل، وأما الرجالة فأبيدوا إلا قليلاً.
قال معاوية بن قرة المزني: انتهيت إلى رجل فأدخلت السنان في عينه فأخذت أخضخض عينه به. فقيل له: أفعلت هذا؟ فقال: نعم، إنهم كانوا عندنا أحل دماء من الترك والديلم. وكان معاوية هذا قاضي البصرة.
فلما فرغ مصعب منهم أقبل حتى قطع من تلقاء واسط، ولم تكن بنيت بعد، فأخذ في كسكر، ثم حمل الرجال وأثقالهم والضعفاء في السفن فأخذوا في نهر خرشاد ثم خرجوا إلى نهر قوسان ثم خرجوا إلى الفرات.
وأتى المختار خبر الهزيمة ومن قتل بها من فرسان أصحابه، فقال: ما من الموت بد، وما من ميتة أموتها أحب إلي من أن أموت ميتة ابن شميط. فعلموا أنه إن لم يبلغ مايريد يقاتل حتى يقتل.
ولما بلغه أن مصعباً قد أقبل إليه في البر والبحر سار حتى وصل السيلحين ونظر إلى مجتمع الأنهار: نهر الخريرة ونهر السيلحين ونهر القادسية ونهر رسف، فسكر الفرات فذهب ماؤها في هذه الأنهار وبقيت سفن أهل البصرة في الطين، فلما رأوا ذلك خرجوا من السفن إلى ذلك السكر فأصلحوه وقصدوا الكوفة، وسار المختار إليهم فنزل حروراء وحال بينهم وبين الكوفة، وكان قد حصن القصر والمسجد وأدخل إليه عدة الحصار.
وأقبل مصعب وقد جعل على ميمنته المهلب، وعلى ميسرته عمر بن عبيد الله، وعلى الخيل عباد بن الحصين؛ وجعل المختار على ميمنته سليم بن يزيد الكندي، وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الهمداني، وعل الخيل عمرو بن عبد الله النهدي، وعلى الرجال مالك بن عبد الله النهدي.
وأقبل محمد بن الأشعث فيمن هرب من أهل الكوفة فنزل بين مصعب والمختار. فلما رأى ذلك المختار بعث إلى كل جيش من أهل البصرة رجلاً من أصحابه، وتدانى الناس، فحمل سعيد بن منقذ على بكر وعبد القيس وهم في ميمنة مصعب فاقتتلوا قتالاً شديداً، فأرسل مصعب إلى المهلب ليحمل على من بإزائه، فقال: ما كنت لأجزر الأزد خشية أهل الكوفة حتى أرى فرصتي.
وبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومي، فحمل على من بإزائه، وهم أهل العالية، فكشفهم، فانتهوا إلى مصعب، فجثا مصعب على ركبتيه وبرك الناس عنده فقاتلوا ساعةً وتحاجزوا.
ثم إن المهلب حمل في أصحابه على من بإزائه فحطموا أصحاب المختار حطمة منكرة فكشفوهم. وقال عبد الله بن عمرو النهدي، وكان ممن شهد صفين: اللهم إني على ماكنت عليه بصفين، اللهم أبرأ إليك من فعل هؤلاء، لأصحابه حين انهزموا، وأبرأ إليك من أنفس هؤلاء، يعني أصحاب مصعب، ثم جالد بسيفه حتى قتل.
وانقصف أصحاب المختار كأنهم أجمة قصب فيها نار، وحمل مالك بن عمرو النهدي، وهو على الرجالة، ومعه نحو خمسين رجلاً، وذلك عند المساء، على أصحاب ابن الأشعث حملةً منكرةً، فقتل ابن الأشعث وقتل عامة أصحابه.
وقاتل المختار على فم سكة شبث عامة ليلته وقاتل معه رجال من أهل البأس وقاتلت معه همدان أشد قتال وتفرق الناس عن المختار، فقال له من معه: أيها الأمير اذهب إلى القصر، فجاء حتى دخله، فقال له بعض أصحابه: ألم تكن وعدتنا الظفر وأنا سنهزمهم؟ فقال: أما قرأت في كتاب الله تعالى " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " الرعد:39. فقيل: إن المختار أول من قال بالبداء.
فلما أصبح مصعب أقبل يسير فيمن معه نحو السبخة، فمر بالمهلب، فقال له المهلب: يا له فتحاً ما أهنأه لو لم يقتل محمد بن الأشعث. قال: صدقت. ثم قال مصعب للمهلب: إن عبيد الله بن علي بن أبي طالب قد قتل، فاسترجع المهلب، فقال مصعب: قد كنت أحب أن يشهد هذا الفتح، أتدري من قتله؟ إنما قتله من يزعم أنه شيعة لأبيه.
ثم نزل السبخة فقطع عنهم الماء والمادة وقاتلهم المختار وأصحابه قتالاً ضعيفاً، واجترأ الناس عليهم فكانوا إذا خرجوا رماهم الناس من فوق البيوت وصبوا عليهم الماء القذر، وكان أكثر معاشهم من النساء، تأتي المرأة متخفية ومعها القليل من الطعام والشراب إلى أهلها. ففطن مصعب بالنساء فمنعهن، فاشتد على المختار وأصحابه العطش، وكانوا يشربون ماء البئر يعملون فيه العسل فكان ذلك ما يروي بعضهم.
ثم إن مصعباً أمر أصحابه فاقتربوا من القصر واشتد الحصار عيهم، فقال: لهم المختار: ويحكم إن الحصار لا يزيدكم إلا ضعفاً فانزلوا بنا فنقاتل حتى نقتل كراماً إن نحن قتلنا، فو الله ما أنا بآيس إن صدقتموهم أن ينصركم الله. فضعفوا ولم يفعلوا. فقال لهم: أما أنا فوالله لا أعطي بيدي ولا أحكمهم في نفسي، وإذا خرجت فقتلت لم تزدادوا إلا ضعفاً وذلا، فغن نزلتم على حكمهم وثبت أعداؤكم فقتلوكم وبعضكم ينظر إلى بعض فتقولون: يا ليتنا أطعنا المختار، ولو أنكم خرجتم معي كنتم إن أخطأتم الظفر متم كراماً.
فلما رأى عبد الله بن جعدة بن هبيرة ما عزم عليه المختار تدلى من القصر فلحق بناس من إخوانه فاختفى عندهم سراً. ثم إن المختار تطيب وتحنط وخرج من القصر في تسعة عشر رجلاً، منهم السائب بن مالك الأشعري، وكانت تحته عمرة بنت أي موسى الأشعري، فولدت له غلاماً اسمه محمد، فلما أخذ القصر وجد صبياً فتركوه.
فلما خرج المختار قال للسائب: ماذا ترى؟ قال: ما ترى أنت. قال: ويحك يا أحمق إنما أنا رجل من العرب رأيت ابن الزبير قد وثب بالحجاز، ورأيت نجدة وثب باليمامة، ومروان بالشام، وكنت فيها كأحدهم، إلا أني قد طلبت بثأر أهل البيت إذ نامت عنه العرب، فقاتل على حسبك إن لم يكن لك نية. فقال: إنا الله وإنا إليه راجعون، ما كنت أصنع أن أقاتل على حسبي. ثم تقدم المختار فقاتل حتى قتل، قتله رجلان من بني حنيفة أخوان، أحدهما طرفه، والآخر طراف، ابنا عبد الله بن دجاجة.
فلما كان الغد من قتله دعاهم بحير بن عبد الله المسكي ومن معه بالقصر إلى ما دعاهم المختار فأبوا عليه وأمكنوا أصحاب مصعب من أنفسهم ونزلوا على حكمه، فأخرجهم مكتفين، فأراد إطلاق العرب وقتل الموالي، فأبى أصحابه عليه، فعرضوا عليه فأمر بقتلهم، وعرض عليه بحير المسكي، فقال لمصعب: الحمد الله الذي ابتلانا بالأسر وابتلاك بأن تعفو عنا، هما منزلتان: إحداهما رضاء الله، والأخرى سخطه، من عفا عفا الله عنه وزاد عزاً، ومن عاقب لم يأمن القصاص، يا ابن الزبير نحن أهل قبلتكم وعلى ملتكم ولسنا تركاً ولا ديلماً، فإن خالفنا إخواننا من أهل مصرنا فإما أن نكون أصبنا وأخطأوا، وغما أن نكون أخطأنا وأصابوا، فاقتتلنا بيننا كما اقتتل أهل الشام بينهم ثم اجتمعوا، وكما اقتتل أهل البصرة واصطلحوا واجتمعوا، وقد ملكتم فأسجحوا، وقد قدرتم فاعفوا. فما زال بهذا القول حتى رق لهم الناس ومصعب وأراد أن يخلي سبيلهم.
فقام عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الأشعث فقال: أتخلي سبيلهم؟ اخترنا أو اخترهم. وقام محمد بن عبد الرحمن بن سعيد الهمداني فقال مثله، وقام أشراف الكوفة فقالوا مثلهما، فأمر بقتلهم، فقالوا له: يا ابن الزبير لا تقتلنا واجعلنا على مقدمتك إلى أهل الشام غداً، فما بكم عنا عنىً، فإن قتلنا لم نقتل حتى نضعفهم لكم، وإن ظفرنا بهم كان ذلك لكم. فأبى عليهم. فقال بحير المسكي: لا تخلط دمي بدامائهم إذ عصوني. فقتلهم.
وقال مسافر بن سعيد بن نمران الناعطي: ماتقول يا ابن الزبير لربك غداً وقد قتلت أمةً من المسلمين حكموك في أنفسهم صبراً؟ اقتلوا منا بعدة من قتلنا منكم، ففينا رجال لم يشهدوا موطناً من حربنا يوماً واحداً، كانوا في السواد وجباية الخراج وحفظ الطرق. فلم يسمع منه وأمر بقتله.
ولما أراد قتلهم استشار مصعب الأحنف بن قيس، فقال: أرى أن تعفو، فإن العفو أقرب للتقوى. فقال أشراف أهل الكوفة: اقتلهم، وضجوا، فقتلهم. فلما قتلوا قال الأحنف: ما أدركتم بقتلهم ثأراً، فليته لا يكون في الآخرة وبالاً.
وبعثت عائشة بنت طلحة امرأة مصعب إليه في أطلاقهم، فوجدهم الرسول قد قتلوا.
وأم مصعب بكف المختار بن أبي عبيدة فقطعت وسمرت بمسمار إلى جانب المسجد، فبقيت حتى قدم الحجاج فنظر إليها وسأل عنها عقيل: هذه كف المختار، فأمر بنزعها.
وبعث مصعب عماله على الجبال والسواد وكتب إلى إبراهيم بن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويقول له: إن أطعتني فلك الشام وأعنة الخيل وما غلبت عليه من أرض المغرب ما دام لآل الزبير سلطان، أعطاه عهد الله على ذلك. وكتب عبد الملك بن مروان إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويقول: إن أنت أجبتني فلك العراق. فاستشار إبراهيم أصحابه فاختلفوا، فقال إبراهيم: لو لم أكن أصبت ابن زياد وأشراف الشام لأجبت عبد الملك مع أني لا أختار على أهل مصري وعشيرتي غيرهم. فكتب إلى مصعب بالدخول معه. فكتب إليه مصعب أن أقبل، فأقبل إليه بالطاعة، فلما بلغ مصعباً إقباله إليه بعث المهلب عل عمله بالموصل والجزيرة وأرمينية وأذربيجان.
ثم إن مصعباً دعا أم ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار وعمرة بنت النعمان بن بشير الأنصارية امرأته الأخرى فأحضرهما وسألهما عن المختار. فقالت أم ثابت: نقول فيه بقولك أنت، فأطلقها، وقالت عمرة: رحمة الله، كان عبداً لله صالحاً، فحبسها، وكتب إلى أخيه عبد الله بن الزبير: إنها تزعم أنه نبي، فأمره بقتلها، فقتلت ليلاً بين الكوفة والحيرة، قتلها بعض الشرط ضربها ثلاث ضربات بالسيف وهي تقول: يا أبتاه! يا عثرتاه! فرفع رجل يده فلطم القاتل وقال: يا ابن الزانية عذبتها! ثم تشحطت فماتت، فتعلق الشرطي بالرجل وحمله إلى مصعب، فقال: خلوه فقد رأى أمراً فظيعاً. فقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي في ذلك:
إن من أعجب العجائب عندي ... قتل بيضاء حرةٍ عطبول
قتلت هكذا على غير جرمٍ ... إن لله درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذبول
وقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري في ذلك أيضاً:
أتى راكب بالأمر ذي النبإ العجب ... بقتل ابنه النعمان ذي الدين والحسب
بقتل فتاةٍ ذات دلٍ ستيرةٍ ... مهذبة الأخلاق والخيم والنسب
مطهرةٍ من نسل قومٍ أكارمٍ ... من المؤثرين الخير في سالف الحقب
خليل النبي المصطفى ونصيره ... وصاحبه في الحرب والضرب والكرب
أتاني بأن الملحدين توافقوا ... على قتلها، لا جنبوا القتل ولسلب
فلا هنأت آل الزبير معيشة ... وذاقوا لباس الذل والخوف والحرب
كأنهم إذ أبرزوها وقطعت ... بأسيافهم فازوا بمملكة العرب
ألم تعجب الأقوام من قتل حرةٍ ... من المحصنات الدين محمودة الأدب
من الغافلات المؤمنات بريئةٍ ... من الذم والبهتان والشك والكذب
علينا ديات القتل والبأس واجب ... وهن العفاف في الحجال وفي الحجب
على دين أجدادٍ لها وأبوةٍ ... كرام مضت لم تخز أهلاً ولم ترب
من الخفرات لا خروج بذية ... ولا دمة تنعى على جارها الجنب
ولا الجار ذي القربي ولم تدر ما الخنا ... ولم تزدلف يوماً بسوءٍ ولم تجب
عجبت لها إذ كتفت وهي حية ... ألا إن هذا الخطب من أعجب العجب
وقيل: إن المختار إنما أظهر الخلاف لابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة، وإن مصعباً لما سار إليه فبلغه مسيره أرسل إليه أحمر بن شميط وأمره أن يواقعه بالمذار، وقال: إن الفتح بالمذار لأنه بلغه أن رجلاً من ثقيف يفتح عليه بالمذار فتح عظيم، فظن أنه هو، وإنما كان ذلك للحجاج في قتال عبد الرحمن بن الأشعث.
وأمر مصعب عباداً الحطمي بالمسير إلى جمع المختار، فتقدم وتقدم معه عبيد الله بن علي بن أبي طالب، وبقي مصعب على نهر البصريين، وخرج المختار في عشرين ألفاً، وزحف مصعب ومن معه فوافوه مع الليل، فقال المختار لأصحابه: لا يبرحن أحد منكم حتى يسمع منادياً ينادي: يا محمد، فإذا سمعتوه فاحملوا.
فلما طلع القمر أمر منادياً فنادى: يا محمد، فحملوا على أصحاب مصعب فهزموهم وأدخلوهم عسكرهم، فلم يزالوا يقاتلونهم حتى أصبحوا وأصبح المختار وليس عنده أحد وأصحابه قد أوغلوا في أصحاب مصعب، فانصرف المختار منهزماً حتى دخل قصر الكوفة، وجاء أصحابه حين أصبحوا فوقفوا ملياً فلم يروا المختار فقالوا: قد قتل، فهرب منهم من أطاق الهرب فاختفوا بدور الكوفة، وتوجه منهم نحو القصر ثمانية آلاف فوجدوا المختار في القصر، فدخلوا عليه، وكانوا قد قتلوا تلك الليلة من أصحاب مصعب خلقاً كثيراً، منهم محمد بن الأشعث.
وأقبل مصعب فأحاط بالقصر وحاصرهم أربعة أشهر يخرج المختار كل يوم فيقاتلهم في سوق الكوفة.
ولما قتل لمختار بعث من في القصر يطلب الأمان، فأبى مصعب، فنزلوا على حكمه، فقتل من العرب سبعمائة أو نحو ذلك وسائرهم من العجم، وكان عدة القتلى ستة آلاف رجل.
قيل: إن مصعباً لقي ابن عمر فسلم عليه وقال له: أنا ابن أخيك مصعب. فقال له ابن عمر: أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة غير ما بدا لك. فقال مصعب: إنهم كانوا كفرة فجرة. فقال: والله لو قتلت عدتهم غنماً من تراث أبيك لكان ذلك سرفاً.
وقال ابن الزيبر لعبد الله بن عباس: ألم يلغك قتل الكذاب؟ قال: ومن الكذاب؟ قال: ابن أبي عبيد. قال: قد بلغني قتل المختار. قال: كأنك نكرت تسميته كذاباً ومتوجع له. قال: ذاك رجل قتل قتلتنا وطلب ثأرنا وشفى غليل صدورنا وليس جزاؤه منا الشتم والشماتة.
وقال عروة بن الزبير لابن عباس: قد قتل الكذاب المختار وهذا رأسه. فقال ابن عباس: قد بقيت لكم عقبة كؤود فإن صعد تموها فأنتم أنتم وإلا فلا، يعني عبد الملك بن مروان.
وكانت هدايا المختار تأتي ابن عمر وابن الحنفية فيقبلانها، وقيل: رد ابن عمر هديته.
ذكر عزل مصعب بن الزبير
وولاية حمزة بن عبد الله بن الزبير
وفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزير أخاه مصعباً عن العراق بعد أن قتل المختار وولى مكانه ابنه حمزة بن عبد الله، وكان حمزة جواداً مخلطاً يجود أحياناً حتى لا يدع شيئاً يملكه ويمنع أحياناً ما لا يمنع مثله، وظهر منه بالبصرة خفة وضعف، فيقال إنه ركب يوماً فرأى فيض البصرة فقال: إن هذا الغدير إن رفقوا به ليكفينهم ضيعتهم، فلما كان بعد ذلك رآه جازراً فقال: قد قتلت لو رافقوا به لكفاهم. وظهر منه غير ذلك فكتب الأحنف إلى أبيه وسأله أن يعزله عنهم ويعيد مصعباً، فعزله، فاحتمل مالاً كثيراً من مال البصرة، فعرض له مالك بن مسمع فقال له: لا ندعك تخرج بعطايانا. فضمن له عبيد الله بن عبد الله العطاء فكف عنه، وشخص حمزة بالمال وأتى المدينة فأودعه رجالاً، فجحدوه إلا رجلاً واحداً فوفى له، وبلغ ذلك أباه فقال: أبعده الله! أردت أن أباهي به بني مروان فنكص.
وقيل: إن مصعباً أقام بالكوفة سنة بعد قتل المختار معزولاً عن البصرة، عزله أخوه عبد الله واستعمل عليها ابنه حمزة، ثم إن مصعباً وفد على أخيه عبد الله فرده على البصرة، وقيل: بل انصرف مصعب إلى البصرة بعد قتل المختار واستعمل على الكوفة الحارث بن أبي ربيعة، فكانتا في عمله، فعزله أخوه عن البصرة واستعمل ابنه حمزة، ثم عزل حمزة بكتاب الأحنف وأهل البصرة ورد مصعباً.
ذكر عدة حوادثحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان عامله على الكوفة والبصرة من تقدم ذكره، وكان على قضاء الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة وبالشام عبد الملك بن مروان، وبخراسان عبد الله بن خازم.
وفي هذه السنة مات الأحنف بن قيس بالكوفة مع مصعب، وقيل: مات سنة إحدى وسبعين بالكوفة لما سار مصعب إلى قتل عبد الملك بن مروان. وقتل هبيرة بن مريم مولى الحسين بن علي بالخازر، وهو من أصحاب المختار وثقات المحدثين. وفيها توفي جنادة بن أبي أمية وأدرك الجاهلية، وليست له صحبة. وقتل مصعب عبد الرحمن وعبد الرب ابني حجر بن عدي وعمران بن حذيفة بن اليمان، قتلهم صبراً بعد قتل المختار وبعد قتل أصحابه.
ثم دخلت سنة ثمان وستين
ذكر عزل حمزة وولاية مصعب البصرةوفي هذه السنة رد عبد الله بن الزبير أخاه مصعباً إلى العراق.
وسببه: أن الأحنف رأى من حمزة بن عبد الله اختلاطاً وحمقاً، فكتب إلى أبيه، فعزله ورد مصعباً واستعمل على الكوفة الحارث بن أبي ربيعة.
وقيل: كان سبب عزله حمزة أنه قصر بالأشراف وبسط يده ففزعوا إلى مالك بن مسمع فضرب خيمته على الجسر ثم أرسل إلى حمزة: الحق بأبيك؛ وأخرجه عن البصرة، فقال العديل العجلي:
إذا ما خشينا من أميرٍ ظلامةً ... دعونا أبا سفيان يوماً فعسكرا
ذكر حروب الخوارج بفارس والعراقفي هذه السنة استعمل مصعب عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس وولاه حرب الأزارقة، وكان المهلب على حربهم أيام مصعب الولى وأيام حمزة بن عبد الله بن الزبير. فلما عاد مصعب أراد أن يولي المهلب بلاد الموصل والجزيرة وأرمينية ليكون بينه وبين عبد الملك بن مروان، فكتب إليه، وهو بفارس، في القدوم عليه، فقدم واستخلف على عملة ابنه المغيرة ووصاه بالاحتياط ، وقدم البصرة، فعزله مصعب عن حرب الخوارج وبلاد فارس واستعمل عليهما عمر بن عبيد الله بن معمر. فلما سمع الخوارج به قال قطري بن الفجاءة: قد جاءكم شجاع وهو شجاع وبطل، جاء يقاتل لدينه وملكه بطبيعة لم أر مثلها لأحد، ما حضر حرباً إلا كان أول فارس يقتل قرنه.
وكان الخوارج قد استعملوا عليهم بعد قتل عبيد الله بن الماحوز الزبير بن الماحوز، على ما ذكرناه سنة خمس وستين، فجاءت الخوارج إلى إصطخر، فقدم إليهم عمر ابنه عبيد الله في خيل، فاقتلوا فقتل عبيد الله بن عمر، وأراد الزبير بن الماحوز قتال عمر فقال له قطري: إن عمر مأثور فلا نقاتله، فأبى فقاتله، فقتل من فرسان الخوارج تسعون رجلاً، وطعن عمر صالح بن مخارق فشتر عينه، وضرب قطرياً على جبينه ففلقه، وانهزمت الخوارج وساروا إلى سابور، فعاد عمر ولقيهم بها ومعه مجاعة بن سعر، فقتل مجاعة بعمود كان معه أربعة عشر رجلاً من الخوارج، وكاد عمر بهلك في هذه الوقعة، فدافع عنه مجاعة، فوهب له عمر تسعمائة ألف درهم، فقيل في ذلك:
قد ذدت عادية الكتيبة عن فتىً ... قد كاد يترك لحمه أقطاعا
وظهر عليهم فساروا وقطعوا قنطرةً بينهما ليمتنع من طلبهم وقصدوا نحو أصبهان، فأقاموا عندها حتى قووا واستعدوا، ثم أقبلوا حتى مروا بفارس وبها عمر، فقطعوها في غير الموضع الذي هم به، أخذوا على سابور ثم على أرجان حتى أتوا الأهواز.
فقال مصعب: العجب لعمر! قطع هذا العدو الذي هو بصدد محاربته أرض فارس فلم يقاتلهم، ولو قاتلهم وفر كان أعذر له. وكتب إليه: يا ابن معمر ما أنصفتني، تجبي الفيء وتحيد عن العدو، فاكفني أمرهم.
فسار عمر من فارس في أثرهم مجداً يرجو أن يلحقهم قبل أن يدخلوا العراق، وخرج مصعب فعسكر عند الجسر الأكبر وعسكر الناس معه، وبلغ الخوارج وهم بالأهواز إقبال عمر إليهم وأن مصعباً قد خرج من البصرة إليهم، فقال لهم الزبير بن الماحوز: من سوء الرأي وقوعكم بين هاتين الشوكتين، انهضوا بنا إلى عدونا نلقهم من وجه واحد. فسار بهم فقطع بهم أرض جوخي والنهروانات فأتى المدائن وبها كردم بن مرشد القرادي، فشنوا الغارة على أهل المدائن يقتلون الرجال والنساء والوالدان ويشقون أجواف الحبالى. فهرب كردم، وأقبلوا إلى ساباط ووضعوا السيف في الناس يقتلون، وأرسلوا جماعة إلى الكرخ فلقوا أبا بكر بن مخنف فقاتلهم قتالاً شديداً، فقتل أبو بكر وانهزم أصحابه، وأفسد الخوارج في الأرض.
فأتى أهل الكوفة أميرهم، وهو الحارث بن أبي ربيعة ولقبه القباع، فصاحوا به وقالوا: اخرج فإن العدو قد أظل علينا ليست له بقية. فخرج حتى نزل النخلية فأقام أياماً، فوثب إليه إبراهيم بن الأشتر فحثه على المسير، فسار حتى نزل دير عبد الرحمن فأقام به حتى دخل إليه شبث بن ربعي فأمره بالمسير، فلما رأى الناس بط ء مسيره رجزوا به فقالوا:
سار بنا القباع سيراً نكرا ... يسير يوماً ويقيم شهرا
فسار من ذلك المكان، فكان كلما نزل منزلاً أقام به حتى يصيح به الناس، فبلغ الفرات في بضعة عشر يوماً، فأتاها وقد انتهى إليها الخوارج، فقطعوا الجسر بينهم وبينه وأخذوا رجلاً اسمه سماك بن يزيد ومعه بنت له فأخذوها ليقتلوها، فقالت لهم: يا أهل الإسلام! إن أبي مصاب فلا تقتلوه، وأما أنا فجارية والله ما أتيت فاحشةً قط ولا آذيت جارةً لي ولا تطلعت ولا تشرفت قط .
فلما أرادوا قتلها سقطت ميتة فقطعوها بأسيافهم، وبقي سماك معهم حتى أشرفوا على الصراة، فاستقبل أهل الكوفة فناداهم: اعبروا إليهم إليهم فإنهم قليل خبيث فضربوا عنقه وصلبوه.
فقال إبراهيم بن الأشتر للحارث: اندب معي الناس حتى أعبر إلى هؤلاء الكلاب فأجيئك برؤوسهم. فقال شبث وأسماء بن خارجة ويزيد بن الحارث ومحمد بن عمير وغيرهم: أصلح الله الأمير، دعهم فليذهبوا؛ وكأنهم حسدوا إبراهيم.
فلما رأى الخوارج كثرة الناس قطعو الجسر، واغتنم ذلك الحارث فتحبس ثم جلس للناس فقال: أما بعد فإن أول القتال الرمية بالنبل وإشراع الرماح والطعن ثم الطعن شزراً ثم السلة آخر ذلك كله. فقال له رجل: قد أحسن الأمير الصفة ولكن متى نصنع هذا وهذا البحر بيننا وبينهم؟ فمر بهذا الجسر فليعقد ثم عبرنا إليهم، فإن الله سيريك ما تحب.
فعقد الجسر وعبر الناس، فطارد الخوارج حتى أتو المدائن، وطاردت بعض خليهم عند الجسر طراداً ضعيفاً فرجعوا، فأتبعهم الحارث عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة، وقال له: إذا وقعوا في أرض البصرة فاتركهم. فسار عبد الرحمن يتبعهم حتى وقعوا في أرض أصبهان، فرجع عنهم ولم يقاتلهم، وقصدوا الري وعليها يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني، فقاتلهم فأعان أهل الري الخوارج، فقتل يزيد وهرب ابنه حوشب، ودعاه أوه ليدفع عنه فلم يرجع، فقال بعضهم:
فلو كان حراً حوشب ذا حفيظةٍ ... رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب
يعني أن عيسى بن مصعب لم يفر عن أبيه بل قاتل عنه ومعه حتى قتل.
وقال بشر بن مروان يوماً وعنده حوشب هذا وعكرمة بن ربعي: من يدلني على فرس جواد؟ فقال عكرمة: فرس حوشب فإنه نجا عليه يوم الري. وقال بشر أيضاً يوماً: من يدلني على بغلة قوية الظهر؟ فقال حوشب: بغلة واصل بن مسافر، كان عكرمة يتهم بامرأة واصل، فتبسم بشر وقال: لقد انتصفت.
ولما فرغ الخوارج من الري انحطوا إلى أصبهان فحاصروها وبها عتاب بن ورقاء، فصبر لهم، وكان يقاتلهم على باب المدينة ويرمون من السور بالنبال والحجارة. وكان مع عتاب رجل من حضرموت يقال له أبو هريرة شريح، فكان يحمل عليهم ويقول:
كيف ترون يا كلاب النار ... شد أبي هريرة الهرار
يهركم بالليل والنهار ... يا ابن أبي الماحوز والأشرار
كيف ترى حربي على المضمار
فلما طال ذلك على الخوارج كمن له رجل منهم ذات يوم فضربه بالسيف على حبل عاتقه فصرعه، فاحتمله أصحابه وداووه حتى برأ وخرج إليهم على عادته.
ثم إن الخوارج أقامت عليهم أشهراً حتى نفدت أطعمتهم واشتد عليهم الحصار أصابهم الجهد الشديد، فقال لهم عتاب: أيها الناس قد نزل بكم من الجهد ما ترون وما بقي إلا أن يموت أحكم على فراشه فيدفنه أخوه إن استطاع، ثم يموت هو فلا يجد من يدفنه ولا يصلي عليه، والله ما انتم بالقلي وإنكم الفرسان الصلحاء، فاخرجوا بنا إلى هؤلاء وبكم قوة وحياة قبل أن تضعفوا على الحركة من الجهد، فو الله إني لأرجو إن صدقتموهم أن تظفروا بهم. فأجابوه إلى ذلك.
ذكر قتل ابن الماحوز وإمارة قطري بن الفجاءةلما أمر عتاب أصحابه بقتال الخوارج وأجابوه إلى ذلك جمع الناس وأمر لهم بطعام كثير، ثم خرج حين أصبح فأتى الخوارج وهم آمنون، فحملوا عليهم فقاتلوهم حتى أخرجوهم من عسكرهم وانتهوا إلى الزبير بن الماحوز فنزل في عصابة من أصحابه فقاتل حتى قتل، وانحازت الأزارقة إلى قطري ابن الفجاءة المازني،وكنيته أبو نعامة، فبايعوه، وأصحاب عتاب وأصحابه من عسكره ما شاؤوا، وجاء قطري فنزل في عسكر الزبير، ثم سار عن أصبهان وتركها وأتى ناحية كرمان وأقام بها حتى اجتمعت إليه جموع كثيرة وجبى المال وقوي. ثم أقبل إلى أصبهان ثم أتى إلى أرض الأهواز فأقام بها والحارث بن أبي ربيعة عامل مصعب على البصرة، فكتب إلى مصعب يخبره بالخوارج وأنهم ليس لهم إلا المهلب. فبعث إلى المهلب وهو على الموصل والجزيرة فأمره بقتال الخوارج، وبعث إلى الموصل إبراهيم بن الأشتر، وجاء المهلب إلى البصرة وانتخب الناس وسار بهم نحو الخوارج، ثم أقبلوا إليه حتى التقوا بسولاف فاقتتلوا بها ثمانية أشهر أشد قتال رآه الناس.
ذكر حصار الريوفيها أمر مصعب عتاب بن زرقاء الرياحي، عامله على أصبهان، بالمسير إلى الري وقتال أهلها لمساعدتهم الخوارج على يزيد بن الحارث بن رويم وامتناعهم من مدينتهم، فسار إليهم عتاب فنازلهم وقاتلهم وعليهم الفرخان، وألح عليهم عتاب بالقتال ففتحها عنوة وغنم ما فيها وافتتح سائر قلاع نواحيها.
وفيها كان بالشام قحط شديد حتى إنهم لم يقدروا من شدته على الغزو.
وفيها عسكر عبد الملك بن مروان ببطنان، وهو قريب قنسرين، وشتى بها ثم رجع إلى دمشق.
ذكر خبر عبيد الله بن الحر ومقتلهفي هذه السنة قتل عبيد الله بن الحر الجعفي، وكان من خيار قومه صلاحاً وفضلاً واجتهاداً، فلما قتل عثمان ووقعت الحرب بين علي ومعاوية قصد معاوية فكان معه لمحبته عثمان وشهد معه صفين هو ومالك بن مسمع، وأقام عبيد الله عند معاوية. وكان له زوجة بالكوفة، فلما طالت غيبته زوجها أخوها رجلاً يقال له: ظاهرت علينا عدونا فغلت. فقال له: أيمنعني ذلك من عدلك؟ قال: لا، فقص عليه قصته، فرد عليه امرأته، وكانت حبلى، فوضعها عند من يثق إليه حتى وضعت فألحق الولد بعكرمة ودفع المرأة إلى عبيد الله وعاد إلى الشام فأقام به حتى قتل علي، فلما قتل أقبل إلى الكوفة فأتى إخوانه فقال: ما أرى أحداً ينفعه اعتزاله، كنا بالشام فكان من أمر معاوية كيت وكيت، فقالوا: وكان من أمر علي كيت وكيت، وكانوا يلتقون بذلك .
فلما مات معاوية وقتل الحسين بن علي لم يكن عبيد الله فيمن حضر قتله، يغيب عن ذلك تعمداً، فلما قتل جعل ابن زياد يتفقد الأشراف من أهل الكوفة فلم ير عبيد الله بن الحر، ثم جاءه بعد أيام حتى دخل عليه فقال له: أين كنت يا ابن الحر؟ قال: كنت مريضاً. قال: مريض القلب أم مريض البدن؟ فقال: أما قلبي فلم يمرض، وأما بدني فقد من الله علي بالعافية. فقال ابن زياد: كذبت، ولكنك كنت مع عدونا. فقال: لو كنت معه لرأي مكاني.
وغفل عنه ابن زياد، فخرج فركب فرسه، ثم طلبه ابن زياد فقالوا: ركب الساعة.
فقال: علي به. فأحضر الشرط خلفه، فقالوا: أجب الأمير. فقال: أبلغوه عني أني لا آيته طائعاً أبداً. ثم أجرى فرسه وأتى منزل أحمد بن زياد الطائي، فاجتمع إليه أصحابه، ثم خرج حتى أتى كربلاء فنظر إلى مصارع الحسين ومن قتل معه فاستغفر لهم ثم مضى إلى المدائن وقال في ذلك:
يقول أمير غادر وابن غادر: ... ألا كنت قاتلت الحسين بن فاطمة
ونفسي على خذلانه واعتزاله ... وبيعة هذا الناكث العهد لائمه
فيا ندمي أن لا أكون نصرته ... ألا كل نفسٍ لا تشدد نادمه
وإني لأني لم أكن من حماته ... لذو حسرةٍ أن لا تفارق لازمه
سقى الله أرواح الذين تبادروا ... إلى نصره سحاً من الغيث دائمة
وقفت على أجداثهم ومحالهم ... فكاد الحشا ينقض والعين ساجمه
لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى ... سراعاً إلى الهيجا حماة خضارمه
تأسوا على نصر ابن بنت نبيهم ... بأسيافهم آساد غيلٍ ضراغمه
فإن يقتلوا في كل نفسٍ بقيةً ... على الأرض قد أضحت لذلك واجمه
وما إن رأى الراؤون أفضل منهم ... لدى الموت سادات وزهر قما قمه
يقتلهم ظلماً ويرجو ودادنا ... فدع خطةً ليست لنا بملائمه
لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم ... فكم ناقم منا عليكم وناقمه
أهم مراراً أن أسير بجحفلٍ ... إلى فئةٍ زاغت عن الحق ظالمه
فكفوا وإلا زدتكم في كتائبٍ ... أشد عليكم من زحوف الديالمه
وأقام ابن الحر بمنزله على شاطئ الفرات إلى أن مات يزيد ووقعت الفتنة، فقال: ما أرى قريشاً تنصف، أين أبناء الحرائر؟ فأتاه كل خليع، ثم خرج إلى لمدائن فلم يدع مالاً قدم به للسلطان إلا أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ويكتب لصاحب المال بذلك، ثم جعل يتقصى الكور على مثل ذلك، إلا أنه لم يتعرض لمال أحد ولا ذمة. فلم يزل كذلك حتى ظهر المختار وسمع ما يعمل في السواد، فأخذ امرأته فحبسها، فأقبل عبيد الله في أصحابه إلى الكوفة فكسر باب السجن وأخرجها وأخرج كل امرأة فيه، وقال في ذلك:
ألم تعلمي يا أم توبة أنني ... أنا الفارس الحامي حقائق مذحج
وأني صبحت السجن في سورة الضحى ... بكل فتىً حامي الذمار مدجج
فما إن برحنا السجن حتى بدا لنا ... جبين كقرن الشمس غير مشنج
وخد أسيل عن فتاةٍ حبيبةٍ ... إلينا سقاها كل دانٍ مشنج
فما العيش إلا أن أزورك آمناً ... كعادتنا من قبل حربي ومخرجي
وما زلت محبوساً لحبسك واجماً ... وإني بما تلقين من بعده شج
وهي طويلة.
وجعل يعبث بعمال المختار وأصحابه، فأحرقت بهمدان داره ونهبوا ضيعته، فسار عبيد الله إلى ضياع همدان فنهبها جميعها، وكان يأتي المدائن فيمر بعمال جوخى فيأخذ ما معهم من المال، ثم يميل إلى الجبل، فلم يزل على ذلك حتى قتل المختار.
وقيل: إنه بايع المختار بعد امتناع، وأراد المختار أن يسطو به فامتنع لأجل إبراهيم بن الأشتر. ثم سار مع ابن الأشتر إلى الموصل ولم يشهد معه قتال ابن زياد، اظهر المرض. ثم فارق ابن الأشتر وأقبل في ثلاثمائة إلى الأنبار فأغار عليها وأخذ ما في بيت مالها. فلما فعل ذلك أمر المختار بهدم داره وأخذ امرأته، ففعل ما تقدم ذكره. وحضر مع مصعب قتال المختار وقتله، فلما قتل المختار قال الناس لمصعب في ولايته الثانية: إنا لا نأمن أن يثب ابن الحر بالسواد كما كان يفعل بابن زياد والمختار، فحبسه، فقال:
فمن مبلغ الفتيان أن أخاهم ... أتى دونه باب شديد وحاجبه
بمنزلةٍ ما كان يرضى بمثلها ... إذا قام عنته كبول تجاذبه
على الساق فوق الكعب أسود صامت ... شديد يداني خطوه ويقاربه
وما كان ذا من عظم جرمٍ جرمته ... ولكن سعى الساعي بما هو كاذبه
وقد كان في الأرض العريضة مسلك ... وأي امرئٍ ضاقت عليه مذاهبه
وقال:
بأي بلاء أم بأية نعمةٍ ... تقدم قبلي مسلم والمهلب؟
يعني مسلم بن عمرو والد قتيبة، والمهلب بن أبي صفرة.
وكلم عبيد الله قوماً من وجوه مذحج ليشفعوا له إلى مصعب، وأرسل إلى فتيان مذحج وقال: البسوا السلاح واستروه، فإن شفعهم مصعب فلا تعترضوا لأحد، وإن خرجوا ولم يشفعهم فاقصدوا السجن فإني سأعينكم من داخل.
فلما شفع أولئك النفر فيه شفعهم مصعب وأطلقه، فأتى منزله وأتاه الناس يهنئونه، فقال لهم: إن هذا الأمر لا يصلح إلا بمثل الخلفاء الماضين الأربعة، ولم نر لهم فينا شبيهاً فنلقي إليه أزمتنا، فإن كان من عز بز فعلام نعقد في أعناقنا بيعةً وليسوا بأشجع منا لقاء ولا أعظم مناعة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى، وكلهم عاصٍ مخالف قوي الدنيا ضعيف الآخرة، فعلام تستحل حرمتنا ونحن أصحاب النخلية والقادسية وجلولاء ونهاوند، نلقى الأسنة بنحورنا، والسيوف بجباهنا، ثم لا يعرف حقنا وفضلنا؟ فقاتلوا عن حريمكن، فإني قد قلبت ظهر المجن وأظهرت لهم العداوة ولا قوة إلا بالله. وخرج عن الكوفة وحاربهم وأغار.
فأرسل إليه مصعب سيف بن هانئ المرادي، فعرض عليه بادوريا وغيرها ويدخل في الطاعة، فلم يجب إلى ذلك، فبعث إليه أيضاً حريث بن يزيد، فقتله عبيد الله، فبعث إليه مصعب الحجاج بن جارية الخثعمي ومسلم بن عمرو فلقياه بنهر صرصر، فقاتلهما فهزمهما، فأرسل إليه مصعب يدعوه إلى الأمان والصلة وأن يزليه أي بلد شاء، فلم يقبل، وأتى نرسى ففر دهقانها بمال الفلوجة، فتبعه ابن الحر حتى مر بعين تمر وعليها بسطام بن مصقلة ابن هبيرة الشيباني، فالتجأ إليهم الدهقان، فخرجوا إلى عبيد الله وأسر أيضاً بسطام بن مصقلة وناساً كثيراً، وبعث ناساً من أصحابه فأخذوا المال الذي مع الدهقان وأطلق الأسرى.
ثم إن عبيد الله أتى تكريت فأقام يجبي الخراج، فبعث إليه مصعب الأبرد بن قرة الرياحي والجون بن كعب الهمداني في ألف، وأمدهم المهلب بيزيد بن المغفل في خمسمائة، فقال لعبيد الله رجل من أصحابه: قد أتاك جمع كثير فلا تقاتلهم. فقال:
يخوفني بالقتل قومي وإنما ... أموت إذا جاء الكتاب المؤجل
لعل القنا تدلي بأطرافها الغنى ... فنجدي كراماً تجتدي ونؤمل
ألم تر أن الفقر يزري بأهله ... وأن الغنى فيه العلى والتجمل
وأنك إلا تركب الهول لا تنل ... من المال ما يرضي الصديق ويفضل
وقاتلهم عبيد الله يومين وهو في ثلاثمائة، ولما كان عند المساء تحاجزوا وخرج عبيد الله من تكريت وقال ؟لأصحابه: غني سائر بكم إلى عبد الملك بن مروان فتجهزوا، وقال: إني خائف أن أموت ولم أذعر مصعباً وأصحابه. وسار نحو الكوفة فبلغ كسكر فأخذ بيت مالها، ثم أتى الكوفة فنزل بحمام جرير، فبعث إليه مصعب عمر بن عبيد الله بن معمر فقاتله، فخرج إلى دير الأعور، فبعث إليه مصعب حجار بن أبجر، فانهزم حجار، فشتمه مصعب وضم إليه الجون بن كعب الهمداني وعمر بن عبيد الله بن معمر، فقاتلوه بأجمعهم وكثرت الجراحات في عسكر عبيد الله بن الحر وعقرت خيولهم، فانهزم حجار، ثم رجع فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى أمسوا وخرج ابن الحر من الكوفة.
وكتب مصعب إلى يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني، وهو بالمدائن، يأمره بقتال ابن الحر، فقدم ابنه حوشباً، فلقيه بباجسري فهزمه عبيد الله وقتل فيهم، واقبل ابن الحر إلى المدائن فتحصنوا منه، فخرج عبيد الله فوجه إليه الجون بن كعي الهمداني وبشر بن عبد الله الأسدي، فنزل الجون بحولايا، وقدم بشر إلى تامراً فلقي ابن الحر فقتله ابن الحر وهزم أصحابه، ثم لقي الجون بن كعب بحولايا فخرج إليه عبد الرحمن بن عبد الله فقتله ابن الحر وهزم أصحابه، وخرج إليه بشير بن عبد الرحمن بن بشير الجلي فقتله بسوراء قتالاً شديداً، فرجع عنه بشير، وأقام ابن الحر السواد يغير ويجبي الخراج.
ثم لحق بعبد الملك بن مروان، فلما صار إليه أكرمه وأجلسه معه على السرير وأعطاه مائة ألف درهم وأعطى أصحابه مالاً، فقال له ابن الحر ليوجه معه جنداً يقاتل بهم مصعباً، فقال له: سر بأصحابك وادع من قدرت عليه وأنا ممدك بالرجال.
فسار بأصحابه نحو الكوفة فنزل بقرية إلى جانب الأنبار، فاستأذنه أصحابه في إتيان الكوفة، فأذن لهم وأمرهم أن يخبروا أصحابه بقدومه ليخرجوا إليه. فبلغ ذلك القيسية فأتوا الحارث بن أبي ربيعة عامل ابن الزبير بالكوفة فسألوه أن يرسل معهم جيشاً يقاتلون عبيد الله ويغتنمون الفرصة فيه بتفرق أصحابه، فبعث معهم جيشاً كثيفاً، فساروا فلقوا ابن الحر، فقال لا بن الحر أصحابه: نحن نفر يسير وهذا الجيش لا طاقة لنا فيه. فقال: ما كنت لأدعهم، وحمل عليهم وهو يقول:
يالك يوماً فات فيه نهبي ... وغاب عني ثقتي وصحبي
ثم عطفوا عليه فكشفوا أصحابه وحاولوا أن يأسروه فلم يقدروا على ذلك، وأذن لأصحابه في الذهاب، فذهبوا فلم يعرض لهم أحد، وجعل بقاتل وحده، فحمل عليه رجل من باهلة يكنى أبا كدية فطعنه وجعلوا يرمونه ويكتبون عليه ولا يدنون منه، وهو يقول: أهذه نبل أم مغازل؟ فلما أثخنته الجراح خاض إلى معبر هناك فدخله ولم يدخل فرسه، فركب السفينة ومضى به الملاح حتى توسط الفرات، فأشرفت عليه الخيل، وكان معه في السفينة نبط، فقالوا لهم: إن في السفينة طلبة أمير المؤمنين، فإن فاتكم قتلناكم، فوثب ابن الحر ليرمي نفسه في الماء، فوثب إليه رجل عظيم الخلق فقبض على يديه وجراحاته تجري دماً وضربه الباقون بالمجاذيف، فلما رأى أنه يقصد به نحو القيسية قبض على الذي معه وألقى نفسه معه في الماء فغرقا.
وقيل في قتله: إنه كان يغشى مصعب بن الزبير بالكوفة فرآه يقدم عليه غيره، فكتب إلى عبد الله بن الزبير قصيدةً يعاتب فيها مصعباً ويخوفه مسيره إلى ابن مروان يقول فيها:
أبلغ أمير المؤمنين رسالةً ... فلست على رأي قبيح أواربه
أفي الحق أن أجفى ويجعل مصعب ... وزيراً له من كنت فيه أحاربه
فكيف وقد آتيتكم حق بيعتي ... وحقي يلوى عندكم وأطالبه
وأبليتكم ما لا يضيع مثله ... وآسيتكم والأمر صعب مراتبه
فلما استنار الملك وانقادت العدى ... وأدرك من ملك العراق رغائبه
جفا مصعب عني ولو كان غيره ... لأصبح فيما بيننا لا أعاتبه
لقد رابني من مصعب أن مصعباً ... أرى كل ذي غش لنا هو صاحبه
وما أنا إن حلأتموني بواردٍ ... على كدرٍ قد غص بالماء شاربه
وما لامرئٍ إلا الذي الله سائق ... إليه وما قد خط في الزبر كاتبه
إذا قمت عند الباب أدخل مسلماً ... ويمنعني أن أدخل الباب حاجبه
فحبسه مصعب، وله معه معاقبات من الحبس، ثم إنه قال قصيدة يهجو فيها قيس عيلان، منها:
ألم تر قيساً قيس عيلان برقعت ... لحاها وباعت نبلها بالمغازل
فأرسل زفر بن الحارث الكلائي إلى مصعب: إني قد كفيتك قتال ابن الزرقاء، يعني عبد الملك بن مروان، وابن الحر يهجو قيساً، ثم إن نفراً من بني ليم أسروا ابن الحر، فقال: إنما قلت:
ألم تر قيساً قيس عيلان أقبلت ... وسارت إلينا في القنا والقبائل
فقتله رجل منهم يقال له عياش.
ذكر عدة حوادثقيل: في هذه السنة وافى عرفات أربعة ألوية: لواء لابن الحنفية و أصحابه، ولواء لابن الزبير وأصحابه، ولواء لبني أمية، ولواء لنجدة الحروري، ولم يجر بينهم حرب ولا فتنة، وكان أصحاب ابن الحنفية أسلم الجماعة.
وكان العامل لابن الزبير على المدينة هذه السنة جابر بن الأسود بن عوف الزهري، وعلى البصرة والكوفة مصعب أخوه، وعلى قضاء الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم، وكان عبد الملك بن مروان بالشام مشاققاً لابن الزبير.
ومات عبد الله بن عباس سنة ثمان وستين وعمره أربع وسبعون سنة، وقيل غير ذلك. وفيها مات عدي بن حاتم الطائي، وقيل: سنة ست وستين، وعمره مائة وعشرون سنة. ومات أبو واقد الليثي واسمه الحارث بن مالك. وفيها توفي أبو سريح الخزاعي واسمه خويلد بن عمرو وهو الكعبي. شريح بالشين المعجمة.
وعبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة، وقيل: إنه ولد زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
حاطب بالحاء المهملة، وبلتعة بالباء الموحدة، والتاء المثناة من فوق، والعين المهملة المفتوحات.
ثم دخلت سنة تسع وستين
ذكر قتل عمرو بن سعيد الأشدقفي هذه السنة خالف عمرو بن سعيد عبد الملك بن مروان وغلب على دمشق فقتله، وقيل: كانت هذه الحادثة سنة سبعين.
وكان السبب في ذلك أن عبد الملك بن مروان أقام بدمشق بعد رجوعه من قنسرين ما شاء الله أن يقيم، ثم سار يريد قرقيسيا وبها زفر بن الحارث الكلائي، وكان عمرو بن سعيد مع عبد الملك، فلما بلغ بطنان حبيب رجع عمرو ليلاً ومعه حميد بن حريث الكلبي وزهير بن الأبرد الكلبي، فأتى دمشق وعليها عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي قد استخلفه عبد الملك، فلما بلغه رجوع عمرو بن سعيد هرب عنها، ودخلها عمرو فغلب عليها وعلى خزائنه وهدم دار ابن أم الحكم، واجتمع الناس إليه فخطبهم ومناهم ووعدهم.
وأصبح عبد الملك وفقد عمراً، فسأل عنه فأخبر خبره، فرجع إلى دمشق فقاتله أياماً، وكان عمرو إذا أخرج حميد بن حريث على الخيل أخرج إليه عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبي، وإذا أخرج عمرو زهير بن الأبرد أخرج إليه عبد الملك حسان بن مالك بن بحدل.
ثم أن عبد الملك وعمراً اصلحا وكتبا بينهما كتاباً وآمنه عبد الملك، فخرج عمرو في الخيل إلى عبد الملك فأقبل حتى أوطأ فرسه أطناب عبد الملك فانقطعت وسقط السرادق، ثم دخل على عبد الملك فاجتمعا.
ودخل عبد الملك دمشق يوم الخميس، فلما كان بعد دخول عبد الملك بأربعة أيام أرسل إلى عمرو أن ائتني، وقد كان عبد الملك استشار كريب بن أبرهة الحميري في قتل عمرو، فقال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل، في مثل هذا هلكت حمير. فلما أتى الرسول عمراً يدعوه صادف عنده عبد الله بن يزيد بن معاوية، فقال لعمرو: يا أبا أمية أنت أحب إلي من سمعي ومن بصري وأرى لك أن لا تأتيه. فقال عمرو: لم؟ قال: لأن تبيع ابن امرأة كعب الأحبار قال: إن عظيماً من ولد إسماعيل يرجع فيغلق أبواب دمشق ثم يخرج منها فلا يلبث أن يقتل. فقال عمرو: والله لو كنت نائماً ما انتهبني ابن الزرقاء ولا اجترأ علي، أما إني رأيت عثمان البارحة في المنام فألبسني قميصه. وكان عبد الله بن يزيد زوج ابنة عمرو. ثم قال عمرو للرسول: أنا رائح العشية.
فلما كان العشاء لبس عمرو درعاً ولبس عليها القباء وتقلد سيفه وعنده حميد بن حريث الكلبي، فلما نهض متوجهاً عثر بالبساط، فقال له حميد: والله لو أطعتني لم تأته. وقالت له امرأته الكلبية كذلك، فلم يلتفت ومضى في مائة من مواليه.
وقد جمع عبد الملك عنده بني مروان، فلما بلغ الباب أذن له، فدخل، فلم يزل أصحابه يحبسون عند كل باب حتى بلغ قارعة الدار وما معه إلا وصيف له، فنظر عمرو إلى عبد الملك وإذا حوله بنو مروان وحسان بن بحدل الكلبي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي، فلما رأى جماعتهم أحس بالشر، فالتفت إلى وصيفه وقال: انطلق إلى أخي يحيى فقل له يأتيني، فلم يفهم الوصيف فقال له: لبيك! فقال عمرو: اغرب عني في حرق الله وناره! وأذن عبد الملك لحسان وقبيصة فقاما فلقيا عمراً في الدار، فقال عمرو لوصيفه: انطلق إلى يحيى فمره أن يأتني. فقال: لبيك! فقال عمرو: اغرب عني.
فلما خرج حسان وقبيصة أغلقت الأبواب ودخل عمرو، فرحب به عبد الملك وقال: هاهنا هاهنا يا أبا أمية! فأجلسه معه على السرير وجعل يحادثه طويلاً، ثم قال: يا غلام خذ السيف عنه. فقال عمرو: إنا لله يا أمير المؤمنين. فقال عبد الملك: أتطمع أن تجلس معي متقلداً سيفك؟ فأخذ السيف عنه، ثم تحدثا، ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية إنك حيث خلعتني آليت بيمين إن أنا ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجعلك في جامعة. فقال له بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، وما عسيت أن أصنع بأبي أمية؟ فقال بنوا مروان: أبر قسم أمير المؤمنين. فقال عمرو: قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين.
فأخرج من تحت فراشه جامعة وقال: يا غلام قم فاجمعه فيها. فقام الغلام فجمعه فيها. فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس. فقال عبد الملك: أمكراً يا أبا أمية عند الموت؟ لا والله ما كنا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس. ثم جذبه جذبة أصاب فمه السرير فكسر ثنيتيه. فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس. فقال عبد الملك: أمكراً يا أبا أمية عند الموت؟ لا والله ما كنا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس. ثم جذبه جذبه أصاب فمه السرير فكسر ثنيتيه. فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين كسر عظم مني فلا تركب ما هو أعظم من ذلك. فقال له عبد الملك: والله لو أعلم أنك تبقي علي إن أنا أبقيت عليك وتصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان في بلدة قط على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه. فلما رأى عمرو أنه يريد قتله قال: أعذراً يا ابن الزرقاء! وقيل: إن عمراً لما سقطت ثبتاه جعل يمسهنا، فقال عبد الملك: يا عمرو أرى ثنيتيك قد وقعتا منك موقعاً لا تطيب نفسك بعدها.
وأذن المؤذن العصر فخرج عبد الملك يصلي بالناس وأمر أخاه عبد العزيز أن يقتله، فقام إليه عبد العزيز بالسيف، فقال عمرو: أذكرك الله والرحم أن تلي قتلي، ليقتلني من هو أبعد رحماً منك.
فألقى السيف وجلس، وصلى عبد الملك صلاة خفيفة ودخل وغلقت الأبواب. ورأى الناس عبد الملك حين خرج وليس معه عمرو، فذكروا ذلك ليحيى بن سعيد، فأقبل في الناس ومعه ألف عبد لعمرو وناس من أصحابه كثير، فجعلوا يصيحون بباب عبد الملك: أسمعنا صوتك يا أبا أمية! فأقبل مع يحيى حميد بن حريث وزهير بن الأبرد فكسروا باب المقصورة وضربوا الناس بالسيوف، وضرب الوليد بن عبد الملك على رأسه، واحتمله إبراهيم بن عربي صاحب الديوان فأدخله بيت القراطيس.
ودخل عبد الملك حين صلى فرأى عمراً بالحياة، فقال لعبد العزيز: ما منعك أن تقتله؟ فقال: إنه ناشدني الله والرحم فرققت له. فقال له: اخزى الله أمك البوالة على عقبيها، فإنك لم تشبه غيرها! ثم أخذ عبد الملك الحربة فطعن بها عمراً فلم تجز، ثم ثنى فلم تجز، فضرب بيده على عضده فرأى الدرع فقال: ودرع أيضاً؟ إن كنت لمعداً! فأخذ الصمصامة وأمر بعمرو فصرع، وجلس على صدره فذبحه وهو يقول:
يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
وانتفض عبد الملك رعدة، فحمل عن صدره فوضع على سريره، وقال: ما رأيت مثل هذا قط قتله صاحب دنيا ولا طالب آخرة.
ودخل يحيى ومن معه على بني مروان يخرجهم ومن كان من مواليهم، فقاتلوا يحيى وأصحابه، وجاء عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي فدفع إليه الرأس، فألقاه إلى الناس، وقام عبد العزيز بن مروان وأخذ المال في البدر فجعل يلقيها إلى الناس، فلما رأى الناس الرأس والأموال انتهبوا الأموال وفرقوا، ثم أمر عبد الملك بتلك الأموال فجبيت حتى عادت إلى بيت المال.
وقيل: إن عبد الملك إنما أمر بقتل عمرو حين خرج إلى الصلاة غلامه ابن الزعيرية فقتله وألقى رأسه إلى الناس، ورمى بصخرة في رأسه، وأخرج عبد الملك سريره إلى المسجد وخرج وجلس عليه، وفقد الوليد ابنه فقال: والله لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم. فأتاه إبراهيم بن عربي الكناني، فقال: الوليد عندي وقد جرح وليس عليه بأس.
وأتي عبد الملك بيحيى بن سعيد، وأمر به أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز بن مروان فقال: جعلت فداك يا أمير المؤمنين! أتراك قاتلاً بني أمية في يوم واحد! فأمر بيحيى فحبس. وأراد قتل عنبسة بن سعيد، فشفع فيه عبد العزيز أيضاً، وأراد قتل عامر بن الأسود الكلبي، فشفع فيه عبد العزيز، وأمر ببني عمرو بن سعيد فحبسوا، ثم أخرجهم مع عمهم يحيى فألحقهم بمصعب بن الزبير.
ثم بعث عبد الملك إلى امرأة عمرو الكلبية: ابعثي إلي كتاب الصلح الذي كتبته لعمرو فقالت لرسوله: ارجع فأعلمه أن ذلك الصلح معه في أكفانه ليخاصمك عند ربه. وكان عبد الملك وعمرو يلتقيان في النسب في أمية، هذا عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، وذاك عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية، وكانت أم عمرو أم البنين بنت الحكم عمة عبد الملك.
فلما قتل عبد الملك مصعباً واجتمع الناس عليه دخل أولاد عمرو على عبد الملك، وهم أربعة: أمية وسعيد وإسماعيل ومحمد، فلما نظر إليهم قال لهم: إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون لكم على جميع قومكم فضلاً لم يجعله الله لكم، وإن الذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثاً ولكن كان قديماً في أنفس أوليائكم على أوليائنا في الجاهلية.
فأقطع بأمية، وكان أكبرهم، فلم يقدر أن يتكلم، فقام سعيد بن عمرو وكان الوسط، فقال: يا أمير المؤمنين ماتنعى علينا أمراً كان في الجاهلية وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك ووعد جنةً وحذر ناراً، وأما الذي كان بينك وبين عمرو فإنه كان ابن عمك وأنت أعلم بما صنعت، وقد وصل عمرو إلى الله وكفى بالله حسباً، ولعمري لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لطن الأرض خير لنا من ظهرها. فرق لهم عبد الملك وقال: إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله فاخترت قتله على قتلي، وأما انتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم! وأحسن جائزتهم ووصلهم وقربهم.
وقيل: إن خالد بن يزيد قال لعبد الملك ذات يوم: عجبت كيف أصبت غرة عمرو. فقال عبد الملك:
أدنيته مني ليسكن روعه ... وأصول صولة حازمٍ متمكن
غضباً ومحميةً لديني إنه ... ليس المسيء سبيله كالمحسن
وقيل: إنما خلع عمرو وقتله حين سار عبد الملك نحو العراق لقتال مصعب، فقال له عمرو: إنك تخرج إلى العراق وقد كان أبوك جعل لي هذا الأمر بعده وعلى ذلك قاتلت معه، فاجعل هذا الأمر لي بعدك، فلم يجبه عبد الملك إلى ذلك، فرجع إلى دمشق، وكان من قتله ما تقدم.
وقيل: بل كان عبد الملك قد استخلف عمراً على دمشق فخالفه وتحصن بها، والله أعلم.
ولما سمع عبد الله بن الزبير بقتل عمرو قال: إن ابن الزرقاء قتل لطيم الشيطان: " وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون " الأنعام:129، وبلغ ذلك ابن الحنفية فقال: " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " الفتح:10، يرفع له يوم القيامة لواء على قدر غدرته.
ذكر عصيان الجراجمة بالشاملما امتنع عمرو بن سعيد على عبد الملك خرج أيضاً قائدً من قواد الضواحي في جبل اللكام واتبعه خلق كثير من الجراجمة والأنباط وأباق عبيد المسلمين وغيرهم، ثم سار إلى لبنان، فلما فرغ عبد الملك من عمر أرسل إلى هذا الخارج عليه فبذل له كل جمعة ألف دينار، فركن إلى ذلك ولم يفسد في البلاد، ثم وضع عليه عبد الملك سحيم بن المهاجر، فتلطف حتى وصل إليه متنكراً فأظهر له ممالأته وذم عبد المكل وشتمه ووعده أن يدله على عوراته وما هو خير له من الصلح. فوثق به. ثم أن سحيماً عطف عليه وعلى أصحابه بوهم غارون غافلون بجيش مع موالي عبد الملك وبني أمية وجند من ثقات جنده وشجعانهم كان أعدهم بمكان خفي قريب وأمر فنودي: من أتانا من العبيد، يعني الذين كانوا معه، فقتل الخارج ومن أعانه من الروم، وقتل نفر من الجراجمة والأنباط، ونادى المنادي بالأمان فيمن لقي منهم، فتفرقوا في قراهم وسد الخلل وعاد إلى عبد الملك ووفي للعبيد
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قتل زهير بن قيس أمير إريقية، وقد ذكرنا ذلك سنة اثنتين وستين، وفيها حكم رجل من الخوارج بمنى وسل سيفه، وكانوا جماعة، فأمسك الله أيديهم فقتل ذلك الرجل عند الجمرة.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان على البصرة والكوفة له أخوه مصعب، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم.
وفيها توفي أبو الدؤلي زله خمس وثمانون سنة.
ثم دخلت سنة سبعينفي هذه السنة اجتمعت الروم واستجاشوا على من بالشام، فصالح عبد الملك ملكهم على أن يؤدي إليه كل جمعة ألف دينار خوفاً منه على المسلمين.
وفيها شخص مصعب إلى مكة، في قول بعضهم، ومعه أموال كثيرة ودواب كثيرة قسمها في قومه وغيرهم ونهض ونحر بدناً كثيرة.
وحج بالناس هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان عماله فيها من تقدم ذكرهم.
ذكر يوم الجفرة
وفي هذه السنة سار عبد الملك بن مروان يريد مصعباً، فقال له خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد: إن وجهتني إلى البصرة وأتبعتني خيلاً يسيرة رجوت أن أغلب لك علها. فوجهه عبد الملك، فقدمها مستخفياً في خاصته حتى نزل على عمرو بن أصمع، وقيل: نزل على علي بن أصمع الباهلي، فأرسل عمرو إلى عباد بن الحصين، وهو على شرطة ابن معمر، وكان مصعب قد استخلفه على البصرة، ورجا ابن أصمع أن يبايعه عباد بن الحصين وقال له: إني قد أجرت خالداً وأحببت أن تعلم ذلك لتكون ظهراً لي. فوافاه الرسول حين نزل عن فرسه، فقال عباد: قل له والله لا أضع لبد فرسي حتى آتيك في الخيل. فقال ابن أصمع لخاد: إن عباداً يأتينا الساعة ولا أقدر أن أمنعك عنه فعليك بالمالك بن مسمع.
فخرج خالد يركض وقد أخرج رجليه من الركابين حتى أتى مالكاً فقال: أجرني، فأجاره، وأرسل إلى بكر بن وائل والأزد فكل أول راية أتته راية بني يشكر، وأقبل عباد في الخيل، فتوافقوا ولم يكن بينهم قتال.
فلما كان الغد عدوا إلى جفرة نافع بن الحارث ومع خالد رجال من تميم، منهم: صعصعة بن معاوية وعدب العزيز بن بشر ومرة بن محكان وغيرهم، وكان أصحاب خالد: جفرية ينتسبون إلى الجفرة، وأصحاب ابن معمر زبيرية، وكان من أصحاب خالد: عبيد الله بن أبي بكرة وحمران بن أبان والمغيرة بن المهلب، ومن الزبيرية: قيس بن الهيثم السلمي.
ووجه مصعب زحر بن قيس الجعفي مدداّ لا بن مهمر في ألف، ووجه عبد الملك عبيد الله بن زياد بن ظبيان مدداً لخالد. فأرسل عبيد الله إلى البصرة من يأتيه بالخير، فعاد إليه فأخبره بتفرق القوم، فرجع إلى عبد الملك. فاقتلوا أربعة وعشرين يوماً وأصيبت عين مالك بن مسمع وضجر من الحرب ومشت بينهم السفراء فاصطلحوا على أن يخرج خالد من البصرة، فأخرجه مالك.
ثم لحق مالك بثأج، وكان عبد الملك قدر جع إلى دمشق، فلم يكن لمعصب همة إلا البصرة وطمع أن يدرك بها خالداً فوجده قد خرج، وسخط مصعب على ابن معمر وأحضر أصحاب خالد فشتمهم وسبهم، فقال لعبيد الله بن أبي بكرة: يا ابن مسروح إنما أنت أبن كلبة تعاورها الكلاب فجاءت بأحمر وأصفر وأسود من كل كلب بما يشبهه، وإنما كان أبوك عبداً نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من حصن الطائف ثم ادعيتم أن أبا سفيان زنى بأمكم، ووالله لئن بقيت لأ لحقنكم بنسبكم. ثم دعا حمران فقال له: إما أنت ابن يهويدة علج نبطي سبيت من عين التمر. وقال للحكم بن المنذر بن الجارود ولعبد الله بن فضالة الزهراني ولعلي بن أصمع ولعبد العزيز بن بشر وغيرهم نحو هذا من التوبيخ والتقريع، وضربهم مائةً مائة، وحلق رؤوسهم ولحاهم، وهدم دورهم وصدرهم في الشمس ثلاثاً، وحملهم على طلاق نسائهم، وجمر أولادهم في البعوث، وطاف بهم في أقطار البصرة وأحلفهم أن لا ينكحوا الحرائر، وهم دار مالك بن مسمع وأخذ ما فيها، فكان مما أخذ جارية ولدت له عمرو بن مصعب.
وأقام مصعب بالبصرة، ثم شخص إلى الكوفة فلم يزل بها حتى خرج إلى حرب عبد الملك بن مروان.
والمغيرة بضم الميم، وبالغين، والراء. خالد بن أسيد بفتح الهمزة، وكسر السين. والجفرة بضم الجيم، وسكون الراء.
وفي هذه السنة مات عاصم بن عمر بن الخطاب، وهو حد عمر بن عبد العزيز لأمه وولد قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم ، بسنتين.
ذكر مقتل عمير بن الحباب بن جعدة السلميفي هذه السنة قتل عمير بن الحباب بن جعدة السلمي، ونحن نذكر سبب الحرب بين قيس وتغلب حتى آل الأمر إلى قتل عمير.
وكان سبب ذلك أنه لما اقضى أمر مرج راهط وسار زفر الحارث الكلائي إلى قرقيسيا، على ما ذكرناه، وبايع عمير مروان بن الحكم وفي نفسه ما فيها بسبب قتل قيس لمارج، فلما سير مروان بن الحكم عبيد الله بن زياد إلى الجزيرة والعراق كان عمير معه فلقوا سليمان بن صرد بعين الوردة، وسار عبيد الله إلى قرقيسيا لقتال زفر، فثبطه عمير وأشار بالخازر، فمال عمير معه، فانهزم جيش عبيد الله وقتل هو، فأتى عمير قرقيسيا وصار مع زفر، فجعلا يطلبان كلباً واليمانية بم قتلوا من قيس، وكان معهما قوم من تغلب يقاتلون معهما ويدلونهما.
وشغل عبد الملك عنهما بمصعب، وتغلب عمير على نصيبين. ثم إنه مل المقام بقرقيسيا فاستأمن إلى عبد الملك فأمنه، ثم غدر به فحبسه عند مولاه الريان، فسقاه عمير ومن معه من الحرس خمراً حتى أسكرهم وتسلق في سلم من حبال وخرج من الحبس وعاد إلى الجزيرة ونزل على نهر البليخ بين حران والرقة، فاجتمعت إليه قيس فكان يغير بهم على كلب واليمانية، وكان من معه يستأوون جواري تغلب وسخرون مشايخهم من النصارى، فهاج ذلك بينهم شراً لم يبلغ الحرب، وذلك قبل مسير عبد الملك إلى مصعب وزفر.
ثم إن عميراً أغار على كلب، ثم رجع فنزل على الخابور، وكانت منازل تغلب بين الخابور والفرات ودجلة. وكانت بحيث نزل عمير امرأة من تميم ناكح في تغلب يقال لها أم دويل، فأخذ غلام من بيني الحريش أصحاب عمير عدداً من غنمها، فشكت إلى عمير، فلم يمنع عنها، فأخذوا الباقي، فمانعهم قوم من تغلب، فقتل رجل منهم يقال له مجاشع التغلبي، وجاء دويل فشكت أمه إليه، وكان فارساً من فرسان تغلب، فسار في قومه وجعل يذكرهم ما تصنع بهم قيس ويشكو إليهم ما أخذ من غنم أمه، فاجتمع منهم جماعة وأمروا عليهم شعيث بن مليك التغلبي وأغاروا على بني الحريش ومعهم قوم من نمير، فقتل فيهم التغلبيون واستاقوا ذوداً لامرأة منهم يقال لها أم الهيثم، فمانعهم القيسيون فلم يقدروا على منعهم، فقال الأخطل:
فإن نسألون بالحريش فإننا ... منينا بنوكٍ منهم وفجور
غداة تحامتنا الحريش كأنها ... كلاب بدت أنيابها لهرير
وجاؤوا بجمع ناصري أم هيثم ... فما رجعوا من ذودها ببعير
يوم مساكينولما استحكم الشر بين قيس وتغلب، وعلى قيس عمير، وعلى تغلب شعيث، غزا عمير بني تغلب وجماعتهم بماكسين من الخابور فاقتتلوا قتالاً شديداً، وهي أول وقعة لهم، فقتل من بني تغلب خمسمائة، وقتل شعيث، وكانت رجله قطعت، فقاتل حتى قتل وهو يقول:
قد علمت قيس ونحن نعلم ... أن الفتى يقتل وهو أجذم
يوم الثرثار الأولوالثرثار نهر أصل منبعه شرقي مدينة سنجار وبالقرب من قرية يقال لها سرق وفرغ في دجلة بين الكحيل ورأس الأويل من عمل الفرج.
لما قتل بماكسين من ذكرنا استمدت تغلب وحشدت واجتمعت إليها النمر بن قاسط وأتاها المشجر بن الحارث الشيباني، وكان من ساداتهم بالجزيرة، وأتاها عبيد الله بن زياد بن ظبيان منجداً لهم على قيس، فلذلك حقد عليه مصعب بن الزبير حتى قتل أخاه النابئ، بن زياد، واستنجد عمير تميماً واسداً فلم ينجده منهم أحد. فالتقول على الثرثار، وقد جعلت تغلب عليها بعد شعيث زياد بن هوبر، ويقال: يزيد بن هوير التغلبي، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت قيس وقتلت تغلب ومن معها منهم مقتلهً عظيمةً وبقروا بطون ثلاثين امرأة من بني سليم، وقالت ليلى بنت الحارس التغلبيه، وقيل هي للأخطل:
لما رأونا والصليب طالعا ... ومارس جيش وسماً ناقعا
والخيل لا تحمل إلا دارعا ... والبيض في أيماننا قواطعا
خلوا لنا الثرثار والزارعا ... وحنةً طيساً وكرماً يانعا
يوم الثرثار الثانيثم إن قيساً تجمعت واستمدت واستعدت وعليها عمير بن الحباب، وأتاهم زفر بن الحارث من قرقيسيا، وكان رئيس بني تغلب، والنمر ومن معهما ابن هرير فالتقوا بالثرثار واقتتلوا أشد قتال اقتتله الناس، وانهزمت بنو عامر، وكانت على مجنبة قيس، وصبرت سليم وأعصرت حتى انهزمت تغلب ومن معها وقتل ابنا عبد يشوع وغيرهما من أشراف تغلب، فقال عمير بن الحباب:
فداً لفوارس الثرثار نفسي ... وما جمعت من أهل ومال
وولت عامر عنا فأجلت ... وحولي من ربيعة كالجبال
أكاوحهم بدهمٍ من سليمٍ ... وأعصر كالمصاعيب النهال
وقال زفر بن الحارث:
ألا من مبلع عني عميراً ... رسالة ناصحٍ وعليه زاري
أنترك حي ذي يمنٍ وكلباً ... ونجعل جدنا بك في نزار
كمعتمدٍ على إحدى يديه ... فخانته بوهنٍ وانكسار
يوم الفدينوأغار عمير بن الحباب على الفدين، وهي قرية على الخابور، وقتل من بها من بني تغلب، فهزمهم، فقال نفيع بن صفار المحاربي:
لو تسأل الأرض الفضاء عليكم ... شهد الفدين بهلككم والصور
والصور: قرية من الفدين.
يوم السكيروهو على الخابور يسمى سكير العباس.
ثم اجتمعوا والتقوا بالسكير، وعلى قيس عمير بن الحباب، وعلى تغلب والنمر يزيد بن هوبر، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت تغلب والنمر وهرب عمير بن جندل، وهو من فرسان تغلب، فقال عمير بن الحباب:
وأفلتنا يوم السكير ابن جندلٍ ... على سابحٍ عوج اللبان مثابر
ونحن كررنا الخيل قدماً شواذباً ... دقاق الهوادي داميات الدوائر
وقال ابن صفار:
صبحناكم بهن على سكيرٍ ... ولا قيتم هناك الأقورينا
يوم المعاركوالمعارك بين الحضر والعتيق من أرض الموصل، اجتمعت تغلب بهذا المكان فالتقوا هم وقيس فاقتتلوا به فاشتد قتالهم، فانهزمت تغلب، وقال ابن صفار:
ولقد تركنا بالمعارك منكم ... والحضر والثرثار أجساداً جثا
فيقال: إن يوم المعارك والحضر واحد، هزموهم إلى الحضر وقتلوا منهم بشراً كثيراً. وقال بعضهم: هما يومان كانا لقيس، والله أعلم.
والتقوا أيضاً بلبى فوق تكريت من أرض الموصل، فتناصفوا، فقيس تقول: كان الفضل لنا، وتغلب تقول: كان الفضل لنا.
يوم الشرعبيةثم التقوا بالشرعبية، وعلى قيس عمير بن الحباب، وعلى تغلب وألفافها ابن هرير، فكان بينهم قتال شديد، قتل يومئذٍ عمار بن المهزم السلمي، وكان لتغلب على قيس؛ قال الأخطل:
ولقد بكى الجحاف لما أوقعت ... بالشرعبية إذ رأى الأهوالا
يعني أوقعت الخيل. والشرعبية: من بلاد تغلب. والشرعبية أيضاً: ببلاد منبج؛ فبعضهم يقول: إن هذه الوقعة كانت ببلاد منبج، وذلك خطأ.
يوم البليخواجتمعت تغلب وسارت إلى البليخ، وهناك عمير في قيس؛ والبليخ نهر بين حران والرقة؛ فالتقوا وانهزمت تغلب وكثر القتل فيها وبقرت بطون النساء كما فعلوا يوم الثرثار، فقال ابن صفار:
زرق الرماح ووقع كل مهندٍ ... زلزلن قلبك بالبليخ فزالا
يوم الحشاك
ومقتل عمير بن الحباب السلمي وابن هوبر التغلبيلما رأت تغلب إلحاح عمير بن الحباب عليها جمعت حاضرتها وباديتها وساروا إلى الحشاك، وهو تل قريب من الشرعبية، وإلى جنبه براق، ودلف إليه عمير في قيس ومعه زفر بن الحارث الكلائي وابنه الهذيل بن زفر، وعلى تغلب ابن هوبر، واقتتلوا عند تل الحشاك أشد قتال وأبرحه حتى جن عليهم الليل ثم تفرقوا واقتتلوا من الغد إلى الليل ثم تحاجزوا.
وأصبحت تغلب في اليوم الثالث فتعاقدوا أن لا يفروا، فلما رأى عمير حدهم وان نساءهم معهم قال لقيس: يا قوم أرى لكم أن تنصرفوا عن هؤلاء فإنهم مستقتلون، فإذا اطمأنوا وصاروا إلى سرحهم وجهنا إلى كل قوم منهم من يغير عليهم. فقال له عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلي: قتلت فرسان قيس أمس وأول أمس ثم ملئ سحرك وجبنت! ويقال: إن عيينة بن أسماء بن خارجة الفزاري قال له ذلك، وكان أتاه منجداً، فغضب عمير وقال: كأني بك وقد حمس الوغى أول فار! فنزل عمير وجعل يقاتل راجلاً وهو يقول:
أنا عمير وأبو المغلس ... قد أحبس القوم بضنك فاحبس
وانهزم زفر يومئذ، وهو اليوم الثالث، فلحق بقرقيسيا، وذلك أنه بلغه أن عبد الملك بن مروان قد عزم على الحركة غليه بقرقيسيا، فبادر للتأهب، وقيل: إنه ادعى ذلك حين فر اعتذاراً، وانهزمت قيس وركبت تغلب ومن معها أكتافهم وهم يقولون: أن تعلمون أن تغلب تغلب؟ وشد على عمير جميل بن قيس من بن زهير فتله، وقيل: بل تغاوى على عمير غلامان من بني تغلب فرمياه بالحجارة وقد أعيا فأثخناه، وكر عليه ابن هوبر فقتله.
وأصابت ابن هوبر يومئذٍ جراحة، فلما انقضت الحرب أوصي بني تغلب بأن يولوا أمرهم مراد بن علقمة الزهيري.
وقيل: خرج ابن هوبر في اليوم الثاني من أيامهم هذه الثلاثة وأوصى أن يولوا ظامرهم مراداً، ومات من ليلته، وكان مراد رئيسهم في اليوم الثالث، فعباهم على راياتهم وأمر كل بني أب أن يجعلوا نساءهم خلفهم، فلما أبصرهم عمير قال ما تقدم ذكره؛ قال الشاعر:
أرقت بأثناء الفرات وشفني ... نوائح أبكاها قتيل ابن هوبر
ولم تظلمي أن نحت أم مغلسٍ ... قتيل النصارى في نوائح حسر
وقال بعض الشعراء ينكر قتل ابن هوبر عميراً:
وإن عميراً يوم لاقته تغلب ... قتيل جميل لا قتيل ابن هوبر
وكثر القتل يومئذٍ في ني سليم وغني خاصة، وقتل من قيس أيضاً يومئذٍ بشر كثير، وبعثت بنو تغلب رأس عمير بن الحباب إلى عبد الملك بن مروان بدمشق، فأعطى الوفد وكساهم. فلما صالح عبد الملك زفر بن الحارث واجتمع الناس عليه قال الأخطل:
بني أمية قد تناضلت دونكم ... أبناء قومٍ هم آووا وهم نصروا
وقيس عيلان حتى أقبلوا رقصاً ... فبايعوا لك قسراً بعدما قهروا
ضجوا من الحرب إذ عضت غواربهم ... وقيس عيلان من أخلاقها الضجر
في أبيات كثيرة.
فلما قتل عمير بن الحباب وقف رجل على أسماء بن خارجة الفزاري بالكوفة فقال: قتلت بنو تغلب عمير بن الحباب. فقال: لا بأس، إنما قتل الرجل في ديار القوم مقيلاً غير مدبر؛ ثم قال:
يدي رهن على سليمٍ بغارةٍ ... تشيب لها أصداغ بكر بن وائل
وتترك أولاد الفدوكس عالةً ... يتامى أيامى نهزة للقبائل
يوم الكحيلوهو من أرض الموصل في جانب دجلة الغربي.
وسببه أنه لما قتل عمير بن الحباب السلمي أتى تميم بن عمير زفر بن الحارث فسأله أن يطلب له بثأره، فامتنع، فقال الهذيل بن زفر لأبيه: والله لئن ظفرت بهم تغلب إن ذلك لعار عليك، ولئن ظفروا بتغلب وقد خذلتهم إن ذلك لأشد. فاستخلف زفر على قرقيسيا أخاه أوس ين الحارث وعزم على أن يغير على بني تغلب وغزوهم، فوجه خيلاً إلى بني فدوكس بطن من تغلب فقتل رجالهم واستبيحت أموالهم ونساؤهم حتى لم يبق غير إمرأة واحدة استجارت فأجارها يزيد من حمران.
ووجه زفر بن الحارث ابنه الهذيل في جيش إلى بني كعب بن زهير، فقتل فيهم قتلاً ذريعاً، وبعث زفر أيضاً مسلم بن ربيعة العقيلي إلى قوم تغلب مجتمعين فأكثر فيهم القتل. ثم قصد زفر لبني تغلب وقد اجتمعوا بالعقيق من أرض الموصل، فلما أحست به ارتحلت تريد عبور دجلة، فلما صارت بالكحيل لحقهم زفر في القيسية، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وترجل أصدار زفر أجمعون وفي زفر على بغل له فقتلوهم ليلتهم وبقروا بطون نساء منهم وغرق في دجلة أكثر ممن قتل بالسيف، فأتى فلهم لبى، فوجه زفر ابنه الهذيل فأوقع بهم إلا من عبر فنجا، وأسر زفر منهم مائتين فتقلهم صبراً، فقال زفر:
ألا ياعين بكي بانكساب ... وبكي عاصماً وابن الحباب
فإن تك تغلب قتلت عميراً ... ورهطاً من غني في الحراب
فقد أفنى بني جسم بن بكر ... ونمرهم فوارس من كلاب
قتلنا منهم مائتين صبراً ... وما عدلوا عمير بن الحباب
وقال ابن صفار المحاربي:
أم ترح حبربنا تركت حبيباً ... محالفها المذلة والصغار
وقد كانوا أولي عزٍ فأضحوا ... وليس لهم من الذل انتصار
وأسر القطامي التغلبي في يوم من أيامهم وأخذ ماله، فقام زفر بأمره حتى رد عليه ماله ووصله، فقال فيه:
إني وإن كان قومي ليس بينهم ... وبين قومك إلا ضربة الهادي
مثن عليك بما أوليت من حسنٍ ... وقد تعرض لي من مقتلٍ بادي
حبيح الذي في الشعر هو بضم الحاء المهملة، وفتح الباء الموحدة، وهو في نسب بني تغلب.
يوم البشرلما استقر الأمر لعبد الملك واجتمع المسلمون عليه قدم عليه الأخطل الشاعر التغلبي وعنده الجحاف بن حكيم السلمي، فقال له عبد الملك: أتعرف هذا يا أخطل؟ قال: نعم، هذا الذي أقول فيه:
ألا سائل الجحاف هل هو ثائر ... بقتلى أصيبت من سليمٍ وعامر
وأنشد القصيدة حتى فرغ منها، وكان الجحاف بأكل رطباً، فجعل النوى يتساقط من يده غيظاً، وأجابه وقال:
بلى سوف نبكيهم بكل مهندٍ ... وننعى عميراً بالرماح الشواجر
ثم قال: يا ابن النصرانية ما كنت أظن أن تجترئ علي بمثل هذا! فأرعد الأخطل من خوفه ثم قام إلى عبد الملك وأمسك ذيله وقال: هذا مقام العائذ بك. فقال: أنا لك مجير. ثم قام الجحاف ومشى وهو يجر ثوبه ولا يعقل به، فتلطف لبعض كتاب الديوان حتى اختلق له عهداً على صدقات تغلب وبكر بالجزيرة، وقال لأصحابه: إن أمير المؤمنين قد ولأني هذه الصدقات، فمن أراد اللحاق بي فليفعل.
ثم سار حتى أتى رصافة هشامٍ فأعلم أصحابه ما كان من الأخطل إليه وأنه افتعل كتاباً، وأنه ليس بوالٍ، فمن كان احب أن يغسل عني العار وعن نفسي فليصحبني فإني قد أقسمت أن لا أغسل رأسي حتى أوقع في بني تغلب. فرجعوا عنه غير ثلاثمائة قالوا له: نموت بموتك ونحيا بحياتك.
فسار ليلته حتى صبح الرحوب، وهو ماء لبني جشم بن بكر من تغلب، فصادف عليه جماعةً منهم، فقتل فيهم مقتلةً عظيمةً وأسر الأخطل وعليه عباءة وسخة، فظنه الذي أسره عبداً، فسأله من هو، فقال: عبد . فأطلقه، فرمى بنفسه في جب، فخاف أن يراه من يعرفه فيقتله. فلما انصرف الجحاف خرج من الجب، وأسرف الجحاف في القتل وبقر البطون عن الأجنة وفعل أمراً عظيماً، فلما عاد عنهم قدم الأخطل على عبد الملك فأنشده قوله:
لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعةً ... إلى الله منها المشتكى والمعول
فهرب الجحاف، فطلبه عبد الملك، فلحق ببلاد الروم، وقال بعد وقعة البشر يخاطب الأخطل:
أبا مالكٍ هل لمتني أو حضضتني ... على القتل أم هل لامني كل لائم
ألم أفنكم قتلاً وأجدع أنفكم ... بفتيان قيسٍ والسيوف الصوارم
بكل فتى ينعى عميراً بسيفه ... إذا اعتصمت أيمانهم بالقوائم
فإن تطردوني تطردوني وقد جرى ... بي الور يوماً في دماء الأراقم
نكحت بسيفي في زهيرٍ ومالكٍ ... نكاح اغتصابٍ لا نكاح دراهم
في أبيات ولم يزل الجحاف يتردد في بلاد الروم من طرابزندة إلى قاليقلا، وبعث إلى بطانة عبد الملك من قيس حتى أخذوا له الأمان فآمنه عبد الملك، فقدم عليه، فألزمه ديات من قتل وأخذ منه الكفلاء وسعى فيها، فأتى الحجاج من الشام فطلب منه، فقال له: متى عهدتني خائناً؟ فقال له: ولكنك سد قومك ولك عمالة واسعة. فقال: لقد ألهمت الصدق، فأعطاه مائة ألف درهم وجمع الديات فأوصلها. ثم تنسك بعد وصلح ومضى حاجاً فتعلق بأستار الكعبة وجعل ينادي: اللهم اغفر لي وما أظن تفعل. فسمعه محمد بن الحنفية فقال: يا شيخ قنوطك شر من ذنبك.
وقيل: إن سبب عوده كان أن الجحاف أكرمه ملك الروم وقربه وعرض عليه النصرانية ويعطيه ما شاء، فقال: ما أتيتك رغبةً عن الإسلام. ولقي الروم تلك السنة عساكر المسلمين صائفةً، فانهزم المسلمون، وأخبروا عبد الملك أنهم هزمهم الجحاف، فأرسل إليه عبد الملك يؤمنه، فسار وقصد البشر وبه حي من بشر وقد لبس أكفانه وقال: قد جئت إليكم أعطي القود من نفسي. وأرد شبابهم قتله فنهاهم شيوخهم، فعفوا عنه وحج، فسمعه عبد الله بن عمر وهو يطوف ويقول: اللهم اغفر لي وما أظنك تفعل. فقال ابن عمر: لو كنت الجحاف مازدت على هذا. قال: فأنا الجحاف.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين
ذكر مقتل مصعب
وملك عبد الملك العراقفي هذه السنة قتل مصعب بن الزبير في جمادى الآخرة، واستولى عبد الملك بن مروان على العراق.
وسبب ذلك أن عبد الملك بن مروان لما قتل عمرو بن سعيد بن العاص، كما تقدم ذكره، وضع السيف فقتل من خالفه، فصفا له الشام. فلما لم يبق له مخالف فيه أجمع المسير إلى مصعب بن الزبير بالعراق، فاستشار أصحابه في ذلك، فأشار يحيى بن الحكم بن أبي العاص عمه بأن يقنع بالشام ويترك ابن الزبير والعراق، وكان يقول عبد الملك: من أراد صواب الرأي فليخالف يحيى. وقال بعضهم: إن العام جدب وقد غزوت سنتين فلم تظفر فأقم عامك هذا.
فقال عبد الملك: الشام بلد قليل المال ولا آمن نفاده، وقد كتب كثير من أشراف العراق يدعونني إليهم. وقال بعضهم: الرأي أن تقيم وتبعث بعض أهلك ونمده بالجنود. فقال عبد الملك: إنه لا يقوم بهذا الأمر إلا قرشي له رأي، ولعلي أبعث من له شجاعة ولا رأي له، وإني يصير بالحرب شجاع بالسيف إن احتجت إليه، ومصعب شجاع من بيت شجاعة ولكنه لا علم له بالحرب يحب الخفض ومعه من يخالفه ومعي من ينصح لي. فلما عزم على المسير ودع زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فبكت وبكى جواريها لبكائها، فقال: قاتل الله كثير عزة! لكأنه يشاهدنا حين يقول:
إذا ما أراد الغزو لم يثن همه ... حصان عليها عقد درٍ يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه ... بكت وبكى مما عناها قطينها
وسار عبد الملك إلى العراق، فلما بلغ مصعباً مسيره وهو بالبصرة أرسل إلى المهلب، وهو يقاتل الخوارج، يستشيره، وقيل: بل أحضره عنده، فقال لمصعب: اعلم أن أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك وكاتبهم فلا تبعدني عنك. فقال له مصعب: إن أهل البصرة قد أبوا أن يسيروا حتى أجعلك على قتال الخوارج، وهم قد بلغوا سوق الأهواز، وأنا أكره وأنا أكره إذ سار عبد الملك إلي أن لا أسير إليه، فاكفني هذا الثغر.
فعاد إليهم وسار مصعب إليا الكوفة ومعه الأحنف، فتوفي بالكوفة، وأحضر مصعب إبراهيم بن الأشتر، وكان على الموصل والجزيرة، فلما حضر عنده جعله على مقدمته وسار حتى نزل باجميرى، وهي قريب من أوانا، وهي من مسكن، فعسكر هناك.
وسار عبد الملك وعلى مقدمته أخوه محمد بن مروان وخالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد فنزلوا بقرقيسيا وحصروا زفر بن الحارث الكلائي، ثم صالحهم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وسير زفر ابنه الهذيل مع عبد الملك، وكان معه، ثم لحق بمصعب بن الزبير. فلما اصطلحا سار عبد الملك ومن معه فنزلوا بمسكن قريباً من عسكر مصعب، بين العسكرين ثلاثة فراسخ، ويقال: فرسخان، وكتب عبد الملك إلى أهل العراق من كاتبه ومن لم يكاتبه، وبذل لجميعهم أصبهان طعمةً، وقيل: إن كل من كاتبه طلب منه إمرة أصبهان، فقال: أي شيء هذه أصبهان حتى كلهم يطلبها! فكل منهم أخفى كتابه، إلا إبراهيم بن الأشتر فإنه أحضر كتابه عند مصعب مختوماً، فقرأه مصعب فإذا هو يدعوه إلى نفسه ويجعل له ولاية العراق، فقال له مصعب: أتدري ما فيه؟ قال: لا . قال: يعرض عليك كذا وكذا، وإن هذا لما يرغب فيه. فقال إبراهيم: ما كنت لأتقلد الغدر والخيانة، ووالله ما عند عبد الملك من أحد من الناس بأيأس منه مني، ولقد كتب إلى أصحابك كلهم مثل الذي كتب إلي فأطعني واشرب أعناقهم. قال: إذاً لا يناصحني عشائرهم.
قال: فأوقرهم حديداً وابعث بهم إلى أبيض كسرى واحبسهم هناك ووكل بهم من إن غلبت وتفرقت عشائرهم عنك ضرب رقابهم، وإن ظهرت مننت على عشائرهم بإطلاقهم. فقال: إني لفي شغل عن ذلك، فرحم الله أبا بحر، يعني الأحنف بن قيس، إن كان ليحذرني غدر أهل العراق ويقول هم كالمومسة تريد كل يوم بعلاً، وهم يريدون كل يوم أميراً.
فلما رأى قيس بن الهيثم ما عزم أهل العراق عليه من الغدر لمصعب قال لهم: ويحكم! لا تدخلوا أهل الشام عليكم! فو الله لئن يطعموا بعيشكم ليضيقن عليكم منازلكم، والله لقد رأيت سيد أهل الشام على باب الخليفة يفرح إن أرسله في حاجة، ولقد رأيتنا في الصوائف وإن زاد أحدنا على عدة أجمال وإن الرجل من وجوههم ليغزو على فرسه وزاده خلفه.
فلم يسمعوا منه، فلما تدانى العسكران أرسل عبد الملك إلى مصعب رجلاً من كلب وقال له: أقرئ ابن أختك السلام؛ وكانت أم مصعب كلبية؛ وقل له يدع دعاءه إلى أخيه وأدع دعائي إلى نفسي ويجعل الأمر شورى. فقال له مصعب: قل له السيف بيننا.
فقدم عبد الملك أخاه محمداً وقدم مصعب إبراهيم بن الأشتر، فالتقيا فتناوش الفريقان فقتل صاحب لواء محمد، وجعل مصعب يمد إبراهيم، فأزال محمداً عن موقفه، فوجه عبد الملك عبد الله بن يزيد إلى أخيه محمد، فاشتد القتال، فقتل مسلم بن عمرو الباهلي والد قتيبة، وهو من أصحاب مصعب، وأمد مصعب إبراهيم بعتاب بن ورقاء، فساء ذلك إبراهيم وقال: قد قلت له لا تمدني بعتاب وضربائه، وإنا لله وإنا إليه راجعون! فانهزم عتاب بالناس، وكان قد كاتب عبد الملك وبايعه، فلما انهزم صبر ابن الأشتر فقتل، قتله عبيد ابن ميسرة مولى بني عذرة وحمل رأسه إلى عبد الملك.
وتقدم أهل الشام فقاتلهم مصعب وقال لقطن بن عبد الله الحارثي: قدم خليلك أبا عثمان. فقال: أكره أن تقتل مذحج في غير شيء. فقال لحجار ابن أبجر: يا أبا أسيد قدم خيلك. قال: إلى هؤلاء الأنتان! قال: ما تتأخر إليه أنتن! فقال لمحمد بن عبد الرحمن بن سعيد مثل ذلك، فقال: ما فعل أحد هذا فأفعله. فقال له: أخبرني عن الحسين بن علي كيف صنع بامتناعه عن النزول على حكم ابن زياد وعزمه على الحرب، فاخبره، فقال:
إت الألى بالطف من آل هاشمٍ ... تأسوا فسنوا للكرام التأسيسا
قال عروة: فعلمت أنه لا يبرح حتى يقتل.
ثم دنا محمد بن مروان من مصعب وناداه: أنا ابن عمك محمد بن مروان فاقبل أمان أمير المؤمنين. فقال: أمير المؤمنين بمكة، يعني أخاه عبد الله بن الزبير. قال: فإن القوم خاذلوك.
فأبى ما عرض عليه. فنادى محمد عيسى بن مصعب بن الزبير له، فقال له مصعب: انظر ما يريد منك. فدنا منه، فقال له: إني لك ولأبيك ناصح ولكما الأمان. فرجع إلى أبيه فأخبره، فقال: إني أظن القوم يفون لك، فإن أحببت أن تأتيهم فافعل. فقال: لا تتحدث نساء قريش أني خذلتك ورغبت بنفسي عنك. قال: فاذهب أنت ومن معك إلى عمك بمكة فأخبره بما صنع أهل العراق ودعني فإني مقتول. فقال: لا أخبر عنك قريشاً أبداً، ولكن يا أبه الحق بالبصرة فإنهم على الطاعة أو الحق بأمير المؤمنين. فقال مصعب: لا تتحدث قريش أني فررت.
وقال لابنه عيسى: تقدم إذن أحتسبك، فتقدم ومعه ناس فقتل وقتلوا؛ وجاء رجل من أهل الشام ليحتز رأس عيسى، فحمل عليه مصعب فقتله وشد على الناس فانفرجوا له، وعاد ثم حمل ثانية فانفرجوا له، وبذل له عبد الملك الأمان وقال: إنه يعز علي أن تقتل فاقبل أماني ولك حكمك في المال والعمل. فأبى وجعل يضارب. فقال عبد الملك: هذا والله كما قال القائل.
ومدجج كره الكماة نزاله ... لا ممعناً هرباً ولا مستسلما
ودخل مصعب رادقة فتحنط ورمى السرادق وخرج فقاتل، فأتاه عبيد الله بن زياد بن ظبيام فدعاه إلى المبارزة، فقال له: يا كلب اعزب! مثلي يبارز مثلك! وحمل عليه مصعب فضربه على البيضة فهشمها وجرحه، فرجع وعصب رأسه، وترك الناس مصعباً وخذلوه حتى بقى في سبعة أنفس، وأثخن مصعب بالرمي وكثرت الجارحات فيه، فعاد إلى عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فضربه مصعب فلم يصنع شيئاً لضعفه بكثرة الجراحات، وضربه ابن ظبيان فقتله.
وقيل: بل نظر إليه زائدة بن قدامة الثقفي فحمل عليه فطعنه وقال: يا لثارات المختار! فصرعه، وأخذ عبيد الله بن زياد رأسه وحمله إلى عبد الملك فألقاه بين يديه وأنشد:
نعاطي الملوك الحق ما قسطوا لنا ... وليس علينا قتلهم بمحرم
فلما رأى عبد الملك الرأس سجد. قال ابن ظبيان: قد هممت أن أقتل عبد الملك وهو ساجد فأكون قد قتلت ملكي العرب وأرحت الناس منهما. وقال عبد الملك: لقد هممت أن لأقتل ابن ظبيان فأكون قد قتلت أفتك الناس بأشجع الناس.
وأمر عبد الملك لابن ظبيان بألف دينار، فقال: لم أقتله على طاعتك وإنما قتلته على قتل أخي النابئ بن زياد؛ ولم يأخذ منها شيئاً وكان قتل مصعب بدير الجاثليق عند نهر دجيل، فأمر عبد الملك به وبابنه عيسى فدفنا وقال: كانت الحرمة بيننا قديمة ولكن اللك عقيم.
وكان سبب قتل النابئ أنه قطع الطريق هو ورجل من بني نمير، فأحضرا عند مطرف بن سيدان الباهلي صاحب شرطة مصعب فقتل النابئ وضرب النميري وأطلقه، فجمع عبيد الله جمعاً وقصد مطرفاً بعد أن عزله مصعب عن شرطته وولاه الأهواز، وسار عبيد الله إلى المطرف فقتله، فبعث مصعب مكرم بن مطرف في طلب عبيد الله، فسار حتى بلغ عسكر مكرم، فنسب إليه، ولم يلق عبيد الله، كان قد لحق بعبيد الملك. وقيل في قتله غير ذلك.
فلما أتي عبد الملك برأس مصعب نظر إليه وقال: متى تغذو قرشية مثلك! وكانا يتحدثان إلى حبى وهما بالمدينة، فقيل لها: قتل مصعب. فقالت: نعس قاتله! فقيل: قتله عبد الملك بن مروان. فقالت: و بأبي القاتل والمقتول! ثم دعا عبد الملك بن مروان بن مروان جند العراق إلى بيعته فبايعوه، وسار حتى دخل الكوفة فأقام بالنخيلة أربعين يوماً، وخطب الناس بالكوفة فوعد المحسن وتوعد المسيء، فقال: إن الجامعة التي وضعت في عنق عمرو بن سعيد عندي، ووالله أضعها في عنق رجل فأنزعها إلا صعداً لا أفكها عنه فكاً، فلا يبقين امرؤ إلا على نفسه ولا يولغن دمه، والسلام.
ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه، فحضرت قضاعة، فقال لهم: كيف سلمتم وأنتم قليل مع مضر؟ فقال عبد الله بن يعلى النهدي: نحن أعز منهم وأمنع بك وبمن معك منا. ثم جاءت مذحج فقال: ما أرى لأحد مع هؤلاء بالكوفة شيئاً. ثم جاءت جعفى فقال: إيتوني بابن أختكم، يعني يحيى بن سعيد، وكانت أمه مذحجية، فقالوا: هو آمن؟ فقال: وتشترطون أيضاً! فقال رجل منهم: إنا ما نشترط جهلاً بحقك ولكنا نتسحب عليك تسحب الولد على الوالد. فقال: نعم أنتم الحي! إن كنتم لفرساناً في الجاهلية والإسلام. ليحضر فهو آمن. فأتوه به فبايعه. ثم أتته عدوان فقدموا بين أيديهم رجلاً جميلاً وسيماً، فقال عبد الملك:
عذير الحي من عدوا ... ن كانوا حية الأرض
بغى بعضهم بعضاً ... فلم يرعوا على بعض
ومنهم كانت السادا ... ت والموفون بالقرض
ثم أقبل على ذلك الرجل الجميل فقال: إيه! فقال: لا أدري. فقال معبد بن خالد الجدلي، وكان خلفه:
ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي
ومنهم من يجيز الحج ... بالسنة والفرض
وهم مذ ولدوا شبوا ... بسر النسب المحض
فأقبل عبد الملك على ذلك الجميل فقال: من هو؟ فقال: لا أدري. فقال معبد من ورائه: هو ذو الإصبع، فأقبل على الجميل فقال: لم تسمى ذا الإصبع؟ فقال: لا أدري. فقال معبد: لأن حية نهشت إصبعه فقطعتها. فأقبل على الجميل فقال: ما كان اسمه؟ قال: لا أدري. فقال معبد: حرثان بن الحارث. فقال للجميل: من أيكم هو؟ قال: لا أدري. فقال معبد: من بني ناج. ثم قال للجميل: كم عطاؤك؟ قال: سبعمائة. قال لمعبد: كم عطاؤك؟ قال: ثلاثمائة. فقال لكتابه: اجعل معبداً في سبعمائة وانقص من عطاء هذا أربعمائة، ففعل.
ثم جاءت كندة فنظر إلى عبد الله بن إسحاق بن الأشعث فأوصى به أخاه بشر بن مروان. وأقبل داود بن قحذم في جمع كثير من بكر بن وائل عليهم الأقبية الداودية، وبه سميت، فجلس مع عبد الملك على سريره، فأقبل عليه عبد الملك ثم نهض ونهضوا معه، فقال عبد الملك: هؤلاء الفساق لولا أن صاحبهم جاءني ما أعطاني أحد منهم طاعة.
ثم ولى قطن بن عبد الله الحارثي الكوفة، ثم عزله فاستعمل أخاه بشر بن مروان، ثم استعمل محمد بن عمير الهمداني على همذان، ويزيد بن رويم على الري، ولم يف لأحد شرط له أصبهان، وقال: علي بهؤلاء الفساق الذين أنغلوا الشام وأفسدوا العراق. فقيل: قد أجارهم رؤساء عشائرهم. فقال: وهل يجير علي أحد؟ وكان عبد الله بن يزيد بن أسد والد خالد القسري قد لجأ إلى علي بن عبد الله بن عباس، ولجأ إليه أيضاً يحيى بن معيوف الهمداني، ولجأ الهذيل بن زفر بن الحارث، وكان مع عبد الملك، على ما نذكره، وعمرو بن يزيد الحكمي إلى خالد بن يزيد، فآمنهم عبد الملك فظهروا. فصنع عمرو بن حريث لعبد الملك طعاماً كثيراً وأمر به إلى الخورنق وأذن إذناً عاماً، فدخل الناس وأخذوا مجالسهم، فدخل عمرو بن حريث، فأجلسه معه على سريره، ثم جاءت الموائد فأكلوا، فقال عبد الملك: ما ألذ عيشنا لودام، ولكنا كما قال الأول:
وكل جديدٍ يا أميم إلى بلىً ... وكل امرئٍ يصير يوماً إلى كان
فلما فرغوا من الطعام طاف عبد الملك في القصر وعمرو بن حريث معه وهو يسأله: لمن هذا البيت؟ ومن بنى هذا البيت؟ وعمرو يخبره، فقال عبد الملك:
اعمل على مهلٍ فإنك ميت ... واكدح لنفسك أيها الإنسان
فكان ما قد كان لم يك إذ مضى ... وكأن ما هو كائن قد كان
ولما بلغ عبد الله بن خازم مسير مصعب لقتال عبد الملك قال: أمعه عمر بن عبيد الله بن معمر؟ قيل: لا، استعمله على فارس. قال: أمعه المهلب؟ قيل: لا، استعمله على الخوارج. قال: أمعه عباد بن الحصين؟ قيل: استخلفه على البصرة. قال: وأنا بخراسان.
خذيني فجريني جعار وأبشري ... بلحم امرئٍ لم يشهد اليوم ناصره
ولما قتل مصعب بعث عبد الملك رأسه إلى الكوفة، أو حمله معه إليها، ثم بعث به إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر، فلما رآه وقد قطع السيف أنفه قال: رحمك الله! أما والله لقد كنت من أحسنهم خلقاً وأشدهم بأساً وأسخاهم نفساً. ثم سيره إلى الشام فنصب بدمشق، وأرادوا أن يطوفوا به في نواحي الشام، فأخذته عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجة عبد الملك بن مروان، وهي أم يزيد بن عبد الملك، فغسلته ودفنته وقالت: أما رضييتم بما صنعتم حتى تطرفوا به في المدن؟ هذا بغي.
وكان عمر مصعب حين قتل ستاً وثلاثين سنة.
قال يوماً عبد الملك لجلسائه: من أشد الناس؟ قالوا: أمير المؤمنين. قال: اسلكوا غير هذا الطريق. قالوا: عمير بن الحباب. قال: قبح الله عميراً! لص، ثوب ينازع عليه أعز عنده من نفسه ودينه. قالوا: فشبيب. قال: إن للحرورية لطريقاً. قالوا: فمن؟ قال: مصعب كان عنده عقيلتا قريش سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، ثم هو أكثر الناس مالاً، جعلت له الأمان وولاية العراق وعلم أني سأفي له للمودة التي كانت بيننا فحمى أنفاً وأبى وقاتل حتى قتل.
فقال رجل: كان مصعب يشرب النبيذ. قال: كان ذلك قبل أن يطلب المروءة، فأما مذ طلبها ذو علم أن الماء ينقص مروءته ما ذاقه. قال الأقشر الأسدي:
حمى أنفه أن يقبل الضيم مصعب ... فمات كريماً لم تذم خلائقه
ولو شاء أعطى الضيم من رام هضمه ... فعاش ملوماً في الرجال طرائقه
ولكن مضى والبرق يبرق خاله ... يشاوره مراً ومراً يعانقه
فولى كريماً لم تنله مذمة ... ولم يك رغداً تطيبه نمارقه
وقال عرفجة بن شريك:
ما لابن مروان أعمى الله ناظره ... ولا أصاب رغيباتٍ ولا نفلا
يرجو الفلاح ابن مروان وقد قتلت ... خيل ابن مروان حراً ماداً بطلا
يا ابن الحواري كم من نعمةٍ لكم ... لورام غيركم أمثالها شغلا
حملتم فحملتم كل معضلةٍ ... إن الكريم إذا حملته حملا
وقال عبد الله بن الزبير الأسدي في إبراهيم بن الأشتر، هذا الزبير بفتح الزاي وكسر الباء:
سأبكي وإن لم تبك فتيان مذحجٍ ... فتاها إذا الليل التمام تأوبا
فتى لم يكن في مرة الحرب جاهلاً ... ولا بمطيعٍ في الوغى من تهيبا
أبان أنوف الحي قحطان قتله ... وأنف نزارٍ قد أبان فأوعبا
فمن يك أمسى خائناً لأميره ... فما خان إبراهيم في الموت مصعبا
وحين قتل مصعب كان المهلب يحارب الأزارقة بسولاف، بلد بفارس على شاطئ البحر، ثمانية أشهر، فبلغ قتله الأزارقة قبل المهلب، فصاحوا بأصحاب المهلب: ما قولكم في مصعب؟ قالوا: أمير هدى، وهو ولينا في الدنيا والآخرة، ونحن أولياؤه. قالوا: فما قولكم في عبد الملك؟ قالوا: ذاك ابن اللعين، نحن نبرأ إلى الله منه وهو أحل دماً منكم. قالوا: فإن عبد الملك قتل مصعباً وستجعلون غداً عبد الملك إمامكم. فلما كان الغد سمع المهلب وأصحابه قتل مصعب فبايع المهلب الناس لعبد الملك بن مروان، فصاح بهم الخوارج: يا أعداء الله! ما تقولون في مصعب؟ قالوا: يا أعداء الله لا نخبركم. وكرهوا أن يكذبوا أنفسهم. قالوا: وما قولكم في عبد الملك؟ قالوا: خليفتنا. ولم يجدوا بداً إذ بايعوه أن يقولوا ذلك. قالوا: يا أعداء الله! أنتم بالأمس تبرأون منه في الدنيا والآخرة وهو اليوم إمامكم وقد قتل أميركم الذي كنتم تولونه! فأيهما المهتدي وأيهما المبطل؟ قالوا: يا أعداء الله رضينا بذلك إذ كان يتولى أمرنا ونرتضي بهذا. قالوا: لا والله ولكنكم إخوان الشياطين وعبيد الدنيا.
وأما عبد الله بن الزبير فلما انتهى إليه قتل أخيه مصعب قام في الناس فخطبهم فقال: الحمد الله الذي له الخلق والأمر، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، ألا وإنه لم يذلل الله من كان الحق معه وإن كان فرداً، ولم يعزز من كان وليه الشيطان وإن كان الناس معه طراً، ألا وإنه قد أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا، أتانا قتل مصعب، رحمه الله، وأما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله شهادة، وأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حممه عن المصيبة يرعوي بعدها ذوو الرأي الجميل إلى الصبر وكريم العزاء، وما مصعب إلا عبد من عبيد الله وعون من أعواني، ألا وإن أهل العراق أهل الغدر والنفاق أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فمه! والله ما نوت على مضاجعنا كما يموت بنو أبي العاص! والله ما قتل رجل منهم في زحف في الجاهلية ولا في الإسلام، ولا نموت إلا قعصاً بالرماح وتحت ظلال السيوف، ألا إنما الدنيا عارية من الملك العلي الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه، فإن تقبل لا آخذها أخذ البطر، وإن تدبر لم أبك عليها بكاء الضرع المهين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. حجار بن أبجر بفتح الحاء المهملة، وتشديد الجيم، وكنيته أبو أسيد بضم الهمزة، وفتح السين. وحبى بضم الحاء المهملة، وبالباء الموحدة المشددة الممالة، وآخره ياء مثناة من تحتها، وعبد الله بن خازم بالخاء المعجمة والزاي.
ذكر ولاية خالد بن عبد الله البصرةوفي هذه السنة تنازع ولاية البصرة حمران بن أبان وعبيد الله بن أبي بكرة، فقال ابن أبي بكرة: أنا أعظم منك، كنت أنفق على أصحاب خالد يوم الجفرة. فقيل لحمران: إنك لا تقوى على ابن أبي بكرة فاستعن بعبد الله بن الأهيم. فاستعان به، فغلب على البصرة وعبد الله على شرطها، وكان لحمران منزلة عند بني أمية، وكان هذه المنازعة بعد قتل مصعب.
فلما استولى عبد الملك على العراق بعد قتله استعمل على البصرة خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فوجه خالد عبيد الله بن أبي بكرة إليها خليفةً له، فلما قدم على حمران قال: أقد جئت لا جئت! فكان عبيد الله عليها حتى قدم خالد، ولما فرغ عبد الملك من أمر العراق عاد إلى الشام.
ذكر أمر عبد الملك وزفر بن الحارثقد ذكرنا في وقعة مرج راهط مسير زفر إلى قرقيسيا واجتماع قيس عليه والسبب في استلائه عليها وما كان منه بعد ذلك، وكان على بيعة ابن الزبير وفي طاعته. فلما مات مروان بن الحكم وولي ابنه عبد الملك كتب إلى أبان بن عقبة بن أبي معيط وهو على حمص يأمره أن يسير إلى زفر، فسار إليه وعلى مقدمته عبد الله بن زميت الطائي، فواقع عبد الله زفر قبل وصول أبان وكثر في أصحابه بن زفر، وأدركت طيء ثقل زفر ونساءه، فاستوهب محمد بن حصين بن نمير النساء وألحقهن بزفر بقرقيسيا، فقال زفر:
علقن بحبلٍ من حصينٍ لوا أنه ... تغيب حالت دونهن المصائر
أبوكم أبونا في القديم وإنني ... لغابركم في آخر الدهر شاكر
وكان يقال لزفر إنه من كندة.
ثم إن عبد الملك لما أراد المسير إلى مصعب سار إلى قرقيسيا فحصر زفر فيها ونصب عليها المجانيق، فأمر زفر أن ينادي في عسكر عبد الملك: لم نصبتم علينا المجانيق؟ قال: لنثلم ثلمةً نقاتلكم عليها. فقال زفر: قولوا لهم فإنا لا نقاتلكم من وراء الحيطان ولكنا نخرج إليكم. وثلمت المنجنيق من المدينة برجاً مما يلي حريث بن بحدل، فقال زفر:
لقد تركتني منجنيق ابن بحدلٍ ... أحيد هن العصفور حين يطير
وكان خالد بن يزيد بن معاوية مجداً في قتلاهم، فقال رجل من أصحاب زفر من بني كلاب: لأقولن لخالد كلاماً لا يعود إلى ما يصنع. فلما كان الغد خرج خالد للمحاربة، فقال له الكلابي:
ماذا ابتغاء خالدٍ وهمه ... إذ سلب الملك ونيكت أمه
فاستحيا وعاد ولم يرجع يقاتلهم.
وقالت كلب لعبد الملك: إنا إذا لقينا زفر انهزمت القيسية الذين معك فلا تخلطهم معنا.
ففعل، فكتبت القيسية على نبلها: إنه ليس يقاتلكم غداً مضري، ورموا النبل إلى قرقيسيا، فلما أصبح زفر دعا ابنه الهذيل، وبه كان يكنى، وقيل: كان يكنى أبا الكوثر، فقال: اخرج إليهم فشد عليهم شدةً لا ترجع حتى تضرب فسطاط عبد الملك، والله لئن رجعت دون أن تطأ أطناب فسطاطه لأقتلنك. فجمع الهذيل خيله وحمل عليهم، فصبروا قليلاً ثم انكشفوا، وتبعهم الهذيل بخيله حتى وطئوا أطناب الفسطاط وقطعوا بعضها، ثم رجعوا، فقبل زفر رأس الهذيل وقال: لا يزال عبد الملك يحبك بعدها أبداً. فقال الهذيل: والله لو شئت أن أدخل الفسطاط لفعلت. فقال زفر:
ألا لا أبالي من أتاه حمامه ... إذ ما المنايا عن هذيلٍ تجلت
تراه أمام الخيل أول فارسٍ ... ويضرب في أعجازها إن تولت
ولما ثم برج قرقيسيا قال لعبد الملك بعض أهله: لو قاتلتهم بقضاعة لملكتهم. ففعل وقاتلهم، فلما كان عند المساء انكشفت قضاعة وكثر القتل فيهم، وأقبل روح بن زنباع الجذامي إلى برج منها فسأل أهله وقال: نشدتكم الله كم قتلنا منكم؟ قالوا: والله لم يقتل منا أحد ولم يجرح إلا رجل واحد ولا بأس عليه، ثم قالوا: نشدناك الله كم قتل منكم؟ قال: عدة فرسان وجرحتم ما لايحصى، فلعن الله ابن بحدل! ورجع روح إلى عبد الملك وقال: إن ابن بحدل يمينك الباطل، فأعرض عن هذا الرجل.
وكان رجل من كلب يقال له الذيال يخرج فيسب زفر فيكثر، فقال زفر للهذيل ابنه أو لبعض أصحابه: أما تكفيني هذا؟ قال: أنا أجيئك به. فدخل عسكر عبد الملك ليلاً فجعل ينادي: من يعرف بغلاً من صفته كذا وكذا؟ حتى انتهى إلى خباء الرجل وقد عرفه. فقال الرجل: رد الله عليك ضالتك. فقال: يا عبد الله إني قد عييت فلو أذنت لي فاسترحت قليلاً. قال: ادخل، فدخل والرجل وحده في خبائه، فرمى بنفسه ونام صاحب الخباء، فقام إليه فأيقظه وقال: والله لئن تكلمت لأقتلنك. قال: قتلت أو سلمت فماذا ينفعك قتلي؟ قال: لئن سكت وجئت معي إلى زفر فلك عهد الله وميثاقه أن أردك إلى عسكرك بعد أن يصلك زفر والرجل معه، فاعلمه أنه قد آمنه، فوهب له زفر دنانير وحمله على رحالة النساء وألبسه ثيابهن وبعث معه رجلاً حتى دنوا من عسكر عبد الملك، فنادوا: هذه جارية قد بعث بها زفر إلى عبد الملك. وانصرفوا، فلما نظر إليه أهل العسكر عرفوه وأخبروا عبد الملك الخبر، فضحك وقال: لا يبعد الله رجلاً نصر، والله إن قتلهم لذل وإن تركهم لحسرة. وكف الرجل فلم يعد يسب زفر، وقيل: أنه هرب من العسكر.
ثم إن عبد الملك أمر أخاه محمداً أن يعرض على زفر وابنه الهذيل الأمان على أنفسهما ومن معهما وما لهم وأن يعطيا ما أحبا. ففعل محمد ذلك، فأجاب الذيل وكلم أباه وقال له: لو صالحت هذا الرجل فقد أطاعه الناس وهو خير لك من ابن الزبير. فأجاب على أن له الخيار في بيعته سنةً وأن ينزل حيث شاء ولا يعين عبد الملك على قتال ابن الزبير. فبينا الرسل تختلف بينهما إذ جاءه رجل من كلب فقال: قد هدم من المدينة أربعة أبراج. فقال عبد الملك : لا أصالحهم.
وزحف إليهم فهزموا أصحابه حتى أدخلوهم عسكرهم. فقال: أعطوهم ما أرادوا. فقال زفر: لو كان قبل هذا لكان أحسن. واستقر الصلح على أمان الجميع، ووضع الدماء والموال، وان لا يبايع عبد لملك حتى يموت ابن الزبير للبيعة له في عنقه، وأن يعطى مالاً يقسمه في أصحابه.
وخاف زفر أن يغدر به عبد الملك كما غدر بعمرو بن سعيد، فلم ينزل إليه، فأرسل إليه بقضيب النبي صلى الله عليه وسلم ، أماناً له، فنزل إيه، فلما دخل عليه أجلسه معه على سريره، فقال ابن عضاة الأشعري: أنا كنت أحق بهذا المجلس منه. فقال زفر: كذبت هناك، إني عاديت فضررت وواليت فنفعت.
ولما رأى عبد الملك قلة من مع زفر قال: لو علمت أنه في هذه القلة لحاصرته أبداً حتى ينزل على حكمي. فبلغ قوله زفر فقال: إن شئت رجعنا ورجعت. فقال: بل نفي لك يا أبا الهذيل.
وقال له عبد الملك يوماً: بلغني أنك من كندة. فقال: وما خير من لايبغي حسداً ولا يدعي رغبة! وتزوج مسلمة بن عبد الملك الرباب بنت زفر، فكان يؤذن لأخويها الهذيل والكوثر في أول الناس.
وأمر زفر ابنه الهذيل أن يسير مع عبد الملك إلى قتال مصعب وقال له: أنت لا عهد عليك.
فسار معه، فلما قارب مصعباً هرب إليه وقاتل مع ابن الأشتر، فلما قتل ابن الأشتر اختفى الهذيل بالكوفة حتى استؤمن له من عبد الملك فآمنه، كما تقدم.
ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة افتتح عبد الملك قيسارية، في قول الواقدي. وفيها نزع ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف عن المدينة واستعمل عليها طلحة بن عبيد الله ابن عوف، وهو آخر والٍ كان له على المدينة، حتى أتاه طارق بن عمرو مولى عثمان، فهرب طلحة وأقام طارق بها حتى سار إلى مكة لقتال ابن الزبير.
وفي إمارة مصعب مات البراء بن عازب بالكوفة. ويويد بن مفرغ الحميري الشاعر بها أيضاً. وعبد الله بن أبي حدود الأسلمي، شهد الحديبية وخيبر. وفي أيامه مات شتير بن شكل القيسي الكوفي، وهو من أصحاب علي وابن مسعود.
شتير بضم الشين المعجمة، وفتح التاء فوقها نقطتان، وبعدها ياء تحتها نقطتان. وشكل بفتح الشين المعجمة، والكاف وآخره لام.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين
ذكر أمر الخوارجلما استقر عبد الملك بالكوفة بعد قتل مصعب استعمل خالد بن عبد الله على البصرة، فلما قدمها خالد كان المهلب يحارب الأزارقة، فجعله على خاج الأهواز ومعونتها، وسير أخاه عبد العزيز بن عبد الله إلى قتل الخوارج، وسير معه مقاتل بن مسمع، فخرجا يطلبان الأزراقة، فأتت الخوارج من ناحية كرمان إلى دار ابجرد، فأرسل قطري بن الفجاء المازني مع صالح بن مخارق تسعمائة فارس، فاقبل يسير بهم حتى استقبل عبد العزيز وهو يسير مهلاً على غير تعبية، فانهزم بالناس، ونزل مقاتل بن مسمع فقاتل حتى قتل، وانهزم عبد العزيز، وأخذت امرأته ابنة المنذر بن الجارود فأقيمت فيمن يزيد، فبلغت قيمتها مائة ألف، فجاء رجل من قومها من رؤوس الخوارج فقال: تنحوا هكذا، ما أرى هذه المشركة إلا قد فتنتكم! وضرب عنقها، ولحق بالبصرة، فرآه آل المنذر فقالوا: والله ما ندري أنحمدك أم نذمك! فكان يقول: ما فعلته إلا غيره وحمية.
وانتهى عبد العزيز إلى رامهرمز، وأتى المهلب خبره، فأرسل إليه شيخاً من الأزد وقال له: إن كان منهزماً فعزه. فأتاه الرجل فرآه نازلاً في نحو ثلاثين فارساً كئيباً حزيناً، فأبلغه الرسالة، وعاد إلى المهلب بالخبر، فأرسل المهلب إلى أخيه خالد بن عبد الله يخبره بهزيمته. فقال للرسول: كذبت. فقال: والله ما كذبت، فإن كنت كاذباً فاضرب عنقي، وإن كنت صادقاً فأعطني جبتك ومطرفك. فقال: قد رضيت من الخطر العظيم بالخطر اليسير. وحبسه وأحسن إليه حتى صح خبر الهزيمة.
قال ابن قيس الرقيات في هزيمة عبد العزيز وفراره عن امرأته:
عبد العزيز فضحت جيشك كلهم ... وتركتهم صرعى بكل سبيل
من بين ذي عطشٍ يجود بنفسه ... وملحبٍ بين الرجال قتيل
هلا صبرت مع الشهيد مقاتلاً ... إذ رحت منكث القوى بأصيل
وتركت جيشك لا أمير عليهم ... فارجع بعارٍ في الحياة طويل
ونسيت عرسك إذ تقاد سبيةً ... تبكي العيون برنةٍ وعويل
فكتب خالد إلى عبد الملك يخبره بذلك، فكتب إليه عبد الملك: قد عرفت ذلك وسألت رسولك عن المهلب فأخبرني أنه عامل على الهواز، فقيح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابياً من أهل مكة على القتال وتدع المهلب يجبي الخراج، وهو الميمون النقيبة، المقاسي للحرب، ابنها وابن أبنائها، أرسل إلى المهلب يستقبلهم، وقد بعثت إلى بشر بالكوفة ليمك بجيش، فسر معهم لا ولا تعمل في عدوك برأي حتى يحضره المهلب، والسلام.
وكتب عبد الملك إلى بشر أخيه بالكوفة يأمره بإنفاذ خمسة آلاف مع رجل يرضاه لقتال الخوارج، فإذا قضوا غزوتهم ساروا إلى الري فقاتلوا عدوهم وكانوا مسلحةً فبعث بشر خمسة آلاف، وعليهم عبد الرحمن بن محمد الأشعث، فكتب له عهداً على الري عند الفراغ من قتاله.
وخرج خالد بأهل البصرة حتى قدم الأهواز، وقدمها عبد الرحمن بن محمد فيأهل الكوفة، وجاءت الأزارقة حتى دنوا من الأهواز، فقال المهلب لخالد: إني أرى هاهنا سفناً كثيرة فضمها إليك فإنهم سيحرقونها، فلم يمض إلا ساعة حتى أرسلوا إليها فأحرقوها.
وجعل خالد المهلب على ميمنته، وعلى ميسرته داود بن قحذم من بني قيس بن ثعلبة، ومر المهلب على عبد الرحمن بن محمد ولم يخندق عليه، فقال: ما يمنعك من الخندق؟ فقال: هم أهون علي من ضرطة الجمل. قال: لا يهنوا عليك فإنهم سباع العرب.
ولم يبرح المهلب حتى خندق عبد الرحمن عليه، فأقاموا نحواً من عشرين ليلة، ثم زحف خالد إليهم بالناس، فرأوا أمراً هالهم من كثرة الناس، فكثرت عليهم الخيل وزحفت إليهم، فانصرفوا كأنهم على حامية وهم مولون لا يرون طاقةً بقتل جماعة الناس. فأرسل خالد داود بن قحذم في آثارهم، وانصرف خالد إلى البصرة، وسار عبد الرحمن إلى الري، وأقام المهلب بالأهواز، وكتب خالد إلى عبد الملك بذلك.
فلما وصل كتابه إلى عبد الملك كتب إلى أخيه بشر يأمره أن يبعث أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة مع رجل بصير بالحرب إلى فارس في طلب الأزارقة، ويأمر صاحبه بموافقة داود بن قحذم إن اجتمعا. فبعث بشر عتاب بن ورقاء في أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة، فساروا حتى لحقوا داود فاجتمعوا ثم ابتعوا الخوارج حتى علكت خيول عامتهم وأصابهم الجوع والجهد، ورجع عامة الجيشين مشاة إلى الأهواز.
وفي هذه السنة كان خروج أبي فديك الخارجي، وهو من بني قيس بن ثعلبة، فغلب على البحرين وقتل نجدة بن عامر الحنفي، فاجتمع على خالد بن عبد الله نزول قطري الأهواز وأمر أبي فديك، فبعث أخاه أمية بن عبد الله في جند كثيف إلى أبي فديك، فهزمه أبو فديك وأخذ جاريةً له فاتخذها لنفسه، فكتب خالد إلى عبد الملك بذلك.
ذكر قتل عبد الله بن خازمولما قتل مصعب كان ابن خازم يقاتل بحير بن ورقاء الصريمي التميمي بنيسابور، فكتب عبد الملك إلى ابن خازم يدعوه إلى البيعة له ويطعمه خراسان سبع سنين، وأرسل الكتاب مع سوادة بن أشتم النميري، وقيل: مع مكمل الغنوي. فقال ابن خازم: لولا أن أضرب بين بني سليم وبني عامر لقتلتك، ولكن كل كتابك فأكله.
وقيل: بل كان الكتاب مع سوادة بن عبيد الله النميري، وقيل: مع مكمل الغنوي فقال له ابن خازم: إنما بعثك أبو الذبان لأنك من غني وقد علم أني لا أقتل رجلاً من قيس، ولكن كل كتابه.
وكتب عبد الملك إلى بكير بن وشاح، وكان خليفة ابن خازم على مرو، بعهده على خراسان، ووعده ومناه، فخلع بكير عبد الله بن الزبير ودعا إلى عبد الملك، فأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم فخاف أن يأتيه بكير فيجتمع عليه أهل مرو وأهل نيسابور، فترك بحيراً وأقبل إلى مرو ويزيد ابنه بترمذ، فاتبعه بحير فلحقه بقرية على ثمانية فراسخ من مرو، فقاتله ابن خازم، فقتل ابن خازم؛ وكان الذي قتله وكيع بن عمرو القريعي، أعثر وكيع وبحير بن ورقاء وعمار بن عبد العزيز فطعنوه فصرعوه، وقعد وكيع على صدره فقتله. فقال بعض الولاة لوكيع: كيف قتلته؟ قال: غلبته بفضل القنا، فلما صرع قعدت على صدره، فلم يقدر أن يقوم، وقلت: يا لثارات دويلة! وهو أخو كيع لأمه، قتل في بعض تلك الحروب. قال وكيع: فتنخم في وجهي وقال: لعنك الله! أتقتل كبش مضر بأخيك وهو لا يساوي كفاً من نوى؟ أو قال: من تراب. قال: فما رأيت أكثر ريقاً منه على تلك الحال عند الموت.
وبعث بحير ساعة قتل ابن خازم إلى عبد الملك يخبره بقتله، ولم يبعث بالرأس، وبعث بحير بكير بن وشاح في أهل مرو فوافاهم حين قتل ابن خازم فأراد أخذ الرأس وإنفاذه إلى عبد الملك، فمنعه بحير، فضربه بكير بعمود وحبسه وسير الرأس إلى عبد الملك وكتب إليه يخبره أنه هو الذي قتله. فلما قدم الرأس دعا عبد الملك برسول بحير وقال: ما هذا؟ قال: لا أدري، وما فارقت القوم حتى قتل ابن خازم.
وقيل: إن ابن خازم إنما قتل بعد قتل عبد الله بن الزبير، وإن عبد الملك أنفذ إليه رأس ابن الزبير ودعاه إلى نفسه، فغسل الرأس وكفنه وبعثه إلى أهله بالمدينة وأطعم الرسول الكتاب، وقال: لولا أنك رسول لقتلتك. وقيل: بل قطع يديه ورجليه وقتله وحلف أن لا يطيع عبد الملك أبداً.
" بحير بفتح الباء الموحدة، وكسر الحاء المهملة " .
ذكر عدة حوادثكان العامل على المدينة طارقاً لعبد الملك، وعلى الكوفة بشر بن مروان، وعلى قضائها عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعلى البصرة خالد بن عبد الله، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان، في قول بعضهم: بكير بن وشاح، وفي قول بعضهم: عبد الله بن خازم وفي هذه السنة مات عبيدة السلماني، وهو من أصحاب علي.
عبيدة بفتح العين، وكسر الباء الموحدة.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين
ذكر قتل عبد الله بن الزبيرلما بويع عبد الملك بالشام بعث إلى المدينة عروة بن أنيف في ستة آلاف من أهل الشام وأمره أن لا يدخل المدينة وأن يعسكر بالعرصة، وكان عامل عبد الله بن الزبير على المدينة الحارث بن حاطب بن الحارث بن معمر الجمحي، فهرب الحارث، وكان ابن أنيف يدخل ويصلي بالناس الجمعة ثم يعود إلى معسكره، فأقام شهراً ولم يبعث إليهم ابن الزبير أحداً.
وكتب إليه عبد الملك بالعود إليه، فعاد هو ومن معه، وكان يصلي بالناس بعده عبد الرحمن بن سعد القرظي، ثم عاد الحارث إلى المدينة، وبعث ابن الزبير سليمان بن خالد الرزقي الأنصاري، وكان رجلاً صالحاً عاملاً على خيبر وفدك، فنزل في عمله، فبعث عبد الملك عبد الواحد بن الحارث بن الحكم، وقيل: اسمه عبد الملك، وهو أصح، في أربعة آلاف، فسار حتى نزل وادي القرى وسير سريةً عليها أبو القمقام في خمسمائة إلى سليمان، فوجدوه قد هرب، فطلبوه فأدركوه فقتلوه ومن معه. فاغتم عبد الملك بن مروان لقتله وقال: قتلوا رجلاً مسلماً صالحاً بغير ذنب.
وعزل ابن الزبير الحارث واستعمل مكانه جابر بن الأسود بن عوف الزهري، فوجه جابر أبا بكر بن أبي قيس في ستمائة فارس وأربعين فارساً إلى خيبر، فوجدوا أبا القمقام ومن معه مقيمين بفدك يعسفون الناس فقاتلوهم، فانهزم أصحاب أبي القمقام وأسر منهم ثلاثون رجلاً فقتلوا صبراً. وقيل: بل قتل الخمسمائة أو أكثرهم.
ووجه عبد الملك طارق بن عمرو مولى عثمان وأمره أن ينزل بين أيلة ووادي القرى ويمنع عمال ابن الزبير من الإنتشار ويسد خللاً إن ظهر له. فوجه طارق إلى أبي بكر خيلاً، فاقتتلوا فأصيب أبو بكر في المعركة وأصيب من أصحابه أكثر من مائتي رجل.
وكان ابن الزبير قد كتب إلى القباع أيام كان عامله على البصرة يأمره أن يرسل إليه ألفي فارس ليعينوا عامله على المدينة، فوجه إليه ألفي رجل، فلما قتل أبو بكر أمر ابن الزبير جابر بن الأسود أن يسير جيش البصرة إلى قتال طارق، فسار البصريون عن المدينة، وبلغ طارقاً الخبر فسار نحوه، فالتقيا، فقتل مقدم البصريين وقتل أصحابه قتلاً ذريعاً، وطلب طارق مدبرهم وأجهز على جريحهم ولم يستبق أسيرهم. ورجع طارق إلى وادي القرى، وكان عامل ابن الزبير بالمدينة جابر بن الأسود، وعزل ابن الزبير جابراً واستعمل طلحة بن عبيد الله بن عوف، الذي يعرف بطلحة الندى، سنة سبعين فلم يزل على المدينة حتى أخرجه طارق.
فلما قتل عبد الملك مصعباً وأتى الكوفة وجه منها الحجاج بن يوسف الثقفي في ألفين، وقيل: في ثلاثة آلاف، من أهل الشام لقتال عبد الله بن الزبير. وكان السبب في تسييره دون غيره أنه قال لعبد الملك: قد رأيت في المنام أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعثني إليه وولني قتاله. فبعثه وكتب معه أماناً لابن الزبير ومن معه إن أطاعوا، فسار في جمادى الأولي سنة اثنتين وسبعين، ولم يعرض للمدينة، ونزل الطائف، وكان يبعث الخيل إلى عرفة ويبعث ابن الزبير أيضاً فيقتلون بعرفة فتنهزم خيل ابن الزبير في كل ذلك وتعود خيل الحجاج بالظفر.
ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم وحصر ابن الزبير ويخبره بضعفه وتفرق أصحابه ويستمده، فكتب عبد الملك إلى طارق يأمره باللحاق بالحجاج، فقدم المدينة في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين، وأخرج عامل ابن الزبير عنها وجعل عليها رجلاً من أهل الشام اسمه ثعلبة، فكان ثعلبة يخرج المخ وهو على منبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يأكل عليه التمر لغيظ أهل المدينة، وكان مع ذلك شديداً على أهل الزبير، وقدم طارق على الحجاج بمكة في سلخ ذي الحجة في خمسة آلاف.
وأما الحجاج فإنه قدم مكة في ذي القعدة وقد أحرم بحجة، فنزل بئر ميمون، وحج بالناس تلك السنة الحجاج، إلا أنه لم يطف بالكعبة ولا سعى بين الصفا والمروة، منعه ابن الزبير من ذلك، فكان يلبس السلاح ولا يقرب النساء ولا الطيب إلى أن قتل ابن الزبير، ولم يحج ابن الزبير ولا أصحابه لأنهم لم يفوا بعرفة ولم يرموا الجمار، ونحر ابن الزبير بدنة بمكة.
ولما حصر الحجاج ابن الزبير نصب المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة، وكان عبد الملك ينكر ذلك أيام يزيد بن معاوية ثم أمر به، فكان الناس يقولون: خذل في دينه.
وحج ابن عمر تلك السنة فأرسل إلى الحجاج: أن اتق الله واكفف هذه الحجارة عن الناس فإنك في شهر حرام وبلد حرام وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض ليؤدوا فريضة الله ويزدادوا خيراً، وإن المنجنيق قد منعهم عن الطواف، فاكفف عن الرمي حتى يقضوا ما يجب عليهم بمكة. فبطل الرمي حتى عاد الناس من عرفات وطافوا وسعوا، ولم يمنع ابن الزبير الحاج من الطواف والسعي، فلما فرغوا من طواف الزيارة نادى منادي الحجاج: انصرفوا إلى بلادكم فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبير الملحد.
وأول ما رمي بالمنجنيق إلى الكعبة رعدت السماء وبرقت وعلا صوت الرعد على الحجارة، فأعظم ذلك أهل الشام وأمسكوا أيديهم، فأخذ الحجاج حجر المنجنيق بيده فوضعه في ورمى به معهم، فلما أصبحوا جاءت الصواعق فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلاً، فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: يا أهل الشام لا تنكروا هذا، فإني ابن تهامة وهذه صواعقها وهذا الفتح قد حضر فأبشروا. فلما كان الغد جاءت الصاعقة فأصابت من أصحاب ابن الزبير عدة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون وأنتم على الطاعة وهم على خلافها؟ وكان الحجر يقع بين يدي ابن الزبير وهو يصلي فلا ينصرف، وكان أهل الشام يقولون:
يا ابن الزبير طالما عصيكا ... وطالما عنيتنا إليكا
لتجزين بالذي أتيكا يعنون: عصيت وأتيت.
وقدم عليه قوم من الأعراب فقالوا: قدمنا للقتال معك، فنظر فإذا مع كل امرئ منهم سيف كأنه شفرة وقد خرج من غمده، فقال: يا معشر الأعراب لا قربكم الله! فوالله إن سلاحكم لرث، وإن حديثكم لغث؛ وإنكم لقتال في الجدب، أعداء في لخصب. فتفرقوا ولم يزل القتال بينهم دائماً، فغلت الأسعار عند ابن الزبير وأصاب الناس مجاعة شديدة حتى ذبح فرسه وقسم لحمها في أصحابه، وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم، والمد الذرة بعشرين درهماً، وإن بيوت ابن الزبير لمملوءة قمحاً وشعيراً وذرة وتمراً، وكان أهل الشام ينتظرون فناء ما عنده، وكان يحفظ ذلك ولا ينفق منه إلا ما يمسك الرمق، ويقول: أنفس أصحابي قوية ما لم يفن.
فلما كان قبيل مقتله تفرق الناس عنه وخرجوا إلى الحجاج بالأمان، خرج من عنده نحو عشرة آلاف، وكان ممن فارقه ابناه حمزة وخبيب، وأخذا لأنفسهما أماناً، فقال عبد الله لابنه الزبير: خذ لنفسك أماناً كما فعل أخواك، فو الله إني لأحب بقاءكم. فقال ما كنت لأرغب بنفسي عنك. فصبر معه فقتل.
ولما تفرق أصحابه عنه خطب الحجاج الناس وقال: قد ترون قلة من مع ابن الزبير وماهم عليه من الجهد والضيق. ففرحوا واستبشروا فتقدموا فملأوا ما بين الحجون إلى الأبواء. فدخل على أمه فقال: يا أماه قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبق معي إلا اليسير ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له فقد قتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن قتل معك، وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، كم خلودك في الدنيا! القتل أحسن! فقال: يا أماه أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني. قالت: يا بني إن الشاة لا تتألم بالسلخ إذا ذبحت، فامض على بصيرتك واستعن بالله.
فقبل رأسها وقال: هذا رأيي والذي قمت به داعياً إلى يومي هذا ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله وأن تستحل حرماته، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتني بصيرة، فانظري يا أماه فإني مقتول في يومي هذا فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر إلى الله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عملاً بفاحشة، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم أو معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي، اللهم لا أقول هذا تزكية لنفسي ولكني أقوله تعزية لأمي حتى تسلو عني! فقالت أمه: غني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلاً، إن تقدمتني احتسبتك، وإن ظفرت سررت بظفرك، أخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. فقال: جزاك الله خيراً، فلا تدعي الدعاء لي. قالت: لا أدعه لك أبداً، فمن قتل على باطل فقد قتت على حق. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذاك القيام في الليل الطويل وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة وبره بأبيه وبي! اللهم قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فأثبني فيه ثواب الصابرين الشاكرين! فتناول يديها لقبلهما فقالت: هذا وداع فلا تبعد. فقال لها: جئت مودعاً لأني أرى هذا آخر أيامي من الدنيا. قالت: امض على بصيرتك وادن مني حتى أودعك. فدنا منها فعانقها وقبلها، فوقعت يدها على الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد. فقال: مالبسته إلا لأشد منك. قالت: فإنه لا يشد مني، فنزعها ثم درج كمية وشد أسفل قميصه وجبة خز تحت أثناء السراويل وادخل أسفلها تحت المنطقة وأمه تقول له: البس ثيابك مشمرة. فخرج وهو يقول:
إني إذا أعرف يومي أصبر ... وإنما يعرف يومه الحر
إذ بعضهم يعرف ثم ينكر فسمعته فقالت: تصبر إن شاء الله، أبواك أبو بكر والزبير، وأمك صفية بنت عبد المطلب. فحمل على أهل الشام حملةً منكرةً فقتل منهم ثم انكشف هو وأصحابه، وقال له بعض أصحابه: لو لحقت بموضع كذا. قال: بئس الشيخ أنا إذاً في الإسلام لئن أوقعت قوماً فقتلوا ثم فررت عن مثل مصارعهم. ودنا أهل الشام حتى امتلأت منهم الأبواب، وكانوا يصيحون به: يا ابن ذات النطاقين، فيقول: وتلك شكاة ظاهر عنك عارها وجعل أهل الشام على أبواب المسجد رجلاً من أهل كل بلد، لكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني تميم، وكان الحجاج وطارق من ناحية الأبطح إلى المروة، فمرة يحمل ابن الزبير في هذه الناحية ومرة في هذه الناحية ومرة في هذه الناحية، فكأنه أسد في أجمة ما يقدم عليه الرجال يعدو في أثر القوم حتى يخرجهم، ثم يصيح: أبا صفوان! ويل أمه فتحاً لو كان له رجال أو كان قرني واحداً كفيته! فيقول أبو صفوان عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف: إي والله وألف.
فلما رأى الحجاج أن الناس لا يقدمون على ابن الزبير غضب وترجل وأقبل يسوق الناس ويصمد بهم صمد صاحب علم ابن الزبير وهو بين يديه. فتقدم ابن الزبير على صاحب علمه وضاربهم وانكشفوا، وعرج وصلى ركعتين عند المقام، فحملوا على صاحب علمه فقتلوه عند باب بني شيبة وصار العلم بأيدي أصحاب الحجاج. فلما فرغ من صلاته تقدم فقاتل بغير علم فضرب رجلاً من أهل الشام وقال: خذها وأنا ابن الحواري! وضرب آخر، وكان حبشياً، فقطع يده وقال: اصبر أبا حمدة، اصبر ابن حام. وقاتل معه عبد الله بن مطيع وهو يقول:
أنا الذي فررت يوم الحره ... والحر لا يفر إلا مره
واليوم أجزي فرةً بكره وقاتل حتى قتل، وقيل: إنه أصابته جراح فمات منها بعد أيام.
وقال ابن الزبير لأصحابه وأهله يوم قتل بعد صلاة الصبح: اكشفوا وجوهكم حتى أنظر إليكم، وعليهم لمغافر. ففعلوا. فقال: يا آل الزبير لو طبتم بي نفساً عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطلحنا في الله، فلا يرعكم وقع السيوف، فإن ألم الدواء للجراح أشد من ألم وقعها، صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، غضوا أبصاركم من البارقة وليشغل كل امرئٍ قرنه ولا تسألوا عني، فمن كان سائلاً عني فإني في الرعيل الأول، احملوا على بركة الله. ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون، فرمي بآجرة، رماه رجل من السكون، فأصابته في وجهه فأرعش لها ودمي وجهه، فلما وجد الدم على وجهه قال:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
وقاتلهم قتالاً شديداً، فتعاوروا عليه فقتلوه يوم الثلاثاء من جمادى الآخرة وله ثلاث وسبعون سنة، وتولى قتله رجل من مراد، وحمل رأسه إلى الحجاج فسجد ووفد السكوني والمرادي إلى عبد الملك بالخبر، فأعطى كل واحد منهما خمسمائة دينار.
وسار الحجاج طارق وطارق حتى وقفا عليه، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا. فقال الحجاج: أتمدح مخالف أمير المؤمنين؟ قال: نعم هو أعذر لنا، ولولا هذا لما كان لنا عذر، غنا محاصروه منذ سبعة أشهر وهو في غير جند ولا حصن ولا منعة فينتصف منا بل يفضل علينا. فبلغ كلامهما عبد الملك فصوب طارقاً.
ولما قتل ابن الزبير كبر أهل الشام فرحاً بقتله، فقال ابن عمر: انظروا إلى هؤلاء ولقد كبر المسلمون فرحاً بولادته وهؤلاء يكبرون فرحا بقتله.
وبعث الحجاج برأسه ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى المدينة ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان وأخذ جثته فصلبها على الثنية اليمنى بالحجون. فأرسلت إليه فكتب إليه يلومه ويقول: ألا خليت بينه وبين أمه! فأذن لها الحجاج فدفنته بالحجون، فمر به عبد الله بن عمر فقال: السلام عليك يا أبا خبيب! أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ولقد كنت صواماً قواماً وصولاً للرحم، أما والله إن قوماً أنت شرهم لنعم القوم.
وكان ابن الزبير قبل قتله بقي أياماً يستعمل الصبر والمسك لئلا ينتن، فلما صلب ظهرت منه رائحة المسك، فقيل: إن الحجاج صلب معه كلباً ميتاً فغلب على ريح المسك، وقيل: بل صلب معه سنوراً.
ولما قتل عبد الله ركب أخوه عروة ناقةً لم ير مثلها فسار إلى عبد الملك فقدم الشام قبل وصول رسل الحجاج بقتل عبد الله، فأتى باب عبد الملك فاستأذن عليه فأذن له، فلما دخل سلم عليه بالخلافة، فرد عليه عبد الملك ورحب به وعانقه وأجلسه على السرير، فقال عروة:
متت بأرحامٍ إليك قريبةٍ ... ولا قرب للأرحام ما لم تقرب
ثم تحدثا حتى جرى ذكر عبد الله، فقال عروة: إنه كان، فقال عبد الملك: وما فعل؟ قال: قتل، فخر ساجداً، فقال عروة: إن الحجاج صلبه فهب جثته لأمه. قال: نعم، وكتب إلى الحجاج يعظم صلبه. وكان الحجاج لما فقد عروة كتب إلى عبد الملك يقول له: عن عروة كان مع أخيه، فلما قتل عبد الله أخذ مالاً من مال الله فهرب. فكتب إليه عبد الملك: إنه لم يهرب ولكنه أتاني مبايعاً وقد آمنته وحللته مما كان، وهو قادم عليك فإياك وعروة. وعاد عروة إلى مكة وكانت غبيته عنها ثلاثين يوماً.
فأنزل الحجاج جثة عبد الله عن الخشبة بعث به إلى أمه، فغسلته، فلما أصابه الماء تقطع، فغسلته عضواً عضواً فاستمسك، وصلى عليه عروة، فدفنته.
وقيل: إن عروة لما كان غائباً عند عبد الملك كتب إليه الحجاج وعاوده في إنفاذ عروة إليه، فهم عبد الملك بإنفاذه، فقال عروة: ليس الذليل من قتلتموه ولكن الذليل من ملكتمخوه، وليس بملوم من صبر فمات، ولكن الملوم من فر من الموت. فسمع مثل هذا الكلام فقال عبد الملك: يا أباعبد الله لن تسمع منا شيئاً تكرهه.
وإن عبد الله لم يصل عليه أحد، منع الحجاج من الصلاة عليه، وقال: غنما أمر أمير المؤمنين بدفنه، وقيل: صلى عليه غير عروة، والذي ذكره مسلم في صحيحه: إن عبد الله بن الزير ألقي في مقابر اليهود، وعاشت أمه بعده قليلاً وماتت، وكانت قد أضرت، وهي أم عروة أيضاً .
فلما فرغ الحجاج من أمر ابن الزبير دخل مكة فبايعه أهلها لعبد الملك ابن مروان، وأمر بكنس المسجد الحرام من الحجارة والدم، وسار إلى المدينة، وكان عبد الملك قد استعمله على مكة والمدينة، فلما قدم المدينة أقام بها شهراً أو شهرين فأساء إلى أهلها واستخف بهم وقال: أنتم قتلة أمير المؤمنين عثمان، وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافاً بهم كما يفعل بأهل الذمة، منهم جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وسهل بن سعد، ثم عاد إلى مكة، فقال حين خرج منها: الحمد الله الذي أخرجني من أم نتن، أهلها أخبث بلد وأغشه لأمير المؤمنين وأحسدهم له على نعمة الله، والله لو ما كنت تأتيني كتب أمير المؤمنين فيهم لجعلتها مثل جوف الحمار أعواداً يهودون بها ورمة قد بليت، يغلون منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فبلغ جابر بن عبد الله قوله فقال: إن وراءه ما يسوءه، قد قال فرعون ما قال ثم أخذه الله بعد أن أنظره.
وقيل: إن ولاية الحجاج المدينة وما فعله بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان سنة أربع وسبعين في صفر.
خبيب بن عبد الله بن الزير بضم الخاء المعجمة، وببائين موحدتين بينهما ياء مثناه من تحت، وكان عبد الله يكنى به ويأبي بكر أيضاً.
ذكر عمر ابن الزبير وسيرتهكان له من العمر حين قتل اثنتان وسبعون سنة، وكانت خلافته تسع سنين، لنه بويع له سنة أربع وستين، وكانت له جمة مفروقة طويلة.
قال يحيى بن وثاب: كان ابن الزير إذا سجد وقعت العصافير على ظهره تظنه حائطاً لسكونه وطول سجوده. وقال غيره: قسم عبد الله الدهر ثلاث حالات: فليلة قائم حتى الصباح، وليلة راكع حتى الصباح، وليلة ساجد حتى الصباح.
وقيل: أول ما علم من همة ابن الزير أنه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان وهو صبي فمر به رجل فصاح عليهم ففروا، ومشى ابن الزبير القهقري وقال: يا صبيان اجعلوني أميركم وشدوا بنا عليه، ففعلوا. ومر به عمر بن الخطاب وهو يلعب ففر الصبيان ووقف هو، فقال له عمر: ما لك لم تفر معهم؟ فقال: لم أجرم فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك.
وقال قطن بن عبد الله: كان ابن الزبير يواصل من الجمعة إلى الجمعة. قال خالد بن أبي عمران: كان ابن الزبير يفطر في الشهر ثلاثة أيام، ومكث أربعين سنة لم ينزع ثيابه عن ظهره.
وقال مجاهد: لم يكن باب من أبواب العبادة يعجز عنه الناس إلا تكلفه ابن الزبير، ولقد جاء سيل طبق البيت فجعل ابن الزير يطوف سباحةً. قال هشام بن عروة: كان أول ما أفصح به عمي عبد الله بن الزبير وهو صغير السيف، فكان لا يضعه من يده، فكان الزبير يقول: والله ليكونن لك منه يوم وأيام. قال ابن سيرين: قال ابن الزبير: ما شيء كان يحدثنا به كعب إلا وقد جاء على ما قال إلا قوله: فتى ثقيف يقتلني وهذا رأسه بين يدي، يعني المختار، قال ابن سيرين: ولا يشعر ابن الزيبر أن الحجاج قد خبئ له.
وقال عبد العزيز بن أبي جميلة الأنصاري: إن ابن عمر مر بابن الزير وهو مصلوب بعد قتله فقال: رحمك الله أبا خبيب! إنك كنت لصواماً قواماً، ولقد أفلحت قريش إن كنت شرها.
وكان الحجاج قد صلبه ثم ألقاه في مقابر اليهود وأرسل إلى أمه يستحضرها، فلم تحضر، فأرسل إليها: لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك، فلم تأته، فقام إليها. فلما حضر قال لها: كيف رأيتني صنعت بعبد الله؟ قالت: رأيتك أفسدت على ابني دنياه وأفسد عليك آخرتك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حدثنا أن: في ثقيف كذاباً ومبيراً، فأما الكذاب فقد رأيناه، تعني المختار، وأما المبير فأنت هو. وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه.
وقال أبن الزبير لعبد الله بن جعفر: أتذكر يوم لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنا وأنت فأخذ ابني فاطمة؟ فقال: نعم فحملنا وتركك، ولو علم أنه يقول له هذا ما سأله.
ذكر ولاية محمد بن مروان الجزيرة
وأرمينيةوفي هذه السنة استعمل عبد الملك أخاه محمداً على الجزيرة وأرمينية فغزا منها وأثخن في العدو، وكانت بحيرة الطريخ التي بأرمينية مباحة لم يعرض لها أحد بل يأخذ منها من شاء، فمنع من صيدها وجعل عليها من يأخذه ويبيعه ويأخذ ثمنه، ثم صارت بعده لابنه مروان، ثم أخذت منه لما انتقلت الدولة عنهم، وهي إلى الآن على هذه الحال من لحجر، ومن سن سنة سيئة كان عليها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء.
وهذا الطريخ من عجائب الدنيا لأن سمكه صغير له كل سنة موسم يخرج من هذه البحيرة في نهر يصب إليها كثيراً يؤخذ بالأيدي والآلات المصنوعة له، فإذا انقض موسمه لا يوجد منه شيء.
ذكر قتل أبي فديك الخارجيقد ذكرنا سنة اثنتين وسبعين قتل نجدة بن عامر الخارجي وطاعة أصحابه أبا فديك، وثبت قدم أبي فديك إلى الآن، فأمر عبد الملك بن مروان عمر بن عبيد الله بن معمر أن يندب الناس من أهل الكوفة والبصرة ويسير إلى قتاله، فندبهم وانتدب معه عشرة آلاف، فأخرج لهم أرزاقهم، ثم سار بهم، وجعل أهل الكوفة على الميمنة وعليهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، وأهل البصرة على الميسرة وعليهم عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر، وهو ابن أخي عمر، وجعل خيله في القلب، وساروا حتى انتهوا إلى البحرين فالتقوا واصطفوا للقتال، فحمل أبو فديك وأصحابه حملة رجل واحد فكشفوا ميسرة عمر حتى أبعدوا إلا المغيرة بن الملهب ومجاعة بن عبد الرحمن وفرسان الناس، فإنهم مالوا إلى صف أهل الكوفة بالميمنة، وجرح عمر بن موسى.
فلما رأى أهل الميسرة أهل الميمنة لم ينهزموا رجعوا وقاتلوا وما عليهم أمير لأن أميرهم عمر بن موسى جريحاً، فحملوه معهم، واشتد قتالهم حتى دخلوا عسكر الخوارج، وحمل أهل الكوفة من الميسرة حتى استباحوا عسكرهم وقتلوا أبا فديك وحصروا أصحابه بالمشقر فنزلوا على الحكم، فقتل منهم نحو ستة آلاف وأسر ثمانمائة، ووجدوا جارية عبد الله بن أمية حبلى من أبي فديك، وعادوا إلى البصرة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة وولاها أخاه بشراً، في قول بعضهم، فاجتمع له المصران الكوفة والبصرة، فسار بشر إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث. وفيها غزا محمد بن مروان الروم صائفة فهزمهم. وفيها كانت وقعة عثمان بن الوليد بالروم من ناحية أرمينية في أربعة آلاف والروم في ستين ألفا، فهزمهم وأكثر القتل فيهم.
وحج بالناس هذه السنة الحجاج، وكان على مكة واليمن واليمامة. وكلن على الكوفة والبصرة في قول بعضهم بشر بن مروان، وقيل: كان على الكوفة بشر، وعلى البصرة خالد بن عبد الله، وعلى قضاء الكوفة شريح بن عبد الحارث، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى خراسان بكير بن وشاح.
وفي هذه السنة مات عبد الله بن عمر بمكة ودفن بذي طوى، وقيل بفخ، وكان سبب موته أن الحجاج أمر بعض أصحابه فضرب ظهر قدمه بزج رمح مسموم فمات منها، وعاد الحجاج في مرضه، فقال: من فعل بك هذا؟ قال: أنت لأنك أمرت بحمل السلاح في بلد لا يحل حمله فيه. وكان موته بعد ابن الزبير بثلاثة أشهر، وقيل غير ذلك، وكلن عمره سبعاً وثمانين سنة.
وفيها مات سلمة بن الأكوع. وأبو سعيد الخدري، ورافع بن خديج. ومالك بن مسمع أبو غسان البكري، وقيل: مات سنة أربع وستين، وولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتوفي سلم بن زياد بن أبيه قبل بشر بن مروان. وأسماء بنت أبي بكر بعد ابنها توطأ أمه، فطلقها. وفيها مات عوف بن مالك الأشجعي، وكان أول مشاهده خيبر. ومعاوية بن حديج قبل ابن عمر بيسير. وفيها مات معبد بن خالد الجهني وهو ابن ثمانين سنة، وله صحبة. وفيها قتل عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله مع ابن الزبير، وهو ابن أخي طلحة بن عبيد الله، وله صحبة.
رافع بن خديج بفتح الخاء المعجمة، وكسر الدال المهملة. ومعاوية بن حديج بضم الحاء، وفتح الدال المهملتين، وآخره جيم.
ثم دخلت سنة أربع وسبعينوفي هذه السنة عزل عبد الملك طارقا عن المدينة واستعمل عليها الحجاج، فأقام بها شهراً وفعل بالصحابة ما تقدم ذكره، وخرج عنها معتمراً.
وفيها هدم الحجاج بناء الكعبة الذي كان ابن الزبير بناه وأعادها إلى البناء الأول وأخرج الحجر منها، وكان عبد الملك يقول: كذب ابن الزبير على عائشة في أن الحجر من اليت، فلما قيل له: قال غير ابن الزبير إنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: وددت إني تركته وما يحمل.
وفيها استقضى عبد الملك أبا إدريس الخولاني.
ذكر ولاية المهلب حرب الأزارقةلما استعمل عبد الملك بشرا على البصرة سار إليها، فأتاه كتاب عبد الملك بأمره أن يبعث المهلب إلى حرب الأزراقة في أهل البصرة ووجوههم، وكان ينتخب منهم من أراد أن يتركه وراءه في الحرب، وأمره أن يبعث من أهل الكوفة رجلاً شريفاً بالبأس والنجدة والتجربة في جيش كثيف إلى المهلب، وأمرهم أن يتبعوا الخوارج أين كانوا حتى يهلكوهم.
فأرسل المهلب جديع بن سعيد بن قبيصة، وأمره أن ينتخب الناس من الديوان، وشق على بشر أن إمرة المهلب جاءت من عبد الملك فأوغرت صدره عليه حتى كأنه أذنب إليه، فدعا عبد الرحمن بن مخنف فقال له: قد عرفت منزلتك عندي، وقد رأيت أن أوليك هذا الجيش الذي أسيره من الكوفة للذي عرفته منك، فكن عند أحسن ظني بك وانظر إلى هذا الكذا كذا، يقع في المهلب، فاستبد عليه بالأمر ولا تقبلن له مشورة ولا رأياً وتنقصه.
قال عبد الرحمن: فترك أن يوصيني بالجيش وقتال العدو والنظر لأهل الإسلام وأقبل يغريني بابن عمي كأني من السفهاء، ما رأيت شخصاً مثلي طمع منه في مثل هذا، قال: فلما رأى أني لست بنشيط إلى جوابه قال لي: مالك؟ قلت: أصلحك الله، وهل يسعني إلا إنفاذ أمرك فيما أحببت وكرهت! وسار المهلب حتى نزل رامهرمز فلقي بها الخوارج فخندق عليه، وأقبل عبد الرحمن في أهل الكوفة ومعه بشر بن جرير ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس وإسحاق بن محمد بن الأشعث وزحر بن قيس، فسار حتى نزل على ميل من المهلب حيث يتراءى العسكران برامهرمز، فلم يلبث العسكر إلا عشراً حتى أتاهم نعي بشر بن مروان، توفي بالبصرة، فتفرق ناس كثير من أهل البصرة وأهل الكوفة، واستخلف بشر على البصرة خالد بن عبد الله بن خالد، وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث. وكان الذين انصرفوا من أهل الكوفة زحر بن قيس وإسحاق بن الأشعث ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد فأتوا الهواز، فاجتمع بها ناس كثير، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله، فكتب إليهم يأمرهم بالرجوع إلى المهلب ويهددهم إن لم يفعلوا بالضرب والقتل، ويحذرهم عقوبة عبد الملك، فلما قرأ الرسول من الكتاب عليهم سطراً أو سطرين قال زحر: أوجز، فلما فرغ من قراءته لم يلتفت الناس إليه، وأقبل زحر ومن معه حتى نزلوا إلى جانب الكوفة وأرسلا إلى عمرو بن حريث.
وكان الذين انصرفوا من أهل الكوفة زحر بن قيس وإسحاق بن محمد بن الأشعث ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد فأتوا الأهواز، فاجتمع بها ناس كثير، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله، فكتب إليهم يأمرهم بالرجوع إلى المهلب ويهددهم إن لم يفعلوا بالضرب والقتل، ويحذرهم عقوبة عبد الملك، فلما قرأ الرسول من الكتاب عليهم سطراً أو سطرين قال زحر: أوجز، فلما فرغ من قراءته لم يلتفت الناس إليه، وأقبل زحر ومن معه حتى نزلوا إلى جانب الكوفة وأرسلا إلى عمرو بن حريث: إن النفر لما بلغهم وفاة الأمير تفرقوا فأقبلنا إلى مصر وأحببنا أن لا ندخل إلا بإذن الأمير.
فكتب إليهم ينكر عليهم عودهم ويأمرهم بالرجوع إلى المهلب، ولم يأذن لهم في دخول الكوفة، فانتظروا الليل ثم دخلوا إلى بيوتهم فأقاموا حتى قدم الحجاج أميراً.
ذكرعزل بكير عن خراسان
وولاية أمية بن عبد الله بن خالدفي هذه السنة عزل عبد الملك بكير بن وشاح عن خراسان وولاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكانت ولاية بكير سنتين.
وكان سبب عزله أن تميماً اختلفت بها فصارت مقاعس والبطون يتعصبون لبحير، ويطلبون بكيراً، وصارت أوف والأنبياء يتعصبون لبكير، وكل هذه بطون من بني تميم، فخاف أهل خراسان أن تعود الحرب وتفسد البلاد ويقهرهم المشركون، فكتبوا إلى عبد الملك بذلك وأنها لا تصلح إلا على رجل من قريش لا يحسدونه ولايتعصبون عليه، فاستشار عبد الملك فيمن يوليه، فقال أمية: يا أمير المؤمنين تداركهم برجل منك. قال: لولا انهزامك عن أبي فديك كنت لها.
قال: يا أمير المؤمنين، والله ما انهزمت حتى خذلني الناس ولم أجد مقاتلاً، فرأيت أن انحيازي إلى فئة أفضل من تعريضي عصبةً بقيت من المسلمين للهلكة، وقد كتب إليك خالد بن عبد الله بعذري، وقد علم الناس ذلك. فولاه خراسان. وكان عبد الملك يحبه، فقال الناس: ما رأينا أحداً عوض من هزيمة ما عوض أمية.
فلما سمع بكير بمسيرة أرسل إلى بحير، وهو في حبسه، وقد تقدم ذكر ذلك في مقتل ابن خازم، يطلب منه الصلح، فامتنع بحير وقال: ظن بكير أن خراسان تبقى له في الجماعة.
ومشت السفراء بينهم، فأبى ذلك بحير، فدخل عليه ضرار بن حصين الضبي فقال: أراك أحمق! يرسل إليك ابن عمك يعتذر إليك وأنت أسيره والسيف بيده ولو قتلك ما حبقت فلا تقبل منه! اقبل الصلح واخرج وأنت على رأس أمرك. فقبل منه وصالح بكيراً، فأرسل إليه بكير بأربعين ألفاً وأخذ عليه ألا يقاتله، وخرج بحير فأقام يسأل عن مسير أمية، فلما بلغه أنه قد قارب نيسابور سار إليه ولقيه بها فأخبره عن خراسان وما يحسن به طاعة أهلها ورفع على بكير أموالاً أخذها وحذره غدره وسار معه حتى قدم مرو، وكان أمية كريماً، ولا يعرض لبكير ولا لعماله، وعرض عليه شرطته فأبى، فولاها بحير بن ورقاء، فلام بكيراً رجال من قومه، فقال: كنت بالأمس أميراً تحمل الحراب بين يدي فأصير اليوم أحمل الحربة! ثم خير أمية بكيراً أن يوليه ما شاء من خراسان، فاختار طخارستان، قال: فتجهز لها، فأنفق مالاً كثيراً. فقال بحير لأمية: عن أتى طخارستان خلعك، وحذره فلم يوله. أسيد بفتح الهمزة، وكسر السين. وبحير بفتح الباء الموحدة، وكسر الحاء.
ذكر ولاية عبد الله بن أمية سجستانلما وصل أمية بن عبد الله إلى كرمان استعمل ابنه عبد الله على سجستان، فلما قدمها غزا رتبيل الذي ملك بعد المقتول الأول، وكان رتبيل هائباً للمسلمين، فلما وصل عبد الله إلى بست أرسل رتبيل يطلب الصلح وبذل ألف ألفٍ، وبعث إليه بهدايا ورقيق، فأبى عبد الله قبول ذلك وقال: إن ملأ لي هذا الرواق ذهباً وإلا فلا صلح. وكان غراً، فخلى له رتبيل البلاد حتى أوغل فيها وأخذ عليه الشعاب والمضايق، وطلب أن يخلي عنه وعن المسلمين ولا يأخذ منه شيئاً، فأبى رتبيل وقال: بل يأخذ ثلاثمائة ألف درهم صلحاً ويكتب لنا به كتاباً ولا يغزو بلادنا ما كنت أميراً ولا يحرق ولا يخرب. ففعل، وبلغ ذلك عبد الملك فعزله.
ذكر ولاية حسان بن النعمان إفريقيةقد ذكرنا ولاية زهير بن قيس سنة اثنتين وستين، وكان قتله سنة تسع وستين، فلما علم عبد الملك قتله عظم عليه وعلى المسلمين وأهمه ذلك، وشغله عن إفريقية ما كان بينه وبين ابن الزبير، فلما قتل ابن الزبير واجتمع المسلمون عليه جهز جيشاً كثيراً واستعمل عليهم وعلى إفريقية حسان بن النعمان الغساني وسيرهم إليها في هذه السنة، فلم يدخل إفريقية قط جيش مثله.
فلما ورد القيروان تجهز منها وسار إلى قرطاجنة، وكان صاحبها أعظم ملوك إفريقية، ولم يكن المسلمون قط حاربوها، فلما وصل إليها رأى بها من الروم والبربر مالا يحصى كثرةً، فقتلهم وحصرهم وقتل منهم كثيراً، فلما رأوا ذلك اجتمع رأيهم على الهرب، فركبوا في مراكبهم وسار بعضهم إلى صقلية وبعضهم إلى الأندلس، ودخلها حسان بالسيف فسبى ونهب وقتلهم قتلاً ذريعاً وأرسل الجيوش فيما حولها، فأسرعوا إليه خوفاً، فأمرهم فهدموا من قرطاجنة ما قدروا عليه.
ثم لاغه أن الروم والبربر قد اجمعوا له في صطفورة وبنزرت، وهما مدينتان، فسار إليهم وقاتلهم ولقي منهم شدةً وقوة، فصبر لهم المسلمون، فانهزمت الروم وكثر اقتل فيهم واستولوا على بلادهم، ولم يترك حسان موضعاً من بلادهم إلا وطئة، وخافه أهل إفريقية خوفاً شديداً، ولجأ المنهزمون من الروم إلى مدينة باجة فتحصنوا بها، وتحصن البربر بمدينة بونة، فعاد حسان إلى القيروان لأن الجراح قد كثرت في أصحابه، فأقام بها حتى صحوا.
ذكر تخريب إفريقيةلما صلح الناس قال حسان: دلوني على أعظم من بقي من ملوك إفريقية، فدلوه على امرأة تملك البربر تعرف بالكاهنة، وكانت تخبرهم بأشياء من الغيب، ولهذا سميت الكاهنة، وكانت بربرية، وهي بجبل أوراس، وقد اجتمع حولها البربر بعد قتل كسيلة، فسأل أهل إفريقية عنها فعظموا محلها وقالوا له: إن قتلتها لم تختلف البربر بعدها عليك. فسار إليها، فلما قاربها هدمت حصن باغاية ظناً منها أنه يريد الحصرن، فلم يعرج حسان على ذلك وسار إليها، فالتقوا على نهر نيني واقتتلوا أشد قتال رآه الناس، فانهزم المسلمون وقتل منهم خلق كثير، وانهزم حسان وأسر جماعة كثيرة أطلقتهم الكاهنة سوى خالد بن يزيد القيسي، وكان شريفاً شجاعاً، فاتخذته ولداً.
وسار حسان حتى فارق إفريقية وأقام وكتب إلى عبد الملك يعلمه الحال، فأمره عبد الملك بالمقام إلى أن يأتيه أمره. فأقام بعمل برقة خمس سنين، فسمي ذلك المكان قصور حسان إلى الآن، وملكت الكاهنة إفريقية كلها وأساءت السيرة في أهلها وعسفتهم وظلمتهم.
ثم سير إليه عبد الملك الجنود والأموال وأمره بالمسير إلى إفريقية وقتال الكاهنة، فأرسل حسان رسولاً سراً إلى خالد بن يزيد، وهو عند الكاهنة، بكتاب يستعلم منه الأمور، فكتب إليه خالد جوابه في رقعة يعرفه تفرق البربر ويأمره بالسرعة، وجعل الرقعة في خبزة، وعاد الرسول، فخرجت الكاهنة ناشرةً شعرها تقول: ذهب ملكهم فيما يأكل الناس. فطلب الرسول فلم يوجد، فوصل إلى حسان وقد احترق الكتاب بالنار، فعاد إلى خالد وكتب إليه بما كتب أولاً وأودعه قربوس السرج.
فسار حسان، فلما علمت الكاهنة بمسيره إليها قالت: إن العرب يريدون البلاد والذهب والفضة، ونحن إنما نريد المزارع والمراعي، ولا أرى إلا أن أخرب إفريقية حتى ييأسوا منها. وفرقت أصحابها ليخربوا البلاد، فخربوها وهدموا الحصون ونهبوا الأموال، وهذا هو الخراب الأول لإفريقية.
فلما قرب حسان من البلاد لقيه جمع من أهلها من الروم يستغيثون من الكاهنة ويشكون إليه منها، فسره ذلك وسار إلى قابس، فلقيه أهلها بالأموال والطاعة، وكانوا قبل ذلك يتحصنون من الأمراء، وجعل فيها عاملاً، وسار إلى قفصة ليتقرب الطريق فأطاعه من بها واستولى عليها وعلى قسطيلية ونفزاوة.
وبلغ الكاهنة قدومه فأحضرت ولدين لها وخالد بن يزيد وقالت لهم: إنني مقتولة فامضوا إلى حسان وخذوا لأنفسكم منه أماناً. فساروا إليه وبقوا معه، وسار حسان نحوها فالتقوا واقتتلوا واشتد القتال وكثر القتل حتى ظن الناس أنه الفناء، ثم نصر الله المسلمين وانهزم البربر وقتلوا قتلاً ذريعاً، وانهزمت الكاهنة، ثم أدركت فقتلت.
ثم إن البربر استأمنوا إلى حسان، فآمنهم وشرط عليهم أن يكون منهم عسكر مع المسلمين عدتهم اثنا عشر ألفاً يجاهدون العدو، فأجابوه إلى ذلك، فجعل على هذا العسكر ابني الكاهنة.
ثم فشا الإسلام في البربر، وعاد حسان إلى القيروان في رمضان من السنة وأقام لا ينازعه أحد إلى أن توفي عبد الملك.
فلما ولي الوليد بن عبد الملك ولى إفريقية عمه عبد الله بن مروان، فعزل عنها حساناً واستعمل موسى بن نصير سنة تسع وثمانين، وعلى ما نذكره إن شاء الله.
وقد ذكر الواقدي أن الكاهنة خرجت غضباً لقتل كسيلة وملكت إفريقية جميعها وعملت بأهلها الأفاعيل القبيحة وظلمتهم الظلم الشنيع ونال من بالقيروان من المسلمين أذى شديد بعد قتل زهير بن قيس سنة سبع وستين، فاستعمل عبد الملك على إفريقية حسان بن النعمان، فسار في جيوش كثيرة وقصد الكاهنة فاقتتلوا فانهزم المسلمون وقتل منهم جماعة كثيرة، وعاد حسان منهزماً إلى نواحي برقة فأقام بها إلى سنة أربع وسبعين، فسير إليه عبد الملك جيشاً كثيفاً وأمره بقصد الكاهنة، فسار إليها وقاتلها فهزمها وقتلها وقتل أولادها وعاد إلى القيروان.
وقيل: إنه لما قتل الكاهنة عاد من فوره إلى عبد الملك واستخلف على إفريقية رجلاً اسمه أبو صالح، غليه ينسب فحص صالح.
ذكر عدة حوادثحج بالناس هذه السنة الحجاج بن يوسف، وكان على قضاء المدينة عبد الله بن قيس بن مخرمة، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة.
وقيل: إن عبد الملك اعتمر هذه السنة، ولا يصح.
وفيها غزا محمد بن مروان الروم صائفة فبلغ أندولية.
وفيها مات جابر بن سمرة السوائي في إمارة بشر بن مروان بالكوفة، وفي إمارته أيضاً مات أبو جحيفة بالكوفة. وفيها مات عمرو بن ميمون الأودي، وقيل: سنة خمس وسبعين، وكان قد أدرك الجاهلية، وهو من المعمرين. وفيها مات عبد الله بن عتبة بن مسعود، وكان من عمال عمر، وقيل: مات سنة ثلاث وسبعين. وفيها مات عبد الرحمن بن عثمان التيمي، وله صحبة. وفيها مات محمد بن حاطب بن الحارث الجمحي، وكان مولده بأرض الحبشة، وأتي به النبي صلى الله عليه وسلم ،. وفيها مات أبو سعيد بن معلى الأنصاري. وفيها مات أوس بن ضمعج الكوفي.
ضمعج بالضاد المعجمة والجيم.
ثم دخلت سنة خمس وسبعينفي هذه السنة غزا محمد بن مروان الصائفة حين خرجت الروم من قبل مرعش.
ذكر ولاية الحجاج بن يوسف العراقفي هذه السنة ولى عبد الملك الحجاج بن يوسف العاق دون خراسان وسجستان، فأرسل إليه عبد الملك بعهده على العراق وهو بالمدينة وأمره بالمسير إلى العراق، فسار في اثني عشر راكباً على النجائب حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار فجأة، وقد كان بشر بعث المهلب إلى الخوارج، فبدأ الحجاج بالمسجد فصعد المنبر وهو متلثم بعمامة خز حمراء فقال: علي بالناس وهو ساكت قد أطال السكوت، فتناول محمد بن عمير حصباء وأراد أن يحصبه بها وقال: قاتله الله ما أغباه وأذمة! والله إني لأحسب خبره كروائه. فلما تكلم الحجاج جعلت الحصباء تنتثر من يده وهو لا يعقل به، قال: ثم كشف الحجاج عن وجهه وقال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
أما واله إني لأحمل الشر محمله وآخذه بفعله واجزيه بمثله، وغني لأرى رؤوساً قد أينعت وقد حان قطافها، إني لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى قد شمرت عن ساقها تشميراً وأنشد:
هذا أوان الحرب فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواقٍ حطم
ليس براعي إبلٍ ولا غنم ... ولا بجزارٍ على لحم وضم
ثم قال:
قد لفها الليل بعصلبي ... أروع خراجٍ من الدوي
مهاجرٍ ليس بأعرابي
ليس أوان بكرة الخلاط ... جاءت به والقلص الأعلاط
تهوي هوي سائقٍ الغطاط إني والله يا أهل العراق ما أغمز كتغماز التين، ولا يقعقع لي بالشنان، ولقد فررت عن ذكاء، وجريت إلى الغاية القصوى. ثم قرأ: " ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنةً بأتيها رزقها رغداً من كل مكانٍ فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " النحل:112؛ وأنتم أولئك وأشباه أولئك، عن أمير المؤمنين عبد الملك نثر كنانته فعجم عيدانها فوجدني أمرها عوداً وأصلبها مكسراً فوجهني إليكم ورمى بي في نحوركم، فإنكم أهل بغي وخلاف وشقاق ونفاق، فإنكم طالما أوضعتم في الشر وسننتم سنن الغي فاستوثقوا واستقيموا، فوالله لأذيقنكم الهوان ولأمرينكم به حتى تدروا، ولألحونكم لحو العود، ولأعصبنكم عصب السلمة حتى تذلوا، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل حتى تذروا العصيان وتنقادوا، ولأقرعنكم قرع المروة حتى تلينوا، إني والله ما أعد إلا وفيت، ولا أخلق إلا فريت، فإياي وهذه الجماعات فلا يركبن رجل إلا وحده، أقسم بالله لتقبلن على الإنصاف، ولتدعن الإرجاف، وقيلاً وقالاً وما تقول وما يقول وأخبرني فلان، أو لأدعن لكل رجل منكم شغلاً في جسده! فيم أنتم وذاك؟ والله لتستقيمن على الحق أو لأضربنكم بالسيف ضرباً يدع النساء أيامى، والولدان يتامى، حتى تذروا السمهى، وتقلعوا عن ها وها، ألا إنه لو ساغ لأهل المعصية معصيتهم ما جبي فيء، ولا قوتل عدو، ولعطلت الثغور، ولولا أنهم يغزون كرهاً ما غزوا طوعاً! وقد بلغني رفضكم المهلب وإقبالكم على مصركم عاصين مخالفين، وإني أقسم بالله لا أجد أحداً من عسكره بعد ثلاثة إلا ضربت عنقه وأنهيت داره!
ثم أمر بكتاب عبد الملك فقرئ على أهل الكوفة، فلما قال القارئ: أما بعد، سلام عليكم فإني أحمد الله إليكم، قال له: اقطع، ثم قال: يا عبيد العصا يسلم عليكم أمير المؤمنين فل يرد راد منكم السلام! أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب! ثم قال للقارئ: اقرأ، فلما قرأ سلام عليكم قالوا بأجمعهم: سلام الله على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
ثم دخل منزله لم يزد على ذلك، ثم دعا العرفاء وقال: ألحقوا الناس بالمهلب وائتوني بالبراءات بموافاتهم ولا تغلقن أبواب الجسر ليلاً ولا نهاراً حتى تنقضي هذه المدة.
تفسير هذه الخطبةقوله: أنا ابن جلا، فابن جلا هو الصبح لأنه يجلو الظلمة. وقوله: فاشتدي زيم، هو اسم للحرب، والحطم الذي يحطم كل ما مر به، والوضم ما وقي به اللحم عن الأرض، والعصلبي الشديد، والأعلاط من الإبل التي لا أرسان عليها. وقوله: فعجم عيدانها، أي عضها واختبرها. وقوله: لأعصبنكم عصب السلمة، فالعصب القطع، والسلم شجر من العضاه. وقوله: لا اخلق إلا فريت، فالخلق لتقدير، ويقال: فريت الأديم إذا أصلحته. والسمهى: الباطل، وأصله ما تسميه العامة مخاط الشيطان. والعطاط، بضم لعين، وقيل بفتحها: ضرب من الطير.
فلما كان اليوم الثالث سمع تكبيراً في السوق فخرج حتى جلس على المنبر فقال: يا أهل العراق وأهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق! إني سمعت تكبيراً ليس بالتكبير الذي يراد به وجه الله ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب، وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف، يا بني اللكيعة وعبيد العصا وأبناء الأيامى ألا يربع رجل منكم على ظلعة، ويحسن حقن دمه، ويعرف موضع قدمه! فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالاً لما قبلها وأدباً لما بعدها.
فقام عمير بن ضابئ الحنظلي التيمي فقال: أصلح الله الأمير، أنا في هذا البعث وأنا شيخ كبير عليل وابني هذا أشب مني. فقال الحجاج: هذا خير لنا من أبيه، ثم قال: ومن أنت؟ قال: أنا عمير بن ضابئ. قال: أسمعت كلامنا بالأمس؟ قال: نعم. قال: ألست الذي غزا عثمان بن عفان؟ قال: بلى. قال: يا عدو الله أفلا إلى عثمان بعثت بدلاً؟ وما حملك على ذلك؟ قال: إنه حبس أبي وكان شيخاً كبيراً. قال: أولست القائل:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
إني لأحسب أن في قتلك صلاح المصرين. وأمر به فضربت رقبته وأنهب ماله.
وقيل: إن عنبسة بن سعيد بن العاص قال للحجاج: أتعرف هذا؟ قال: لا. قال: هذا أحد قتلة عثمان. فال الحجاج: أي عدو الله! أفلا إلى أمير المؤمنين بعثت بديلاً؟ ثم أمر به فضربت عنقه، وأمر منادياً فنادى: ألا إن عمير بن ضابئ أتى بعد ثلاثة وكان سمع النداء فأمرنا بقتله، ألا إن ذمة الله بريئة ممن لم يأت الليلة من جند المهلب.
فخرج الناس فازدحموا على الجسر، وخرج العرفاء إلى المهلب، وهو برامهر مز، فأخذوا كتبه بالموافاة. فقال المهلب: قدم العراق اليوم رجل ذكر، اليوم قوتل العدو.
فلما قتل الحجاج عميراً لقي إبراهيم بن عامر الأسدي عبد الله بن الزبير فسأله عن الخبر، فقال:
أقول لإبراهيم لما لقيته ... أرى الأمر أضحى منصباً متشعبا
تجهز وأسرع فالحق الجيش لا أرى ... سوى الجيش إلا في المهالك مذهبا
تخير فإما أن تزور ابن ضابئٍ ... عميراً وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا خسفٍ نجاؤك منهما ... ركوبك حولياً من الثلج أشهبا
فحال ولو كانت خراسان دونه ... رآها مكان السوق أو هي أقربا
فكائن ترى من مكره الغزو مسمراً ... تحمم حنو السرج حتى تحنبا
تحمم أي لزمه حتى صار كالحميم. وتحنب: اعوج. والزبير ههنا بفتح الزاي وكسر الباء.
قيل: وكان قدوم الحجاج في شهر رمضان، فوجه الحكم بن أيوب الثقفي على البصرة أميراً وأمره أن يشتد على خالد بن عبد الله، فبلغ خالداً الخبر فخرج عن البصرة فنزل الجلحاء وشيعه أهل البصرة فقسم فيهم ألف ألفٍ.
فكان الحجاج أول من عاقب بالقتل على التخلف عن الوجه الذي يكتب إليه. قال الشعبي: كان الرجل إذا أخل بوجهه الذي يكتب إليه زمن عمر وعثمان وعلي نزعت عمامته ويقام للناس ويشهر أمره، فلما ولي مصعب قال: ما هذا بشيء، وأضاف إليه حلق الرؤوس واللحى، فلما ولي بشر بن مروان زاد فيه فصار يرفع الرجل عن الأرض ويسمر في يديه مسماران في حائط، فربما مات وربما خرق المسمار كفه فسلم، فقال شاعر:
لولا مخافة بشرٍ أو عقوبته ... وان ينوط في كفي مسمار
إذاً لعطلت ثغري ثم زرتكم ... إن المحب لمن يهواه زوار
فلما كان الحجاج قال: هذا لعب، أضرب عنق من يخل مكانه من الثغر.
ذكر ولاية سعيد بن أسلم السند وقتلهفي هذه السنة استعمل عبد الملك على السند سعيد بن أسلم بن زرعة، فخرج عليه معاوية ومحمد ابنا الحارث العلاقيان فقتلاه وغلبا على البلاد، فأرسل الحجاج مجاعة بن سعر التميمي إلى السند فغلب على ذلك الثغر وغزا وفتح أماكن من قندابيل، ومات مجاعة بعد سنة بمكران فقيل فيه:
ما من مشاهدك التي شاهدتها ... إلا يزيدك ذكرها مجاعا
ذكر وثوب أهل البصرة بالحجاجفي هذه السنة خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة، فلما قدم البصرة خطبهم بمثل خطبته بالكوفة وتوعد من رآه منهم بعد ثلاثة ولم يلحق بالمهلب، فأتاه شريك بن عمرو اليشكري، وكان به فتق، وكان أعور يضع على عينه قطعةً، فلقب ذا الكرسفة، فقال: أصلح الله الأمير، إن بي فتقاً وقد رآه بشر بن مروان فعذرني، وهذا عطائي مردود في بيت المال فأمر به فضربت عنقه، فلم يبق بالبصرة أحد من عسكر المهلب إلا لحق به. فقال المهلب: لقد أتى العراق رجل ذكر. وتتابع الناس مزدحمين إليه حتى كثر جمعه.
ثم سار الحجاج إلى رستقباذ، وبينها وبين المهلب ثمانية عشر فرسخاً، وإنما أراد أن يشد ظهر المهلب وأصحابه بمكانه، فقام برستقباذ خطيباً حين نزلها فقال: يا أهل المصرين! هذا المكان والله مكانكم شهراً بعد شهر وسنةً بعد سنة حتى يهلك الله عدوكم هؤلاء الخوارج المطلين عليكم.
ثم إنه خطب يوماً فقال: إن الزيادة التي زادكم إياها ابن الزبير إنما هي زيادة مخسرة باطلة من ملحد فاسق منافق ولسنا نجيزها! وكان مصعب قد زاد الناس في العطاء مائة مائة.
فقال عبد الله بن الجارود: إنها ليست بزيادة ابن الزبير إنما هي زيادة أمير المؤمنين عبد الملك قد أنفذها وأجازها على يد أخيه بشر. فقال له الحجاج: ما أنت والكلام لتحسنن حمل رأسك أو لأسلبنك إياه فقال: ولم؟ إني لك لناصح وإن هذا القول من ورائي.
فنزل الحجاج ومكث أشهراً لا يذكر الزيادة ثم أعاد القول فيها، فرد عليه ابن الجارود مثل رده الأول. فقام مصقلة بن كرب العبدي أبو رقبة ابن مصقلة المحدث عنه فقال: إنه ليس للرعة أن ترد على راعيها، وقد سمعنا ما قال الأمير، فسمعاً وطاعةً فيما أحببنا وكرهنا. فقال له عبد الله بن الجارود: يا ابن الجرمقانية! ما أنت وهذا! ومتى كان مثلك يتكلم وينطق في مثل هذا؟ وأتى الوجوه عبد الله بن الجارود فصوبوا رأيه وقوله، وقال الهذيل بن عمران البرجمي وعبد الله بن حكيم بن زياد المجاشعي وغيرهما: نحن معك وأعوانك، إن هذا الرجل غير كافٍ حتى ينقصنا هذه الزيادة، فهلم نبايعك على إخراجه من العراق ثم نكتب إلى عبد الملك نسأله أن يولي علينا غيره، فإن أبى خلعناه، فإنه هائب لنا ما دامت الخوارج. فبايعه الناس سراً وأعطوه المواثيق على الوفاء وأخذ بعضهم على بعضهم العهود.
وبلغ الحجاج ما هم فيه فأحرز بيت المال واحتاط فيه. فلما تم لهم أمرهم أظهروه، وذلك في ربيع الآخر سنة ست وسبعين، وأخرج عبد الله بن الجارود عبد القيس على راياتهم، وخرج الماس معه حتى بقي الحجاج وليس معه إلا خاصته وأهل بيته، فخرجوا قبل الظهر، وقطع ابن الجارود ومن معه الجسر، وكانت خزائن الحجاج والسلاح من ورائه. فأرسل الحجاج أعين، صاحب حمام أعين بالكوفة، إلى ابن الجارود يستدعيه إليه، فقال ابن الجارود: ومن الأمير! لا ولا كرامة لابن أبي رغال! ولكن ليخرج عنا مذموناً مدحوراً وإلا قاتلناه! فقال أعين: فإنه يقول لك أتطيب نفساً بقتلك وقتل أهل بيتك وعشيرتك؟ والذي نفسي بيده لئن لم يأتني لأدعن قومك عامة وأهلك خاصة حديثاً للغابرين. وكان الحجاج قد حمل أعين هذه الرسالة. فقال ابن الجارود: لولا أنك رسول لقتلتك يا ابن الخبيثة! وأمر فوجئ في عنفه وأخرج.
واجتمع الناس لابن الجارود، فأقبل بهم زحفاً نحو الحجاج، وكان رأيهم أن يخرجوه عنهم ولا يقاتلوه، فلما صاروا إليه نهبوه في فسطاطه وأخذوا ما قدروا عليه من متاعه ودوابه، وجاء أهل اليمن فأخذوا امرأته ابنة النعمان بن بشير، وجاءت مضر فأخذوا امرأته الأخرى أم سلمة بنت عبد الرحمن بن عمرو أخي سهيل بن عمرو. فخافه السفهاء، ثم إن القوم انصرفوا عن الحجاج وتركوه، فأتاه قوم من أهل البصرة فصاروا معه خائفين من محاربة الخليفة.
فجعل الغضبان بن القبعثري الشيباني يقول لابن الجارود: تعش بالجدي قبل أن يتغدى بك، أما ترى من قد أتاه منكم؟ ولئن أصبح ليكثرن ناصره ولتضعفن منتكم! فقال: قد قرب المساء ولكنا نعاجله بالغداة.
وكان مع الحجاج عثمان بن قطن وزياد بن عمرو العتكي، وكان زياد على شرطة البصرة، فقال لهما: ما تريان؟ فقال زياد: أن آخذ لك من القوم أماناً وتخرج حتى تلحق بأمير المؤمنين فقد ارفض أكثر الناس عنك ولا أرى لك أن تقاتل بمن معك. فقال عثمان بن قطن الحارثي: لكني لا أرى ذلك، إن أمير المؤمنين قد شركك في أمرك وخلطك بنفسك واستنصحك وسلطك فسرت إلى ابن الزبير، وهو أعظم الناس خطراً، فقتلته، فولاك الله شرف ذلك وسناه، وولاك أمير المؤمنين الحجاز، ثم رفعت فولاك العراقين، فحيث جريت إلى المدى وأصبت الغرض الأقصى تخرج على قعود إلى الشام، والله لئن فعلت لا نلت من عبد الملك مثل الذي أنت فيه من سلطان أبداً وليتضعن شأنك، ولكني أرى أن نمشي بسيوفنا معك فنقاتل حتى نلقى ظفراً أو نموت كراماً. فقال له الحجاج: الرأي ما رأيت. وحفظ هذا لعثمان وحقدها على زياد بن عمرو.
وجاء عامل بن مسمع إلى الحجاج فقال: إني قد أخذت لك أماناً من الناس، فجعل الحجاج يرفع صوته ليسمع الناس ويقول: والله لا أؤمنهم أبداً حتى يأتوا بالهذيل وعبد الله بن حكيم. وأرسل إلى عبيد بن كعب النميري يقول: هلم إلي فامنعني. فقال: قل له إن أتيتني منعتك. فقال: لا ولا كرامة! وبعث إلى محمد بن عمير بن عطارد كذلك، فأجابه مثل الجواب الأول، فقال: لا ناقتي في هذا ولا جملي. وأرسل إلى عبد الله بن حكيم المجاشعي فأجابه كذلك أيضاً.
ومر عبد بن الحصين الحبطي بابن الجارود وابن الهذيل وعبد الله بن حكيم وهم يتناجون، فقال: أشركونا في نجواكم. فقالوا: هيهات أن يدخل في نجوانا أحد من بني الحبط! فغضب وصار إلى الحجاج في مائة رجل، فقال له الحجاج: ما أبالي من تخلف بعدك.
وسعى قتيبة بن مسلم في قومه في يحيى أعصر؟ وقال: لا والله لا ندع قيساً يقتل ولا ينهب ماله، يعني الحجاج، وأقبل إلى الحجاج.
وكان الحجاج قد يئس من الحياة، فلما جاءه هؤلاء اطمأن، ثم جاءه سبرة بن علي الكلابي وسعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي فسلم، فأدناه منه، وأتاه جعفر بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدي، وأرسل إليه مسمع بن مالك بن مسمع: إن شئت أتيتك وإن شئت أقمت وثبطت الناس عنك. فقال: أقم وثبط الناس عني.
فلما اجتمع إلى الحجاج جمع يمنع بمثلهم خرج فعبأ أصحابه ولتلاحق الناس به، فلما أصبح إذا حوله نحو ستة آلاف، وقيل غير ذلك. فقال ابن الجارود لعبيد الله بن زياد بن ظبيان: ما الرأي؟ قال: تركت الرأي أمس حين قال لك الغضبان تعش بالجدي قبل أن يتغذى بك، وقد ذهب الرأي وبقي الصبر.
فدعا ابن الجارود بدرع فلبسها مقلوبة فتطير. وحرض الحجاج أصحابه وقال: لا يهولنكم ماترون من كثرتهم. وتزاحف القوم وعلى ميمنة الحجاج قتيبة بن مسلم، ويقال عباد بن الحصين، وعلى ميسرته سعيد بن أسلم؛ فحمل ابن الجارود في أصحابه حتى جاز أصحاب الحجاج، فعطف الحجاج عليه، ثم اقتتلوا ساعةً وكاد ابن الجارود يظفر فأتاه سهم غرب فأصابه فوقع ميتاً. ونادى منادي الحجاج بأمان الناس إلا الهذيل وعبد الله بن حكيم، وأمر أن لا يتبع المنهزمون، وقال: الاتباع من سوء الغلبة. فانهزم عبيد الله بن زياد بن ظبيان، وأتى سعيد بن عياذ بن الجلندي الأزدي بعمان، فقيل لسعيد: غنه رجل فاتك فاحذره، فلما جاء البطيخ بعث إليه بنصف بطيخة مسمومة وقال: هذا أول شيء جاء من البطيخ وقد أكلت نصف بطيخة وبعثت بنصفها، فأكلها عبيد الله فأحسن بالشر فقال: أردت أن أقتله فقتلني.
وحمل رأس ابن الجارود وثمانية عشر رأساً من وجوه أصحابه إلى المهلب فنصبت ليراها الخوارج وييأسوا من الاختلاف.
وحبس الحجاج عبيد بن كعب ومحمد بن عمير حيث قالا للحجاج: تأتينا لنمنعك. وحبس الغضبان بن القبعثري وقال له: أنت القائل تعش بالجدي قبل أن يتغدى بك؟ فقال: ما نفعت من قيلتي له ولا ضررت من قيلتي فيك. فكتب عبد الملك إلى الحجاج بإطلاقه.
وقتل مع ابن الجارود عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري، فقال الحجاج: ألا أرى أنساً يعين علي! فلما دخل البصرة أخذ ماله، فحين دخل عليه أنس قال: لا مرحباً ولا أهلاً بك يا ابن الخبيثة! شيخ ضلالة جوال في الفتن مرة مع أبي تراب ومرة مع ابن الزبير ومرة مع ابن الجارود أما والله لأجردنك جرد القضيب، ولأعصبنك عصب السلمة، ولأقلعنك قلع الصمغة! فقال أنس: من يعني الأمير؟ قال: إياك أعني، أصم الله صداك! فرجع أنس فكتب إلى عبد الملك كتباً يشكو فيه الحجاج وما صنع به. فكتب عبد الملك إلى الحجاج: أما بعد يا ابن أم الحجاج فإنك عبد طمت بك الأمور فعلوت فيها حتى عدوت طورك وجاوزت قدرك، يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب لأغمرنك غمزة كبعض غمزات الليوث الثعالب، ولأخبطنك خبطةً تود لها أنك رجعت في مخرجك من بطن أمك، أما تذكر حال آبائك في الطائف حيث كانوا ينقلون الحجارة على ظهورهم ويحتفرون الآبار بأيديهم في أوديتهم ومياههم؟ أنسيت حال آبائك في اللؤم والدناءة في المروة والخلق؟ وقد بلغ أمير المؤمنين الذي كان منك إلى أنس بن مالك جرأة وإقداماً، وأظنك أردت أن تسبر ما عند أمير المؤمنين في أمره فتعلم إنكاره ذلك وإغضاءه عنك، فإن سوغك ما كان منك مضيت عليه قدماً، فعليك لعنة الله من عند أخفش العينين أصك الرجلين ممسوح الجاعرتين! ولولا أن أمير المؤمنين يظن أن الكاتب أكثر في الكتابة عن الشيخ إلى أمير المؤمنين فيك لأرسل من يسحبك ظهراً لبطن حتى يأتي بك أنساً فيحكم فيك، فأكرم أنساً وأهل بيته واعرف له حقه وخدمته رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تقصرن في شيء من حوائجه ولا يبلغن أمير المؤمنين عنك خلاف ما تقدم فيه إليك من أمر أنس وبره وإكرامه فيبعث إليك من يضرب ظهرك ويهتك سترك ويشمت بك عدوك، والقه في منزله متنصلاً إليه، وليكتب إلى أمير المؤمنين برضاه عنك إن شاء الله، والسلام.
وبعث بالكتاب مع إسماعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم، فأتى إسماعيل أنساً بكتاب أمير المؤمنين إليه فقرأه، وأتى الحجاج بالكتاب إليه فجعل يقرأه ووجهه يتغير وجبينه يرشح عرقاً ويقول: يغفر الله لأمير المؤمنين. ثم اجتمع بأنس فرحب به الحجاج واعتذر إليه وقال: أردت أن يعلم أهل العراق إذ كان من ابنك ما كان وإذ بلغت منك ما بلغت أني إليهم بالعقوبة أسع.
فقال أنس: ما شكوت حتى بلغ مني الجهد وحتى زعمت أنا الأشرار وقد سمانا الله الأنصار، وزعمت أنا أهل النفاق ونحن الذين تبوأوا الدار والإيمان، وسيحكم الله بيننا وبينك فهو أقدر على التغيير، لا يشبه الحق عنده الباطل ولا الصدق الكذب، وزعمت أنك اتخذتني ذريعةً وسلماً إلى مساءة أهل العراق باستحلال ما حرم الله عليك مني، ولم يكن لي عليك قوة فوكلتك إلى الله ثم إلى أمير المؤمنين فحفظ من حقي ما لم تحفظ، فوالله لو أن النصارى على كفرهم رأوا رجلاً خدم عيسى بن مريم يوماً واحداً لعرفوا من حقه ما لم تعرف أنت من حقي، وقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عشر سنين. وبعد فإن رأينا خيراً حمدنا الله عليه وأثنينا، وإن رأينا غي ذلك صبرنا، والله المستعان. ورد عليه الحجاج ما كان أخذ منه.
ذكر شير زنجي والزنج معهاجتمع الزنج بفرات البصرة في آخر أيام مصعب بن الزبير، ولم يكونوا بالكثير، فأفسدوا وتناولوا الثمار، وولي خالد بن عبيد الله بن خالد البصرة وقد كثروا، فشكا الناس إليه ما نالهم منهم، فجمع لهم جيشاً، فلما بلغهم ذلك تفرقوا وأخذ بعضهم فقتلهم وصلبهم.
فلما كان من أمر ابن الجارود ما ذكرنا خرج الزنج أيضاً فاجتمع منهم خلق كثير بالفرات وجعلوا عليهم رجلاً اسمه رباح، ويلقب شير زنجي، يعني أسد الزنج، فأفسدوا، فلما فرغ الحجاج من ابن الجارود أمر زياد بن عمرو، وهو على شرطة البصرة، أن يرسل إليهم جيشاً يقاتلهم، ففعل وسير إليهم جيشاً عليه ابنه حفص بن زياد فقاتلهم فقتلوه وهزموا أصحابه، ثم أرسل إليهم جيشاً آخر فهزم الزنج وقتلهم واستقامت البصرة.
ذكر إجلاء الخوارج عن رامهر مز وقتل ابن مخنفلما أتى كتاب الحجاج إلى المهلب وابن مخنف يأمرهما بمناهضة الخوارج، زحفوا إليهم وقاتلوهم شيئاً من قتال، فانهزمت الخوارج كأنهم على حامية، ولم يكن منه قتال، وسار الخوارج حتى نزلوا كازرون، وسار المهلب وابن مخنف حتى نزلوا بهم، وخندق المهلب على نفسه وقال لابن مخنف: إن رأيت أن تخندق عليك فافعل. فقال أصحابه: نحن خندقنا سيوفنا.
فأتى الخوارج المهلب ليبيتوه فوجدوه قد تحرز، فمالوا نحو ابن مخنف فوجدوه لم يخندق فقاتلوه فانهزم عنه أصحابه، فنزل فقاتل في أناس من أصحابه فقتل وقتلوا حوله كلهم، فقال شاعرهم:
لمن العسكر المكلل بالصر ... عى فهم بين ميتٍ وقتيل
فتراهم تسفي الرياح عليهم ... حاصب الرمل بعد جر الذيول
هذا قول أهل البصرة.
فأما أهل الكوفة فإنهم ذكروا أنه لما وصل كتاب الحجاج بمناهضة الخوارج ناهضهم المهلب وعبد الرحمن فاقتتلوا قتالاً شديداً ومالت الخوارج إلى المهلب فاضطروه إلى عسكره، فأرسل إلى عبد الرحمن يستمده، فأمده عبد الرحمن بالخيل والرجال، وكان ذلك بعد الظهر لعشر بقين من رمضان.
فلما كان بعد العصر ورأت الخوارج ما يجيء من عسكر عبد الرحمن من الرجال، ظنوا أنه قد خف أصحابه، فجعلوا بإزاء المهلب من يشغله وانصرفوا بجندهم إلى عبد الرحمن، فلما رآهم قد قصدوه نزل ونزل معه القراء، منهم: أبو الأحوص، صاحب ابن مسعود، وخزيمة بن نصر أبو نصر بن خزيمة العبسي، الذي قتل مع زيد بن علي وصلب معه بالكوفة، ونزل معه من قومه أحد وسبعون رجلاً، وحملت عليهم الخوارج فقاتلهم قتالاً شديداً وانكشف الناس عنه وبقي في عصابة من أهل الصبر ثبتوا معه، وكان ابنه جعفر بن عبد الرحمن فيمن بعثه إلى المهلب، فنادى في الناس ليتبعوه إلى أبيه، فلم يتبعه إلا ناس قليل، فجاء حتى دنا من أبيه، فحالت الخوارج بينهما، فقاتل حتى جرح. وقاتل عبد الرحمن ومن معه على تل مشرف حتى ذهب نحو من ثلثي الليل، ثم قتل في تلك العصابة، فلما أصبحوا جاء المهلب فدفنه فصلى عليه وكتب بذلك إلى الحجاج، فكتب الحجاج إلى عبد الملك بذلك، فترحم عليه وذم أهل الكوفة.
وبعث الحجاج إلى عسكر عبد الرحمن عتاب بن ورقاء وأمره أن يسمع للمهلب، فساءه ذلك ولم يجد بداً من طاعته، فجاء إلى العسكر وقاتل الخوارج وأمره إلى المهلب وهو يقضي أموره ولا يكاد يستشير المهلب. فوضع عليه المهلب رجالاً اصطنعهم وأغراهم به، منهم بسطام بن مصقلة بن هبيرة. وجرى بين عتاب والمهلب ذات يوم كلام أغلظ كل منهما لصاحبه، ورفع المهلب القضيب على عتاب، فوثب إليه ابنه المغيرة بن المهلب فقبض القضيب وقال: أصلح الله الأمير! شيخ من أشياخ العرب وشريف من أشرافهم، إن سمعت منه بعض ما تكره فاحتمله له فإنه لذلك أهل. ففعل، فافترقا، فأرسل عتاب إلى الحجاج يشكو المهلب ويسأله أن يأمره بالعود إليه، فوافق ذلك حاجةً من الحجاج إليه فيما لقي أشراف الكفة من شبيب، فاستقدمه وأمره أن يترك ذلك الجيش مع المهلب، فجعل المهلب عليهم ابنه حبيباً.
وقال سراقة بن مرداس البارقي يرثي عبد الرمن بن مخنف:
ثوى سيد الأزدين أزد شنوءةٍ ... وأزاد عمان رهن رمسٍ بكازر
وضارب حتى مات أكرم ميتةٍ ... بأبيض صافٍ كالعقيقة باتر
وصرع حول التل تحت لوائه ... كرام المساعي من كرام المعاشر
قضى نحبه يوم اللقاء ابن مخنفٍ ... وأدبر عنه كل ألوث داثر
أمد ولم يمدد فراح مشمراً ... إلى الله لم يذهب بأثواب غادر
وأقام المهلب بسابور يقاتلهم نحواً من سنة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة تحرك صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس بن زيد مناة من تميم، وكان يرى رأي الصفرية، وهو أول من خرج فيهم، وحج هذه السنة ومعه شبيب بن يزيد وسويد والبطين وأشباههم؛ وحج في هذه السنة عبد الملك بن مروان، فهم شبيب أن يفتك به فبلغه ذلك من خبرهم، فكتب إلى الحجاج بن يوسف بعد انصرافه يأمره بطلبهم، وكان شيخاً صالحاً يأتي الكوفة فيقيم بها الشهر ونحوه فيلقى أصحابه ويعد ما يحتاج إليه، فلما طلبه الحجاج نبت به الكوفة فتركها.
وفيها غزا محمد بن مروان الصائفة عند خروج الروم إلى الغنيق من ناحية مرعش.
وحج بالناس عبد الملك فخطب الناس بالمدينة فقال بعد حمد الله والثناء عليه: أما بعد فإني لست بالخليفة المستضعف، يعني عثمان، ولا بالخليفة المداهن، يعني معاوية، ولا بالخليفة المأفون، يعني يزيد، ألا وإني لا أدواي هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم، وإنكم تحفظوننا أعمال المهاجرين الأولين ولا تعلمون مثل أعمالهم، وإنكم تأمروننا بتقوى الله وتنسون ذلك من أنفسكم، والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه. ثم نزل.
وفي هذه السنة مات العرباض بن سارية السلمي، وهو من أهل الصفة، وقيل: بل مات بالشام في فتنة ابن الزبير. وفيها توفي الأسود بن يزيد النخعي، وهو ابن أخي علقمة بن قيس.
ثم دخلت سنة ست وسبعين
ذكر خروج صالح بن مسرحكان صالح بن مسرح التميمي رجلاً ناسكاً مصفر الوجه عبادة، وكان بداراً وأرض الموصل والجزيرة، وله أصحاب يقرأ بهم القرآن والفقه ويقص عليهم، فدعاهم إلى الخروج وإنكار الظلم وجهاد المخالفين لهم، فأجابوه، وحثهم عليهم، فراسل أصحابه بذلك وقلاقوا به، فبينا هم في ذلك إذ قدم عليه كتاب شبيب يقول له: غنك كنت تريد الخروج فإن كان ذلك من شأنك اليوم فأنت شيخ المسلمين ولن نعدل بك أحداً، وإن أردت تأخير ذلك اليوم أعلمني فإن الآجال غادية ورائحة ولا آمن أن تختر مني المنية ولم أجاهد الظالمين.
فكتب إليه صالح: إنه لم يمنعني من الخروج إلا انتظارك، فأقبل إلينا فإنك ممن لا يستغنى عن رأيه ولا تقضى دونه الأمور. فلما قرأ شبيب كتابه دعا نفراً من أصحابه، منهم: أخوه مصاد بن يزيد بن نعيم الشيباني والمحلل بن وائل اليشكري وغيرهما، وخرج بهم حتى قدم على صالح بدارا، فلما لقيه قال: اخرج بنا رحمك الله، فوالله ما تزداد السنة إلا دروساً ولا يزداد المجرمون إلا طغياناً.
فبث صالح رسله وواعد أصحابه الخروج إلى ذلك هلال صفر سنة ست وسبعين فاجتمعوا عنده تلك الليلة، فسأله بعضهم عن القتال قبل الدعاء أم بعده؟ فقال: بل ندعوهم فإنه أقطع لحجتهم. فقال له: كيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا به، ما تقول في دمائهم وأموالهم؟ فقال لهم: إن قتلنا وغنمنا فلنا وإن عفونا فموسع علينا.
ثم وعظ أصحابه وأمرهم بأمره وقال لهم: عن أكثركم رجالة وهذه دواب لمحمد بن مروان فابدأوا بها فاحملوا عليها رجالكم وتقورابها على عدوكم.
فخرجوا تلك الليلة فأخذوا الدواب فاحتملوا عليها وأقاموا بأرض دارا ثلاث عشرة ليلة.
وتحصن منهم أهلها وأهل نصيبين وسنجار، وكان خروجه وهو في مائة وعشرين، وقيل وعشرة.
وبلغ محمداً مخرجهم، وهو أمير الجزيرة، فأرسل عدي الكندي إليهم في ألف فارس. فسار من حران فنزل دوغان، وكانوا أول جيش سار إلى صالح، وسار عدي وكأنه يساق إلى الموت. وأرسل إلى صالح: إن كنت ترى رأينا خرجنا عنك، وإلا فنرى رأينا. فأرسل إليه عدي: إني لا أرى رأيك ولكني أكره قتالك وقتال غيك. فقال صالح لأصحابه: اركبوا، فركبوا، وحبس الرسول عنده ومضى بأصحابه فأتى عدياً وهو يصلي الضحى، فلم يشعروا إلا والخيل طالعة عليهم، فلما رأوها تنادوا، وجعل صالح شبيباً في ميمنته، وسويد بن سليم في ميسرته، ووقف في القلب، فأتاهم وهم على غير تعبية وبعضهم يجول في بعض، فحمل عليهم شبيب وسويد فانهزموا، وأتي عدي بن عدي بدابته فركبها وانهزم، وجاء صالح ونزل في معسكره وأخذوا ما فيه.
ودخل أصحاب عدي على محمد بن مروان، فغضب على عدي ثم دعا خالد بن جزء السلمي فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعا الحارث بن جعونة العامري فبعثه في ألف وخمسمائة، وقال: اخرجا إلى هذه المارقة وأغذا السير فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه. فخرجا متساندين يسألان عن صالح، فقيل لهما: إنه نحو آمد، فقصداه، فوجه صالح شبيباً في شطر من أصحابه إلى الحارث بن جعونة، وتوجه هو نحو خالد، فاقتتلوا من وقت العصر أشد قتال، فلم تثبت خيل محمد لخيل صالح، فلما رأى أميراهم ذلك ترجلا وترجل معهما أكثر أصحابهما، فلم يقدر أصحاب صالح حينئذٍ عليهم، وكانوا إذا حملوا استقبلتهم الرجالة بالرماح ورماهم الرماة بالنبل وطاردهم خيالتهم، فقاتلوهم إلى المساء، فكثرت الجراح في الفريقين، وقتل من أصحاب صالح نحو ثلاثين رجلاً، ومن أصحاب محمد أكثر من سبعين.
فلما أمسوا تراجعوا، فاستشار صالح أصحابه، فقال شبيب: إن القوم قد اعتصموا بخندقهم فلا أرى أن نقيم عليهم. فقال صالح: وأنا أرى ذلك. فخرجوا من ليلتهم سائرين فقطعوا أرض الجزيرة وأرض الموصل وانتهوا إلى الدسكرة، وخرج صالح بن مسرح حتى أتى قرية يقال لها مدبج على تخوم ما بين الموصل وجوخى، وصالح في تسعين رجلاً، فلقيهم الحارث لثلاث عشرة بقين من جمادى، فاقتتلوا فانهزم سويد بن سليم في ميسرة صالح، وثبت صالح، فقتل وقاتل شبيب حتى صرع عن فرسه، فحمل عليهم راجلاً، فانكشفوا عنه، فجاء إلى موقف صالح فأصابه قتيلاً، فنادى: إلي يا معشر المسلمين، فلاذوا به. فقال لأصحابه: ليجعل كل واحد منكم ظهره إلى ظهر صاحبه وليطاعن عدوه حتى يدخل هذا الحصين ونرى رأينا، ففعلوا ذلك ودخلوا الحصين جميعهم، وهم سبعون رجلاً، وأحاط بهم الحارث وأحرق عليهم الباب، وقال: إنهم لا يقدرون على الخروج منه.
مسرح بضم الميم، وفتح السين المهملة، وتشديد الراء وكسرها، وبالحاء المهملة. وجعونة بفتح الجيم، وسكون العين المهملة، وفتح الواو، وآخره نون.
ذكر بيعة شبيب الخارجي
ومحاربة الحارث بن عميرةفلما أحرق الحارث الباب على شبيب ومن معه وقال: إنهم لا يقدرون على الخروج منه ونصبحهم غداً فنقتلهم، وانصرف إلى عسكره، قال شبيب لأصحابه: ما تنظرون؟ فوالله لئن صبحكم هؤلاء غدوة إنه لهلاككم فقالوا: مرنا بأمرك. فقال: بايعوني أو من شئتم من أصحابكم واخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم فإنهم آمنون.
فبايعوا شبيباً، وهو شبيب بن يزيد بن نعيم الشيباني، وأتوا باللبود فبلوها وجعلوها على جمر الباب وخرجوا، فلم يشعر الحارث إلا وشبيب وأصحابه يضاربونهم بالسيوف في جوف العسكر، فصرع الحارث، فاحتمله أصحابه وانهزموا نحو المدائن، وحوى شبيب عسكرهم، وكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب.
ذكر الحرب بين أصحاب شبيب وغيرهثم إن شبيباً لقي سلامة بن سنان التيمي، تيم شيبان، بأرض الموصل، فدعاه إلى الخروج معه، فشرط عليه سلامة أن ينتخب ثلاثين فارساً ينطلق بهم نحو عنزة فيشفي نفسه منهم، فإنهم كانوا قتلوا أخاه فضالة، وذلك أن فضالة كان خرج في ثمانية عشر رجلاً حتى نزل ماء يقال له الشجرة عليه أثلة عظيمة وعليه عنزة نازلون، فلما رأوه قالوا نقتل هؤلاء ونغدو على أميرنا فيعطينا شيئاً، فقال أخواله من بني نصر: لا نساعدكم على قتل ابن أخينا، فنهضت عنزة فقتلوهم وأتوا برؤوسهم عبد الملك بن مروان، فلذلك أنزلهم بانقيا وفرض لهم، ولم يكن لهم قبل ذلك فرائض إلا قليلة، فقال سلامة أخو فضالة يذكر قتل أخيه وخذلان أخواله إياه:
وما خلت أخوال الفتى يسلمونه ... لوقع السلاح قبل ما فعلت نصر
وكان خروج فضالة قبل خروج صالح. فأجابه شبيب، فخرج حتى انتهى إلى عنزة، فجعل يقتل محلة بعد محلة حتى انتهى إلى فريق منهم فيهم خالته قد أكبت على ابن لها، وهو غلام حين احتلم، فأخرجت ثديها وقالت: أنشدك برحم هذا يا سلامة! فقال: والله ما رأيت فضالة مذ أناخ بأصل الشجرة، يعني أخاه، لتقومن عنه أو لأجمعنكم بالرمح! فقامت عنه فقتله.
ذكر مسير شبيب إلى بني شيبان
وإيقاعه بهمثن أقبل شبيب في خيله نحو راذان، فهرب منه طائفة من بني شيبان ومعهم ناس من غيرهم قليل حتى نزلوا ديراً خرباً إلى جنب حولايا، وهم نحو ثلاثة آلاف، وشبيب في نحو سبعين رجلاً أو يزيدون قليلاً، فنزل بهم فتحصنوا منه ثم إن شبيباً سرى في اثني عشر رجلاً إلى أمة، وكانت في سفح جبل ساتيدما، فقال: لآتين بها تكون في عسكري لا تفارقني حتى تموت أو أموت. فسار بهم ساعةً، وإذا هو بجماعة من بني شيبان في أموالهم مقيمين لا يرون أن شبيباً يمر بهم ولا يشعر بهم، فحمل عليهم فقتل ثلاثين شيخاً فيهم حوثرة بن أسد، ومضى شبيب إلى أمه فحملها، وأشرف رجل من الدير على أصحاب شبيب، وكان قد استخلف شبيب عليهم أخاه مصاد بن يزيد، وهم قد حصروا من في الدير، فقال: يا قوم بيننا وبينكم القرآن، قال الله تعالى " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه " التوبة:6، فكفوا عنا حتى نخرج إليكم على أمان وتعرضوا علينا رأيكم، فإن قبلناه حرمت عليكم دماؤنا وأموالنا، وإن نحن لم نقبله رددتمونا إلى مأمننا ثم رأيتكم رأيكم. فأجابوهم، فخرجوا إليهم، فعرض عليهم أصحاب شبيب قولهم فقبلوه كله ثم خالطوه ونزلوا إليهم، وجاء شبيب فأخبر بذلك، فقال: أصبتم ووفقتم.
ذكر الوقعة بين شبيب وسفيان الخثعميثم إن شبيباً ارتحل فخرج معه طائفة وأقامت طائفة، وسار في أرض الموصل نحو أذربيجان، وكتب الحجاج إلى سفيان بن أبي العالية الخثعي يأمره بالقفول، وكان معه ألف فارس، يريد أن يدخل بها طبرستان. فلما أتاه كتاب الحجاج صالح صاحب طبرستان ورجع، فأمره الحجاج بنزول الدسكرة حتى يأتيه جيش الحارث بن عميرة الهمداني، وهو الذي قتل صالحاً، وحتى تأتيه خيل المناظر ثم يسير إلى شبيب. فأقام بالدسكرة ونودي في جيش الحارث: الحرب بالكوفة والمدائن، فخرجوا حتى أتوا سفيان وأتته خيل المناظر عليهم سورة بن الحر التميمي، فكتب إليه سورة بالتوقف حتى يلحقه، فعجل سفيان في طلب شبيب فلحقه بخانقين، وارتفع شبيب عنهم حتى كأنه يكره قتالهم، وأكمن أخاه مصاداً في هزم من الأرض في خمسين رجلاً فارساً، ومضى في سفح الجبل، فقالوا: هرب عدو الله، فاتبعوه، فقال لهم عدي بن عميرة الشيباني: لا تعجلوا حتى نبصر الأرض لئلا يكون قد كمن فيها كميناً.
فلم يلتفتوا، فاتبعوه، فلما جازوا الكمين رجع عليهم شبيب وخرج أخوه في الكمين فانهزم الناس بغير قتال وثبت سفيان في نحو من مائتي رجل، فقاتلهم قتالاً شديداً، وحمل سويد بن سليم على سفيان فطاعنه، ثم تضاربا بالسيوف واعتنق كل واحد منهما صاحبه، فوقعا إلى الأرض. ثم تحاجزوا وحمل عليهم شبيب فانكشفوا، وأتى سفيان غلام له فنزل عن دابته وأركبه وقاتل دونه، فقتل الغلام ونجا سفيان حتى انتهى إلى بابل مهروذ، وكتب إلى الحجاج بالخبر ويعرفه وصول الجند إلا سورة بن الحر فإنه لم يشهد معي القتال، فلما قرأ الحجاج الكتاب أثنى عليه.
ذكر الوقعة بين شبيب وسورة بن الحر
فلما وصل كتاب سفيان إلى الحجاج كتب إلى سورة بن الحر يلومه ويتهدده ويأمره أن ينتخب من المدائن خمسمائة فارس ويسير بهم وبمن معه إلى شبيب. ففعل ذلك سورة وسار نحو شبيب، وشبيب يجول في جوخى، وسورة في طلبه، حتى انتهى إلى المدائن، فتحصنوا منه، وأخذ منها دواب وقتل من ظهر له، فأتى فقيل له: هذا سورة قد أقبل، فخرج حتى أتى النهروان، فصلوا وترحموا على أصحابهم الذين قتلهم علي وتبرأوا من علي وأصحابه. وأخبرت سورة عيونه بمنزل شبيب، فدعا أصحابه فقال: إن شبيباً لا يزيد على مائة رجل، وقد رأيت أن أنتخبكم فأسير في ثلاثمائة رجل من شجعانكم فآتيه وهو آمن بياتكم، فإني أرجو من الله أن يصرعهم. فأجابوه إلى ذلك، فانتخب ثلاثمائة وسار بهم نحو النهروان، وبات شبيب وقد أذكى الحرس، فلما دنا أصحاب سورة علموا بهم فاستووا على خيولهم وتعبوا تعبيتهم للحرب، فلما انتهى إليهم سورة رآهم قد حذروا، فحمل عليهم، فثبتوا له وضاربوهم، وصاح شبيب بأصحابه فحملوا عليهم حتى تركوا العرصة، وشبيب يقول:
من ينك العير ينك نياكا ... جندلتان اصطكتا اصطكاكا
فرجع سورة إلى عسكره وقد هزم الفرسان وأهل القوة، فتحمل بهم وأقبل نحو المدائن واتبعه شبيب يرجو أن يدركه فيصيب عسكره. فوصل إليهم وقد دخل الناس المدائن، وخرج ابن أبي العصيفر أمير المدائن في أهل المدائن فرموا أصحاب شبيب بالنبل والحجارة، فارتفع شبيب عن المدائن فمر على كلواذى فأصاب بها دواب كثرةً للحجاج، فأخذها ومضى إلى تكريت وأرجف الناس بالمدائن بوصول شبيب إليهم، فهرب من بها من الجند نحو الكوفة، وكان شبيب بتكريت، ولام الحجاج سورة وحبسه ثم أطلقه.
ذكر الحرب بين شبيب والجزل بن سعيد
وقتل سعيد بن مجالدفلما قدم الفل الكوفة سير الحجاج الجزل بن سعيد بن شر حبيل الكندي، وأسمه عثمان، نحو شبيب، وأوصاه بالاحتياط وترك العجلة، فقال له: لا تبعث معي من الجند المهزوم أحداً فإنهم قد دخلهم الرعب ولا ينتفع بهم المسلمون. قال: قد أحسنت. فأخرج معه أربعة آلاف، فساروا معه، فقدم الجزل بين يديه عياض بن أبي لبنة الكندي، فساروا في طلب شبيب، وجعل شبيب يريه الهيبة له فيخرج من رستاق إلى رستاق ولا يقيم إرادة أن يفرق الجزل أصحابه فيلقاه وهو على غير تعبية. فجعل الجزل لا يسير إلا على تعبية ولا ينزل إلا خندق على نفسه.
فلما طال ذلك على شبيب دعة أصحابه وكانوا مائة وستين رجلاً، ففرقهم أربع فرق، على كل أربعين رجل من أصحابه، فجعل أخاه مصاداً في أربعين، وسويد بن سليم في أربعين، والمحلل بن وائل في أربعين، وبقي هو في أربعين، وأتته عيونه فأخبروه أن الجزل بدير يزدجرد، فأمر شبيب أصحابه فعلقوا على دوابهم، ثم سار بهم وأمر كل رأس من أصحابه أن يأتي الجزل من جهة ذكرها له، وقال: إني أريد أن أبيته، فحمل عليهم مصاد في أربعين رجلاً، فقاتلوه ساعةً ثم اندفعوا بين يديه، وقد أدركهم شبيب، فقال: اركبوا أكتافهم لتدخلوا عليهم عسكرهم إن استطعتم.
واتبعوهم ملحين فانتهوا إلى عسكرهم، فمنعهم أصحابه من دخول خندقهم، وكان للجزل مسالح أخرى، فرجعت فمنعتهم من دخول الخندق، وقال: انضحوا عنكم بالنبل.
وجعل شبيب يحمل على المسالح حتى اضطرهم إلى الخندق، ورشقهم أهل العسكر بالنبل. فلما رأى شبيب أنه لا يصل إليه قال لأصحابه: سيروا ودعوهم. فمضى على الطريق ثم نزل هو وأصحابه فاستراحوا، ثم أقبل بهم راجعاً إلى الجزل أيضاً على التعبية الأولى وقال: أطيفوا بعسكرهم. فأقبلوا وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم وقد أمنوا، فما شعروا إلا بوقع حوافر الخيل، فانتهوا إليهم قبل الصبح وأحاطوا بعسكرهم من جهاته الأربع فقاتلوهم.
ثم إن شبيباً أرسل إلى أخيه مصاد، وهو يقاتلهم من نحو الكوفة، أن أقبل إلينا وخل لهم الطريق، ففعل، وقاتلوهم من الوجوه الثلاثة حتى أصبحوا، فسار شبيب وتركهم ولم يظفر بهم فنزل على ميل ونصف ثم صلى الغداة ثم سار إلى جرجرايا.
وأقبل الجزل في طلبهم على تعبية ولا ينزل إلا في خندق. وسار شبيب في أرض جوخى وغيرها يكسر الخراج، فطال ذلك على الحجاج، فكتب إلى الجزل ينكر عليه إبطاءه ويأمره بمناهضتهم، فجد في طلبهم، وبعث الحجاج سعيد بن مجالد على جيش الجزل وأمره بالجد في قتال شبيب وترك المطاولة.
فوصل سعيد إلى الجزل، وهو بالنهروان قد خندق عليه، وقام في العسكر ووبخهم وعجزهم، ثم خرج وأخرج معه الناس وضم إليه خيول أهل العسكر ليسير بهم جريدةً إلى شبيبٍ ويترك الباقين مكانهم، فقال له الجزل: ما تريد أن تصنع؟ قال: أقدم على شبيب في هذه الخيل. فقال له الجزل: أقم أنت في جماعة الناس فارسهم وراجلهم وأبرز لهم، فوالله ليقدمن عليك، ولا تفرق أصحابك. فقال: قف أنت في الصف. فقال الجزل: يا سعيد ليس لي في ما صنعت رأي، أنا بريء منه.
ووقف الجزل فصف أهل الكوفة وقد أخرجهم من الخندق. وتقدم سعيد بن مجالد ومعه الناس، وقد أخذ شبيب إلى قطيطيا فدخلها، وأمر دهاقاً أن يصلح لهم غداء، ففعل وأغلق الباب، يفرغ من الغداء حتى أتاه سعيد في ذلك العسكر، فأقبل الدهقان فأعلم شبيباً بهم، فقال: لا بأس، قرب الغداء، فقربه، فأكل وتوضأ وصلى ركعتين وركب بغلاً له وخرج عليه، وسعيد على باب المدينة، فحمل عليهم فقال: لا حكم إلا للحكم الحكيم، أنا أبو مدله، اثبتوا إن شئتم.
وجعل سعيد يقول: هؤلاء إنما هم أكلة رأس، وجعل يجمع خليه ويرسلها في أثر شبيب، فلما رأى شبيب تفرقهم جمع أصحابه وقال: استعرضوهم فوالله لأقتلن أميرهم أو ليقتلني. وحمل عليهم مستعرضاً، فهزمهم، وثبت سعيد ونادى أصحابه، فحمل عليه شبيب فضربه بالسيف فقتله، وانهزم ذلك الجيش وقتلوا حتى انتهوا إلى الجزل، فناداهم: أيها الناس إلي إلي وقاتل قتالاً شديداً حتى حمل من بين القتلى جريحا، وقدم المنهزمون الكوفة، وكتب الجزل إلى الحجاج بالخبر ويخبره بقتل سعيد وأقام بالمدائن، وكتب إليه الحجاج يثني عليه ويشكره، وأرسل إليه حيان بن أبهر ليداوي جراحه وألفي درهم لينفقها، وبعث إليه عبد الله بن أبي عصيفر بألف درهم، فكان يعوده ويتعاهده بالهدية.
وسار سبيب نحو المدائن، فعلم أنه لا سبيل له إلى أهلها مع المدينة، فأقبل حتى انتهى إلى الكرخ فعبر دجلة إليها، فأرسل إلى السوق بغداد فآمنهم، وكان يوم سوقهم، وبلغه أنهم يخافونه، واسترى أصحابه دواب وأشياء يريدونها.
ذكر مسير شبيب إلى الكوفةثم سار إلى الكوفة فنزل عند حمام عمير بن سعد، فلما بلغ الحجاج مكانه بعث سويد بن عبد الرحمن السعدي في ألفي رجل إليه، وقال له: الق شبيباً فإن استطرد لك فلا تتبعه.
فخرج وعسكر بالسبخة، فبلغه أن شبيباً قد أقبل فسار نحوه، فكأنما يساقون إلى الموت، فأمر الحجاج عثمان بن قطن فعسكر بالناس في السبخة، وسار سويد إلى زرارة فهو يعبئ أصحابه إذ قيل قد أتاك شبيب، فنزل ونزل معه جل أصحابه، فأخبر أن شبيباً قد تركك وعبر الفرات وهو يريد الكوفة من وجه آخر، فنادى في أصحابه فركبوا في آثارهم، وبلغ من بالسبخة مع عثمان إقبال شبيب إليهم، فصاح بعضهم ببعض وهموا أن يدخلوا الكوفة حتى قيل لهم: إن سويداً في آثارهم قد لحقهم وهو يقاتلهم، وحمل شبيب على سويد ومن معه حملةً منكرة، فلم يقدر منهم على شيء، وأخذ على بيوت الكوفة نحو الحيرة، وذلك عند المساء، وتبعه سويد إلى الحيرة، فرآه قد ترك الحيرة وذهب، فتركه سويد وأقام حتى أصبح، وأرسل إلى الحجاج يعلمه بمسير شبيب.
ذكر محاربة شبيب أهل الباديةوكتب الحجاج إلى سويد يأمره باتباعه، فاتبعه، ومضى شبيب حتى أغار أسفل الفرات على من وجد من قومه وارتفع في البر وراء خفان فأصاب رجالاً من بني الورثة، فقتل منهم ثلاثة عشر رجلاً، منهم حنظلة بن مالك، ومضى شبيب حتى أتى بني أبيه على اللصف، وعلى ذلك الماء الفزر بن الأسود، وهو أحد بني الصلت، وكان ينهى شبيباً عن رأيه، وكان شبيب يقول: لئن ملكت وانهزم منه الرجال ورجع وقد أخاف أهل البادية فأخذ على القطقطانة ثم على قصر بني مقاتل ثم على الحصاصة ثم على الأنبار، ومضى حتى دخل دقوقاء، ثم ارتفع إلى أداني أذربيجان.
فلما أبعد سار الحجاج إلى البصرة واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة. فما شعر الناس إلا وقد أتاهم كتاب دهقان بابل مهروذ إلى عروة يذكر له أن بعض جباة الخراج أخبره أن شبيباً قد نزل خانيجار، وهو على قصد الكوفة، فأرسل عروة الكتاب إلى الحجاج بالبصرة فأقبل مجداً نحو الكوفة يسابق شبيباً إليها.
ذكر دخول شبيب الكوفة
وأقبل شبيب إلى قرية اسمها حربى، فقال: حرب يصلى بها عدوكم، ثم سار فنزل عقر قوف، فقال له سويد بن سليم: يا أمير المؤمنين لو تحولت من هذه القرية المشؤومة الاسم.
قال: وقد تطيرت أيضاً! والله لا أسير إلى عدوي إلا منها، وإنما شؤمها على عدونا والعقر لهم، إن شاء الله.
ثم سار منها يبادر الحجاج إلى الكوفة، وكانت كتب عروة ترد عليه، أعني الحجاج، يحثه على العجل إليهم، فطوى الحجاج المنازل، فنزلها الحجاج صلاة العصر، ونزل شبيب بالسبخة صلاة المغرب، فأكلوا شيئاً ثم ركبوا خيولهم فدخلوا الكوفة وبلغوا السوق، وضرب شبيب باب القصر بعموده فأثر فيه أثراً عظيماً، ثم وقف عند المصطبة وقال:
عبد دعي من ثمودٍ أصله ... لابل يقال أبو أبيهم يقدم
يعني الحجاج؛ فإن بعض الناس يقول: إن شقيقاً بقايا ثمود، وبعضهم يقول: هم من نسل يقدم الإيادي.
ثم اقتحموا المسجد الأعظم، وكان لا يزال فيه قوم يصلون، فقتلوا عقيل بن مصعب الوادعي وعدي بن عمرو الثقفي وأبا ليث بن أبي سليم ومروا بدار حوشب، وهو على الشرط، فقالوا: إن الأمير يطلبه، فأراد الركوب ثم أنكرهم فلم يخرج إليهم، فقتلوا غلامه، ثم أتى الجحاف بن نبيط الشيباني فقال له: انزل لنقضيك ثمن البكرة التي اشتريت منك بالبادية. فقال الجحاف: أما ذكرت أمانتك إلا والليل أظلم وأنت على فرسك يا سويد؟ قبح الله ديناً لا يصلح إلا بإراقة الدماء وقتل القرابة.
ثم مروا بمسجد ذهل فرأوا ذهل بن الحارث، وكان يطيل الصلاة فيه، فقتلوه، ثم خرجوا من الكوفة فاستقبلهم النضر بن قعقاع بن شور الذهلي، فقال له: السلام عليك أيها الأمير.
فقال له سويد: أمير المؤمنين ويلك! فقال: أمير المؤمنين. فقال له شبيب: يا نضر لاحكم إلا لله، وأراد يلعنه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فشد أصحاب شبيب عليه فقتلوه، وكان قد أقبل مع الحجاج من البصرة فتخلف عنه وكانت أم النضر ناجية بنت هانئ بن قبصة الشيباني فأحب شبيب نجاته.
ثم خرجوا نحو المردمة وأمر الحجاج منادياً فنادى: يا خيل الله اركبي، وهو فوق باب القصر، وعنده مصباح، فكان أول من أتاه عثمان بن قطن بن عبد الله بن الحصين ذي القصة، فقال: أعلموا الأمير بمكاني. فقال له غلام للحجاج: قف بمكانك. وجاء الناس من كل جانب.
ثم إن الحجاج بعث بشر بن غالب الأسدي في ألفي رجل، وزائدة بن قدامة الثقفي في ألفي رجل، وأبا الضريس مولى بني تميم في ألفي رجل، وعبد الأعلى بن عبد الله بن عامر وزياد بن عمرو العتكي.
وكان عبد الملك بن مروان قد استعمل محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله على سجستان، وكتب إلى الحجاج ليجهزه ويسيره سريعاً في ألف رجل إلى عمله، فأقام يتجهز، وحدث من أمر شبيب ما حدث، فقال له الحجاج: تلقى شبيباً وهذه الخارجة فتجاهدهم ويكون الظفر لك ويطير اسمك ثم تمضي إلى عملك. فسيره معهم، وقال لهؤلاء الأمراء: إن كان حرب فأميركم زائدة بن قدامة. فسار هؤلاء الأمراء فنزلوا أسفل الفرات، فترك شبيب الوجه الذي هم فيه وأخذ نحو القادسية.
ذكر محاربة شبيب زحر بن قيسووجه الحجاج جريدة خيلٍ نقاوة ألف وثمانمائة فارس مع زحر بن قيس، وقال له: اتبع شبيباً حتى تواقعه أين أدركته إلا أن يكون ذاهباً فاتركه ما لم يعطف عليك أو يقيم. فخرج زحر حتى انتهى إلى السيلحين، وأقبل شبيب نحوه، فالتقيا، فجمع شبيب خيله ثم اعترض بهم الصف حتى انتهى إلى زحر، فقاتل زحر حتى صرع وانهزم أصحابه وظنوا أنهم قتلوه، فلما كان السحر وأصابه البرد قام يتمشى حتى دخل قرية فبات بها وحمل منها إلى الكوفة وبوجهه وبرأسه بضع عشرة جراحة، فمكث أياماً ثم أتى الحجاج فأجلسه معه على السرير، وقال لمن حوله: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين الناس وهو شهيد فلينظر إلى هذا.
ذكر محاربة الأمراء المقدم ذكرهم وقتل محمد بن موسى بن طلحةفلما هزم أصحاب زحر قال أصحاب شبيب لشبيب: قد هزمنا لهم جنداً، انصرف بنا الآن وافرين. فقال لهم: هذه الهزيمة قد أرعبت هؤلاء الأمراء والجنود الذين في طلبكم، فاقصدوا بنا نحوهم فوالله لئن قاتلناهم فما دون الحجاج مانع ونأخذ الكوفة إن شاء الله تعالى. فقالوا: نحن لرأيك تبع.
فسار وسأل عن الأمراء فأخبر أنهم بروذبار على أربعة وعشرين فرسخاً من الكوفة، فقصدهم، فأرسل إليهم الحجاج يعلمهم بمسيره ويقول لهم: إن أمير الجماعة زائدة بن قدامة.
وانتهى إليهم شبيب وقد تعبأوا للحرب، فكان على ميمنة أهل الكوفة زياد بن عمرو العتكي، وفي ميسرتهم بشر بن غالب الأسدي، وكل أمير واقف في أصحابه، وأقبل شبيب على فرس كميت أغر في ثلاث كتائب، كتيبة فيها سويد بن سليم، فوقف بإزاء الميمنة، وكتبة فيها مصاد، أخو شبيب، فوقف بإزاء الميسرة، ووقف شبيب مقابل القلب.
فخرج زائدة بن قدامة يسير في الناس ويحثهم على الجهاد لعدوهم والقتال ويطمعهم في عدوهم لقلته وباطله وكثرتهم وأنهم على الحق، ثم انصرف إلى موقفه، فحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو، فانكشفوا وثبت زياد في نحو من نصف أصحابه، ثم ارتفع عنهم سويد قليلاً ثم حمل عليهم ثانيةً، فتطاعنوا ساعةً وصبر زياد ساعةً وقاتل زياد قتالاً شديداً وقاتل سويد أيضاً قتالاً شديداً، وإنه لأشجع العرب، ثم ارتفع سويد عنهم وإذا أصحاب زياد يتفرقون، فقال لسويد أصحابه: ألا تراهم يتفرقون؟ احمل عليهم. فقال لهم شبيب: خلوهم حتى يخفوا؛ فتركهم قليلاً ثم حمل الثالثة فانهزموا، وأخذت زياد بن عمرو السيوف من كل جانب، فما ضره منها شيء للبسة التي عليه، ثم إنه انهزم وقد جرح جراحةً يسيرة، وذلك عند المساء.
ثم حملوا على عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فهزموه، ولم يقاتل كثيراً، ولحق بزياد بن عمرو، فمضيا منهزمين، وحملت الخوارج حتى انتهت إلى محمد بن موسى بن طلحة عند المغرب فقاتلوه قتالاً شديداً وصبر لهم، ثم إن مصاداً أخا شبيب حمل على بشر بن غالب وهو في ميسرة أهل الكوفة، فصبر بشر ونزل معه نحو خمسين رجلاً، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم وانهزم أصحابه.
وحملت الخوارج على أبي الضريس مولى بني تميم، وهو يلي بشر بن غالب، فهزموه، حتى انتهى إلى موقف أعين فهزموهما، حتى انتهوا بهما إلى زائدة ابن قدامة، فلما انتهوا إليه نادى: يا أهل الإسلام! الأرض الأرض، لا يكونوا على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم. فقاتلهم عامة الليل حتى كان السحر.
ثم إن شبيباً حمل عليه في جماعة من أصحابه فقتله وقتل أصحابه وتركهم ربضة حوله.
ولما قتل زائدة دخل أبو الضريس وأعين جوسقاً عظيماً، وقال شبيب لأصحابه: ارفعوا السيف عن الناس وادعوهم إلى البيعة. فدعوهم إلى البيعة عند الفجر فبايعوه. وكان فيمن بايعه أبو بردة بن أبي موسى، فقال شبيب لأصحابه: هذا ابن أحد الحكمين. فأرادوا قتله، فقال شبيب: ما ذنب هذا؟ وتركه، وسلموا على شبيب بإمرة المؤمنين وخلى سبيلهم، فبقوا كذلك حتى انفجر الفجر، فلما ظهر الفجر أمر محمد بن موسى مؤذنه فأذن، وكان لم ينهزم، فسمع شبيب الأذان فقال: ما هذا؟ قالوا: محمد بن موسى بن طلحة لم يبرح. فقال: قد ظننت أن حمقه وخيلاءه يحمله على هذا. ثم نزل شبيب فأذن هو وصلى بأصحابه الصبح ثم ركبوا فحملوا على محمد وأصحابه، فانهزمت طائفة منهم وثبتت معه طائفة، فقتل حتى قتل، وأخذت الخوارج ما كان في العسكر وانهزم الذين كانوا بايعوا شبيباً فلم يبق منهم أحد.
ثم أتى شبيب الجوسق الذي فيه أعين وأبو الضريس فتحصنوا منه، فأقام عليهم ذلك اليوم وسار عنهم. فقال أصحابه: ما دون الكوفة أحد يمنع، فنظر وإذا أصحابه قد جرحوا، فقال لهم: ما عليكم أكثر مما فعلتم. فخرج بهم على نفر ثم على الصراة فأتى خانيجار فأقام بها. فبلغ الحجاج ميسره نحو نفر فظن أنه يريد المدائن، وهي باب الكوفة، ومن أخذها كان في يده من السواد أكثره، فهال ذلك الحجاج فبعث عثمان بن قطن أميراً على المدائن وجوخى والأنبار وعزل عنها عبد الله بن أبي عصيفر، وكان بها الجزل يداوي جراحته، فلم يتعهده عثمان كما كان ابن أبي عصيفر يفعل، فقال الجزل: اللهم زد ابن أبي عصيفر جوداً وفضلاً، وزد عثمان بن قطن بخلاً وضيقاً.
وقد قيل في مقتل محمد بن موسى غير هذا، والذي ذكر من ذلك أن محمد بن موسى كان قد شهد مع عمر بن عبيد الله بن معمر قتال أبي فديك، وكان شجاعاً ذا بأس، فزوجه عمر ابنته، وكانت أخته تحت عبد الملك بن مروان، فولاه سجستان، فمر بالكوفة وفيها الحجاج فقيل له: إن صار هذا بسجستان مع صهره، لعبد الملك، فلجأ إليه أحد ممن تطلب منعك منه. فقال: وما الحيلة؟ قال: تأتيه وتسلم عليه وتذكر نجدته وبأسه، وأن شبيباً في طريقه وأنه قد أعياك وترجو أن يريح الله منه على يده فيكون له ذكره وفخره.
ففعل الحجاج ذلك، فأجابه محمد وعدل إلى شبيب، فأرسل إليه شبيب: غنك مخدوع وإن الحجاج قد اتقى بك وأنت جار لك حق فانطلق لما أمرت به ولك الله لا أؤذيك. فأبى إلا محاربته، فواقفه شبيب وأعاد إليه الرسول، فأبى وطلب البراز، فبرز إليه البطين بن قعنب وسويد بن سليم، فأبى إلا شبيباً - فقالوا ذلك لشبيب، فبرز شبيب إليه وقال له: أنشدك الله في دمك فإن لك جواراً، فأبى، فحمل شبيب عليه فضربه بعمود حديد وزنه اثنا عشر رطلاً بالشامي، فهشم البيضة ورأسه، فسقط ميتاً، ثم كفنه ودفنه وابتاع ما غنموا من عسكره فبعثه إلى أهله واعتذر إلى أصحابه، وقال: هو جاري ولي أن أهب ما غنمت لأهل الردة.
ذكر محاربة شبيب وقتل عثمان بن قطن
ذكر محاربة شبيب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وقتل عثمان بن قطنثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وأمره أن ينتخب من الناس ستة آلاف فارس ويسير في طلب شبيب أين كان، ففعل ذلك وسار نحوه، وكتب الحجاج إليه وإلى أصحابه يتهددهم بالقتل والتنكيد إن انهزموا. فوصل عبد الرحمن إلى المدائن، فأتى الجزل يعوده من جراحته، فأوصاه الجزل بالاحتياط وحذره من شبيب وأصحابه وأعطاه فرساً كانت له تسمى الفسيفساء، وكانت لا تجارى، ثم ودعه عبد الرحمن وسار إلى شبيب.
فسار شبيب إلى دقوقاء وشهرزور، فخرج عبد الرحمن في طلبه حتى إذا كان بالتخوم وقف وقال: هذه أرض الموصل فليقاتلوا عنها. فكتب إليه الحجاج: أما بعد فاطلب شبيباً واسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه، فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده والسلام.
فخرج عبد الرحمن في أثر شبيب، فكان شبيب يدعه حتى يدنو منه فيبيته فيجده قد خندق على نفسه وحذر، فيتركه ويسير، فيتبعه عبد الرحمن. فإذا بلغ شبيباً مسيره أتاهم وهم سائرون فيجدهم على تعبية فلا يصيب منه غرة، ثم جعل إذا دنا منه عبد الرحمن يسير عشرين فرسخاً أو ما يقاربها فينزل في أرض خشنة غليظة ويتبعه عبد الرحمن، فإذا دنا منه فعل مثل ذلك حتى عذب ذلك الجيش وشق عليه وأحفى دوابهم ولقوا منه كل بلاء، ولم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى مر به على خانقين وجلولاء وسامراً، ثم أقبل إلى البيت، وهي من قرى الموصل، ليس بينها وبين سواد الكوفة إلا نهر حولايا، وهو في راذان الأعلى من أرض جوخى، ونزل عبد الرحمن في عواقيل من النهر لأنها مثل الخندق.
فأرسل شبيب إلى عبد الرحمن يقول: إن هذه الأيام عيد لنا ولكم، يعني عيد النحر، فهل لك في الموادعة حتى تمضي هذه الأيام؟ فأجابه إلى ذلك، وكان يحب المطاولة، وكتب عثمان بن قطن إلى الحجاج: أما بعد فإن عبد الرحمن قد حفر جوخى كلها خندقاً واحداً وكسر خراجها وخلى شبيباً يأكل أهلها، والسلام. فكتب إليه الحجاج يأمره بالمسير إلى الجيش وجعله أميرهم وعزل عنهم عبد الرحمن، وبعث الحجاج إلى المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة، وسار عثمان حتى قدم على عبد الرحمن وعسكر الكوفة، فوصل عشية الثلاثاء يوم التروية، فنادى الناس وهو على بغلة: أيها الناس اخرجوا إلى عدوكم. فوثب إليه الناس وقالوا: هذا المساء قد غشينا والناس لم يوطنوا أنفسهم على الحرب، فبت الليلة ثم اخرج على تعبية، وهو يقول: لأناجزنهم فلتكونن الفرصة لي أو لهم. فأتاه عبد الرحمن فأنزله.
وكان شبيب قد نزل ببيعة البت، فأتاه أهلها فقالوا له: أنت ترحم الضعفاء وأهل الذمة ويكلمك من تلي عليه ويشكون إليك فتنظر إليهم، وإن هؤلاء جبابرة لا يكلمون ولا يقبلون العذر، والله لئن بلغهم أنك مقيم في بيعتنا ليقتلننا إذا ارتحلت عنا، فإن رأيت أن تنزل جانب القرية ولا تجعل علينا مقالاً فافعل. فخرج عن البيعة فنزل جانب القرية.
==============

===========
مجلد 12. كتاب : الكامل في التاريخ ابن الأثير
وبات عثمان ليلته كلها يحرض أصحابه، فلما أصبح يوم الأربعاء خرج بالناس كلهم، فاستقبلهم ريح شديدة وغبرة شديدة، فصاح الناس وقالوا له: ننشدك الله أن تخرج بنا والريح علينا. فأقام بهم ذلك اليوم، ثم خرج بهم يوم الخميس وقد عبأ الناس، فجعل في الميمنة خالد بن نهيك بن قيس، وعلى الميسرة عقيل بن شداد السلولي، ونزل هو في الرجالة، وعبر شبيب النهر إليهم، وهو يومئذٍ في مائة وأحد وثمانين رجلاً، فوقف هو في الميمنة وجعل أخاه مصاداً في القلب، وجعل سويد بن سليم في الميسرة، وزحف بعضهم إلى بعض.
وقال شبيب لأصحابه: إني حامل على ميسرتهم مما يلي النهر فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم ولا يبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري.
وحمل على ميسرة عثمان فانهزموا، ونزل عقيل بن شداد فقاتل حتى قتل، وقتل أيضاً مالك بن عبد الله الهمداني عم عياش بن عبد الله المنتوف، ودخل شبيب عسكرهم، وحمل سويد على ميمنة عثمان فهزمها وعليها خالد بن نهيك، فقاتله قتالاً شديداً، وحمل شبيب من ورائه فقتله.
وتقدم عثمان بن قطن وقد نزل معه العرفاء وأشراف الناس والفرسان نحو القلب، وفيه مصاد أخو شبيب في نحو من ستين رجلاً، فلما دنا منهم عثمان شد عليهم فيمن معه فضاربوهم حتى فرقوا بينهم، وحمل شبيب بالخيل من ورائهم، فما شعر عثمان ومن معه إلا والرماح في أكتافهم تكبهم لوجوههم، وعطف عليهم سويد بن سليم أيضاً في خيله، ورجع مصاد وأصحابه فاضطربوا ساعةً، وقاتل عثمان بن قطن أحسن قتال، ثم إنهم أحاطوا به وضربه مصاد أخو شبيب ضربة بالسيف استدار لها وقال: " وكان أمر الله مفعولاً " الأحزاب:37، ثم إن الناس قتلوه ووقع عبد الرحمن، فاتاه ابن أبي سبرة الجعفي، وهو على بغله، فعرفه فأركبه معه ونادى في الناس: الحقوا بدير أبي مريم؛ ثم انطلقا ذاهبين.
ورأى واصل السكوني فرس عبد الرحمن التي أعطاه الجزل تجول في العسكر، فأخذها بعض أصحاب شبيب، فظن أنه قتل فطلبه في القتلى فلم يجده، فسأل عنه فأعطي خبره، فاتبعه واصل على برذونه ومعه غلامه على بغل، فلما دنا منهما نزل عبد الرحمن وابن أبي سبرة ليقاتلا، فلما رآهما واصل عرفهما وقال: إنكما تركتما النزول في موضعه فلا تنزلا الآن! وحسر عمامته عن وجهه فعرفاه، وقال لابن الأشعث: قد أتيتك بهذا البرذون لتركبه، فركبه وسار حتى نزل دير البقار.
وأمر شبيب أصحابه فرفعوا السيف عن الناس ودعاهم إلى البيعة فبايعوه وقتل من كندة يومئذٍ مائة وعشرون، وقتل معظم العرفاء.
وبات عبد الرحمن بدير البقار، فأتاه فارسان فصعدا إليه، فخلا أحدهما بعبد الرحمن طويلاً ثم نزل فتبين أن ذلك الرجل كان شبيباً، وقد كان بينه وبين عبد الرحمن مكاتبة، وسار عبد الرحمن حتى أتى دير أبي مريم، فاجتمع الناس إليه وقالوا له: إن سمع شبيب بمكانك أتاك فكنت له غنيمة. فخرج إلى الكوفة واختفى من الحجاج حتى أخذ له الأمان منه.
ذكر ضرب الدراهم والدنانير الإسلاميةوفي هذه السنة ضرب عبد الملك بن مروان الدنانير والدراهم، وهو أول من أحدث ضربها في الإسلام، فانتفع الناس بذلك.
وكان سبب ضربها أنه كتب في صدور الكتب إلى الروم: " قل هو الله أحد " الإخلاص: 1، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، مع التاريخ، فكتب إليه ملك الروم: إنكم قد أحدثتم كذا وكذا فاتركوه وإلا أتاكم في دنانيرنا من ذكرنا نبيكم ما تكرهون. فعظم ذلك عليه. فأحضر خالد بن يزيد بن معاوية فاستشاره فيه، فقال: حرم دنانيرهم واضرب للناس سكةً فيها ذكر الله تعالى. فضرب الدنانير والدراهم.
ثم إن الحجاج ضرب الدراهم ونقش فيها: " قل هو الله أحد " ، فكره الناس ذلك لمكان القرآن لأن الجنب والحائض يمسها، ونهى أن يضرب أحد غيره، فضرب سمير اليهودي، فأخذه ليقتله، فقال له: عيار درهمي أجود من دراهمك فلم تقتلني؟ فلم يتركه، فوضع للناس سنج الأوزان ليتركه فلم يفعل، وكان الناس لا يعرفون الوزن إنا يزنون بعضها ببعض، فلما وضع لهم سيمر السنج كف بعضهم عن غبن بعض.
وأول من شدد في أمر الوزن وخلس الفضة أبلغ من تخليص من قبله عمر بن هبيرة أيام يزيد بن عبد الملك، وجود الدراهم، وخلص العيار واشتد فيه. ثم كان خالد بن عبد الله القسري أيام هشام بن عبد الملك فاشتد أكثر من ابن هبيرة. ثم ولي يوسف بن عمر فأفرط في الشدة، فامتحن يوماً العيار فوجد درهماً ينقص حبة فضرب كل صانع ألف سوط. وكانوا مائة صانع، فضرب في حبة مائة ألف سوط. وكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية، ولم يكن المنصور يقبل في الخراج غيرها، فسميت الدراهم الأولى مكروهة.
وقيل: إن المكروهة الدراهم التي ضربها الحجاج ونقش عليها: " قل هو الله أحد " ، فكرهها العلماء لأجل مس الجنب والحائض.
وكانت دراهم الأعجام مختلفة كباراً وصارا، وكانوا يضربون مثقالاً، وهو وزن عشرين قيرطاً، ومنها وزن اثني عشر قيراطاً، ومنها وزن عشرة قراريط، وهي أصناف المثاقيل، فلما ضرب الدراهم في الإسلام أخذوا عشرين قيراطاً واثني عشر قيراطاً وعشرة قراريط فوجدوا ذلك اثنين وأربعين قيراطاً فضربوا على الثلث من ذلك، وهو أربعة عشر قيراطاً، فوزن الدرهم العربي أربعة عشر قيراطاً، فصار وزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل.
وقيل: إن مصعب بن الزبير ضرب دراهم قليلة أيام أخيه عبد الله بن الزبير، ثم كسرت بعد ذلك أيام عبد الملك.
والأول أصح في أن عبد الملك أول من ضرب الدراهم والدنانير.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وفد يحيى بن الحكم على عبد الملك. وفيها ولى عبد الملك المدينة أبان بن عثمان. وفيها ولد مروان بن محمد بن مروان. وأقام الحج للناس هذه السنة أبان بن عثمان، وهو أمير المدينة. وكان على العراق الحجاج، وعلى خراسان أمية بن عبد الله بن خالد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة بن أوفى. وفيها غزا محمد بن مروان الروم من ناحية ملطية. وفيها مات حبة بن جوين العرني صاحب علي.
حبة بالحاء المهملة، وبالباء الموحدة، وهو منسوب إلى عرنة، بالعين المهملة المضمومة، والراء المهملة، والنون.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين
ذكر محاربة شبيب عتاب بن ورقاء
وزهرة بن حوية وقتلهماوفي هذه السنة قتل شبيب عتاب بن ورقاء الرياحي وزهرة بن حوية.
وسبب ذلك أن شبيباً لما هزم الجيش الذي كان وجهه الحجاج مع عبد الرحمن بن محم بن الأشعث، وقتل عثمان بن قطن، كان ذلك في حر شديد، وأتى شبيب ماه بهراذان فصيف بها ثلاثة أشهر، وأتاه ناس كثير ممن يطلب الدنيا وممن كان الحجاج يطلبهم بمال أو تبعات. فلما ذهب الحر خرج شبيب في نحو ثمانمائة رجل فأقبل نحو المدائن، وعليها مطرف بن المغيرة بن شعبة، فجاء حتى نزل قناطر حذيفة بن اليمان، فكتب عظيم بابل مهروذ إلى الحجاج بذلك، فلما قرأ الكتاب قام في الناس فقال: أيها الناس لتقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأصبر على اللأواء والقيظ منكم فيقاتلون عدوكم ويأكلون فيئكم.
فقام إليه الناس من كل جانب ومكان فقالوا: نحن نقاتلهم ونعتب الأمير، فلتند بن الأمير إليهم. وقام إليه زهرة بن حوية، وهو شيخ كبير لا يستتم قائماً حتى يؤخذ بيده، فقال له: أصلح الله الأمير أنك إنما تبعث إليهم الناس منقطعين، فاستنفر الناس إليهم كافة وابعث إليهم رجلاً شجاعاً مجرباً ممن يرى الفرار هضماً وعاراً، والصبر مجداً وكرماً. فقال الحجاج: فأنت ذلك الرجل فاخرج. فقال زهرة: أصلح الله الأمير، إنما يصلح الرجل يحمل الدرع والرمح ويهز السيف ويثبت على متن الفرس، وأنا لا أطيق من هذا شيئاً، وقد ضعف بصري وضعفت، ولكن أخرجني مع الأمير في الناس فأكون معه وأشير عليه برأيي. فقال الحجاج: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله في أول أمرك وآخره، فقد نصحت. ثم قال: أيها الناس سيروا بأجمعكم كافة.
فانصرف الناس يتجهزون ولا يدرون من أميرهم. وكتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره أن شبيباً قد شارف المدائن وأنه يريد الكوفة وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله في مواطن كثيرة، يقتل أمراءهم ويهزم جنودهم؛ ويطلب إليه أن يبعث إليه جنداً من الشام يقاتلون الخوارج ويأكلون البلاد.
فلما أتى الكتاب بعث إليه عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبي في أربعة آلاف، وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي في ألفين. فبعث الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي، وهو مع المهلب، يستدعيه، وكان عتاب قد كتب إلى الحجاج يشكو من المهلب ويسأله أن يضمه إليه لأن عتاباً طلب من المهلب أن يرزق أهل الكوفة الذين معه من مال فارس، فأبى عليه وجرت بينهما منافرة فكادت تؤدي إلى الحرب، فدخل المغيرة بن المهلب بينهما فأصلح الأمر وألزم أباه برزق أهل الكوفة، فأجابه إلى ذلك، وكتب يشكو منه.
فلما ورد كتابه سر الحجاج بذلك واستدعاه، ثم جمع الحجاج أهل الكوفة واستشارهم فيمن يوليه أمر الجيش، فقالوا: رأيك أفضل. فقال: قد بعثت إلى عتاب وهو قادم عليكم الليلة أو القابلة. فقال زهرة: أيها الأمير رميتهم بحجرهم، والله لا نرجع إليك حتى نظفر أو نقتل.
وقال له قبيصة بن والق: إن الناس قد تحدثوا أن جيشاً قد وصل إليك من الشام، وأن أهل الكوفة قد هزموا وهان عليهم الفرار، فقلوبهم كأنها ليست فيهم، فإن رأيت أن تبعث إلى أهل الشام ليأخذوا حذرهم ولا يبيتوا إلا وهم محتاطون فإنك تحارب حولاً قلباً ظعاناً رحالاً، وقد جهزت إليهم أهل الكوفة ولست واثقاً بهم كل الثقة، وإن شبيباً بينا هو في أرض إذا هو في أخرى، ولا آمن أن يأتي أهل الشام وهم آمنون، فإن يهلكوا نهلك ويهلك العراق.
قال له: لله أبوك ما أحسن ما أشرت به! وأرسل إلى أهل الشام يحذرهم ويأمرهم أن يأتوا على عين التمر، ففعلوا.
وقدم عتاب بن ورقاء تلك الليلة، فبعثه الحجاج على ذلك الجيش، فعسكر بحمام أعين، وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذى فقطع فيها دجلة، ثم سار حتى نزل مدينة بهرسير الدنيا، فصار بينه وبين مطرف جسر دجلة وقطع مطرف الجسر وبعث إلى شبيب أن ابعث إلي رجالاً من وجوه أصحابك أدراسهم القرآن وأنظر فيما يدعون إليه، فبعث إليه قعنب بن سويد والمحلل وغيرهما، وأخذ منه رهائن إلى أن يعودوا، فأقاموا عنده أربعة أيام ثم لم يتفقوا على شيء. فلما لم يتبعه مطرف تهيأ للمسير إلى عتاب وقال لأصحابه: إني كنت عازماً أن آتي أهل الشام جريدةً وألقاهم على غرة قبل أن يتصلوا بأمير مثل الحجاج ومصر مثل الكوفة، فثبطني عنهم مطرف، وقد جاءتني عيوني فأخبروني أن أوائلهم قد دخلوا عين التمر فهم الآن قد شارفوا الكوفة، وقد أخبروني أن عتاباً ومن معه بالبصرة، فما أقرب ما بيننا وبينه، فتيسروا للمسير إلى عتاب.
وخاف مطرف بن المغيرة أن يبلغ خبره مع شبيب إلى الحجاج، فخرج نحو الجبال. فأرسل شبيب أخاه مصاداً إلى المدائن وعقد الجسر، وأقبل عتاب إليه حتى نزل بسوق حكمة، وقد خرج معه من المقاتلة أربعون ألفاً، ومن الشباب والأتباع عشرة آلاف، فكانوا خمسين ألفاً، وكان الحجاج قد قال لهم حين ساروا: إن للسائر المجتهد الكرامة والأثرة، وللهارب الهوان والجفوة، والذي لا إله غيره لئن فعلتم في هذه المواطن كفعلكم في المواطن الأخر لأولينكم كنفاً خشناً، ولأعركنكم بكلكل ثقيل.
فلما بلغ عتاب سوق حكمة أتاه شبيب، وكان أصحابه بالمدائن ألف رجل، فحثهم على القتال، وسار بهم، فتخلف عنه بعضهم، ثم صلى الظهر بساباط وصلى العصر وسار حتى أشرف على عتاب وعسكره، فلما رآهم نزل فصلى المغرب، وكان عتاب قد عبأ أصحابه، فجعل في الميمنة محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وقال: يا ابن أخي إنك شريف صابر. فقال: والله لأصبرن ما ثبت معي إنسان. وقال لقبيصة بن والق الثعلبي: اكفني الميسرة. فقال: أنا شيخ كبير لا أستطيع القيام إلا أن أقام؛ فجعل عليها نعيم بن عليم، وبعث حنظلة بن الحارث اليربوعي، وهو ابن همه وشيخ أهل بيته، على الرجالة، وصفهم ثلاثة صفوف: صف فيهم أصحاب السيوف، وصف فيهم أصحاب الرماح، وصف فيهم الرماة، ثم سار في الناس يحرضهم على القتال ويقص عليهم، ثم قال: أين القصاص؟ فلم يجبه أحد. ثم قال: أين من يروي شعر عنترة؟ فلم يجبه أحد. فقال: إنا لله، كأني بكم قد فررتم عن عتاب بن ورقاء وتركتموه تسفي في استه الريح!
ثم أقبل حتى جلس في القلب ومعه زهرة بن حوية جالس وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وأبو بكر بن محمد بن أبي جهم العدوي. وأقبل شبيب وهو فس ستمائة وقد تخلف عنه من أصحابه أربعمائة، فقال: لقد تخلف عنا من لا أحب أن يرى فينا، فجعل سويد بن سليم في مائتين في الميسرة، وجعل المحلل بن وائل في مائتين في القلب، ومضى هو في مائتين إلى الميمنة بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر، فناداهم: لمن هذه الرايات؟ فقالوا: رايات لربيعة. قال: طالما نصرت الحق وطالما نصرت الباطل، والله لأجاهدنكم محتبساً، أنا شبيب، لا حكم إلا الله، للحكم، اثبتوا إن شئتم! ثم حمل عليهم ففضهم، فثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق وعبيد بن الحليس ونعيم بن عليم فقتلوا، وانهزمت الميسرة مكلها، ونادى الناس من بني ثعلبة: قتل قبيصة وقال شبيب: قتلتموه، ومثله كما قال الله تعالى: " واتل عليهم نبا الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " الأعراف:175. ثم وقف عليه وقال: ويحك لو ثبت على إسلامك الأول سعدت! وقال لأصحابه: إن هذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم، ثم جاء يقاتلكم مع الفسقة.
ثم إن شبيباً حمل من المسيرة على عتاب، وحمل سويد بن سليم على الميمنة، وعليهما محمد بن الرحمن، فقاتلهم في رجال من تميم وهمدان، فما زالوا كذلك حتى قيل لهم قتل عتاب، فانفضوا.
ولم يزل عتاب جالساً على طنفسة في القلب ومعه زهرة بن حوية إذ غشيهم شبيب، فقال عتاب: يا زهرة هذا يوم كثر فيه العدد وقل فيه الغناء، والهفي على خمسمائة فارس من تميم من جميع الناس، ألا صابر لعدوه؟ ألا مواس بنفسه؟ فانفضوا عنه وتركوه، فقال زهرة: أحسنت يا عتاب، فعلت فعلاً لا يفعله مثلك. أبشر، فإني أرجو أن يكون الله، جل ثناؤه، قد أهدى إلينا الشهادة عند فناء أعمارنا.
فلما دنا منه شبيب وثب في عصابة قليلة صبرت معه وقد ذهب الناس، فقيل له: إن عبد الرحمن بن الأشعث قد هرب وتبعه ناس كثير. فقال: ما رأيت ذلك الفتى يبالي ما صنع. ثم قاتلهم ساعة، فرآه رجل من أصحاب شبيب يقال له عامر بن عمر التغلبي فحمل عليه فطعنه، ووطئت الخيل زهرة بن حوية، فأخذ يذب بسيفه لا يستطيع أن يقوم، فجاءه الفضل بن عامر الشيباني فقتله، فانتهى إليه شبيب فرآه صريعاً فعرفه فقال: هذا زهرة بن حوية، أما والله لئن كنت قتلت على ضلالة لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك وعظم فيه غناؤك! ولرب خيل للمشركين هزمتها وقرية من قراهم جم أهلها قد افتتحتها! ثم كان في علم الله أنك تقتل ناصراً للظالمين. وتوجع له. فقال له رجل من أصحابه: إنك لتتوجع لرجل كافر. فقال إنك لست أعرف بضلالتهم مني، ولكني أعرف من قديم أمرهم ما لا تعرف، ما لو ثبتوا عليه لكانوا إخواننا.
فاستمسك شبيب من أهل العسكر والناس، فقال: ارفعوا السيف، ودعاهم إلى البيعة، فبايعه الناس وهربوا من تحت ليلتهم، وحوى ما في العسكر، وبعث إلى أخيه فأتاه من المدائن. وأقام شبيب بعد الوقعة ببيت قرة يومين، ثم سار نحو الكوفة فنزل بسورا وقتل عاملها.
وكان سفيان بن الأبرد وعسكر الشام قد دخلوا الكوفة فشدوا ظهر الحجاج واستغنى به وبعسكره عن أهل الكوفة، فقام عن المنبر فقال: يا أهل الكوفة لا أعز الله من أراد بكم العز، ولا نصر من أراد بكم النصر، اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا، انزلوا بالحيرة مع اليهود والنصارى ولا يقاتل معنا إلا من لم يشهد قتال عتاب.
ذكر قدوم شبيب الكوفة وانهزامه عنهاثم سار شبيب من سورا فنزل حمام أعين، فدعا الحجاج الحارث بن معاوية الثقفي فوجهه في ناس من الشرط لم يشهدوا يوم عتاب وغيرهم، فخرج في نحو ألف فنزل زرارة، فبلغ ذلك شبيباً فعجل إلى الحارث بن معاوية، فلما انتهى إليه حمل عليه فقتله وانهزم أصحابه، وجاء المنهزمون فدخلوا الكوفة، وجاء شبيب فعسكر بناحية الكوفة وأقام ثلاثاً، فلم يكن في اليوم الأول غير قتل الحارث.
فلما كان اليوم الثاني أخرج الحجاج مواليه فأخذوا بأفواه السكك، وجاء شبيب فنزل السبخة وابتنى بها مسجداً، فلنا كلن اليوم الثالث أخرج الحجاج أبا الورد مولاه عليه تجفاف ومعه غلمان له وقالوا: هذا الحجاج، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه.
ثم أخرج الحجاج غلامه طهمان في مثل تلك العدة والحالة، فقتله شبيب وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه.
ثم أن الحجاج خرج ارتفاع النهار من القصر فطلب بغلاً يركبه إلى السبخة فأتي ببغل، فركبه ومعه أهل الشام، فخرج، فلما رآى الحجاج شبيباً وأصحابه نزل، وكان شبيب في ستمائة فارس، فأقبل نحو الحجاج، وجعل الحجاج، وجعل الحجاج سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف على أفواه السكك في جماعة الناس، ودعا الحجاج بكرسي فقعد عليه ثم نادى: يا أهل الشام أنتم أهل السمع والطاعة والصبر واليقين فلا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم، غضوا الأبصار واجثوا على الركب واستقبلوهم بأطراف الأسنة. ففعلوا وأشرعوا الرماح، وكأنهم حرة سوداء، وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس، كتيبة معه وكتيبة مع سويد بن سليم وكتيبة مع المحلل بن وائل، وقال لسويد: احمل عليهم في خيلك، فحمل عليهم، فثبتوا له ووثبوا في وجهه بأطراف الرماح فطعنوه حتى انصرف هو وأصحابه.
وصاح الحجاج: هكذا فافعلوا، وأمر كرسيه فقدم، وأمر شبيب المحلل فحمل عليهم ففعلوا به كذلك، فناداهم الحجاج: هكذا فافعلوا، وأمر بكرسيه فقدم.
ثم إن شبيباً حمل عليهم في كتيبته فثبتوا له وصنعوا به كذلك، فقاتلهم طويلاً، ثم إن أهل الشام طاعنوه حتى ألحقوه بأصحابه. فلما رأى صبرهم نادى: يا سويد احمل عليهم بأصحابك على أهل السكة لعلك تزيل أهلها وتأتي الحجاج من ورائه ونحمل نحن عليه من أمامه. فحمل سويد فرمي من فوق البيوت وأفواه السكك فرجع. وكان الحجاج قد جعل عروة بن المغيرة بن شعبة في ثلاثمائة رجل من أهل الشام ردءاً له لئلا يؤتوا من خلفهم، فجمع شبيب أصحابه ليحمل بهم، فقال الحجاج: اصبروا لهذه الشدة الواحدة ثم هو الفتح، فجثوا على الركب.
وحمل عليهم شبيب بجميع أصحابه، فوثبوا في وجهه، وما زالوا يطاعنونه ويضاربونه قدما ويدفعونه وأصحابه حتى أجازوهم مكانهم، وأمر شبيب أصحابه بالنزول، فنزل نصفهم، وجاء الحجاج حتى انتهى إلى مسجد شبيب ثم قال: يا أهل الشام هذا أول الفتح، وصعد المسجد ومعه جماعة معهم النبل ليرموهم إن دنوا منه، فاقتتلوا عامة النهار أشد قتال رآه الناس حتى أقر كل واحد من الفريقين لصاحبه.
ثم إن خالد بن عتاب قال للحجاج: ائذن لي في قتالهم فإني موتور، فأذن له، فخرج ومعه جماعة من أهل الكوفة وقصد عسكرهم من ورائهم فقتل مصاداً أخا شبيب وقتل إمرأته غزالة وحرق في عسكره. وأتى الخبر الحجاج وشبيباً، فكبر الحجاج وأصحابه، وأما شبيب فركب هو وأصحابه، وقال الحجاج لأهل الشام: احملوا عليهم فإنهم قد أتاهم ما أرعبهم. فشدوا عليهم فهزموهم، وتخلف شبيب في حامية الناس. فبعث الحجاج إلى خيله: أن دعوه، فتركوه ورجعوا، ودخل الحجاج إلى الكوفة فصعد المنبر ثم قال: والله ما قوتل شبيب قبلها، ولى والله هارباً وترك امرأته يكسر في استها القصب. ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن الحكمي فبعثه في ثلاثة آلاف فارس من أهل الشام في أثر شبيب، وقال له: احذر بياته وحيث لقيته فانزل له، فإن الله تعالى قد فل حده وقصم نابه.
فخرج في أثره حتى نزل الأنبار، وكان الحجاج قد نادى عند انهزامهم: من جاءنا منكم فهو آمن. فتفرق عن شبيب ناس كثير من أصحابه. فلما نزل حبيب الأنبار أتاهم شبيب، فلما دنا منهم نزل فصلى المغرب، وكان حبيب قد جعل أصحابه أرباعاً، وقال لكل ربع منهم: ليمنع كل ربع منكم جانبه، فإن قاتل هذا الربع فلا يعنهم الربع الآخر، فإن الخوارج قريب منكم، فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون ومقاتلون.
فأتاهم شبيب وهم على تعبية، فحمل على ربع فقاتلهم طويلاً، فما زالت قدم إنسان عن موضعها، ثم تركهم وأقبل إلى ربع آخر فكانوا كذلك، ثم أتى ربعاً آخر فكانوا كذلك، ثم الربع الرابع فما برح يقاتلهم حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل، ثم نازلهم راجلا فسقطت منهم الأيدي وكثرت القتلى وفقئت الأعين وقتل من أصحاب شبيب نحو ثلاثين رجلاً، ومن أهل الشام نحو مائة، واستولى التعب والإعياء على الطائفتين حتى إن الرجل ليضرب بسيفه فلا يصنع شيئاً، وحتى إن الرجل ليقاتل جالساً فما يستطيع أن يقوم من التعب.
فلما يئس شبيب منهم تركهم وانصرف عنهم. ثم قطع دجلة وأخذ في أرض جوخى، ثم قطع دجلة مرة أخرى عند واسط ثم أخذ نحو الأهواز ثم إلى فارس ثم إلى كرمان ليستريح وهو ومن معه.
وقيل في هزيمته غير ذلك، وهو أن الحجاج كان قد بعث إلى شبيب أميراً فقتله، ثم أميراً فقتله، أحدهما أعين صاحب حمام أعين، ثم جاء شبيب حتى دخل الكوفة ومعه زوجته غزالة، وكانت نذرت أن تصلي في جامع الكوفة ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران، واتخذ في عسكره اخصاصاً، فجمع الحجاج ليلاً بعد أن لقي من شبيب الناس ما لقوا فاستشارهم في أمر شبيب، فأطرقوا، وفصل قتيبة من الصف فقال: أتأذن لي في الكلام؟ قال: نعم. قال: لأنك تبعث الرجل الشريف وتبعث معه رعاعاً فينهزمون ويستحيي أن ينهزم فيقتل. فقال: فما الرأي؟ قال: الرأي أن تخرج إليه فتحاكمه. قال: فانظر لي معسكراً.
فخرج الناس يلعنون عنبسة بن سعيد لأنه هو الذي كلم الحجاج فيه حتى جعله من صحابته، وصلى الحجاج من الغد الصبح واجتمع الناس وأقبل قتيبة وقد رأى معسكراً حسناً، فدخل إلى الحجاج ثم خرج ومعه لواء منشور، وخرج الحجاج يتبعه حتى خرج إلى السبخة وبها شبيب، وذلك يوم الأربعاء، فتواقفوا، وقيل للحجاج: لا تعرفه مكانك، فأخفى مكانه، وشبه له أبا الورد مولاه، فنظر إليه شبيب فحمل عليه فضربه بعمود فقتله، وحمل شبيب على خالد بن عتاب ومن معه وهو على ميسرة الحجاج فبلغ بهم الرحبة، وحمل على مطر بن ناجية وهو على ميمنة الحجاج فكشفه، فنزل عند ذلك الحجاج ونزل أصحابه وجلس على عباءة ومعه عنبسة بن سعيد، فإنهم على ذلك إذ تناول مصقلة بن مهلهل الضبي لجام شبيب وقال: ما تقول في صالح. فقال له مصقلة: برئ الله منك، وفارقه إلا أربعين فارساً. فقال الحجاج: قد اختلفوا، وأرسل إلى خالد بن عتاب فأتى بهم في عسكرهم فقاتلهم فقتلت غزالة، ومر برأسها إلى الحجاج مع فارس، فعرفه شبيب فأمر رجلاً فحمل على الفارس فقتله وجاء بالرأس، فأمر به فغسل ثم دفنه.
ومضى القوم على حاميتهم ورجع خالد فأخبر الحجاج بانصرافهم، فأمره باتباعهم، فاتبعهم يحمل عليهم، فرجع إليه ثمانية نفر فقاتلوه حتى بلغوا به الرحبة، وأتي شبيب بخوط بن عمير السدوسي فقال: يا خوط لا حكم إلا الله. فقال: إن خوطاً من أصحابكم ولكنه كان يخاف، فأطلقه؛ وأتي بعمير بن القعقاع فقال: يا عمير لا حكم إلا الله. فقال: في سبيل الله شبابي، فردد عليه شبيب: لا حكم إلا الله، فلم يفقه ما يريد، فقتله.
وقتل مصاد أخو شبيب، وجعل شبيب ينتظر الثمانية الذين اتبعوا خالداً، فأبطأوا ولم يقدم أصحاب الحجاج على شبيب هيبةً له، وأتى إلى شبيب أصحابه الثمانية فساروا واتبعهم خالد وقد دخلوا إلى دير بناحية المدائن فحصرهم فيه، فخرجوا عليه فهزموه نحو فرسخين فألقوا أنفسهم في دجلة منهزمين وألقى خالد بن عتاب. فقال: معرق له في الشجاعة، ولو عرفته لأقحمت خلفه ولو دخل النار. ثم سار إلى كرمان، على ما تقدم ذكره، وكتب الحجاج إلى عبد الملحك يستمده ويعرفه عجز أهل الكوفة عن قتال شبيب، فسير سفيان بن الأبرد في جيش إليه.
ذكر مهلك شبيبوفي هذه السنة هلك شبيب.
وكان سبب ذلك أن الحجاج أنفق في أصحاب سفيان بن الأبرد مالاً عظيماً بعد أن عاد شبيب عن محاربتهم وقصد كرمان بشهرين، وأمر سفيان وأصحابه بقصد شبيب، فسار نحوه، وكتب الحجاج إلى الحكم بن أيوب زوج ابنته، وهو عامله على البصرة، يأمره أن يرسل أربعة آلاف فارس من أهل البصرة إلى سفيان، فسيرهم مع زياد بن عمرو العتكي، فلم يصل إلى سفيان حتى التقى سفيان مع شبيب، وكان شبيب قد أقام بكرمان، فاستراح هو وأصحابه ثم أقبل راجعاً فالتقى مع سفيان بجسر دجيل الأهواز، فعبر شبيب الجسر إلى سفيان، فوجد سفيان قد نزل في الرجال، وجعل مهاصر بن سيف على الخيل. واقبل شبيب في ثلاثة كراديس فاقتتلوا أشد قتال، ورجع شبيب إلى المكان الذي كان فيه، ثم حمل عليهم هو وأصحابه أكثر من ثلاثين حملة، ولا يزول أهل الشام، وقال لهم سفيان: لا تتفرقوا وليزحف إليهم الرجال زحفاً.
فما زالوا بضاربونهم ويطاعنونهم حنى اضطروهم إلى الجسر. فلما انتهى شبيب إلى الجسر نزل ونزل معه نحو مائة فقاتلوهم حتى المساء وأوقعوا بأهل الشام من الضرب والطعن ما لم يروا مثله.
فلما رأى سفيان عجزه عنهم وخاف أن ينصروا عليه أمر الرماة أن يرموهم، وذلك عند المساء، وكانوا ناحية، فتقدموا ورموا شبيباً ساعة، فحمل هو وأصحابه على الرماة فقتلوا منهم أكثر من ثلاثين رجلاً، ثم أعطف على سفيان ومن معه فقاتلهم حتى اختلط الظلام، ثم انصرف، فقال سفيان لأصحابه: لا تتبعوهم.
فلما انتهى شبيب إلى الجسر قال لأصحابه: اعبروا وإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله. فعبروا أمامه وتخلف في آخرهم، وجاء ليعبر وهو على حصان، وكانت بين يديه فرس أنثى، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر فاضطربت الحجر تحته ونزل حافر فرس شبيب على حرف السفينة فسقط في الماء، فلما سقط قال: " ذاك تقدير العزيز العليم " الانعام:96،وغرق.
وقيل في قتله غير ذلك، وهو أنه كان مع جماعة من عشيرته ولم تكن لهم تلك البصيرة النافذة، وكان قد قتل من عشائرهم رجالاً، فكان قد أوجع قلوبهم، وكان منهم رجل اسمه مقاتل من بني تيم بن شيبان، فلما قتل شبيب من بني تيم أغار هو على بني مرة بن همام رهط شبيب فقتل منهم، فقال له شبيب: ما حملك على قتلهمبغير أميري؟ فال: له: قتلت كفار قومي فقتلت كفار قومك، ومن ديننا قتل من كان على غير رأينا، وما أصبت من رهطي أكثر مما أصبت من رهطك، وما يحل لك يا أمير المؤمنين أن تجد على قتل الكافرين. قال: لا أجد.
وكان معه أيضاً رجال كثير قد قتل من عشائرهم، فلما تخلف في آخر الناس قال بعضهم لبعض: هل لكم أن تقطع به الجسر فندرك ثأرنا؟ فقطعوا الجسر، فمالت به السفن، فنفر به الفرس فوقع في الماء فغرق. والأول أصح وأشهر.
وكان أهل الشام يريدون الانصراف، فاتاهم صاحب الجسر فقال لسفيان: إن رجلاً منهم وقع في الماء، فنادوا بينهم: غرق أمير المؤمنين! ثم إنهم انصرفوا راجعين وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد، فكبر سفيان وكبر أصحابه، وأقبل حتى انتهى إلى الجسر، وبعث إلى العسكر وإذا ليس فيه أحد وإذا هو أكثر العساكر خيراً، ثم استخرجوا شبيباً فشقوا جوفه وأخرجوا قلبه، وكان صلباً كأنه صخرة، فكان يضرب به الصخرة فيشبب عنها قامة الإنسان.
قيل: وكان شبيب ينعى إلى أمه، فيقال: قتل، فلا تقبل ذلك، فلما قيل لها غرق صدقت ذلك وقالت: إني رأيت حين ولدته أنه خرج مني شهاب نار فعلمت أنه لا يطفئه إلا الماء. وكانت أمه جارية رومية قد استراها أبوه فأولدها شبيباً منه سنة خمس وعشرين يوم النحر، وقالت: إني رأيت فيما يرى النائم أنه خرج من قلبي شهاب نار فذهب ساطعاً في السماء وبلغ الآفاق كلها، فبينما هو كذلك إذ وقع في ماء كثير فخبا، وقد ولدته في يومكم هذا الذي تهريقون فيه الدماء، وقد أولت ذلك أن ولدي يكون صاحب دماء، وأن أمره سيعلو فيعظم سريعاً. وكان أبوه يختلف به إلى اللصف أرض قومه، وهو من بني شيبان.
ذكر خروج مطرف بن المغيرة بن شعبةقيل: إن بني المغيرة بن شعبة كانوا صلحاء أشرافاً بأنفسهم مع شرف أبيهم ومنزلتهم من قومهم، فلما قدم الحجاج ورآهم علم أنهم رجال قومهم، فاستعمل عروة على الكوفة، ومطرفاً على المدائن، وحمزة على همدان، وكانوا في أعمالهم أحسن الناس سيرةً، وأشدهم على المريب، وكان مطرف على المدائن عند خروج شبيب وقربه منها، كما سبق، فكتب إلى الحجاج يستمده، فأمده بسبرة بن عبد الرحمن بن مخنف وغيره، وأقبل شبيب حتى نزل بهرسير، وكان مطرف بالمدينة العتيقة، وهي التي فيها إيوان كسرى، فقطع مطرف الجسر وبعث إلى شبيب يطلبه إليه أن يرسل بعض أصحابه لينظر فيما يدعون، فبعث إليه عدةً منهم، فسألهم مطرف عما يدعون إليه، فقالوا: ندعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإن الذي نقمنا من قومنا الاستئثار بالفيء وتعطيل الحدود والتسلط بالجبرية.
فقال لهم مطرف: ما دعوتم إلا إلى حق، وما نقمتم إلا جوراً ظاهراً، أنا لكم متابع فبايعوني على ما أدعوكم إليه ليجتمع أمري وأمركم. فقالوا: اذكره فإن يكن حقاً نجبك إليه. قال: أدعوكم إلى أن نقاتل هؤلاء الظلمة على إحداثهم وندعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه وأن يكون هذا الأمر شورى بين المسلمين يؤمرون من يرتضون على مثل هذه الحال التي تركهم عليها عمر بن الخطاب، فإن العرب إذا علمت أن ما يراد بالشورى الرضى من قريش رضوا وكثر تبعكم وأعوانكم. فقالوا: هذا مالا نجيبك إليه، وقاموا من عنده وترددوا بينهم أربعة أيام، فلم تجتمع كلمتهم، فساروا من عنده. وأحضر مطرف نصحاءه وثقاته فذكر لهم ظلم الحجاج وعبد الملك وأنه ما زال يؤثر مخالفتهم ومناهضتهم وأنه يرى ذلك ديناً لو وجد عليه أعواناً، ذكر لهم ما جرى بينه وبين أصحاب شبيب وأنهم لو تابعوه على رأيه لخلع عبد الملك والحجاج، واستشارهم فيما يفعل.
فقالوا له: أخف هذا الكلام ولا تظهره لأحد. فقال له يزيد بن أبي زياد، مولى أبيه المغيرة بن شعبة: والله لا يخفى على الحجاج مما كان بينك وبينهم كلمة واحدة وليزادن على كل كلمة عشر أمثالها، ولو كنت في السحاب لالتمسك الحجاج حتى يهلكك، فالنجاء النجاء فوافقه أصحابه على ذلك، فسار عن المدائن نحو الجبال، فلقيه قبيصة بن عبد الرحمن الخثعمي بدير يزدجرد فأحسن إليه وأعطاه نفقةً وكسوةً، فصحبه ثم عاد عنه، ثم ذكر مطرف لأصحابه بالدسكرة ما عزم عليه ودعاهم إليه، وكان رأيه خلع عبد الملك والحجاج والدعاء إلى كتاب الله وسنة نبيه وأن يكون الأمر شورى بين المسلمين يرتضون لأنفسهم من أحبوه. فبايعه البعض على ذلك ورجع عنه البعض.
وكان ممن رجع عنه سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف، فجاء إلى الحجاج وقاتل شبيباً مع أهل الشام.
وسار مطرف نحو حلوان، وكان بها سويد بن عبد الرحمن السعدي من قبل الحجاج، فأراد هو والأكراد منعه ليعذر عند الحجاج، فجازه مطرف بمواطأة منه وأوقع مطرف بالأكراد فقتل منهم وسار، فلما دنا من همذان وبها أخوه حمزة بن المغيرة تركها ذات اليسار وقصد ماه دينار وأرسل إلى أخيه حمزة يستمده بالمال والسلاح، فأرسل إليه سراً ما طلب . وسار مطرف حتى بلغ قم وقاشان وأصبهان وبعث عماله على تلك النواحي، وأتاه الناس، وكان ممن أتاه: سويد بن سرحان الثقفي، وبكير بن هارون النخعي، من الري في نحو مائة رجل.
وكتب البراء بن قبيصة، وهو عامل الحجاج على أصبهان، غليه يعرفه حال مطرف ويستمده، فأمدة بالرجال بعد الرجال على دواب البريد، وكتب الحجاج إلى عدي من الري فاجتمع هو والبراء بن قبيصة، وكان عدي هو المير، فاجتمعوا في نحو ستة آلاف مقاتل، وكان حمزة بت المغيرة قد أرسل إلى الحجاج يعتذر، فأظهر قبول عذره وأراد عزله وخاف أن يمتنع عليه، فكتب إلى قيس بن سعد العجلي، وهو على شرطة حمزة بهمذان، بعهده على همذان ويأمره أن يقبض على حمزة بن المغيرة.
وكان بهمذان من عجل وربيعة جمع كثير، فسار قيس بن سعد إلى حمزة في جماعة من عشيرته فأقراه العهد بولاية همذان وكتاب الحجاج بالقبض عليه، وقال: سمعاً وطاعة. فقبض قيس على حمزة وجعله في السجن، وتولى قيس همذان، وتفرغ قلب الحجاج من هذه الناحية لقتال مطرف، وكان يخاف مكان حمزة بهمذان لئلا يمد أخاه بالمال والسلاح ولعله ينجده بالرجال.
فلما قبض عليه سكن قلبه وتفرغ باله، ولما اجتمع عدي بن زياد الإيادي والبراء بن قبصة سارا نحو مطرف فخندقا عليه، فلما دنوا منه اصطفوا للحرب واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم أصحاب مطرف وقتل مطرف وجماعة كثيرة من أصحابه، قتله عمير بن هبيرة الفزاري، وحمل رأسه فتقدم بذلك عند بني أمية، وقاتل ابن هبيرة ذلك اليوم وأبلى بلاء حسناً وقتل يزيد بن أبي مولى المغيرة، وكان صاحب راية مطرف، وقتل من أصحابه عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف الأزدي، وكان ناسكاً صالحاً.
وبعث عدي بن زياد إلى الحجاج أهل البلاء، فأكرمهم وأحسن إليهم، وآمن عدي بكير بن هارون وسويد بن سرحان وغيرهما، وطلب منه الأمان للحجاج بن حارثة حتى عزل عدي، ثم ظهر في إمارة خالد بن عتاب بن ورقاء.
وكان الحجاج يقول: إن مطرفاً ليس بولد للمغيرة بن شعبة إنما هو ولد مصقلة بن سبرة الشيباني، وكان مصقلة والمغيرة يدعيانه، فألحق بالمغيرة وجلد مصقلة الحد، فلما أظهر رأي الخوارج قال الحجاج ذلك لأن كثيراً من ربيعة كانوا من خوارج ولم يكن منهم أحد من قيس عيلان
ذكر الإختلاف بين الأزارقةقد ذكرنا مسير المهلب إلى الأزارقة ومحاربتهم إلى أن فارقه عتاب بن ورقاء الرياحي ورجع إلى الحجاج، وأقام المهلب بعد مسير عاب عنه يقاتل الخوارج، فقاتلهم على سابور نحو سنة قتالاً شديداً. ثم إنه زاحفهم يوم البستان فقاتلهم أشد قتال، وكانت كرمان بيد الخوارج، وفارس بيد الهلب. فضاق على الخوارج مكانهم لا يأتيهم من فارس مادة، فخرجوا حتى أتوا كرمان، وتبعهم المهلب بالعساكر حتى نزل بجيرفت، وهي مدينة كرمان، فقاتلهم قتالاً شديداً. فلما صارت فارس كلها في يد المهلب أرسل الحجاج العمال عليها، فكتب إليه عبد الملك يأمره أن يترك بيد المهلب فسا ودار ابجرد وكورة إصطخر تكون له معونة على الحرب، فتركا له، وبعث الحجاج إلى المهلب البراء بن قبيصة ليحثه على قتال الجوارج ويأمره بالجد وأنه لا عذر له عنده فخرج المهلب بالعساكر فقاتل الخوارج من صلاة الغداة إلى الظهر، ثم انصرفوا والبراء على مكان عال يراهم، فجاء إلى المهلب فقال: ما رأيت كتيبة ولا فرساناً أصبر ولا أشد من الفرسان الذين يقاتلونك. ثم إن المهلب رجع العصر فقاتلهم كقتالهم أول مرة لا يصد كتيبة عن كتيبة، وخرجت كتيبة من كتائب الخوارج لكتيبة من أصحاب المهلب، فاشتد بينهم القتال إلى أن حجز بينهم الليل، فقالت إحداهما للأخرى: من أنتم؟ فقال هؤلاء: نحن من بتي تميم. وقال هؤلاء: نحن من بني تميم. وانصرفوا عند المساء. فقال المهلب للبراء بن قبيصة: كيف رأيت قوما ما يعينك عليهم إلا الله جل ثناؤه؟ فأحسن المهلب إلى البراء وأمر له بعشرة آلاف درهم. وانصرف البراء إلى الحجاج وعرفه عذر المهلب.
ثم إن المهلب قاتلهم ثمانية عشر شهراً لا يقدر منهم على شيء. ثم إن عاملا لقطري على ناحية كرمان يدعى المقعطر الضبي قتل رجلاً منهم، فوثبت الخوارج إلى قطري وطلبوا منه أن يقيدهم من المقعطر، فلم بفعل وقال: إنه تأول فأخطأ التأويل، ما رأى أن تقتلوه وهو من ذوي السابقة فيكم، فوقع بينهم الإختلاف.
وقيل: كان سبب اختلافهم أن رجلاً كان في عسكرهم يعمل النصول المسمومة فيرمي بها أصحاب المهلب، فشكا أصحابه منها، فقال: أكفيكموه، فوجه رجلاً من أصحابه ومعه كتاب وأمره أن يلقيه في عسكر قطري ولا يراه أحد، ففعل ذلك، ووقع الكتاب إلى قطري، فرأى فيه؛ أما بعد فإن نصالك قد وصلت وقد أنفذت إليك ألف درهم. فأحضر الصانع فسأله فجحد، فقتله قطري، فأنكر عليه عبد ربه الكبير قتله واختلفوا.
ثم وضع المهلب رجلاً نصرانياً وأمره أن يقصد قطرياً ويسجد له، ففعل ذلك، فقال له الخوارج: إن هذا قد اتخذك إلهاً. ووثب بعضهم إلى النصراني فقتله، فزاد اختلافهم وفارق بعضهم قطرياً، ثم ولوا عبد ربه الكبير وخلعوا قطرياً وبقي مع قطري منهم نحو من ربعهم أو خمسهم، واقتتلوا فيما بينهم نحوا من شهر.
وكتب المهلب إلى الحجاج بذلك. فكتب إليه الحجاج يأمره أن يقاتلهم على حال اختلافهم قبل أن يجتمعوا، فكتب إليه المهلب: إني لست أرى أن أقاتلهم ما دام يقتل بعضهم بعضاً، فإن تموا على ذلك فهو الذي نريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلا وقد رقق بعضهم بعضاً فأناهضهم حينئذٍ وهم أهون ما كانوا وأضعفه شوكةً إن شاء الله تعالى، والسلام. فسكت عنه الحجاج، وتركهم المهلب يقتتلون شهراً لا يحركهم، ثم إن قطرياً خرج بمن اتبعه نحو طبرستان، وبايع الباقون عبد ربه الكبير.
ذكر مقتل عبد ربه الكبيرلما سار قطري إلى طبرستان وأقام عبد ربه الكبير بكرمان نهض إليهم المهلب فقاتلوه قتالاً شديداً وحصرهم بجيرفت وكرر قتالهم وهو لا ينال منهم حاجته. ثم إن الخوارج طال عليهم الحصار فخرجوا من جيرفت بأموالهم وحرمهم فقاتلهم المهلب قتالاً شديداً حتى عقرت الخيل وتكسر السلاح وقتل الفرسان فتركهم، فساروا، ودخل المهلب جيرفت، ثم سار يتبعهم إلى أن لحقهم على أربعة فراسخ من جيرفت فقاتلهم من بكرة إلى نصف النهار وكف عنهم، وأقام عليهم.
ثم إن عبد ربه جمع أصحابه وقال: يا معشر المهاجرين! إن قطرياً ومن معه هربوا طلب البقاء ولا سبيل إليه، فالقوا عدوكم وهبوا أنفسكم لله. ثم عاد للقتال، فاقتتلوا قتالاً شديداً أنساهم ما قبله، فبايع جماعة من أصحاب المهلب على الموت، ثم ترجلت الخوارج وعقروا دوابهم واشتد القتال وعظم الخطب حتى قال المهلب: ما مربي مثل هذا - ثم إن لله تعالى أنزل نصره على المهلب وأصحابه وهزم الخوارج وكثر القتلى فيهم، وكان فيمن قتل: عبد ربه الكبير، وكان عدد القتلى أربعة آلاف قتيل، ولم ينج منهم إلا قليل، وأخذ عسكرهم وما فيه وسبوا لأنهم كانوا يسبون نساء المسلمين. وقال الطفيل بن عامر بن واثلة يذكر قتل عبد ربه الكبير وأصحابه:
لقد مس منا عبد رب وجنده ... عقاب فأمسى سبيهم في المقاسم
سما لهم بالجيش حتى أزاحهم ... بكرمان عن مثوىً من الأرض ناعم
وما قطري الكفر إلا نعامة ... طريد يدوي ليله غير نائم
إذا فر منا هارباً كان وجهه ... طريقاً سوى قصد الهدى والمعالم
فليس بمنجيه الفرار وإن جرت ... به الفلك في لجٍ من البحر دائم
وهي أكثر من هذا تركناها لشهرتها.
وأحسن الحجاج إلى أهل البلاء وزادهم، وسير المهلب إلى الحجاج مبشراً، فلما دخل عليه أخبره عن الجيش وعن الخوارج وذكر حروبهم وأخبره عن بني المهلب فقال: المغيرة فارسهم وسيدهم، وكفى بيزيد فارساً شجاعاً، وجوادهم وسخيهم قبيصة، ولا يستحيي الشجاع أن يفر من مدركه، وعبد الملك سم ناقع، وحبيب موت ذعاف، ومحمد ليث غاب، وكفاك بالمفضل نجدة قال: فكيف خلفت الناس؟ قال: خلفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: كيف كان بنو المهلب فيهم؟ قال: كانوا حماة السرح نهاراً، فإن أليلوا ففرسان البيات، قال: فأيهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفها. فاستحسن قوله وكتب إلى المهلب يشكره ويأمره أن يولي كرمان من يثق به ويجعل فيها من يحميها ويقدم إليه. فاستعمل على كرمان يزيد ابنه، وسار إلى الحجاج، فلما قدم عليه أكرمه وأجلسه إلى جانبه وقال: يا أهل العراق أنتم عبيد المهلب. ثم قال له: أنت كما قال لقيط بن يعمر الإيادي في صفة أمراء الجيوش:
وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعا
مسهد النوم تعنيه ثغوركم ... يروم منها إلى الأعداء مطلعا
ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متبعاً طوراً ومتسعا
وليس يشغله مال يثمره ... عنكم ولا ولد يبغي له الرفعا
حتى استمرت على شزرٍ مريرته ... مستحكم السن لا قحماً ولا ضرعا
وهي قصيدة طويلة هذا هو الأجود منها.
ذكر قتل قطري بن الفجاءة
وعبيدة بن هلالقيل: وفي هذه السنة كانت هلكة قطري وعبيدة بن هلال ومن معهما من الأزارقة. وكان السبب في ذلك أن أمرهم لما تشتت بالاختلاف الذي ذكرنا، وسار قطري نحو طبرستان، وبلغ خبره الحجاج، سير إليه سفيان بن الأبرد في جيش عظيم. وسار سفيان واجتمع معه إسحاق بن محمد بن الأشعث في جيش لأهل الكوفة بطبرستان، فأقبلوا في طلب قطري فلحقوه في شعب طبرستان فقاتلوه، فتفرق عنه أصحابه ووقع عن دابته فتدهدى إلى أسفل الشعب، وأتاه علج من أهل البلد، فقال له قطري: اسقني الماء. فقال العلج: أعطني شيئاً. فقال: ما معي إلا سلاحي وأنا أعطيكه إذا أتيتني بالماء. فانطلق العلج حتى أشرف على قطري، ثم حدر عليه حجراً من فوقه فأصاب وركه فأوهنه، فصاح بالناس، فاقبلوا نحوه، ولم يعرفه العلج، غير أنه يظن أنه من أشرافهم لكمال سلاحه وحسن هيئته، فجاء إليه نفر من أهل لكوفة فقتلوه، منهم: سورة بن الحر التميمي، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف، والصباح بن محمد بن الأشعث، وباذان مولاهم، وعمر بن أبي الصلت، وكل هؤلاء ادعى قتله.
فجاء إليهم أبو الجهم بن كنانة فقال لهم: ادفعوا رأسه إلي حتى تصطلحوا، فدفعوه إليه، فأقبل به إلى إسحاق بن محمد وهو على الكوفة فأرسله معه إلى سفيان، فسير سفيان الرأس مع أبي الجهم إلى الحجاج، فسيره الحجاج إلى عبد الملك، فجعل عطاءه في ألفين.
ثم إن سفيان سار إليهم فأحاط بهم، ثم أمر مناديه فنادى: من قتل صاحبه وجاء إلينا فهو آمن؛ فقال عبيدة بن هلال في ذلك:
لعمري لقد قام الأصم بخبةٍ ... لذي الشك منها في الصدور غليل
لعمري لئن أعطيت سفيان بيعتي ... وفارقت ديني أنني لجهول
إلى الله أشكو ما ترى بجيادنا ... تساوك هزلى مخهن قليل
تعاورها القذاف من كل جانبٍ ... بقومس حتى صعبهن ذلول
فإن يك أفناها الحصار فربما ... تشحط فيما بينهن قتيل
وقد كن مما إن يقدن على الوجى ... لهن بأبواب القباب صهيل
وحصرهم سفيان حتى أكلوا دوابهم، ثم خرجوا إليه فقاتلوه فقتلهم وبعث برؤوسهم إلى الحجاج. ثم دخل سفيان دنباوند وطبرستان فكان هناك حتى عزله الحجاج قبل الجماجم.
وقال بعض العملاء: وانقرضت الأزارقة بعد مقتل قطري وعبيدة، إنما كانوا دفعة متصلة أهل عسكر واحد، وأول رؤسائهم نافع بن الأزرق، وآخرهم قطري وعبيدة، واتصل أمرهم بضعاً وعشرين سنة، إلا أني أشك في صبيح المازني التميمي مولى سوار بن الأشعر الخارج أيام هشام، قيل: هو من الأزارقة أو الصفرية، إلا أنه لم تطل أيامه بل قتل عقيب خروجه.
ذكر قتل بكير بن وشاحفي هذه السنة قتل أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بكير بن وشاح.
وكان سبب ذلك أن أمية بن عبد الله، وهو عامل عبد الملك بن مروان على خراسان، أمر بكيراً بالتجهيز لغزو ما وراء النهر، وقد كان قبل ذلك ولاه طخارستان، فتجهز له، فوشى به بحير بن ورقاء إلى أمية، فمنعه عنها، فلما أمره بغزو ما وراء النهر تجهز وأنفق نفقةً كثيرة وادان فيها، فقال بحير لأمية: إن صار بينك وبينه النهر خلع الخليفة. فأرسل إليه أمية: أن أقم لعلي أغزو فتكون معي. فغضب بكير وقال: كأنه يضارني. وكان عقاب ذو القوة الغداني استدان ليخرج مع بكير، فأخذه غرماؤه فحبس حتى أدى عنه بكير.
ثم إن أمية تجهز للغزو إلى بخارى ثم يعود منها إلى موسى بن عبد الله بن خازم بترمذ، وتجهيز الناس معه وفيهم بكير، وساروا، فلما بلغوا النهر وأرادوا قطعه قال أمية لبكير: إني قد استخلفت ابني على خراسان وأخاف أنه لا يضبطها لأنه غلام حدث، فارجع إلى مرو فاكفنيها فإني قد وليتكها، فقم بأمر ابني.
فانتخب بكير فرساناً كان عرفهم ووثق بهم ورجع، ومضى أمية إلى بخارى للغزاة. فقال عقاب ذو اللقوة لبكير: إنا طلبنا أميراً من قريش فجائنا أمير يلعب بنا ويحولنا من سجن إلى سجن، وإني أرى آت تحرق هذه السفن ونمضي إلى مرو ونخلع أمية ونقيم بمرو ونأكلها إلى يوم ما.
ووافقه الأحنف بن عبد الله العنبري على هذا. قال بكير: أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معي. قال: إن هلك هؤلاء فأنا آتيك من أهل مرو بما شئت. قال: يهلك المسلمون. قال: إنما يكفيك أن ينادي منادٍ: من أسلم رفعنا عنه الخراج، فيأتيك خمسون ألفاً أسمع من هؤلاء وأطوع. قال: فيهلك أمية ومن معه. قال: ولم يهلكون ولهم عدد وعدة ونجدة وسلاح ظاهر ليقاتلوا عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين! فحرق بكير السفن ورجع إلى مرو، فأخذ ابن أمية فحبسه وخلع أمية.
وبلغ أمية الخبر فصالح أهل بخارى على فدية قليلة ورجع وأمر باتخاذ السفن وعبر وذكر للناس إحسانه إلى بكير مرة بعد أخرى وأنه كافأه بالعصيان، وسار إلى مرو، وأتاه موسى بن عبد الله بن خازم، وأرسل أمية شماس بن دثار في ثمانمائة، فسار إليه بكير وبيته فهزمه وأمر أصحابه أن لا يقتلوا منهم أحداً، فكانوا يأخذون سلاحهم ويطلقونهم، وقدم أمية فتلقاه شماس، فقدم أمية ثابت بن قطبة، فلقيه بكير فأسر ثابتاً وفرق جمعه ثم أطلقه ليدٍ كانت لثابت عنده.
وأقبل أمية وقاتله بكير فانكشف يوماً أصحابه، فحماهم بكير، ثم التقوا يوماً آخر فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم التقوا يوماً آخر فضرب بكير ثابت بن قطبة على رأسه، فحمل حريث بن قطبة أخو ثابت على بكير، فانحاز بكير وانكشف أصحابه، واتبع حريث بكيراً حتى بلغ القنطرة، وناداه: إلى أين يا بكير؟ فرجع، فضربه حريث على رأسه فقطع المغفر وعض السيف رأسه فصرع، واحتمله أصحابه فأدخلوه المدينة، وكانوا يقاتلونهم.
فكان أصحاب بكير يغدون في الثياب المصبغة من أحمر وأصفر فيجلسون يتحدثون وينادي مناديهم: من رمى بسهم رمينا إليه برأس رجل من ولده وأهله، فلا يرميهم أحد.
وخاف بكير إن طال الحصار أن يخذله الناس، فطلب الصلح وأحب ذلك أيضاً أصحاب أمية، فاصطلحوا على أن يقضي أمية عنه أربعمائة ألف ويصل أصحابه ويوليه أي كور خراسان شاء ولا يسمع قول بحير فيه وإن رابه ريب فهو آمن أربعين يوماً.
ودخل أمية مدينة مرو ووفى لبكير وعاد إلى ما كان من إكرامه وأعطى أمية عقاباً عشرين ألفاً.
وقد قيل: إن بكيراً لم يصحب أمية إلى النهر، كان أمية قد استخلفه على مرو، فلما سار أمية وعبر النهر خلعه، فجرى الأمر بينهما على ما ذكرناه.
وكان أمية سهلاً ليناً سخياً، وكان مع ذلك ثقيلاً على أهل خراسان، وكان فيه زهو شديد وكان يقول: ما تكفيني خراسان لمطبخي.
وعزل أمية بحيراً عن شرطته وولاها عطاء بن أبي السائب. وطالب أمية الناس بالخراج واشتد عليهم، وكان بكير يوماً في المسجد وعنده الناس فذكروا شدة أمية وذموه، وبحير وضرار بن حصين وعبد الله بن جارية بن قدامة في المسجد، فنقل بحير ذلك إلى أمية، فكذبه، فادعى شهادة هؤلاء، فشهد مزاحم بن أبي المجشر السلمي أنه كان يمزح فتركه أمية.
ثم إن بحيراً أتى أمية وقال له: والله إن بكيراً قد دعاني إلى خلعك وقال: لولا مكانك لقتلت هذا القرشي وأكلت خراسان، فلم يصدقه أمية، فاستشهد جماعةً ذكر بكير أنهم أعداؤه، فقبض أمية على بكير وعلى بدل وشمردل ابني أخيه، ثم أمر أمية بعض رؤساء من معه بقتل بكير فامتنعوا، فأمر بحيراً بقتله فقتله، وقتل أمية ابني أخي بكير.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عبر أمية نهر بلخ للغزو فحوصر حتى جهد هو وأصحابه، ثم نجوا بعدما أشرفوا على الهلاك ورجعوا إلى مرو.
وحج هذه السنة بالناس أبان بن عثمان، وهو أمير المدينة. وكان على الكوفة والبصرة الحجاج، وعلى خراسان أمية.
وغزا هذه السنة الصائفة الوليد بن عبد الملك.
وفيها مات جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين
ذكر عزل أمية بن عبد الله
وولاية المهلب خراسانفي هذه السنة عزل عبد الملك بن مروان أمية بن عبد الله بن خالد عن خراسان وسجستان وضمهما إلى أعمال الحجاج بن يوسف ففرق عماله فيهما، فبعث المهلب بن أبي صفرة على خراسان، وقد فرغ من الأزارقة، ثم قدم على الحجاج وهو بالبصرة فأجلسه معه على السرير ودعا أصحاب البلاء من أصحاب المهلب فأحسن إليهم وزادهم. وبعث عبيد الله بن أبي بكرة على سجستان، وكان الحجاج قد استخف على الكوفة عند مسيره إلى البصرة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل، فلما استعمل المهلب على خراسان سير ابنه حبيباً إليها، فلما ودع الحجاج أعطاه بغلةً خضراء، فسار عليها وأصحابه على البريد، فسار عشرين يوماً حتى وصل خراسان، فلما دخل باب مرو لقيه حمل حطب فنفرت البلغة، فعجبوا من نفارها بعد ذلك التعب وشدة السير. فلما وصل خراسان لم يعرض لأمية ولا لعماله وأقام عشرة أشهر حتى قدم عليه المهلب سنة تسع وسبعين.
ذكر عدة حوادثوحج بالناس هذه السنة أبان بن عثمان، وكان أمير المدينة. وكان أمير الكوفة والبصرة وخراسان وسجستان وكرمان الحجاج بن يوسف، وكان نائبه بخراسان المهلب، وبسجستان عبيد الله بن أبي بكرة، وكان على قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس، فيما قيل.
في هذه السنة مات عبد الرحمن بن عبد الله القاري وله ثمان وسبعون سنة، ومسح النبي صلى الله عليه وسلم ، برأسه.
القاري بالياء المشددة.
وفيها مات زيد بن خالد الجهني، وقيل غير ذلك، وتوفي عبد الرحمن بن غنم الأشعري، أدرك الجاهلية، وليست له صحبة.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين
ذكر غزو عبيد الله رتبيل
لما ولى الحجاج عبيد الله بن أبي بكرة سجستان، وذلك سنة ثمان وسبعين، مكث سنة لم يغز، وكان رتبيل مصالحاً، وكان يؤدي الخراج، وربما امتنع منه.
فبعث الحجاج إلى عبيد الله بن أبي بكرة يأمره بمناجزته وأن لا يرجع حتى يستبيح بلاده ويهدم قلاعه ويقيد رجاله.
فسار عبيد الله في أهل البصرة وأهل الكوفة، وكان على أهل الكوفة شريح بن هانئ، وكان من أصحاب علي، ومضى عبيد الله حتى دخل بلاد رتبيل فأصاب من الغنائم ما شاء، وهدم حصوناً، وغلب على أرض من أراضيهم، وأصحاب رتبيل من الترك يتركون لهم أرضاً بعد أرض حتى أمعنوا في بلادهم ودنوا من مدينتهم، وكانوا منها على ثمانية عشر فرسخاً، فأخذوا على المسلمين العقاب والشعاب، فسقط في أيدي المسلمين، فظنوا أن قد هلكوا، فصالحهم عبيد الله على سبعمائة ألف درهم يوصلها إلى رتبيل ليمكن المسلمين من الخروج من أرضه، فلقيه شريح فقال له: إنكم لا تصالحون على شيء إلا حسبه السلطان من أعطياتكم، وقد بلغت من العمر طويلاً وقد كنت أطلب الشهادة منذ زمان وإن فاتتني اليوم الشهادة ما أدركها حتى أموت. ثم قال شريح: يا أهل الإسلام تعاونوا على عدوكم. فقال له ابن أبي بكرة: إنك شيخ قد خرفت.
فقال له شريح: إنما حسبك أن يقال بستان عبيد الله وحمام عبيد الله. يا أهل الإسلام من أراد منكم الشهادة فإلي. فاتبعه ناس من المتطوعة غير كثير وفرسان الناس وأهل الحفاظ، فاتلوا حتى أصيبوا إلا قليلاً، وجعل شريح يرتجز ويقول:
أصبحت ذا بثٍ أقاسي الكبرا ... قد عشت بين المشركين أعصرا
ثمة أدركنا النبي المنذرا ... وبعده صديقه وعمرا
ويوم مهران ويوم تسترا ... والجمع في صفينهم والنهرا
وباجميراتٍ مع المشقرا ... هيهات ما أطول هذا عمرا
وقاتل حتى قتل في ناس من أصحابه ونجا منهم، فخرجوا من بلاد رتبيل، فاستقبلهم الناس بالأطعمة، فكان أحدهم إذا أكل وشبع مات، فحذر الناس وجعلوا يطعمونهم السمن قليلاً قليلاً حتى استمرؤوا، وبلغ ذلك الحجاج فكتب إلى عبد الملك يعرفه ذلك ويخبره أنه قد جهز من أهل الكوفة وأهل البصرة جيشاً كثيفاً ويستأذنه في إرساله إلى بلاد رتبيل.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أصاب أهل الشام طاعون شديد حتى كادوا يفنون، فلم يغز تلك السنة أحد فيما قيل. وفيها أصاب أهل الروم أهل أنطاكية وظفروا بهم. وفيها استعفى شريح بن الحارث عن القضاء فأعفاه الحجاج واستعمل على القضاء أبا بردة بن أبي موسى.
وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، وكان على المدينة، وكان على العراق والشرق كله الحجاج بن يوسف. وكان على قضاء البصرة موسى بن أنس.
وفيها مات محمود بن الربيع، وكنيته أبو إبراهيم، وولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود.
ثم دخلت سنة ثمانينفي هذه السنة أتى سيل بمكة فذهب بالحجاج، وكان يحمل الإبل عليها الأحمال والرجال ما لأحد فيهم حيلة، وغرقت بيوت مكة، وبلغ السيل الركن فسمي ذلك العام الجحاف وفي هذه السنة وقع بالبصرة طاعون الجارف.
ذكر غزوة المهلب ما وراء النهرفي هذه السنة قطع المهلب نهر بلخ ونزل على كش، وكان على مقدمته أبو الأدهم زياد بن عمرو الزماني في ثلاثة آلاف وهو في خمسة آلاف، وكان أبو الأدهم يغني غناء ألفين في البأس والتدبير والنصيحة، فأتى المهلب وهو نازل على كش ابن عم ملك الختل فدعاه إلى غزو الختل، فوجه معه ابنه يزيد، وكان اسم ملك الختل الشبل، فنزل يزيد ونزل ابن عم الملك ناحية، فبيته الشبل وأخذه فقتله، وحصر يزيد قلعة الشبل فصالحوه على فدية حملت إليه، ورجع يزيد عنهم، ووجه المهلب ابنه حبيباً فوافى صاحب بخارى في أربعين ألفاً، فنزل جماعة من العدو قرية، فسار إليهم حبيب في أربعة آلاف فقتلهم وأحرق القرية، فسميت المحترقة، ورجع حبيب إلى أبيه.
وأقام المهلب بكش سنتين، فقيل له: لو تقدمت إلى ما وراء ذلك. فقال: ليت حظي من هذه الغزاة سلامة هذا الجند وعودهم سالمين.
ولما كان المهلب بكش أتاهم قوم من مضر فحبسهم بها، فلما رجع أطلقهم، فكتب إليه الحجاج: إن كنت أصبت بحبسهم فقد أخطأت بإطلاقهم، وإن كنت أصبت بإطلاقهم فقد ظلمتهم إذ حبستهم. فكتب المهلب: خفتهم وحبستهم، فلما أمنتهم خليتهم. وكان فيمن حبس عبد الملك بن أبي شيخ القشيري.
وصالح المهلب أهل كش على فديةٍ يأخذها منهم، وأتاه كتاب ابن الأشعث بخلع الحجاج ويدعوه إلى مساعدته، فبعث بكتابه إلى الحجاج وأقام بكش.
ذكر تسيير الجنود إلى رتبيل مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعثقد ذكرنا حال المسلمين حين دخل بهم ابن أبي بكرة بلاد رتبيل، واستأذن الحجاج عبد الملك في تسيير الجنود نحو رتبيل، فأذن له عبد الملك في ذلك، فأخذ الحجاج في تجهيز الجيش، فجعل على أهل الكوفة عشرين ألفاً، وعلى أهل البصرة عشرين ألفاً، وجد في ذلك وأعطى الناس أعطياتهم كملاً، وأنفق فيهم ألفي ألف سوى أعطياتهم، وانجدهم بالخيل الرائقة والسلاح الكامل، وأعطى كل رجل يوصف بشجاعة وغناء، منهم عبيد بن أبي محجن الثقفي وغيره.
فلما فرغ من أمر الجندين بعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وكان الحجاج ببغضه ويقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله. وسمع الشعبي ذلك من الحجاج ذات يوم فأخبر عبد الرحمن به، فقال: والله لأحاولن أن أزيل الحجاج عن سلطانه. فلما أراد الحجاج أن يبعث عبد الرحمن على ذلك الجيش أتاه إسماعيل بن الأشعث فقال له: لا تبعثه فوالله ما جاز جسر الفرات فرأى الوالٍ عليه طاعة وإني أخاف خلافه. فقال الحجاج: هو أهيب لي من أن يخالف أمري. وسيره على ذلك الجيش، فسار بهم حتى قدم سجستان، فجمع أهلها فخطبهم ثم قال: إن الحجاج ولاني ثغركم وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم، فإياكم أن يتخلف منكم أحد فتمسه العقوبة.
فعسكروا مع الناس وتجهزوا، وسار بأجمعهم، وبلغ الخبر رتبيل فأرسل يعتذر ويبذل الخراج، فلم يقبل منه، وسار إليه ودخل بلاده وترك له رتبيل أرضاً أرضاً ورستاقاً رستاقاً وحصناً حصناً، وعبد الرحمن يحوي ذلك، وكلما حوى بلداً بعث إليه عاملاً وجعل معه أعواناً، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكل مكان مخوفٍ حتى إذا جاز من أرضه أرضاً عظيمة وملأ الناس أيديهم من الغنائم العظيمة منع الناس من الوغول في أرض رتبيل، وقال: نكتفي بما قد أصبناه العام من بلادهم حتى نجبيها ونعرفها ويجترئ المسلمون على طرقها، وفي العام المقبل نأخذ ما وراءها إن شاء الله تعالى، حتى نقاتلهم في آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم وأقصى بلادهم حتى يهلكهم الله تعالى. ثم كتب إلى الحجاج بما فتح الله عليه وبما يريد أن يعمل.
وقد قيل في إرسال عبد الرحمن غير ما ذكرنا، وهو أن الحجاج كان قد ترك بكرمان هميان بن عدي السدوسي يكون بها مسلحة إن احتاج إليه عامل سجستان والسند، فعصى هميان، فبعث إليه الحجاج عبد الرحمن بن محمد، فحاربه فانهزم هميان وأقام عبد الرحمن بموضعه. ثم إن عبيد الله بن أبي بكرة مات وكان عاملاً على سجستان، فكتب الحجاج لعبد الرحمن عهده عليها وجهز إليه هذا الجيش، فكان يسمى جيش الطواويس لحسنه.
ذكر عدة حوادثوحج بالناس هذه السنة أبان بن عثمان، وكان أمير المدينة. وكان على العراق والمشرق الحجاج، وكان على خراسان المهلب من قبل الحجاج، وكان على قضاء البصرة موسى بن أنس وعلى قضاء الكوفة أبو بردة.
وفي هذه السنة مات أسلم مولى عمر بن الخطاب. ووفيها توفي أبو إدريس الخولاني.
وفيها مات عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وقيل سنة أربع، وقيل سنة خمس، وقيل سنة ست وثمانين، وقيل سنة تسعين. وفيها قتل معبد بن عبد الله بن عليم الجهني الذي يروي حديث الدباغ، وهو أول من قال بالقدر في البصرة، قتله الحجاج، وقيل: قتله عبد الملك بن مروان بدمشق. وفيها توفي محمد بن علي بن أبي طالب، وهو ابن الحنفية. وفيها توفي جنادة بن أبي أمية، وله صحبة، وكان على غزو البحر أيام معاوية كلها. وفيها مات السائب بن يزيد ابن أخت النمر، وقيل: سنة ست وثمانين، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم . وفيها توفي سويد بن غفلة، بفتح الغين المعجمة، والفاء.
وفيها توفي عبد الله بن أوفى، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة. وجبير بن نفير بن مالك الحضرمي، أدرك الجاهلية، وليس له صحبة.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانينفي هذه السنة سير عبد الملك بن مروان ابنه عبيد الله ففتح قاليقلا
ذكر مقتل بحير بن ورقاءوفي هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصريمي.
وكان سبب قتله أنه لما قتل بكير بن وشاح، وكلاهما تميميان، بأمر أمية بن عبد الله بن خالد إياه بذلك، كما تقدم ذكره، قال عثمان بن رجاء بن جابر أحد بني عوف بن سعد من الأنباء يحرض بعض آل بكير من الأنباء، والأنباء عدة بطون من تميم سموا بذلك:
لعمري لقد أغضبت عيناً على القذى ... وبت بطيناً من رحيقٍ مروق
وخليت ثأراً طل واخترت نومةً ... ومن يشرب الصهباء بالوتر يسبق
فلو كنت من عوف بن سعدٍ ذؤابةً ... تركت بحيراً في دمٍ مترقرق
فقل لبحير نم ولا تخشى ثائراً ... ببكر فعوف أهل شاءٍ حبلق
دع الضأن يوماً قد سبقتم بوتركم ... وصرتم حديثاً بين غربٍ ومشرق
وهبوا فلو أمسى بكير كعهده ... لغاداهم زحفاً بجأواء فيلق
وقال أيضاً:
فلو كان بكر بارزاً في أداته ... وذي العرش لم يقدم عليه بحير
ففي الدهر إن أبقاني الدهر مطلب ... وفي الله طلاب بذاك جدير
فبلغ بجحيراً أن رهط بكير من الأبناء يتوعدونه فقال:
توعدني الأبناء جهلاً كأنما ... يرون مقفراً من بني كعب
رفعت له كفي بعضبٍ مهندٍ ... حسام كلون الثلج ذي رونق عضب
فتعاقد سبعة عشر رجلاً من بني عوف الطلب بدم بكير، فخرج فتىً منهم يقال له شمردل من البادية حتى قدم خراسان فرأى بحيراً واقفاً فحمل عليه، فطعنه فصرعه وظن أنه قد قتله، فقال الناس: خارجي، وراكضهم، فعثر به فرسه فسقط عنه فقتل.
وخرج صعصعة بن حرب العوفي من البادية، وقد باع غنيمات له، ومضى إلى سجستان فجاور قرابة لبحير مدة وادعى إلى بني حنيفة من اليمامة وأطال مجالستهم حتى أنسوا به، ثم قال لهم: إن لي بخراسان ميراثاً فاكتبوا لي إلى بحير كتاباً ليعينني على حقي. فكتبوا له، وسار فقدم على بحير وهو مع المهلب في غزوته، فلقي قوماً من بني عوف، فأخبرهم أمره، ولقي بحيراً فأخبره أنه من بني حنيفة من أصحاب ابن أبي بكرة وأن له مالاً بسجستان وميراثاً بمرو، وقدم ليبيعه ويعود إلى اليمامة. فأنزله بحير وأمر له بنفقة ووعده، فقال صعصعة: أقيم عندك حتى يرجع الناس؛ فأقام شهراً يحضر معه باب المهلب، وكان بحير قد حذر، فلما أتاه صعصعة بكتاب أصحابه وذكر أنه من حنيفة آمنه.
فجاء يوماً صعصة وبحير عند المهلب عليه قميص ورداء، فقعد خلفه ودنا منه كأنه يكلمه فوجأه بخنجر معه في خاصرته فغيبه في جوفه، ونادى: يا لثارات بكير! فاخذ وأتي به المهلب، فقال له: بؤساً لك! ما أدركت بثأرك وقتلت نفسك، وما على بحير بأس. فقال: لقد طعنته طعنةً لو قسمت بين الناس لماتوا، ولقد وجدت ريح بطنه في يدي. فحبسه، فدخل عليه قوم من الأبناء فقبلوا رأسه. ومات بحير من الغد، فقال صعصعة لما مات بحير: اصنعوا الآن ما شئتم، أليس قد حلت نذور أبناء بني عوف وأدركت بثأري؟ والله لقد أمكنني منه خالياً غير مرة فكرهت أن أقتله سراً. فقال المهلب: ما رأيت رجلاً أسخى نفساً بالموت من هذا. وأمر بقتله فقتل.
وقيل: إن المهلب بعثه إلى بحير قبل أن يموت، فقتله، ومات بحير بعده.
وعظم موته على المهلب وغضبت عوف والأبناء وقالوا: علام قتل صاحبنا وإنما أخذ بثأره؟ فنازعهم مقاعس والبطون، وكلهم بطون من تميم، حتى خاف الناس أن يعظم الأمر، فقال أهل الحجى: احملوا دم صعصعة واجعلوا دم بحير ببكير، فودوا صعصعة؛ فقال رجل من الأبناء يمدح صعصعة:
لله در فتىً تجاوز همه ... دون العراق مفاوزاً وبحورا
ما زال يدئب نفسه وركابه ... حتى تناول في الحروب بحيرا
ذكر دخول الديلم قزوين وما كان منهم
كانت قزوين ثغر المسلمين من ناحية ديلم، فكانت العساكر لا تبرح مرابطة بها يتحارسون ليلاً ونهاراً، فلما كان هذه السنة كان في جماعة من رابط بها محمد بن أبي سبرة الجعفي، وكان فارساً شجاعاً عظيم الغناء في حروبه، فلما قدم قزوين رأى الناس يتحارسون فلا ينامون الليل، فقال لهم: أتخافون أن يدخل عليكم العدو مدينتكم؟ قالوا: نعم. قال: لقد أنصفوكم إن فعلوا، افتحوا الأبواب ولا بأس عليكم، ففتحوها.
وبلغ ذلك الديلم فساروا إليهم وبيتوهم وهجموا إلى البلد، وتصايح الناس، فقال ابن أبي سبرة: أغلقوا أبواب المدينة علينا وعليهم فقد أنصفونا وقاتلوهم. فاغلقوا الأبواب وقاتلوهم، وأبلى ابن أبي سبرة بلاءً عظيماً، وظفر بهم المسلمون، فلم يفلت من الديلم أحد، واشتهر اسمه بذلك، ولم يعد الديلم بعدها يقدمون على مفارقة أرضهم. فصار محمد فارس ذلك الثغر المشار إليه، وكان يدمن شرب الخمر، وبقي كذلك إلى أيام عمر بن عبد العزيز، فأمر بتسييره إلى زرارة، وهي دار الفساق بالكوفة، فسير إليها، فأغارت الديلم ونالت من المسلمين، وظهر الخلل بعده، فكتبوا إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن أمير الكوفة يسألونه أن يرد عليهم ابن أبي سبرة، فكتب بذلك إلى عمر، فأذن له في عوده إلى الثغر، فعاد إليه وحماه.
ولمحمد أخ يقال له خثيمة بن عبد الرحمن، وهو اسم أبي سبرة، وكان من الفقهاء.
ذكر خلاف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاجوفي هذه السنة خالف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ومن معه من جند العراق على الحجاج وأقبلوا إليه لحربه، وقيل: كان ذلك سنة اثنتين وثمانين. وكان سبب ذلك أن الحجاج لما بعث عبد الرحمن بن محمد على الجيش إلى بلاد رتبيل فدخلها وأخذ منها الغنائم والحصون كتب إلى الحجاج يعرفه ذلك وأن رأيه أن يتركوا التوغل في بلاد رتبيل حتى يعرفوا طريقها ويجبوا خراجها على ما سبق ذكره.
فلما أتى كتابه إلى الحجاج كتب جوابه: إن كتابك كتاب امرئ يحب الهدنة ويستريح إلى الموادعة، قد صانع عدواً قليلاً ذليلاً، قد أصابوا من المسلمين جنداً كان بلاؤهم حسناً وغناؤهم عظيماً، وغنك حيث تكف عن ذلك العدو بجندي وحدي لسخي النفس بمن أطيب من المسلمين، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم والهدم لحصونهم وقتل مقاتلتهم وسبي ذراريم، ثم أردفه كتاباً آخر بنحو ذلك، وفيه: أما بعد فمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا وليقيموا بها فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم. ثم كتب إليه ثالثاً بذلك، ويقول له: إن مضيت لما أمرتك وإلا فأخوك إسحاق بن محمد أمير الناس.
فدعا عبد الرحمن الناس وقال لهم: أيها الناس إني لكم ناصح، ولصلاحكم محب ولكم في كل ما يحيط بكم نفعكم ناظر، وقد كان رأيي فيما بيني وبين عدوي بما رضيه ذوو أحلامكم وأولو التجربة منكم، وكتبت بذلك إلى أميركم الحجاج فأتاني كتابه يعجزني ويضعفني ويأمرني بتعجل الوغول بكم في أرض العدو، وهي البلاد التي هلك فيها إخوانكم بالأمس، وإنما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم وآبى إذا أبيتم.
فثار إليه الناس وقالوا: بل نأبى على عدو الله ولا نسمع له ولا نطيع. فكان أول من تكلم أبو لطفيل عامر بن واثلة الكناني، وله صحبة، فقال بعد حمد الله: أما بعد فإن الحجاج يرى بكم ما رأى القائل الأول: احمل عبدك على الفرس فإن هلك هلك، وغن نجا فلك. إن الحجاج ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلايا كثيرة ويغشي اللهوب واللصوب، فإن ظفرتم وغنمتم أكل البلاد وحاز المال وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذين لا يبالي عنتهم ولا يبقي عليهم. اخلعوا عدو الله الحجاج وبايعوا الأمير عبد الرحمن، فإني أشهدكم أني أول خالع. فنادى الناس من كل جانب: فعلنا فعلنا، قد خلعنا عدو الله.
وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي فقال: عباد الله! إنكم إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم ما بقيتم وجمركم تجمير فرعون الجنود، فإنه بلغني أنه أول من جمر البعوث، ولن تعاينوا الأحبة أو يموت أكثركم فيما أرى، فبايعوا أميركم وانصرفوا إلى عدوكم الحجاج فانفوه عن بلادكم. فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه على خلع الحجاج ونفيه من أرض العراق وعلى النصرة له، ولم يذكر عبد الملك.
وجعل عبد الرحمن على بست عياض بن هميان الشيباني، وعلى زرنج عبد الله بن عامر التميمي، وصالح رتبيل على أن ابن الأشعث إن ظهر فلا خراج عليه أبداً ما بقي، وإن هزم فأراد منعه. ثم رجع إلى العراق، فسار بين يديه أعشى همدان وهو يقول:
شطت نوى من داره بالإيوان ... إيوان كسرى ذي القرى والريحان
من عاشقٍ أمسى بزابلستان ... إن ثقيفاً منهم الكذابان
كذابها الماضي وكذاب ثان ... أمكن ربي من ثقيف همدان
يوماً إلى الليل يسلي ما كان ... إنا سمونا للكفور الفتان
حين طغى في الكفر بعد الإيمان ... بالسيد الغطريف عبد الرحمن
سار بجمع كالدبا من قحطان ... ومن معدٍ قد أتى من عدنان
بجحفلٍ جمٍ شديد الأركان ... فقل لحجاجٍ ولي الشيطان
يثبت بجمع مذحجٍ وهمدان ... فإنهم ساقوه كأس الذيفان
وملحقوه بقرى ابن مروان وجعل عبد الرحمن على مقدمته عطية بن عمرو العنبري، وجعل على كرمان حريثة بن عمرو التميمي، فلما بلغ فارس اجتمع الناس بعضهم إلى بعض وقالوا: إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك. فاجتمعوا إلى عبد الرحمن، فكان أول الناس خلع عبد الملك تيجان بن أبحر من تميم الله بن ثعلبة، قام فال: أيها الناس إني خلعت أبا ذبان كخلعي قميصي. فخلعه الناس إلا قليلاً منهم، وبايعوا بعد الرحمن، وكانت بيعته: نبايع على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعلى جهاد أهل الضلالة وخلعها وجهاد المحلين.
فلما بلغ الحجاج خلعه كتب إلى عبد الملك بخبر عبد الرحمن وسأله أن يعجل بعثة الجنود إليه. وسار الحجاج حتى نزل البصرة.
ولما بلغ المهلب خبر عبد الرحمن كتب إلى الحجاج من خراسان: أما بعد فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السيل ليس يردهم شيء حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شدة في أول مخرجهم وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فاتركهم حتى يسقطوا إلى أهاليهم ويشموا أولادهم ثم واقعهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم. فلما قرأ كتابه سبه وقال: ما إلي نظر وإنما النظر لابن عمه، يعني عبد الرحمن.
ولما وصل كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله ودعا خالد بن يزيد فأقرأه الكتاب، فقال: يا أمير المؤمنين إن كان الحدث من سجستان فلا تخفه، فإن كان من خراسان فإني أتخوفه. فجهز عبد الملك الجند إلى الحجاج، فكانوا يصلون إلى الحجاج على البريد من مائة ومن خمسين وأقل وأكثر، وكتب الحجاج تتصل بعبد الملك كل يوم بخبر عبد الرحمن. فسار الحجاج من البصرة ليلتقي عبد الرحمن، فنزل تستر وقدم بين يديه مقدمة إلى دجيل، فلقوا عنده خيلاً لعبد الرحمن، فانهزم أصحاب الحجاج بعد قتال شديد، وكان ذلك يوم الأضحى سنة إحدى وثمانين، وقتل منهم جمع كثير.
فلما أتى خبر الهزيمة إلى الحجاج رجع إلى البصرة وتبعه أصحاب عبد الرحمن فقتلوا منهم وأصابوا بعض أثقالهم، وأقبل الحجاج حتى نزل الزاوية وجمع عنده الطعام وترك البصرة لأهل العراق، ولما رجع نظر في كتاب المهلب فقال: لله دره أي صاحب حرب هو! وفرق في الناس مائة وخمسين ألف ألد فرهم.
فأقبل عبد الرحمن حتى دخل البصرة، فبايعه جميع أهلها قراؤها وكهولها مستبصرين في قتلا الحجاج ومن معه من أهل الشام. وكان السبب في سرعة إجابتهم إلى بيعته أن عمال الحجاج كتبوا إليه: إن الخراج قد أنكر، وإن أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار. فكتب إلى البصرة وغيرها: إن من كان له أصل من قرية فليخرج إليها، فاخرج الناس لتؤخذ منهم الجزية، فجعلوا يبكون وينادون: يا محمداه ولا يدرون أين يذهبون، وجعل قراء البصرة يبكون لما يرون، فلما قدم ابن الأشعث عقيب ذلك بايعوه على حرب الحجاج وخلع عبد الملك.
وخندق الحجاج على نفسه وخندق عبد الرحمن على البصرة؛ وكان دخول عبد الرحمن البصرة في آخر ذي الحجة.
ذكر عدة حوادثوحج بالناس هذه السنة سليمان بن عبد الملك، وكان ممن حج أم الدرداء الصغرى. وفيها ولد ابن أبي ذئب.
وكان العامل على المدينة أبان بن عثمان، وعلى العراق والمشرق كله الحجاج، وعلى خراسان المهلب، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة، وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة. وكانت سجستان وكرمان وفارس والبصرة بيد عبد الرحمن.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين
ذكر الحرب بين الحجاج وابن الأشعثقيل: في المحرم من هذه السنة اقتتل عسكر الحجاج وعسكر عبد الرحمن بن الأشعث قتالاً شديداً، قتزاحفوا في المحرم عدة دفعات، فلما كان ذات يوم في آخر المحرم اشتد قتالهم فانهزم أصحاب الحجاج حتى انتهوا إليه وقاتلوا على خنادقهم، ثم إنهم تزاحفوا آخر يوم من المحرم، فجال أصحاب الحجاج وتقوض صفهم، فجثا الحجاج على ركبتيه وقال: لله در مصعب ما كان أكرمه حين نزل به ما نزل وعزم على أنه لا يفر.
فحمل سفيان بن الأبرد الكلبي على الميمنة التي لعبد الرحمن فهزمها وانهزم أهل العراق وأقبلوا نحو الكوفة مع عبد الرحمن وقتل منهم خلق كثير، منهم عقبة بن عبد الغافر الأزدي وجماعة من القراء قتلوا ربضة واحدة معه.
ولما بلغ عبد الرحمن الكوفة تبعه أهل القوة وأصحاب الخيل من أهل البصرة، واجتمع من بقي في البصرة مع عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فبايعوه، فقاتل بهم الحجاج خمس ليالٍ أشد قتال رآه الناس، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث وبعه طائفة من أهل البصرة، وقتل منهم طفيل بن عامر بن واثلة، فقال أبوه يرثيه، وهو من الصحابة:
خلى طفيل علي الهم فانشعبا ... وهد ذلك ركني هدةً عجبا
مهما نسيت فلا أنساه إذ حدقت ... به الأسنة مقتولاً ومنسلبا
وأخطأتني المنايا لا تكالعني ... حتى كبرت ولن يتركن لي نسبا
وكنت بعد طفيلٍ كالذي نضبت ... عنه السيول وغاض الماء فانقبضا
وهي أبيات عدة. وهذه الوقعة تسمى يوم الزاوية.
فأقام الحجاج أول صفر واستعمل على البصرة الحكم بن أيوب الثقفي. وسار عبد الرحمن إلى الكوفة، وقد كان الحجاج استعمل عليها عند مسيره إلى البصرة عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمي حليف بني أمية، فقصده مطر بن ناجية اليربوعي، فتحصن من ابن الحضرمي في القصر، ووثب أهل الكوفة مع مطر، فاخرج ابن الحضرمي ومن معه من أهل الشام، وكانوا أربعة آلاف، واستولى مطر على القصر، واجتمع الناس وفرق فيهم مائتي درهم مائتي درهم.
فلما وصل ابن الأشعث إلى الكوفة كان مطر بالقصر، فخرج أهل الكوفة يستقبلونه، ودخل الكوفة وقد سبق إليه همدان، فكانوا حوله، فأتى القصر، فمنعه مطر بن ناجية ومعه جماعة من بني تميم، فاصعد عبد الرحمن الناس في السلاليم إلى القصر، فأخذوه، فأتي عبد الرحمن بمطر بن ناجية فحبسه ثم أطلقه وصار معه. فلما استقر عبد الرحمن بالكوفة اجتمع إليه الناس وقصده أهل البصرة، منهم عبد الرحمن بن لعباس بن ربيعة الهاشمي بعد قتاله الحجاج بالبصرة.
وقتل الحجاج يوم الزاوية بعد الهزيمة أحد عشر ألفاً خدعهم بالأمان وأمر منادياً فنادى: لا أمان لفلان بن فلان، فسمى رجالاً، فقال العامة: قد آمن الناس، فحضروا عنده فأمر بهم فقتلوا.
ذكر وقعة دير الجماجموكانت وقعة دير الجماجم في شعبان من هذه السنة، وقيل: كانت سنة ثلاث وثمانين.
وكان سببها أن الحجاج سار من البصرة إلى الكوفة لقتال عبد الرحمن بن محمد فنزل دير قوة، وخرج عبد الرحمن من الكوفة فنزل دير الجماجم. فقال الحجاج: إن عبد الرحمن نزل دير الجماجم ونزلت دير القرة، أما تزجر الطير؟ واجتمع إلى عبد الرحمن أهل الكوفة وأهل البصرة والقراء وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم فاجتمعوا على حرب الحجاج لبغضه، وكانوا مائة ألف ممن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم، وجاءت الحجاج أيضاً أمداد من الشام قبل نزوله بدير قرة، وخندق كل منهما على نفسه، فكان الناس يقتلون كل يوم ولا يزال أحدهما يدني خندقه من الآخر.
ثم إن عبد الملك وأهل الشام قالوا: إن كان ير1ضى أهل العراق بنزع الحجاج عنهم نزعناه فإن عزله أيسر من حربهم ونحقن بذلك الدماء. فبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان، وكان محمد بأرض الموصل، إلى الحجاج في جند كثيف وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق عزل الحجاج وأن يجريا عليهم أعطياتهم كما يجرى على أهل الشام، وأن ينزل عبد الرحمن بن محمد أي بلد شاء من بلد العراق، فإذا نزله كان والياً عليه ما دام حياً وعبد الملك خليفةً، فغن أجاب أهل العراق إلى ذلك عزلا الحجاج عنها وصار محمد بن مروان أمير العراق، وإن أبى أهل العراق قبول ذلك فالحجاج أمي الجماعة ووالي القتال ومحمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعته.
فلم يأت الحجاج أمر قط كان أشد عليه ولا أوجع لقلبه من ذلك، فخاف أن يقبل أهل العراق عزله فيعزل عنهم، فكتب إلى عبد الملك: والله لو أعطيت أهل العراق نزعي لم يلبثوا إلا قليلاً حتى يخالفوك ويسيروا إليك ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، أم تر ويبلغك وثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفان وسؤالهم نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إلى عثمان فقتلوه، وإن الحديد بالحديد يفلح.
فأبى عبد الملك إلا عرض عزله على أهل العراق. فلما اجتمع عبد الله ومحمد مع الحجاج خرج عبد الله بن عبد الملك وقال: يا أهل العراق أنا ابن أمير المؤمنين، وهو يعطيكم كذا وكذا. وخرج محمد بن مروان وقال: أنا رسول أمير المؤمنين، وهو يعرض عليكم كذا وكذا، فذكر هذه الخصال. فقالوا: نرجع العشية، فرجعوا واجتمع أهل العراق عند ابن الأشعث، فقال لهم: قد أعطيتم أمراً، انتهازكم اليوم إياه فرصة، وإنكم اليوم على النصف، فإن كان اعتدوا عليكم بيوم الزاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر، فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء لقوم هم لكم هائبون وأنتم منتقصون، فوالله لا زلتم عليهم جرآء وعندهم أعزاء أبداً ما بقيتم إن أنتم قبلتم.
فوثب الناس من كل جانب فقالوا: إن الله قد أهلكهم فأصبحوا في الضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير والسعر الرخيص والمادة القريبة، لا والله لا نقبل! وأعادوا خلعه ثانية.
وكان أول من قام بخلعه بدير الجماجمع عبد الله بن ذؤاب السلمي وعمير بن تيجان وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من خلعهم إياه بفارس.
فقال عبد الله بن عبد الملك ومحمد بن مروان للحجاج: شأنك بعسكرك وجندك واعمل برأيك فإنا قد أمرنا أن نسمع لك ونطيع. فقال: قد قلت: إنه لا يراد بهذا الأمر غيركم، فكانا يسلمان عليه بالإمرة ويسلم عليهما بالإمرة. فلما اجتمع أهل العراق بالجماجم على خلع عبد الملك قال عبد الرحمن: ألا إن بني مروان يعيرون بالزرقاء، والله ما لهم نسب أصح منه إلا أن بني أبي العاص أعلاج من أهل صفورية، فإن يكن هذا الأمر من قريش فمني تقويت بيضة قريش، وإن يك في العرب فأنا ابن الأشعث، ومد بها صوته يسمع الناس وبرزوا للقتال.
فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي، وعلى خيله سفيان بن الأبرد الملبي، وعلى رجاله عبد الله بن خبيب الحكمي؛ وجعل عبد الرحمن بن محمد على ميمنته الحجاج بن حارثة الخثعمي، وعلى ميسرته الأبرد بن قرة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة الهاشمي، وعلى رجاله محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعلى مجنبته عبد الله بن رزام الحارثي، وجعل على القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي، وفيهم سعيد بن جبير وعامر الشعبي وأبو البختري الطائي وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
ثم أخذوا يتزاحفون كل يوم ويقتتلون وأهل العراق تأتيهم موادهم من الكوفة وسادها وهم في خصب، وأهل الشام في ضنك شديد قد غلت عليهم الأسعار وفقد عندهم اللحم كأنهم في حصار، وهم على ذلك يغادون القتال ويراوحون. فلما كان اليوم الذي قتل فيه جبلة بن زحر بن قيس، وكانت كتيبته تدعى القراء تحمل عليهم فلا يبرحون، وكانوا قد عرفوا بذلك، وكان فيهم كميل بن زياد، وكان رجلاً ركيناً. فخرجوا ذات يوم كما كانوا يخرجون، وعبأ الحجاج صفوفه وعبأ عبد الرحمن أصحابه، وعبأ الحجاج لكتيبة القراء ثلاث كتائب وبعث عليها الجراح بن عبد الله الحكمي، فأقبلوا نحوهم فحملوا على القراء ثلاث حملات كل كتيبة تحمل حملة فلم يبرحوا وصبروا.
ذكر وفاة المغيرة بن المهلبوفي هذه السنة مات المغيرة بن المهلب بخراسان، وكان قد استخلفه أبوه المهلب على عمله بخراسان، فمات في رجب سنة اثنتين وثمانين، فأتى الخبر يزيد بن المهلب وأهل العسكر فلم يخبروا المهلب، فأمر يزيد النساء فصرخن، فقال المهلب: ما هذا؟ فقيل: مات المغيرة.
فاسترجع وجزع حتى ظهر جزعه، فلامه بعض خاصته، ثم دعا يزيد ووجهه إلى مرو ووصاه بما يعمل وإن دموعه لتحدر على لحيته.
فكان المهلب مقيماً بكش بما وراء النهر يحارب أهلها، فسار يزيد في تين فارساً، ويقال سبعين، فلقيهم خمسمائة من الترك في مفازة بست، فقالوا: ما أنتم؟ قالوا: تجار قالوا: فأعطونا شيئاً. فأبى يزيد، فأعطاهم مجاعة بن عبد الرحمن العتكي ثوباً وكرابيس وقوساً، فانصرفوا ثم غدروا وعادوا إليهم فقاتلوهم فاشتد القتال بينهم، ومع يزيد رجل من الخوارج كان قد أخذه، فقال: استبقني، فاستبقاه. فحمل الخارجي عليهم حتى خالطهم وصار من ورائهم وقتل رجلاً ثم كر حتى خالطهم وقتل رجلاً ورجع إلى يزيد، وقتل يزيد عظيماً من عظمائهم، ورمي يزيد في ساقه، فاشتدت شوكتهم، وصبر يزيد حتى جاوزهم، فقالوا: قد غدرنا ولا ننصرف حتى نموت أو تموتوا أو تعطونا شيئاً، فلم يعطهم يزيد شيئاً. فقال مجاعة: أذكر الله، قد هلك المغيرة، فأنشدك الله أن تهلك فتجتمع على المهلب المصيبة. فقال: إن المغيرة لم يعد أجله ولست أعدو أجلي. فرمى إليهم مجاعة بعمامة صفراء فأخذوها وانصرفوا.
ذكر صلح المهلب أهل كشوفي هذه السنة صالح المهلب أهل كش.
وكان سبب ذلك أنه اتهم قوماً من مضر فحبسهم وصالح وقفل وخلف حريث بن قطبة مولى خزاعة وقال: إذا استوفيت الفدية فرد عليهم الرهن.
وسار المهلب فلما صار ببلخ كتب إلى حريث: إني لست آمن إن رددت عليهم الرهن أن يغيروا عليك، فإذا قبضت الفدية فلا تخل الرهن حتى تقدم أرض بلخ. فقال حريث لملك كش: إن المهلب كتب إلي كذا وكذا، فغن عجلت الفدية سلمت إليك الرهن وسرت وأخبرته أن كتابه ورد وقد استوفيتها منكم ورددت عليكم الرهن.
فعجل ملك كش الفدية وأخذ الرهن، ورجع حريث، فعرض لهم الترك فقالوا له: افد نفسك ومن معك، فقد لقينا يزيد بن المهلب ففدى نفسه. فقال حريث: ولدتني إذاً أم يزيد. وقاتلهم فقتلهم وأسر منهم، أسرى، ففدوهم فأطلقهم ورد عليهم الفداء.
وبلغ المهلب قوله فقال: يأنف العبد أن تلده أم يزيد، فغضب، فلما قدم عليه بلخ قال: أين الرهن؟ قال: خليتهم قبل وصول كتابك وقد كفيت ما خفت. قال: كذبت ولكنك تقربت إليهم. وأمر بتجريده، فجزع من ذلك حتى ظن المهلب أن به مرضاً، فجرده وضربه ثلاثين سوطاً. فقال حريث: وددت أنه ضربني ثلاثمائة ولم يجردني أنفة وحياء؛ وحلف ليقتلن المهلب.
فركب يوماً مع المهلب فأمر غلامين له أن يضربا المهلب، فلم يفعلا وقالا: نخاف عليك أن تقتل. وترك حريث إتيان المهلب، فأرسل إليه أخاه ثابت بن قطبة ليأتيه به وقال له: إنك كبعض ولدي أدبه كبعضهم، فأتى ثابت أخاه وسأله أن يركب إلى المهلب، فلم يفعل، وحلف ليقتله، فقال ثابت: إن كان هذا رأيك فاخرج بنا إلى موسى بن عبد الله بن خازم. وخاف ثابت أن يقتل حريث المهلب فيقتلون جميعاً، فخرجا في ثلاثة من أصحابهما المنقطعين إليهما.
ذكر وفاة المهلب بن أبي صفرة
وولاية ابنه يزيد خراسان
لما صالح المهلب أهل كش رجع يريد مرو، فلما كان بمرو الروذ أخذته الشوصة، وقيل الشوكة، فمات منها، وأوصى إلى ابنه حبيب فصلى عليه، وقال لهم: قد استخلف عليكم يزيد فلا تخالفوه. فقال له ابنه المفضل: لو لم تقدمه لقدمناه.
واحضر ولده فوصاهم، وأحضر سهاماً فحزمت، فقال: أتكسرونها مجتمعة؟ قالوا: لا قال: أفتكسرونها متفرقة؟ قالوا: نعم. قال: فهكذا الجماعة. ثم قال: أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم فإنها تنسئ في الأجل وتثري المال وتكثر العدد، وأنهاكم عن القطيعة فإنها تعقب النار والقلة والذلة، وعليكم بالطاعة والجماعة، وليكن فعالكم أفضل من مقالكم، واتقوا الجواب وزلة اللسان، فإن الرجل تزل قدمه فينتعش منها ويزل لسانه فيهلك، اعرفوا لمن يغشاكم حقه، فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحيوا العرف، واصنعوا المعروف، فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك فكيف بالصنيعة عنده عليكم في الحرب بالتؤدة والمكيدة، فإنها أنفع من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء فإن أخذ الرجل بالحزم فظفر قيل أتى الأمر من وجهه فظفر فحمد، وإن لم يظفر قيل ما فرط ولا ضيع ولكن القضاء غالب، وعليكم بقراءة القرآن وتعليم السنن وأدب الصالحين، وإياكم وكثرة الكلام في مجالسكم. ثم مات، رحمه الله، فقال نهار بن توسعة التميمي يرثيه:
ألا ذهب المعروف والعز والغنى ... ومات الندى والجود بعد المهلب
أقام بمرو الروذ رهن ضريحه ... وقد غاب عنه كل شرقٍ ومغرب
إذا قيل أي الناس أولى بنعمةٍ ... على الناس قلنا هو ولم نتهيب
فلما توفي كتب ابنه إلى الحجاج يعلمه بوفاته، فاقر يزيد على خراسان.
ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة في جمادى الآخرة واستعمل عليها هشام بن إسماعيل المخزومي، فعزل هشام نوفل بن مساحق عن قضاء المدينة، وولى على القضاء عمرو بن خالد الزرقي، وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية فهزمهم، ثم سألوه الصلح فصالحهم وولى عليهم أبا شيخ بن عبد الله، فغدروا به فتقلوه، وقيل: بل قتلوه سنة ثلاث وثمانين.
وفيها قتل عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي بدجيل. وفيها مات أو الجوزار أوس بن عبد الله الربعي، وعطاء بن عبد الله السليمي العابد.
السليمي بفتح السين المهملة، وكسر اللام.
وفيها مات زاذان، وأبو وائل، وعمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعمره ستون سنة. وفيها مات أبو أمامة الباهلي، وقيل: سنة إحدى وتسعين.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين
ذكر بقية الوقعة بدير الجماجمفلما حملت كتائب الحجاج الثلاث على القراء من أصحاب عبد الرحمن وعليهم جبلة بن زحر نادى جبلة: يا عبد الرحمن بن أبي ليلى! يا معشر القراء! إن الفرار ليس بأحد بأقبح منه منكم، غني سمعت علي بن أبي طالب، رفع الله درجته في الصالحين وآتاه ثواب الصاديقين والشهداء، يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون إنه من رأى عدواناً يعمل به ومنكراً يدعة إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجسر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ونور في قلبه باليقين، فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين جهلوا الحق فلا يعرفونه، وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه.
وقال أبو البختري: أيها الناس قاتلوهم على دينكم ودنياكم. فقال الشعبي: أيها الناس قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم، والله ما أعلم على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور في حكم منهم. وقال سعيد بن جبير نحو ذلك، وقال جبلة: احملوا عليهم حملةً صادقةً، ولا تردوا وجوهكم عنهم حتى توقعوا صفهم.
فحملوا عليهم حملةً صادقةً، فضربوا الكتائب حتى أزالوها وفرقوها، وتقدموا حتى واقعوا صفهم فأزالوه عن مكانه، ثم رجعوا فوجدوا جبلة بن زحر قتيلاً لا يدرون كيف قتل.
وكان سبب قتله أن أصحابه لما حملوا على أهل الشام ففرقوهم وقف لأصحابه ليرجعوا إليه فافترقت فرقة من أهل الشام فوقفت ناحية، فلما رأوا أصحاب جبلة قد تقدموا قال بعضهم لبعض: هذا جبلة، احملوا عليه ما دام أصحابه مشاغيل بالقتال. فحملوا عليه فلم يول لكنه حمل عليهم فقتلوه، وكان الذي قتله الوليد بن تحيت الكلبي، وجيء برأسه إلى الحجاج فبشر أصحابه بذلك. فلما رجع أصحاب جبلة ورأوه قتيلاً سقط في أيديهم وتنازعوه بينهم، فقال لهم أبو البختري: لا يظهرن عليكم قتل جلة إنما كان كرجل منكم أتته منيته فلم يكن ليتقدم ولا ليتأخر. وظهر الفشل في القراء، وناداهم أهل الشام: يا أعداء الله قد هلكتم وقد قتل طاغيتكم! وقدم عليهم بسطام من مصقلة بن هبيرة السيباني، ففرحوا به وقالوا: تقدم مقام جبلة. وكان قدومه من الري، فلما أتى عبد الرحمن جعله على ربيعة، وكان شجاعاً، فقاتل يوماً فدخل عسكر الحجاج فأخذ أصحابه ثلاثين امرأة فأطلقهن. فقال الحجاج: منعوا نساءهم، لو لم يردوهن لسبيت نساءهم إذا ظهرت عليهم.
وخرج عبد الرحمن بن عوف الرؤاسي أبو حميد فدعا إلى المابرزة، فخرج إليه رجل من أهل الشام، فتضاربا، فقال كل واحد منهما: أنا الغلام الكلابي فقال كل واحد منهما لصاحبه: من أنت؟ وإذا هما ابنا عم، فتحاجزا. وخرج عبد الله بن رازم الحارثي فطلب المبارزة، فخرج إليه رجل من عسكر الحجاج فقتله، ثم فعل ذلك ثلاثة أيام.
فلما كان اليوم الرابع خرج، فقالوا: جاء لا جاء الله به! فطلب المبارزة، فقال الحجاج للجراح: أخرج إليه. فخرج إليه. فقال له عبد الله، وكان له صديقاً: ويحك يا جراح ما أخرجك؟ قال: ابتليت بك. قال: فهل لك في خير؟ قال الجراح: ما هو؟ قال عبد الله: أنهزم لك وترجع إلى الحجاج وقد أحسنت عنده وحمدك، وأما أنا فأحتمل مقالة الناس في انهزامي حباً لسلامتك فإني لا أحب قتل مثلك من قومي. قال: افعل. فحمل الجراح على عبد الله فاستطرد له عبد الله، وحمل عليه الجراح بجد يريد قتله، فصاح بعيد الله غلامه، وكان ناحية معه ماء ليشربه، وقال له: يا سيدي إن الرجل يريد قتلك! فعطف عبد الله على الجراح فضربه بعمود على رأسه فصرعه، وقال له: يا جراح بئس ما جزيتني! أردت بك العافية وأردت تقلي! انطلق فقد تركتك للقرابة والعشيرة. وكان سعيد بن جبير وأبو البختري الطائي يحملان على أهل الشام بعد قتل جبلة بن زحر حتى يخالطاهم، وكانت مدة الحرب مائة يوم وثلاثة أيام لأنه كان نزولهم بالجماجم لثلاث مضين من ربيع الأول، وكانت الهزيمة لأربع عشرة مضين من جمادى الآخرة.
فلما كان يوم الهزيمة اقتتلوا أشد قتال، واستظهر أصحاب عبد الرحمن على أصحاب الحجاج واستعلوا عليهم وهم آمنون أن يهزموا. فبينا هم كذلك إذ حمل سفيان بن الأبرد، وهو في ميمنة الحجاج، على الأبرد بن قرة التميمي، وهو على ميسرة عبد الرحمن، فانهزم الأبرد بن قرة من غي قتال يذكر، فظن الناس أنه قد كان صولح على أن ينهزم بالناس، فلما انهزم تقوضت الصفوف من نحوه وركب الناس بعضهم بعضاً، وصعد عبد الرحمن المنبر ينادي الناس: إلي عباد الله. فاجتمع إليه جماعة، فثبت حتى دنا منه أهل الشام فقاتل من معه ودخل أهل الشام العسكر، فأواه عبد الله بن يزيد بن المفضل الأزدي فقال له: انزل فإني أخاف عليك أن تؤسر ولعلك إن انصرفت أن تجمع لهم جمعاً يهلكهم الله به.
فنزل هو ومن معه لا يلوون على شيء، ثم رجع الحجاج إلى الكوفة، وعاد محمد بن مروان إلى الموصل، وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام، وأخذ الحجاج يبايع الناس، وكان لا يبايع أحداً إلا قال له: اشهد أنك كفرت، فإن قال: نعم، بايعه، وإلا قتله، فأتاه رجل من خثعم كان معتزلاً للناس جميعاً فسأله عن حاله فأخبره باعتزاله، فقال له: أنت متربص، أتشهد أنك كافر؟ قال: بئس الرجل! أنا أعبد الله ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر! قال: إذاً أقتلك. قال: وإن قتلتني فوالله ما بقي من عمري إلا ظمء حمار. فقتله ولمي بق أحد من أهل الشام والعراق إلا رحمه.
ثم دعا بكميل بن زياد فقال له: أنت المقتص من أمير المؤمنين عثمان؟ قد كنت أحب من أن أجد عليك سبيلاً. قال: على أينا أنت أشد غضباً، عليه حين أقاد من نفسه أم علي حين عفوت عنه؟ قم قال: أيها الرجل من ثقيف لا تصرف علي أنيابك ولا تكشر على كالذئب، والله ما بقي من عمري إلا ظمء الحمار، اقض ما أنت قاضٍ فإن الموعد الله وبعد القتل الحساب.
قال الحجاج: فإن الحجة عليك. قال: ذلك إذا كان القضاء إليك. فأمر به فقتل، وكان خصيصاً بأمير المؤمنين. وأتي بآخر من بعده، فقال له الحجاج: أرى رجلاً ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر. فقال له الرجال: أتخادعني عن نفسي؟ أنا أكفر أهل الأرض وأكفر من فرعون. فضحك منه وخلي سبيله.
وأقام بالكوفة شهراً، وأنزل أهل الشام بيوت أهل الكوفة، أنزلهم الحجاج فيها مع أهلها، وهو أول من انزل الجند في بيوت غيرهم، وهو إلى الآن لا سيما في بلاد العجم، ومن سن سنة سيئة كان عليها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
ذكر الوقعة بمسكنولما انهزم عبد الرحمن أتى البصرة واجتمع إليه من المنهزمين جمع كثير، وكان فيهم عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس القرشي، وكان بالمدائن محمد بن سعد بن أبي وقاص، فسار إليه الحجاج، فلحق ابن سعد بعيد الرحمن، وسار عبد الرحمن نحو الحجاج ومعه جمع كثير فيهم بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني، وقد بايعه خلق كثير على الموت، فاجتمعوا بمسكن، وخندق عبد الرحمن على أصحابه وجعل القتال من وجه واحد.
وقدم عليه خالد بن جرير بن عبد الله من خراسان في ناس من بعث الكوفة، فاقتتلوا خمسة عشر يوماً من شعبان أشد قتال، فقتل زياد بن غيثم القيني، وكان على مسالح الحجاج، فهده ذلك وهد أصحابه. وبات الحجاج يحرض أصحابه، ولما أصبحوا باكروا القتال فاقتتلوا أشد قتال كان بينهم، فانكشفت خيل سفيان بن الأبرد، فأمر الحجاج عبد الملك بن المهلب فحمل على أصحاب عبد الرحمن، وحمل أصحاب الحجاج من كل جانب، فانهزم عبد الرحمن وأصحابه وقتل عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه وأبو البختري الطائي، ومشى بسطام بن مصقلة بن هبيرة في أربعة آلاف فارس من شجعان أهل الكوفة والبصرة فكسروا جفون سيوفهم وحث أصحابه على القتال، فحملوا على أهل الشام فكشفوهم مراراً، فدعا الحجاج الرماة فرموهم وأحاط بهم الناس فقتلوا إلا قليلاً، ومضى ابن الأشعث نحو سجستان.
وقد قيل في هزيمة عبد الرحمن بمسكن غير هذا، والذي قيل: إنه اجتمع هو والحجاج بمسكن، وكان عسكر ابن الأشعث والحجاج بين دجلة والسيب والكرخ، فاقتتلوا شهراً ودونه، فأتى شيخ فدل الحجاج على طريق من وراء الكرخ في أجمة وضحضاح من الماء، فأرسل معه أربعة آلاف وقال لقائدهم: إن صدق فأعطه ألف درهم، فإن كذب فاقتله. فسار بهم، ثم إن الحجاج قاتل أصحاب عبد الرحمن، فانهزم الحجاج فعبر السيب، ورجع ابن الأشعث إلى عسكره آمناً ونهب عسكر الحجاج فأمنوا وألقوا السلاح، فلم يشعروا نصف الليل إلا والسيف يأخذهم من تلك السرية، فغرق من أصحاب عبد الرحمن أكثر ممن قتل، ورجع الحجاج في عسكره على الصوت فقتلوا من وجدوا، فكان عدة من قتل أربعة آلاف، منهم: عبد الله بن شداد بن الهاد، وبسطام بن مصقلة، وعمرو بن ضبيعة الرقاشي، وبشر بن المنذر بن الجارود وغيرهم.
ذكر مسير عبد الرحمن إلى رتبيل
وما جرى له ولأصحابهولما انهزم عبد الرحمن من مسكين سار إلى سجستان فأتبعه الحجاج ابنه محمداً وعمارة بن تميم اللخمي وعمارة على الجيش، فأدركه عمارة بالسوس فقاتله ساعةً، فانهزم عبد الرحمن ومن معه وساروا حتى أتوا سابور، واجتمع إليه الأكراد، فقاتلهم عمارة قتالاً شديداً على العقبة، فجرح عمارة وكثير من أصحابه، وانهزم عمارة وترك لهم العقبة.
وسار عبد الرحمن حتى أتى كرمان وعمارة يتبع أثرهم، فدخل بعض أهل الشام قصراً في مفازة كرمان فإذا فيه كتاب قد كتبه بعض أهل الكوفة من شعر ابن حلزة اليشكري، وهي طويلة:
أيا لهفاً ويا حزناً جميعاً ... ويا حر الفؤاد لما لقينا
تركنا الدين والدنيا جميعاً ... وأسلمنا الحلائل والبنينا
فما كنا بناسٍ أهل دينٍ ... فنصبر في البلاء إذا ابتلينا
فما كنا بناسٍ أهل دنيا ... فمنمنعها ولو لم نرج دينا
نتركنا دورنا لطغام عكٍ ... وأنباط القرى والأشعرينا
فلما وصل عبد الرحمن إلى كرمان أتاه عامله، وقد هيأ له نزلاً فنزل، ثم رحل إلى سجستان فأتى رزنج وفيها عامله فأغلق بابها ومنع عبد الرحمن من دخولها، فأقام عليها أياماً ليفتحها فلم يصل إليها، فسار إلى بست، وكان قد استعمل عليها عياض بن هميان بن هشام الدوسي الشيباني، فاستقبله وأنزله، فلما غفل أصحابه قبض عليه عياض وأوثقه وأراد أن يأمن به عند الحجاج.
وقد كان رتبيل ملك الترك سمع بمقدم عبد الرحمن، فسار إليه ليستقبله، فلما قبضه عياض نزل رتبيل على بست وبعث إلى عياض يقول: والله لئن آذيته بما يقذي عينه أو ضررته ببعض الضرر أو أخذت منه ولو حبلاً من شعر لا أبرح حتى أستذلك وأقتلك وجميع من معك، وأسبي ذراريكم، وأغنم أموالكم. فاستأمنه عياض، فأطلق عبد الرحمن، فأراد قتل عياض فمنعه رتبيل.
ثم سار عبد الرحمن مع رتبيل إلى بلاده، فأنزله وأكرمه وعظمه. وكان ناس كثير من المنهزمين من أصحاب عبد الرحمن من الرؤوس والقادة الذين لم يقبلوا أمان الحجاج ونصبوا له العداوة في كل موطن قد تبعوا عبد الرحمن فبلغوا سجستان في نحو ستين ألفاً ونزلوا على زرنج يحاصرون من بها، وكتبوا إلى عبد الرحمن يستدعونه ويخبرونه أنهم على قصد خراسان ليقووا بمن بها من عشائرهم، فأتاهم، وكان يصلي بهم عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإلى أن قدم عبد الرحمن. فلما أتت كتبهم عبد الرحمن سار إليهم، ففتحوا زرنج، وسار نحوهم عمارة بن تميم في أهل الشام، فقال لعبد الرحمن أصحابه: اخرج بنا عن سجستان إلى خراسان. فقال: إن بها يويد بن المهلب وهو رجل شجاع ولا يترك لكم سلطانه ولو دخلناها لقاتلنا وتبعنا أهل الشام فيجتمع علينا أهل خراسان وأهل الشام. قالوا: لو دخلنا خراسان لكان من يتبعنا أكثر ممن يقاتلنا.
فشار معهم حتى بلغوا هراة، فهرب من أصحابه عبيد الله بن عبد الرحمن ابن سمرة القرشي في ألفين، فقال لهم عبد الرحمن: إني كنت في مأمن وملجإٍ فجاءتني كتبكم أن أقبل فإن أمرنا واحد فلعلنا نقاتل عدونا، فأتيتكم فرأيتم أن أمضي إلى خراسان وزعمتم إنكم تجتمعون إلي وأنكم لا تتفرقون، وهذا عبيد الله قد صنع ما رأيتم فاصنعوا ما بدا لكم، أما أنا فمنصرف إلى صاحبي الذي أتيت من عنده.
فتفرق منهم طائفة وبقي معه طائفة وبقي أعظم العسكر مع عبد الرحمن بن العباس فبايعوه، ومضى عبد الرحمن بن الأشعث إلى رتبيل، وسار عبد الرحمن بن العباس إلى هراة، فلقوا بها الرقاد الأزدي فقتلوه، فسار إليهم يزيد بن المهلب.
وقيل: إن عبد الرحمن بن الأشعث لما انهزم من مسكن أتى عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة هراة، وأتى عبد الرحمن بن العابس سجستان، فاجتمع فل ابن الأشعث فسار إلى خراسان في عشرين أفاً فنزل هراة، ولقوا الرقاد فقتلوه، فأرسل إليه يزيد بن المهلب: قد كان لك في البلاد متسع ومن هو أهون مني شوكة، فارتحل إلى بلد ليس لي فيه سلطان فإني أكره قتالك، وأن أردت مالاً أرسلت إليك. فأعاد الجواب: إنا ما نزلنا لمحاربة ولا لمقام ولكنا أردنا أن نريح ثم نرحل عنك وليست بنا إلى المال حاجة.
وأقبل عبد الرحمن بن العباس على الجبابة، وبلغ ذلك يزيد فقال: من أراد أن يريح ثم يرتحل لم يجب الخراج. فسار يزيد نحوه وأعاد مراسلته: إنك قد أرحت وسمنت وجبيت الخراج فلك ما جبيت وزيادة فاخرج عني فإني أكره قتالك. فأبى إلا القتال، وكاتب جند يزيد يستميلهم ويدعوهم إلى نفسه، فعلم يزيد فقال: جل المر عن العتاب؛ ثم تقدم إليه فقاتله، فلم يكن بينهم كثير قتال حتى تفرق أصحاب عبد الرحمن عنه وصبر وصبرت معه طائفة ثم انهزموا، وأمر يزيد أصحابه بالكف عن أتباعهم، وأخذوا ما كان في عسكرهم وأسوا منهم أسرى، وكان منهم: محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر، وعباس بن الأسود بن عوف الزهري، والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وفيروز حصين، وأبو الفلج مولى عبيد الله بن معمر، وسوار بن مروان، وعبد الرحمن بن طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، وعبد الله بن فضالة الزهراني الأزدي.
ولحق عبد الرحمن بن العباس بالسند، واتى ابن سمرة مرو، وانصرف يزيد إلى مرو وبعث الأسرى إلى الحجاج مع سبرة ونجدة، فلما أراد تسييرهم قال له أخوه حبيب: بأي وجه تنظر إلى اليمانية وقد بعثت عبد الرحمن بن طلحة؟ فال يزيد: غنه الحجاج ولا يتعرض له. قال: وطن نفسك على العزل ولا ترسل به فإن له عندنا يداً. قال: وما هي؟ قال: ألزم المهلب في مسجد الجماعة بمائة ألف فأداها طلحة عنه. فأطلقه يزيد، ولم يرسل يزيد أيضاً عبد الله بن فضالة لأنه من الأزد، وأرسل الباقين.
فلما قدموا على الحجاج قال لحاجبه: إذا دعوتك بسيدهم فأتني بفيروز، وكان بواسط القصب قبل أن تبنى مدينة واسط. فقال لحاجبه: ائتني بسيدهم. فقال لفيروز: قم. فقام، فأحضره عنده. فقال له الحجاج: أبا عثمان ما أخرجك مع هؤلاء؟ فوالله ما لحمك من لحومهم ولا دمك من دمائهم! قال: فتنة عمت الناس. قال: اكتب إلي أموالك. قال: اكتب يا غلام ألف ألف وألفي ألف، فذكر مالاً كثيراً. فقال الحجاج: أين هذه الأموال؟ قال: عندي.
قال: فأدها. قال: وأنا آمن على دمي؟ قال: والله لتؤدينها ثم لأقتلنك. قال: والله لا يجمع بين دمي ومالي. فأمر به فنحي.
ثم أحضر محمد بن سعد بن أبي وقاص فقال له: يا ظل الشيطان! أعظم الناس تيهاً وكبراً تأبى بيعة يزيد بن معاوية وتتشبه بالحسين وبابن عمر ثم ضربت مؤذناً؟ وجعل يضرب رأسه بعود في يده حتى أدماه، ثم أمر به فقتل. ثم دعا بعمر بن موسى فقال: يا عبد المرأة! يقوم بالعمود على رأسك ابن الحائك، يعني ابن الأشعث، وتشرب معه في الحمام! فقال: أصلح الله الأمير، كانت فتنة شملت البر والفاجر فدخلنا فيها، فقد أمكنك الله منا فإن عفوت فبجمالك وبفضلك، وغن عاقبت ظلمت مذنبين. فقال الحجاج: أما أنها شملت البر فكذبت، ولكنها شملت الفاجر وعوفي منها الأبرار، وأما اعترافك فعسى أن ينفعك؛ ورجال له الناس السلامة، ثم أمر به فقتل. ثم دعا بالهلقام بن نعيم فقال: أحببت أن ابن الأشعث طلب ما طلب، ما الذي أملت أنت معه؟ قال: أملت أن يملك فيوليني العراق كما ولاك عبد الملك إياه. فأمر به فقتل. ثم دعا عبد الله بن عامر، فلما أتاه قال له الحجاج: لا رأت عينك الجنة إن أفلت! فقال: جزى الله ابن المهلب بما صنع. قال: وما صنع؟ قال:
لأنه كاس في إطلاق أسرته ... وقاد نحوك في أغلالها مضرا
وقى بقومك ورد الموت أسرته ... وكان قومك أدنى عنده خطرا
فأطرق الحجاج ووقرت في قله وقال: وما أنت وذاك؟ فأمر به فقتل. ولم تزل كلمته في نفس الحجاج حتى عزل يزيد عن خراسان وحبسه.
ثم أمر بفيروز فعذب، وكان يشد عليه القصب الفارسي المشقوق يجر عليه حتى يجرح به ثم ينضح عليه الخل، فلما أحس بالموت قال لصاحب العذاب: إن الناس لا يشكون أن قد قتلت ولي ودائع وأموال عند الناس لا تؤدي إليكم أبداً، فأظهرني للناس ليعلموا أني حي فيؤدوا المال.
فأعلم الحجاج، فقال: أظهره. فأخرج إلى باب المدينة، فصاح في الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا فيروز حصين، إن لي عند أقوام مالاً فمن كان لي عنده شيء فهو له وهو منه في حل فلا يؤد أحد منهم درهماً، ليبلغ الشاهد الغائب. فأمر به الحجاج فقتل.
وأمر بقتل عمر بن أبي قرة الكندي، وكان شريفاً، وأمر بإحضار أعشى همدان، فقال: إيه عدو الله! أنشدني قولك بين الأشبح وبين قيس. قال: بل أنشدك ما قلت لك. قال: بل أنشدني هذه. فأنشده:
أبى الله إلا أن يتمم نوره ... ويطفئ نار الفاسقين فتخمدا
ويظهر أهل الحق في كل موطنٍ ... ويعدل وقع السيف من كان أصيدا
وينزل ذلاً بالعاق وأهله ... كما نقضوا العهد الوثيق المؤكدا
وما أحدثوا من بدعةٍ وعظيمةٍ ... من القول لم تصعد إلى الله مصعدا
وما نكثوا من بيعةٍ بعد بيعةٍ ... إذا ضمنوها اليوم خاسوا بها غدا
وجبناً حشاه ربهم في قلوبهم ... فما يقربون الناس إلا تهددا
فلا صدق في قولٍ ولا صبر عندهم ... ولكن فخراً فيهم وتزيدا
فكيف رأيت الله فرق جمعهم ... ومزقهم عرض البلاد وشردا
فقتلاهم قتلى ضلالٍ وفتنةٍ ... وجيشهم أمسى ذليلاً مطردا
ولما زحفنا لابن يوسف غدوةً ... وأبرق منه العارضان وأرعدا
قطعنا إليه الخندقين وإنما ... قطعنا وأفضينا إلى الموت مرصدا
فكافحنا الحجاج دون صفوفنا ... كفاحاً ولم يضرب لذلك موعدا
بصفٍ كأن الموت في حجزاتهم ... إذا ما تجلى بيضه وتوقدا
دلفنا إليه في صفوفٍ كأنها ... جبال شرورى أو نعافٍ فشهمدا
فما لبث الحجاج أن سل سيفه ... علينا فولى جمعنا وتبددا
وما زاحف الحجاج أن سل سفه ... علينا فولى جمعنا وتبددا
وما زاحف الحجاج إلا رأيته ... معاناً ملقى للفتوح معودا
وإن ابن عباسٍ لفي مرجحنةٍ ... أشبهها قطعاً من الليل أسودا
فما شرعوا رمحاً ولا جردوا ظبىً ... ألا إنما لاقى الجبان مجردا
وكرت علينا خيل سفيان كرةً ... بفرسانها والشمري مقصدا
وسفيان يهديها كأن لواءها ... من الطعن سند بات بالصبغ مجسدا
كهول ومرد من قضاعة حوله ... مساعير أبطال إذا النكس عردا
إذا قال شدوا شدةً حملوا معاً ... فأنهل خرصان الرماح وأوردا
جنود أمير المؤمنين وخيله ... وسلطانه أمسى عزيزاً مؤيدا
ليهن أمير المؤمنين ظهوره ... على أمةٍ كانوا سعاه وحسدا
تروا يشتكون البغي من أمرئهم ... وكانوا هم أبغى البغاة وأعندا
وجدنا بني مروان خير أئمةٍ ... وأفضل هذا الناس حلماً وسوددا
وخير قريشٍ أرومةً ... وأكرمهم إلا النبي محمدا
إذا ما تدبرنا عواقب أمره ... وجدنا أمير المؤمنين مسددا
سيغلب قوماً حاربوا الله جهرةً ... وإن كايدوه كان أقوى وأكيدا
كذاك يضل الله من كان قبله ... مريضاً ومن والى النفاق وحشدا
وقد تركوا الأهلين والمال خلفهم ... وبيضاً عليهن الجلابيب خردا
يناديهم مستعبراتٍ إليهم ... ويذرين دمعاً في الخدود وإثمدا
أنكثاً وعصياناً وغدراً وذلةً ... أهان الإله من أهان وأبعدا
لقد شأم المصرين فرخ محمدٍ ... بحقٍ وما لاقى من الطير أسعدا
كما شأم الله النجير وأهله ... بجدٍ له قد كان أشقى وأنكدا
فقال أهل الشام: أحسن، أصلح الله الأمير. فقال الحجاج: لا لم يحسن، إنكم لا تدرون ما أراد بها. ثم قال: يا عدو الله! والله لا نحمدك على هذا القول، إنما قلت: تأسف أن لا يكون ظهر وظفر، وتحريصاً لأصحابك علينا، وليس عن هذا سألناك، أنشدنا قولك بين الأشج وبين قيس باذخ، فأنشده، فلما قال: بخ بخ لوالده وللمولد قال الحجاج: والله لا تبخبخ بعدها أبداً! فضربت عنقه.
قوله في هذه الأبيات: ابن عباس، هو عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وقد تقدم ذكره. وقوله: سفيان، هو ابن الأبرد الكلبي من قواد العساكر الشامية.
وقوله: فرخ محمد، هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. وقوله: الأشبح، هو محمد بن الأشعث. وقوله: بين قيس، هو معقل بن قيس الرياحي، وهو جد عبد الرحمن بن محمد لأمه.
وقوله: كما سأم الله النجير وأهله بجدٍ له، يعني لما ارتد الأشعث بن قيس جد عبد الرحمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتبعه كندة، فلما حاربهم المسلمون وحصروهم بالنجير أخذوهم وقتلوهم، وقد تقدم ذكر ذلك في قتال أهل الردة.
قيل: وأتي الحجاج بأسيرين فأمر بقتلهما، فقال أحدهما: إن لي عند يداً. قال: وما هي؟ قال: ذكر عبد الرحمن يوماً أمك بسوء فنهيته. قال: ومن يعلم ذلك؟ قال: هذا الأسير الآخر، فسأله الحجاج فصدقه، فقال له الحجاج: فلم لم تفعل كما فعل؟ قال: وينفعني الصدق عندك؟ قال: نعم. قال: منعني البغض لك ولقومك. قال: خلوا عن هذا لفعله وعن هذا لصدقه.
قيل: جاء رجل من الأنصار إلى عمر بن عبد العزيز فقال: أنا فلان بن فلان، قتل جدي يوم بدر وقتل جدي فلان يوم أحد، وجعل يذكر مناقب سلفه، فنظر عمر إلى عنبسة بن سعيد بن العاص فقال: هذه المناقب والله لا يوم مسكن ويم الجماجم ويم راهط! وأنشد:
تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ذكر ما جرى للشعبي مع الحجاجلما انهزم أصحاب عبد الرحمن بالجماجم نادى منادي الحجاج: من لحق بقتيبة بن مسلم فهو آمن، وكان قد ولاه الري وسار إليه؛ فلحق به ناس كثير، وكان منهم الشعبي، فذكره الحجاج يوماً فسأل عنه، فقال له يزيد بن أبي مسلم: إنه لحق بقتيبة بالري، فكتب الحجاج إلى قتيبة يأمره بإرسال الشعبي، فأرسله.
قال الشعبي: فلما قدمت على الحجاج لقيت ابن أبي مسلم، وكان صديقاً لي، فاستشرته فقال: اعتذر مهما استطعت، وأشار بمثل ذلك إخواني ونصائحي، فلما دخلت على الحجاج رأيت غير ما ذكروا لي، فسلمت عليه بالإمرة وقتل: أيها الأمير إن الناس قد أمروني أن أعتذر بغير ما يعلم الله أنه الحق، وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا لحق، قد والله مردنا عليك وحرضنا وجهدنا فما كنا بالأقوياء الفجرة ولا بالأنقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إليه أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد فالحجة لك علينا.
فقال الحجاج: أنت والله أحب إلي قولاً ممن يدخل علينا بقطر سيفه من دمائنا، قم يقول: ما فعلت ولا شهدت، وقد أمنت يا شعبي، كيف وجدت الناس بعدنا؟ فقلت: أصلح الله الأمير اكتحلت بعدك السهر، واستوعرت الجناب، واستحلست الخوف، وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفاً. قال: انصرف ياشعبي. فانصرفت.
ذكر خلع عمر بن أبي الصلت بالري وما كان منهلما ظفر الحجاج بابن الأشعث لحق خلق كثير من المنهزمين بعمر بن أبي الصلت، وكان قد غلب على الري في تلك الفتنة، فلما اجتمعوا بالري أرادوا أن يحظوا عند الحجاج بأمر يمحون عن أنفسهم عثرة الجماجم، فأشاروا على عمر بخلع الحجاج وقتيبة، فامتنع، فوضعوا عليه أباه أبا الصلت، وكان به باراً، فأشار عليه بذلك وألزمه به وقال له: يا بني إذا سار هؤلاء تحت لوائك لا أبابي أن تقتل غداً. ففعل.
فلما قارب قتيبة الري بلغه الخبر فاستعد لقتاله، فالتقوا واقتتلوا، فغدر أصحاب عمر به وأكثرهم من تميم، فانهزم ولحق بطبرستان، فآواه الأصبهبذ وأكرمه وأحسن إليه. فقال عمر لأبيه: إنك أمرتني بخلع الحجاج وقتيبة فأطعتك، وكان خلاف رأيي فلم أحمد رأيك، وقد نزلنا بهذا العلج الأصبهبذ فدعني حتى أثب عليه فأقتله وأجلس على مملكته، فقد علمت الأعاجم أني أشرف منه. فقال أبوه: ما كنت لأفعل هذا الرجل آوانا ونحن خائفون، وأكرمنا وأنزلنا. فقال عمر: أنت أعلم وسترى.
ودخل قتيبة الري وكتب إلى الحجاج بخبر عمر وانهزامه إلى طبرستان، فكتب الحجاج إلى الأصبهبذ: أن ابعث بهم أو برؤوسهم وإلا فقد برئت منك الذمة. فصنع لهم الأصبهبذ طعاماً وأحضرهما، فقتل عمر وبعث أباه أسيراً، وقيل: بل قتلهما وبعث برؤوسهما.
ذكر بناء مدينة واسطوفي هذه السنة بني الحجاج واسطاً.
وكان سبب ذلك أن الحجاج ضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان وعسكر بحمام عمر، وكان فتى من أهل الكوفة حديث عهد بعرش، فانصرف من العسكر إلى ابنة عمه ليلاً، فطرق الباب طارق ودقة دقاً شديداً، فإذا سكران من أهل الشام، فقالت للرجل ابنة عمه: لقد لقينا من هذا الشامي شراً، يفعل بنا كل ليلة ما ترى، يريد المكروه، وقد شكوته إلى مشيخة أصحابه. فقال لها زوجها: ائذني له، فأذنت له، فقتله زوجها، فلما أذن الفجر خرج إلى العسكر وقال لابنة عمه: إذا صليت الفجر فابعثي إلى الشاميين ليأخذوا صاحبهم، فإذا أحضروك عند الحجاج فاصدقيه الخبر على وجهه.
ففعلت فأحضرت عند الحجاج فأخبرته، فقال: صدقتني. وقال للشاميين: خذوا صاحبكم لا قود له ولا عقل فإنه قتيل الله إلى النار. ثم نادى مناد: لا ينزلن أحد على أحد.
وكان الحجاج قد أنزل أهل الشام على اهل الكوفة، فخرج أهل الشام فعسكروا، وبعث رواداً يرتادون له منزلاً، وأقبل حتى نزل موضع واسط، فإذا راهب قد أقبل على حمار له، فلما كان بموضع واسط بال الحمار فنزل الراهب فاحتفر ذلك البول واحتمله ورماه في دجلة والحجاج يراه. فقال: علي به. فأتي به. فقال: ما حملك على ما صنعته؟ قال: نجد في الكتب أنه يبنى في هذا الموضع مسجد يعبد الله فيه ما دام في الأرض أحد يوحده. فاختط الحجاج مدينة واسط وبنى المسجد في ذلك الموضع.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل عبد الملك أبان بن عثمان من المدينة، في قول بعضهم، واستعمل عليها هشام بن إسماعيل. وكان العمال هذه السنة سوى المدينة الذين تقدم ذكرهم في السنة قبلها.
قيل: وكان الحجاج قد سير نساءه وأهله إلى الشام خوفاً من عبد الرحمن بن الأشعث وفيهن أخته زينب التي ذكرها النمير في شعره، فلما هزم ابن الشعث أرسل البشير إلى عبد الملك بذلك وكتب كتاباً إلى أخته زينب، فأخذت الكتاب وهر راكبة فنفرت البغلة من قعقعة الكتاب فسقطت زينب فماتت.
وفي هذه السنة توفي واثلة بن الأسقع، وهو ابن خمس ومائة سنة، وقيل: مات سنة خمس وثمانين وهو ابن ثمان وتسعين سنة. وفيها مات زربن جبيش وعمره مائة وانتان وعشرون سنة. وأبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي، وكان مولده سنة إحدى من الهجرة.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين
ذكر قتل ابن القريةوفيها قتل الحجاج أيوب بن القرية، وكان مع ابن الأشعث بدير الجماجم، فلما هزم ابن الأشعث التحق أيوب بحوشب بن يزيد عامل الحجاج على الكوفة، فاستحضره الحجاج، فقال له: أقلني عشرتي واسقني ريقي فإنه ليس جواد إلا له كبوة، ولا شجاع إلا له هبوة، ولا صارم إلا له نبوة، فقال الحجاج: كلا والله لأزيرنك جهنم. قال: فأرحني فإني أجد حرها! فأمر به فضربت عنقه. فلما رآه قتيلاً قال: لو تركناه حتى نسمع من كلامه.
ذكر فتح قلعة نيزك بباذغيسفي هذه السنة فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك، وكان يزيد قد وضع على نيزك العيون، فلما بلغه خروج نيزك عنها سار إليها فحاصرها فملكها وما فيها من الأموال والذخائر، وكانت من أحصن القلاع زامنعها، وكان نيزك إذا رآها سجد لها تعظيماً لها؛ وقال كعب بم معدان الأشقري يذكرها:
وباذغيس التي من حل ذروتها ... عز الملوك فإن شا جار أو ظلما
منيعة لم يكدها قبله ملك ... إلا إذا واجهت جيشاً له وجما
تخال نيرانها من بعد منظرها ... بعض النجوم إذا ما ليلها عتما
وهي أبيات عدة؛ وقال أيضاً يذكر يزيد وفتحها:
نفى نيزكاً عن باذغيس ونيزك ... بمنزلةٍ أعيا الملوك اغتصابها
محلقةٍ دون السماء كأنها ... غمامة صيفٍ زال عنها سحابها
ولا تبلغ الأروى شماريخها العلى ... ولا الطير إلا نسرها وعقابها
وما خوفت بالذئب ولدان أهلها ... ولا نبحت إلا النجوم كلابها
في أبيات غيرها.
فلما فتحها كتب إلى الحجاج بالفتح - وكان يكتب له يحيى بن يعمر العدواني حليف هذيل - إنا لحقنا العدو فمنحنا الله أكتافهم فقتلنا طائفةً وأسرنا طائفةً ولحقت طائفة برؤوس الجبال وعراعر الأودية، فأهضام الغيطان وأثناء الأنهار. فقال الحجاج: من يكتب ليزيد؟ فقيل: يحيى بن يعمر، فكتب إليه بحمله على البريد. فقدم إليه أفصح الناس. فقال: أين ولدت؟ قال: بالأهواز. قال: فهذه الفصاحة من أين؟ قال: حفظت من كلام أبي، وكان فصيحاً. قال: أخبرني هل يلحن عنبسة بن سعيد؟ قال: نعم كثيراً. قال: ففلان؟ قال: نعم. قال: فأخبرني هل ألحن؟ قال: نعم تلحن لحناً خفياً، تزيد حرفاً وتنقص حرفاً وتجعل أن في موضع إن، وإن في موضع أن. قال: قد أجلتك ثلاثاً فإن وجدتك بأرض العراق قتلتك فرجع إلى خراسان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا عبد الله بن عبد الملك الروم ففتح المصيصة وبنى حصنها ووضع بها ثلاثمائة مقاتل من ذوي البأس، ولم يكن المسلمون سكنوها قبل ذلك، وبنى مسجدها.
وحج بالناس هذه السنة هشام بن إسماعيل. وكان العمال من تقدم ذكرهم. وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية.
وفيها مات عبد الله بن الحارث بن نوفل الملقب ببة بعمان، وكان يسكن البصرة، وكان مولده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم دخلت سنة خمس وثمانين
ذكر هلاك عبد الرحمن بن محمد بن الأشعثلما انصرف عبد الرحمن إلى رتبيل من هراة قال له علقمة بن عمرو الأودي: ما أريد أن أدخل معك لأني أتخوف عليك وعلى من معك، والله لكأني بالحجاج وقد كتب إلى رتبيل يرغبه ويرهبة، فإذا هو قد بعث بك سلماً أو قتلكم، ولكن معي خمسمائة قد تبايعنا على أن ندخل مدينة نتحصن بها حتى نعطى الأمان أو نموت كراماً، ولم يدخل إلى بلاد رتبيل معه، وخرج هؤلاء الخمسمائة وجعلوا عليهم مودودا البصري، وقدم عليهم عمارة بن تميم اللخمي فحاصرهم، فامتنعوا حتى آمنهم، فخرجوا إليه، فوفى لهم.
وتتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في عبد الرحمن: أن أبعث به إلي وإلا والذي لا إله غيره لأوطئن أرضك ألف ألف مقاتل.
وكان مع عبد الرحمن رجل من تميم يقال له عبيد بن سبيع التميمي، وكان رسوله إلى رتبيل، فخص برتبيل وخف عليه، فقال القاسم بن محمد بن الأشعث لأخيه عبد الرحمن: إني لا آمن غدر هذا التميمي فاقتله. فخافه عبيد ووشى به إلى رتبيل وخوفه الحجاج ودعاه إلى الغدر بابن الأشعث وقال له: أنا آخذ لك من الحجاج عهداً ليكفن عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه عبد الرحمن. فأجابه إلى ذلك، فخرج عبيد إلى عمارة سراً فذكر له ما استقر مع رتبيل وما بذل له، وكتب عمارة إلى الحجاج بذلك، وأجابه إليه أيضاً، وبعث رتبيل برأس عبد الرحمن إلى الحجاج. وقيل: إن عبد الرحمن كان قد أصابه السل فمات فأرسل رتبيل إليه فقطع رأسه قبل أن يدفن وأرسله إلى الحجاج.
وقد قيل: إن رتبيل لما صالح عمارة بن تميم اللخمي على ابن الأشعث كتب عمارة إلى الحجاج بذلك فأطلق له خراج بلاده عشر سنين، فأرسل رتبيل إلى عبد الرحمن وثلاثين من أهل بيته فحضروا فيدهم وأرسلهم إلى عمارة، فألقى عبد الرحمن نفسه من سطح قصر، فمات فاحتز رأسه وسيره إلى الحجاج، فسيره الحجاج إلى عبد الملك، وسيره عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز؛ فقال بعض الشعراء:
هيهات موضع جثةٍ من رأسها ... رأس بمصر وجثة بالرخج
وقيل: إن هلاك عبد الرحمن كان سنة أبع وثمانين.
ذكر عزل يزيد بن المهلب عن خراسان
وولاية أخيه المفضلوفي هذه السنة عزل الحجاج يزيد بن المهلب عن خراسان.
وكان سبب عزله إياه أن الحجاج وفد إلى عبد الملك فمر في طريقه براهب فقيل له: إن عنده علماً، فدعا به وسأله ل تجدون في كتبكم ما أنتم فيه ونحن؟ قال: نعم. قال: مسمى أم موصوف؟ فقال: كل ذلك نجده موصوفاً بغير اسم، ومسمى بغير صفة. قال: فما تجدون صفة أمير المؤمنين؟ قال: نجده في زماننا: ملك أفرع، من يقم لسبيله يصرع. قال: ثم من؟ قال: اسم رجل يقال له الوليد، ثم رجل اسمه اسم نبي يفتح به على الناس. قال: أفتعلم من يلي بعدي؟ قال: نعم، رجل يقال له يزيد. قال: أفتعرف صفته؟ قال: يغدر غدرة، لا أعرف غير هذا. فوقع في نفسه أنه يزيد بن المهلب، ثم سار وهو وجل من قول الراهب، ثم عاد وكتب إلى عبد الملك يذم يزيد وآل المهلب ويخبره أنهم زبيرية. فكتب إليه عبد الملك: إني لا أرى طاعتهم لآل الزبير نقصاً بآل المهلب، وفاؤهم لهم يدعوهم إلى الوفاء لي.
فكتب إليه الحجاج يخوفه غدره وبما قال الراهب. فكتب عبد الملك إليه: إنك قد أكثرت في يزيد وآل المهلب، فسم لي رجلاً يصلح لخراسان. فسمى قتيبة بن مسلم، فكتب إليه أن وله.
وبلغ يزيد أن الحجاج عزله، فقال لأهل بيته: من ترون الحجاج يولي خراسان؟ قالوا: رجلاً من ثقيف. قال: كلا ولكنه يكتب إلى رجل منكم بعهده، فإذا قدمت عليه عزله وولى رجلاً من قيس، وأخلق بقتيبة بن مسلم.
فلما أذن عبد الملك في عزل يزيد كره أن يكتب إليه بعزله، فكتب إليه يأمره أن يستخلف أخاه المفضل ويقبل إليه.
واستشار يزيد حضين بن المنذر الرقاشي، فقال له: أقم واعتل واكتب إلى أمير المؤمنين ليقرك فإنه حسن الحال والرأي فيك. قال يزيد: نحن أهل بيت قد بورك لنا في الطاعة، وأنا أكره الخلاف. فأخذ يتجهز، فأبطأ، فكتب الحجاج إلى المفضل: إني قد وليتك خراسان. فجعل المفضل يستحث يزيد، فقال له يزيد: عن الحجاج لا يقرك بعدي وإنما دعاه إلى ما صنع مخافة أن امتنع عليه، وستعلم.
وخرج يزيد في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين، وأقر الحجاج أخاه المفضل تسعة أشهر ثم عزله.
وقد قيل: إن سبب عزله أن الحجاج لما فرغ من عبد الرحمن بن الأشعث لم يكن له هم إلا يزيد بن المهلب وأهل بيته، وقد كان أذل أهل العراق كلهم إلا آل المهلب ومن معهم بخراسان، وتخوفه على العراق، وكان يبعث إليه ليأتيه فيعتل عليه بالعدو والحروب، فكتب الحجاج إلى عبد الملك يشير عليه بعزل يزيد ويخبره بطاعتهم لآل الزبير، فكتب إليه عبد الملك بنحو ما تقدم وساق باقي الخبر كما تقدم؛ وقال حضين ليزيد:
أمرتك أمر حازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فما أنا بالباكي عليك صبابةً ... وما أنا بالداعي لترجع سالما
قال: فلما قدم قتيبة خراسان قال لحضين: ما قلت ليزيد؟ قال: قلت:
أمرتك أمراً حازماً فعصيتني ... فنفسك رد اللوم إن كنت لائما
فإن يبلغ الحجاج أن قد عصيته ... فإنكا تلقى أمره متفاقما
قال: فماذا أمرته به فعصاك؟ قال: أمرته أن لا يدع صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير. قال بعضهم: فوجده قتيبة قارحاً.
وقيل: كتب الحجاج إلى يزيد: اغز خوارزم، فكتب: إنها قليلة السلب شديدة الكلب.
فكتب إليه الحجاج: استخلف واقدم. فكتب: إني أريد أن أغزو خوارزم. فكتب الحجاج: لا تغزها فإنها كما ذكرت. فغزا ولم يطعه، فصالحه أهلها وأصاب سبياً، وقفل في الشتاء، وأصاب الناس برد، فأخذوا ثياب الأسرى، فمات ذلك السبي. فكتب إليه الحجاج أن اقدم. فسار إليه، فكان لا يمر ببلد إلا فرش أهله الرياحين.
حضين بن المنذر بالحاء المهملة المضمومة، والضاد المعجمة المفتوحة، وآخره نون
ذكر غزو المفضل باذغيس وآخرونلما ولي المفضل خراسان غزا باذغيس ففتحها وأصاب مغنماً فقسمه، فأصاب كل رجل ثماني مائة. ثم غزا آخرون وشومان فغنم وقسم ما أصاب، ولم يكن للمفضل بيت مال، كان يعطي الناس كلما جاء شيء، وغن غنم شيئاً قسمه بينهم.
ذكر مقتل موسى بن عبد الله بن خازمفي هذه السنة قتل موسى بن عبد الله بن خازم بترمذ.
وكان سبب مصيره إلى ترمذ أن أباه لما قتل من قتل من بني تميم، وقد تقدم ذكر ذلك، تفرق عنه أكثر من كان معه منهم، فخرج إلى نيسابور، وخاف بني تميم على ثقله بمرو، فقال لابنه موسى: خذ ثقلي واقطع نهر بلخ حتى تلتجئ إلى بعض الملوك أو إلى حصن تقيم فيه. فرحل موسى عن مرو في عشرين ومائتي فارس، واجتمع إليه تتمة أربعمائة، وانضم إليه قوم من بني سليم، فأتى زم، فقاتله أهلها، فظفر بهم فأصاب مالاً وقطع النهر وأتى بخارى فسأل صاحبها أن يلجأ إليه فأبى. فخافه وقال: رجل فاتك وأصحابه مثله فلا آمنه. ووصله وسار، فلم يأت ملكاً يلجأ إليه إلا كره مقامه عنده، فأتى سمر قند فأقام بها وأكرمه ملكها طرخون وأذن له في المقام وأقام ما شاء الله.
ولأهل الصغد مائدة يوضع عليها لحم وخل وخبز وإبريق شراب، وذلك كل عام يوماً، يجعلون ذلك لفارس الصغد فلا يقربه غيره، فإن أكل منه أحد بارزه فأيهما قتل صاحبه فالمائدة له. فقال رجل من أصحاب موسى: ما هذه المائدة؟ فأخبر، فجلس فأكل ما عليها، وقيل لصاحب المائدة فجاء مغضباً وقال: يا عربي بارزني! فبارزه فقتله صاحب موسى، فقال ملك الصغد: أنزلتكم وأكرمتكم فقتلتم فارسي، لولا أني آمنتك وأصحابك لقتلتكم، اخرجوا عن بلدي فخرجوا.
فأتى كش فضعف صاحبها عنه فاستنصر طرخون فأتاه، فخرج موسى إليه وقد اجتمع معه سبعمائة فارس، فقاتلهم حتى أمسوا وتحاجزوا وبأصحاب موسى جراح كثيرة، فقال لزرعة بن علقمة: احتل لنا على طرخون. فأتاه فقال: أيها الملك ما حاجتك إلى أن تقتل موسى وتقتل معه، فإنك لا تصل إليه حتى يقتلوا مثل عدتهم منكم، ولو قتلته وإياهم جميعاً ما نلت حظاً، لأن له قدراً في العرب، فلا يأتي أحد خراسان إلا طالبك بدمه. فقال: ليس لي إلى ترك كش في يده سبيل. قال: فكف عنه حتى يرتحل. فكف.
وسار موسى فأتى ترمذ وبها حصن يشرف على جانب النهر، فنزل موسى خارج الحصن وسأل ترمذ شاه أن يدخله حصنه، فأبى، فأهدى له موسى ولا طفه حتى حصل بينهما مودة وخرج فتصيد معه. فصنع صاحب ترمذ طعاماً وأحضر موسى ليأكل معه، ولا يحضر إلا في مائة من أصحابه، فاختار موسى مائة من أصحابه، فدخلوا الحصن وأكلوا، فلما فرغوا قال له: اخرج، قال: لا أخرج حتى يكون الحصن بيتي أو قبري. وقاتلهم فقتل منهم عدةً وهرب الباقون، واستولى موسى عليها وأخرج ترمذ شاه منها ولم يعرض له ولا لأصحابه، فأتوا الترك يستنصرونهم على موسى فلم ينصروهم وقالوا: لا نقاتل هؤلاء. وأقام موسى بترمذ، فأتاه جمع من أحاب أبيه فقوزي بهم فكان يخرج فيغير على ما حوله.
ثم ولي بكير بن وساج خراسان فلم يعرض له، ثم قدم أمية فسار بنفسه يريد مخالفة بكير فرجع، على ما تقدم ذكره. ثم إن أمية وجه إلى موسى بعد صلح بكير رجلاً من خزاعة في جمع كثير، وعاد أهل ترمذ إلى الترك فاستنصروهم وأعلموهم أنه قد غزاه قوم من العرب وحصروه. فسارت الترك في جمع كثير إلى الخزاعي، فأطاف بموسى الترك والخزاعي، فكان يقاتل الخزاعي أول النهار والترك آخر النهار، فقاتلهم شهرين أو ثلاثة. ثم إنه أراد أن يبت الخزاعي وعسكره، فقال له عمرو بن خالد بن حصين الكلابي: ليكن البيات بالعجم، فإن العرب اشد حذراً وأجرأ على الليل، فإذا فرغنا من العجم تفرغنا للعرب.
فأقام حتى ذهب ثلث الليل وخرج موسى في أربعمائة وقال لعمرو بن خالد: اخرج بعدنا فكن أنت ومن معك قريباً، فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا. ثم سار حتى ارتفع فوق عسكر الترك ورجع إليهم وجعل أصحابه أرباعاً وأقبل إليهم، فلما رآهم أصحاب الأرصاد قالوا: من أنتم؟ قالوا: عابرو سبيل . فلما جاوزوا الرصد حملوا على الترك وكبروا، فلم يشعر الترك إلا بوقع السيوف فيهم، فساروا يقتل بعضهم بعضاً وولوا، فأصيب من المسلمين ستة عشر رجلاً وحموا عسكرهم وأصابوا سلاحاً كثيراً ومالاً، وأصبح الخزاعي وأصحابه وقد كسرهم ذلك، فخافوا مثلها، فقال عمرو بن خالد لموسى: إننا لا نظفر إلا بمكيدة ولهم أمداد وهم كثيرون فدعني آته لعلى أصيب فرصة فاضربني وخلاك ذم. فقال له موسى: تتعجل الضرب وتتعرض للقتل.
قال: أما التعرض للقتل فأنا كل يوم متعرض له، وأما الضرب فما أيسره في جنب ما أريد.
فضربه موسى خمسين سوطاً، فخرج من عسكر موسى وأتى عسكر الخزاعي مستأمناً وقال: أنا رجل من أهل اليمن كنت مع عبد الله بن خازم، فلما قتل أتيت ابنه فكنت معه، وإنه اتهمني وقال: قد تعصبت لعدونا وأنت عين له، فضربني ولم آمن القتل فهربت منه. فأمنه الخزاعي وأقام معه، فدخل يوماً وهو خالٍ ولم ير عنده سلاحاً فقال كأنه ينصح له: أصلح الله الأمير، إن مثلك في مثل هذه الحال لا ينبغي أن يكون بغير سلاح. قال: إن معي سلاحاً. فرفع طرف فراشه فإذا سيف منتضى، فأخذه عمرو فضربه حتى قتله وخرج فركب فرسه وأتى موسى، وتفرق ذلك الجيش، وأتى بعضهم موسى مستأمناً فآمنه، ولم يوجه إليه أمية أحداً.
وعزل أمية وقدم المهلب أميراً، فلم يتعرض لموسى وقال لبنيه: إياكم وموسى، فأنكم لا تزالون ولاة خراسان ما دام هذا الثبط بمكانه فإن قتل فأول طالع عليكم أمير على خراسان من قيس. فلما مات المهلب وولي يزيد لم يتعرض أيضاً لموسى.
وكان المهلب قد ضرب حريث بن قطبة الخزاعي، فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى، فلما ولي يزيد بن المهلب أخذ أموالهما وحرمهما وقتل أخاهما لأمهما الحارث بن منقذ. فخرج ثابت إلى طرخون فشكا إليه ما صنع به، وكان ثابت محبوباً إلى الترك بعيد الصوت فيهم، فغضب له طرخون وجمع له نيزك والسبل وأهل بخارى والصغاينان فقدموا مع ثابت إلى موسى، وقد اجتمع إلى موسى فل عبد الرحمن بن العباس من هراة وفل ابن الأشعث من العراق ومن ناحية كابل، فاجتمع معه ثمانية آلاف، فقال له ثابت وحريث: سر حتى تقطع النهر وتخرج يزيد عن خراسان ونوليك. فهم أن يفعل، فقال له أصحابه: إن أخرجت يزيد قدم عامل لعبد الملك، ولكنا نخرج عمال يزيد عما وراء النهر ويكون لنا، فأخرجوا عمال يزيد عما وراء النهر وجبوا الأموال، فقوي أمرهم، وانصرف طرخون ومن معه، واستبد ثابت وحريث بتدبير الأمر، والأمير موسى ليس له غير الأسم.
فقيل لموسى: ليس لك من الأمور شيء والأمور إلى ثابت وحريث فاقتلهما وتول الأمر فأبى، فألحوا عليه حتى أفسدوا قلبه عليهما وهم بقتلهما.
فإنهم لفي ذلك إذ خرج عليهم الهياطلة والتبت والترك في سبعين ألفاً لا يعدون الحاسر ولا صاحب البيضة الجماء ولا يعدون إلا صاحب بيضة ذات قونس. فخرج ابن خازم وقاتلهم فيمن معه، ووقف ملك الترك على تل في عشرة آلاف في أكمل عدة والقتال أشد ما كان، فقال موسى: إن أزلتم هؤلاء فليس الباقون بشيء. فقصد لهم حريث بن قطبة فقاتلهم وألح عليهم حتى أزالهم على التل، ورمي حريث بنشابة في جبهته فتحاجزوا، فبيتهم موسى، وحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتى وصل إلى سمعة ملكهم، فوجأ رجلاً منهم بقبيعة سيفه فطعن فرسه، فاحتمله الفرس فألقاه في نهر بلخ، فغرق، وقتل من الترك خلق كثير، ونجا من نجا منهم بشر، ومات حريث بعد يومين.
ورجع موسى وحمل معه الرؤوس فبنى منها جوسقين. وقال أصحاب موسى: قد كفينا أمر حريث، فاكفنا أمر ثابت. فأبى، وبلغ ثابتاً بعض ما يخوضون فيه، فدس محمد بن عبد الله الخزاعي - عم نصر بن عبد الحميد، عامل أبي مسلم على الري - على موسى، وقال: إياك أن تتكلم بالعربية، وإن سألوك فقل أنا من سبي الباميان. ففعل ذلك واتصل بموسى، وكان يخدمه وينقل إلى ثابت خبرهم، فحذر ثابت، وألح القوم على موسى. فقال لهم ليلة: لقد أكثرتم علي وفيما تريدون هلاككم، فعلى أي وجه تقتلونه ولا أغدر به؟ قال له أخوه نوح: إذا أتاك غداً عدلنا به إلى بعض الدور فضربنا عنقه فيها قبل أن يصل إليك فقال: والله إنه هلاككم، وأنتم أعلم.
فخرج الغلام فأتى ثابتاً فأخبره، فخرج من ليلته في عشرين فارساً ومضى. وأصبحوا فلم يروه ولم يروا الغلام، فعلموا أنه كان عيناً له.
ونزل ثابت بحوشرا واجتمع إليه خلق كثير من العرب والعجم، فأقبل موسى إليه وقاتله، وتحصن ثابت بالمدينة، وأتاه طرخون معيناً له، فرجع موسى إلى ترمذ، وأقبل ثابت وطرخون ومعهما أهل بخارى ونسف وكش فاجتمعوا في ثمانين ألفاً فحصروا موسى حتى جهد هو وأصحابه، فلما اشتد عليهم قال يزيد بن هذيل: والله لأقتلن ثابتاً أو لأموتن. فخرج إلى ثابت فاستأمنه، فقال له ظهير: أنا أعرف بهذا منك، ما أتاك إلا بغدره فاحذره، فأخذ ابنيه قدامة والضحاك رهناً، فكانا في يد ظهير.
وأقام يزيد يلتمس غرة ثابت فلم يقدر على ما يريد حتى مات ابن لزياد القصير الخزاعي، فخرج ثابت إليه ليعزيه وهو بغير سلاح وقد غابت الشمس، فدنا يزيد من ثابت فضربه على رأسه فوصل إلى الدماغ وهر فسلم، وأخذ طرخون قدامة والضحاك ابني يزيد فقتلهما، وعاش ثابت سبعة أيام ومات، وقام بأمر العجم بعد موت ثابت طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت، فقاما قياماً ضعيفاً، وانتشر أمرهم وأجمع موسى على بياتهم، فأخبر طرخون بذلك فضحك وقال: موسى يعجز أن يدخل متوضأه فكيف يبيتنا؟ لا يحرس الليلة أحد.
فخرج موسى في ثمانمائة وجعلها أرباعاً وبينهم، وكان لا يمر بشيء إلا ضربوه من رجل ودابة وغير ذلك، فليس نيزك سلاحه ووقف، وأرسل طرخون إلى موسى أن كف أصحابك فإنا نرحل إذا أصبحنا. فرجع موسى وارتحل طرخون والعجم جميعاً.
فكان أهل خراسان يقولون: ما رأينا مثل موسى ولا سمعنا به، قاتل مع أبيه سنتين ثم خرج يسير في بلاد خراسان فأتى ملكاً فغلب على مدينته وأخرجه منها، وسار الجنود من العرب والترك إليه، وكان يقاتل العرب أول النهار والترك آخر النهار.
وأقام موسى في الحصن خمس عشرة سنة وصار ما وراء النهر لموسى لا ينازعه فيه أحد.
فلما عزل يزيد بن المهلب وولي المفضل أراد أن يحظى عند الحجاج بقتال موسى بن عبد الله، فسير عثمان بن مسعود إليه في جيش، وكتب إلى مدرك بن المهلب وهو ببلخ يأمره بالمسير معه، فعبر النهر في خمسة عشر ألفاً، فكتب إلى السبل وإلى طرخون فقدموا عليه، فحصروا موسى وضيقوا عليه وعلى أصحابه.
فمكث شهرين في ضيق، وقد خندق عثمان عليه وحذر البات، فقال موسى لأصحابه: اخرجوا بنا، حتى منى نصبر! فاجعلوا يومكم معهم إما ظفرتم وإما قتلتم واقصدوا الترك.
فخرجوا وخلف النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم في المدينة، وقال له: إن قتلت فلا تدفعن المدينة إلى عثمان وادفعها إلى مدرك بن المهلب. وخرج وجعل ثلث أصحابه بإزاء عثمان، وقال: لا تقاتلوه إلا أن يقاتلكم. وقصد لطرخون وأصحابه فصدقوهم لقتال، فانهزم طرخون وأخذوا عسكرهم، وزحفت الترك والصغد فحالوا بين موسى والحصن، فقاتلهم، فعقروا فرسه فسقط، فقال لمولى له: احملني فقال: الموت كريه ولكن ارتدف فإن نجونا نجونا جميعاً وإن هلكنا هلكنا جميعاً. قال: فارتدف، فلما نظر إليه عثمان حين وثب قال: وثبة موسى ورب الكعبة! وقصد إلى موسى، وعقرت دابة موسى فسقط هو ومولاه، فقتلوه، نادى منادي عثمان: من لقيتموه فخذوه أسيراً ولا تقتلوا أحداً.
فقتل ذلك اليوم من الأسرى خلقاً كثيراً من العرب خاصة، فكان يقتل العرب ويضرب المولى ويطلقه، وكان فظاً غليظاً.
وكان الذي أجهز على موسى واصل بن طيلسة العنبري.
وبقيت المدينة بيد النصر بن سليمان فلم يدفعها إلى عثمان، وسلمها إلى مدرك بن المهلب وآمنه، فسلمها مدرك إلى عثمان. وكتب المفضل إلى الحجاج بقتل موسى. فقال: العجب منه! أكتب إليه بقتل ابن سبرة فيكتب إلي أنه لمآبه ويكتب إلي أنه قد قتل موسى بن عبد الله بن خازم. ولم يسره قتل موسى لأنه من قيس.
وقتل موسى سنة خمس وثمانين، وضرب رجل من الجند ساق موسى، فلما ولي قتيبة قال: ما دعاك إلى ما صنعت بفتى العرب بعد موته؟ قال: كان قتل أخي. فأمر به فقتل.
ذكر موت عبد العزيز بن مروان
والبيعة للوليد بولاية العهدكان عبد الملك بن مروان أراد أن يخلع أخاه عبد العزيز من ولاية العهد ويبايع لابنه الوليد بن عبد الملك، فنهاه عن ذلك قبيصة بن ذوئيب وقال: لا تفعل فإنك تبعث على نفسك صوت عار، ولعل الموت يأتيه فتستريح منه. فكف عنه ونفسه تنازعه إلى خلعه.
فدخل عليه روح بن زنباع، وكان أجل الناس عند عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين لو خلعته ما انتطح فيه عنزان، وأنا أول من يجيبك إلى ذلك. قال: نصبح إن شاء الله. ونام روح عند عبد الملك، فدخل عليهما قبيصة بن ذؤيب وهما نائمان، وكان عبد الملك قد تقدم إلى حجابه أن لا يحجبوا قبيصة عنه، وكان إليه الخاتم والسكة تأتيه الأخبار قبل عبد الملك والكتب. فلما دخل سليم عليه، قال: آجرك الله ما كنا نريد، وكان ذلك مخالفاً لك يا قبيصة. فقال قبيصة: يا أمير المؤمنين إن الرأي كله في الأناة، فقال عبد الملك: وربما كان في العجلة خير كثير، رأيت أمر عمرو بن سعيد، ألم تكن العجلة فيه خيراً من الأناة؟ وكانت وفاة عبد العزيز في جمادى الأولى في مصر، فضم عبد الملك عمله إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك وولاه مصر.
وقيل: إن الحجاج كتب إلى عبد الملك يزين له بيعة الوليد وأوفد في ذلك وفداً، فلما أراد عبد الملك خلع عبد العزيز والبيعة للوليد كتب إلى عبد العزيز: إن رأيت أن يصير هذا الأمر لابن أخيك. فأبى، فكتب إليه ليجعل الأمر له ويجعله له أيضاً من بعده. فكتب إليه عبد العزيز: إني أرى في ابني أبي بكر ما ترى في الوليد. فكتب إليه عبد الملك ليحمل خراج مصر، فأجابه عبد العزيز: إني وإياك يا أمير المؤمنين قد بلغنا سناً لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلاً، وإنا لا ندري أينا يأتيه الموت أولاً، فإن رأيت أن لا تفسد علي بقية عمري فافعل. فرق له عبد الملك وتركه، وقال للوليد وسلميان: إن يرد الله أن يعطيكما الخلافة لا يقدر أحد من العباد على رد ذلك. فقال عبد الملك حيث رده عبد العزيز: اللهم إنه قطعني فاقطعه.
فلما مات عبد العزيز قال أهل الشام: رد على أمير المؤمنين أمره. فلما أتى خبر موته إلى عبد الملك أمر الناس بالبيعة لابنيه الوليد وسلميان، فبايعوا، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان. وكان على المدينة هشام بن إسماعي، فدعا الناس إلى البيعة فأجابوا، إلا سعيد بن المسيب فإنه أبى وقال: لا أبايع وعبد الملك حي، فضربه هشام ضرباً مبرحاً وطاف به وهو في تبان شعر حتى بلغ رأس الثنية التي يقتلون ويصلبون عندها ثم ردوه وحبسوه. فقال سعيد: لو ظننت أنهم لا يصلبونني ما لبست ثياب مسوح ولكنني قلت يصلبونني فيسترني. فبلغ عبد الملك الخبر فقال: قبح الله هشاماً، إنما كان ينبغي أن يدعوه إلى البيعة، فإن أبى أن يبايع فيضرب عنقه أو يكف عنه. وكتب إليه يلومه ويقول له: إن سعيداً ليس عنده شقاق ولا خلاف.
وقد كان سعيد امتنع من بيعة ابن الزبير وقال: لا أبايع حتى يجتمع الناس. فضربه جابر بن الأسود عامل ابن الزبير ستين سوطاً، فبلغ ذلك ابن الزبير فكتب إلى جابر يلومه وقال: ما لنا ولسعيد، دعه لا تعرض له.
وقيل: إن بيعة الوليد وسليمان كانت سنة أربع وثمانين، والأول أصح، قبل قدوم عبد العزيز على أخيه عبد الملك من مصر، فلما فارقه وصاه عبد الملك فقال: ابسط بشرك وألن كنفك وآثر الرفق في الأمور فهو أبلغ بك، وانظر حاجبك وليكن من خير أهلك، فإنه وجهك ولسانك، ولا يفن أحد ببابك إلا أعلمك مكانه لتعلم أنت الذي تأذن له أو ترده، فإذا خرجت إلى مجلسك فابدأ جلساءك بالكلام يأنسوا بك وتثبت في قلوبهم محبتك، وإذا انتهى إليك مسكل فاستظهر عليه بالمشاورة فإنها تفتح مغاليق الأمور المهمة، واعلم أن لك نصف الرأي ولأخيك نصفه، ولن يهلك امرؤ عن مشورة، وإذا سخطت على أحد فأخر عقوبته فإنك على العقوبة بعد التوقف عنها أقدر منك على ردها بعد إمضائها. والسلام.
ذكر عدة حوادثحج بالناس هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي. وكان العامل على العراق والمشرق الحجاج بن يوسف. وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية فصاف فيها وشتى.
وفي هذه السنة مات عمرو بن حريث المخزومي. وفيها مات عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، وقيل سنة سبع، وقيل سنة ثمان وثمانين، وفيها مات عبد الله بن عامر بن ربيعة حليف بني عدي، وكان له لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ، وأربع سنين.
ثم دخلت سنة ست وثمانين
ذكر وفاة عبد الملكفي هذه السنة توفي عبد الملك بن مروان منتصف شوال، وكان يقول: أخاف الموت في شهر رمضان، فيه ولدت وفيه فطمت وفيه جمعت القرآن، وفيه بايع لي الناس، فمات للنصف من شوال حين أمن الموت في نفسه. وكان عمره ستين سنة، وقيل ثلاثاً وستين سنة، وكانت خلافته من لدن قتل ابن الزبير ثلاث عشرة سنةً وأربعة أشهر إلا سبع ليالٍ، وقيل وثلاثة أشهر وخمسة عشر يوماً.
ولما اشتد مرضه قال بعض الأطباء: إن شرب الماء مات. فاشتد عطشه فقال: يا وليد اسقني ماء. قال: لا أعين عليك. فقال لابنته فاطمة: اسقيني ماء. فمنعها الوليد. فقال: لتدعنها أو لأخلعنك. فقال: لم يبق بعد هذا شيء؛ فسقته فمات. ودخل الوليد عليه وابنته فاطمة عند رأسه تبكي فقال: كيف أمير المؤمنين؟ قال: هو أصلح. فلما خرج قال عبد الملك:
ومستخبر عنا يريد لنا الردى ... ومستخبرات والدموع سواجم
وأوصى بنيه فقال: أوصيكم بتقوى الله فإنها أزين حلية وأحصن كهف، ليعطف الكبر منكم على الصغير، وليعرف الصغير حق الكبير، وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه فإنه نابكم الذي عنه تفترون، ومجنكم الذي عنه ترمون، فأكرموا الحجاج فإنه الذي وطأ لكم المنابر ودوخ لكم البلاد وأذل الأعداء، وكونوا بني أم بردة لا تدب بينكم العقارب، وكونوا في الحرب أمراراً فإن القتال لا يقرب ميتة، وكونوا للمعروف مناراً فإن المعروف يبقى أجره وذكره، وضعوا معروفكم عند ذوي الأحساب فإنهم أصون له وأشكر لما يؤتى إليهم منه، وتمغدوا ذنوب أهل الذنوب فإن استقالوا فأقيلوا وإن عادوا فانتقموا.
ولما توفي دفن خارج باب الجابية وصلى عليه الوليد، فتمثل هشام:
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما
فقال الوليد: اسكت فإنك تتكلم بلسان شيطان، ألا قلت كما قال أوس بن حجر:
إذا مقرمٍ منا ذرا حد نابه ... تخمط منا ناب آخر مقرم
وقيل: إن سليمان تمثل بالبيت الأول، وهو الصحيح، لأن هشاماً كان صغيراً له أربع عشرة سنة. وقد رثى الشعراء عبد الملك، كثير عزة وغيره، فمما قيل فيه:
سقاك ابن مروانٍ من الغيث مسبل ... أجش شمالي يجود ويهطل
فما في حياةٍ بعد موتك رغبة ... لحرٍ وإن كنا الوليد نؤمل
ذكر نسبه وأولاده وأزواجهأما نسبه فهو أبو الوليد عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية.
وأما أولاده وأزواجه فمنهم: الوليد وسليمان ومروان الأكبر، درج، وعائشة؛ أمهم ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن خزيمة العبسية؛ ومنهم يزيد ومروان ومعاوية، درج، وأم كلثوم؛ وأمهم عاتكة ابنة يزيد بن معاوية بن معاوية بن أبي سفيان؛ ومنهم هشام، وأمه أم هشام بنت إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومية، واسمها عائشة؛ ومنهم أبو بكر، وهو بكار، أمه عائشة بنت موسى بن طلحة بن عبيد الله؛ ومنهم الحكم، درج، أمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان؛ ومنهم فاطمة بنت عبد الملك، أمها أم المغيرة بنت المغيرة بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة؛ ومنهم عبد الله ومسلمة والمنذر وعنبسة وحمد وسعيد الخير والحجاج لأمهات أولاد.
وكان له من النساء شقراء بنت مسلم بن حليس الطائي وأم أبيها ابنة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. وقيل: كان عنده ابنة لعلي بن أبي طالب، ولا يصح.
ذكر بعض أخبارهكان عبد الملك عاقلاً حازماً أديباً لبيباً عالماً.
قال أبو الزياد: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان. وقال الشعبي: ما ذاكرت أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك، فإني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني فيه، ولا شعراً إلا زادني فيه وقال جعفر بن عقبة الخطائي: قيل لعبد الملك: أسرع إليك الشيب. فقال: شيبني ارتقاء المنابر وخوف اللحن.
وقال عبد الملك: ما أعلم أحداً أقوى على هذا الأمر مني، إن ابن الزبير لطويل الصلاة، كثير الصيام، ولكن لبخله لا يصلح أن يكون سائساً.
قال أبو مسهر: قبل لعبد الملك في مرضه: كيف تجدك؟ قال: أجدني كما قال الله تعالى: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرةٍ وتركتم ما خولنا كم وراء ظهوركم " الأنعام:94 الآية، وقال المفضل بن فضالة عن أبيه: استأذن قوم على عبد الملك بن مروان وهو شديد المرض فدخلوا عليه وقد أسنده خصي إلى صدره، فقال لهم: إنكم دخلتم علي عند إقبال آخرتي وإدبار دنياي، وإني تذكرت أرجى عمل لي فوجدتها غزوة غزوتها في سبيل الله وأنا خلو من هذه الأشياء، فإياكم وإيا أبوابنا هذه الخبيثة أن تطيفوا بها. وقال سعيد بن عبد العزيز التنوخي: لما نزل بعبد الملك بن مروان الموت أمر بفتح باب قصره، فإذا قصار يقصر ثوباً فقال: يا ليتني كنت قصاراً! يا ليتني كنت قصاراً! مرتين. فقال سعيد بن عبد العزيز: الحمد الله الذي جعلهم يفزعون إلينا ولا نفزع إليهم.
وقال سعيد بن بشير: إن عبد الملك حين ثقل جعل يلوم نفسه ويضرب يده على رأسه وقال: وددت أني كنت أكتسب يوماً بيوم ما يقوتني وأشتغل بطاعة الله، فذكر ذلك لابن خازم، فقال: الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن فيه ولا نتمنى عند الموت ما هم فيه.
وقال مسعود بن خلف: قال عبد الملك بن مروان في مرضه: والله وددت أني عبد لرجل من تهامة أرعى غنماً في جبالها وأني لم أك شيئاً.
وقال عمران بن موسى المؤدب: يروى أن عبد الملك بن مروان لما اشتد مرضه قال: ارفعوني على شرف. ففعل ذلك. فتنسم الروح ثم قال: يا دنيا ما أطيبك! إن طويلك لقصير، وإن كبيرك لحقير، وإن كنا منك لفي غرور! وتمثل بهذين البيتين:
إن تناقش يكن نقاشك يار ... ب عذاباً، لا طوق لي بالعذاب
أو تجعوز فأنت رب صفوح ... عن مسيء ذنوبه كالتراب
ويروى أن هذه الأبيات تمثل بها معاوية، ويحق لعبد الملك أن يحذر هذا الحذر ويخاف، فإن من يكن الحجاج بعض سيئاته يعلم على أي شيء يقدم عليه.
قال عبد الملك لسعيد بن المسيب: يا أبا محمد صرت أعمل الخير فلا أسر به، وأصنع الشر فلا أساء به. فقال: الآن تكامل فيك موت القلب.
وكان عبد الملك أول من غدر في الإسلام، وقد تقدم فعله بعمرو بن سعيد، وكان أول من نقل الديوان من الفارسية إلى العربية، وأول من نهى عن الكلام في حضرة الخلفاء، وكان الناس قبله يراجعونهم، وأول خليفة بخل، وكان يقال له رشح الحجارة لبخله، وأول من نهى عن المر بالمعروف، فإنه قال في خطبته بعد قتل ابن الزبير: ولا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه.
ذكر خلافة الوليد بن عبد الملكفلما دفن عبد الملك بن مروان انصرف الوليد عن قبره فدخل المسجد وصعد المنبر واجتمع إليه الناس فخطبهم وقال: إنا له وإنا إليه راجعون، والله المستعان على مصيبتنا لموت أمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم علينا من الخلافة، قوموا فبايعوا.
وكان أول من عزى نفسه وهنأها؛ وكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السولي وهو يقول:
الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها
عنك ويأبى الله إلا سوقها ... إليك حتى قلدوك طوقها
فبايعه ثم قام الناس لبيعته.
وقد قيل: إن الوليد لما صعد المنبر حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس لا مقدم لما أخر الله، ولا مؤخر لما قدم، وهذا كان من قضاء الله وسابق علمه، وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت، وقد صار إلي منازل الأبرار ولي هذه الأمة بالذي يحق عليه لله في الشدة على المريب، واللين لأهل الحق والفضل، وإقامة ما أقام الله من منار الإسلام، وأعلامه، من حج البيت وغزو الثغور وشن الغارة على أعداء الله، فلم يكن عاجزاً ولا مفرطاً. أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإن الشيطان مع الفرد. أيها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه. ثم نزل. وكان جباراً عنيداً.
ذكر ولاية قتيبة خراسان وما كان منه هذه السنةوفي هذه السنة قدم قتيبة خراسان أميراً عليها للحجاج، فقدمها والمفضل يعرض الجند للغزاة، فخطب قتيبة الناس وحثهم على الجهاد، ثم عرضهم وسار، وجعل بمرو على حربها إياس بن عبد الله بن عمرو، وعلى الخراج عثمان السعيدي.
فلما كان بالطالقان أتاه دهاقين بلخ وساروا معه، فقطع النهر، فتلقاه ملك الصغانيان بهدايا ومفاتيح من ذهب ودعاه إلى بلاده، فمضى معه، فسلمها إليه لأن ملك آخرون وسومان كان يسيء جواره.
ثم سار قتيبة منها إلى آخرون وسومان، وهما من طخارستان، فصالحه ملكهما على فدية أداها إليه فقلبها قتيبة قم انصرف إلى مرو واستخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم، ففتح صالح بعد رجوع قتيبة كاشان وأورشت، وهي من فرغانة، وفتح أخشيكت، وهي مدينة فرغانة القديمة، وكان معه نصر بن سيار فأبلى يومئذٍ بلاءً حسناً.
وقيل: إن قيبة قدم خراسان سنة خمس وثمانين فعرض الجند فغزوا آخرون وشومان ثم رجع إلى مرو. وقيل: إنه أقام السنة ولم يقطع النهر لسبب بلخ فإن بعضها كان منتقصاً عليه فحاربهم؛ وكان ممن سبى امرأة برمك أبي خالد بن برمك لعبد الله: إني قد علقت منك، وحضرت عبد الله بن مسلم الوفاة فأوصى أن يلحق به ما في بطنها وردت إلى برمك. فذكر أن ولد عبد الله بن مسلم جاؤوا أيام المهدي حين قدم الري إلى خالد فادعوه. فقال لهم مسلم بن قتيبة: إنه لا بد لكم إن استلحقتموه ففعل من أن تزوجوه فتركوه. وكان برمك طبيباً.
ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم. وفيها حبس الحجاج يزيد بن المهلب وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان وبعد الملك عن شرطته. وحج بالناس هشام بن إسماعيل المخزومي. وكان الأمير على العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف.
وفي أيام عبد الملك مات أسيد بن ظهير الأنصاري.
أسيد بضم الهمزة. وظهير بضم الظاء المعجمة.
وفيها مات عمر بن أبي سلمة، وهو ابن أم سلمة. وفي أيامه مات علقمة بن وقاص الليثي، وله صحبة. وفي هذه السنة مات قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، وولد أول سنة من الهجرة، وحنكه النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان على خاتم عبد الملك بن مروان، وكان فيهاً. وفي أيامه مات سعد بن زيد الأنصاري، وولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي أيامه مات سلمة ابن أبي أم سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي هذه السنة مات عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي، وقيل سنة سبع وثمانين، شهد الحديبية وخيبر. وفي آخر أيامه مات الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري، وولد في آخر زمن النبي.
وفي هذه السنة توفي لاحق بن حميد أبو مجلز السدوسي.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين
ذكر إمارة عمر بن عبد العزيز بالمدينةوفي هذه السنة عزل الوليد هشام بن إسماعيل عن المدينة لسبع ليال خلون من ربيع الأول، وكانت إمارته عليها أربع سنين غير شهر أو نحوه، وولى عمر بن عبد العزيز المدينة، فقدمها والياً في ربيع الأول، وثقله على ثلاثين بعيراً، فنزل دار مروان، وجعل يدخل عليه الناس فيسلمون، فلما وصل الظهر دعا عشرةً من الفقهاء الذين في المدينة: عروة بن الزبير، وأبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عبيد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد، فدخلوا عليه، فقال لهم: إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعواناً على الحق، ولا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو بر أيمن حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلام فأحرج الله على من بلغه ذلك إلا بلغني. فخرجوا يجزونه خيراً وافترقوا.
وكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز يأمره أن يقف هشام بن إسماعيل للناس، وكان سيء الرأي فيه، وكان هشام بن إسماعيل يسيء جوار علي بن الحسين، فخافه هشام، فتقدم علي بن الحسين إلى خاصته ألا يعرض له أحد بكلمة، ومر به علي وقد وقف للناس ولم يعرض له، فناداه هشام: " الله أعلم حيث يجعل رسالته " الأنعام:124.
ذكر صلح قتيبة ونيزكولما صالح قتيبة ملك شومان كتب إلى نيزك طرخان صاحب باذغيس في إطلاق من عنده من أسراء المسلمين، وكتب إليه يتهدده، فخافه نيزك فأطلق الأسرى وبعث بهم إليه، وكتب إليه قتيبة مع سليم الناصح مولى عبيد الله بن أبي بكرة يدعوه إلى الصلح وإلى أن يؤمنه، وكتب إليه بحلف بالله لئن لم يقدم عليه ليغزونه ثم ليطلبنه حيث كان حتى يظفر به أو يموت دونه.
فقدم سليم بالكتاب، فقال له نيزك، وكان يستنصحه: يا سليم ما أظن عند صاحبك خيراً، كتب إلي كتاباً لا يكتب إلى مثلي. فقال له سليم: إنه رجل شديد في سلطانه، سهل إذا سوهل، صعب إذا عوسر، فلا يمنعك منه غلظة كتابه إليك، فأحسن حالك عنده. فقام نيزك مع سليم فصالحه أهل باذعيس على أن لا يدخلها قتيبة.
ذكر غزو الروم
قيل: وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك الروم فقتل منهم عدداً كبيراً بسوسنة من ناحية المصيصة وفتح حصوناً. وقيل: إن الذي غزا في هذه السنة هشام بن عبد الملك ففتح حصن بولق وحصن الأخرم وحصن بولس وقمقم، وقتل من المتعربة نحواً من ألف مقاتل وسبى ذريتهم ونساءهم.
ذكر غزو قتيبة بيكندولما صالح قتيبة نيزك أقام إلى وقت الغزو فغزا بي كند سنة سبع وثمانين، وهي أدنى مدائن بخاري إلى النهر، فلما نزل بهم استنصروا السعد واستمدوا من حولهم، فأتوهم في جمع كثير وأخذوا الطرق على قتيبة، فلم ينفذ لقتيبة رسول ولم يصل إليه خبر شهرين، وأبطأ خبره على الحجاج فأشفق على الجند فأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد وهم يقتلون كل يوم.
وكان لقتيبة عين من العجم يقال له تندر، فأعطاه أهل بخارى مالاً ليرد عنهم قتيبة، فأتاه فقال له سراً من الناس: إن الحجاج قد عزل وقد أتى عامل إلى خراسان فلو رجعت بالناس كان أصلح. فأمر به فقتل خوفاً من أن يظهر الخبر فيهلك الناس، ثم أمر أصحابه بالجد في القتال فقاتلهم قتالاً شديداً، فانهزم الكفار يريدون المدينة وتبعهم المسلمون قتلاً وأسراً كيف شاؤوا، وتحصن من دخل المدينة بها، فوضع قتيبة الفعلة ليهدم سورها، فسألوه الصلح وقتلوا العامل ومن معه، فرجع قتيبة فنقب سورهم فسقط، فسألوه الصلح فلم يقبل ودخلها عنوةً وقتل من كان بها من المقاتلة.
وكان فيمن أخذوا في المدينة رجل أعور هو الذي استجاش الترك على المسلمين، فقال لقتية: أنا أفدي نفسي بخمسة آلاف حريرة قيمتها ألف ألف. فاستشار قتيبة الناس فقالوا: هذه زيادة في الغنائم وما عسى أن يبلغ كيد هذا! قال: لا والله لا يروع بك مسلم أبداً! فأمر به فقتل.
وأصابوا فيها من الغنائم والسلاح وآنية الذهب والفضة ما لا يحصى، ولا أصابوا بخراسان مثله، فقوي المسلمون، وولي قسم الغنائم عبد الله بن وألان العدوي أحد بني نلكان، وكان قتيبة يسميه الأمين ابن الأمين، فإنه كان أميناً.
وكان من حديث أمانة أبيه أن مسلماً الباهلي أبا قتيبة قال لو ألان: إن عندي مالاً أحب أن أستودعكه ولا يعلم به أحد. قال وألان: ابعث به مع رجل تثق به إلى موضع كذا وكذا ومره إذا رأى في ذلك الموضع رجلاً أن يضع المال إلى موضع كذا وكذا فإذا رأيت رجلاً جالساً فخل البغل وانصرف. ففعل المولى ما أمره وأتى المكان، وكان وألان قد سبقه إليه وانتظر، وأبطأ عليه رسول مسلم فظن أنه قد بدا له البغل ورجع، فأخذ التغلبي البغل والمال ورجع إلى منزله، وظن مسلم أن المال قد أخذه وألان فلم يسأله حتى احتاج إليه، فلقيه فقال: مالي! فقال:ما قبضت شيئاً ولا لك عندي مال، فكان مسلم يشكوه إلى الناس، فشكاه يوماً والتغلبي جالس فخلا به التغلبي وسأله عن المال فأخبره، فانطلق به إلى منزله وسلم المال إليه وأخبره الخبر، فكان مسلم يأتي الناس والقبائل فيذكر لهم عذر وألان ويخبرهم الخبر.
قال: فلما فرغ قتيبة من فتح بيكند رجع إلى مرو.
ذكر عدة حوادثحج بالناس هذه السنة عمر بن عبد العزيز، وهو أمير المدينة. وكان على قضاء المدينة أبو بكر بن عمرو بن حزم. وكان على العراق وخراسان الحجاج، وكان خليفته على البصرة هذه السنة الجراح بن عبد الله الحكمي، وعلى قضائها عبد الله بن أذينة، وكان على قضاء الكوفة أبو بكر بن موسى الأشعري.
وفيها مات عبيد الله بن عباس بالمدينة، وقيل باليمن، وكان أصغر من عبد الله بسنة وفيها مات مطرف بن عبد الله بن الشخير في طاعون الجارف بالبصرة. وفيها مات المقدام بن معدي كرب الكندي، له صحبة، وقيل مات سنة إحدى وتسعين. وفيها مات أمية بن عبد الله بن أسيد.
أيد بفتح لهمزة. الشخير بكسر الشين والخاء المعجمتين، وتشديد الخاء وبعدها ياء.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين
ذكر فتح طوانة من بلد الروم
في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بن عبد الملك بلد الروم، وكان الوليد قد كتب إلى صاحب أرمينية يأمره أن يكتب إلى ملك الروم يعرفه أن الخزر وغيرهم من ملوك جبال أرمينية قد اجتمعوا على قصد بلاده، ففعل ذلك، وقطع الوليد البعث على أهل الشام إلى أرمينية وأكثر وأعظم جهازه، وساروا نحو الجزيرة قم عطفوا منها إلى بلد الروم فاقتتلوا هم والروم، فانهزم الروم ثم رجعوا فانهزم المسلمون، فبقي العباس في نفر منهم ابن محيريز الجمحي فقال العباس: أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة؟ فقال ابن محيريز: نادهم يأتوك. فنادى العباس: يا أهل القرآن! فأقبلوا جميعاً، فهزم الله الروم حتى دخلوا طوانة، وحصرهم المسلمون وفتحوها في جمادى الأولى.
قيل: وفيها ولد الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
ذكر عمارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلمقيل: وفي هذه السنة كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز في ربيع الأول يأمره بإدخال حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يشتري ما في نواحيه حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع، ويقول له: قدم القبلة إن قدرت، وأنت تقدر لمكان أخوالك، وإنهم لا يخالفونك، فمن أبى منهم فقوموا ملكه قيمة عدل واهدم عليهم وادفع الأثمان إليهم، فإن لك في عمر وعثمان أسوة.
فأحضرهم عمر وأقرأهم الكتاب، فأجابوه إلى الثمن، فأعطاهم إياه، وأخذوا في هدم بيون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبنى المسجد، وقدم عليهم الفعلة من الشام، أرسلهم الوليد، وبعث الوليد إلى ملك الروم يعلمه أنه قد هدم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، ليعمره، فبعث إليه ملك الروم مائة ألف مثقال ذهب ومائة عامل وبعث إليه من الفسيفساء بأربعين جملاً، فبعث الوليد بذلك إلى عمر بن عبد العزيز، وحضر عمر ومعه الناس فوضعوا أساسه وابتدأوا بعمارته.
قيل: وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك الروم أيضاً ففتح ثلاثة حصون: أحدها حصن قسطنطين وغزالة وحصن الأخرم، وقتل من المستعربة نحواً من ألف وأخذ الأموال.
ذكر غزو نومشكث ورامثنةقيل: وفي هذه السنة غزا قتيبة بن مسلم نومشكث واستخلف على مرو أخاه يسار بن مسلم، فتلقاه أهلها فصالحهم، ثم سار إلى رامثنة فصالحه أهلها وانصرف عنهم.
وزحف إليه الترك ومعهم الصغد وأهل فرغانة في مائتي ألف وملكهم كور نعابون ابن أخت ملك الصين، فاعترضوا المسلمين فلحقوا عبد الرحمن بن مسلم أخا قتيبة وهو على الساقة، وبينه وبين قتيبة وأوائل العسكر ميل، فلما قربوا منه أرسل إلى قتيبة بخيره، وأدركه الترك فقاتلوه، ورجع قتيبة فانتهى إلى عبد الرحمن وهو يقاتل الترك، وقد كاد الترك يظهرون، فلما رأى المسلمون قتيبة طابت نفوسهم وقاتلوا إلى الظهر، وأبلى يومئذٍ نيزك، وهو مع قتيبة، فانهزم الترك، ورجع قتيبة فقطع النهر عند ترمذ وأتى مرو.
ذكر ما عمل الوليد من المعروفوفي هذه السنة كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز في تسهيل الثنايا وحفر الآبار وأمره أن يعمل الفوارة بالمدينة فعملها وأجرى ماءها، فلما حج الوليد ورآها أعجبته فأمر لها بقوام يقومون عليها، وأمر أهل المسجد أن يستقوا منها، وكتب إلى البلدان جميعها فإصلاح الطرق، وعمل الآبار، ومنع المجذمين من الخروج على الناس، وأجرى لهم الأرزاق.
ذكر عدة حوادثوحج الناس هذه السنة عمر بن عبد العزيز، ووثل جماعةً من قريش، وساق معه بدناً وأحرم من ذي الحيلفة، فلما كان بالتنعيم أخبر أن مكة قليلة الماء وأنهم يخافون على الحاج العطس، فقال عمر: تعالوا ندع الله تعالى، فدعا ودعا معه الناس، فما وصلوا البيت إلا مع المطر وسال الوادي، فخاف أهل مكة من شدته، ومطرت عرفة ومكة وكثر الخصب.
وقيل: إنما حج هذه السنة عمر بن الوليد بن عبد الملك.
وكان العمال من تقدم ذكرهم.
وفيها مات سهل بن سعد الساعدي، وقيل: بل سنة إحدى وتسعين، وله مائة سنة. وعبد الله بن بسر المازني من مازن بن منصور، وكان ممن صلى القبلتين، وهو آخر من مات بالشام من الصحابة.
بسر بضم الباء الموحدة، وبالسين المهملة.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين
ذكر غزو الروم
قيل: في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بن عبد الملك الروم فافتتح مسلمة حصن عمروية، وفتح العباس أذرولية، ولقي من الروم جمعاً فهزمهم.
وقيل: إن ملسمة قصد عمورية فلقي بها جمعاً من الروم كثيراً فهزمهم وافتتح هرقلة وقمونية، وغزظا العباس الصائفة من ناحية البذندون.
ذكر غزو قتيبة بخارىفي هذه السنة أتى قتيبة كتاب الحجاج يأمره بقصد وردان خذاه، فعبر النهر من زم، فلقي الصغد وأهل كش ونسف في طريق المفازة فقاتلوه، فظفر بهم ومضى إلى بخارى فنزل خرقانة السفلى عن يمين وردان، فلقوه في جمع كثير، فقاتلهم يومين وليلتين فظفر بهم، وغزا وردان خذاه ملك بخارى فلم يظفر بشيء، فرجع إلى مرو وكتب إلى الحجاج بخبره، فكتب إليه الحجاج أن صورها لي، فبعث إليه بصورتها، فكتب إليه الحجاج أن تب إلى الله، جل ثناؤه، مما كان منك وأتها من مكان كذا وكذا، وكتب إليه: أن كس بكش وانسف نسف ورد وردان، وإياك والتحويط، ودعنب من ثنيات الطريق.
وقيل: إنما كان فتح بخارى سنة تسعين، على ما نذكره.
ذكر ولاية خالد بن عبد الله القسري مكةقيل: وفي هذه السنة ولي خالد بن عبد الله القسري مكة، فخطب أهلها فقال: أيها الناس أيهما أعظم، خليفة الرجل على أهله أو رسوله إليهم؟ والله لو مل تعلموا فضل الخليفة إلا أن إبراهيم خليل الرحمن استسقاه فسقاه ملحاً أجاجاً واستسقاه الخليفة فسقاه عذباً فراتاً، يعني بالملح زمزم، وبالماء الفرات بئراً حفرها الوليد بثينة طوىً في ثنية الحجون وكان ماؤها عذباً وكان ينقل ماءها ويضعه في حوض إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم، فغارت البئر وذهب ماؤها فلا يدرى أين هو اليوم.
وقيل: وليها سنة إحدى وتسعين، وقيل: سنة أربع وتسعين، وقد ذكرناه هناك.
ذكر قتل ذاهر ملك السندفي هذه السنة قتل محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي، يجتمع هو والحجاج في الحكم، ذاهر بن صعصعة ملك السند وملك بلاده، وكان الحجاج بن يوسف استعمله على ذلك الثغر وسير معه ستة آلاف مقاتل وجهزه بكل ما يحتاج إليه حتى المسال والإبر والخيوط، فسار محمد إلى مكران فأقام بها أياماً ثم أتى قنزبور ففتحها، ثم سار إلى ارمائيل ففتحها، ثم سار إلى الديبل فقدمها يوم جمعة، ووافته سفن كان حمل فيها الرجال والسلاح والأداة فخندق حين نزل الديبل بد عظيم عليه دقل عظيم وعلى الدقل راية حمراء إذا هبت الريح أطافت بالمدينة، وكانت تدور، والبد صنم في بناء عظيم تحت منارة عظيمة مرتفعة، وفي رأس المنارة هذا الدقل، وكل ما يعبد فهو عندهم بد.
فحصرها وطال حصارها، فرمى الدقل بحجر العروس فكسره، فتطير الكفار بذلك، ثم إن محمد أتى وناهضهم وقد خرجوا إليه فهزمهم حتى ردهم إلى البلد وأمر بالسلاليم فنصبت وصعد عليها الرجال، وكان أولهم صعوداً رجل من مراد من أهل الكوفة، ففتحت عنوة وقتل فيها ثلاثة أيام وهرب عامل ذاهر عنها وأنزلها محمد أربعة آلاف من المسلمين وبنى جامعها وسار عنها إلى البيرون، وكان أهلها بعثوا إلى الحجاج فصالحوه، فلقوا محمداً بالميرة وأدخلوه مدينتهم، وسار عنها وجعل لا يمر بمدينة إلا فتحها حتى عبر نهراً دون مهران، فأتاه أهل سربيدس فصالحوه، ووظف عليهم الخراج وسار عنهم إلى سهبان ففتحها، ثم سار إلى نهر مهران فنزل في وسطه.
وبلغ خبره ذاهر فاستعد لمحاربته وبعث جيشاً إلى سدوستان، فطلب أهلها الأمان والصلح، فآمنهم ووظف عليهم الخراج، ثم عبر محمد مهران مما يلي بلاد راسل الملك على جسر عقده وذاهر مستخف به، فلقيه محمد والمسلمون وهو على فيل وحوله الفيلة، ومعه التكاكرة، فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يسمع بمثله، وترجل ذاهر فقتل عند المساء ثم انهزم الكفار وقتلهم الملمون كيف شاؤوا، وقال قاتله:
الخيل تشهد يوم ذاهر والقنا ... ومحمد بن القاسم بن محمد
أني فرجت الجمع غير معردٍ ... حتى علوت عظيمهم بمهند
فتركته تحت العجاج مجندلاً ... متعفر الخدين غير موسد
فلما قتل ذاهر غلب محمد على بلاد السند وفتح مدينة راور عنوةً، وكان بها امرأة لذاهر فخافت أن تؤخذ فأحرقت نفسها وجواريها وجميع مالها.
ثم سار إلى برهمناباذ العتيقة، وهي على فرسخين من المنصورة، ولم تكن المنصورة يومئذٍ، كان موضعها غيضة، وكان المنهزمون من الكفار بها، فقاتلوه ففتحها محمد عنوةً وقتل بها بشراً كثيراً وخربت.
وسار يريد الرور وبغرور فلقيه أهل ساوندرى فطلبوا الأمان فأعطاهم إياه واشترط عليهم ضيافة المسلمين، ثم أسلم أهلها بعد ذلك. ثم تقدم إلى بسمد وصالح أهلها، ووصل إلى الرور، وهي من مدائن السند على جبل، فحصرهم شهوراً فصالحوه، وسار إلى السكة ففتحها، ثم قطع نهر بياس إلى الملتان فقاتله أهلها وانهزموا، فحصرهم محمد فجاءه إنسان ودله على قطع الماء الذي يدخل المدينة فقطعه، فعطشوا فألقوا بأيديهم ونزلوا على حكمه فقتل المقاتلة وسبى الذرية وسدنة البد، وهم ستة آلاف، وأصابوا ذهباً كثيراً، فجمع في بيت طوله عشرة أذرع وعرضه ثمانية أذرع يلقى إليه من كوة في وسطه، فسميت الملتان فرج بيت الذهب، والفرج الثغر، وكان بد الملتان تهدى إليه من كوة في وسطه، فسميت الملتان فرج بيت الذهب، والفرج الثغر، وكان بد الملتان تهدى إليه الأموال ويحج من البلاد ويحلقون رؤوسهم ولحاهم عنده ويزعمون أن صنمه هو أيوب النبي صلى الله عليه وسلم .
وعظمت فتوحه، ونظر الحجاج في النفقة على ذلك الثغر فكانت ستين ألف ألف درهم، ونظر في الذي حمل فكان مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف، فقال: ربحنا ستين ألفاً وأدركنا ثأرنا ورأس ذاهر.
ثم مات الحجاج، ونذكر أمر محمد عند موت الحجاج إن شاء الله تعالى.
ذكر استعمال موسى بن نصير على إفريقيةفي هذه السنة استعمل الوليد بن عبد الملك موسى بن نصير على إفريقية، وكان نصير والده على حرس معاوية، فلما سار معاوية إلى صفين لم يسر معه، فقال له: ما يمنعك من المسير معي إلى قتل علي ويدي عنك معروفة؟ فقال: لا أشركك بكفر من هو أولى بالشكر منك، وهو الله، عز وجل . فسكت عنه معاوية.
فوصل موسى إلى إفريقية وبها صالح الذي استخلفه حسان على إفريقية، وكان البربر قد طمعوا في البلاد بعد مسير حسان، فلما وصل موسى عزل صالحاً وبلغه أن بأطراف البلاد قوماً خارجين عن الطاعة، فوجه إليه ابنه عبد الله فقاتلهم فظفر بهم، وسبى منهم ألف رأس وسيره في البحر إلى جزيرة ميورقة، فنهبها وغنم منها مالا يحصى وعاد سالماً، فوجه ابنه هارون إلى طائفة أخرى فظفر بهم وسبى منهم نحو ذلك وتوجه هو بنفسه إلى طائفة أخرى فغنم نحو ذلك، فبلغ الخمس ستين ألف رأس من السبي، ولم يذكر أحد أنه سمع بسبي أعظم من هذا.
ثم إن إفريقية قحطت واشتد بها الغلاء، فاستسقى بالناس وخطبهم ولم يذمر الوليد، وقيل له في ذلك، فقال: هذا مقام لا يدعى فيه لأحد ولا يذكر إلا الله، عز وجل، فسقى الناس ورخصت الأسعار، ثم خرج غازياً إلى طنجة يريد من بقي من البربر، وقد هربوا خوفاً منه، فتبعهم وقتلهم قتلاً ذريعاً حتى بلغ السوس الأدنى لا يدافعه أحد، فاستأمن البربر إليه وأطاعوه، واستعمل على طنجة مولاه طارق بن زياد، ويقال: إنه صدفي. وجعل معه جيشاً كثيفاً جلهم من البربر، وجعل معهم من يعلمهم القرآن والفرائض، وعاد إلى إفريقية. فمر بقلعة مجانة فتحصن أهلها منه وترك عليها من يحاصرها مع بشر بن فلان، ففتحها، فسميت قلعة بشر إلى الآن، وحينئذٍ لم يبق له في إفريقية من ينازعه.
وقيل: كانت ولاية موسى سنة ثمان وسبعين، استعمله عليها عبد العزيز بن مروان، وهو حينئذٍ على مصر لأخيه عبد الملك.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك الترك من ناحية أذربيجان ففتح حصوناً ومدائن هناك. وحج بالناس عمر بن عبد العزيز، وكان العمال من تقدم ذكرهم.
وفي هذه السنة مات عبد الله بن ثعلبة بن صغير العذري حليف بني زهرة، وكان مولده قبل الهجرة بأربع سنين، وقيل: ولد سنة ست من الهجرة.
صعير بضم الصاد، وفتح العين المهملتين.
وفيها مات ظليم مولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح بإفريقية.
ظليم بفتح الظاء المعجمة، وكسر اللام.
ثم دخلت سنة تسعين
ذكر فتح بخارى
قد ذكرنا ورود كتاب الحجاج إلى قتيبة بأمره بالتوبة عن انصرافه عن وردان خذاه ملك بخارى ويعرفه الموضع الذي يأتي بلده منه، فلما ورد الكتاب على قتيبة خرج غازياً إلى بخارى سنة تسعين، فاستجاش وردان خذاه بالصغد والترك من حوله فأتوه، وقد سبق إليها قتيبة فحصرها، فلما جاءتهم أمدادهم خرجوا إلى المسلمين يقاتلونهم، فقالت الأزد: اجعلونا ناحيةً وخلوا بيننا وبين قتلاهم. فقال قتيبة: تقدموا وقاتلوهم قتالاً شديداً، ثم إن الأزد انهزموا حتى دخلوا العسكر وركبهم المشركون فحطموهم حتى أدخلوهم عسكرهم وجازوه حتى ضرب النساء وجوه الخيل وبكين، فكروا راجعين، فانطوت مجنبتا المسلمين على الترك فقاتلوهم حتى ردوهم إلى مواقفهم، فوقف الترك على نشز، فقال قتيبة: من يزيلهم عن هذا الموضع؟ فلم يقدم عليهم أحد من العرب، فأتى بني تميم فقال لهم: يوم كأيامكم، فأخذ وكيع اللواء وقال: يا بني تميم أتسلمونني اليوم؟ قالوا: لا يا أبا مطرف.
وكان هريم بن أبي طحمة على خيل تميم، ووكيع رأسهم، فقال وكيع: يا هريم قدم خيلك. ودفع إليه الراية، فتقدم هريم وتقدم وكيع في الرجالة، فانتهى هريم إلى نهر بينهم وبين الترك، فوقف فقال وكيع: تقدم يا هريم، فنظر هريم نظر الجمل الهائج الصائل وقال: أأقحم الخيل هذا النهر؟ فإن انكشفت كان هلاكها يا أحمق. فقال وكيع: يا بن اللخناء ترد أمير! فحذفه بعمود كان معه، فعبر هريم في الخيل، وانتهى وكيع إلى النهر فعمل عليه جسراً من خشب وقال لأصحابه: من وطن نفسه على الموت فليعبر وإلا فليثبت مكانه. فما عبر معه إلا ثمانمائة رجل، فلما عبر بهم ودنا من العدو قال لهريم: غني مطاعنهم فاشغلهم عنا بالخيل، فحمل عليهم حتى خالطهم، وحمل هريم في الخيل فطاعنوهم، ولم يزالوا يقاتلونهم حتى حدروهم من التل، ونادى قتيبة: ما ترون العدو منهزمين؟ فلم يعبر أحد النهر حتى انهزموا، وعبر الناس، ونادى قتيبة: من أتى برأس فله مائة، فأتي برؤوس كثيرة، فجاء يومئذٍ أحد عشر رجلاً من بني قريع كل رجل برأس، فيال له: من أنت؟ فيقول: قريعي. فجاء رجل من الأزد برأس، فيل له: من أنت؟ فقال: قريعي، فعرفه جهم بن زحر، فقال: كذب، والله إنه أزدي. فقال له قتيبة: ما دعاك إلى هذا؟ فقال: رأيت كل من جاء يقول قريعي فظننت أنه ينبغي لكل من جاء برأس يقوله. فضحك قتيبة.
وجرح خاقان وابنه، وفتح الله عليهم، وكتب قتيبة بالفتح إلى الحجاج.
ذكر صلح قتيبة مع الصغدلما أوقع قتيبة بأهل بخارى هابه الصغد فرجع طرخون ملكهم ومعه فارسان، فدنا من عسكر قتيبة فطلب رجلاً يكلمه، فأرسل إليه قتيبة حيان النبطي، فطلب الصلح على فدية يؤديها إليهم، فأجابه قتيبة إلى ما طلب وصالح، ورجع طرخون إلى بلاده ورجع قتيبة ومعه نيزك.
حيان بالحاء المهملة، والياء المشددة تحتها نقطتان، وآخره نون.
ذكر غدر نيزك وفتح الطالقانقيل: لما رجع قتيبة من بخارى ومعه نيزك وقد خاف لما يرى من الفتوح فقال لأصحابه: أنامع هذا ولست آمنه فلو استأذنته ورجعت كان الرأي. قالوا: افعل. فاستأذن قتيبة فأذن له وهو بآمل، فرجع يريد طخارستان وأسرع السير حتى أتى النوبهار فنزل يصلي فيه ويتبرك به، وقال لأصحابه: لا أشك أن قتيبة قد ندم على إذنه لي وسيبعث إلى المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسي.
وندم قتيبة على إذنه له فأرسل إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك، وسار نيزك وتبعه المغيرة فوجده قد دخل شعب خلم، فرجع المغيرة، وأظهر نيزك الخلع وكتب إلى أصبهبذ بلخ وإلى باذان ملك مرو الوذ وإلى ملك الكالقان وإلى ملك الفارياب وإلى ملك الجوزجان أن يدعوهم إلى خلع قتيبة، فأجابوه، فواعدهم الربيع أن يجتمعوا ويغزو قتيبة، وكتب إلى كابل شاه يستظهر به وبعث إليه بثقله وماله وسأله أن يأذن له إن اضطر إليه أن يأتيه، فأجابه إلى ذلك.
وكان جبغويه ملك طخارستان ضعيفاً، فأخذه نيزك فقيده بقيد من ذهب لئلا يخالف عليه، وكان جبغويه هو الملك، ونيزك عبده، فاستوثق منه وأخرج عامل قتيبة من بلاد جبغويه. وبلغ قتيبة خلعه قبل الشتاء وقد تفرق الجند، فبعث أخاه عبد الرحمن بن مسلم في اثني عشر ألفاً إلى البورقان، وقال: أقم بها ولا تحدث شيئاً، فإذا انقضى الشتاء سر نحو طخارستان، واعلم أني قريب منك.
فسار، فلما كان آخر الشتاء كتب قتيبة إلى نيسابور وغيرها من البلاد ليقدم عليه الجنود، فقدموا قبل أوانهم، فسار نحو الطالقان، وكان ملكها قد خلع وطابق نيزك على الخلع، فاتاه قتيبة فأوقع بأهل الطالقان فقتل من أهلها مقتلةً عظيمةً وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في نظام واحد، ثم انقضت السنة قبل محاربة نيزك، وسنذكر تمام خبره سنة إحدى وتسعين إن شاء الله.
ذكر هرب يزيد بن المهلب
وإخوته من سجن الحجاجقيل: وفي هذه السنة هرب يزيد بن المهلب وإخوته الذين كانوا معه في سجن الحجاج، وكان الحجاج قد خرج إلى رستقاباذ للبعث لأن الأكراد كانوا قد غلبوا على فارس، وخرج معه يزيد بن المهلب وإخوته عبد الملك والمفضل في عسكره، وجعل عليهم كهيئة الخندق، وجعلهم في فسطاط قريب منه، وجعل عليهم الحرس من أهل الشام، وطلب منهم ستة آلاف ألف، وأخذ يعذبهم، فكان يزيد يصبر صبراً حسناً، وكان ذلك مما يغيظ الحجاج منه. فقيل للحجاج إنه رمي في ساقه بنشابة فثبت نصلها فيه فهو لا يمسها إلا صاح، فأمر أن يعذب في ساقه، فلما فعلوا به ذلك صاح، وأخته هند بنت المهلب عند الحجاج. فلما سمعت صوته صاحت وناحت، فطلقها الحجاج، ثم إنه كف عنهم وأقبل يستأديهم وهم يعملون في التخلص، فبعثوا إلى أخيهم مروان، وكان بالبصرة، أن يضمن لهم خيلاً ويري الناس أنه يريد بيعها لتكون عدة. ففعل ذلك، وكان أخوه حبيب يعذب بالبصرة أيضاً.
فصنع يزيد للحرس طعاماً كثيراً وأمر لهم بشراب، فسقوا واشتغلوا به، ولبس يزيد ثياب طباخه وخرج وقد جعل له لحيةً بيضاء، فرآه بعض الحرس فقال: كانت هذه مشية يزيد، فجاء إليه فرأى لحيته بيضاء في الليل، فتركه وعاد، فخرج المفضل ولم يفطن له، فجاؤوا إلى سفن معدة فركبوها، يزيد والمفضل وعبد الملك، وساروا ليلتهم حتى أصبحوا، فلما أصبحوا علم بهم الحرس فرفعوا خبرهم إلى الحجاج، ففزع وظن أنهم يفسدون خراسان لفتنوا بها، فبعث البريد إلى قتيبة بخبرهم ويأمره بالحذر.
ولما دنا يزيد من البطائح استقبلته الخيل فخرجوا عليها ومعهم دليل من كلب، فاخذوا طريق الشام على طريق السماوة، وأتى الحجاج بعد يومين فقيل له: إنهم أخذوا طريق الشام، فبعث إلى الوليد بن عبد الملك يعلمه.
ثم سار يزيد فقدم فلسطين فنزل على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي، وكان كريماً على سليمان بن عبد الملك، فجاء وهيب إلى سليمان فأعلمه بحال يزيد وإخوته وأنهم قد استعاذوا به من الحجاج، قال: فأتني بهم فهم آمنون لا يوصل إليهم أبد وأنا حي. فجاء بهم إليه، وكانوا في مكان آمن.
وكتب الحجاج إلى الوليد: إن آل المهلب خانوا أمان الله وهربوا مني ولحقوا بسليمان. وكان الوليد قد حذرهم وظن أنهم يأتون خراسان للفتنة بها، فلما علم أنهم عند أخيه سليمان سكن بعض ما به وطار غضباً للمال الذي ذهب به، فكتب سليمان إلى الوليد: إن يزيد عندي وقد آمنته، وإنما عليه ثلاثة آلاف ألف لأن الحجاج أغرمه ستة آلاف ألف فأدى ثلاثة آلاف ألف، والذي بقي عليه أنا أؤديه. فكتب الوليد: والله لا أؤمنه حتى تبعث به إلي. فكتب : لئن أنا بعثت به إليك لاجئين معه. فكتب الوليد: والله لئن جئتني لا أؤمنه. فقال يزيد: أرسلني إليه فوالله ما أحب أن أوقع بينه وبينك عداوةً ولا أن يتشأم الناس بي لكما، واكتب معي بألطف ما قدرت عليه.
فأرسله وأرسل معه ابنه أيوب، وكان الوليد قد أمره أن يبعث به مقيداً. فقال سليمان لابنه: إذا دخلت على أمير المؤمنين فادخل أنت ويزيد في سلسلة. ففعل ذلك. فلما رأى الوليد ابن أخيه في سلسلة قال: لقد بلغنا من سليمان. ودفع أيوب كتاب أبيه إلى عمه وقال له: يا أمير المؤمنين نفسي فداؤك لا تخفر ذمة أبي وأنت أحق من منعها، ولا تقطع ما رجاء من رجا السلامة في جوارنا لمكاننا منك، ولا تذل من رجا العز في الانقطاع إلينا لعز بابك.
فقرأ الوليد كتاب سليمان فإذا هو يستعطفه ويشفع إليه ويضمن إيصال المال، فلما قرأ المتاب قال: لقد شققنا على سليمان. وتكلم يزيد واعتذر، فآمنه الوليد، فرجع إلى سليمان، وكتب الوليد إلى الحجاج: إني لم أصل إلى يزيد وأهله مع سليمان، فاكفف عنهم فكف عنهم.
وكان أبو عيينة بن المهلب عند الحجاج عليه ألف ألف فتركها وكف عن حبيب بن المهلب.
وأقام يزيد بن المهلب عند سليمان يهدي إليه الهدايا ويصنع له الأطعمة، وكان لا يأتي يزيد هيدة إلا بعث بها إلى سليمان، ولا يأتي سليمان هدية إلا بعث بنصفها إلى يزيد، وكان لا تعجبه جارية إلا بعث بها إلى يزيد.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم ففتح الحصون الخمسة التي بسورية، وغزا عباس بن الوليد حتى بلغ أرزن وبلغ سورية. وفيها استعمل الوليد بن عبد الملك قرة بن شريك على مصر وعزل أخاه عبد الله بن عبد الملك. وفيها أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر، فأهداه ملكهم إلى الوليد.
وحج بالناس هذه السنة عمر بن عبد العزيز، وكان أميراً على مكة والمدينة والطائف. وكان على العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف، وعامله على البصرة الجراح بن عبد الله الحكمي، وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى خراسان قتيبة بن مسلم، وعلى مصر قرة بن شريك.
وفيها مات أنس بن مالك الأنصاري، وقيل: سنة اثنتين وتسعين، وقيل: ثلاث وتسعين، وكان عمره ستاً وتسعين سنة، وقيل: مائة وست سنين، وقيل: وسبع، وقيل وثلاث. وفيها مات أبو العالية الرياحي في شوال. وفيها توفي نصر بن عاصم الليثي النحوي، وأخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي، وقيل: مات سنة تسعين.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين
ذكر تتمة خبر قتيبة مع نيزكقد ذكرنا مسير قتيبة إلى نيزك وما جرى له بالطالقان وقتل بها، فلما فتح الطالقان استعمل أخاه عمر بن مسلم، وقيل: إن ملكها لم يحارب قتيبة فكف عنه، وكان بها لصوص فتلهم قتيبة وصلبهم، ثم سار قتيبة إلى الفارياب فخرج إليه ملكها مقراً مذعناً، فقبل منه ولم يقتل بها أحداً واستعمل عليها رجلاً من أهله.
وبلغ ملك الجوزجان خبرهم فهرب إلى الجبال، وسار قتيبة إلى الجوزجان، فلقيه أهلها سامعين مطيعين، فقبل منهم ولم يقتل بها أحداً، واستعمل عليها عامر بن مالك الحماني.
ثم أتى بلخ فلقيه أهلها فلم يقم بها إلا يوماً واحداً وسار يتبع أخاه عبد الرحمن إلى شعب خلم ومضى نيزك إلى بغلان وخلف مقاتلة على فم الشعب ومضايقه ليمنعوه، ووضع مقاتلته في قلعة حصينة من وراء الشعب. فأقام قتيبة أياماً يقاتلهم على مضيق الشعب لا يقدر على دخوله ولا يعرف طريقاً يسلكه إلى نيزك إلا الشعب. فأقام قتيبة أياماً يقاتلهم على مضيق الشعب لا يقدر على دخوله ولا يعرف طريقاً يسلكه إلى نيزك إلا الشعب أو مفازة لا تحتملها العساكر، فبقي متحيراً، فقدم إنسان فاستأمنه على أن يدله على مدخل القلعة التي من وراء الشعب، فآمنه قتيبة وبعث معه رجالاً فانتهى بهم إلى القلعة من وراء شعب خلم، فطرقوهم وهم آمنون فقتلوهم، وهرب من بقي منهم ومن كان في الشعب، فدخل قتيبة الشعب فأتى القلعة ومضى إلى سمنجان فأقام بها أياماً ثم سار إلى نيزك وقدم أخاه عبد الرحمن.
فارتحل نيزك من منزله فقطع وادي فرغانة ووجه ثقله وأمواله إلى كابل شاه ومضى حتى نزل الكرز وعبد الرحمن يتبعه، فنزل عبد الرحمن حذاء الكرز، ونزل قتيبة بمنزل بينه وبين عبد الرحمن فرسخان، فتحصن نيزك في الكرز وليس إليه مسلك إلا من وجه واحد وهو صعب لا تطيقه الدواب، فحصره قتيبة شهرين حتى قل ما في يد نيزك من الطعام وأصابهم الجدري وجدر جبغويه.
وخاف قتيبة الشتاء فدعا سليماً الناصح فقال: انطلق إلى نيزك واحتل لتأتيني به بغير أمان، فإن احتال وأبى فآمنه، واعلم أني إن عاينتك وليس هو معك صلبتك. قال: فاكتب إلى عبد الرحمن لا يخالفني، فكتب إليه، فقدم عليه، فقال له: ابعث رجالاً ليكونوا على فم الشعب، فإذا خرجت أنا ونيزك فليعطفوا من ورائنا فيحولوا بيننا وبين الشعب. فبعث عبد الرحمن خيلاً، فكانت هناك، وحمل سليم مع أطعمة وأخبصة أوقاراً وأتى نيزك فقال له: إنك أسأت إلى قتيبة وغردت. قال نيزك: فما الرأي؟ قال: أرى أن تأتيه فإنه ليس ببارح، وقد عزم على أن يشتو مكانه هلك أو سلم. قال نيزك: فكيف آتيه على غير أمان؟ قال: ما أظنه يؤمنك لما في نفسه عليك لأنك قد ملأته غيظاً، ولكني أرى أن لا يعلم بك حتى تضع يدك في يده، فإني أرجو أن يستحي ويعفو عنك، قال: إني أرى نفسي تأبى هذا وهو إن رآني قتلني. فقال سليم: ما أتيتك إلا لأشير عليك بهذا، ولو فعلت لرجوت أن تسلم وعود حالك عنده، فإذا أبيت فإني منصرف.
وقدم سليم الطعام الذي معه، ولا عهد لهم بمثله، فانتهبه أصحاب نيزك، فساءه ذلك، فقال له سليم: إني لك من الناصحين، أرى أصحابك قد جهدوا وإن طال بهم لحصار لم آمنهم أن يستأمنوا بك فأت قتيبة. فقال: لا آمنه على نفسي ولا آتيه إلا بأمان، وإن ظني أن يقتلني وإن آمنني، ولكن الأمان أعذر إلي. فقال سليم: قد آمنك، أفتتهمني؟ قال: لا. وقال له أصحابه: اقبل قول سليم فلا يقول إلا حقاً.
فخرج معه ومع جبغويه وصول طرخان، خليفة جبغويه، وحبس طرخان صاحب شرطته وشقران ابن أخي نيزك، فلما خرجوا من الشعب عطفت الخيل التي خلفها سليم فحالوا بين الأتراك أصحاب نيزك والخروج، فقال نيزك: هذا أول الغدر. قال سليم: تخلف هؤلاء عنك خير لك. وأقبل سليم ونيزك ومن معه حتى دخلوا إلى قتيبة فحبسهم وكتب إلى الحجاج يستأذنه في قتل نيزك. واستخرج قتيبة ما كان في الكرز من متناع ومن كان فيه، فقدم به على قتيبة. فانتظر بهم كتاب الحجاج، فاتاه كتاب الحجاج بعد أربعين يوماً يأمره بقتل نيزك، فدعا قتيبة الناس واستشارهم في قتله، واخلفوا، فقال ضرار بن حصين: إني سمعتك تقول: أعطيت الله عهداً إن أمكنك منه أن تقتله فإن لم تفعل فلا ينصرك الله عليه أبداً.
فدعا نيزك فضرب رقبته بيده وأمر بقتل صول وابن أخي نيزك، وقتل من أصحابه سبعمائة، وقيل: اثني عشر ألفاً، وصلب نيزك وابن أخيه، وبعث برأسه إلى الحجاج، وقال نهار بن توسعة في قتل نيزك:
لعمري نعمت غزوة الجند غزوةً ... قضت نحبها من نيزكٍ وتعلت
وأخذ الزنير مولى عباس الباهلي حقاً لنيزك فيه جوهر، وكان أكثر من في بلاده مالاً وعقاراً من ذلك الجوهر، وأطلق قتيبة جبغويه ومن عليه وبعث به إلى الوليد، فلم يزل بالشام حتى مات الوليد.
كان الناس يقولون: غدر قتيبة بنيزك، فقال بعضهم:
فلا تحسبن الغدر حرماً فربما ... ترقت بك الأقدام يوماً فزلت
فلما قتل قتيبة نيزك رجع إلى مرو، وأرسل ملك الجوزجان يطلب الأمان، فآمنه على أن يأتيه، فطلب رهناً ويعطي رهائن، فأعطاه قتيبة حبيب بن عبد الله بن حبيب الباهلي، وأعطى ملك الجوزجان رهائن من أهل بيته، وقدم على قتيبة فصالحه، ثم رجع فمات بالطالقان، فقال أهل الجوزجان: إنهم سموه، فقتلوا حبيباً، وقتل قتيبة الرهائن الذين كانوا عنده.
ذكر غزو شومان وكش ونسفوفي هذه السنة سار قتيبة إلى شومان فحصرها.
وكان سبب ذلك أن ملكها طرد عامل قتيبة من عنده فأرسل إليه قتيبة رسولين، أحدهما من العرب اسمه عياش، والآخر من أهل خراسان، يدعوان ملك شومان أن يؤدي ما كان صالح عليه. فقدما شومان، فخرج أهلها إليهما فرموهما، فانصرف الخراساني وقاتلهم عياش فقتلوه، ووجدوا به ستين جراحة.
وبلغ قتله قتيبة فسار إليهم بنفسه، فلما أتاها أرسل صالح بن مسلم أخو قتيبة إلى ملكها، وكان صديقاً له، يأمره بالطاعة ويضمن له رضا قتيبة إن رجع إلى الصلح. فأبى وقال لرسول صالح: أتخوفني من قتيبة وأنا أمنع الملوك حصناً؟ فأتاه قتيبة وقد تحصن ببلده فوضع عليه المجانيق، ورمى الحصن من مال وجوهر ورمى به في بئر بالقلعة لا يدرك قعرها ثم فتح القلعة وخرج إليهم فقاتلهم حتى قتل، وأخذ قتيبة القلعة عنوةً فقتل المقاتلة وسبى الذرية.
ثم سار إلى كش ونسف ففتحهما. وامتنعت عليه فارياب فأحرقها، فسميت المحترقة، وسير من كش ونسف أخاه عبد الرحمن إلى الصغد، وملكها طرخون، فقبض عبد الرحمن من طرخون ما كان صالحه عليه قتيبة ودفع إليه رهناً كانوا معه، ورجع إلى قتيبة ببخارى وكان قد سار إليها من كش ونسف، فرجعوا إلى مرو. ولما كان قتيبة ببخارى ملك بخاراخذاه، وكان غلاماً حدثاً، وقتل من يخاف أن يضاده.
وقيل: إن قتيبة سار بنفسه إلى الصغد، فلما رجع عنهم قالت الصغد لطرخون: إنك قد رضيت بالذل واستطبت الجزية وأنت شيخ كبير، فلا حاجة لنما فيك، فحبسوه وولوا غوزك، فقتل طرخون نفسه.
ذكر عدة حوادث
قيل: في هذه السنة استعمل الوليد خالد بن عبد الله القسري على مكة، فلم يزل والياً عليها حتى مات الوليد، وكان قد تقدم سنة تسع وثمانين ذكره أيضاً، فلما ولي مكة خطبهم وعظم أمر الخلافة وحثهم على الطاعة، فقال: لو أني أعلم أن هذه الوحش التي تأمن في الحرم لو نطقت لم تقر بالطاعة لأخرجتها منه، فعليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإني والله لا أوتى بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم، إني لا أرى فيما كتب به الخليفة أو رآه إلا إمضاءه. واشتد عليهم.
وحج بالناس هذه السنة الوليد بن عبد الملك، فلما دخل المدينة غدا إلى المسجد ينظر إلى بنائه، وأخرج الناس منه ولم يبق غير سعيد بن المسيب لم يجرؤ أحد من الحرس أن يخرجه، فقيل له: لو قمت. قال: لا أقوم حتى يأتي الوقت الذي كنت أقوم فيه. فقيل: لو سلمت على أمير المؤمنين. قال: والله لا أقوم إليه. قال عمر بن عبد العزيز: فجعلت أعدل بالوليد في ناحية المسجد لئلا يراه، فالتفت الوليد إلى القبلة فقال: من ذلك الشيخ؟ أهو سعيد؟ قال عمر: نعم، ومن حاله كذا وكذا، فلو علم بمكانك لقام فسلم عليك، وهو ضعيف البصر. قال الوليد: قد علمت حاله ونحن نأتيه. فدار في المسجد حتى أتاه فقال: كيف أنت أيها الشيخ؟ فوالله ما تحرك سعيد بل قال: بخير والحمد الله، فكيف أمير المؤمنين وكف حاله؟ فانصرف وهو يقول لعمر: هذا بقية الناس! وقسم بالمدينة دقيقاً كثيراً وآنيةً من ذهب وفضة وأموالاً، وصلى بالمدينة الجمعة فخطب الخطبة الأولى جالساً ثم قام فخطب الخطبة الثانية قائماً. قال إسحاق بن يحيى: فقلت لرجاء بن حيوة وهو معه: أهكذا تصنعون؟ قال: نعم، مكرراً، وهكذا صنع معاوية وهلم جراً. قال فقلت له: هلا تكلمه؟ قال: أخبرني قبيصة بن ذؤيب أنه كلم عبد الملك ولم يترك القعود، وقال: هكذا خطب عثمان. قال فقلت: والله ما خطب إلا قائماً. قال رجاء: روي لهم شيء فاقتدوا به. قال إسحاق: ولم نر منهم أشد تجبراً منه.
وكان العمال على البلاد من تقدم ذكرهم غير مكة، فإن خالداً كان عاملها، وقيل: إن عاملها هذه السنة كان عمر بن عبد العزيز بن مروان. وفي هذه السنة غزا عبد العزيز بن الوليد الصائفة، وكان على ذلك الجيش مسلمة بن عبد الملك، وفيها عزل الوليد عمه محمد بن مروان عن الجزيرة وأرمينية واستعمل عليها أخاه مسلمة بن عبد الملك، فغزا مسلمة الترك من ناحية أذربيجان حتى بلغ البال، وفتح مدائن وحصوناً ونصب عليها المجانيق.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعينفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم ففتح حصوناً ثلاثة وجلا أهل سوسنة إلى بلاد الروم.
ذكر فتح الأندلسوفيها غزا طارق بن زياد مولى موسى بن نصير الأندلس في اثني عشر ألفاً، فلقي ملك الأندلس، واسمه اذرينوق، وكان من أهل أصبهان، وهم ملوك عجم الأندلس، فزحف له طارق بجميع من معه، وزحف الأذرينوق وفتح الأندلس سنة اثنتين وتسعين.
هذا جميعه ذكره أبو جعفر في فتح الأندلس، وبمثل ذلك الإقليم العظيم والفتح المبين لا يقتصر فيه على هذا القدر، وأنا أذكر فتحها على وجه أتم من هذا إن شاء الله تعالى من تصانيف أهلها إذ هم أعلم ببلادهم.
قالوا: أول من سكنها قوم يعرفون بالأندلش، بشين معجمه، فسمي البلد بهم، ثم عرب بعد ذلك بسين مهملة، والنصارى يسمون الأندلس اشبانية باسم رجل صلب فيها يقال له اشبانس، وقيل: باسم ملك كان بها في الزمان الأول اسمه إشبان بن طيطس، وهذا هو اسمها عند بطلميوس. وقيل: سميت بأندلس بن يافث بن نوح وهو أول من عمرها، قيل: أول من سكن الأندلس بعد الطوفان قوم يعرفون بالأندلس فعمروها وتداولوا ملكها دهراً طويلاً وكانوا مجوساً، ثم حبس الله عنهم المطر وتوالى عليهم القحط فهلك أكثرهم وفر منها من أطاق الفرار، فخلت الأندلس مائة سنة ثم ابتعث الله لعمارتها الأفارقة، فدخل إليها قوم منهم أجلاهم ملك إفريقية تخففاً منهم لقحط توالى على بلاده حتى كاد يفنى أهلها، فحملها في السفن مع أمير من عنده فأرسوا بجزيرة قاس، ورأوا الأندلس قد أخصبت بلادها وجرت أنهارها فسكنوها وعمروها ونصبوا لهم ملوكاً يضبطون أمرهم، وهم على دين من قبلهم، وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب من أرض إشبيلية بنوها وسكنوها وأقاموا مدة تزيد على مائة وخمسين سنة، ملك منهم فيها أحد عشر ملكاً.
ثم أرسل الله عليهم عجم رومة، وملكهم إشبان بن طيطس، فغزاهم ومزقهم وقتل فيهم وحاصرهم بطالقة وقد تحصنوا فيها فابتنى عليهم إشبانية، وهي إشبيلية، واتخذها درا مملكته، وكثرت جموعه وعتا وتجبر، وغزا بين المقدس فغنم ما فيه وقتل فيه مائة ألف، ونقل المرمر منه إلى إشبيلية وغيرها، وغنم أيضاً مائدة سليمان بن داود، عليه السلام، وهي التي غنمها طارق من طيطلة لما افتتحها، وغنم أيضاً قليلة الذهب والحجر الذي لقي بماردة.
وكان هذا إشبان قد وقف عليه الخضر وهو يحرث الأرض فقال له: يا إشبان سوف تحظى وتملك وتعلو، فإذا ملكت إيلياء فارفق بذرية الأنبياء. فقال: أتسخر مني؟ كيف ينال مثلي الملك؟ فقال: قد جعله فيك من جعل عصاك هذه كما ترى. فنظر إليه فإذا هي قد أورقت، فارتاع وذهب عنه الخضر، وقد وثق إشبان بقوله، فداخل الناس فارتقى حتى ملك ملكاً عظيماً، وكان ملكه عشرين سنة، ودام ملك الإشبانيين بعده إلى أن ملك منهم خمسة وخمسون ملكاً.
ثم دخل عليهم من عجم رومة أمة يدعون البشنوليات، وملكهم طويش بن نيطة، وذلك حين بعث الله المسيح فغلبوا عليها واسترلوا على ملكها، وكانت مدينة ماردة دار مملكتهم، وملك منهم سبعة وعشرون ملكاً.
ثم دخلت عليهم أمة القوط مع ملك لهم فغلبوا على الأندلس فاقتطعوها من يومئذٍ عن صاحب رومة، وكان ابتداء ظهورهم من ناحية إيطالية شرق الأندلس، فأغارت على بلاد مدونية من تلك الناحية، وذلك في أيام قليوذيوس قيصر، ثالث القياصرة، فخرج إليهم وهزمهم وقتل فيهم ولم يظهروا بعدها إلى أيام قسطنطين الأكبر وأعادوا الغارة، فسير إليهم جيشاً فلم يثبتوا له وانقطع خبرهم إلى ثلث دولة قيصر، فإنهم قدموا على أنفسهم أمير اسمه لذريق، وكان يعبد الأوثان، فسار إلى رومة ليحمل النصارى على السجود لأوثانه، فظهر منه سوء سيرته، فتخاذل أصحابه عنه ومالوا إلى أخيه وحاربوه، فاستعان بصاحب رومة فبعث إليه جيشاً، فهزم أخاه، ودان بدين النصارى، وكانت ولايته ثلاث عشرة سنة، ثم ولي بعده اقريط، وبعده املريق، وبعده وغديش، وكانوا قد عادوا إلى عبادة الأوثان، فجمع من أصحابه مائة ألف وسار إلى رومة، فسير إليه ملك الروم جيشاً فهزموه وقتلوه.
ثم بعده اطلوف ست سنين وخرج عن بلد إيطالية وأقام ببلد غاليس مجاوراً أقصى الأندلس، ثم انتقل منها إلى برشلونة.
ثم بعده أخوه ثلاث سنين ثم بعده والياً، ثم بوردزاريش ثلاثاً وثلاثين سنة، ثم ابنه طرشمند، ثم بعده أخوه لذريق ثلاث عشرة سنة، ثم بعده أوريق سبع عشرة سنة، ثم بعده الريق بطلوشة ثلاثاً وعشرين سنة، ثم عشليق، ثم امليق سنتين، ثم توذيوش سبع عشرة سنة وخمسة أشهر، ثم بعده ليوبا ثلاث أشهر، ثم بعده اثله خمس سنين، ثم بعده اطلنجة خمس عشرة سنة، ثم بعده ليوبا ثلاث أشهر، ثم بعده اثله خمس سنين، ثم بعده اطلنجة خمس عشرة سنة، ثم بعده طودتقليس سنة وثلاث أشهر، ثم بعده اثله خمس سنين، ثم بعده اطلنجة خمس عشرة سنة، ثم بعده ليوبا ثلاث سنين، ثم بعده أخوه لويلد، وهو أولمن اتخذ طليطلة دار ملك ونزلها ليكون متوسطاً لملكه ليحارب من خرج عن طاعته عن قريب، فلم يزل يحارب من خرج عن طاعته حتى احتوى على جميع الأندلس وبنى مدينة رقوبل وأتقنها وأكثر بساتينها، وهو على القرب من طليطلة، وسماها باسم ولده، وغزا بلاد البشقنس حتى أذلهم، وخطب إلى ملك الفرنج ابنته لولده ارمنجلد فزوجه وأسكنه إشبيلية، فحسنت له عصيان والده، ففعل، فسار إليه أبوه وحصرهما وضيق عليه وطال مقامه إلى أن أخذه عنوة وسجنه إلى أن مات.
ثم ملك بعد لويلد ابنه ركرد، وكان حسن السيرة، فجمع الأساقفة وغير سيرة أبيه وسلم البلاد إليهم، وكانوا نحو ثمانين أسقفاً، وكان تقياً عفيفاً قد لبس ثياب الرهبان، وهو الذي بنى الكنيسة المعروفة بالوزقة بإزاء مدينة وادي آش. ثم بعده ابنه ليوبا فسار كسيرة أبيه، فاغتاله رجل من القوط يقال له بتريق فقتله، وملك بعده بتريق رضا أهل الأندلس، وكان مجرماً طاغياً فاسقاً، فثار عليه رجل من خاصته فقتله.
ثم ملك من بعده غندمار سنتين، ثم ملك بعده سيسيفوط، وكانت ولايته تسع سنين، وكان حسن السيرة، ثم بعده ابنه ركريد، وكان صغيراً عمره ثلاثة أشهر، ومات، ثم ملك شنتله، وكان ملكه عند البعث، وكان مشكوراً، ثم بعده سشنند خمس سنين، ثم بعده خنتلة ستة أعوام، ثم بعده خندس أربعة أعوام، ثم بعده بنبان ثمانية أعوام، ثم بعده أروى سبع سنين.
وكان في دولته قحط شديد حتى كادت بلاد الأندلس تخرب لشدة الجوع.
ثم بعده ابقه خمس عشرة سنة، وكان جائراً مذموماً، ثم ملك بعده ابنه غيطشه، وكانت ولايته سنة سبع وسبعين للهجرة، وكان حسن السيرة لين العريكة وأطلق كل محبوس كان في سجن أبيه وأدى الأموال إلى أربابها.
ثم توفي وخلف ولدين فلم يرض بهما أهل الأندلس وتراضوا برجل يقال له رذريق، وكان شجاعاً وليس من بيت الملك، وكانت عادة ملوك الأندلس إنهم يبعثون أولادهم الذكور والإناث إلى مدينة طليطلة يكونون في خدمة الملك لا يخدمه غيرهم يتأدبون بذلك، فإذا بلغوا الحلم أنكح بعضهم بعضاً وتولى تجهيزهم، فلما ولي رذريق أرسل إليه يوليان، وهو صاحب الجزيرة الخضراء وسبتة وغيرهما، ابنةً له، فاستحسنها رذريق وافتضها، فكتبت إلى أبيها، فأغضبه ذلك، فكتب إلى موسى بن نصير عامل الوليد بن عبد الملك على إفريقية بالطاعة واستدعاه إليه، فسار إليه، فأدخله يوليان مدائنه وأخذ عليه العهود له ولأصحابه بما يرض به، ثم وصف له الأندلس ودعاه إليها، وذلك آخر سنة تسعين.
فكتب موسى إلى الوليد بما فتح الله عليه وما دعاه إليه يوليان. فكتب إليه الوليد: خضها بالسرايا ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال. فكتب إليه موسى: إنه ليس ببحر متسع وإنما هو خليج يبين ما وراءه. فكتب إليه الوليد أن اختبرها بالسرايا وإن كان الأمر على ما حكيت.
فبعث رجلاً من مواليه يقال له طريف في أربعمائة رجل ومعهم مائة فرس، فسار في أربع سفائن فخرج في جزيرة بالأندلس فسميت جزيرة طريف لنزوله فيها، ثم أغار على الجزيرة الخضراء فأصاب غنيمةً كثيرة ورجع سالماً في رمضان سنة إحدى وتسعين. فلما رأى الناس ذلك تسرعوا إلى الغزو.
ثم إن موسى دعا مولى له كان على مقدمات جيوشه يقال له طارق بن زياد فبعثه في سبعة آلاف من المسلمين أكثرهم البربر والموالي وأقلهم العرب، فساروا في البحر، وقصد إلى جبل منيف وهو متصل بالبر فنزله، فسمي الجبل جبل طارق إلى اليوم، ولما ملك عبد المؤمن البلاد أمر ببناء مدينة على هذا الجبل وسماه جبل الفتح، فلم يثبت له هذا الاسم وجرت الألسنة على الأول.
وكان حلول طارق فيه في رجب سنة اثنتين وتسعين من الهجرة. ولما ركب طارق البحر غلبته عينه فرأى النبي ومعه المهاجرون والأنصار قد تقلدوا السيوف ونكبوا القسي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا طارق تقدم لشأنك. وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد، فنظر طارق فرأى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه قد دخلوا الأنلدلس أمامه، فاستيقظ من نومه مستبشراً وبشر أصحابه وقويت نفسه ولم يشك في الظفر.
فلما تكامل أصحاب طارق بالجبل نزل إلى الصحراء وفتح الجزيرة الخضراء فأصاب بها عجوزاً، فقالت له: إني كان لي زوج وكان عالماً بالحوادث وكان يحدثهم عن أمير يدخل بلدهم فيغلب عليه، ووصف من نعته أنه ضخم الهامة، وان في كتفه اليسرى شامة عليها شعر؛ فكشف طارق ثوبه فإذا الشامة كما ذكرت، فاستبشر طارق أيضاً هو ومن معه. ونزل من الجبل إلى الصحراء وافتتح الجزيرة الخضراء وغيرها وفارق الحصن الذي في الجبل.
ولما بلغ ذريق غزو طارق بلاده عظم ذلك عليه، وكان غائباً في غزاته، فرجع منها طارق قد دخل بلاده فجمع له جمعاً يقال بلغ مائة ألف، فلما بلغ طارقاً الخبر كتب إلى موسى يستمده ويخبره بما فتح وأنه زحف إليه ملك الأندلس بما لا طاقة له به. فبعث إليه بخمسة آلاف، فتكامل المسلمون اثني عسر ألفاً ومعهم يوليان يدلهم على عورة البلاد ويتجسس لهم الأخبار. فأتاهم رذريق في جنده، فالتقوا على نهر لكة من أعمال شذونة لليلتين بقيتا من رمضان سنة اثنتين وتسعين، واتصلت الحرب ثمانية أيام، وكان على ميمنته وميسرته ولدا الملك الذي كان قبله وغيرهما من أبناء الملوك، وافتقوا على الهزيمة بغضاً لرذريق، وقالوا: إن المسلمين إذا امتلأت أيديهم من الغنيمة عادوا إلى بلادهم وبقي الملك لنا. فانهزموا وهزم الله رذريق ومن معه، وغرق رذريق في النهر، وسار طارق إلى مدينة إستجة متبعاً لهم، فلقيه أهلها ومعهم من المنهزمين خلق كثير، فقاتلوه قتالاً شديداً، ثم انهزم أهل الأندلس ولم يلق المسلمون بعدها حرباً مثلها. ونزل طارق على عين بينها وبين مدينة إسجة أربعة أميال فسميت عين طارق إلى الآن.
ولما سمعت القوط بهاتين الهزيمتين قذف الله في قلوبهم الرعب، وكانوا يظنون أنه يفعل فعل طريف، فهربوا إلى طليطلة، وكان طريف قد أوهمهم أنه يأكلهم هو ومن معه. فلما دخلوا لطيلطلة وأخلوا مدائن الأندلس قال له يوليان: قد فرغت من الأندلس ففرق جيوشك وسر أنت إلى طيطلة. ففرق جيوشه من مدينة إستجة وبعث جيشاً إلى قرطبة، وجيشاً إلى غرناطة، وجيشاً إلى مالقة، وجيشاً إلى تدمير، وسار إلى قرطبة فإنهم دلهم راعٍ على ثغرة في سورها فدخلوا منها البلد وملكوه.
وأما الذين قصدوا تدمير فلقيهم صاحبها، واسمه تدمير وبه سميت، وكان اسمها أرويولة، وكان معه جيش كثيف، فقاتلهم قتالاً شديداً ثم انهزم فقتل من أصحابه خلق كثير، فأمر تدمير النساء فلبسن السلاح ثم صالح المسلمين عليها وفتح سائر الجيوش ما قصدوا إليه من البلاد.
وأما طارق فلما رأى طليطلة فازغة ضم إليها اليهود وترك معهم رجالاً من أصحابه وسار هو إلى وادي الحجارة فقطع الجبل من فج فيه فسمي بفج طارق إلى اليوم. وانتهى إلى مدينة خلف الجبل تسمى مدينة المائدة، وفيها وجد مائدة سليمان بن داود، عليه السلام، وهي من زبرجد خضر حافاتها وأرجلها منها مكللة باللؤلؤ والمرجان والياقوت وغير ذلك، وكان لها ثلاثمائة وستون رجلاً. ثم مضى إلى مدينة ماية فغنم منها ورجع إلى طليطلة في سنة ثلاث وتسعين.
وقيل: اقتحم أرض جليقية فخرقها حتى انتهى إلى مدينة استرقة وانصرف إلى طليطلة ووافته جيوشه التي وجهها من إستجة بعد فراغهم من فتح تلك المدن التي سيرهم إليها.
ودخل موسى بن نصير الأندلس في رمضان سنة ثلاث وتسعين في جمع كثير، وكان قد بلغه ما صنعه طارق فحسده، فلما عبر إلى الأندلس ونزل الجزيرة الخضراء قيل له: تسلك طريق طارق، فأبى، فقال له الأدلاء: نحن ندلك على طريق اشرفن طريقه ومدائن لم تفتح بعد، ووعده يوليان بفتح عظيم، فسر بذلك، وكان قد غمه.
فساروا به إلى مدينة ابن السليم فافتتحها عنوة، ثم سار إلى مدينة قرمونة، وهي أحصن مدن الأندلس، فقدم إليها يوليان وخاصته، فأتوهم على الحال المنهزمين معهم السلاح فأدخلوهم مدينتهم، فأرسل موسى إليهم الخيل ففتحوها لهم ليلاً، فدخلها المسلمون وملكوها، ثم سار موسى إلى إشبيلية، وهي من أعظم مدائن الأندلس بنياناً وأعزها آثاراً، فحصرها أشهراً وفتحها وهرب من بها، فأنزلها موسى اليهود وسار إلى مدينة ماردة فحصرها، وقد كان أهلها خرجوا إليه فقاتلوه قتالاً شديداً، فكمن لهم موسى ليلاً في مقاطع الصخر، فلم يرهم الكفار، فلما أصبحوا زحف إليهم فخرجوا إلى المسلمين على عادتهم فخرجوا عليهم من الكمين وأحدقوا بهم وحالوا بينهم وبين البلد وقتلوهم قتلاً ذريعاً ونجا من نجا منهم، فدخل المدينة، وكانت حصينة، فحصرهم بها شهراً، وقاتلهم، وزحف إليهم بدبابة عملها ونقبوا سورها، فخرج أهلها على المسلمين، فقتلوهم عند البرج، فسمي برج الشهداء إلى اليوم، ثم افتتحها آخر رمضان سنة أربع وتسعين يوم الفطر صلحاً على جميع أموال القتلى يوم الكمين وأموال الهاربين إلى جليقية وأموال الكنائس وحيلها للمسلمين.
ثم إن أهل إشبيلية اجتمعوا وقصدوها فقتلوا من بها من المسلمين، فسير موسى إليها ابنه عبد العزيز بجيش فحصرها وملكها عنوةً وقتل من بها من أهلها وسار عنها إلى لبلة وباجة فملكها وعاد إلى إشبيلية.
وسار موسى من مدينة ماردة في شوان يريد طليطلة، فخرج إليه طارق فلقيه، فلما أبصره نزل إليه فضربه موسى بالسوط على رأسه ووبخه على ما كان من خلافه ثم سار به إلى مدينة طليطلة، فطلب منه ما غنم والمائدة أيضاً، فأتاه بها وقد انتزع رجلاً من أرجلها، فسأله عنها فقال: لا علم لي، كذلك وجدتها، فعمل عوضها من ذهب.
وسار موسى إلى سرقسطة ومدائنها فافتتحها وأوغل في بلاد الفرنج فانتهى إلى مفازة كبيرة وأرض سهلة ذات آثار، فأصاب فيها صنماً قائماً فيه مكتوب بالنقر: يا بني إسماعيل هاهنا منتهاكم فارجعوا، وإن سألتم إلى ماذا ترجعون أخبرتكم أنكم ترجعون إلى الإختلاف فيما بينكم حتى يضرب بعضكم أعناق بعض، وقد فعلتم.
فرجع ووافاه رسول الوليد في أثناء ذلك يأمره بالخروج عن الأندلس والقفول إليه، فساءه ذلك ومطل الرسول وهو يقصد بلاد العدو في غير ناحية الصنم يقتل ويسبي ويهدم الكنائس ويكسر النواقيس حتى بلغ صخرة بلاي على البحر الأخضر، وهو في قوة وظهور، فقدم عليه رسول آخر للوليد يستحثه وأجذ بعنان بغلته وأخرجه، وكان موافاة الرسول بمدينة لك بجليقية، وخرج على الفج المعروف بفج موسى، ووافاه طارق من الثغر الأعلى معه ومضيا جميعاً.
واستخلف موسى على الأندلس ابنه عبد العزيز بن موسى، فلما عبر البحر إلى سبتة استخلف عليها وعلى طنجة وما والاهما ابنه عبد الملك، واستخلف على إفريقية وأعمالها ابنه الكبير عبد الله، وسار إلى الشام وحمل الأموال التي غنمت من الأندلس والذخائر والمائدة ومعه ثلاثون ألف بكر من بنات ملوك القوط وأعيانهم ومن نفيس الجوهر والأمتعة ما لا يحصى، فورد الشام، وقد مات الوليد بن عبد الملك، واستخلف سليمان بن عبد الملك، وكان منحرفاً عن موسى بن نصير، فعزله عن جميع أعماله وأقصاه وحبسه وأغرمه حتى احتاج أن يسأل العرب في معونته.
وقيل: إنه قدم الشام والوليد حي، وكان قد كتب إليه وادعى أنه هو الذي فتح الأندلس وأخبره خبر المائدة، فلما حضر عنده عرض عليه ما معه وعرض المائدة، ومعه طارق، فقال طارق: أنا غنمتها. فكذبه موسى. فقال طارق للوليد: سله عن رجلها المعدومة. فسأله عنها فلم يكن عنده علم، فأظهرها طارق وذكر أنه أخفاها لهذا السبب. فعلم الوليد صدق طارق وإنما فعل هذا لأنه كان حبسه وضربه حتى أرسل الوليد فأخرجه، وقيل لم يحبسه.
قالوا: ولما دخلت الروم بلاد الأندلس كان في مملكتهم بيت إذا ولي ملك منهم أقفل عليه قفلاً، فلما ملكت القوط فعلوا كفعلهم، فلما ملك رذريق أراد فتح الأقفال فنهاه أكابر أهل البلاد عن ذلك فلم يقبل منهم وفتح الأقفال فرأى في البيت صور العرب وعليهم العمائم الحمر على خيول شهب، وفيه كتاب: إذا فتح هذا البيت دخل هؤلاء القوم هذا البلد. ففتحت الأندلس تلك السنة.
فهذا القدر كاف في فتح الأندلس، ونذكر باقي أخبار الأندلس عنه أوقات حدوثها على ما شرطنا إن شاء الله تعالى.
ذكر غزوة جزيرة سردانيةهذه الجزيرة في بحر الروم، وهي من أكبر الجزائر ما عدا جزيرة صقلية وأقريطش، وهي كثيرة الفواكه، ولما فتح موسى بلاد الأندلس سير طائفة من عسكره في البحر إلى هذه الجزيرة سنة اثنتين وتسعين فدخلوها، وعمد النصارى إلى ما لهم من آنية ذهب وفضة فألقوا الجميع في الميناء الذي لهم وجعلوا أموالهم في سقف بنوه للبيعة العظمى التي لهم تحت السقف الأول، وغنم المسلمون فيها ما لا يحد ولا يوصف، وأكثروا الغلول. فاتفق أن رجلاً من المسلمين اغتسل في الميناء فعلقت رجله في شيء فأخرجه فإذا صفحة من فضة، وفإذا المسلمون جميع ما فيه، ثم دخل رجل من المسلمين إلى تلك الكنيسة فنظر إلى حمام فرماه بسهم فأخطأ ووقع في السقف وانكسر لوح فنزل منه شيء من الدنانير وأخذوا الجميع، وازداد المسلمون غلولاً، فكان بعضهم يذبح الهرة ويرمي ما في جوفها فيملأه دنانير ويخيط عليها ويلقيها في الطريق، فإذا خرج أخذها، وكان يضع قائم سيفه على الجفن ويملأه ذهباً.
فلما ركبوا في البحر سمعوا قائلاً يقول: اللهم غرقهم، فغرقوا عن آخرهم، فوجدوا أكثر الغرقى والدنانير على أوساطهم.
وفي سنة خمس وثلاثين ومائة غزاها عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة الفهري فقتل من بها قتلاً ذريعاً ثم صالحوه على الجزية، فأخذت منهم وبقيت ولم يغزها بعده أحد، فعمرها الروم.
فلما كانت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة أخرج إليها المنصور بن القائم العلوي، صاحب إفريقية، أسطولاً من المهدية فمروا بجنوة ففتحوا المدينة وأوقعوا بأهل سردانية وسبوا فيها وأحرقوا مراكب كثيرة وأخربوا جنوة وغنموا ما فيها.
وفي سنة ست وأربعمائة غزاها مجاهد العامري من دانية، وكان صاحبها في البحر في مائة وعشرين مركباً، ففتحها وقتل فأكثر وسبى النساء والذرية، فسمع بذلك ملوك الروم فجمعوا إليه وساروا إليه من البر الكبير في جمع عظيم فاقتتلوا، وانهزم المسلمون وأخرجوا من جزيرة سردانية، وأخذت بعض مراكبهم وأسر أخو مجاه وابنه علي بن مجاهد، ورجع بمن بقي إلى دانية ولم تغز بعد ذلك.
وإنما ذكرنا جميع أخبارها هاهنا لقتلتها، وإذا تفرقت لم تعرف كما يجب.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم ففتح حصوناً ثلاثة وجلا أهل سوسنة إلى بلاد الروم. وفي هذه السنة غزا قتيبة سجستان في قول بعضهم، وأراد قصد رتبيل الأعظم، فلما نزل قتيبة سجستان أرسل رتبيل إليه رسلاً بالصلح، فقبل ذلك وانصرف واستعمل عليهم عبد ربه بن عبد الله الليثي.
وحج بالناس هذه السنة عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة؛ وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم.
وفيها مات مالك بن أوس بن الحدثان البصري، من ولد نصر بن معاوية، بالمدينة، وله أربع وتسعون سنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين
ذكر صلح خوارز مشاه وفتح خام جردوفي هذه السنة صالح قتيبة خوارز مشاه.
وكان سبب ذلك أن ملك خوارزم كان ضعيفاً فغلبه أخوه خرزاد على أمره، وكان أصغر منه، وكان إذا بلغه أن عند أحد ممن هو منقطع إلى الملك جارية أو مالاً أو دابة أو بنتاً أو أختاً أو امرأة جميلة أرسل إليه وأخذه منه، وكان لا يمتنع عليه أحد ولا الملك، فإذا قيل للملك قال: لا أوى به وهو مغتاظ عليه.
فلما طال ذلك عليه كتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه ليسلمها إليه، واشترط عليه أن يدفع إليه أخاه وكل من يضاده ليحكم فيهم بما يرى، ولم يطلع أحد من مرازبته على ذلك، فأجابه قتيبة إلى ما طلب وتجهز للغزو، وأظهر قتيبة أنه يريد الصغد، وسار من مرو، وجمع خوارز مشاه أجناده ودهاقنته، فقال: إن قتيبة يريد الصغد وليس يغازيكم، فهلموا نتنعم في ربيعنا هذا.
فأقبلوا على الشرب والتنعم، فلم يشعروا حتى نزل قتيبة في هزار سب، فقال خوارز مشاه لأصحابه: ما ترون؟ قالوا: نرى أن نقاتله. قال: لكني لا أرى ذلك لأنه قد عجز عنه من هو أقوى منا وأشد شوكة، ولكن أصرفه بشيء أؤديه إليه. فأجابوه إلى ذلك.
فسار خوارز مشاه فنزل بمدينة الفيل من وراء النهر، وهي أحصن بلاده، وقتيبة لم يعبر النهر، فأرسل إليه خوارز مشاه فصالحه على عشرة آلاف رأس وعين ومتاع وعلى أن يعينه على خام جرد، فقبل قتيبة ذلك.
وقيل: صالحه على مائة ألف رأس، ثم بعث قتيبة أخاه عبد الرحمن إلى خام جرد، وكان يغازي خوارز مشاه، فقاتله فقتله عبد الرحمن وغلب على أرضه، وقدم منهم بأربعة آلاف أسير، فقتلهم قتيبة، وسلم قتيبة إلى خوارز مشاه أخاه ومن كان يخالفه، فقتلهم ودفع أموالهم إلى قتيبة ودخل قتيبة إلى فيل، فقبل بن خوارزم شاه ما صالحه عليه ثم رجع إلى هزار سب.
ذكر فتح سمرقندفلما قبض قتيبة صلح خوارز مشاه قال إليه المجشر بن مزاحم السلمي. فقال له سراً: إن أردت الصغد يوماً من الدهر فالآن فإنهم آمنون من أن يأتيهم عامل هذا، وإنما بينك وبينهم عشرة أيام. قال: أشار عليك بهذا أحد؟ قال: لا. قال: فسمعه منك أحد؟ قال: لا. قال: والله لئن تكلم به أحد لأضربن عنقك.
فلما كان الغد أمر أخاه عبد الرحمن فسار في الفرسان والرماة وقدم الأثقال إلى مرو فسار يومه، فلما أمسى كتب إليه قتيبة: إذا أصبحت فوجه الأثقال إلى مرو وسر بالفرسان والرماة نحو الصغد واكتم الأخبار، فإني في الأثر. ففعل عبد الرحمن ما أمره، وخطب قتيبة الناس وقال لهم: إن الصغد شاغره برجلها، وقد نقضوا العهد الذي بيننا وصنعوا ما بلغكم، وإني أرجو أن يكون خوارزم والصغد كقريظة والنضير. ثم سار فأتى الصغد فبلغها بعد عبد الرحمن بثلاث أو أربع، وقدم معه أهل خوارزم وبخارى فقاتلوه شهراً من وجه واحد وهم محصورون.
وخاف أهل الصغد طوال الحصار فكتبوا إلى ملك الشاش وخاقان واخشاد فرغانة: إن العرب إن ظفروا بنا أتوكم بمثل ما أتونا به، فانظروا لأنفسكم ومعهما كان عندك من قوة فابذلوها. فنظروا وقالوا: إنما نؤتى من سفلتنا فإنهم لا يجدون كوجدنا. فانتخبوا من أولاد الملوك وأهل النجدة من أبناء المرازبة والأساورة والأبطال وأمروهم أن يأتوا عسكر قتيبة فيبيتوه فإنه مشغول عنه بحصار سمر قند، وولوا عليه ابناً لخاقان، فساروا.
وبلغ قتيبة الخبر فانتخب من عسكره أربعمائة، وقيل: ستمائة من أهل النجدة والشجاعة وأعلمهم الخبر وأمرهم بالمسير إلى عدوهم، فساروا وعليهم صالح بن مسلم، فنزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم، فجعل صالح له كمينين، فلما مضى نصف الليل جاءهم عدوهم، فلما رأوا صالحاً حملوا عليه، فلما اقتتلوا شد الكمينان عن يمين وشمال فلم ير قوم كانوا أشد من أولئك. قال بعضهم: إنا لنقاتلهم إذ رأيت تحت الليل قتيبة وقد جاء سراً فضربت ضربةً أعجبتني. فقلت: كيف نرى بأمي وأبي؟ قال: اسكت فض الله فاك. قال: فقتلناهم فلم يفلت منهم إلا الشريد، وحوينا أسلابهم وسلاحهم فاحتززنا رؤوسهم وأسرنا منهم أسرى، فسألناهم عمن قتلنا فقالوا: ما قتلتم إلا ابن ملك أو عظيماً أو بطلاً، كان الرجل يعد بمائة رجل، وكتبنا أسماءهم على آذانهم ثم دخلنا العسكر حين أصبحنا، فلم يأت أحد بمثل ما جئنا به من القتلى والأسرى والخيل ومناطق الذهب والسلاح، قال: وأكرمني قتيبة وأكرم معي جماعة وظننت أنه رأى منهم مثل الذي رأى مني.
ولما رأى الصغد ذلك انكسروا، ونصب قتيبة عليهم المجانيق فرماهم وثلم ثلمةً، فقام عليها رجل شتم قتيبة، فرماه بعض الرماة فقتله، فأعطاه قتيبة عشرة آلاف. وسمع بعض المسلمين قتيبة وهو يقول كأنما يناجي نفسه: حتى متى يا سمرقند يعشش فيك الشيطان؟ أما والله لئن أصبحت لأحاولن من أهلك أقصى غاية. فانصرف ذلك الرجل فقال لأصحابه: كم من نفس تموت غداً! وأخبر الخبر. فلما أصبح قتيبة أمر الناس بالجد في القتال، فقاتلوهم واشتد القتال، وأمرهم قتيبة أن يبلغوا ثلمة المدينة، فجعلوا الترسة على وجوههم وحملوا فبلغوها ووقفوا عليها، ورماهم الصغد بالنشاب فلم يبرحوا. فأرسل الصغد إلى قتيبة فقالوا له: انصرف عنا اليوم حتى نصالحك غداً. فقال قتيبة: لا نصالحهم إلا ورجالنا على الثملة، وقيل: بل قال قتيبة: جزع العبيد، انصرفوا على ظفركم، فانصرفوا فصالحهم من الغد على ألفي ألف ومائتي ألف مثقال في كل عام، وأن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف فارس، وأن يخلوا المدينة لقتيبة فلا يكون لهم فيها مقاتل فيبني فيها مسجداً ويدخل ويصلي ويخطب ويتغدى ويخرج.
فلما تم الصلح وأخلوا المدينة وبنوا المجد دخلها قتيبة في أربعة آلاف انتخبهم، فدخل المسجد فصلى فيه وخطب وأكل طعاماً ثم أرسل إلى الصغد: من أراد منكم أن يأخذ متاعه فليأخذ فإني لست خارجاً منها ولست آخذ منكم إلا ما صالحتكم عليه، غير أن الجند يقيمون فها.
وقيل: إنه شرط عليهم في الصلح مائة ألف فارس وبيوت النيران وحلية الأصنام، فقبض ذلك، وأتي بالأصنام فكانت كالقصر العظيم وأخذ ما عليها وأمر بها فأحرقت. فجاءه غوزك فقال: إن شكرك علي واجب، لا تتعرض لهذه الأصنام فإن منها أصناماً من أحرقها هلك. فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي، فدعا بالنار فكبر ثم أشعلها فاحترقت، فوجدوا من بقايا مسامير الذهب خمسين ألف مثقال.
وأصاب بالصغد جارية من ولد يزدجرد، فأرسلها إلى الحجاج، فأرسلها الحجاج إلى الوليد، فولدت له يزيد بن الوليد.
وأمر غوزك بالانتقال عنها فانتقل.
وقيل: إن أهل سمرقند خرجوا على المسلمين وهم يقاتلونهم يوم فتحها، وقد أمر قتيبة يومئذٍ بسرير فأبرز وقعد عليه، فطاعنوهم حتى جازوا قتيبة وإنه لمحتبٍ بسيفه ما حل حبوته، وانطوت مجنبتا المسلمين على الذين هزموا القلب فهزموهم حتى ردوهم إلى عسكرهم، وقتل من المشركين عدد كثير، ودخلوا المدينة فصالهم، وصنع غوزك طعاماً ودعا قتيبة، فأتاه في عدة من أصحابه، فلما بعد استوهب منه سمرقند وقال للملك: انتقل عنها، فلم نجد بداً من طاعته، ولا قتيبة قوله تعالى: " وأنه أهلك عاداً الأولى وثمود فما أبقى " النجم:50 - 51.
وحكي عن الذي أرسله قتيبة إلى الحجاج بفتح سمرقند قال: فأرسلني الحجاج إلى الوليد، فقدمت دمشق قبل طلوع الفجر فدخلت المسجد فإذا إلى جنبي رجل ضرير، فسألني: من أين أنت؟ فقلت: من خراسان، وأخبرت خبر سمرقند. فقال: والذي بعث محمداً بالحق ما افتتحتموها إلا غدراً! وإنكم يا أهل خراسان الذين تسلبون بني أمية ملكهم ثم تنقضون دمشق حجراً حجراً. فلما فتح قتيبة سمرقند قيل: إن هذا لأعدى العيرين، لأنه فتح سمرقند وخوارزم في عام واحد، وذلك أن الفارس إذا صرع في طلق واحد عيرين قيل: عادى عيرين فلما فتحها قتيبة دعا نهار بن توسعة فقال: يا نهار أين قولك.
ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ... ومات الندى والجود بعد المهلب
أقاما بمرو الروذ رهن ضريحه ... وقد غيبا عن كل شرقٍ ومغرب
أفغزو هذا؟ قال: لا، هذا أحسن، وأنا الذي أقول:
وما كان مذ كنا ولا كان قبلنا ... ومات الندى والجود بعد المهلب
أعم لأهل الشرك قتلاً بسيفه ... وأكثر فينا مقسماً بعد مقسم
قال: وقال الشعراء في ذلك، فقال الكميت من قصيدة:
كانت سمرقند أحقاباً يمانيةً ... فاليوم تنسبها قيسيةً مضر
وقال كعب الأشقري، وقيل رجل من جعفى:
كل يوم يحوي قتيبة نهباً ... ويزيد الأموال مالاً جديدا
باهلي قد ألبس التاج حتى ... شاب منه مفارق كن سودا
دوخ الصغد بالكتائب حتى ... ترك الصغد بالعراء قعودا
فوليد يبكي لفقد أبيه ... وأب موجع يبكي الوليدا
ثم رجع قتيبة إلى مرو، وكان أهل خراسان يقولون: إن قتيبة غدر بأهل سمرقند فملكها غدراً.
وكان عمله على خوارزم إياس بن عبد الله على حربها، وكان ضعيفاً، وكان على خراجها عبيد الله بن أبي عبيد الله مولى مسلم.فاستضعف أهل خوارزم إياساً، فجمعوا له، فكتب عبيد الله إلى قتيبة، فبعث قتيبة أخاه عبد الله عاملاً وأمره أن يضرب إياساً وحيان النبطي مائةً مائةً ويحلقهما. فلما قرب عبد الله من خوارزم أرسل إلى إياس فأنذره، فتنحى، وقدم عبد الله وأخذ حيان فضربه وحلقه. ثم وجه قتيبة الجنود إلى خوارزم مع المغيرة بن عبد الله، فبلغها ذلك، فلما قدم المغيرة اعتزل أبناء الذين قتلهم خوارزمشاه وقالوا: لا نعينك، فهرب إلى بلاد الترك، وقدم المغيرة فقتل وسبى، فصالحه الباقون على الجزية، وقدم على قتيبة فاستعمله على نيسابور.
ذكر فتح طليطلة من الأندلسقال أبو جعفر: وفي هذه السنة غضب موسى بن نصير على مولاه طارق فسار إليه في رجب منها، واستخلف على إفريقية ابنه عبد الله بن موسى، وعبر موسى إلى طارق في عشرة آلاف، فتلقاه وترضاه، فرضي عنه وقبل عذره وسيره إلى طليطلة، وهي من عظام بلاد الأندلس، وهي من قرطبة على عشرين يوماً، ففتحها وأصاب فها مائدة سليمان بن داود، عليه السلام، وما فيها من الذهب والجوهر، والله أعلم به.
قلت: لم يزد على هذا، وقد ذكرت في سنة اثنتين وتسعين من فتح الأندلس ودخول موسى بن نصير إلى طارق ما فيه كفاية فلا حاجة إلى إعادته؛ إلا أن أبا جعفر قد ذكر أن موسى هو الذي سير طارقاً وهو بالأندلس ففتح مدينة طليطلة، والذي ذكره أهل الأندلس في تواريخهم ما تقدم ذكره.
ذكر عزل عمر بن عبد العزيز عن الحجازقيل: وفي هذه السنة عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن الحجاز والمدينة.
وكان سبب ذلك أن عمر كتب إلى الوليد يخبره بعسف الحجاج أهل العراق واعتدائه عليهم وظلمه لهم بغير حق، فبلغ ذلك الحجاج فكتب إلى الوليد: إن من عندي من المراق وأهل الشقاق قد جلوا عن العراق ولحقوا بالمدينة ومكة، وإن ذلك وهن. فكتب إليه الوليد يستشيره فيمن يوليه المدينة ومكة، فأشار عليه بخالد بن بد الله وعثمان بن حيان، فولى خالداً مكة، وعثمان المدينة، وعزل عمر عنهما.
فلما خرج عمر من المدينة قال: إني أخاف أن أكون ممن نفته المدينة، يعني بذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : تنفي خبثها.
وكان عزله في شعبان؛ ولما قدم خالد مكة أخرج من بها من أهل العراق كرهاً، وتهدد من أنزل عراقياً أو أجره داراً، واشتد على أهل المدينة وعسفهم وجار فيهم ومنعهم من إنزال عراقي، وكانوا أيام عمر بن عبد لعزيز كل من خاف الحجاج لجأ إلى مكة والمدينة.
وقيل: إنما استعمل على المدينة عثمان بن حيان، وقد تقدم سنة إحدى وتسعين ولاية خالد مكة في قول بعضهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا العباس بن الوليد الروم ففتح سبسطية والمرزبانين وطرسوس. وفيها غزا مروان بن الوليد فبلغ خنجرة. وفيها غزا مسلمة الروم أيضاً ففتح ماسيسة وحصن الحديد وغزالة من ناحية ملطية. وفيها أجدب أهل إفريقية فاستسقى موسى بن نصير فسقوا. وفيها كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز قبل أن يعزله يأمره بضرب خبيب بن عبد الله بن الزبير ويصب على رأسه ماءً بارداً، فضربه خمسين سوطاً وصب عليه ماءً بارداً في يوم شاتٍ ووقفه على باب المسجد فمات من يومه.
خبيب بضم الخاء المعجمة، وبائين موحدتين بينهما ياء تحتها نقطتان.
وحج بالناس هذه السنة عبد العزيز بن الوليد. وكان على الأمصار من تقدم ذكرهم إلا المدينة فإن عاملها عثمان بن حيان قدمها في شوال لليلتين بقيتا منه، وقد تقدم ذكر ولاية خالد بن عبد الله مكة في سنة تسع وثمانين، وفي سنة إحدى وتسعين قد ذكرنا أنه وليها هذه السنة.
وفيها مات أبو الشعثاء جابر بن زبد. وألو العالية البراء، واسمه زيدا بن فيروز، وكان مولى لأعرابية من بني رياح، وليس بأبي العالية الرياحي، ذاك كان موته سنة تسعين. وفيها مات بلال بن أبي الدرداء الأنصاري قاضي دمشق.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين
ذكر قتل سعيد بن جبيرقيل: وفي هذه السنة قتل سعيد بن جبير.
وكان سبب قتله خروجه مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وكان الحجاج قد جعله على عطاء الجند حين وجه عبد الرحمن إلى رتبيل لقتاله، فلما خلع عبد الرحمن الحجاج كان سعيد فيمن خلع، فلما هزم عبد الرحمن ودخل بلاد رتبيل هرب سعيد إلى أصبهان، فكتب الحجاج إلى عامل بأخذ سع، فخرج العامل من ذلك. فأرسل إلى سعيد يعرفه ذلك ويأمره بمفارقته، فسار عنه فأتى أذربيجان فطال عليه القيام فاغتم بها، فخرج إلى مكة فكان بها هو وأناس أمثاله يستخفون فلا يخبرون أحداً أسماءهم.
فلما ولي خالد بن عبد الله مكة قيل لسعيد: إنه رجل سوء فلو سرت عن مكة. فقال والله لقد فررت حتى استحييت من الله وسيجيئني ما كتب الله لي. فلما قدم خالد مكة كتب إليه الوليد بحمل أهل العراق إلى الحجاج، فاخذ سعيد بن جبير ومجاهداً وطلق بن حبيب فأرسلهم إليه، فمات طلق بالطريق وحبس مجاهد حتى مات الحجاج.
وكان سيرهم مع حرسين، فانطلق أحدهما لحاجة وبقي الآخر، فقال لسعيد، وقد استيقظ من نومه ليلاً: يا سعيد إني أبرأ إلى الله من دمك، إني رأيت في منامي فقيل لي: ويلك! تبرأ من دم سعيد بن جبير! فاذهب حيث شئت فإني لا أطلبك. فأبى سعيد، فرأى ذلك الحرس مثل تلك الرؤيا ثلاثاً ويأذن لسعيد في الذهاب وهو لا يفعل.
فقدموا به الكوفة فانزل في داره، وأتاه قراء الكوفة، فجعل يحدثهم وهو يضحك وبنية له في حجره، فلما نظرت إلى القيد في رجله بكت، ثم أدخلوه على الحجاج، فلما أتي به قال: لعن الله ابن النصرانية! يعني خالداً، وكان هو أرسله، أما كنت أعرف مكانه؟ بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكة. ثم أقبل عليه فقال: يا سعيد ألم أشركك في إمامتي؟ ألم أفعل؟ ألم أستعملك؟ قال: بلى. قال: فما أخرجك علي؟ قال: إنما أنا امرؤ من المسلمين يخطئ مرة ويصيب مرة. فطابت نفس الحجاج قم عاوده في شيء، فقال: إنما كانت بيعة في عنقي؛ فغضب الحجاج وانتفخ وقال: يا سعيد ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير وأخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: بلى. قال: فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين وتوفي بواحدة للحائك ابن الحائك؛ والله لأقتلنك قال: إني إذاً لسعد كما سمتني أمي. فأمر به فضربت رقبته، فبدر رأسه عليه كمة بيضاء لاطية، فلما سقط رأسه هلل ثلاثاً، افصح بمرة ولم يفصح بمرتين.
فلما قتل التبس عقل الحجاج فجعل يقول: قيودنا قيودنا! فظنوا أنه يرد القيود، فقطعوا رجلي سعيد من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود، وكان الحجاج إذا نام يراه في منامه يأخذ بمجامع ثوبه، فيقول: يا عدو الله فيم قتلتني؟ فيقول: مالي ولسعيد بن جبير! مالي ولسعيد بن جبير!
ذكر غزوة الشاش وفرغانةفي هذه السنة قطع قتيبة النهر وفرض على أهل بخارى وكش ونسف وخوارزم عشرين ألف مقاتل فساروا معه، فوجههم إلى الشاش وتوجه هو إلى فرغانة فأتى خجندة، فجمع له أهلها فلقوه فاقتتلوا مراراً، كل ذلك يكون الظفر للمسلمين. ثم إن قتيبة أتى كاشان مدينة فرغانة وأتاه الجنود الذين وجههم إلى اشاش وقد فتحوها وأحرقوا أكثرها وانصرف إلى مرو؛ وقال سحبان يذكر قتالهم بخجندة فقال:
فسل الفوارس في خجن ... دة تحت مرهقة العوالي
هل كنت أجمعهم إذا ... هزموا وأقدم في القتال
أم كنت أضرب هامةال ... عافي وأصبر للعوالي
هذا وأنت قريع قي ... سٍ كلها ضخم النوال
وفضلت قيساً في الندى ... وأبوك في الحجج الخوالي
ولقد تبين عدل حك ... مك فيهم في كلأ حال
تمت مروءتكم ونا ... غى عزكم غلب الجبال
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا العباس بن الوليد أرض الروم ففتح إنطاكية. وفيها غزا عبد العزيز بن الوليد فبلغ غزالة، وبلغ الوليد بن هشام المعيطي برج الحمام، ويزيد بن أبي كبشة أرض سورية. وفيها كانت الزلازل بالشام ودامت أربعين يوماً فخربت البلاد، وكان عظم ذلك في إنطاكية. وفيها افتتح القاسم بن محمد الثقفي أرض الهند.
وتوفي في هذه السنة علي بن الحسين في أولها. ثم عروة بن الزبير. ثم سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
واستقضى الوليد على الشام سليمان بن حبيب. وحج بالناس مسلمة بن عبد الملك، وقيل: عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، وكان العامل بمكة خالد بن عبد الله، وبالمدينة عثمان بن حيان، وبمصر قرة بن شريك، وبخراسان قتيبة من قبل الحجاج.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين
ذكر غزوة الشاشقيل: وفي هذه السنة بعث الحجاج جيشاً من العراق إلى قتيبة فغزا بهم، فلما كان بالشاش أو بكشماهان أتاه موت الحجاج في شوال منها، فغمه ذلك وتمثل يقول:
لعمري لنعم المرء من آل جعفرٍ ... بحوران أمسى أعلقته الحبائل
فإن نحي لي أملك حياتي وإن تمت ... فما في حياةٍ بعد موتك طائل
ورجع إلى مرو وتفرق الناس، فأتاه كتاب الوليد: قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجدك واجتهادك في جهاد أعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك الذي يجب لك، فالمم مغازيك وانتظر ثواب ربك ولا تغب عن أمير المؤمنين كتبك حتى كأني أنظر إلى بلائك والثغر الذي أنت فيه.
ذكر وفاة الحجاج بن يوسف
قيل: إن عمر بن عبد العزيز ذكر عنده ظلم الحجاج وغيره من ولاة الأمصار أيام الوليد بن عبد الملك، فقال: الحجاج بالعراق، والوليد بالشام، وقرة بمصر، وعثمان بالمدينة، وخالد بمكة، اللهم قد امتلأت الدنيا ظلماً وجوراً فأرح الناس! فلم يمض غير قليل حتى توفي الحجاج وقرة بن شريك في شهر واحد، ثم تبعهما الوليد وعزل عثمان وخالد، واستجاب الله لعمر.
وما أشبه هذه القصة بقصة ابن عمر مع زياد بن أبيه حيث كتب ؟إلى معاوية يقول له: قد ضبطت العراق بشمالي ويميمني فارغة. يعرض بإمارة الحجاز. فقال ابن عمر لما بلغه ذلك: اللهم أرحنا من يمين زياد وأرح أهل العراق من شماله. فكان أول خبر جاءه موت زياد.
وكانت وفاة الحجاج في شوال سنة خمس وتسعين، وقيل: كانت وفاته لخمس بقين من شهر رمضان وله من العمر أربع وخمسون سنة، وقيل: ثلاث وخمسون سنة، وكانت ولايته العراق عشرين سنة، ولما حضرته الوفاة استخلف على الصلاة ابنه عبد الله بن الحجاج، واستخلف على حرب الكوفة والبصرة يزيد بن أبي كبشة، وعلى خراجهما يزيد بن أبي مسلم، فأقرهما الوليد بعد موته ولم يغير أحداً من عمال الحجاج.
ذكر نسبة وشيء من سيرتههو الحجاج ين يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف أبو محمد الثقفي.
قال قتيبة بن مسلم: خطبنا الحجاج فذكر القبر، فما زال يقول: إنه بيت الوحدة، إنه بيت الغربة، وبيت كذا وكذا حتى بكى وأبكى، ثم قال: سمعت أمرر المؤمنين عبد الملك يقول: سمعت مروان يقول في خطبته: خطبنا عثمان فقال في خطبته: ما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى قبر أو ذكره إلا بكى. وقد روي أحاديث غير هذا عن ابن عباس وأنس.
وقال ابن عوف: كنت إذا سمعت الحجاج يقرأ عرفت أنه طالما درس القرآن. وقال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحجاج ومن الحسن، وكان الحسن أفصح. وقال عبد الملك بن عمير: قال الحجاج يوماً: من كان له بلاء فليقم فنعطيه على بلائه. فقام رجل فقال: أعطني على بلائي. قال: وما بلاؤك؟ قال: قتلت الحسن. قال: فكيف قتلته؟ قال: دسرته بالرمح درسراً، وهبرته بالسيف هبراً، وما أشركت معي في قتله أحداً. قال: فإنك لا تجتمع أنت وهو في مكان واحد. وقال: اخرج! ولم يعطه شيئاً.
قيل: كتب عبد الملك إلى الحجاج يأمره بقتل أسلم بن عبد البكري بشيء بلغه عنه، فأحضره الحجاج وقال: أمير المؤمنين غائب وأنت حاضر، والله تعالى يقول: " يا أيها الذين آمنوا إن جاء كم فاسق بنبإ فتبينوا " الحجرات:6 الآية؛ والذي بلغه عني باطل، فاكتب إلى أمير المؤمنين أني أعول أربعاً وعشرين امرأة وهن بالباب، فاحضرهن، فهذه أمه، وهذه عمته وزوجته وابنته، وكان في آخر هن جارية قاربت عشر سنين. فقال لها: من أنت منه؟ قالت ابنته، أصلح الله الأمير! ثم أنشأت تقول:
أحجاج لم تشهد مقام بناته ... وعماته يندبنه الليل أجمعا
أحجاج لم تقبل به أن قتله ... ثماناً وعشراً واثنتين وأربعا
أحجاج من هذا يقوم مقامه ... علينا فمهلاً إن تزدنا تضعضعا
أحجاج إما أن تجود بنعمةٍ ... علينا وإما أن تقتلنا معا
فبكى الحجاج وقال: والله لا أعنت الدهر عليكن ولا زدتكن تضعضعاً وكتب إلى عبد الملك بخبر الرجل والجارية، فكتب إليه عبد الملك: إن كان الأمر كما ذكرت فأحسن صلته وتفقد الجارية. ففعل.
وقال عاصم بن بهدلة: سمعت الحجاج يقول: اتقوا الله ما استطعتم، هذا والله مثنوية، واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ليس في مثنوية، والله لو أمرتكم أن تخرجوا من هذا الباب فخرجتم من هذا حلت لي دماؤكم؟، ولا أجد أحداً يقرأ علي قراءة ابن أم عبد، يعني ابن مسعود، إلا ضربت عنقه، ولأحكنها من المصحف ولو بضلع خنزير؛ قد ذكر ذلك عند الأعمش. فقال: وأنا سمعته يقول: فقلت في نفسي لأقرأنها على رغم أنفك.
قال الأوزاعي: قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم. قال منصور: سألنا إبراهيم الشجاعي عن الحجاج فقال: ألم يقل الله " ألا لعنة الله على الظالمين " هو:18؟ قال الشافعي: بلغني أن عبد الملك بن مروان قال للحجاج: ما من أحد إلا وهو عارف بعيوب نفسه، فعب نفسك ولا تخبأ منها شيئاً. قال: يا أمير المؤمنين أنا لجوج حقود. فقال له عبد الملك: إذاً بينك وبين إبليس نسب. فقال: إن الشيطان إذا رآني سالمني.
قال الحسن: سمعت علياً على المنبر يقول: اللهم ائتمنتهم فخافوني، ونصحتهم فغشوني، اللهم فسلط عليهم غلام ثقيف يحكم في دمائهم وأموالهم بحكم الجاهلية! فوصفه وهو يقول: الزيال، مفجر الأنهار، يأكل خضرتها ويلبس فروتها. قال الحسن: هذه والله صفة الحجاج.
قال حبيب بن أبي ثابت: قال علي لرجل: لا تموت حتى تدرك فتى ثقيف. قيل له: يا أمير المؤمنين ما فتى ثقيف؟ قال: ليقالن له يوم القيامة اكفنا زاوية من زوايا جهنم، رجل يملك عشرين أو بضعاً وعشرين سنة لا يدع الله معصية إلا ارتكبها حتى لو لم تبق إلا معصية واحدة وبينه وبينها باب مغلق لكسره حتى يرتكبها، يقتل بمن أطاعه من عصاه.
وقيل: أحصي من قتله الحجاج صبراً فكانوا مائة ألف وعشرين ألفاً. وقيل: إن الحجاج مر بخالد بن يزيد بن معاوية وهو يخطر في مشيته، فقال رجل لخالد: من هذا؟ قال خالد: بخ بخ! هذا عمرو بن العاص. فسمعهما الحجاج فرجع وقال: والله ما يسرني أن العاص ولدني، ولكني ابن الأشياخ من ثقيف والعقائل من قريش، وأنا الذي ضربت بسيفي هذا مائة ألف، كلهم يشهد أن أباك كان يشرب الخمر ويضمر الكفر. ثم ولى وهو يقول: بخ بخ عمرو بن العاص! فهو قد اعترف في بعض أيامه بمائة ألف قتيل على ذنب واحد.
ذكر ما فعله محمد بن القاسم بعد موت الحجاج وقتلهلما مات الحجاج بن يوسف كان محمد بن القاسم بالملتان، فأتاه خبر وفاته، فرجع إلى الرور والبغرور،وكان قد فتحهما، فأعطى الناس، ووجه إلى البيلمان جيشاً فلم يقاتلوا وأعطوا الطاعة، وسأله أهل سرشت، وهي مغزى أهل البصرة، وأهلها يقطعون في البحر، ثم أتى محمد الكيرج فخرج إليه دوهر فقاتله فانهزم دوهر وهرب، وقيل: بل قتل، ونزل أهل المدينة على حكم محمد فقتل وسبى؛ قال الشاعر:
نحن قتلنا ذاهراً ودوهراً ... والخيل تردي منسراً فمنسرا
ومات الوليد بن عبد الملك وولي سليمان بن عبد الملك، فولى يويد بن أبي كبشة السكسكي السند، فأخذ محمداً وقيده وحمله إلى العراق، فقال محمد متمثلاً:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوخمٍ كريهةٍ وسداد ثغر
فبكى أهل السند على محمد، فلما وصل إلى العراق حبسه صالح بن عبد الرحمن بواسط، فقال:
فلئن ثويت باسطٍ وبأرضها ... رهن الحديد مكبلاً مغلولا
فلرب قينة فارسٍ قد رعتها ... ولرب قرنٍ قد تركت قتيلاً
وقال:
ولو كنت أجمعت الفرار لوطئت ... إناث أعدت للوغى وذكور
وما دخلت خيل السكاسك أرضنا ... ولا كان من عكٍ علي أمير
وما كنت للعبد المزوني تابعاً ... فيا لك دهر بالكرام عثور
فعذبه صالح في رجال من آل أبي عقيل حتى قتلهم، وكان الحجاج قتل آدم أخا صالح، وكان يرى رأي الخوارج، وقال حمزة بن بيض الحنفي يرثي محمداً:
إن المروءة والسماحة والندى ... لمحمد بن قاسم بن محمد
ساس الجيوش لسبع عشرة حجةً ... ياقرب ذلك سؤدداً من مولد
وقال آخر:
ساس الرجال لسبع عشرة حجةً ولداته إذ ذاك في أشغال
ومات يزيد بن أبي كبشة بعد قدومه أرض السند بثمانية عشر يوماً، واستعمل سليمان بن عبد الملك على السند حبيب بن المهلب، فقدمها وقد رجع ملوك السند إلى ممالكهم ورجع جيشبه بن ذاهر إلى برهمناباذ، فنزل حبيب على شاطئ مهران، فأعطاه أهل الور الطاعة، وحارب قوماً فظفر بهم.
ثم مات سليمان واستخلف عمر بن عبد العزيز، فكتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم ولهم ما للمسلمين وعليهم. فأسلم جيشبه والملوك وتسموا بأسماء العرب.
وكان عمرو بن مسلم الباهلي عامل على ذلك الثغر، فغزا بعض الهند فظفر. ثم إن الجنيد بن عبد الرحمن ولي السن أيام هشام بن عبد الملك، فأتى الجنيد شط مهران فمنعه جيشبه بن ذاهر العبور أرسل إليه: إني قد أسلمت وولاني الرجل الصالح بلادي ولست آمنك. فأعطاه رهناً وأخذ منه رهناً على خراج بلاده، ثم ترادا وكفر جيشبه وحارب، وقيل: إنه لم يحارب ولكن الجنيد تجنى عليه، فأتى الهند فجمع جموعاً وأعد السفن واستعد للحرب، فسار إليه الجنيد بالسفن، فالتقوا في بطيحة، فأخذ جيشبه أسيراً، وقد جنحت سفينته، فقتله الجنيد وهرب صصه بن ذاهر وهو يريد أن يمضي إلى العراق فيشكو غدر الجنيد، فلم يزل الجنيد يؤنسه حتى وضع يده في يده فقتله.
وغزا الجنيد الكيرج، وكانوا قد نقضوا، فاتخذوا كبشاً وصك بها سور المدينة فثلمه ودخلها فقتل وسبى ووجه العمال إلى المرمذ والمندل ودهنج وبرونج. وكان الجنيد يقول: القتل في الجزع أكبر منه في الصبر. ووجه جيشاً إلى أزين فأغاروا عليها وحرقوا ربضها وفتح البيلمان وحصل عنده سوى ما حمل أربعون ألف ألف وحمل مقلها، وولى الجنيد تميم بن زيد القيني فضعف ووهن ومات قريباً من الديبل.
وفي أيامه خرج المسلمون عن بلاد الهند ورفضوا مراكزهم، ثم ولي الحكم بن عوام الملبي وقد كفر أهل الهند إلا أهل قصة، فبنى مدينةً سماها المحفوظة وجعلها مأوى للمسلمين، وكان معه عمرو بن محمد بن القاسم، وكان يفوض إليه عظيم الأمور، فأغزاه من المحفوظة، فلما قدم عليه وقد ظفر أمره فبنى مدينة وسماها المنصورة، فهي التي نزلها الأمراء، واستخلص ما كان قد غلب عليه العدو، ورضي الناس بولايته، وكان خالد القسري يقول: واعجبا! وليت فتى العرب، يعني تميماً، فرفض وترك، ووليت أبخل العرب فرضي به. ثم قتل الحكم، وكان العمال يقتلون العدو فكانوا يفتتحون ناحيةً ويأخذون ما تيسر لهم لضعف الدولة الأموية بعد ذلك، إلى أن جاءت الدولة المباركة العباسية، ونحن نذكر إن ساء الله أيام المأمون بقية أخبار السند.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا العباس بن الوليد الروم ففتح هرقلة وغيرها. وفيها فتح آخر الهند إلا الكيرج والمندل. وفي هذه السنة افتتح العباس بن الوليد قنسرين. وفيها قتل الوضاحي بأرض الروم ونحو ألف رجل معه. وفيها ولد المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.
وحج بالناس هذه السنة بشير بن الوليد بن عبد الملك، وكان عمال المصار من تقدم ذكرهم.
وفيها مات أبو عثمان النهدي، اسمه عبد الرحمن بن مل، وكان عمره مائة وثلاثين سنة، وقيل في موته غير ذلك. وفيها مات سعد بن أياس أبو عمرو الشيباني، وله مائة وعشرون سنة. وفي إمارة الحجاج مات سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي هذه السنة مات سالم بن أبي الجعد. وفيها مات جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، وهو أخو عبد الله بن مروان من الرضاعة. وفي إمارة الحجاج قتل أبو الأحوص عوف بن مالك بن نضلة الجشمي الكوفي، قتله الخوارج.
ثم دخلت سنة ست وتسعين
ذكر فتح قتيبة مدينة كاشغروفي هذه السنة غزا قتيبة كاشغر، فسار وحمل مع الناس عيالاتهم ليضعهم بسمرقند، فلما عبر النهر استعمل رجلاً على معبر النهر ليمنع من يرجع إلا بجواز منه، ومضى إلى فرغانة وأرسل إلى شعب عصامٍ من يسهل الطريق إلى كاشغر وهي أدنى مدائن الصين وبعث جيشاً مع كبير بن فلان إلى كاشغر، فغنم وسبى سبياً، فختم أعناقهم وأوغل حتى بلغ قريب لصين.
فكتب إليه ملك الصين: أن أبعث إلي رجلاً شريفاً يخبرني عنكم وعن دينكم. فانتخب قتيبة عشرةً لهم جمال وألسن وبأس وعقل وصلاح، فأمر لهم بعدة حسنة ومتاع حسن من لخز والوشي وغير ذلك وخيول حسنة، وكان منهم هبيرة بن مشمرج الكلابي، فقال لهم: إذا دخلتم عليه فأعلموه أني قد حلفت أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجب خراجهم.
فساروا وعليهم هبيرة، فلما قدموا عليهم دعاهم ملك الصين فلبسوا ثياباً ببياضاً تحتها الغلائل وتطيبوا ولبسوا النعال والأردية، ودخلوا عليه وعنده عظماء قومه فجلسوا، فلم يكلمهم الملك ولا أحد ممن عنده، فنهضوا. فقال الملك لمن حضره: كيف رأيتم هؤلاء؟ فقالوا: رأينا قوماً ما هم إلا نساء، ما بقي منا أحد إلا انتشر ما عنده.
فلما كان الغد دعاهم فلبسوا الوشي والعمائم الخز والمطارف وغدوا عليه، فلما دخلوا قيل لهم: ارجعوا، وقال لأصحابه: كيف رأيتم هذه الهيئة؟ قالوا: هذه أشبه بهيئة الرجال من تلك. فلما كان اليوم الثالث دعاهم، فشدوا سلاحهم ولبسوا البيض والمغافر وأخذوا السيوف والرماح والقسي وركبوا. فنظر إليهم ملك الصين فرأى مثل الجبل، فلما دنوا ركزوا رماحهم وأقبلوا مشمرين، فقيل لهم: ارجعوا: فركبوا خيولهم وأخذوا رماحهم ودفعوا خيلهم كأنهم يتطاردون. فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء.
فلما أمس بعث إليهم: أن أبعثوا إلي زعيمكم. فبعثوا إليه هبيرة ابن مشمرج، فقال له: قد رأيتم عظيم ملكي وأنه ليس أحد منعكم مني، وأنتم في يدي بمنزلة البيضة في كفي، وإني سائلكم عن أمر فإن لم تصدقوني قتلتكم. قال: سل. قال: لم صنعتم بزيكم الأول اليوم الأول والثاني والثالث ما صنعتم؟ قال أما زينا اليوم الأول فلباسنا في أهلنا، وأما اليوم الثاني والثالث ما صنعتم؟ قال أما زينا اليوم الأول فلباسنا في أهلنا، وأما اليوم الثاني فزينا إذا منا أمراءنا، وأما الثالث فزينا لعدونا. قال: ما أحسن مادبرتم دهركم، فقولوا لصاحبكم ينصرف، فإني قد عرفت قلة أصحابه وإلا بعثت إليكم من يهلككم. قال: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل ولسنا نكرهه أو نخافه؛ وقد حلف أن لاينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطى الجزية.
فقال: فإنا نخرجه من يمينه ونبعث تراب أرضنا ونبعث إليه ببعض أبنائنا فيختمهم ونبعث إليه بجزية يرضاها. فبعث إليه بهدية وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجازهم فأحسن، فقدموا على قتيبة، فقبل قتيبة الجزية وختم الغلمان وردهم ووطئ التراب. قال سوادة بن عبد الملك السولي:
لاعيب في الوفد الذين بعثتهم ... للصين إن سلكوا طريق المنهج
كسروا الجفون على الردى ... حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج
أدى رسالتك التي استرعيته ... فأتاك من حنث اليمين بمخرج
فأوفد قتيبة هبيرة إلى الوليد، فمات بقرية من فارس، فرثاه سوادة فقال:
لله در هبيرة بن مسمرج ... ماذا تضمن من ندى وجمال
وبديهة تعنى بها أبناؤها ... عند احتفال مشاهد الأقوال
كان الربيع إذا السنون تتابعت ... والليث عند تكعكع الأبطال
فسقى بقرية حيث أمسى قبره ... غر يرحن بمسبلٍ هطال
لكت الجياد الصافنات لفقده ... وبكاه كل مثقفٍ عسال
وبكته شعث لم يجدن مواسياً ... في العام ذي السنوات والإمحال
ووصل الخبر إلى قتيبة في هذه الغزاة بموت الوليد.
وكان قتيبة إذا رجع من غزاته كل سنة اشترى اثني عشر فرساً واثني عسر هجيناً، فتحدر إلى وقت الغزو، فإذا تأهب للغزو ضمرها وحمل عليها الطلائع، وكان يجعل الطلائع فرسان الناس وأشرافهم ومعهم من العجم من يستصحه، وإذا بعث طليعة أمر بلوحٍ فنقش ثم شقه بنصفين وجعل شقةً عنده ويعطي نصفه الطليعة ويأمرهم أن يدفنوه في موضع يصفه لهم من شجرة أو مخاضة أو غيرهما، ثم يبعث بعد الطليعة من يستخرجه ليعلم أصدقت الطليعة أولا.
وفيها غزا بشر بن الوليد الشاتية ورجع وقد مات الوليد.
ذكر موت الوليد بن عبد الملكوفي النصف من جمادى الآخرة من هذه السنة مات الوليد بن عبد الملك في قول جميعهم، وكانت خلافته تسع سنين وسبعة أشهر، وقيل: تسع سنين وثمانية أشهر، وقيل: وأحد عشر شهراً، وكانت وفاته بدير مران، ودفن خارج الباب الصغير، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة وستة أشهر، وقيل: كان عمره خمساً وأربعين سنة، وقيل: ستاً وأربعين سنة وأشهراً، وقيل: تسعاً وأربعين. وخلف تسعة عشر ابناً، وكان دميماً بتبختر في مشيته، وكان سائل الأنف جداً، فقيل فيه:
فقدت الوليد وأنفاً له ... كثل الفصيل بدا أن يبولا
ولما دلي في جنازته جمعت ركبتاه إلى عنقه، فقال ابنه: أعاش أبي؟ فقال له عمر بن عبد العزيز، وكان فيمن دفنه: عوجل والله أبوك! واتعظ به عمر.
ذكر بعض سيرة الوليدوكان الوليد عند أهل الشام من افضل خلائفهم، بنى المساجد، مسجد دمشق ومسجد الميدينة، على ساكنها السلام، والمسجد الأقصى، ووضع المنائر، وأعطى المجذمين ومنعهم من سؤال الناس، وأعطى كل مقعد خادماً وكل ضرير قائداً، وفتح في ولايته فتوحاً عظاماً، منها: الأندلس وكاشغر والهند.
وكان يمر بالبقال فيقف عليه ويأخذ منه حزمة بقل فيقول: بكم هذه؟ فيقول: بفلس. فيقول: زد فيها.
وكان صاحبن بنا واتخاذ المصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه فيسأل بعضهم بعضاً عن البناء، وكان سليمان صاحب طعام ونكاح، فكان الناس يسأل بعضهم بعضاً عن النكاح والطعام، وكان عمر بن عبد العزيز صاحب عبادة، وكان الناس يسأل بعضاً عن الخير ما وردك الليلة وكم تحفظ من القرآن وكم تصوم من الشهر؟ ومرض الوليد مرضة قبل وفاته وأغمي عليه فبقي يومه ذلك كأنه ميت، فبكوا عليه وسارت البرد بموته، فاسترجع الحجاج وشد في يده حبلاً إلى أسطوانة وقال: اللهم لا تسلط علي من لا رحمة له فقد طال ما سألتك أن تجعل منيتي قبله! فإنه كذلك يدعو إذ قدم عليه البريد بإفاقته. ولما أفاق الوليد قال: ما أحد أشد سروراً بعافيتي من الحجاج؛ ثم لم يمت حتى قفل الحجاج عليه.
وكان الوليد أراد أن يخلع أخاه سليمان ويبايع لولده عبد العزيز، فأبى سليمان، فكتب إلى عماله ودعا الناس إلى ذلك، فلم يجبه إلا الحجاج وقتيبة وخواص من الناس، فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالقدوم عليه، فأبطأ، فعزم الوليد على المسير إليه ليخلعه وأخرج خيتمة، فمات قبل أن يسير إليه.
ولما أراد أن يبني مسجد دمشق كان فيه كنيسة فهدمها وبناها مسجداً، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكوا إليه ذلك فقال لهم عمر: إن ما كان خارج المدينة فتح عنوةً ونحن نرد عليكم كنيستكم ونهدم كنيسة توما فإنها فتحت عنوةً ونبنيها مسجداً. فقالوا: بل ندع لكم هذا ودعوا كنيسة توما.
وكان الوليد لحاناً لا يحسن النحو، دخل عليه أعرابي فمت إليه بصهر بينه وبين قرابته، فقال له الوليد: من ختنك؟ بفتح النون، وظن الأعرابي أنه يريد الختان، فقال: بعض الأطباء. فقال له سليمان: إنما يريد أمير المؤمنين من ختنك؟ وضم النون. فقال الأعرابي: نعم فلان، وذكر ختنه. وعاتبه أبوه على ذلك وقال: إنه لا يلي العرب إلا من يحسن كلامهم. فجمع أهل النحو ودخل بيتاً فلم يخرج منه ستة أشهر ثم خرج وهو أجهل منه يوم دخل. فقال عبد الملك: قد أعذر. فقيل: إنه لما ولي الخلافة يختم القرآن في كل ثلاث، وكان يقرأ في رمضان كل يوم ختمة، وخطب يوماً فقال: يا ليتها كانت القاضية، وضم التاء، فقال عمر بن عبد العزيز: عليك وأراحتنا منك.
ذكر خلافة سليمان بن عبد الملك وبيعتهوفي هذه السنة بويع سليمان بن عبد الملك في اليوم الذي توفي فيه الوليد وهو بالرملة.
وفيها عزل سليمان بن عبد الملك عثمان بن حيان عن المدينة لسبع بقين من رمضان واستعمل عليها أبا بكر بن محمد بن حزم، وكان عثمان قد عزم على أن يجلد أبا بكر ويحلق لحيته من الغد، فلما كان الليل جاء البريد إلى أبي بكر بتأميره وعزل عثمان وحده، وأن يقيده.
وفيها عزل سليمان يزيد بن أبي مسلم عن العراق واستعمل يزيد بن المهلب وجعل صالح بن عبد الرحمن على الخراج وأمره بقتل بني عقيل وبسط العذاب عليهم وهم أهل الحجاج، فكان يعذبهم ويلي عذابهم عبد الملك بن المهلب، وكان يزيد بن المهلب قد استعمل أخاه زياداً على حرب عثمان.
ذكر مقتل قتيبةقيل: وفي هذه السنة قتل قتيبة بن مسلم الباهلي بخراسان
وكان سبب قتله أن الوليد بن عبد الملك أراد أن ينزع أخاه سليمان من ولاية العهد ويجعل بدله ابنه عبد العزيز، فأجابه إلى ذلك الحجاج وقتيبة على ما تقدم. فلما مات الوليد وولي سليمان خافه قتيبة وخاف أن يولي سليمان يزيد ابن المهلب خراسان، فكتب قتيبة إلى سليمان كتاباً يهنئه بالخلافة ويذكر بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد وأنه له على مثل ذلك إن لم يعزله عن خراسان، وكتب إليه كتاباً آخر يعلمه فيه فتوحه ونكاتيه، وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته في صدورهم، وعظم صولته فيهم، ويذم أهل المهلب ويحلف بالله لئن استعمل يويد على خراسان ليخلعنه. وكتب كتاباً ثالثاُ فيه خلعه، وبعث الكتب مع رجل من باهلة فقال له: ادفع الكتاب الأول إليه فإن كان يزيد حاضراً فقرأه ثم ألقاه إلى يزيد فادفع إليه هذا الثاني، فإن قرأه ودفع إلى يزيد فادفع إليه هذا التالي، فغن قرأ الكتاب الأول ولم يدفعه إلى يزيد فاحبس الكتابين الآخرين فقدم رسول قتيبة فدخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلب فدفع إليه الكتاب، فقرأه وألقاه إلى يزيد، فدفع إليه الكتاب الآخر فقرأه وألقاه إلى يزيد، فأعطاه الكتاب الثالث فقرأه فتغير لونه وختمه وأمسكه بيده.
وقيل: كان في الكتاب الثالث لئن لم تقرني على ما كنت عليه وتؤمنني لأخلعنك ولأملأنها عليك رجالاً وخيلاً.
ثم أمر سليمان برسول قتيبة فأنزل، فاحضره ليلاً فأعطاه دنانير جائزته وأعطاه عهد قتيبة على خراسان، وسير معه رسولاً بذلك، فلما كانا بحلوان بلغهما خلع قتيبة، فرجع رسول سليمان.
وكان قتيبة لما هم بخلع سليمان استشار إخوته، فقال له أخوه عبد الرحمن: اقطع بعثاً فوجه فيه كل من تخافه ووجه قوماً إلى مرو وسر حتى تنزل سمرقند، وقل لمن معك: من أحب المقام فله المراسلة، ومن أراد الانصراف فغير مستكره، فلا يقيم عندك إلا مناصح ولا يختلف عليك أحد.
وقال له أخوه عبد الله: اخلعه مكانك فلا يختلف عليك رجلان. فخلع سليمان مكانه ودعا الناس إلى خلعه وذكر أثره فيهم وسوء أثر من تقدمه، فلم يجبه أحد، فغضب وقال: لا أعز الله من نصرتم! ثم والله اجتمعتم على عنز ما كسرتم قرنها! يا أهل السافلة، ولا أقول يا أهل العالية، أوباش الصدقة جمعتكم كما تجمع إبل الصدقة من كل أوب! يا معشر بكر بن وائل! يا أهل النفخ والكذب والبخل! بأي يوميكم تفخرون؟ بيوم حربكم أو بيوم سلمكم! يا أصحاب مسيلمة! يا بني ذميم؛ ولا أقول تميم! يا أهل الجور والقصف كنتم تسمون الغدر في الجاهلية كيسان! يا أصحاب سجاح! يا معشر عبد القيس القساة تبدلتم بتأبير النخل أعنة الخيل! يا معشر الأزد تبدلتم بقلوس السفن أعنة الخيل! إن هذا بدعة في الإسلام، الأعراب وما الأعراب لعنة الله عليهم! يا كناسة المصرين جمعتكم من منابت الشيخ والقيصوم تركبون البقر والحمر، فلما جمعتكم قلتم كيت وكيت،! أما والله إني لابن أبيه وأخو أخيه! والله لأعصبنكم عصب السلمة! إن حول الصليان لزمزمة! يا أهل خراسان أتدرون من وليكم؟ يزيد ابن مروان. كأني بأمير جاءكم فغلبكم على فيئكم وظلاكم! ارموا غرضكم القصي! حتى متى يتبطح أهل الشام بأفنيتكم! يا أهل خراسان انسبوني تجدوني عراقي الأم والمولد والرأي والهوى والدين وقد أصبحتم فيما ترون من الأمن والعافية! قد فتح الله لكم البلاد وآمن سبلكم، فالظعينة تخرج من مرو إلى بلخ بغير جواز، فاحمدوا الله على العافية واسألوه الشكر والمزيد.
ثم نزل فدخل بيته، فاتاه أهله وقالوا: ما رأيناك كاليوم قط؛ ولاموه . فقال: لما تكلمت فلم يجبني أحد غضبت فلم أدر ما قلت. وغضبت الناس وكرهوا خلع سليمان فأجمعوا على خلع قتيبة وخلافه، وكان أول من تكلم الأزد، فاتوا حضين بن المنذر بضاض معجمة، فقالوا: إن هذا قد دعا إلى خلع الخليفة وفيه فساد الدين والدنيا وقد شتمنا فما ترى؟ فقال: إن مضر بخراسان كثيرة وتميم أكثرها وهم فرسان خراسان ولا يرضون يصير الأمر في غير مضر، فإن أخرجتموهم منه أعانوا قتيبة. فأجابوه إلى ذلك وقالوا: من ترى من تميم؟ قال: لا أرى غير وكيع. فقال حيان النبطي مولى بني شيبان: إن أحداً لا يتولى هذا غير وكيع فيصلى بحره ويبذل دمه ويتعرض للقتل، فإن قدم أمير أخذه بما جنى، فإنه لا ينظر في عاقبة وله عشيرة تطيعه وهو موتور يطلب قتيبة برياسته التي صرفها عنه وصيرها لضرار ابن حصين الضبي.
فمشى الناس بعضهم إلى بعض سراً، وقيل لقتيبة: ليس يفسد أمر الناس إلا حيان، فأراد أن يغتاله، وكان حيان يلاطف خدم الولاة، فدعا قتيبة رجلاً فأمره بقتل حيان، وسمع بعض الخدم فأتى حيان فأخبره، فلما جاء رسوله يدعوه تمارض. وأتى الناس وكيعاً وسألوه أن يلي أمرهم ففعل.
وبخراسان يومئذ من أهل البصرة والعالية من المقاتلة تسعة آلاف، ومن بكر سبعة آلاف، ورئيسهم حضين بن المنذر، ومن تميم عشرة آلاف، وعليهم ضرار بن حصين، وعبد القيس أربعة آلاف، وعليهم عبد الله بن علوان، والأزد عشرة آلاف، وعليهم عبد الله بن حوذان، ومن أهل الكوفة سبعة آلاف، وعليهم جهم بن زحر، والموالي سبعة آلاف، عليهم حيان، وهو من الديلم، وقيل من خراسان، وإنما قيل له نبطي للكنته.
فأرسل حيان إلى وكيع: إن أنا كففت عنك وأعنتك أتجعل لي الجانب الشرقي من نهر بلخ خراجه ما دمت حياً وما دمت أميراً؟ قال: نعم. فقال حيان للعجم: هؤلاء يقاتلون على غير دين فدعوهم يقتل بعضهم بعضاً. ففعلوا فبايعوا وكيعاً سراً.
وقيل لقتيبة: إن الناس يبايعون ويكيعاً. فدس ضرار بن الضبي إلى وكيع فبايعه سراً، فظهر لقتيبة أمره فأرسل يدعوه، فوجده قد طلى رجليه بمغرة وعلق على رأسه حرزاً وعنده رجلان يرقيان رجله، فقال للرسول: قد ترى ما برجلي. فرجع فأخبر قتيبة، فأعاده إليه يقول له: لتأتيني محمولاً. قال: لا أستطيع. فقال قتيبة لصاحب شرطته: انطلق إلى وكيع فأتني به فإن أبى فاضرب عنقه، ووجه معه خيلاً، وقيل: أرسل إليه شعبة بن ظهير التميمي، فقال له وكيع: يا ابن ظهير: البث قليلاً تلحق الكتائب. وليس سلاحه ونادى في الناس، فأتوه، وركب فرسه وخرج، فتلقاه رجل، فقال: ممن أنت؟ قال: من بني أسد. قال: ما أسمك؟ قال: ضرغامة. قال: ابن من؟ قال: ابن ليث، فأعطاه رايته، وقيل كانت مع عقبة بن شهاب المازني. وأتاه الناس أرسالاً من كل وجه، فتقدم بهم وهو يقول:
قرم إذا حمل مكروهةً ... شد الشراسيف لها والحزيم
واجتمع إلى قتيبة أهل بيته وخواص أصحابه وثقاته، منهم إياس بن بيهس بن عمرو، وهو ابن عم قتيبة، فأمر قتيبة رجلاً فنادى: أين بنو عامر؟ فقال له محقر بن جزء العلائي، وهو قيسي أيضاً، وكان قتيبة قد جفاهم: نادهم حيث وضعتهم. قال قتيبة: ناد: أذكركم الله والرحم. قال محقر: أنت قطعتها. قال: ناد العتبى. قال محقر: لا أقالنا الله إذن؛ فقال قتيبة عند ذلك:
يا نفس صبراً على ما كان من ألمٍ ... إذ لم أجد لفضول العيش أقرانا
ودعا ببرذون له مدرب ليركبه، فجعل يمنعه حتى أعيا. فلما رأى ذلك عاد إلى سريره فجلس عليه وقال: دعوه، إن هذا أمر يراد. وجاء حيان النبطي في العجم وقتيبة واجد عليه، فقال عبد الله أخو قتيبة لحيان: احمل عليهم. فقال حيان: لم يأن بعد. فقال عبد الله: ناولني قوسي. فقال حيان: ليس هذا بيوم قوس. وقال حيان لابنه: إذا رأيتني قد حولت قلنسوتي ومضيت نحو عسكر وكيع فمل بمن معك من العجم إلي.
فلما حول حيان قلنسوته مالت الأعاجم إلى عسكر وكيع وكبروا. فبعث قتيبة أخاه صالحاً إلى الناس. فرماه رجل من بني ضبة، وقيل من بلعم، فأصاب رأسه، فحمل إلى قتيبة ورأسه مائل فوضع في مصلاة، وجلس قتيبة عنده ساعة.
وتهايج الناس وأقبل عبد الرحمن أخو قتيبة نحوهم، فرماه أهل السوق والغوغاء فقتلوه، وأحرق الناس موضعاً كانت فيه إبل لقتيبة ودوابه ودنوا منه. فقاتل عنه رجل من باهلة، فقال له قتيبة: انج بنفسك. فقال: بئس ما جزيتك إذاً وقد أطعمتني الجردق وألبستني النرمق.
وجاء الناس حتى بلغوا فسطاطه فقطعوا أطنابه، وجرح قتيبة جراحات كثيرة، فقال جهم ابن زحر بن قيس لسعد: انزل فخذ رأسه، فنزل سعد فشق الفسطاط أهز رأسه وقتل معه من أهل إخوته عبد الرحمن وعبد الله وصالح وحصين وعبد الكريم بنو مسلم، وقتل كثير ابنه، وقيل قتل عبد الكريم فقزوين.
وكان عدة من قتل مع قتيبة من أهل بيته أحد عشر رجلاً، ونجا عمر ابن مسلم أخو قتيبة، نجاة أخواله. وكانت أمه الغبراء بنت ضرار بن القعقاع ابن معبد بن زرارة القيسية.
فلما قتل قتيبه صعد وكيع المنبر فقال: مثلي ومثل قتيبة كما قال الأول: من ينك العير ينك نياكا أراد قتيبة قتلي وأنا قتال
قد جربوني ثم جربوني ... من غلوتين ومن المئتين
حتى إذا شبت وشيبوني ... خلوا عناني وتنكبوني
أنا أبو مطرف! ثم قال:
أنا ابن خندق تنميني قبائلها ... بالصالحات وعمي قيس عيلانا
ثم أخذ بلحيته فقال:
شيخ إذا حمل مكروهةً ... شد الشراسيف لها والحزيم
والله لأقتلن ثم لأقتلن! ولأصلبن ثم لأصلبن!إن مرزبانكم هذا ابن الزانية قد أغلى أسعاركم! والله ليصيرن القفيز بأربعة دراهم أو لأصلبنه! صلوا على نبيكم. ثم نزل، وطلب وكيع رأس قتيبة وخاتمه، فقيل له: إن الأزد أخذته. فخرج وكيع مشهراً وقال: والله الذي لا إله إلا هو لا أبرح حتى أوتى بالرأس أو يذهب رأسي معه. فقال له حضين: اسكن يا أبا مطرف فإنك توتى به. وذهب حضين إلى الأزد، وهو سيدهم، فأمرهم بتسليم ارأس إلى وكيع، فسلموه إليه، فسيره إلى سليمان مع نفر ليس فيهم تميمي، ووفى وكيع لحيان النبطي بما كان ضمن له.
فلما أتي سليمان برأس قتيبة ورؤوس أهله كان عنده الهذيل بن زفر ابن الحارث، فقال له: هل ساءك هذا يا هذيل؟ فقال: لو ساءني لساء قوماً كثيراً. فقال سليمان: ما أردت هذا كله. وإنما قال سليمان هذا للهذيل لأنه هو وقتيبة من قيس عيلان؛ ثم أمر بالرؤوس فدفنت، ولما قتل قتيبة قال رجل من أهل خراسان: يا معشر العرب قتلتم قتيبة، والله لو كان منا فمات لجعلناه في تابوت فكنا نستقي به وسنتفتح به إذا غزونا، وما صنع أحد بخراسان قط ما صنع قتيبة إلا أنه غدر، وذلك أن الحجاج كتب إليه: أن اختلهم واقتلهم لله.
وقال الأصبهبذ: قتلتم قتيبة ويزيد بن المهلب وهما سيدا العرب. قيل له: أيهما كان أعظم عندكم وأهيب؟ قال: لو كان قتيبة بأقصى جحر في الغرب مكبلاً ويزيد معنا في بلادنا والٍ علينا لكان قتيبة أهيب في صدورنا وأعظم من يزيد. وقال الفرزدق في ذلك:
أتاني ورحلي في المدينة وقعة ... لآل تميم أقعدت كل قائم
وقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلي يرثي قتيبة:
كأن أبا حفصٍ قتيبة لم يسر ... بجيشٍ إلى جيش ولم يعل منبرا
ولم تخفق الرايات والجيش حوله ... وقوف ولم يشهد له الناس عسكرا
دعته المنايا فاستجاب لربه ... وراح إلى الجنات عفاً مطهرا
فما رزئ الإسلام بعد محمد ... بمثل أبي حفصٍ فبكيه عبهرا
وعبهر أم ولد له. قيل : وقال شيوخ من غسان: كنا بثنية العقاب إذا نحن برجل معه عصاً وجراب، قلنا: من أين أقبلت؟ قال: من خراسان. قلنا: هل كان بها من خبر؟ قال: نعم، قتل بها قتيبة بن مسلم أمس. فعجبنا لقوله، فلما رأى إنكارنا قال: أين يروني الليلة من إفريقية؟ وتركنا ومضى، فاتبعناه على خيولنا فإذا هو يسبق الطرف.
ذكر عدة حوادثقيل: وفي هذه السنة مات قرة بن شريك العبسي أمير مصر في صفر، وقيل: مات سنة خمس وتسعين في الشهر الذي مات فيه الحجاج.
وحج بالناس هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو أمير المدينة، وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين. وعلى حرب العراق وصلاتها يزيد بن المهلب. وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن. وعلى البصرة سفيان بن عبد الله الكندي من قبل يزيد ابن المهلب. وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة. وعلى قضاء الكوفة أبو بكر أبن أبي موسى. وعلى حرب خراسان وكيع بن أبي سود.
وفيها مات شريح القاضي، وقيل سنة سبع وتسعين، وله مائة وعشرون سنة. وفيها مات بعد الرحمن بن أبي بكرة. وحمود بن لبيد الأنصاري، وله صحبة. وفي ولاية الوليد مات عبد الله بن حيريز، قيل له صحبة. وأبو سعيد المقبري، كان يسكن المقابر فنسب إلها.
وفيها توفي إبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه. وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وله خمس وسبعون سنة. وفيها توفي عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان في أيام الوليد بن عبد المكل. وفيها توفي محمد بن أسامة بن زيد بن حارثة، وعباس بن سهل بن سعد الساعدي.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين
ذكر مقتل عبد العزيز بن موسى بن نصيروكان سبب قتله أن أباه استعمله على الأندلس، كما ذكرنا، عند عوده إلى الشام، فضبطها وسدد أمورها وحمى ثغورها، وافتتح في إمارته مدائن بقت بعد أبيه، وكان خيراً فاضلاً، وتزوج امرأة رذريق، فحظيت عنده وغلبت عليه فحملته على أن يأخذ أصحابه ورعيته بالسجود له إذا دخلوا عليه كما كان يفعل لزوجها رذريق. فقال لها: إن ذلك ليس في ديننا. فلم تزل به حتى أمر ففتح باب قصير لمجلسه الذي كان يجلس فيه، فكان أحدهم إذا دخل منه طأطأ رأسه فيصبر كالراكع، فرضيت به، فصار كالسجود عندها، فقالت له: الآن لحقت بالملوك وبقي أن أعمل لك تاجاً مما عندي من الذهب واللؤلؤ، فأبى، فلم تزل به حتى فعل. فانكسف ذلك للمسلمين فقيل تنصر، وفطنوا للباب فثاروا عليه فتقلوه في آخر سنة سبع وتسعين. وقيل: إن سليمان ابن عبد الملك بعث إلى الجند في قتله عند سخطه على والده موسى بن نصير، فدخلوا عليه وهو في المحراب فصلى الصبح وقد قرأ الفاتحة وسورة الواقعة فضربوه بالسيوف ضربة واحدة وأخذوا رأسه فسيروه إلى سليمان، فعرضه سليمان على أبيه، فتجلد للمصيبة وقال: هنيئاً له بالشهادة فقد قتلتموه والله صواماً قواماً. وكانوا يعدونها من زلات سليمان. وكان قتله على هذه الرواية سنة ثمان وتسعين في آخرها.
ثم إن سليمان ولى الأندلس الحر بن عبد الرحمن الثقفي، فأقام والياً عليها إلى أن استخلف عمر بن عبد العزيز فعزله، هذا آخر ما أردنا ذكره من قتل عبد العزيز على سبيل الأختصار.
وفيها عزل سليمان بن عبد الملك عبد الله بن موسى بن نصير عن إفريقية واستعمل عليها محمد بن يزيد القرشي، فلم يزل عليها حتى مات سليمان فعزل، فاستعمل عمر بن عبد العزيز مكانه إسماعيل بن عبد الله سنة مائة، وكان حسن السيرة، فاسلم البربر في أيامه جميعهم.
ذكر ولاية يزيد بن الملهلب خراسانوكان السبب في ذلك أن سليمان بن عبد الملك لما ولى يزيد العراق فوض إليه حربها والصلاة بها وخراجها، فنظر يزيد لنفسه وقال: إن العراق قد أخرجها الحجاج وأنا اليوم رجل أهل العراق ومتى قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذبتهم على ذلك صرت مثل الحجاج وأعدت عليهم السجون وما عافاهم الله منه، ومتى لم آت سليمان بمثل ما كان الحجاج أتى به لم يقبل مني. فأتى يزيد سليمان وقال: أدلك على رجل بصير بالخراج توليه إياه؟ قال: نعم. قال: صالح بن عبد الرحمن مولى بني تميم، فولاه الخراج وسيره قبل يزيد، فنزل واسطاً، وأقبل يزيد، فخرج الناس يتلقونه، ولم يخرج صالح حتى قرب يزيد، فخرج صالح في الدراعة بين يديه أربعمائة من أهل الشام فلقي يزيد وسايره، فنزل يزيد، وضيق عليه صالح فلم يمكنه من شيء، واتخذ يزيد ألف خوان يطعم الناس عليها، فأخذها صالح، فقال يزيد: اكتب ثمنها علي. واشترى يزيد ألف خوان يطعم الناس عليها، فأخذها صالح، فقال يزيد: اكتب ثمنها علي. واشترى يزيد متاعاً وكتب صكاً بثمنه إلى صالح، فلم يقبله وقال ليزيد: إن الخراج لا يقوم بما تريد ولا يرضى بهذا أمير المؤمنين وتؤخذ به. فضاحكه يزيد وقال: أجر هذا المال هذه المرة ولا أعود. ففعل صالح.
وكان سليمان لم يجعل خراسان إلى يريد، فضجر يزيد من العراق لتضيق صالح عليه، فدعا عبد الله بن الأهتم فقال له: إني أريدك لأمرٍ قد أهمني فأحب أن تكفينه. قال: أعل. قال: أنا فيما ترى من الضيق وقد ضجرت منه وخراسان شاغرة برجلها فهل من حيلة؟ قال: نعم، سرحني إلى أمير المؤمنين. قال: فاكتم ما أخبرتك. وكتب إلى سليمان يخبره بحال العراق وأثنى على ابن الأهتم وذكر علمه بها، وسير ابن الأهتم على البريد.
فأتى سليمان واجتمع به، فقال له سليمان: إن يزيد كتب إلي يذكر علمك بالعراق وخراسان، فكيف علمك بها؟ قال: أنا أعلم الناس بها، بها ولدت وبها نشأت ولي بها وبأهلها خبر وعلم. قال: فأشير علي برجل أوليه خراسان. قال: أمير المؤمنين أعلم بمن يريد، فإن ذكر منهم أحداً أخبرته برأيي فيه. فسمى رجلاً من قريش، فقال: ليس من رجال خراسان. قال: فعبد الملك بن المهلب. قال: لا يصلح فإنه يصبو عن هذا فليس له مكر أبيه ولا شجاعة أخيه.
حتى عدد رجالاً، وكان آخر من ذكر وكيع بن أبي سود، فقال: يا أمير المؤمنين وكيع، لقد أدرك بثأري وشفاني من عدوي، ولكن أمير المؤمنين أعظم حقاً والنصيحة له تلزمني، إن وكيعاً لم تجتمع له مائة عنان قط إلا حدث نفسه بغدرة، خامل في الجماعة ثابت في الفتنة، قال: ما هو ممن تستعين به، فمن لها ويحك؟ قال: رجل أعلمه لم يسمه أمير المؤمنين. قال: فمن هو؟ قال: لا أذكره حتى يضمن لي أمير المؤمنين ستر ذلك وأن يجيرني منه إن علم. قال: فمن هو؟ قال: لا أذكره حتى يضمن لي أمي المؤمنين ستر ذلك وأن يجيرني منه إن علم. قال: نعم. قال: يزيد بن المهلب.
قال: العراق أحب إليه من خراسان. قال ابن الأهتم: قد علمت ولكن تكرهه فيستخلف على العراق ويسير. قال: أصبت. فكتب عهد يزيد على خراسان وسيره مع ابن الأهتم، فأتى يزيد به فأمره بالجهاز للمسير ساعته، وقدم ابنه مخلداً إلى خراسان من يومه، ثم سار يزيد بعده واستخلف على واسط الجراح بن عبد الله الحكمي، واستعمل على بالبصرة، وكان أوثق إخوته عنده، واستخلف بالكوفة حرملة بن عيمر اللخمي أشهراً ثم عزله، وولى بشير بن حيان النهدي. وكانت فيس تزعم أن قتيبة لم يخلع، فلما سار يزيد إلى خراسان أمره سليمان أن يسأل عن قتيبة فإن أقامت قيس البينة أن قتيبة لم يخلع أن يقيد وكيعاً به، ولما وصل مخلد بن يزيد مرو أخذه فحبسه وعذبه وأخذ أصحابه وعذبهم قبل قدوم أبيه، وكانت ولاية وكيع خراسان تسعة أشهر أو عشرة أشهر.
ثم قدم يزيد في هذه السنة خراسان فأدنى أهل الشام وقوماً من أهل خراسان، فقال نهار بن توسعة في ذلك:
وما كنا نؤمل من أميرٍ ... كما كنا نؤمل من يزيد
فأخطأ ظننا فيه وقدماً ... زهدنا في معاشرة الزهيد
إذا لم يعطنا نصفاً أمير ... مشينا نحوه مشي الأسود
فمهلاً يا يزيد أنب إلينا ... ودعنا من معاشرة العبيد
نجيب ولا ترى إلا صدوداً ... على أنا نسلم من بعيد
ونرجع خائبي بلا نوالٍ ... فما بال التجهم والصدود
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة جهز سليمان بن عبد الملك الجيوش إلى القسطنطينية واستعمل ابنه داود على الصائفة فافتتح حصن المرأة. وفيها غزا مسلمة أرض الوضاحية ففتح الحصن الذي فتحه الوضاح صاحب الوضاحية. وفيها غزا عمر بن هبيرة أرض الروم في البحر فشتى فيها. وفيها حج سليمان بن عبد الملك بالناس وفيها عزل دواد بن طلحة الحضرمي عن مكة، وكان عمله عليها ستة أشهر، وولي عبد العزيز بن عبد الله بن خالد. وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم.
وفيها مات عطاء بن يسار، وقيل سنة ثلاث ومائة. وفيها مات موسى ابن نصير الذي فتح الأندلس، وكان موته بطريق مكة مع سليمان بن عبد الملك. وفيها توفي قيس بن أبي حازم البجلي وقد جاوز مائة سنة، وجاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم ، ليسلم، فرآه قد توفي، وروى عن العشرة، وقيل: لم يرو عن عبد الرحمن بن عوف، وذهب عقله في آخر عمره.
حازم بالحاء المهملة والزاي المعجمة.
وفيها توفي سالم بن أبي الجعد مولى أشجع، واسم أبي الجعد رافع.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين
ذكر محاصرة القسطنطينية
في هذه السنة سار سيمان بن عبد الملك إلى دابق وجهز جيشاً مع أخيه مسلمة بن عبد الملك ليسير إلى القسطنطينية، ومات ملك الروم، فأتاه أليون من أذربيجان فأخبره، فضمن له فتح الروم، فوجه مسلمة معه، فسارا إلى القسطنطينية، فلما دنا منها أمر كل فارس أن يحمل معه مدين من طعام على عجز فرسه إلى القسطنطينية، ففعلوا، فلما أتاها أمر بالطعام فألقي أمثال الجبال، وقال للمسلمين: لا تأكلوا منه شيئاً وأغيروا في أرضهم وازرعوا. وعمل بيوتاً من خشب، فشتى فيها وصاف، وزرع الناس، وبقي الطعام في الصحراء والناس يأكلون ما أصابوا من الغارات ومن الزرع، وأقام مسلمة قاهراً للروم معه أعيان الناس خالد بن معدان ومجاهد بن جبر وعبد الله بن أبي زكرياء الخزاعي وغيرهم.
فأرسل الروم إلى مسلمة يعطونه عن كل رأس ديناراً، فلم يقبل. فقالت الروم لأليون: إن صرفت عنا المسلمين ملكناك. فاستوثق منهم، فأتى مسلمة فقال له: إن الروم قد علموا أنك لا تصدقهم القتال وأنك تطاولهم ما دام الطعام عندك، فلو أحرقته أعطوا الطاعة بأيديهم. فأمر به فأحرق، فقوي الروم وضاق المسلمون حتى كادوا يهلكون، وبقوا على ذلك حتى مات سليمان. وقيل: إنما خدع أليون مسلمة بأن يسأله أن يدخل الطعام إلى الروم بمقدار ما يعيشون به ليلة واحدة ليصدقوه أن أمره وأمر مسلمة واحد وأنهم في أمان من السبي والخروج من بلادهم، فأذن له، وكان أليون قد أعد السفن والرجال، فنقلوا تلك اليلة الطعام، فلم يتركوا في تلك الحظائر إلا ما لا يذكر، وأصبح أليون محرباً، وقد خدع خديعة لو كانت إمرأة لعيبت بها، ولقي الجند ما لم يلقه جيش آخر، حتى إن كان الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده، وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق وكل شيء غير التراب، وسليمان مقيم بدابق، وتولى الشتاء فلم يقدر أن يمدهم حتى مات.
وفي هذه السنة بايع سليمان لإبنه أيوب بولاية العهد، فمات أيوب قبل أبيه. وفي هذه السنة فتحت مدينة الصقالبة، وكانت برجان قد أغارت على مسلمة بن عبد الملك وهو في قلة، فكتب إلى سليمان يستمده، فأمده، فمكرت بهم الصقالبة ثم إنهزموا. وفيها غزا الوليد بن هشام وعمرو بن قيس، فأصيب ناس من أهل أنطاكية، وأصاب الوليد ناساً من ضواحي الروم وأسر منهم بشراً كثيراً.
ذكر فتح جرجان وطبرستانفي هذه السنة غزا يزيد بن المهلب جرجان وطبرستان لما قدم خراسان.
وسبب غزوهما واهتمامه بهما أنه لما كان عند سليمان بن عبد الملك بالشام كان سليمان كلما فتح قتيبة فتحاً يقول ليزيد: ألا ترى إلى ما يفتح الله على قتيبة؟ فيقول يزيد: ما فعلت جرجان التي قطعت الطريق وأفسدت قومس ونيسابور ويقول: هذه الفتوح ليست بشيء، الشان هي جرجان.
فلما ولاه سليمان خراسان لم يكن له همة غير جرجان، فسار إليها ف مائة ألف من أهل الشام والعراق وخراسان سوى الموالي والمتطوعة، ولم تكن جرجان يومئذ مدينة إنما هي جبال ومخازم وأبواب يقوم الرجل على باب منها فلا يقدم عليه أحد. فابتدأ بقهستان فحاصرها، وكان ذلك، فإذا هزموا دخلوا الحصن. فخرجوا ذات يوم وخرج إليهم الناس فاقتتلوا قتالاً شديداً، فحمل محمد بن سبرة على تركي قد صد الناس عنه فاختلفا ضربتين، فثبت سف التركي في بيضة ابن أبي سبرة، وضربه ابن أبي سبرة فقتله ورجع وسفه يقطر دماً وسف التركي في بيضته، فنظر الناس إلى أحسن منظر رأوه.
وخرج يزيد بعد ذلك يوماً ينظر مكاناً يدخل مه عليهم، وكان في أربعمائة من وجوه الناس وفرسانهم، فلم يشعروا حتى هجم عليهم الترك في نحو أربعة آلاف فقاتلوهم ساعة، وقاتل يزيد قتالاً شديداً، فسلموا وانصرفوا، وكانوا قد عطشوا، فانتهوا إلى الماء فشربوا، ورجع عنهم العدو.
ثم إن يزيد ألح عليهم في القتال وقطع عنهم المواد حتى ضعفوا وعجزوا. فأرسل صول، دهقان قهستان، وإلى يزيد يطلب منه أن يصالحه ويؤمنه على نفسه وأهله وماله ليدفع إليه المدينة بما فيها، فصالحه ووفى له ودخل المينة فأخذ ما كان فيها من الأموال والكنوز والسبي ما لايحصى، وقتل أربعة عشر ألف تركي صبراً، وكتب إلى سليمان بن عبد الملك بذلك.
ثم خرج حتى أتى جرجان، وكان أهل جرجان قد صالحهم سعيد بن العاص، وكانوا يجبون أحياناً مائة ألف وأحياناً مائتي ألف وأحياناً ثلاثمائة ألف، وربما أعطوا ذلك وربما منعوه، ثم امتنعوا وكفروا فلم يعطوا خراجاً، ولم يأت جرجان بعد سعيد أحد ومنعوا ذلك الطريق، فلم يكن يسلك طريق خراسان أحد إلا على فارس وكرمان. وأول من صير الطريق من قومس قتيبة بن مسلم حين ولي خراسان. وبقي أمر جرجان كذلك حتى ولي يزيد وأتاهم فاستقبلوه بالصلح وزادوه وهابوه، فأجابهم إلى ذلك وصالحهم.
فلما فتح قهستان وجرجبان طمع في طبرستان أن يفتحها فعزم على أن يسير إليها، فاستعمل عبد الله بن المعمر اليشكري على الساسان وقهستان وخلف معه أربعة آلاف، ثم أقبل إلى أداني جرجان مما يلي طبرستان فاستعمل على ايذوسا راشد بن عمرو وجعله في أربعة آلاف ودخل بلاد طبرستان، فأرسل إليه لأصبهبذ صاحبها يسأله الصلح وأن يخرج من طبرستان، فأبى يزيد ورجا أن يفتحها ووجه أخاه أبا عيينة من وجه وابنه خالد بن يزيد من وجه وأبا الجهم الكلبي من وجه، وقال: إذا اجتمعتم فأبو عيينة على الناس. فسار أبو عيينة على الناس. فسار أبو عيينة وأقام يزيد معسكراً.
واستجاش الأصبهبذ أهل جيلان والديلم فأتوه فالتقوا في سفح جبل، فانهزم المشركون في الجبل، فاتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى فم الشعب، فدخله المسلمون وصعد المشركون في الجبل واتبعهم المسلمون يرومون الصعود، فرماهم العدو بالنشاب والحجارة، فانهزم أبو عيينة والمسلمون يركب بعضهم بعضاً يتساقطون في الجبل حتى انتهوا إلى عسكر يزيد، وكف عدوهم من المسلمين وأن يقطعوا عن يزيد المادة والطريق فيما بينه وبين بلاد الإسلام ويعدهم أن يكافئهم على ذلك، فثاروا بالمسلمين فقتلوهم أجمعين وهم غارون في ليلة، وقتل عبد الله بن المعمر وجميع من معه فلم ينج منهم أحد، وكتبوا إلى الأصبهبذ بأخذ المضايق والطرق.
وبلغ ذلك يزيد وأصحابه فعظم عليهم وهالهم، وفزع يزيد إلى حيان النبطي وقال له: لا يمنعك ما كان مني إليك من نصيحة المسلمين وقد جاءنا عن جرجان ما جاءنا فاعمل في الصلح. فقال: نعم. فأتى حيان الأصبهبذ فقال: أنا رجل منكم وإن كان الدين فرق بين وبينكم، فأنا لكم ناصح، فأنت أحب إلي من يزيد وقد بعث يستمد وأمداده منه قريبة، وإنما أصابوا منه طرفاً ولست آمن أن يأتيك من لا تقوم له، فأرح نفسك وصالحه، فإن صالحته صير حده. على أهل جرجان بغدرهم وقتلهم أصحابه. فصالحه على سبعمائة ألف، وقيل خمسمائة ألف وأربعمائة وقر زعفران أو قيمته من العين، وأربعمائة رجل، على كل رجل منهم ترس وطيلسان، ومع كل رجل جام من فضة وخرقة حرير وكسوة. ثم رجع حيان إلى يزيد فقال: ابعث من يحمل صلحهم، فقال: من عندهم أو من عندنا؟ قال: من عندهم، وكان يزيد قد طابت نفسه أن يعطيهم ما سألوا ويرجع إلى جرجان، فأرسل يزيد من يقبض ما صالحهم عليه حيان، فانصرف إلى جرجان. وكان يزيد قد أغرم حيان مائتي ألف درهم، وسبب ذلك أن حيان كتب إلى مخلد ابن يزيد، فبدأ بنفسه، فقال له ابنه مقاتل بن حيان: تكتب إلى مخلد وتبدأ بنفسك. قال: نعم، وإن لم يرضى لقي ما لقي قتيبة. فلبعث مخلد الكتاب إلى أبيه يزيد، فأغرمه مائتي أف درهم.
وقيل: إن سبب مسير يزيد إلى جرجان أن صولاً التركي كان ينزل قهستان والبحيرة، وهي جزيرة في البحر بينها وبين قهستان خمسة فراسخ، وهما من جرجان مما يلي خوارزم، وكان يغير على فيروز بن قول مرزبان جرجان فيصيب من بلاده. فخافه فيروز فسار إلى يزيد بخراسان وقدم عليه، فسأله عن سبب قدومه، فقال: خفت صولاً فهربت منه، وأخذ صول جرجان. فقال يزيد لفيروز: هل من حيلة لقتاله؟ قال: نعم، شيء واحد إن ظفرت به قتلته وأعطى بيده. قال: ما هو؟ قال: تكتب إلى الأصبهبذ كتاباً تسأله فيه أن يحتال لصول حتى يقيم بجرجبان واجعل له على ذلك جعلاً، فإنه يبعث بكتابك إلى صول يتقرب به إليه فيتحول عن جرجان فينزل البحيرة، وإن تحول عن جرجان وحاصرته ظفرت به.
ففعل يزيد ذلك وضمن للأصبهبذ خمسين ألف دينار إن هو حبس صولاً عن البحيرة ليحاصره بجرجان، فأرسل الأصبهبذ الكتاب إلى صول، فلما أتاه الكتاب رحل إلى البحيرة ليتحصن بها، وبلغ يزيد مسيره فخرج إلى جرجان ومعه فيروز، واستعمل على خراسان ابنه مخلداً، وعلى سمرقند وكش ونسف وبخارى ابنه معاوية، وعلى طخارستان حاتم بن قبيصة بن المهلب، وأقبل حتى أتى جرجان فدخلها ولم يمنعه منها أحد، وسار منها إلى البحيرة فحصر صولاً بها، فكان يخرج إليه صول فيقاتله ثم يرجع، فمكثوا بذلك ستة أشهر، فأصابهم مرض وموت، فأرسل صول يطلب الصلح على نفسه وماله وثلاثمائة من أهله وخاصته وسلم إليه البحيرة، فأجابه يزيد، فخرج بماله وثلاثمائة ممن أحب.
وقتل يزيد من الأتراك أربعة عشر ألفاً صبراً وأطلق الباقين. وطلب الجند أرزاقهم فقال لإدريس بن حنظلة العمي: أحصى لنا ما في البحيرة حتى نعطي الجند. فدخلها إدريس فلم يقدر على إحصاء ما فيها، فقال ليزيد: لا أستطيع ذلك وهو في ظروف، فتحصى الجواليق ويعلم ما فيها ويعطى الجند فمن أخذ شيئاً عرفنا ما أخذ من الحنطة والشعير والأرز والسمسم والعسل، ففعلوا ذلك وأخذوا شيئاً كثيراً، وكان شهر بن حوشب على خزائن يزيد بن المهلب، فرفعوا عليه أنه أخذ خريطة، فسأله يزيد عنها، فأتاه بها فأعطاها شهراً؛ فقال بعضهم:
لقد باع شهر دينه بخريطة ... فمن يأمن القراء بعدك يا شهر
وقال مرة الحنفي:
يا ابن المهلب ما أردت إلى امرئ ... لولاك كان كصالح القراء
وأصاب يزيد بجرجان تاجاً فيه جوهر فقال: أترون أحداً يزهد في هذا؟ قالوا: لا. فدعا محمد بن واسع الأزدي فقال: خذ هذا التاج. قال: لا حاجة لي فيه. قال: عزمت عليك.
فأخذه، فأمر يزيد رجلاً ينظر ما يصنع به، فلقي سائلاً فدفعه إليه، فأخذ الرجل السائل وأتى به يزيد وأخبره، فأخذ يزيد التاج وعوض السائل مالاً كثيراً.
ذكر فتح جرجان الفتح الثانيقد ذكرنا فتح جرجان وقهستان وغدر أهل جرجان، فلما صالح يزيد أصبهبذ طبرستان سار إلى جرجان وعاهد الله تعالى لئن ظفر بهم لا يرفع السيف حتى يطحن بدمائهم ويأكل من ذلك الطحين. فأتاها وحصر أهلها بحصن فجاه ومن يكون بها لا يحتاج إلى عدة من طعام وشراب، فحصرهم يزيد فيها سبعة أشهر وهم يخرجون إليه في الأيام فيقاتلونه ويرجعون.
فبينا هم على ذلك إذ خرج رجل من عجم خراسان يتصيد، وقيل: رجل من طيء، فأبصر وعلاً في الجبل ولم يشعر حتى هجم على عسكرهم فرجع كأنه يريد أصحابه وجعل يخرق قباءه ويعقد على الشجر علامات، فأتى يزيد فأخبره، فضمن له يزيد دية إن دلهم على الحصن، فانتخب معه ثلاثمائة رجل واستعمل عليهم ابنه خالد بن يزيد وقال له: إن غلبت على الحياة فلا تغلبن على الموت، وإياك أن أراك عندي مهزوماً. وضم إليه جهم بن زحر، وقال للرجل: متى تصلون؟ قال: غداً العصر. قال يزيد سأجهد على مناهضتهم عند الظهر.
فساروا فلما كان الغد وقت الظهر أحرق يزيد كل حطب كان عندهم، فصار مثل الجبال من النيران، فنظر العدو إلى النيران فهالهم ذلك فخرجوا إليهم، وتقدم يزيد إليهم فاقتتلوا، وهجم أصحاب يزيد الذين ساروا على عسكر الترك قبل العصر وهم آمنون من ذلك الوجه، ويزيد يقاتلهم من هذا الوجه، فما شعروا إلا بالتكبير من ورائهم، فانقطعوا جميعاً إلى حصنهم، وركبهم المسلمون فأعطوا بأيديهم ونزلوا على حكم يزيد، فسبى ذراريهم وقتل مقاتلهم وصلبهم فرسخين إلى يمين الطريق ويساره وقاد منهم اثني عشر ألفاً إلى وادي جرجان وقال: من طلبهم بثأر فليقتل. فكان الرجل من المسلمين يقتل الأربعة والخمسة، وأجرى الماء على الدم وعليه أرحاء ليطحن بدمائهم ليبر يمينه، فطحن وخبز وأكل، وقيل: قتل منهم أربعين ألفاً.
وبنى مدينة جرجان، ولم تكن بنيت قبل ذلك مدينة، ورجع إلى خراسان واستعمل على جرجان جهم بن زحر الجعفي، وقيل: بل قال يزيد لأصحابه لما ساروا: إذا وصلتم إلى المدينة انتظروا فإذا كان السحر كبروا واقصدوا الباب فستجدونني قد نهضت بالناس إليه. فلما دخل ابن زحر المدينة أمهل حتى كانت الساعة التي أمره يزيد أن ينهض فيها فكبر، ففزع أهل الحصن، وكان أصحاب يزيد لا يلقون أحداً إلا قتلوه، ودهش الترك فبقوا لا يدرون أين يتوجهون، وسمع يزيد التكبير فسار في الناس إلى الباب فلم يجد عنده أحدأ يمنعه وهم مشغولون بالمسلمين، فدخل الحصن من ساعته وأخرج من فيه وصلبهم فرسخين من يميمن الطريق ويساره، فصلبهم أربعة فراسخ، وسبى أهلها وغنم ما فيها، وكتب إلى سليمان بالفتح يعظمه ويخبره أنه قد حصل عنده الخمس ستمائة ألف ألف، فقال له كاتبه المغيرة بن أبي قرة مولى بني سدوس: لا تكتب تسمية المال فإنك من ذلك بين أمرين، إما استكثره فأمرك بحمله وإما سمحت نفسه لك به فأعطاكه، فتكلف الهدية، فلا يأتيه من قبلك شيء إلا استقله، فكأني بك قد استغرقت ما سميت ولم يقع منه موقعاً ويبق المال الذي سميت مخلداً في دواوينهم، فإن ولي والٍ بعده أخذك به، وإن ولي من يتحامل عليك لم يرض بأضعافه، ولكت اكتب فسله القدوم وشافهه بما أحببت فهو أسلم. فلم يقبل منه وأمضى الكتاب، وقيل: كان المبلغ أربعة آلاف ألف.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي أيوب بن سليمان بن عبد الملك وهو ولي عهد. وفيها فتحت مدينة الصقالبة، وقيل غير ذلك، وقد تقدم. وفيها غزا دواد بن سليمان أرض الروم ففتح حصن المرأة مما يلي ملطكية. وفيها كانت الزلازل في الدنيا كثيرة ودامت ستة أشهر. وفيها مات عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود وأبو عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف، ويعرف بمولى ابن أزهر. وعبد الرحمن بن زيد بن حارثة الأنصاري. وسعيد بن مرجانة مولى قريش، وهي أمه، واسم أبيه عبد الله.
وحج بالناس عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وهو أمير على مكة، وكان العمال من تقدم ذكرهم إلا البصرة، فإن يزيد استعمل عليها سفيان بن عبد الله الكندي.
ثم دخلت سنة تسع وستعين
ذكر موت سليمان بن عبد الملكفي هذه السنة توفي سليمان بن عبد الملك بن مروان لعشر بقين من صفر، فكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام، وقيل توفي لعشر مضين من صفر، فتكون ولايته سنتين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز. وكان الناس يقولون: سليمان مفتاح الخبر، ذهب عنهم الحجاج وولي سليمان فأطلق الأسرى وأخلى السجون وأحسن إلى الناس واستخلف عمر بن عبد العزيز. وكان موته بدابق من أرض قنسرين، لبس يوماً حلةً خضراء وعمامة خضراء ونظر في المرآة فقال: أنا الملك الفتى، فما عاش جمعة، ونظرت إليه جارية فقال: ما تنظرين؟ فقالت:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
ليس فيما علمته فيك عيب ... كان في الناس غير أنك فان
قيل: وشهد سليمان جنازة بدابق فدفنت في حقل فجعل سليمان يأخذ من تلك التربة ويقول: ما أحسن هذه التربة وأطيبها! فما أتى عليه جمعة حتى دفن إلى جانب ذلك القبر.
قيل: حج سليمان وحج الشعراء، فلما كان بالمدينة قافلاً تلقوه بنحو أربعمائة أسير من الروم، فقعد سليمان وأقربهم منه مجلساً عبد الله بن الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، فقدم بطريقهم، فقال: يا عبد الله اضرب عنقه! فأخذ سيفاً من حرسي فضربه فأبان الرأس وأطن الساعد وبعض الغل ودفع البقية إلى الوجوه يقتلونهم، ودفع إلى جرير رجلاً منهم، فأعطاه بنو عبس سيفاً جيداً، فضربه فأبان رأسه، ودفع إلى الفرزدق أسيراً، فأعطوه سيفاً ردياً لا يقطع، فضرب به الأسير ضربات فلم يصنع شيئاً، فضحك سليمان والقوم وشمت به بنو عبس أخوال سليمان، وألقى السيف وأنشأ يقول:
وإن يك سيف خان أو قدر أتى ... بتأخي نفسٍ حتفها غير شاهد
فسيف بني عبسٍ وقد ضربوا به ... نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
كذاك سوف الهند تنبو ظباتها ... وتقطع أحياناً مناط القلائد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب { متن الدرة المضيئة في السيرة}الدرة المضية

    كتاب { متن الدرة المضيئة في السيرة}الدرة المضية بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي  ----------------- قال الشيخ الإمام الحبر الحافظ أبو...