الجمعة، 20 مايو 2022

مجلد 19. و20.كتاب : الكامل في التاريخ ابن الأثير


 
  مجلد 19. و20.كتاب : الكامل في التاريخ ابن الأثير
===========
فلما كان الأحد أنكر الأتراك مساواة الفراغنة لهم في الدار، ودخولهم معهم، ورفع أن الفراغنة إمنا تم لهم ما بعدم رؤساء الأتراك، فخرجوا من الدار بأجمعهم، وبقيت الدار على الفراغنة، والمغاربة، فأنكر الأتراك ذلك، وأضافوا إليه طلب بابكيال، فقال المهتدي للفراغنة والمغاربة ما جرى من الأتراك، وقال لهم: إن كنتم تظنون فيكم قوة فما أكره قربكم، وإلا أرضيناهم من قبل تفاقم الأمر! فذكروا أنهم يقومون به، فخرج بهم المهتدي وهم في ستة آلاف، منهم من الأتراك نحوألف وهم أصحاب صالح بن وصيف، وكان الأتراك في عشرة آلاف، فلما التقوا انهزم أصحاب صالح، وخرج عليهم كمين للأتراك، فانهزم أصحاب المهتدي؛ وذكر نحوما تقدم إلا أنه قال إنهم لما رأوا المهتدي بدار أحمد بن جميل قاتلهم، فأخرجوه، وكان به أثر طعنة، فلما رأى الجراح ألقى بيده إليهم، وأرادوه على الخلع، فأبى أن يجيبهم، فمات يوم الأربعاء وأظهروه لناس يوم الخميس، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد.
وكانوا قد خلعوا أصابع يديه ورجليه من كعبيه، وفعلوا به غير شيء حتى مات؛ وطلبوا محمد بن بغأن فوجدوه ميتأن فكسروا على قبره ألف سيف.
وكانت مدة خلافة المهتدي أحد عشر شهراً وخمس عشرة ليلة، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة، وكان واسع الجبهة، أسمر، رقيقأن أشهل، جهم الوجه، عريض البطن، عريض المنكبين، قصيرأن وطويل اللحية، ومولده بالقاطول.
ذكر بعض سيرة المهتديكان المهتدي بالله من احسن الخلفاء مذهبأن وأجملهم طريقة، وأظهرهم ورعأن وأكثرهم قال عبد اله بن إبراهيم الإسكافي: جلس المهتدي للمظالم، فاستعداه رجل على ابن له، فأمر بإحضاره، فأحضر وأقامه إلى جانب خصمه ليحكم بينهمأن فقال الرجل للمهتدي: والله يا أمير المؤمنين ما أنت إلا كما قيل:
حكمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر
لا يقبلا الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر
فقال المهتدي: أما أنت أيها الرجل فأحسن اله مقالتك، وأما أنا فما جلست حتى قرأت: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) الأنبياء: 47؛ الآية؛ قال: فما رأيت باكياً أكثر من ذلك اليوم.
قال أبوالعباس بن هاشم بن القاسم الهاشمي: كنت عند المهتدي بعض عشايا شهر رمضان، فقمت لأنصرف، فأمرني بالجلوس، فجلست حتى صلى المهتدي بنا المغرب، وأمر بالطعام فاحضر، واحضر طبق خلاف عليه رغيفان، وفي إناء ملح، وفي آخر زيت، وفي آخر خل، فدعاني إلى الأكل، وأكلت مقتصراً ظناً مني أنه يحضر طعاماً جيدأن فلما رأى أكلي كذلك قال: أما كنت صائماً؟ قلت: بلى. قال: أفلست تريد الصوم غداً؟ قلت: وكيف لا وهوشهر رمضان؟ فقال: كل واستوف عشاءك، فليس ها هنا غير ما ترى. فعجبت من قوله، وقلت: ولم يا أمير المؤمنين؟ قد أسبغ اله عليك النعمة ووسع رزقهّ فقال: إن الأمر على ما وصفت، والحمد لله، ولكني فكرت في انه من بني أمية عمر بن عبد العزيز، فعزت لبني هاشم أن لا يكون في خلفائهم مثله وأخذت نفسي بما رأيت.
قال إبراهيم بن مخلد بن محمد بن عرفة عن بعض الهاشميين: إن المهتدي وجدوا له سفطاً فيه جبة صوف، وكساء، وبرنس كان يلبسه بالليل ويصلي فيه، ويقول: أما يستحي بنوالعباس أن لا يكون فيهم مثل عمر بن عبد العزيز؟ وكان قد اطرح الملاهي، وحرم الغناء والشراب، ومنع أصحاب السلطان عن الظلم، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
ذكر خلافة المعتمد على اللهلما أخذ المهتدي بالله وحبس أحضر أبوالعباس أحمد بن المتوكل، وهوالمعروف بابن قتيان، وكان محبوساً بالجوسق، فبايعه الناس، فبايعه الأتراك، وكتبوا بذلك إلى موسى بن بغا وهوبخانقين، فحضر إلى سامرا فبايعه، ولقب المعتمد على الله؛ ثم إن المهتدى مات ثاني يوم بيعة المعتمد، وسكن الناس، واستوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان.
ذكر أخبار صاحب الزنجفي هذه السنة سير جعلان لحرب صاحب الزنج بالبصرة، فلما وصل إلى البصرة نزل بمكان بينه وبين صاحب الزنج فرسخ، وخندق عليه وإلى أصحابه، وأقام ستة اشهر في خندقه، وجعل يوجه الزينبي وبني هاشم ومن خف لحربهم هذا اليوم الذي تواعدهم جعلان للقائه، فلم يكن بينهم إلا الرمي بالحجارة والنشاب، ولا يجد جعلان إلى لقائه سبيلأن لضيق المكان عن مجال الخيل، وكان أكثر أصحاب جعلان خيالة.
فلما طال مقامه في خندقه أرسل صاحب الزنج أصحابه إلى مسالك الخندق، فبيتوا جعلان، وقتلوا من أصحابه جماعة، وخاف الباقون خوفاً شديداً.
وكان الزينبي قد جمع البلالية والسعدية ووجه بهم من مكانين، وقاتلوا الخبيث، فظفر بهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، فترك جعلان خندقه وانصرف إلى البصرة، وظهر عجزه للسلطان، فصرفه عن حرب الزنج، وأمر سعيداً الحاجب بمحاربتهم.
وتحول صاحب الزنج، بعد ذلك، من السبخة التي كان فيهأن ونزل بنهر أبي الخصيب، وأخذ أربعة وعشرين مركباً من مراكب البرح، وأخذوا منها أموالاً كثيرة لا تحصى، وقتل من فيهأن ونهبها أصحابه ثلاثة أيام، وأخذه لنفسه بعد ذلك من النهب.
ذكر دخول الزنج الأبلةوفيها دخل الزنج الأبلة، فقتلوا فيها خلقاً كثيراً وأحرقوها.
وكان سبب ذلك أن جعلان لما تنحى عن خندقه إلى البصرة ألح شناً صاحب الزنج بالغارات على الأبلة، وجعلت سراياه تضرب إلى ناحية نهر معقل، ولم يزل يحارب إلى يوم الأربعاء لخمس بقين من رجب، فافتتحها وقتل أبوالأحوص وعبيد الله بن حميد بن الطوسي، وأضرمها نارأن وكانت مبنية بالساج، فأسرعت النار فيهأن وقتل من أهلها خلق كثير، وحووا الأموال العظيمة، وكان ما أحرقت النار أكثر من الذي نهب.
ذكر أخذ الزنج عبادانوفيها أرسل أهل عبادان إلى صاحب الزنج فسلموا إليه حصنهم.
وكان الذي حملهم على ذلك أنه لما فعل بأهل الأبلة ما فعل خاف أهل عبادان على أنفسهم، وأهليهم، وأموالهم، فكتبوا إليه يطلبون الأمان على أن يسلموا إليه البلد، فأمنهم وسلموه إليه، فأنفذ أصحابه إليهم، وأخذوا ما فيه من العبيد والسلاح، ففرقه في أصحابه.
ذكر أخذهم الأهوازولما فرغ العلوي البصري من الأبلة وعبادان طمع في الأهواز، فاستنهض أصحابه نحوجبى، فلم يلبث أهلها، وهربوا منهم، فدخلها الزنج، وقتلوا من رأوا بهأن وأحرقوا ونهبوأن وأخربوا ما وراءها إلى الأهواز، فلما بلغوا الأهواز هرب من فيها من الجند ومن أهلهأن ولم يبق إلا القليل، فدخلوها وأخربوها؛ وكان بها إبراهيم بن المدبر، متولي الخراج، فأخذوه أسيراً بعد أن جرح، ونهب جميع ماله، وذلك لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان، فلما فعل ذلك بالأهواز، وعبادان، والأبلة، خافه أهل البصرة، وانتقل كثير من أهلها في البلدان.
ذكر عزل عيسى بن الشيخ عن الشام وولايته أرمينيةلما استولى ابن الشيخ على دمشق، وقطع الحمل عن بغداد، اتفق أن ابن المدبر حمل مالاً من مصر إلى بغداد، مقدار سبعمائة ألف دينار، فأخذها عيسى بن الشيخ.
فأرسل من بغداد إليه حسين الخادم يطالبه بالمال، فذكر أنه أخرجه على الجند، فأعطاه حسين عهده على أرمينية ليقيم الدعوة للمعتمد، وكان قد امتنع من ذلك، فأخذ العهد، وأقام الدعوة للمعتمد، ولبس السواد، ظناً منه أن الشام تكون بيده.
فأنفذ المعتمد أماجور، وقلده دمشق وأعمالهأن فسار إليها في ألف رجل، فلما قرب منها أنهض عيسى إليه ولده منصوراً في عشرين ألف مقاتل، فلما التقوا انهزم عسكر منصور وقتل منصور، فوهن عيسى، وسار إلى أرمينية على طريق الساحل وولي أماجور دمشق.
ذكر ابن الصوفي العلوي وخروجه بمصروفيها ظهر بصعيد مصر إنسان علوي، وذكر أنه إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن بن أبي طالب، عليه السلام، ويعرف بابن الصوفي، وملك مدينة أسنأن ونهبهأن وعم شره البلاد.
فسير إليه أحمد بن طولون جيشأن فهزمه العلوي، وأسر المقدم على الجيش، فقطع يديه ورجليه وصلبه؛ فسير إليه ابن طولون جيشاً آخر فالتقوا بنواحي إخميم، فاقتتلوا قتالاً شديدأن فانهزم العلوي، وقتل كثير من رجاله، وسار هوحتى دخل الواحات، وسيرد ذكره سنة تسع وخمسين ومائتين، إن شاء الله تعالى.
ذكر ظهور علي بن زيد على الكوفة وخروجه عنهافي هذه السنة ظهر علي بن يزيد العلوي بالكوفة، واستولى عليها، وأزال عنها نائب الخليفة، واستقر بها.
فسير إليه الشاه بن ميكال في جيش كثيف، فالتقوا واقتتلوأن فانهزم الشاه، وقتل جماعة كثيرة من أصحابه، ونجا الشاه.
ثم وجه المعتمد إلى محاربته كيجور التركي، وأمره أن يدعوه إلى الطاعة، ويبذل له الأمان، فسار كيجور فنزل بشاهي، وأرسل إلى علي بن زيد يدعوه إلى الطاعة، وبذل له الأمان، فطلب علي أموراً لم يجبه إليها كيجور، فتنحى علي بن زيد عن الكوفة إلى القادسية، فعسكر بهأن ودخل كيجور إلى الكوفة ثالث شوال من السنة، ومضى علي بن زيد إلى خفان، ودخل بلاد بني أسد، وكان قد صاهرهم، وأقام هناك، ثم سار إلى حنبلاء.
وبلغ كيجور خبره، فأسرى إليه من الكوفة سلخ ذي الحجة من السنة، فواقعه، فانهزم علي بن زيد، وطلبه كيجور ففاته، وقتل نفراً من أصحابه، وأسر آخرين، وعاد كيجور إلى الكوفة؛ فلما استقامت أمورها عاد إلى سر من رأى أمر الخليفة، فوجه إليه الخليفة نفراً من القواد، فقتلوه بعكبرا في ربيع الأول سنة سبع وخمسين ومائتين.
ذكر عدة حوادثوفيها تقدم سعيد بن صالح الحاجب لحرب صاحب الزنج من قبل السلطان.
وفيها تحارب مساور الخارجي وأصحاب موسى بن بغا بناحية خانقين، وكان مساور في جمع كثير، وكان أصحاب موسى بن بغا نحومائتين، فالتقوا بمساور، وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة.
وفيها وثب محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي، وهومن أهل فارس، ورجل من أكرادها يقال له أحمد بن الليث، بالحارث بن سيمأن عامل فارس، فحارباه وقتلاه، وغلب محمد بن واصل على فارس.
وفيها وجه مفلح لحرب مساور.
وفيها غلب الحسن بن زيد الطالبي على الري في رمضان، فسار موسى ابن بغا إلى الري في شوال وشيعه المعتمد.
وفيها توفي الإمام أبوعبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري الجعفي صاحب المسند الصحيح، وكان مولده سنة أربع وتسعين ومائة.
حوادث سنة سبع وخمسين ومائتين
ذكر عود أبي أحمد الموفق من مكة إلى سر من رأىلما اشتد أمر الزنج، وعظم شرهم، وأفسدوا في البلاد، أرسل المعتمد على الله إلى أخيه أبي أحمد الموفق، فأحضره من مكة، فلما حضر عقد له على الكوفة، وطريق مكة، والحرمين، واليمن، ثم عقد له على بغداد، والسواد، وواسط، وكور دجلة، والبصرة، والأهواز، وفارس، وأمر أن يعقد لياركوج على البصرة، وكور دجلة، والبحرين، واليمامة، مكان سعيد ابن صالح، فاستعمل ياركوج منصور بن جعفر الخياط على البصرة، وكور دجلة إلى ما يلي الأهواز.
ذكر انهزام الزنج من سعيد الحاجبوفيها في رجب أوقع سعيد الحاجب بجماعة من الزنج، فهزمهم، واستنقذ ما معهم من النساء، والنهب، وجرح سعيد عدة جراحات.
وبلغه الخبر بمع آخر منهم، فسار إليهم، فلقيهم، فهزمهم أيضأن واستنقذ ما معهم، فكانت المرأة من تلك الناحية تأخذ الزنجي فتأتي به عسكر سعيد، فلا يمتنع عليها.
وعسكر سعيد بهطة، ثم عبر إلى غرب دجلة، فأوقع بصاحب الزنج عدة وقعات، ثم عاد إلى معسكره بهطة، فأقام إلى باقي رجب، وعامة شعيان.
ذكر خلاص ابن المدبر من الزنجوفيها تخلص إبراهيم بن محمد بن المدبر من حبس الزنج، وكان سبب خلاصه أنه كان محبوساً في بيت يحيى بن محمد البحراني، ووكل به رجلين، منزلهما ملاصق المنزل الذي فيه إبراهيم، فضمن لهما مالأن ورغبهمأن فعملا سرباً إلى البيت الذي فيه إبراهيم، فخرج هووابن أخ له يقال له أبوغالب ورجل هاشمي.
ذكر انهزام سعيد من الزنج
وولاية منصور بن جعفر البصرةوفيها أوقع العلوي صاحب الزنج بسعيد، وكان سير إليه جيشأن فأوقعوا به ليلأن وأصابوا مقتلة من أصحاب سعيد، فقتلوا خلقاً كثيرأن وأحرقوا عسكره، فضعف هوومن معه، فأمر بالمسير إلى باب الخليفة.
ونزل بفراج بالبصرة، فسار سعيد عن البصرة، وأقام بها بفراج يحمي أهلهأن فرد السلطان أمرها إلى منصور بن جعفر الخياط، بعد سعيد الحاجب، وكان منصور يبذرق السفن، ويحميهأن وسيرها إلى البصرة، فضاقت الميرة على الزنج، فجمع منصور الذا فأكثر منهأن وسار نحوصاحب الزنج، فكمن له صاحب الزنج، فلما أقبل خرجوا عليه، فقتلوا في أصحابه مقتلة عظيمة، وغرق منهم خلق كثير، وحملوا من رؤوس أصحابه إلى البحراني ومن معه من الزنوج بنهر معقل.
ذكر انهزام جيش الزنج بالأهوازوفيها أرسل صاحب الزنج جيشاً مع علي بن أبان لقطع قنطرة أربك، فلقيهم إبراهيم بن سيما منصرفاً من فارس، فأوقع بجيش العلوي فهزمهم، وقتل منهم، وجرح علي بن أبان.
ثم إن إبراهيم سار قاصداً نهر جي، فأمر كاتبه شاهين بن بسطام بالمسير على طريق آخر ليوافيه بنهر جي، بعد الوقعة مع علي بن أبان، وكان علي بن أبان قد سار من الوقعة فنزل بالخيزرانية، فأتاه رجل فأخبره بإقبال شاهين إليه، فسار نحوه، فاتقيا وقت العصر بموضع بين جي ونهر موسى، واقتتلوا قتالاً شديدأن ثم صدمهم الزنج صدمة صادقة فهزموهم، وقتلوا شاهين وابن عم له، وقتل معه خلق كثير.
فلما فرغ الزنج منهم أتاهم الخبر بقرب إبراهيم بن سيما منهم، فسار علي نحوه، فوافاه وقت العشاء الآخرة، فأوقع بإبراهيم دفعة أخرى شديدة قتل فيها جمعاً كثيراً.
قال علي بن أبان: وكان أصحابي قد تفرقوا بعد الوقعة مع شاهين، ولم يشهد معي حرب إبراهيم غير خمسين رجلأن وانصرف علي إلى جي.
ذكر أخذ الزنج البصرة وتخريبهالما سار سعيد عن البصرة ضم السلطان عمله إلى المنصور بن جعفر الخياط، وكان منه ما ذكرنأن ولم يعد منصور لقتاله، واقتصر على تخفير القيروانات والسفن، فامتنع أهل البصرة، فعظم ذلك على العلوي، فتقدم إلى علي بن أبان بالخيزرانية ليشغل منصوراً عن تسيير القيروانات، فكان بنواحي جي والخيزرانية، وشغل منصورأن فعاد أهل البصرة إلى الضيق، وألح أصحاب الخبيث عليهم بالحرب صباحاً ومساءً.
فلما كان في شوال أزمع لخبيث على جمع أصحابه لدخول البصرة، والجد في إخرابها لضعف أهلها وتفرقهم، وخراب ما حولهم من القرى، ثم أمر محمد ن يزيد الدارمي، وهوأحد من صحبه بالبحرين، أن يخرج إلى الأعراب ليجمعهم، فأتاه منهم خلق كثير، فأناخوا بالقندل، ووجه إليهم العلوي سليمان بن موسى الشعراني، وأمرهم بتطرق البصرة والإيقاع بها ليتمرن الأعراب على ذلك، ثم أنهض علي بن أبان، وضم إليه طائفة من الأعراب، وأمره بإتيان البصرة من ناحية بني سعيد، وأمر يحيى بن محمد البحراني بإتيانها مما يلي نهر عدي، وضم إليه سائر الأعراب.
فكان أول من واقع أهل البصرة علي بن أبان، وبفراج يومئذ بالبصرة، في جماعة من الجند، فأقام يقاتلهم يومين ومال الناس نحوه.
وأقبل يحيى بن محمد فيمن معه نحوالجسر، فدخل علي بن أبان وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة بقيت من شوال، فأقام يقتل ويحرق يوم الجمعة، وليلة السبت، ويوم السبت، وغادي يحيى البصرة يوم الأحد، فتلقاه بفراج وبرية في جمع فردوه، فرجع يومه ذلك.
ثم غاداهم اليوم الآخر، فدخل وقد تفرق الجند، وهرب برية، وانحاز بفراج ومن معه، ولقيه إبراهيم بن يحيى المهلبي، فاستأمنه لأهل البصرة، فأمنهم، فنادى منادي إبراهيم: من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم، فحضر أهل البصرة قاطبة، حتى ملأوا الرحاب، فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة لئلا يتفرقوأن فغدر بهم، وأمر أصحابه بقتلهم، فكان السيف يعمل فيهم، وأصواتهم مرتفعة بالشهادة، فقتل ذلك الجمع كله، ولم يسلم إلا النادر منهم، ثم انصرف يومه ذلك إلى الحربية.
ودخل علي بن أبان الجامع فأحرقه، وأحرقت البصرة في عدة مواضع، منها المربد، وزهران، وغيرهمأن واتسع الحريق من الجبل إلى الجبل، وعظم الخطب، وعمها القتل والنهب والإحراق، وقتلوا كل من رأوا بهأن فمن كان من أهل اليسار أخذوا ماله وقتلوه، ومن كان فقيراً قتلوه لوقته، وبقوا كذلك عدة أيام.
ثم أمر يحيى أن ينادي بالأمان ليظهروأن فلم يظهر أحد؛ ثم انتهى الخبر إلى الخبيث، فصرف علي بن أبان عنهأن وأقر يحيى عليها لموافقته هواه في كثرة القتل، وصرف علياً لإبقائه على أهلهأن فهرب الناس على وجوههم وصرف الخبيث جيشه عن البصرة.
فلما أخبر البصرة إلى يحيى بن زيد، وذلك لمصير جماعة من العلويين إليه، وكان فيهم علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد وجماعة من نسائهم، فترك الانتساب إلى عيسى بن زيد وانتسب إلى يحيى بن زيد، قال القاسم بن الحسن النوفلي: كذب، إن يحيى لم يعقب غير بنت ماتت وهي ترضع.
ذكر مسير المولد لحرب الزنج
وفيهأن في ذي القعدة، أمر المعتمد أحمد المولد بالمسير إلى البصرة لحرب الزنج، فسار فنزل الأبلة، وجاء برية فنزل البصرة، واجتمع إليه من أهلها خلق كثير، فسير العلوي إلى حرب المولد يحيى بن محمد، فسار غليه فقاتله عشرة أيام، ثم وطن المولد نفسه على المقام، فكتب العلوي إلى يحيى يأمره بتبييت المولد، ووجه إليه الشذا مع أبي الليث الأصفهاني، فبيته، ونهض المولد فقاتله تلك الليلة، ومن الغد إلى العصر، ثم انهزم عنه.
ودخل الزنج عسكره فغمنوا ما فيه، فاتبعه إلى الجامدة، فأوقع بأهلهأن ونهب تلك القرى جيمعهأن وسفك ما قدر عليه من الدماء، ثم رجع إلى نهر معقل.
ذكر قصد يعقوب فارس وملكه بلخ وغيرهاوفي هذه السنة سار يعقوب بن الليث إلى فارس، فأرسل إليه المعتمد ينكر ذلك عليه، فكتب إليه الموفق بولاية بخ، وطخارستان، وسجستان، والسند، فقبل ذلك وعاد، وسار إلى بلخ وطخارستان، فلما وصل إلى بلخ نزل بظاهرهأن وخرب نوشاد، وهي أبنية كان بناها داود بن العباس ابن ماجور خارج بلخ.
ثم سار يعقوب من بلخ إلى كابل، واستولى عليهأن وقبض على زنبيل، وأرسل رسولاً إلى الخليفة، ومعه هدية جليلة المقدار، وفيها أصنام أخذها من كابل وتلك البلاد، وسار إلى بست فأقام بها سنة.
وسبب إقامته أنه أراد الرحيل، فرأى بعض قواده قد حمل بعض أثقاله، فغضب وقال: أترحلون قبلي؟ وأقام سنة، ثم رجع إلى سجستان، ثم عاد إلى هراة، وحاصر مدينة كروخ حتى أخذهأن ثم سار إلى بوشنج، وقبض على الحسين بن طاهر بن الحسين الكبير، وأنفذ إليه محمد بن طاهر ابن عبد الله، فسأله إطلاقه وهم عم أبيه الحسين بن طاهر، فلم يفعل، وبقي في يده.
ذكر ملك الحسن بن زيد العلوي جرجانوفي هذه السنة قصد الحسن بن زيد العلوي صاحب طبرستان جرجان واستولى عليهأن وكان محمد بن طاهر، أمير خراسان، لما بلغه ذلك من عزم الحسن على قصد جرجان قد جهز العساكر فأنفق عليها أموالاً كثيرة، وسيرها إلى جرجان لحفظهأن فلما قصدها الحسن لم يقوموا له، وظفر بهم، وملك البلد، وقتل كثيراً من العساكر، وغمن هووأصحابه ما عندهم.
وضعف حينئذ محمد بن طاهر، وانتقض عليه كثير من الأعمال التي كان يجيء خراجها إليه، فلم يبق في يده إلا بعض خراسان، وأكثر ذلك مفتون بالمتغلبين في نواحيهأن والشراة الذين يعيثون في عمله، فلا يمكنه دفعهم، فكان ذلك سبب تغلب يعقوب الصفار على خراسان، كما نذكره سنة تسع وستين ومائتين، إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثوفيها أخذ أحمد المولد سعد بن أحمد بن سعد الباهلي، وكان قد تغلب على البطائح، وأفسد الطريق، وحمل إلى سامرأن فضرب سبع مائة سوط فمات، وصلب ميتاً.
وحج بالناس الفضل بن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بن محمد بن علي.
وفيها وثب بسيل المعروف بالصقلبي، وإمنا قيل له الصقلبي، وهومن بيت المملكة، لأن أمه صقلبية، على ميخائيل بن توفيل ملك الروم، فقتله؛ وكان ملك ميخائيل أربعاً وعشرين سنة، وملك بسيل الروم.
وفيها أقطع المعتمد مصر وأعمالها لياركوج التركي، فأقر عليها أحمد بن طولون.
وفيها فارق عبد العزيز بن أبي دلف الري من غير خوف، وأخلاهأن فأرسل إليها الحسن بن زيد العلوي، صاحب طبرستان، القاسم بن علي بن القاسم بن علي العلوي، المعروف بدليس، فغلب عليهأن فأساء السية في أهلها جدأن وقلعوا أبواب المدينة، وكانت من حديد، وسيرها إلى الحسن بن زيد، وبقي كذلك نحوثلاث سنين.
وفيها خرج علي بن مساور الخارجي، وخارجي آخر اسمه طوق من بني زهير، فاجتمع إليه أربعة آلاف، فسار إلى أذرمة، فحاربه أهلهأن فظفر بهم، فدخلها بالسيف، وأخذ جارية بكراً بجعلها فيئأن وافتضها في المسجد، فجمع عليه الحسن بن أيوب بن أحمد العلوي جمعاً كثيرأن فحاربه فقتله، وقطع رأسه وأنفذه إلى سامرا.
وفيها قتل محمد بن خفاجة، أمير صقلية، قتله خدمه نهارأن وكتموا قتله، فلم يعرف إلا من الغد، وكان الخدم الذين قتلوه قد هربوأن فطلبوا فأخذوأن وقتل بعضهم، ولما قتل استعمل محمد بن أحمد بن الأغلب على صقلية أحمد بن يعقوب بن المضاء بن سلمة فلم تطل أيامه، ومات سنة ثمان وخمسين ومائتين.
وفيها توفي الحسن بن عمر العبدي، وكان مولده سنة خمسين ومائة بسر من رأى.
وفيها توفي أبوالفضل العباس بن الفرج الرياشي اللغوي، من كبارهم، وروى عن الأصمعي وغيره.
وفيها توفي محمد بن الخطاب الموصلي، وكان من أهل العلم والزهد.
حوادث سنة ثمان وخمسين ومائتين
ذكر قتل منصور بن جعفر الخياطفي هذه السنة قتل منصور بن جعفر الخياط، وكان سبب قتله أن اللوي البصري لما فرغ من أمر البصرة أمر علي بن أبان بالمسير إلى جي لحرب منصور ابن جعفر، وهويلي يومئذ الأهواز، وأقام بإزائه شهرأن وكان منصور في قلة من الرجال، فأتى عسكر علي وهوبالخيزرانية.
ثم إن الخبيث، صاحب الزنج، وجه إلى علي باثنتي عشرة شذاة مشحونة بجلة أصحابه، وولى أمرهم أبا الليث الأصبهاني، وأمره بطاعة علي، فلما صار إلى خالفه، واستبد عليه، وجاء منصور كما كان يجيء للحرب، فتقدم إليه أبوالليث، عن غير إذن علي، فظفر به منصور وبالشذوات التي معه،، وقتل فيها من البيض والزنج خلقاً كثيرأن وأفلت أبوالليث، ورجع إلى الخبيث.
ثم إن علياً وجه طلائع يأتونه بخبر منصور، وأسرى إلى وال كان لمنصور كرنبأن فقتله وقتل أكثر أصحابه، وغمن ما كان معهم ورجع.
وبلغ الخبر منصورأن فأسرى إلى الخيزرانية، وخرج إليه علي، فتحاربوا إلى الظهر، ثم انهزم منصور، وتفرق عنه أصحابه، وانقطع عنهم، وأدركته طائفة من الزنج، فحمل عليهم، وقاتلهم حتى تكسر رمحه، وفني نشبه، ثم حمل حصانه ليعبر النهر، فوقع في النهر، ولم يعبره.
وكان سبب وقوعه أن بعض الزنج رآه حين أراد أن يعبر النهر، فألقى نفسه في النهر قبل منصور وتلقى الفرس حين وثبت فنكص، فلما سقط في النهر قتله الأسور، وأخذ سلبه، وقتل معه أخوه خلف بن جعفر وغيره، فولي ياركوج ما كان إلى منصور بن جعفر من العمل.
ذكر مسير أبي أحمد إلى الزنج وقتل مفلحوفيهأن في ربيع الأول، عقد المعتمد لأخيه أبي أحمد على ديار مصر، وقنسرين، والواصم، وخلع عليه وعلى مفلح في ربيع الآخر، وسيرهما إلى حرب الزنج بالبصرة، وركب المعتمد معه يشيعه، وسار نحوالبصرة، ونازل العلوي وقاتله.
وكان سبب تسييره ما فعله بالبصرة، واكبر الناس ذلك، وتجهزوا إليه وساروا في عدة حسنة كاملة، وصحبه من سوقة بغداد خلق كثير.
وكان علي بن أبان يجي، على ما ذكرنأن وسار يحيى بن محمد البحراني إلى نهر العباس، ومعه أكثر الزنوج، فبقي صاحبهم في قلة من الناس، وأصحابه يغادون البصرة ويراوحونها لنقل ما نالوه منها؛ فلما نزل عسكر أبي أحمد بنهر معقل، احتفل من فيه من الزنوج إلى صاحبهم مرعوبين، وأخبروه بعظم الجيش وأنهم لم يرد عليهم مثله، وأحضر رئيسين من أصحابه، فسألهما عن قائد الجيش فلم يعرفاه، فجزع، وارتاع.
ثم أرسل إلى علي بن أبان يأمره بالمسير إليه فيمن معه، فلما كان يوم الأربعاء لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى أباه بعض قواده، فأخبره بمجيء العسكر وتقدمهم، وأنهم ليس في وجوههم من يرده من الزنوج، وكذبه، وسبه، وأمر فنودي في الزنوج بالخروج إلى الحرب، فخرجوأن فرأوا مفلحاً قد أتاهم في عسكر لحربهم، فقاتلهم، فبيمنا مفلح يقاتلهم إذ أتاه سهم غرب لا يعرف من رمي به، فأصابه، فرجع وانهزم أصحابه، وقتلوا فيهم قتلاً ذريعأن وحملوا الرؤوس إلى العلوي، واقتسم الزنج لحوم القتلى.
فأتي بالأسرى، فسألهم عن قائد الجيش، فأخبروه أنه أبواحمد، ومات مفلح من ذلك السهم، فلم يلبث العلوي إلا يسيراً حتى وافاه علي بن أبان.
ثم إن أبا احمد رحل نحوالأبلة ليجمع ما فرقته الهزيمة، ثم سار إلى نهر أبي الأسد، ولما علم الخبيث كيف قتل مفلح، ولم ير أحداً يدعي قتله، زعم أنه هوالذي قتله، وكذب فإنه لم يحضره.
ذكر قتل يحيى بن محمد البحرانيوفيها اسر يحيى بن محمد البحراني قائد صاحب الزنج، وكان سبب ذلك أنه لما سار نحونهر العباس لقيه عسكر أصعجور، عامل الأهواز بعد منصور، وقاتلهم، وكان أكثر منهم عددأن فنال ذلك العسكر من الزنج بالنشاب، وجرحوهم، فعبر يحيى النهر إليهم، فانحازوا عنه، وغمن سفناً كانت مع العسكر، فيها الميرة، وساروا بها إلى عسكر صاحب الزنج على غير الوجه الذي فيه علي بن أبان، لتحاسد كان بينه وبين يحيى.
ووجه يحيى طلائعه إلى دجلة، فلقيهم جيش أبي أحمد الموفق سائرين إلى نهر أبي الأسد، فرجعوا إلى علي، فأخبروه لمجيء الجيش، فرجع من الطريق الذي سلكه، وسلك نهر العباس، وعلى فم النهر شذوات لحمية من عسكر الخليفة، فلما رآهم يحيى راعه ذلك، وخاف أصحابه فنزلوا السفن وعبروا النهر، ولقي يحيى ومن معه بضعة عشر رجلأن فقاتلهم هووذلك النفر اليسير، فرموهم بالسهام، فجرح ثلاث جراحات؛ فلما جرح تفرق أصحابه عنه، ولم يعرف حتى يؤخذ، فرجع حتى دخل بعض السفن وهومثخن بالجراح.
وأخذ أصحاب السلطان الغنائم، وأخذوا السفن، وعبروا إلى سفن كانت للزنج فأحرقوهأن ووتفرق لزنج عن يحيى بقية نهارهم، فلما رأى تفرقهم ركب سميرية، واخذ معه طبيباً لأجل الجراح، وسار فيهأن فرأى الملاحون سميريات السلطان، فخافوأن فألقوا يحيى ومن معه على الأرض، فمشى وهومثقل، وقام الطبيب الذي معه فأتى أصحاب السلطان فأخبرهم خبره، فأخذوه وحملوه إلى أبي أحمد، فحمله أبوأحمد إلى سامرأن فقطعت يداه ورجلاه ثم قتل، فجزع الخبيث والزنوج عليه جزعاً كبيرأن وقال لهم: لما قتل يحيى اشتد جزعي عليه، فخوطبت أن قتله كان خيراً لك، إنه كان شرهاً.
ذكر عود أبي أحمد إلى واسطوفيها انحاز أبوأحمد من موضعه إلى واسط؛ وكان سبب ذلك أنه لما سار إلى نهر أبي الأسد كثرت الأمراض في أصحابه، وكثر فيهم الموت، فرجع إلى باذاورد فأقام به، وأمر بتجديد الآلات، وإعطاء الجند أرزاقهم، وإصلاح المسيريات والشذأن وشحنها بالقواد، وعاد إلى عسكر صاحب الزنج، وأمر جماعة من قواده بقصد مواضع سماها من نهر أبي الخصيب وغيره، وبقي معه جماعة، فمال أكثر الخلق، حين التقى الناس ونشبت الحرب، إلى نهر أبي الخصيب، وبقي أبوأحمد في قلة من أصحابه، فلم يزل عن موضعه خوفاً أن يطمع الزنج.
ولما رأى الزنج قلة من معه طمعوا فيه، وكثروا عليه، واشتدت الحرب عنده، وكثر القتل والجراح، وأحرق أصحاب أبي أحمد منازل الزنوج، واستنقذوا من النساء جمعاً كثيرأن ثم ألقى الزنج جدهم نحوه، فلما رأى أبوأحمد ذلك علم أن الحزم في الحاجزة، فأمر أصحابه بالرجوع إلى سفنهم على مهل وتؤدة.
واقتطع الزنج طائفة من أصحابه، فقاتلوهم، فقتلوا من الزنج خلقاً كثيرأن ثم قتلوا جميعهم، وحملت رؤوسهم إلى قائد الزنج، وهي مائة رأس وعشرة أرؤس، فزاد ذلك في عتوه.
ونزل أوأحمد في عسكره بباذاورد، فأقام يعبئ أصحابه للرجوع إلى الزنج، فوقعت نار في أطراف عسكره، في يوم ريح عاصف، فاحترق كثير منه، فرحل منها إلى واسط، فلما نزل واسط تفرق عنه عامة أصحابه، فسار منها إلى سامرأن واستخلف على واسط، لحرب العلوي، محمد بن المولد.
ذكر عدة حوادثوفيها وقع الوباء في كور دجلة، فهلك منها كثير ببغداد، وواسط، وسامرأن وغيرها.
وفيها قتل سرسجارس ببلاد الروم مع جماعة كثيرة من أصحابه.
وفيها كانت هدة عظيمة هائلة بالصيمرة، ثم سمع من ذلك اليوم هدة أعظم من الأولى، فانهدم اكثر المدينة، وتساقطت الحيطان، وهلك من أهلها زهاء عشرين ألفاً.
وفيها مات ياركوج التركي في رمضان، وصلى عليه أبوعيسى بن المتوكل، وكان صاحب مصر ومقطعها ودعي له فيها أحمد بن طولون، فلما توفي استقل أحمد بمصر.
وفيها كانت وقعة بين أصحاب موسى بن بغا وأصحاب الحسن بن زيد العلوي، فانهزم أصحاب الحسن.
وفيها أسر مسرور البلخي جماعة من أصحاب مساور الشاري، وسار مسرور إلى البوازيج، فلقي مساور هناك، فكان فيها بينهما وقعة اسر فيها من أصحاب مسرور جماعة، ثم انصرف في ذي الحجة إلى سامرأن واستخلف على عسكره بحديثة الموصل جعلان.
وفيها رجع أكثر الناس من القرعاء خوف العطش، وسلم من سار إلى مكة؛ وحج بالناس الفضل بن إسحاق بن الحسن.
وفيها أوقع بأعراب بتكريت كانوا أعانوا مساوراً الشاري.
وفيها أوقع مسرور البلخي بالأكراد اليعقوبية، فهزمهم وأصاب فيها.
وفيها صار محمد بن واصل في طاعة السلطان، وسلم فارس إلى محمد بن الحسن بن أبي الفياض. وفيها أسر جماعة من الزنج كان فيهم قاض كان لهم بعبادان، فحملوا إلى سامرأن فضربت أعناقهم.
وفيها توفي محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد الدهلي النيسابوري، وله مع البخاري حادثة ظلمه بها حسداً له، ليس هذا مكان ذكرها.
وفيها توفي يحيى بن معاذ الرازي الواعظ في جمادى الأولى، وكان عابداً صالحاً صحب أبا يزيد وغيره.
حوادث سنة تسع وخمسين ومائتين
ذكر دخول الزنج الأهوازوفيهأن في رجب، دخلت الزنج الأهواز، وكان سببه أن العلوي أنفذ علي بن أبان المعلبي، وضم إليه الجيش الذي كان مع يحيى بن محمد البحراني، وسليمان بن موسى الشعراني، وسيره إلى الأهواز.
وكان المتولي لها بعد منصور بن جعفر رجل يقال له أصعجور، فبلغه خبر الزنج، فخرج إليهم، والتقى العسكران بدشت ميسان، فانهزم أصعجور، وقتل معه ثيرك، وجرح خلق كثير من أصحابه، وغرق أصعجور، وأسر خلق كثير، فيهم الحسن بن هرثمة، والحسن بن جعفر، وحملت الرؤوس والأعلام والأسرى إلى الخبيث، فأمر بحبس الأسرى، ودخل الزنج الأهواز، فأقاموا يفسدون فيهأن ويعيثون إلى أن قدم موسى بن بغا.
ذكر مسير موسى بن بغا لحرب الزنجوفيهأن في ذي القعدة، أمر المعتمد موسى بن بغا بالمسير إلى حرب صاحب الزنج، فسير إلى الأهواز عبد الرحمن بن مفلح، وإلى البصرة إسحاق بن كنداجيق، وإلى باذاورد إبراهيم بن سيمأن وأمرهم بمحاربة صاحب الزنج.
فلما ولي عبد الرحمن الأهواز سار إلى محاربة علي بن أبان، فتواقعأن فانهزم عبد الرحمن؛ ثم استعد، وعاد إلى علي فأوقع به وقعة عظيمة قتل فيها من الزنج قتلاً ذريعأن وأسر خلقاً كثيرأن وانهزم علي بن أبان والزنج، ثم أراد ردهم فلم يرجعوا من الخوف الذي دخلهم من عبد الرحمن؛ فلما رأى ذلك أذن لهم بالانصراف، فانصرفوا إلى مدينة صاحبهم.
ووافى عبد الرحمن حصن مهدي ليعسكر به، فوجه إليه صاحب الزنج علي بن أبان، فواقعه، فلم يقدر عليه، ومضى يريد الموضع المعروف بالدكة، وكان إبراهيم بن سيما بالباذاورد، فواقعه علي بن أبان، فهزمه علي بن أبان، ثم واقعه ثانية، فهزمه إبراهيم، فمضى علي في الليل ومعه الأدلاء في الآجام، حتى انتهى إلى نهر يحيى.
وانتهى خبره إلى عبد الرحمن، فوجه إليه طاشتمر في جمع من الموالي، فلم يصل إليه لامتناعه بالقصب والحلافي، فأضرمها عليه نارأن فخرجوا منها هاربين، فأسر منهم أسرى، وانصرف أصحاب عبد الرحمن بالأسرى والظفر.
ثم سار عبد الرحمن نحوعلي بن أبان بمكان نزل فيه، فكتب علي إلى صاحب الزنج يستمده، فأمده بثلاث عشرة شذاة، ووافاه عبد الرحمن، فتواقعا يومهمأن فلما كان الليل انتخب علي من أصحابه جماعة ممن يثق بهم وسار، وترك عسكره ليخفي أمره، وأتى عبد الرحمن من ورائه فبيته، فنال منه شيئاً يسيرأن وانحاز عبد الرحمن، فأخذ علي منهم أربع شذوات، وأتى عبد الرحمن دولاب فأقام به.
وسار طاشتمر إلى علي فوافاه وقاتله، فانهزم علي إلى نهر السدرة، وكتب يستمد عبد الرحمن، فأخبره بانهزام علي عنه، فأتاه عبد الرحمن، وواقع علياً نهر السدرة وقعة عظيمة، فانهزم علي إلى الخبيث، وعسكر عبد الرحمن بلنبان، فكان هووإبراهيم بن سيما يتناوبان المسير إلى عسكر الخبيث فيوقعان به، وإسحاق بن كنداجيق بالبصرة، وقد قطع الميرة عن الزنج، فكان صاحبهم يجمع أصحابه يوم محاربة عبد الرحمن وإبراهيم، فإذا انقضت الحرب سير طائفة منهم إلى البصرة يقاتل بهم إسحاق، فأقاموا كذلك بضعة عشر شهراً إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الزنج، ووليها مسرور البلخي، فانتهى الخبر بذلك إلى الخبيث.
ذكر ملك يعقوب نيسابوروفيهأن في شوال، دخل يعقوب بن الليث نيسابور، وكان سبب مسيره إليها أن عبد الله السجزي كان ينازع يعقوب بسجستان، فلما قوي عليه يعقوب هرب منه إلى محمد بن طاهر، فأرسل يعقوب يطلب من ابن طاهر أن يسلمه إليه فلم يفعل، فسار نحوه إلى نيسابور، فلما قرب منهأن وأراد دخولهأن وجه محمد بن طاهر يستأذنه في تلقيه، فلم يأذن له،! فبعث بعمومته وأهل بيته فتلقوه.
ثم دخل نيسابور في شوال، فركب محمد بن طاهر، فدخل إليه في مضربه، فساءله، ثم وبخه على تفريطه في عمله، وقبض على محمد بن طاهر وأهل بيته، واستعمل على نيسابور، وأرسل إلى الخليفة يذكر تفريط محمد ابن طاهر في عمله، وأن أهل خراسان سألوه المسير إليهم، ويذكر غلبة العلويين على طبرستان، وبالغ في هذا المعنى، فأنكر عليه ذلك، وأمر بالاقتصار على ما أسند إليه، وإلا يسلك معه مسلك المخالفين.
وقيل كان سبب ملك يعقوب نيسابور ما ذكرناه سنة سبع وخمسين من ضعف محمد بن طاهر أمير خراسان، فلما تحقق يعقوب ذلك، وأنه لا يقدر على الدفع، سار إلى نيسابور، وكتب إلى محمد بن طاهر يعلمه أنه قد عزم على قصد طبرستان ليمضي ما أمره الخليفة في الحسن بن زيد المتغلب عليهأن وأنه لا يعرض لشيء من عمله، ولا لأحد من أسبابه.
وكان بعض خاصة محمد بن طاهر وبعض أهله لما رأوا إدبار أمره مالوا إلى يعقوب، فكاتبوه، واستدعوه، وهونوا على محمد أمر يعقوب من نيسابور، فأعلمه أنه لا خوف عليه منه، وثبطوه عن التحرز منه، فركن محمد إلى قولهم، حتى قرب يعقوب من نيسابور، فوجه إليه قائداً من قواده يطيب قلبه، وأمره بمنعه عن الأنتزاح عن نيسابور إن أراد ذلك.
ثم وصل يعقوب إلى نيسابور رابع شوال وأرسل أخاه عمروبن الليث إلى محمد بن طاهر، فأحضره عنده، فقبض عليه وقيده، وعنفه على إهماله عمله، وعجزه عن حفظه، ثم قبض على جميع أهل بيته، وكانوا نحواً من مائة وستين رجلأن وحملهم إلى سجستان، واستولى على خراسان، ورتب في الأعمال نوابه.
وكانت ولاية محمد بن طاهر إحدى عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام.
ذكر ظهور ابن الصوفي بمصر ثانياً
وفيها عاد ابن الصوفي العلوي فظهر بمصر، وقد ذكرنا سنة ست وخمسين ظهوره وهربه إلى الواحات، فأحم نفسه، ودعا الناس إلى نفسه، فتبعه خلق كثير، وسار بهم إلى الأشمونين، فوجه إليه جيش عليهم قائد يعرف باب أبي الغيث، فوجده قد أصعد إلى لقاء أبي عبد الرحمن العمري، وسنذكر بعد هذا.
فلما وصل العلوي إلى العمري اتقيأن فكان بينهما قتال شديد، أجلت الوقعة عن انهزام العلوي، فولى منهزماً إلى أسوان، فعاث فيهأن وقطع كثيراً من نخلها.
فسير إليه ابن طولون جيشاً، وأمرهم بطلبه أين كان، فسار الجيش في طلبه، فولى هارباً إلى عيذاب، وعبر البحر إلى مكة، وتفرق أصحابه، فلما وصل إلى مكة بلغ خبره إلى واليهأن فقبض عليه وحبسه، ثم سيره إلى ابن طولون، فلما وصل إلى مصر أمر به فطيف به في البلد، ثم سجنه مدة وأطلقه، ثم رجع إلى المدينة فأقام بها إلى أن مات.
ذكر حال أبي عبد الرحمن العمريقد تقدم ذكر أبي عبد الرحمن العمري، واسمه عبد الحميد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
وكان سبب ظهوره بمصر أن البجاة أقبلت يوم العيد، فنهبوا وقتلوا وعادوا غامنين، وفعلوا ذلك مرات، فخرج هذا العمري غضباً لله وللمسلمين، وكمن لهم في طريقهم، فلما عادوا خرج يحصي، وتابع عليهم الغارات حتى أدوا إليه الجزية، ولم يفعلوها قبل ذلك.
واشتدت شوكة العمري، وكثر أتباعه؛ فلما بلغ خبره ابن طولون سير إليه جيشاً كثيفأن فلما التقوا تقدم العمري وقال لمقدم الجيش: إن ابن طولون لا يعرف خبري، لا شك، على حقيقته، فإني لم أخرج للفساد، ولم يتأذ بي مسلم ولا ذمي، وإمنا خرجت طلباً للجهاد، فاكتب إلى الأمير أحمد عرفه كيف حالي، فإن أمرك بالانصراف فانصرف، وإلا إن أمرك بغير ذلك كنت معذوراً. فلم يجبه إلى ذلك، وقاتله، فانهزم جيش ابن طولون، فلما وصلوا إليه أخبروه بحال العمري فقال: كنتم أنهيتم حاله إلي، فإنه نصر عليكم ببغيكم. وتركه.
فلما كان بعد مدة وثب على العمري غلامان له فقتلاه، وحملا رأسه إلى أحمد بن طولون، فلما حضرا عنده سألهما عن سبب قتله، فقالا: أردنا التقرب إليك بذلك، فقتلهمأن وأمر برأس العمري فغسل، وكفن، ودفن.
ذكر ما كان هذه السنة بالأندلسفي هذه السنة سار محمد بن عبد الرحمن الأموي، صاحب الأندلس، إلى طليطلة فنازلها وحصرهأن وكان أهلها قد خالفوا عليه، وطلبوا الأمان فأمنهم، وأخذ رهائنهم.
وفيها خرج أهل طليطلة إلى حصن سكيان، وكان فيه سبع مائة رجل من البربر، وكان أهل طليطلة في عشرة آلاف، فلما التحمت بينهم الحرب انهزم أحد مقدمي أهلهأن وهوعبد الرحمن بن حبيب، فتبعه أهل طليطلة في الهزيمة، وإمنا انهزم لعداوة كانت بينه وبين مقدم آخر اسمه طريشة من أهل طليطلة، فأراد أن يوهنه بذلك، فلما انهزموا قتلوا البرقيل.
وفيها عاد عمروبن عمروس إلى طاعة محمد بن عبد الرحمن، وكان مخالفاً عليه عدة سنين، فولاه مدينة أمشقة وحصر محمد حصون بني موسى ثم تقدم إلى بنبلونة فوطئ أرضها وعاد.
ذكر عدة حوادث
وفيها سارت سرية للمسلمين إلى مدينة سرقوسة، فصالحها أهلها على أن أطلقوا الأسرى الذين كانوا عندهم من المسلمين، ثلاثمائة وستين أسيرأن فلما أطلقوهم عادت عنهم.
وفيها قتل كيجور، وكان سبب قتله أنه كان على الكوفة، فسار عنها إلى سامرا بغير إذن، فأمر بالرجوع فأبى، فحمل إليه مال ليفرقه في أصحابه فلم يقنع به، وسار حتى أتى عكبرأن فوجه إليه من سامرا عدة من القواد فقتلوه، وحملوا رأسه إلى سامرا.
وفيها غلب يعقوب بن الليث عن بلخ، فأقام بقهستان، وولى عماله هراة، وبوشنج، وباذغيس، وانصرف إلى سجستان.
وفيها فارق عبد الله السجزي، وحاصر نيسابور وبها محمد ابن طاهر قبل أن يملكها يعقوب بن الليث فوجه محمد بن طاهر إليه الرسل والفقهاء، فاختلفوا بينهمأن ثم ولاه الطبسين، وقهستان؛ وفيها غلب الحسن بن زيد على قومس ودخلها أصحابه.
وفيها كانت وقعة بين محمد بن الفضل بن بين ووهوسوذان بن جستان الديلمي، وانهزم وهسوذان.
وفيها نزلت الروم على سميساط، ثم نزلوا على ملطية وقاتلهم أهلهأن فانهزمت الروم، وقتل بطريق البطارقة.
وحج بالناس العباس بن إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس المعروف ببرية.
وفيها مات محمد بن يحيى بن موسى أبوعبد الله بن أبي زكرياء الأسفرايني المعروف بابن حيويه، ومحمد بن عمروس بن يونس بن عمران بن دينار الكوفي الثعلبي، وكان شيعياً ضعيف الحديث.
وفيها توفي أبوالحسن بن علي بن حرب الطائي الموصلي، وكان محدثاً وممن روى عنه أبوه علي بن حرب.
حوادث سنة ستين ومائتين
ذكر دخول يعقوب طبرستانوفيها واقع يعقوب بن الليث الحسن بن زيد العلوي، فهزمه، ودخل طبرستان.
وكان سبب ذلك أن عبد الله السجزي كان ينازع يعقوب الرئاسة بسجستان، فقهره يعقوب، فهرب منه عبد الله إلى نيسابور، فلما سار يعقوب إلى نيسابور، كما ذكرنأن هرب عبد الله إلى الحسن بن زيد بطبرستان، فسار يعقوب في أثره، فلقيه الحسن بن زيد بقرية سارية.
وكان يعقوب قد أرسل إلى الحسن يسأله أن يبعث إليه عبد الله ويرجع عنه، فإنه إمنا جاء لذلك لا لحربه، فلم يسلمه الحسن، فحاربه يعقوب، فانهزم الحسن، ومضى نحوالسر وأرض الديلم، ودخل يعقوب سارية، وآمل، وجبى أهلها خراج سنة، ثم سار في طلب الحسن، فسار إلى بعض جبال طبرستان، وتتابعت عليه الأمطار نحواً من أربعين يومأن فلم يتخلص إلا بمشقة شديدة، وهلك عامة ما معه من الظهر.
ثم أراد الدخول خلف الحسن، فوقف على الطريق الذي يريد أن يسكه، وأمر أصحابه بالوقوف، ثم تقدم وحده، وتأمل الطريق، ثم رجع إليهم فأمرهم بالانصراف، وقال لهم: إنه لم يكن طريق غير هذأن وإلا لا طريق إليه.
وكان نساء أهل تلك الناحية قلن لرجال: دعوه يدخل، فإنه إن دخل كفيناكم أمره، وعلينا أسره لكم. فلما خرج من طبرستان عرض رجاله، ففقد منهم أربعون ألفأن وذهب أكثر ما كان معه من الخيل، والإبل ،والبغال والأثقال، وكتب إلى الخليفة بما فعله مع الحسن من الهزيمة، وسار إلى الري في طلب عبد الله لأنه كان قد سار إليها بعد هزيمة الحسن، فلما قاربها يعقوب كتب إلى الصلاني واليها يخيره بين تسليم عبد الله إليه وينصرف عنه، وبين المحاربة، فسلم إليه عبد الله فرحل عنه، وقتل عبد الله.
ذكر الفتنة بالموصل وإخراج عاملهمكان الخليفة المعتمد على الله قد استعمل على الموصل أساتكين، وهومن أكابر قواد الأتراك، فسير إليها ابنه أذكوتكين في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين ومائتين؛ فلما كان يوم النيروز من هذه السنة، وهوالثالث عشر من نيسان، غيره المعتضد بالله، ودعا أذكوتكين ووجوه أهل الموصل إلى قبة في الميدان، وأحضر أنواع الملاهي، وأكثر الخمر، شرب ظاهرأن وتجاهر أصحابه بالفسوق، وفعل المنكرات، وأساء السيرة في الناس.
وكان تلك السنة بدرد شديد أهلك الأشجار، والثمار، والحنطة، والشعير، وطالب الناس بالخراج على الغلات التي هلكت، فاشتد ذلك عليهم، وكان لا يسمع بفرس جيد عند أحد إلا أخذه، وأهل الموصل صابرون، إلى أن وثب رجل من أصحابه على امرأة فأخذها في الطريق، فامتنعت، واستغاثت، فقام رجل اسمه إدريس الحميري، وهومن أهل القرآن والصلاح، فخلصها من يده، فعاد الجندي أذكوتكين فشكا من أرجل، فأحضره وضربه ضرباً شديداً من غير أن يكشف الأمر، فاجتمع وجوه الموصل إلى الجامع وقالوا: قد ضربنا على أخذ الأموال، وشتم الأعراض، وإبطال السنن والعسف، وقد أفضى الأمر إلى أخذ الحريم، فاجمع رأيهم على إخراجه، والشكوى منه إلى الخليفة.
وبلغه الخبر، فركب إليهم في جنده، وأخذ معه النفاطين، فخرجوا إليه وقاتلوه قتالاً شديدأن حتى أخرجوه عن الموصل، ونهبوا داره، وأصابه حجر فأثخنه، ومضى من يومه إلى بلده، وسار منه إلى سامرا.
واجتمع الناس إلى يحيى بن سليمان، وقلدوه أمرهم، ففعل، فبقي كذلك إلى أن انقضت سنة ستين؛ فلما دخلت سنة إحدى وستين كتب أساتكين إلى الهيثم بن عبد الله بن المعمر التغلبي، ثم العدوي، في أن يتقلد الموصل، وأرسل إليه الخلع والواء وكان بديار ربيعة، فجمع جموعاً كثيرة، وسار إلى الموصل، ونزل بالجانب الشرقي، وبينه وبين البلد دجلة، فقاتلوه، فعبر إلى الجانب الغربي وزحف إلى باب البلد، فخرج إليه يحيى بن ليمان في أهل الموصل، فقاتلوه فقتل بينهم قتلى كثيرة، وكثرت الجراحات وعاد الهيثم عنهم.
فاستعمل أساتكين على الموصل إسحاق بن أيوب التغلبي فخرج في جمع يبلغون عشرين ألفأن منهم حمدان بن حمدون التغلبي وغيره، فنزل عند الدير الأعلى، فقاتله أهل الموصل ومنعوه، فبقوا كذلك مدة، فمرض يحيى بن سليمان الأمير، فطمع إسحاق في البلد، وجد في الحرب فانطشف الناس بين يديه، فدخل إسحاق البلد، ووصل إلى سوق الأربعاء، وأحرق سوق الحشيش، فخرج بعض العدول، اسمه زياد بن عبد الواحد. وعلق في عنقه مصحفأن واستغاث بالمسلمين فأجابوه، وعادوا إلى الحرب، وحملوا إلى إسحاق وأصحابه، وأخرجوهم من المدينة.
وبلغ يحيى بن سليمان الخبر، فأمر فحمل في محفة، وجعل أمام الصف، فلما رآه أهل الموصل قويت نفوسهم، واشتد قتالهم، ولم يزل الأمر كذلك وإسحاق يراسل أهل الموصل، وبعدهم الأمان وحسن السيرة، فأجابوه إلى أن يدخل البلد، ويقيم بالربض الأعلى، فدخل وأقام سبعة أيام.
ثم وقع بين بعض أصحابه وبين قوم من أهل الموصل شر، فرجعوا إلى الحرب، وأخرجوه عنهأن واستقر يحيى بن سليمان بالموصل.
ذكر الحرب بين أهل طليطلة وهوارةوفي هذه السنة ظهر موسى بن ذي النون الهواري بشنت برية، وأغار على أهل طليطلة، ودخل حصن وليد من شنت برية، فخرج أهل طليطلة إليه في نحوعشرين ألفأن فلما التقوا بموسى واقتتلوا انهزم محمد بن طريشة في أصحابه، وهومن أهل طليطلة، فتبعه أهل طليطلة في الهزيمة، وانهزم معهم مطرف بن عبد الرحمن، فعمل ذلك محمد مكافأة لمطرف حين انهزم بالناس في العام الماضي، فقتل أهل طليطلة خلق كثير، وقوي موسى ابن ذي النون، وهابه من حاذره.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قتل رجل من أصحاب مساور الشاري محمد بن هارون ابن المعمر، رآه وهويريد سامرأن فقتله، وحمل رأسه إلى مساور، فطلبت ربيعة بثأره، فندب مسرور البلخي وغيره إلى أخذ الطرق على مساور.
وفيها اشتد الغلاء في عامة بلاد الإسلام، فانجلى من أهل مكة كثير، ورحل عنها عاملهأن وهوبرية، وبلغ الكر الحنطة ببغداد عشرين ومائة دينار، ودام ذلك شهوراً.
وفيها قتلت الأعراب منجوراً والي حمص، واستعمل عليها بكتمر.
وفيها قتل العلاء بن أحمد الأزدي عامل أذربيجان، وكان سبب قتله أنه فلج، فاستعمل الخليفة مكانه أبا الرديني عمر بن علي، فلما قاربها خرج إليه العلاء، فتحاربأن فقتل العلاء، وانهزم أصحابه، وأخذ أبوالرديني ما خلفه العلاء وكان مبلغه ألفي ألف وسبع مائة ألف درهم.
وحج بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل المعروف ببرية، وهوأمير مكة.
وفيها ظهر بمصر إنسان يكنى أبا روح، واسمه سكن، وكان من أصحاب ابن الصوفي، واجتمع له جماعة، فقطع الطريق، وأخاف السبيل، فوجه إليه ابن طولون جيشأن فوقف أبوروح في أرض كثيرة الشقوق، وقد كان بها قمح فحصد، وبقي من تبنه على الأرض ما يستر الشقوق، وقد ألفوا المشي على مثل هذه الأرض. فلما جاءهم الجيش لقوهم، ثم انهزم أصحاب أبي روح، فتبعهم عسكر ابن طولون، فوقعت حوافر خيولهم في تلك الشقوق، فسقط كثير من فرسانها عنهأن وتراجع أصحاب أبي روح عليهم، فقتلوهم شر قتلة وانهزم الباقون أسوأ هزيمة.
فسير أحمد جيشاً إلى طريقهم إلى الواحات، وجيشاً في طلبه، فلقيه الجيش الذي في طلبه وقد تحصن في مثل تلك الأرض فحذرها عسكر أحمد، فحين بطلت حيلهم انهزموأن وتبعهم العسكر ، فلما خرجوا إلى طريق الواحات رأى أبوروح الطريق قد ملكت عليه، فراسل يطلب الأمان، فبذل له، وبطلت الحرب، وكفي المسلمون شره.
وفيها توفي علي بن محمد العلوي الخماني، وكان يسكن الخمان، فنسب إليها.
وفيها قتل علي بن يزيد صاحب الكوفة، قتله صاحب الزنج.
وفيها كان بإفريقية وبلاد المغرب والأندلس غلاء شديد، وعم غيرها من البلاد، وتبعه وباء وطاعون عظيم هلك فيه كثير من الناس.
وفيها توفي محمد بن إبراهيم بن عبدوس، الفيه المالكي، صاحب المجموعة في الفقه؛ وهومن أهل إفريقية.
وفيها مات مالك بن طوق التغلبي بالرحبة، وهوبناهأن وإليه تنسب.
وفيها توفي الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، وهوأبومحمد العلوي العسكري، وهوأحد الأئمة الاثني عشر، على مذهب الإمامية، وهووالد محمد الذي يعتقدونه المنتظر بسرداب سامرأن وكان مولده سنة اثنتين وثلاثين ومائتين.
وفيها توفي أبوعلي الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، الفقيه الشافعي، وهومن أصحاب الشافعي البغداذيين.
وفيها توفي حسين بن إسحاق الحكيم البيب. وهوالذي نقل كتب الحكماء اليونانيين إلى العربية، وكان عالماً بها.
حوادث سنة إحدى وستين ومائتين
ذكر الحرب بين محمد بن واصل وابن مفلحوفيها تحارب ابن واصل وعبد الرحمن بن مفلح وطاشتمر.
وكان سبب ذلك أن ابن واصل كان قتل الحارث بن سيمأن وتغلب على فارس، فأضاف المعتمد فارس إلى موسى بن بغأن والأهواز، والبصرة، والبحرين، واليمامة، مع ما كان إليه؛ فوجه موسى عبد الرحمن بن مفلح، وهوشاب عمره إحدى وعشرون سنة، إلى الأهواز، وولاه إياها مع فارس، وأضاف إليه طاشتمر؛ فلما علم ذلك ابن واصل، وأن ابن مفلح قد سار نحوه من الأهواز، زحف إليه من فارس، فالتقيا إليه من فارس، فالتقيا برامهرمز. وانضم أبوداود الصعلوك إلى ابن واصل، فاقتتلوأن فانهزم عبد الرحمن واخذ أسيرأن وقتل طاشتمر، واطلم عسكرهمأن وغمن ما فيه من الأموال والعدة وغير ذلك.
وأرسل الخليفة إلى ابن واصل في إطلاق عبد الرحمن، فلم يفعل، وقتله وأظهر أنه مات، وسار ابن واصل من رامهرمز، من بعد هذه الوقعة، مظهراً أنه يريد واسط لحرب موسى بن بغأن فانتهى إلى الأهواز وفيها إبراهيم بن سيما في جمع كثير، فلما رأى موسى شدة الأمر بهذه الناحية، وكثرة المتغلبين عليهأن وأنه يعجز عنهم، سأل أن يعفى، فأجيب إلى ذلك.
ذكر ولاية أبي الساج الأهوازوفيها ولي أبوالساج الأهواز، بعد مسير عبد الرحمن عنها إلى فارس، وأمر بمحاربة الزنج، فسير صهره عبد الرحمن لمحاربة الزنج، فلقيه علي ابن أبان بناحية دولاب، فقتل عبد الرحمن، وانحاز أبوالساج إلى ناحية عسكر مكرم، ودخل الزنج الأهواز، فقتلوا أهلهأن وسبوا وأحرقوا.
ثم انصرف أبوالساج عما كان إليه من الأهواز، وحرب الزنج، وولاها إبراهيم بن سيمأن فلم يزل بها حتى انصرف عنها مع موسى بن بغا.
وفيها ولي محمد بن أوس البلخي طريق خراسان.
ذكر عود الصفار إلى فارس
والحرب بينه وبين ابن واصللما كان من الوقعة بين عبد الرحمن بن مفلح وبين ابن واصل ما ذكرناه، اتصل خبرهما إلى يعقوب الصفار وهوبسجستان، فتجدد طمعه في ملك بلاد فارس، وأخذ الأموال والخزائن والسلاح التي غمنها ابن واصل من ابن مفلح، فسار مجداً.
وبلغ ابن واصل خبر قربه منه وانه نزل البيضاء من أرض فارس، وهوبالأهواز، فعاد عنها لا يلوي علي شيء، وأرسل خاله أب بلال مرداساً إلى الصفار، فوصل إليه، وضمن له طاعة ابن واصل، فأرسل يعقوب الصفار إلى ابن واصل كتباً ورسلاً في المعنى، فحبسهم ابن واصل، وسار يطلب الصفار والرسل معه يريد أن يخفي خبره، وأن يصل إلى الصفار بغتة لم يعلم به. فينال منه غرضه، ويوقع به.
فسار في يوم شديد الحر، في ارض صعبة المسلك، وهويظن أن خبره قد خفي عن الصفار، فلما كان الظهر تعبت دوابهم، فنزلوا ليستريحوأن فمات من أصحاب ابن واصل من الرجالة كثير جوعاً وعطشأن وبلغ خبرهم الصفار، فجمع أصحابه وأعلمهم الخبر وسار، وقال لأبي بلال: إن ابن واصل قد غدر بنأن وحسبنا الله ونعم الوكيل! ومضى الصفار إلى ابن واصل، فلما قاربهم وعلموا به انخذلوا وضعفت نفوسهم عن مقاومته ومقاتلته، ولم يتقدموا خطوة، فلما صار بين الفريقين رمية سهم انهزم أصحاب ابن واصل من غير قتال، وتبعهم عسكر الصفار، وأخذوا منهم جميع ما غمنوه من ابن مفلح، واستولى على بلاد فارس، ورتب بها أصحابه وأصلح أحوالها.
ومضى ابن واصل منهزمأن فأخذ أمواله من قلعته، وكانت أربعين ألف ألف درهم، وأوقع يعقوب بأهل زم لأنهم أعانوا ابن واصل، وحدث نفسه بالاستيلاء على الأهواز وغيرها.
ذكر تجهز أبي أحمد للمسير إلى البصرةوفيهأن في شوال، جلس المعتمد في دار العامة، فولى ابنه جعفراً العهد، ولقبه المفوض إلى الله، وضم إليه موسى بن بغأن فولاه إفريقية، ومصر، والشام، والجزيرة، والموصل، وأرمينية، وطريق خراسان ومهرجانقذق، وولى أخاه أبا أحمد العهد بعد جعفر، ولقبه الناصر لدين الله الموفق، وولاه المشرق، وبغداد، والسواد، والكوفة، وطريق مكة والمدينة، واليمن، وكسكر، وكور دجلة، والأهواز، وفارس، وأصبهان، وقم، وكرج، ودينور، والري، وزنجان، والسند، وعقد لكل واحد منهما لواءين: أسود وأبيض، وشرط إن حدث به الموت، وجعفر لم يبلغ، أن يكون الأمر للموفق، ثم لجعفر بعده، وأخذت البيعة بذلك.
فعقد جعفر لموسى على المغرب، وأمر الموفق أن يسير إلى حرب الزنج؛ فولى الموفق الأهواز والبصرة وكور دجلة مسروراً البلخي، وسيره في مقدمته في ذي الحجة. وعزم على المسير بعده، فحدث من أمر يعقوب الصفار ما منعه عن المسير، وسنذكر أول سنة اثنتين وستين ومائتين.
وفيها فارق محمد بن زيدويه يعقوب بن الليث، وسار إلى أبي الساج، وأقام معه بالأهواز، وخلع عليه المعتمد وسأل أن يوجه الحسين بن طاهر بن عبد الله بن طاهر إلى خراسان.
وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل بن العباس ابن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس؛ ومات الحسن بن أبي الشوارب بمكة بعدما حج.
ذكر ولاية نصر بن أحمد الساماني
ما وراء النهرفي هذه السنة استعمل نصر بن أحمد بن أسد بن سامان خداه بن جثمان ابن طمغاث بن نوشرد بن بهرام جوبين بن بهرام خشنش؛ وكان بهرام خشنش من الري، فجعله كسرى هرمز بن أنوشروان مرزبان أذربيجان، وقد تقدم ذكر بهرام جوبين عند ذكر كسرى هرمز.
ولما ولي المأمون خراسان، واصطلح أولاد أسد بن سامان، وهم: نوح، وأحمد، ويحيى، وإلياس، بنوأسد بن سامان، قربهم ورفع منهم واستعملهم ورعى حق سلفهم؛ فلما رجع المأمون إلى العراق استخلف على خراسان غسان بن عباد، فولى غسان نوح بن أسد، في سنة أربع ومائتين، سمرقند، وأحمد بن أسد فرغانة، ويحيى بن أسد الشاش وأشروسنة، وإلياس بن أسد هراة.
فلما ولي طاهر بن الحسين خراسان ولاهم هذه الأعمال، ثم توفي نوح ابن أسد، وأقر طاهر بن عبد الله أخويه على عمله: يحيى، وأحمد، وكان أحمد بن أسد عفيف الطعمة، مرضي السيرة، لا يأخذ رشوة، ولا أحد من أصحابه، ففيه قيل، أوفي ابنه نصر:
ثوى ثلاثين حولاً في ولايته ... فجاع يوم ثوى في قبره حشمه
وكان إلياس يلي هراة، وله بها عقب وآثار كثيرة، فاستقدمه عبد الله ابن طاهر، وكان رسمه فيمن يستقدمه أن يعد أيامه، فأبطأ إلياس، فكتب إليه بالمقام حيث يلقاه كتابه، فبلغه الكتاب وقد سار عن بوشنج، فأقام بها سنة تأديباً له، ثم أذن له في القدوم عليه.
فلما مات إلياس بهراة أقر عبد الله ابنه أبا إسحاق محمد بن إلياس على عمله، فأقام بهراة، وكان لأحمد بن أسد سبعة بنين، وهم: نصر، وأبويوسف يعقوب، وأبوزكرياء يحيى، وأبوالأشعث أسد، وإسماعيل، وإسحاق وأبوغامن حميد، ولما توفي أحمد بن أسد استخلف ابنه نصراً على أعماله بسمرقند وما وراءهأن فبقي عاملاً عليها إلى آخر أيام الطاهرية، وبعد زوال أمرهم إلى أن مضى لسبيله.
وكان إسماعيل بن أحمد يخدم أخاه نصرأن فولاه نصر بخارى سنة إحدى وستين ومائتين.
ومعنى قول أبي جعفر: وفي سنة إحدى وستين ولي نصر بن أحمد ما وراء النهر، أنه تولاه من جانب الخليفة، وإمنا كان يتولاه، من قبل، من عمال خراسان، وإلا فالقوم تولوا قبل هذا التاريخ.
وكان سبب استعماله إسماعيل إنه لما استولى يعقوب بن الليث على خراسان أنفذ نصر جيشاً إلى شط جيحون ليأمن عبور يعقوب، فقتلوا مقدمهم، ورجعوا إلى بخارى، فخافهم أحمد بن عمر، نائب نصر، على نفسه، فتغيب عنهم، فأمروا عليهم أبا هاشم محمد بن المبشر بن رافع بن الليث بن نصر بن سيار، ثم عزلوه وولوا أحمد بن محمد بن ليث والد أبي عبد الله بن جنيد، ثم صرفوه وولوا الحسن بن محمد من ولد عبدة بن حديد؛ ثم صرفوه، وبقيت بخارى بغير أمير، فكتب رئيسها وفقيهها أبوعبد الله بن أبي حفص إلى نصر يسأله توجيه من يضبط بخارى، فوجه أخاه إسماعيل، ثم إن إسماعيل كاتب رافع بن هرثمة حين ولي خراسان، فتعاقدا على التعاون والتعاضد، فطلب منه إسماعيل أعمال خوارزم فولاه إياها.
وكان إسماعيل يؤامره في المكاتبة، ثم سعت السعاة بين نصر وإسماعيل فأفسدوا ما بينهمأن فقصده نصر سنة اثنتين وسبعين ومائتين، فأرسل إسماعيل حمويه بن علي إلى رافع بن هرثمة يستنجده، فسار إليه في جيش كثيف، فوافى بخارى، قال حمويه: ففكرت في نفسي، وقلت: إن ظفر إسماعيل بأخيه فما يؤمنني أن يقبض رافع على إسماعيل، ويتغلب على ما وراء النهر؟ وإن لم يفعل ذلك، ووفى لإسماعيل، فلا يزال إسماعيل معترفاً فقيد رافع وجريحه، ويحتاج أن يتصرف على أمره ونهيه، فاجتمعت برافع خلوة، وقلت له: نصيحتك واجبة علي، وقد ظهر لي من نصر وإسماعيل ما كان خفياً عني، ولست آمنهما عليك، والراي أن لا تشاهد الحرب، وتحملهما على الصلح؛ فقبل ذلك، فتصالحأن وانصرف عنهما.
قال لحمويه: ثم إنني أعلمت إسماعيل، بعد ذلك، الحال كيف كان، فعذر رافعاً في إلزامه بالصلح، واستصوب فعل حمويه، وبقي نصر وإسماعيل مدة، ثم عادت السعاة، فسد ما بينهمأن حتى تحاربا سنة خمس وسبعين ومائتين، فظفر إسماعيل بأخيه نصر؛ فلما حمل إليه ترجل له إسماعيل، وقبل يديه، ورده من موضعه إلى سمرقند، وتصرف على النيابة عنه ببخارى.
وكان إسماعيل خيرأن يحب أهل العلم والدين، ويكرمهم، وببركتهم دام ملكه وملك حكى أبوالفضل محمد بن عبد الله البلعمي قال: سمعت الأمير أبا إبراهيم إسماعيل بن أحمد يقول: كنت بسمرقند، فجلست يوماً لمظالم، وجلس أخي إسحاق إلى جانبي، فدخل أبوعبد الله محمد بن نصر الفقيه الشافعي، فقمت له إجلالاً لعلمه ودينه، فلما خرج عاتبني أخي إسحاق، وقال: أنت أمير خراسان، يدخل عليك رجل من رعيتك فتقوم له، فتذهب السياسة بهذا.
قال: فبت تلك الليلة، فرأيت النبي، صلى الله عليه وسلم، في المنام وكأني واقف وأخي إسحاق، فأقبل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخذ بعضدي فقال لي: يا إسماعيل! ثبت ملكك وملك بيتك لإجلالك لمحمد ابن نصر. ثم التفت إلى إسحاق وقال: ذهب ملك إسحاق وملك بيته باستخفافه بمحمد بن نصر.
وكان محمد بن نصر هذا من العلماء بالفقه على مذهب الشافعي، العاملين بعلمه، المصنفين فيه، وسافر إلى البلاد في طلب العلم، وأخذ العلم بمصر من أصحاب الشافعي يونس بن عبد الأعلى، والربيع بن سليمان، ومحمد بن عبد الله بن الحكم، وصحب الحارث المحاسبي واخذ عنه علم المعاملة، وبرز فيه أيضاً.
ذكر عصيان أهل برقةوفي هذه السنة عصى أهل برقة على أحمد بن طولون، وأخرجوا أميرهم محمد بن الفرج الفرغاني، فبعث ابن طولون جيشاً عليهم غلامه لؤلؤ، وأمره بالرفق بهم، واستعمال اللين، فإن انقادوا وإلا السيف.
فسار العسكر حتى نزلوا على برقة، وحصروا أهلهأن وفعلوا ما أمرهم من اللين، فطمع أهل برقة، وخرجوا يوماً على بعض العسكر، وهم نازلون على باب البلد، فأوقعوا بهم وقتلوا منهم.
فأرسل لؤلؤ إلى صاحبه أحمد يعرفه الخبر، فأمره بالجد في قتالهم، فنصب عليهم المجانيق، ووجد في قتالهم، وطلبوا الأمان، فأمنهم، ففتحوا له الباب، فدخل البلد، وقبض على جماعة من رؤسائهم، وضربهم بالسياط، وقطع أيدي بعضهم، وأخذ معه جماعة منهم وعاد إلى مصر، واستعمل على برقة عاملا.
ولما وصل لؤلؤ إلى مصر خلع عليه أحمد خلعة فيها طوقان، فوضعها في رقبته، وطيف بالأسرى في البلد.
ذكر ولاية إبراهيم بن أحمد إفريقيةفي هذه السنة توفي محمد بن أحمد بن الأغلب، صاحب إفريقية، سادس جمادى الأولى، وكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر وستة عشر يوماً.
ولما حضره الموت عقد لابنه عقال العهد واستخلف أخاه إبراهيم لئلا ينازعه، وأشهد عليه آل الأغلب ومشايخ القيروان، وأمره أن يتولى الأمر إلى أن يكبر ولده، فلما مات أهل القيروان إبراهيم وسألوه أن يتولى أمرهم، لحسن سيرته وعدله، فلم يفعل، ثم أجاب، وانتقل إلى قصر الإمارة، وباشر الأمور، وقام بها قياماً مرضياً.
وكان عادلأن حازماً في أموره، أمن البلاد، وقتل أهل البغي والفساد، وكان يجلس لعدل في جامع القيروان يوم الخميس والاثنين، يسمع شكوى الخصوم، وبصبر عليهم، ووينصف بينهم.
وكان القوافل والتجار يسيرون في الطرق آمنين.
وبنى الحصون والمحارس على سواحل البحر، حتى كان يوقد النار من سبتة فيصل الخبر إلى الإسكندرية في الليلة الواحدة، وبني على سوسة سورأن وعزم على الحج، فرد المظالم، وأظهر الزهد والنسك، وعلم أنه إن جعل طريقه إلى مكة على مصر منعه صاحبها ابن طولون، فتجري بينهما حرب، فيقتل المسلمون، فجعل طريقه على جزيرة صقلية ليجمع بين الحج والجهاد، ويفتح ما بقي من حصونهأن فاخرج جميع ما أذخره من المال والسلاح وغير ذلك، وسار إلى سوسة فدخلها وعليه فرومرقع في زي الزهاد، أول سنة تسع وثمانين ومائتين، وسار منهأن في الأسطول، إلى صقلية.
وسار إلى مدينة فملكها سلخ رجب، وأظهر العدل، وأحسن إلى الرعية، وسار إلى طبرمين، فاستعد أهلها لقتاله، فلما وصل خرجوا إليه والتقوأن فقرأ القارئ: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) الفتح: 1 فقال الأمير اقرأ: (هذان خصمان اختصموا في ربهم) الحج: 19؛ فقرأ فقال: اللهم إني أختصم أنا والكفار إليك في هذا اليوم! وحمل، ومعه أهل البصائر، فهزم الكفار، وقتلهم المسلمون كيف شاءوأن ودخلوا معهم المدينة عنوة، فركب بعض من بها من الروم مراكب فهربوا فيها.
والتجأ بعضهم إلى الحصن وأحاط بهم المسلمون وقاتلوهم، فاستنزلوهم قهرأن وغمنوا أموالهم، وسبوا ذراريهم، وذلك لسبع بقين من شعبان، وأمر بقتل المقاتلة، وبيع السبي والغنيمة.
ولما اتصل الخبر بفتح طبرمين إلى ملك الروم عظم عليه، وبقي سبعة أيام لا يلبس التاج، وقال: لا يلبس التاج محزون. وتحركت الروم، وعزموا على المسير إلى صقلية لمنعها من المسلمين، فبلغهم أنه سائر إلى القسطنطينية، فترك الملك ها عسكراً عظيمأن وسير جيشاً كثيراً إلى صقلية.
وأما الأمير إبراهيم فإنه لما ملك طبرمين بث السرايا في مدن صقلية التي بيد الروم، وبعث سرية إلى ميقش، وسرية إلى دمشق، فوجدوا أهلها قد أجلوا عنهأن فغمنوا ما وجدوا بها.
وبعث طائفة إلى رمطة، وطائفة إلى الياج، فأذعن القوم جميعاً إلى أداء الجزية، فلم يجبهم الرسل منها يطلبون الأمان فلم يجبهم.
وكان قد ابتدأ به المرض، وهوعلة الذرب، فنزلت العساكر على المدينة، فلم يجدوا في قتالها لغيبة الأمير عنهم، فإنه نزل منفرداً لشدة مرضه، وامتنع منه النوم، وحدث به الفواق، وتوفي ليلة السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة تسع وثمانين ومائتين، فاجتمع أهل الري من العسكر أن يولوا أمرهم أبا مضر بن أبي العباس عبد الله ليحفظ العساكر، والأموال، والخزائن، إلى أن يصل إلى ابنه بإفريقية، وجعلوا الأمير إبراهيم في تابوت، وحملوه إلى إفريقية، ودفنوه بالقيروان، رحمه الله.
وكانت ولايته خمساً وعشرين سنة، وكان عاقلأن حسن السيرة، محباً لخير والإحسان، تصدق بجميع ما يملك، ووقف أملاكه جميعها؛ وكان له فطنة عظيمة بإظهار خفايا العملات، فمن ذلك أن تاجراً من أهل القيروان كانت له امرأة جميلة صالحة عفيفة، فاتصل خبرها بوزير الأمير إبراهيم، فأرسل إليهأن فلم تجبه، فاشتد غرامه بهأن وشكا حاله إلى عجوز كانت تغشاه، وكانت أيضاً لها من الأمير منزلة، ومن والدته منزلة كبيرة، وهي موصوفة عندهم بالصلاح، يتبركون بهأن ويسألونها الدعاء، فقالت للوزير: أنا أتلطف بهأن وأجمع بينكما.
وراحت إلى بيت المرأة، فقرعت الباب وقالت: قد أصاب ثوبي نجاسة أريد تطهيرها؛ فخرجت المرأة ولقيتها فرحبت بهأن وأدخلتهأن وطهرت ثوبهأن وقامت العجوز تصلي، فعرضت المرأة عليها الطعام، فقالت: إني صائمة، ولا بد من التردد إليك؛ ثم صارت تغشاهأن ثم قالت لها: عندي يتيمة أريد أن أحملها إلى زوجهأن فإن خفت عليك إعارة حليك أجملها به فعلت.
وأحضرت جميع حليها وسلمته إياهأن فأخذته العجوز وانرفت، وغابت أيامأن وجاءت إليهأن فقالت لها: أين الحلى؟ فقالت: هوعند الوزير، عبرت عليه وهومعي فأخذه مني، وقال لا يسلمه إلا إليك، فتنازعتأن وخرجت العجوز، وجاء التاجر زوج المرأة، فأخبرته الخبر، فحضر دار الأمير إبراهيم وأخبره الخبر، فدخل الأمير إلى والدته، وسألها عن العجوز، فقالت: هي تدعولك؛ فأمر بإحضارها ليتبرك بهأن فأحضرتها والدته، فلما رآها أكرمها وأقبل عليهأن وانبسط معها.
ثم إنه أخذ خاتماً من إصبعها وجعل يقبله ويعبث به، ثم إنه أحضر خصياً له وقال له: انطلق إلى بيت العجوز، وقل لابنتها تسلم الحق الذي فيه الحلي، وصفته كذأن وهوكذا وكذأن وهذا الخاتم علامة منها.
فمضى الخادم وأحضر الحق، فقال لعجوز: ما هذا؟ فلما رأت الحق سقط في يدهأن وقتلهأن ودفنها في الدار، وأعطى الحق لصاحبه، وأضاف إليه شيئاً آخر، وقال له: أما الوزير فإن انتقمت منه الآن ينكشف الأمر، ولكن سأجعل له ذنباً آخذه به؛ فتركه مدة يسيرة، وجعل له جرماً آخذه به فقتله.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة استعمل المعتمد على الله، الخليفة على أذربيجان، محمد بن عمر ابن علي بن مرا الطائي الموصلي، فسار إليهأن وجمع معه جموعاً كثيرة من خوارج وغيرهم، وكان على أذربيجان العلاء بن أحمد الأزدي، وهومفلوج، فخرج في محفة ليمنع محمد بن عمر، فقاتله، فانهزم عسكر العلاء، وأخذ أسيرأن واستولى محمد بن عمر بن علي على قلعة العلاء، وأخذ منها ثلاثة آلاف ألف درهم، ومات العلاء في يده.
وفيها استعمل المعتمد على الله على الموصل الخضر بن أحمد بن عمر بن الخطاب التغلبي الموصلي.
وفيها رجع الحسن بن زيد إلى طبرستان، وأحرق شالوس لممالأة أهلها ليعقوب، وأقطع ضياعهم للديالمة.
وفيها أمر المعتمد بجمع حاج خرسان، والري، وطبرستان، وجرجان، وأعلمهم أنه لم يول يعقوب خراسان، ولم يكن دخوله خراسان وأسره محمد ابن طاهر بأمره.
وفيها قتل مساور الشاري يحيى بن جعفر الذي كان يلي خراسان، فسار مساور البلخي في طلبه، وتبعه أبوأحمد، وهوالموفق بن المتوكل، فسار من بين أيديهما فلم يدركاه.
وفيها هرب ابن مروان الجليقي من قرطبة، فقصد قلعة الحنش، فملكها وامتنع بهأن فسار إليه محمد، صاحب الأندلس، فحصره ثلاثة أشهر، فضاق به الأمر، حتى أكل دوابه، فطلب الأمان، فأمنه محمد، فأمنه محمد، فسار إلى مدينة بطليوس.
وفيها عصى أهل تاكرنا مع أسد بن الحارث بن رافع، فغزاهم جيش محمد، صاحب الأندلس، وقاتلهم، فعادوا إلى الطاعة.
وفيها توفي أبوهاشم داود بن سليمان الجعفري؛ والحسن بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قاضي القضاة، وكان موته في رمضان؛ وأبوالحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، صاحب الصحيح؛ وعبد العزيز بن حيان الموصلي، وكان كثير الحديث؛ والنضر بن الحسن الفقيه الحنفي، وكان من الموصل أيضاً.
حوادث سنة اثنتين وستين ومائتين
ذكر الحرب بين الموفق والصفار
في هذه السنة، في المحرم، سار الصفار من فارس إلى الأهواز، فلما بلغ المعتمد إقباله أرسل إليه إسماعيل بن إسحاق وبفراج، وأطلق من كان في حبسه من أصحاب يعقوب، فإنه كان حبسهم لما أخذ يعقوب محمد بن طاهر بن الحسين. عاد إسماعيل برسالة من عند يعقوب، فجلس أبوأحمد ببغداد، وكان قد أخر مسيره إلى الزنج لما بلغه من خبر يعقوب، وأحضر التجار، وأخبرهم بتولية يعقوب خراسان، وجرجان، وطبرستان، والري، وفارس، والشرطة ببغداد، وكان بمحضر من درهم، صاحب يعقوب، كان يعقوب قد أرسله يطلب لنفسه ما ذكرنأن وأعاده أبوأحمد إلى يعقوب، ومعه عمر بن سيمأن بما أضيف إليه من الولايات.
فعاد الرسل من عند يعقوب يقولون: إنه لا يرضيه ما كتب به دون أن يسير إلى باب المعتمد! وارتحل يعقوب من عسكر مكرم، وسار إليه أبوالساج، وصار معه، فأكرمه، وأحسن إليه ووصله.
فلما سمع المعتمد رسالة يعقوب خرج من سامرا ف عساكره، وسار إلى بغداد، ثم إلى الزعفرانية، فنزلهأن وقدم أخاه الموفق، وسار يعقوب من عسكر مكرم إلى واسط، فدخلها لست بقين من جمادى الآخرة، وارتحل المعتمد من الزعفرانية إلى سبب بني كومأن فوافاه هناك مسرور البلخي عائداً من الوجه الذي كان فيه، سار يعقوب من واسط إلى دير العاقول؛ وسير المعتمد أخاه الموفق في العساكر لمحاربة يعقوب، فجعل الموفق على ميمنته موسى بن بغأن وعلى ميسرته مسروراً البلخي، وقام هوفي القلب.
والتقيا، فحملت ميسرة يعقوب على ميمنة الموفق فهزمتهأن وقتلت منها جماعة من قوادهم، منهم إبراهيم بن سيما وغيره، ثم تراجع المنهزمون، وكشف أبوأحمد الموفق رأسه وقال: أنا الغلام الهاشمي! وحمل، وحمل معه سائر عسكره على عسكر يعقوب، قثبتوأن وتحاربوا حرباً شديدة، وقتل من أصحاب يعقوب جماعة منهم الحسن الدرهمي، وأصابت يعقوب ثلاثة أسهم في حلقه ويديه، ولم تزل الحرب إلى آخر وقت العصر، ثم وافى با أحمد الموفق الديراني، ومحمد بن أوس، فاجتمع جميع من بقي في عسكره، وقد ظهر من أصحاب يعقوب كراهة للقتال معه، إذ رأوا الخليفة يقاتله، فحملوا على يعقوب ومن قد ثبت معه للقتال، فانهزم أصحاب يعقوب، وثبت يعقوب في خاصة أصحابه، حتى مضوأن وفارقوا موضع الحرب، وتبعهم أصحاب الموفق، فغمنوا ما في عسكرهم، وكان فيه من الدواب والبغال أكثر من عشرة آلاف، ومن الأموال ما يكل عن حمله، ومن حرب المسك أمر عظيم، وتخلص محمد بن طاهر، وكان مثقلاً بالحديد، وخلع عليه الموفق، وولاه الشرطة ببغداد بعد ذلك.
وسار يعقوب من الهزيمة إلى خوزستان، فنزل جند يسابور، وراسله العلوي البصري يحثه على الرجوع إلى بغداد، ويعده الاسعدة، فقال لكاتبه: اكتب إليه: (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) الكافرون: 2، السورة، وسير الكتاب إليه.
وكانت الوقعة لإحدى عشرة خلت من رجب؛ وكتب المعتمد إلى ابن واصل بتوليته فارس، وكان قد سار إليها وجمع جماعة فغلب عليهأن فسير إليه يعقوب عسكراً عظيماً عليهم ابن عزيز ين السري إلى فارس، واستولى عليهأن ورجع المعتمد إلى سامرا.
وأما أبوأحمد الموفق فإنه سار إلى واسط ليتبع الصفار، وأمر أصحابه بالتجهز لذلك، فأصابه مرض، فعاد إلى بغداد ومعه مسرور، وقبض ما لأبي الساج من الضياع والمنازل، وأقطعها مسروراً البلخي، وقدم محمد بن طاهر بغداد.
ذكر أخبار الفرنجوفيها نفذ قائد الزنج جيوشه إلى ناحية البطيحة ودست ميسان.
وكان سبب ذلك أن تلك النواحي، لما خلت من العساكر السلطانية بسبب عود مسرور لحرب يعقوب، بث الزنج سارياه فيهأن تنهب، وتخرب.
وأتته الأخبار بخلو البطيحة من جند السلطان، فأمر سليمان بن جامع وجماعة من أصحابه بالمسير إلى الحوانيت، وسليمان بن موسى بالمسير إلى القادسية.
وقدم ابن التركي في ثالثين شذاة يريد عسكر الزنج، فنهب، وأحرق، فكتب الخبيث إلى سليمان بن موسى يأمره بمنعه من العبور، فأخذ سليمان عليه الطريق، فقاتلهم شهراً حتى تخلص، وانحاز إلى سليمان بن جامع من مذكوري البلالية، وأنجادهم، جمع كثير في خمسين ومائة سميرية، وكان مسرور قد وجه قبل مسيره عن واسط إلى المعتمد جماعة من أصحابه إلى سليمان في شذوات فظفر بهم سليمان، وهزمهم، وأخذ منهم سبع شذوات وقتل من اسر منهم.
وأشار الباهليون على سليمان أن يتحصن في عقر، ما وراء طهثأن والأدغال التي فيها وكرهوا خروجه عنهم لموافقته في فعله، وخافوا السلطان، فسار إليه، فنزل بقرية مروان، بالجانب الشرقي من نهر طهثأن وجمع إليه رؤساء الباهليين، وكتب إلى الخبيث يعلمه بما صنع، فكتب إليه يصوب رأيه، ويأمره بإنفاذ ما عنده ممنيرة ونعم، فأنفذ ذلك إليه.
وورد على سليمان أن أغرتمش وحشيشاً قد أقبلا في الخيل والرجال، والسميريات والذأن يريدون حربه، فجزع جزعاً شديداً؛ فلما أشرفوا عليه ورآهم أخذ جمعاً من أصحابه وسار راجلأن واستدبر أغرتمش، وجد أغرتمش في المسير إلى عسكر سليمان، وكان سليمان قد أمر الذي استخلفه من جيشه أن لا يظهر منهم أحد لأصحاب أغرتمش، وأن يخفوا أنفسهم ما قدروا إلى أن يسمعوا أصوات طبولهم، فإذا سمعوها خرجوا عليه.
وأقبل أغرتمش إليهم، فجزع أصحاب سليمان جزعاً عظيمأن فتفرقوأن ونهضت شرذمة منهم، فواقعوهم، وشغلوهم عن دخول العسكر، وعاد سليمان من خلفهم، وضرب طبوله، وألقوأنفسهم في الماء للعبور إليهم، فانهزم أغرتمش وظهر من كان من السودان بطهثأن ووضعوا السيوف فيهم وقتل حشيش، وانهزم أغرتمش، وتبعه الزنوج إلى عسكره، فنالوا حاجاتهم منه، واخذوا منهم شذوات فيها مال وغيره، فعاد أغرتمش فانتزعها من أيديهم، فعاد سليمان وقد ظفر وغمن، وكتب إلى صاحب الزنج بالخبر، وسير إليه رأس حشيش، فسيره إلى علي بن أبان، وهوبنواحي الأهواز، وسير سليمان سرية، فظفروا بإحدى عشرة شذاة، وقتلوا أصحابها.
ذكر وقعة للزنج عظيمة انهزموا فيهاوفيها كانت وقعة للزنوج مع أحمد بن ليثويه، وكان سبها أن مسروراً اللبلخي وجه أحمد بن ليثويه إلى كور الأهواز، فنزل السوس، وكان يعقوب الصفار قد قلد محمد بن عبيد الله بن هزارمرد الكردي كور الأهواز، فكاتب محمد قائد الزنج يطعمه في الميل إليه، وأوهمه أنه يتولى له كور الأهواز.
وكان محمد يكاتبه قديمأن وعزم على مداراة الصفار، وقائد الزنج، حتى يستقيم له الأمر فيهأن فكاتبه صاحب الزنج يجيبه إلى ما طلب على أن يكون علي بن أبان المتولي لليلاد، ومحمد بن عبيد الله يخلفه عليهأن فقبل محمد ذلك، فوجه إليه علي بن أبان جيشاً كثيرأن وأمدهم محمد بن عبيد الله، فساروا نحوالسوس، فمنعهم أحمد بن ليثويه ومن معه من جند الخليفة عنهأن وقاتلهم فقتل منهم خلقاً كثيرأن وأسر جماعة.
وسار أحمد حتى نزل جندي سابور، وسار علي بن أبان من الأهواز ممداً محمد بن عبيد الله على أحمد بن ليثويه، فلقيه محمد في جيش كثير من الأكراد والصعاليك، ودخل محمد تستر، فانتهى إلى أحمد بن ليثويه الخبر بتضافرهما على قتاله، فخرج عن جند يسابور إلى السوس.
وكان محمد قد وعد علي بن أبان أن يخطب لصاحبه قائد الزنج، يوم الجمعة، على منبر تستر، فلما كان يوم الجمعة خطب للمعتمد وللصفار، فلما علم علي بن أبان ذلك انصرف إلى الأهواز، وهدم قنطرة كانت هناك لئلا تلحقه الخيل، فانتهى أصحاب علي إلى عسكر مكرم فنهبوهأن وكانت داخلة في سلم الخبيث، فغدروا بها وساروا إلى الأهواز.
فلما علم أحمد ذلك أقبل إلى تستر، فواقع محمد بن عبيد الله ومن معه، فانهزم محمد بن عبيد الله، ودخل أحمد تستر، وأتت الأخبار علي بن أبان بأن أحمد على قصدك، فسار إلى لقائه ومحاربته، فالتقيأن واقتتل العسكران، فاستأمن إلى أحمد جماعة من الأعراب الذين مع علي بن أبان، فانهزم باقي أصحاب علي، وثبت معه جماعة يسيرة، واشتد القتال، وترجل علي بن أبان وباشر القتال راجلأن فعرفه بعض أصحاب أحمد فأنذر الناس به، فلما عرفوه انصرف هاربأن وألقى نفسه في المسرقان، فأتاه بعض أصحابه بسميرية، فركب فيها ونجا مجروحأن وقتل من أبطال أصحابه جماعة كثيرة.
ذكر أخبار أحمد بن عبد الله الخجستاني
كان أحمد بن عبد اله الخجستاني من خجستان، وهي من جبال هراة، من أعمال باذغيس، وكان من أصحاب محمد بن طاهر، فلما استولى يعقوب بن الليث على نيسابور، على ما ذكرناه، ضم أحمد إليه وإلى أخيه علي بن الليث، وكان ينوشركب ثلاثة أخوة: إبراهيم، وأبوحفص يعمر، وأبوطلحة منصور، أبومسلم، وكان أسنهم إبراهيم، وكان قد أبلى بين يدي يعقوب عند مواقعة الحسن بن زيد بجرجان، فقدمه، فدخل عليه يوماً نيسابور، وهويوم فيه برد شديد، فخلع عليه يعقوب وبر سمور كان على كتفه، فحسده عليه الخجستاني فقال له: إن يعقوب يريد الغدر بك، لأنه لا يخلع على أحد من خاصته خلعة إلا غدر به.
فغم ذلك إبراهيم، وقال: كيف الحيلة في الخلاص؟ قال: الحيلة أن نهرب جميعاً إلى أخيك يعمر، فإني خائف عليه أيضاً. وكان يعمر قد حاصر أبا داود الناهجوزي ببلخ، ومعه نحومن خمسة آلاف رجل، فاتفقا على الخروج ليلتهم، فسبقه إبراهيم إلى الموعد، فانتظره ساعة فلم يره، فسار نحوسرخس، وذهب الخجستاني إلى يعقوب فأعلمه، فأرسله في أثره، فلحقوه بسرخس فقتلوه، ومال يعقوب إلى الخجستاني.
فلما أراد يعقوب العود إلى سجستان استخلف على نيسابور عزيز بن السري، وولى أخاه عمروبن الليث هراة، فاستخلف عمروعليها طاهر ابن حفص الباذغيسى، وسار يعقوب إلى سجستان سنة إحدى وستين ومائتين، وأحب الخجستاني التخلف لما كان يحدث به نفسه، فقال لعلي بن الليث: إن خويك قد اقتسما خراسان، ولي سلك بها من يقوم بشغلك، فيجب أن تردني إليها لأقوم بأمورك؛ فاستأذن أخاه يعقوب في ذلك، فأذن له، فلما حضر أحمد يودع يعقوب أحسن له القول، وردة وخلع عليه، فلما ولى عنه قال يعقوب: اشهد أن قفاه قفا مستعص، وأن هذا آخر عهدنا بطاعته. فلما فارقهم جمع نحواً من مائة رجل فورد بهم بشت نيسابور، فحارب عاملهأن وأخرجه عنهأن وجباهأن ثم خرج إلى قومس، فقتل ببسطام مقتلة عظيمة، وتغلب عليها وذلك سنة وستين ومائتين.
وسار إلى نيسابور، وبها عزيز بن السري، فهرب عزيز، وأخذ أحمد أثقاله، واستولى على نيسابور يدعوإلى الطاهرية، وذلك أول سنة اثنتين وستين ومائتين، وكتب إلى رافع بن هرثمة يستقدمه، فقدم عليه، فجعله صاحب جيشه، وكتب إلى يعمر بن شركب، وهويحاصر بلخ، يستقدمه ليتفقا على تلك البلاد، فلم يثق إليه لفعله بأخيه، وسار يعمر إلى هراة، فحارب طاهر بن حفص فقتله، واستولى على أعمال طاهر، فسار إليه أحمد، فكانت بينهما مناوشات.
وكان أبوطلحة بن شركب غلاماً من أحسن الغلمان، وكان عبد الله ابن بلال يميل إليه، وهوأحد قواد يعمر، فراسل الخجستاني، وأعلمه أنه يعمل ضيافة ليعمر وقواده، ويدعوهم إليه يوماً ذكره، ويأمره بالنهوض إليهم فيه، فإنه يساعده، وشرط عليه أن يسلم إليه أبا طلحة، فأجابه أحمد إلى ذلك، فصنع ابن بلال طعامأن ودعا يعمر وأصحابه، وكبسهم أحمد، وقبض على يعمر، وسيره إلى نائبه بنيسابور فقتله، واجتمع إلى أبي طلحة جماعة من أصحاب أخيه فقتلوا ابن بلال وساروا إلى نيسابور وكان بها الحسين بن طاهر أخومحمد بن طاهر قد وردها من أصبهان، طمعاً أن يخطب لهم أحمد كما كان يظهره من نفسه، فلم يفعل، فخطب له أبوطلحة بهأن وأقام معه، فسار إليه الخجستاني من هراة في اثني عشر ألف عنان، فأقام على ثلاث مراحل من نيسابور، ووجه أخاه العباس إليهأن فخرج إليه أبوطلحة، فقاتله، فقتل العباس وانهزم أصحابه.
فلما بلغ خبرهم إلى أحمد عاد إلى هراة، ولم يعلمه لأخيه خبرأن فبذل الأموال لمن يأتيه بخبره، فلم يقدم أحد على ذلك، وأجابه رافع بن هرثمة إليه، فاستأمن إلى أبي طلحة فأمنه وقربه ووثق إليه، وتحقق رافع خبر العباس، فأنهاه إلى أخيه أحمد، وأنفذه أبوطلحة إلى بيهق وبست ليجبي أموالها لنفسه، وضم إليه قائدين، فجبى رافع الأموال، وقبض على القائدين، وسار إلى الخجستاني، إلى قرية من قرى خواف، فنزلها وبها حلي بن يحيى الخارجي، فنزل ناحية عنه.
فبلغ الخبر إلى أبي لحة، فركب كجدأن فوصل إليهم ليلأن فأوقع بحلي وأصحابه، وهويظنه رافعأن وهرب رافع سالمأن وعلم أبوطلحة بحال حلي بعد حرب شديدة، فكف عنه، وأحسن إليه وإلى أصحابه.
ثم وجه أبوطلحة جيشاً إلى جرجان، وبها ثابت بن الحسن بن زيد، ومعه الديلم، وكان على جيش أبي طلحة إسحاق الشاري، فحاربوا الديلم بجرجان، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأجلوهم عنهأن وذلك في رجب سنة ثلاث وستين ومائتين.
ثم عصى إسحاق على أبي طلحة، فسار إليه أبوطلحة، واشتغل في طريقه باللهو والصيد، فكبسه إسحاق وقتل أصحابه، وانهزم أبوطلحة إلى نيسابور، فاستضعفه أهلهأن فأخرجوه منهأن فنزل على فرسخ عنهأن وجمع جمعاً وحاربهم، ثم افتعل كتاباً عن أهل نيسابور إلى إسحاق، يستقدمونه إليهم، ويعدونه المساعدة على أبي طلحة، فاغتر إسحاق بذلك، وكتب أبوطلحة عن إسحاق كتاباً إلى أهل نيسابور يعدهم أنه يساعدهم على أب يطلحة، ويأمرهم بحفظ الدروب، وترك مقاربة البلد إلى أن يوافيهم، فاغتروا بذلك، وظنوه كتابه، ففعلوا ما أمرهم.
وسار إسحاق مجدأن فلما قارب نيسابور لقيه أبوطلحة، فغافصه، فطعنه أبوطلحة، فألقاه عن فرسه في بئر هناك، فلم يعلم له خبر، وانهزم أصحابه، ودخل بعضهم إلى نيسابور، وضيق عليهم أوطلحة، فكاتبوا الخجستاني واستقدموه من هراة، فأتاهم في يومين وليلتين، وورد عليهم ليلأن ففتحوا له الأبواب، ودخلها وسار عنها أبوطلحة إلى الحسن بن زيد، فأمده بجنود، فعاد إلى نيسابور، فلم يظفر بشي، فسار إلى بلخ، وحصر أبا داود الناهجوزي، واجتمع معه خلق كثير، وذلك سنة خمس، وقيل ست وستين ومائتين.
وسار الخجستاني إلى محاربة الحسن بن زيد لمساعدته أبا طلحة، فاستعان الحسن بأهل جرجان، فأعانوه، فحاربهم الخجستاني فهزمهم، وأغار عليهم، وجباهم أربعة آلاف ألف درهم، وذلك في رمضان سنة خمس وستين.
واتفق أن يعقوب بن الليث توفي سنة خمس وستين أيضاً، وولي مكانه أخوه عمرو، فعاد إلى سجستان وقصد هراة فعاد الخجستاني من جرجان إلى نيسابور، ووافاه عمروبن الليث، فاقتتلأن وانهزم عمروورجع إلى هراة، وأقام أحمد بنيسابور، وكان كيكان، وهويحيى بن محمد بن يحيى الذهلي، وجماعة من المتطوعة والفقهاء بنيسابور يميلون إلى عمرولتولية السلطان إياه، فرأى الخجستاني أن يوقع بينهم ليشتغل بعضهم ببعض، وأحضر منهم جماعة من الفقهاء القائلين بمذاهب أهل العراق، فأحسن إليهم، وقربهم، وأكرمهم، وأظهروا الخلاف على كيكان، ونابذوه.
وكان كيكان يقول بمذهب أهل المدينة، فكفي شرهم، وسار إلى هراة فحصر بها عمروبن الليث سنة سبع وستين، فلم يظفر بشيء، فسار نحوسجستان فحصر في طريقه رمل سي فلم يظفر بشيء منهأن فاحتال حتى استمال رجلاً قطاناً كانت داره إلى جانب السور، ووعده أن ينقب من العسكر إلى داره، ويخرج أصحابه إلى البلد، فاستأمن رجلان إلى البلد من أصحاب الخجستاني وذكرا الخبر لصاحبه، فأخذ القطان وأخربت داره، وبطل ما كان الخجستاني عزم عليه.
وكان خليفة الخجستاني بنيساور قد أساء السيرة، وقوى العيارين وأهل الفساد، فاجتمع الناس إلى كيكان، فثار على نائبه، وأعانهم عمروبن الليث بجنده، فقبضوا على خليفة الخجستاني، وأقام أصحاب عمروبنيسابور، فبلغ الخبر إلى أحمد، فوافى نيسابور، فخرج عنها كيكان وغيره، فردهم أصحاب أحمد الخجستاني، فقتل منهم جماعة، وغيب كيكان، فلم يظهر إلا بعد مدة ميتأن وقد بنى عليه حائطاً فمات فيه.
وأقام أحمد بنيسابور تمام سنة سبع وستين ومائتين؛ ثم إن عمراً أبا طلحة، وهويحاصر بلخ، يستقدمه إلى هراة، فأتاه، فأكرمه، وأعطاه مالاً عظيمأن ووعده وتركه بخراسان، وعاد إلى سجستان؛ فسار أحمد إلى سرخس، وبها عامل عمرو، فأتاه أبوطلحة، فقاتله، فانهزم أبوطلحة ومر على وجه، وسار أحمد خلفه، فلحقه بخلم فحاربه، فهزمه أيضأن وسار نحوسجستان، وأقام أحمد بطخارستان.
وكان ناسرار عباس القطان قد أتى طلحة، فسار نحونيسابور، فأعانه أهلهأن فاخذوا والدة الخجستاني وما كان معها؛ وأقام بنيسابور، ولحق به أبوطلحة، فمنعه أهل نيسابور من دخولها.
واتصل الخبر بالخجستاني وهوبطايكان من طخارستان، فسار مجداً نحونيسابور.
ولما أيس الطاهرية من الخجستاني، وكان أحمد بن محمد بن طاهر بخوارزم والياً عليهأن أنفذ أبا العباس النوفلي في خمسة آلاف رجل ليخرج أحمد من نيسابور، فبلغ خبره أحمد، فأرسل إليه ينهاه عن سفك الدماء، فأخذ النوفلي الرسل، فأمر بضربهم، وحلق لحاهم، وأراد قتلهم، فبيمنا هم يطلبون الجلادين، والحجامين ليحلقوا لحاهم، أتاهم الخبر بقرب جيش أحمد منهم، فاشتغلوأن وتركوا الرسل، فهربوا إلى أحمد وأعلموه الخبر، فعبأ أصحابه، وحملوا على النوفلي حملة رجل واحد، فاكثروا فيهم القتل، وقبضوا على النوفلي، وأحضروه عنده، فقال له: إن الرسل لتختلف إلى بلاد الكفار، فلا تتعرض لهم، أفلا استحيت أن تأمر في رسلي بما أمرت؟ فقال النوفلي: أخطأت؛ فقال: لكني سأصيب في أمرك! ثم أمر به فقتل.
وبلغه أن إبراهيم بن محمد بن طلحة بمروقد جبى أهلها في سنتين خمسة عشر خراجأن فسار إليه في أبيورد في يوم وليلة، فأخذه من على فراشه، وأقام بمرو، فجبى خراجهأن ثم ولاها موسى البلخي، ثم وافاها الحسين بن طاهر، فأحسن فيهم السيرة، ووصل إليه نحوعشرين ألف ألف درهم.
ذكر قتل الخجستانيلما كان الخجستاني بطخارستان وافاه خبر أخذ والدته من نيسابور، وسار مجدأن فلما قارب هراة أتاه غلام لأبي طلحة، يعرف بينال ده هزار، مستأمناً فأتاه خبره قبل وصوله، وكان للخجستاني غلام اسمه رامجور على خزائنه، فقال له كالممازح له: إن سيدك ينال ده هزار قد استأمن إلي، كما علمت، فانظر كيف يكون برك به. فحقدها عليه رامجور، وخاف أن يقدم ذلك الغلام عليه، ويطلب الفرصة ليقتله.
وكان لأحمد غلام يدعى قتلغ، وهوعلى شرابه، فسقاه يومأن فرأى في الكوز شيئأن فأمر به فقلعت إحدى عينيه، فتواطأ قتلغ ورامجور على قتله، فشرب يوماً بنيسابور عند وصوله من طايكان، فسكر ونام، فتفرق عنه أصحابه، فقتله رامجور وقتلغ، وكان قتله في شوال سنة ثمان وستين ومائتين، وأخذ رامجور خاتمه فأرسله إلى الإصطبل يأمرهم بإسراج عدة دواب، ففعلوأن فسير عليها جماعة إلى أبي طلحة وهوبجرجان يعلمه الحال، ويأمره بالقدوم، ثم أغلق رامجور الباب على أحمد واختفى.
وبكر القواد إلى باب أحمد، فوجدوا باب حجرته مغلقأن فانتظروه ساعة طويلة، فرابهم الأمر، ففتحوا الباب فرأوه مقتولأن فبحثوا عن الحال، وأخبرهم صاحب الاصطبل خبر رامجور في إنفاذ الخاتم، فطلبوه فلم يجدوه، ثم وجدوه بعد مدة.
وكان سبب إطلاعهم عليه أن صبياً من أهل تلك الدار التي هوبها طلب نارأن فقيل له: ما تعلمون بالنار في اليوم الحار؟ فقيل: نتخذ طعاماً للقائد؛ قيل: ومن القائد؟ قال: رامجور؛ فأنهوا خبره إلى بعض القواد، فأخذوه وقتلوه.
واجتمع أصحاب أحمد بعد قتله على رافع بن هرثمة، وسنذكر أخبار رافع سنة صمان وستين ومائتين.
وكان أحمد بن عبد الله، لما عاد من طايكان بعد قتل والدته، نصب رمحاً طويلاً في صحن داره وقال: يحتاج أهل نيسابور أن يضعوا الدر حتى يغمروا هذا الرمح. فخافوا منه، واستخفى جمع من الرؤساء والتجار، وفزع الناس إلى الدعاء، وسألوا أبا عثمان وغيره من أصحاب أبي حفص الزاهد أن يتضرعوا إلى اله تعالى ليفرج عنهم، وفعلوأن فتداركهم الله برحمته، فقتل تلك الليلة، وفرج الله عنهم.
وكان أحمد كريمأن جوادأن شجاعأن حسن العشرة، كثير البر لإخوانه الذين صحبوه قبل إمارته، والإحسان إليهم، ولم يتغير لهم عما كان يفعله من التواضع والآداب.
ذكر عدة حوادثفيها ولي القضاء علي بن محمد بن أبي الشوارب.
وفيها سار الحسين بن طاهر بن عبد الله بن طاهر إلى الجبل في صفر.
وفيها مات الصلاني والي الري ووليها كيغلغ.
وفيها نهب ابن زيدويه الطبيب؛ ومات صلح بن علي بن يعقوب بن المنصور، وولي إسماعيل بن إسحاق قضاء الجانب الشرقي من بغداد، فصار له قضاء الجانبين.
وفيها تنافر أبوأحمد الموفق وأحمد بن طولون، أمير ديار مصر، وصار به بينهما وحشة مستحكمة، وتطلب الموفق من يتولى الديار المصرية، فلم يجد أحداً لأن ابن طولون كانت خدمه وهداياه متصلة إلى القواد بالعراق وأرباب المناصب، فلهذا لم يجد من يتولاهأن فكتب إلى ابن طولون يهدده بالعزل، فأجابه جواباً فيه بعض الغلظة، فسير إليه الموفق موسى بن بغا في جيش كثيف، فسار إلى الرقة.
وبلغ الخبر ابن طولون، فحصن الديار المصرية، وأقام ابن بغا عشرة أشهر بالرقة، لم يمكنه المسير لقلة الأموال معه، وطالبه الأجناد بالعطاء، فلم يكن معه ما يعطيهم، فاختلفوا عليه، وثاروا بوزيره عبد الله بن سليمان، فاستتر، واضطر ابن بغا إلى العود إلى العراق، وكفى اله أحمد بن طولون شرة فتصدق بأموال كثيرة.
وفيها قتل محمد بن عتاب وكان سائراً إلى السيبين، وهي في ولايته، فقتله الأعراب.
وفيها قتل القطان صاحب مفلح، وكان عاملاً بالموصل، فانصرف عنهأن فقتل بالرقة.
وفيها عقد لكفتمر علي بن الحسين بن دود على طريق مكة.
وفيها وقع بين الخياطين والجزارين بمكة قتال يوم التروية، حتى خاف الناس أن يبطل الحج، ثم تحاجزوا إلى أن يحج الناس، وقد قتل منهم سبعة عشر رجلاً؛ وحج بالناس الفضل بن إسحاق بن العباس بن محمد.
وفيها سير محمد صاحب الأندلس ابنه المنذر في جيش إلى الجليقي، وكان بمدينة بطليوس، فلا سمع خبرهم فارقهأن ودخل حصن كركر، فحوصر فيه، وكثر القتل في أصحابه في شوال.
وفيها مات عمروبن شبه المنيري الأخباري، وكان مولده سنة ثلاث وسبعين ومائة.
حوادث سنة ثلاث وستين ومائتين
ذكر وقعة الزنجلما انهزم علي بن أبان جريحأن كما ذكرناه، وعاد إلى الأهواز لم يقم بهأن ومضى إلى عسكر صاحبه يداوي جراحه، واستخلف على عسكره بالأهواز، فلما برأ جرحه عاد إلى الأهواز، ووجه أخاه الخليل بن أبان في جيش كثيف إلى احمد بن ليثويه، وكان أحمد بعسكر مكرم، فكمن لهم أحمد، وخرج إلى قتالهم، فالتقى الجمعان، واقتتلوا أشد قتال، وخرج الكمين على الزنج فانهزموأن وتفرقوأن وقتلوأن ووصل المنهزمون إلى علي بن أبان، فوجه مسلحة إلى المسرقان، فوجه إليهم أحمد ثلاثين فارساً من أصحابه، من أعيانهم، فقتلهم الزنج جميعهم.
ذكر استيلاء يعقوب على الأهواز وغيرهاوفيها أقبل يعقوب بن الليث من فارس، فلما بلغ النوبندجان انصرف أحمد بن الليث عن تستر، فلما بلغ يعقوب جند يسابور ونزلهأن ارتحل عن تلك الناحية كل من بها من عسكر الخليفة، ووجه إلى الأهواز رجلاً من أصحابه يقال له الخضر بن العنبر، فلما قاربها خرج عنها علي بن أبان ومن معه من الزنج، فنزل نهر السدرة، ودخل الخضر الأهواز، وجعل أصحابه وأصحاب علي بن أبان بعضهم على بعض، ويصيب بعضهم من بعض، إلى أن استعد علي بن أبان وسار إلى الأهواز، فأوقع بالخضر ومن معه وقعة قتل فيها ن أصحاب الخضر خلقاً كثيرأن وأصاب الغنائم الكثيرة، وهرب الخضر ومن معه إلى عسكر مكرم.
وأقام علي بالأهواز ليستخرج ما كان فيها، ورجع إلى نهر لاسدرة، وسير طائفة إلى دورق، وأوقعوا بمن كان هناك من أصحاب يعقوب، وأنفذ يعقوب إلى الخضر مددأن وأمره بالكف عن قتال الزنج والاقتصار على المقام بالأهواز، فلم يجبهم علي إلى ذلك دون نقل طعام كان هناك، فأجابه يعقوب إليه، فقتله، وترك العلف الذي كان بالأهواز وكف بعضهم عن بعض.
ذكر ملك الروم لؤلؤةوفيها سلمت الصقالبة لؤلؤة إلى الروم؛ وكان سبب ذلك أن أحمد بن طولون قد أدمن الغزوبطرسوس قبل أن يلي مصر، فلما ولي مصر كان يؤثر أن يلي طرسوس ليغزومنها أميرأن فكتب إلى أبي أحمد الموفق يطلب ولايتهأن فلم يجبه إلى ذلك، واستعمل عليها محمد بن هارون التغلبي، فركب في سفينة في دجلة فألقتها الريح إلى الشاطئ، فأخذه أصحاب مساور الشاري فقتلوه، واستعمل عوضه محمد بن علي الأرمني، وأضيف إليه أنطاكية، فوثب به أهل طرسوس فقتلوه، فاستعمل عليها أرخوز بن يولغ بن طرخان التركي، فسار إليهأن وكان غراً جاهلأن فأساء السيرة، وأخر عن أهل لؤلؤة أرزاقهم وميرتهم، فضجوا من ذلك، وكتبوا إلى أهل طرسوس يشكون منه ويقولون: إن لم ترسلوا إلينا أرزاقنا وميرتنا وإلا سلمنا القلعة إلى الروم.
فأعظم ذلك أهل طرسوس وجمعوا من بينهم خمسة عشر ألف دينار ليحملوها إليهم، فأخذها أرخوز ليحملها إلى أهل لؤلؤة، فأخذها لنفسه.
فلما أبطأ عليهم المال سلموا القلعة إلى الروم، فقامت على أهل طرسوس القيامة، لأنها كانت شبحاً في حلق العدو، ولم يكن يخرج للروم في بر أوبحر إلا رأوه وأنذروا به؛ واتصل الخبر بالمعتمد، فقلدها أحمد بن طولون واستعمل عليها من يقوم بغزوالروم ويحفظ ذلك الثغر.
ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة مات مساور الشاري، وكان قد رحل من البوازيج يريد لقاء عسكر قد سار إليه من عند الخليفة، فكتب أصحابه إلى محمد بن خرزاد وهوبشهرزور ليولوه أمرهم فامتنع، وكان كثير العبادة، فبايعوا أيوب ابن حيان الوارقي البجلي، فأرسل إليهم محمد بن خرزاد ليذكر لهم أنه نظر في أمره، فلم يسعه إهمال الأمر لأن مساوراً عهد إليه، فقالوا له: قد بايعنا هذا الرجل ولا نغدر به؛ فسار إليهم فيمن بايعه فقاتلهم، فقتل أيوب بن حيان، فبايعوا بعده محمد بن عبد اله بن يحيى الوارقي المعروف بالغلام، فقتل أيضأن فبايع أصحابه هارون بن عبد الله البجلي، فكثر أتباعه، وعاد عنه ابن خرزاد، واستولى هارون على أعمال الموصل، وجبى خراجه.
وفيها كانت وقعة بين موسى والأعراب، فوجه الموفق ابنه أبا العباس المعتضد في جماعة من قواده في طلب الأعراب.
وفيها وثب الديراني ابن أوس، فكبسه ليلأن فتفرق عسكره، ونهبه، ومضى ابن أوس إلى واسط.
وفيها ظفر أصحاب يعقوب بن الليث بمحمد بن واصل، فأسروه.
وفيها مات عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وزير المعتمد، سقط بالميدان من صدمة خادم له، فسال دماغه من منخريه وأذنه، فمات لوقته، وصلى عليه الموفق، ومشى في جنازته، واستوزر من الغد الحسن بن مخلد، فقدم موسى بن بغا سامرأن فاختفى الحسن، واستوزر مكانه سليمان بن وهب، ودفعت دار عبيد الله إلى كيغلغ.
وفيها أخرج أخوشركب الحسين بن طاهر عن نيسابور، وغلب عليهأن وأخذ أهله بإعطائه ثلث أموالهم، وسار الحسين إلى مرووبها ابن خوارزم شاه يدعولمحمد بن طاهر.
وفيها سير محمد، صاحب الأندلس، ابنه المنذر في جيش كثير، وجعل طريقه على ماردة فلما جاز ماردة إلى أرض العدوتبعه تسع مائة فارس من العسكر، فخرج عليهم جمع كثر من المشركين قد استظهر، فاقتتلوا قتالاً كثيراً صبروا فيه، وقتل من المشركين عدد كثير، ثم استظهر ابن الجليقي ومن معه من المشركين على التسعمئة، فوضعوا السيف فيهم فقتلوهم عن آخرهم، وأكرمهم الله بالشهادة.
وفيها ابتدأ إبراهيم أمير إفريقية ببناء مدينة رقادة.
وفيها توفي أحمد بن حرب الطائي الموصلي أخوعلي بن حرب، توفي بآذنة من بلد الثغر.
حوادث سنة أربع وستين ومائتين
ذكر اسر عبد الله بن كاوسفي هذه السنة أسرت الروم عبد اله بن رشيد بن كاوس.
وكان سبب ذلك أنه دخل بلد الروم في أربعة آلاف من الأهل الثغور الشامية، فغمن وقتل، فلما رحل عن الساندون خرج عليه بطريق سلوقية، وبطريق قرة كوكب، وخرشنة، فأحدقوا بالمسلمين، فنزل المسلمون وعرقبوا دوابهم وقاتلوأن فقتلوا إلا خمس مائة، فإنهم حملوا حملة رجل واحد، ونجوا على دوابهم، وقتل الروم من قتلوأن وأسروا عبد الله بن رشيد بعد شربات أصابته، وحمل على ملك الروم.
ذكر أخبار الزنج هذه السنة ودخولهم واسطقد ذكرنا سنة اثنتين وستين ومائتين مسير سليمان بن جامع إلى البطائح، وما كان منه مع أغرتمش، فلما أوقع به كتب إلى صاحبه يستأذنه في المسير إليه ليحدث به عهدأن ويصلح أمور منزله، فأذن له في ذلك، فأشار عليه الحياتي أن يتطرق إلى عسكر تكين البخاري، وهوبيزدود، فقبل قوله، وسار إلى تكين، فلما كان على فرسخ منه قال له الحياتي: الرأي أن تقيم أنت عاهنأن وأمضي أنا في السميريات، وأجر القوم إليك، فيأتونك وقد تعبوأن فتنال منهم حاجتك.
ففعل سليمان ذلك، وجعل بعض أصحابه كمينأن ومضى الحياتي إلى تكين، فقالته ساعة، ثم تطارد لهم، فتبعوه، فأرسل إلى سليمان يعلمه ذلك، وقال لأصحابه، وهوبين يدي أصحاب تكين شبه المنهزم، ليسمع أصحاب تكين قوله فيطمعوا فيه: غررتموني وأهلكتموني، وكنت نهيتكم عن الدخول ها هنأن فأبيتم، ولا أرانا ننجومنه.
وطمع أصحاب تكين وجدوا في طلبه، وجعلوا ينادون: بلبل في قفص، فما زالوا كذلك حتى جازوا موضع الكمين، وقاربوا عسكر سليمان، وقد كمن أيضاً خلف جدر هناك، فخرج سليمان إليهم في أصحابه فقاتلهم، وخرج الكمين من خلفهم، وعطف الحياتي على من في النهر، فاشتد القتال فانهزم أصحاب تكين من الوجوه كلهأن وركبهم الزنج يقتلونهم ويسلبونهم أكثر من ثلاثة فراسخ، وعادوا عنهم.
فلما كان الليل عاد الزنج إليهم وهم في معسكرهم، فكبسوهم، فقالتهم تكين وأصحابه، فانكشف سليمان، ثم عبأ أصحابه، فأمر طائفة أن تأتيهم من جهة ذكرها لهم، وطائفة في الماء، وأتى هوفي الباقين، فقصدوا تكين من جهاته كلهأن لم يقف من أصحابه أحد، وانهزموأن وتركوا عسكرهم، فغمن الونج ما فيه، وعادوا بالغنيمة، واستخلف سليمان الحياتي على عسكره، وسار إلى صاحبه، وكان ذلك سنة ثلاث وستين ومائتين.
فلا سار سليمان إلى الخبيث خرج الحياتي بالعسكر الذي خلفه سليمان معه إلى مازوران لطلب الميرة، فاعترضه جعلان، فقاتلهن فانهزم الحياتي، وأخذت سفنه، وأتته الأخبار أن منجوراً ومحمد بن علي حبيب اليشكري قد بلغا الحجاجية، فكتب إلى صاحبه بذلك، فسير إليه سليمان، فوصل إلى طهثا مجدأن وأظهر أنه يريد قصد جعلان، وقدم الحياتي، وأمره أن يأتي جعلان ويقف بحيث يراه ولا يقاتله.
ثم سار سليمان نحومحمد بن علي بن حبيب مجدأن فأوقع به وقعة عظيمة، وغمن غنائم كثيرة، وقتل أخاً لمحمد بن علي ورجع، وكان ذلك في رجب من هذه السنة أيضاً.
ثم سار في شعبان إلى قرية حسان وبها قائد يقال له حسن بن خمارتكين، فأوقع به، فهزمه، ونهب القرية واحرقها وعاد.
ثم سار في شعبان أيضاً إلى مواضع، فنهبها وعاد؛ ثم سار في رمضان واظهر أنه يريد جعلان لمازوران، فبلغت الأخبار إلى جعلان بذلك، فضبط عسكره، فتركه سليمان وعدل إليه فأرقع به وهوغار، وغمن منه ست شذوات، ثم أرسل الحياتي في جماعة لينتهب، فصادفهم جعلان، فأخذ سفنهم، وغمن منهم، فأتاه سليمان في البر، فهزمه، واستنقذ سفنهم، وغمن شيئاً آخر وعاد.
ثم سار سليمان إلى الرصافة في ذي القعدة، فأوقع بمطر بن جامع وهوبهأن فغمن غنائم كثيرة، وأحرق الرصافة واستباحهأن وحمل أعلاماً وانحدر إلى مدينة الخبيث، وأقام ليعيد هناك بمنزلة، فسار مطر إلى الحجاجية، فأوقع بأهلهأن وأسر جماعة، وكان بها قاض لسليمان، فأسره مطر وحمله إلى واسط، وسار مطر إلى قريب طهثا ورجع، فكتب الحياتي إلى سليمان بذلك، فسار نحوه فوافاه لليلتين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، ثم صرف جعلان ووافى أحمد لن ليثويه بالشديدية.
ومضى سليمان إلى نهر أبان، وبه قائد من قواد أحمد، فأوقع به فقتله، ثم سار سليمان إلى تكين في خمس شذوات سنة أربع وستين، فواقعه تكين بالشديدية.
وكان أحمد بن ليثويه حينئذ قد سار إلى الكوفة وجنبلاء، فظهر تكين على سليمان، وأخذ الشذوات بما فيهأن وكان بها صناديد سليمان وقواده فقتلهم؛ ثم إن أحمد عاد إلى الشديدية، وضبط تلك الأعمال، حتى وافاه محمد بن المولد، وقد ولاه الموفق مدينة واسط، فكتب سليمان إلى الخبيث يستمده، فأمده بالخليل بن أبان في زهاء ألف وخمسمائة فارس، فلما أتاه المدد قصد إلى محاربة محمد بن المولد، ودخل سليمان مدينة واسط، فقتل فها خلقاً كثيرأن ونهب وأحرق، وكان بها إلى ابن منكجور البخاري، فقاتله يومه إلى العصر، ثم قتل، وانصرف سليمان عن واسط إلى جنبلاء ليعيث ويخرب، فأقام هناك تسعين ليلة، وعسكرهم بنهر الأمير.
ذكر وزارة سليمان بن وهب للخليفة ووزارة الحسن بن مخلد وعزلهوفيها خرج سليمان بن وهب من بغداد إلى سامرا وشيعه الموفق والقواد، فلما صار إلى سامرا غضب عليه المعتمد وحبسه وقيده وانتهب داره، واستوزر الحسن بن مخلد في ذي القعدة، فسار الموفق من بغداد إلى سامرا ومعه عبيد الله بن سليمان بن وهب، فلما قرب من سامرا تحول المعتمد إلى الجانب الغربي فعسكر به مغاضباً للموفق، واختلفت الرسل بينه وبين الموفق واتفقأن وخلع على الموف ومسرور وكيغلغ وأحمد بن موسى بن بغا وأطلق سليمان بن وهب وعاد إلى الجوسق، وهرب الحسن بن مخلد وأحمد ين صالح بن شيرزاد فكتب بقبض أموالهما وقبض أحمد بن أبي الاصبع، وهرب القواد الذين كانوا بسامرا مع المعتمد خوفاً من الموفق، فوصلووا إلى الموصل وجبوا الخراج.
ذكر وفاة أماجور وملك ابن طولون الشام وطرسوس وقتل سيما الطويل
وفي هذه السنة توفي أماجور مقطع دمشق، وولي ابنه مكانه، فتجهز ابن طولون ليسير إلى الشام فيملكه، فكتب إلى ابن أماجور له أن الخليفة قد أقطعه الشام والثغور، فأجابه بالسمع والطاعة، وسار أحمد، واستخلف بمصر ابنه العباس، فلقيه ابن أماجور بالرملة فأقره عليهأن وسار إلى دمشق فملكها وأقر أماجور على أقطاعهم، وسار إلى حمص فملكهأن وكذلك حماة، وحلب.
وراسل سيما الطويل بأنطاكية يدعوه إلى طاعته ليقره على ولايته، فامتنع، فعاوده فلم يطعه، فسار إليه أحمد بن طولون، فحصره بأنطاكية، وكان سيء السيرة مع أهل البلد، فكاتبوا أحمد بن طولون، ودلوه على عورة البلد، فنصب عليه المجانيق وقاتله، فملك البلد عنوة، والحصن الذي له، وركب سيما وقاتل قتالاً شديداً حتى قتل ولم يعلم به أحد، فاجتاز به بعض قواده فرآه قتيلأن فحمل رأسه إلى أحمد، فساءه قتله.
ورحل عن أنطاكية إلى طرسوس، فدخلها وعزم على المقام بهأن وملازمة الغزاة، فعلا السعر بهأن وضاقت عنه وعن عساكره، فركب أهلها إليه بالمخيم وقالوا له: قد ضيقت بلدنأن وأغليت أسعارنأن فإما أقمت في عدد يسير، وإما ارتحلت عنا؛ وأغلظوا له القول، وشغبوا عليه، فقال أحمد لأصحابه: لتنهزموا من الطرسوسيين، وترحلوا عنت البلد، ليظهر للناس وخاصة العدوأن ابن طولون على بعد صيته وكثرة عساكره لم يقدر على أهل طرسوس؛ وانهزم عنهم ليكون أهيب هم في قلب العدووعاد إلى الشام.
فأتاه خبر ولده العباس، وهوالذي استخلفه بمصر، أنه قد عصى عليه، وأخذ الأموال وسار إلى برقة مشاقاً لأبيه، فلم يكترث لذلك، ولم ينزعج له، وثبت، وقضى أشغاله، وحفظ أطراف بلاده، وترك بحران عسكرأن وبالرقة عسكراً مع غلامه لؤلؤ، وكان حران لمحمد بن أتامش، وكان شجاعأن فأخرجه عنها وهزمه هزيمة قبيحة.
واتصل خبره بأخيه موسى بن أتامش، وكان شجاعاً بطلأن فجمع عسكراً كثيراً وسار نحوحران، وبها عسكر ابن طولون، ومقدمهم أحمد ابن جيعويه، فلما اتصل به خبر مسير موسى أقلقه ذلك وأزعجه، ففطن له رجل من الأعراب يقال له أبوالأغر، فقال له: أيها الأمير أراك مفكراً منذ أتاك خبر ابن أتامش، وما هذا محله، فإنه طياش قلق، ولوشاء الأمير أن آتيه به أسيراً لفعلت. فغاظه قوله وقال: قد شئت أن تأتي به أسيراً؛ قال: فاضمم إلي عشرين رجلاً أختارهم؛ قال: افعل، فاختار عشرين رجلاً وسار بهم إلى عسكر موسى، فلما قاربهم كمن بعضهم، وجعل بينه وبينهم علامة إذا سمعوها ظهروا.
ثم دخل العسكر في الباقين في زي الأعراب، وقارب مضارب موسى، وقصد خيلاً مربوطة فأطلقهأن وصاح هووأصحابه فيها فنفرت، وصاح هوومن معه من الأعراب، وأصحاب موسى غارون، وقد تفرق بعضهم في حوائجهم، وانزعج العسكر، وركبوأن وركب موسى، فانهزم أبوالأغر من بين يديه، فتبعه حتى أخرجه من العسكر، وجاز به الكمين، فنادى أبوالأغر بالعلامة التي بينهم، فثاروا من النواحي، وعطف أبوالأغر على موسى فأسروه، فأخذوه وساروا حتى وصلوا إلى ابن جيعويه، فعجب الناس من ذلك، وحاروأن فسيره ابن جيعويه إلى ابن طولون، فاعتقله وعاد إلى مصر، وكان ذلك في سنة خمسين وستين ومائتين.
ذكر الفتنة ببلاد الصينوفي هذه السنة ظهر ببلاد الصين إنسان لا يعرف، فجمع جمعاً كثراً من أهل الفساد والعامة، فأهمل الملك أمره استصغاراً لشأنه، فقوي، وظهر حاله وكثف جمعه؛ وقصده أهل الشر من كل ناحية، فأغار على البلاد وأخربهأن ونزل على مدينة خانقوا وحصرهأن وهي حصينة، ولها نهر عظيم، وبها عالم كثير من المسلمين، والنصارى، واليهود، والمجوس، وغيرهم من أهل الصين، فلما حصر البلد اجتمعت عساكر الملك وقصدته، فهزمهأن وافتتح المدينة عنوة، وبذل السيف، فقتل منهم ما لا يحصى كثرة.
ثم سار إلى المدينة التي فيها الملك، وأراد حصرهأن فالتقاه ملك الصين، ودامت الحرب بينهم نحوسنة، ثم انهزم الملك، وتبعه الخارجي إلى أن تحصن منه في مدينة من أطراف بلاده، واستولى الخارجي على أكثر البلاد والخزائن، وعلم أنه لا بقاء له في الملك إذ ليس هومن أهله، فأخرب البلاد، ونهب الأموال، وسفك الدماء.
فكاتب ملك الصين ملوك الهند يستمدهم، فأمدوه بالعساكر، فسار إلى الخارجي، فالتقوا واقتتلوا نحوسنة أيضأن وصبر الفريقان، ثم إن الخارجي عدم، فقيل إنه قتل، ون قيل بل غرق، وظفر الملك بأصحابه وعاد إلى مملكته، ولقب ملوك الصين يعفور، ومعناه ابن السماء تعظيماً لشأنه؛ وتفرق الملك عليه، وتغلبت كل طائفة على طرف من البلاد، وصار الصين على ما كن عليه ملوك الطوائف يظهرون له الطاعة، وقنع منهم بذلك، وبقي على ذلك مدة طويلة.
ذكر ملك المسلمين مدينة سرقوسةوفي هذه السنة، رابع عشر رمضان، ملك المسلمون سرقوسة، وهي من أعظم صقلية.
وكان سبب ملكها أن جعفر بن محمد أمير صقلية غزاهأن فأفسد زرعهأن وزرع قطانية، وطبرمين، ورمطة، وغيرها من بلاد صقلية التي بيد الروم، ونازل سرقوسة، وحصرها براً وبحراً وملك بعض أرباضها ووصلت مراكب الروم نجدة لهأن فسير إليها أسطولأن فأصابوهأن فتمكنوا حينئذ من حصرهأن فأقام العسكر محاصراً لها تسعة اشهر، وفتحت، وقتل من أهلها عدة ألوف، وأصيب فيها من الغنائم ما لم يصب بمدينة أخرى، ولم ينج من رجالها إلا الشاذ الفذ.
وأقاموا فيها بعد فتحها بشهرين، ثم هدموهأن ثم وصل بعد هدمها من القسطنطينية أسطول، فالتقوا هم والمسلمون، فظفر بهم المسلمون، وأخذوا منهم أربع قطع، فقتلوا من فيهأن وانصرف المسلمون إلى بلدهم آخر ذي القعدة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سير محمد بن عبد الرحمن، صاحب الأندلس، ابنه المنذر في جيش إلى مدينة بنبلونة، وجعل طريقه على سرقسطة، فقاتل أهلهأن ثم انتقل إلى تطيلة، وجال مع مواضع بني موسى، ثم دخل بنبلونة، فخرب كثيراً من حصونها وأذهب زروعها وعاد سالماً.
وفيها سار جمع من العرب إلى مدينة جليقية، فكان بينهم وقعة عظيمة قتل فيها من الطائفتين كثير.
وفيها فرغ إبراهيم بن محمد بن الأغلب، صاحب إفريقية، من بناء رقادة، وكان ابتداء عمارتها سنة ثلاث وستين ومائتين، ولما فرغت انتقل إبراهيم إليها.
وفيها وجه يعقوب بن الليث إلى الصيمرة، مقدمة إليهأن واخذوا صعون فأحضروه عنده، فمات.
وفيها ماتت قبيحة أم المعتز.
وفيها وقع الطاعون بخراسان جميعها وقومس، فأفنى خلقاً كثيراً؛ وحج بالناس هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى الهاشمي.
وفيها توفي أبوزرعة الرازي، واسمه عبيد الله بن عبد الكريم، وكان حافظاً للحديث ثقة؛ ومحمد بن إسماعيل بن عليه، وكان موته بدمشق.
وفيها مات أبوإبراهيم المزني، صاحب الشافعي، وكان موته بمصر؛ وعلي بن حرب الطائي، وكان إماماً في الحديث.
حوادث سنة خمس وستين ومائتين
ذكر أخبار الزنجفي هذه السنة كانت وقعة بين أحمد بن ليثويه وبين سليمان بن جامع والزنج بناحية جنبلاء.
وكان سببها أن سليمان كتب إلى الخبيث يخبره بحال نهر يسمى الزهري، ويسأله أن يأذن في عمله، فإنه متى أنفذه تهيأ له حمل ما في جنبلاء وسواد الكوفة، فأنفذ إليه نكرويه لذلك، وأمره بمساعدته، والنفقة على عمل النهر، فمضى سليمان فيمن معه وأقام بالشريطة نحواً من شهر، وشرعوا في عمل النهر.
وكان أصحاب سليمان، في أثناء ذلك، يتطرقون ما حولهم، فواقعه أحمد ابن ليثويه، وهوعامل الموفق بجنبلاء، فقتل من الزنوج نيفاً وأربعين قائدأن ومن عامتهم ما لا يحصى كثرة، وأحرق سفنهم، فمضى سليمان مهزوماً إلى طهثا.
وفيها سار جماعة من الزنوج في ثلاثين سميرية إلى جبل، فأخذوا أربع سفن فيها طعام وانصرفوا.
وفيها دخل الزنج النعمانية فأحرقوهأن وسبوأن وساروا إلى جرجرايأن ودخل أهل السواد بغداد.
ذكر استعمال مسرور البلخي على الأهواز وانهزام الزنج منهوفيها استعمل الموفق مسروراً البلخي على كور الأهواز، فولى مسرور ذلك تكين البخاري، فسار إليها تكين، وكان علي بن أبان والزنج قد احاطوا بتستر، فخاف أهلهأن وعزموا على تسليمها إليهم، فوافاهم في تلك الحال تكين البخاري، فواقع علي بن أبان قبل أن ينزع ثيابه، فانهزم علي والزنج، وقتل منهم كثير، وتفرقوأن ونزل تيكن بتستر؛ وهذه الوقعة تعرف بوقعة باب كورك، وهي مشهورة.
ثم إن علياً قدم عليه جماعة من قواد الزنج، فأمرهم بالمقام بقنطرة فارس، فهرب منهم غلام رومي إلى تكين، وأخبره بمقامهم بالقنطرة، وتشاغلهم بالنبيذ، وتفرقهم في جمع الطعام، فسار تكين إليهم ليلأن فأوقع بهم، وقتل من قوادهم جماعة، فانهزم الباقون.
وسار تكين إلى علي بن أبان، فلم يقف له علي، وانهزم غلام له يعرف بجعفرويه، ورجع علي إلى الأهواز، ورجع تكين إلى تستر، وكتب علي إلى تكين يسأله الكف عن قتل غلامه، فحبسه، ثم تراسل علي وتكين وتهاديأن فبلغ الخبر مسروراً بميل تكين إلى الزنج، فسار حتى وافى تكين وقبض عليه، وحبسه عند إبراهيم بن جعلان، حتى مات وتفرق أصحاب تكين، ففرقة سارت إلى الزنج، وفرقة إلى محمد بن عبيد الله الكردي، فبلغ ذلك مسرورأن فأمنهم، فجاءه منهم الباقون؛ وكان بعض ما ذكرناه من أمر مسرور سنة خمس وستين، وبعضه سنة ست وستين ومائتين.
ذكر عصيان العباس بن طولون على أبيهوفيها عصى العباس بن أحمد بن طولون على أبيه؛ وسبب ذلك أن أباه كان قد خرج إلى الشام، واستخلف انه العباس، كما ذكرناه، فلما أبعد عن مصر حسن للعباس جماعة كانوا عنده أخذ الأموال والانشراح إلى برقة، ففعل ذلك، وأتى برقة في ربيع الأول.
وبلغ لخبر أباه، فعاد إلى مصر، وأرسل إلى ابنه ولاطفه واستعطفه، فلم يرجع إليه، وخاف من معه فأشاروا عليه بقصد إفريقية، فسار إليهأن وكاتب وجوه البربر، فأتاه بعضهم، وامتنع بعضهم، وكتب إلى إبراهيم بن الأغلب يقول: إن أمير المؤمنين قد قلدني أمر إفريقية وأعمالها؛ ورحل، حتى أتى حصن لبدة، ففتحه أهله له، فعاملهم أسوأ معاملة، ونهبهم، فمضى أهل الحصن إلى إلياس بن منصور النفوسي، رئيس الإباضية هناك، فاستعانوا به، فغضب لذلك، وسار إلى العباس ليقاتله.
وكان إبراهيم بن الأغلب قد أرسل إلى عامل طرابلس جيشأن وأمره بقتال العباس، فالتقوأن واقتتلوا قتالاً شديداً قاتل العباس فيه بيده، فلما كان الغد وافاهم إلياس بن منصور الإباضي في اثني عشر ألفاً من الإباضية، فاجتمع هووعامل طرابلس على قتال العباس، فقتل من أصحابه خلق كثير، وانهزم أقبح هزيمة، وكاد يؤسر، فخلصه مولى له، ونهبوا سواده واكثر ما حمله من مصر، وعاد إلى برقة أقبح عود.
وشاع بمصر أن العباس انهزم، فاغتم والده حتى ظهر عليه، وسير إليه العساكر لما علم سلامته، فقاتلوه قتالاً صبر فيه الفريقان، فانهزم العباس ومن معه، وكثر القتلى في أصحابه، وأخذ العباس أسيراً، وحمل إلى أبيه، فحبسه في حجرة في داره إلى أن قدم باقي الأسرى من أصحابه، فلما قدموا أحضرهم أحمد عنده، والعباس معهم، فأمره أبوه أن يقطع أيدي أعيانهم وأرجلهم، ففعل، فلما فرغ منه وبخه وذمه وقال له: هكذا يكون الرئيس والمقدم؟ كان الأحسن أنك كنت ألقيت نفسك بين يدي، وسألت الصفح عنك وعنهم، فكان أعلى لمحلك، وكنت قضيت حقوقهم فيما ساعدوك وفارقوا أوطانهم لأجلك، ثم أمر به فضرب مائة مقرعة، ودموعه تجري على خديه رقة لولده، ثم رده إلى الحجرة واعتقله وذلك سنة ثمان وستين ومائتين.
ذكر موت يعقوب وولاية أخيه عمرووفيها مات يعقوب بن الليث الصفار تاسع شوال بجند يسابور من كور الأهواز، وكانت علته القولنج، فأمره الأطباء بالاحتقان بالدواء، فلم يفعل، واختار الموت.
وكان المعتمد قد أنفذ إليه رسولاً وكتاباً يستميله ويترضاه، ويقلده أعمال فارس، فوصل الرسول ويعقوب مريض، فجلس له، وجعل عنده سيفأن ورغيفاً من الخبز الخشكار، ومعه بصل، وأحضر الرسول، فأدى الرسالة، فقال له: قل للخليفة إنني عليل، فإن مت فقد استرحت منك واسترحت مني، وإن عوفيت فليس بيني وبينك إلا هذا السيف، حتى آخذ بثأري، أوتكسرني وتعقرني، وأعود إلى هذا الخبز والبصل؛ وأعاد الرسول، فلم يلبث يعقوب أن مات.
وكان الحسن بن زيد العلوي يسمى يعقوب بن الليث السندان لثباته؛ وكان يعقوب قد افتتح الرخج، وقتل ملكهأن وأسلم أهلها على يده، وكانت مملكته واسعة الحدود، وكان اسم ملكها كتير، وكان يحمل على سرير من ذهب يحمله اثنا عشر رجلأن وابتنى على جبل عال بيتأن وسماه مكة، وكان يدعي الإلهية، فقتله يعقوب، وافتتح الخلجية وزابل وغير ذلك، ولم أعلم أي سنة كان ذلك حتى اذكره فيها.
وكان يعقوب عاقلأن حازماً: من عاشرته أربعين يوماً فلم تعرف أخلاقه، فلا تعرفها في أربعين سنة؛ وقد تقدم من سيرته ما يدل على عقله.
ولما مات قام بالأمر بعد أخوه عمروبن الليث، وكتب إلى الخليفة بطاعته، فولاه الموفق خراسان، وفارس، وأصبهان، وسجستان، والسند، وكرمان، والشرطة ببغداد، وأشهد بذلك، وسيره إليه مع الخلع.
ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة وثب القاسم بن مهاة بدلف بن عبد العزيز بن أبي دلف بأصبهان، فقتله، ووثب جماعة من أصحاب أبي دلف بالقاسم، فقتلوه وريسوا عليهم أحمد بن عبد العزيز.
وفيها لحق محمد المولد بيعقوب بن الليث، فأكرمه يعقوب، وأحسن إليه. فأمر الخليفة بقبض أمواله وعقاره.
وفيها قتلت الأعراب جعلان، المعروف بالعيار، بدممأن وكان خرج يسير قافلة فقتلوه، فوجه في طلبهم، فلم يلحقوا.
وفيها حبس الموفق سليمان بن وهب، وابنه عبيد اله، وعدة من أصحابهمأن وقبض أموالهم وضياعهم، خلا أحمد بن سليمان، ثم صالح سليمان وابنه عبيد الله على تسع مائة ألف دينار، وجعلا في موضع يصل إليهما من أرادوأن وعسكر موسى بن أتامش، وإسحاق بن كنداجيق، والفضل بن موسى بن بغأن وعبروا جسر بغداد، ومنعهم الموفق، فلم يرجعوأن ونزلوا صرصر، فاستكتب أبوأحمد الموفق صاعد بن مخلد، فمضى إلى أولئك القواد فردهم من صرصر فخلع عليهم.
وفيها خرج خمسة بطارقة من الروم إلى أذنة فقتلوا وأسروا، وكان أرجوز والي الثغور، فعزل عنهأن فأقام مرابطأن وأسروا نحواً من أربع مائة، وقتلوا نحواً من ألف وأربع مائة، وذلك في جمادى الأولى.
وفيها غلب أحمد بن عبد الله الخجستاني على نيسابور، وسار الحسين ابن طاهر بن عبد الله إلى مرو، وهوعامل أخيه محمد بن طاهر، وأخربت طوس.
وفيها استوزر أبوالصقر إسماعيل بن بلبل.
وفيها وثب جماعة من الأعراب، من بني أسد، على علي ين مسرور البلخي قبل وصوله إلى المغيثة بطريق مكة، وكان الموفق ولاه الطريق.
وفها بعث ملك الروم إلى أحمد بن طولون عبد الله بن رشيد بن كاوس وعدة أسرى، وأنفذ معهم عدة مصاحف منه هدية إليه، وحج بالناس هارون ابن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي.
وفيها كانت موافاة أبي المغيرة عيسى بن محمد المخزومي إلى مكة لصاحب الزنج.
وفيها توفي أبوبكر أحمد بن منصور الزنادي وعمره ثلاث وثمانون سنة؛ وإبراهيم بن هاني أبوإسحاق النيسابوري، وكان من الأبدال قد صحب أحمد بن حنبل؛ وعلي بن حرب بن محمد الطائي الموصلي ومولده سنة خمس وسبعين ومائة وقيل غير ذلك، وقد تقدم؛ وعلي بن موفق الزاهد.
وفيها قتل أبوالفضل العباس بن الفرج الرياشي، قتله الزنج بالبصرة، أخذ العلم عن أبي عبيدة والأصمعي.
حوادث سنة ست وستين ومائتين
ذكر أخبار الزنج مع أغرتمشفي هذه السنة ولي أغرتمش ما كان يتولاه تكين البخاري من أعمال الأهواز، فدخل تستر في رمضان، ومعه أبأن ومطر بن جامع، وقتل مطر ابن جامع جعفرويه غلام علي بن أبان، وجماعة معه كانوا مأسورين، وساروا إلى عسكر مكرم، وأتاهم الزنج هناك مع علي بن أبان، فاقتتلوأن فلما رأوا كثرة الزنج قطعوا الجسر وتحاجزوأن ورجع علي إلى الأهواز، وأقام أخوه الخليل بالمسرقان في جماعة كثيرة من الزنج.
وسار أغرتمش ومن معه نحوالخليل ليعبروا إليه من قنطرة أربك، فكتب إلى أخيه علي، فوافاه في النهر، وأخاف أصحابه الذين خلفهم بالأهواز، فارتحلوا إلى نهر السدرة، وتحارب علي وأغرتمش يومهم، ثم انصرف علي إلى الأهواز، فلم يجد أصحابه الذي خلفهم بالأهواز، فوجه من يردهم من نهر السدرة، فعسر عليهم ذلك، فتبعهم وأقام معهم، ورجع أغرتمش فنزل عسكر مكرم، واستعد علي لقتالهم.
وبلغ ذلك أغرتمش ومن معه من عسكر الخليفة، فساروا إليه، فكمن لهم علي وقدم الخليل إلى قتالهم، فاقتتلوأن فكان أول النهار لأصحاب الخليفة، ثم خرج عليهم الكمين، فانهزموا وأسر مطر بن جامع وعدة من القواد، فقتله علي بغلامه جعفرويه، وعاد إلى الأهواز، وأرسل رؤوس القتلى إلى الخبيث العلوي.
وكان علي وأغرتمش بعد ذلك في حروبهم على السواء، وصرف صاحب الزنج أكثر جنوده إلى علي بن أبان؛ فلما رأى ذلك أغرتمش وادعه، وجعل علي يغي على النواحي، فمن ذلك أنه أغار على قرية بيروذ فهبهأن ووجه الغنائم إلى صاحبه.
ذكر دخول الزنج رامهرمز
وفيها دخل علي بن أبان والزنج رامهرمز؛ وسبب ذلك أن محمد بن عبيد الله كان يخاف علي بن أبان لما في نفس علي منه، لما ذكرناه، فكتب إلى انكلاي بن العلوي وسأله أن يسأل أباه ليرفع يد علي عنه ويضمه إلى نفسه، فزاد ذلك غيظ علي منه، وكتب إلى الخبيث بالإيقاع بمحمد، ويجعل ذلك الطريق إلى مطالبته بالخراج، فأذن له، فكتب إلى محمد يطلب منه حمل الخراج، فمطله ودافعه، فسار إليه علي وهوبرامهرمز، فهرب محمد عنهأن ودخلها علي والزنج فاستباحهأن ولحق بأقصى معاقله، وانصرف علي غامناً.
وخاف محمد فكتب إليه يطلب المسالمة، فأجابه إلى ذلك على مال يؤديه إليه، فحمل إليه مائتي ألف درهم، فأنفذها إلى صاحب الزنج، وأمسك عن محمد بن عبيد الله وأعماله.
وقعة أكراد داربان والزنجوفيها كانت وقعة للزنج انهزموا فيهأن وكان سببها أن محمد بن عبيد الله كتب إلى علي بن أبان، بعد الصلح، يسأله المعونة على الأكراد الدارنان، على أن يجعل له ولأصحابه غنائمهم، فكتب علي إلى صاحبه يستأذنه، فكتب إليه أن وجه إليه جيشأن وأقم أنت، ولا تنفذ أحداً حتى تستوثق منه بالرهائن ولا يأمن غزوه والطلب ثاره. فكتب عل إلى محمد يطلب منه اليمين والرهائن، فبذل له اليمين، ومطله بالرهائن، فلحرص علي على الغنائم أنفذ إليه جيشأن فسير محمد معهم طائفة من أصحابه إلى الأكراد، فخرج إليهم الأكراد فقاتلوهم، ونشبت الحرب، فتخلى أصحاب محمد عن الزنج، فانهزموا وقتلت الأكراد منهم خلقاً كثيراً.
وكان محمد قد أعد لهم من يتعرضهم إذا انهزموأن فصادفوهم، وأوقعوا بهم، وسلبوهم، وأخذوا دوابهم، ورجعوا بأسوأ حال، فكتب علي إلى الخبيث بذلك فعنفه وقال: ضيعت أمري في ترك الرهائن؛ وكتب إلى محمد يتهدده، فخاف محمد وكتب يخضع ويذل، ورد بعض الدواب وقال: إنني كبست من كانت عندهم، وخلصت هذه منهم. فأظهر الخبيث الغضب عليه، فأرسل محمد إلى بهبود، ومحمد بن يحيى الكرماني، وكانا أقرب الناس إلى علي، فضمن لهما مالاً إن أصلحا له علياً وصاحبه، ففعلا ذلك، فأجابهما الخبيث إلى الرضى عن محمد على أن يخطب له على منابر بلاده، وأعلما محمداً ذلك، فأجابهما إلى كل ما طلبأن وجعل يراوغ في الدعاء له على المنابر.
ثم إن علياً استعد لمتوث، وسار إليهأن فلم يظفر بهأن فرجع، وعمل السلاليم والآلات التي يصعد بها إلى السور، واستعد لقصدهأن فعرف ذلك مسرور البلخي، وهويومئذ بكور الأهواز، فلما سار علي إليها سار إليه مسرور، فوافاه قبل المغرب وهونازل عليهأن فلما عاين الزنج أوائل خيل مسرور انهزموا أقبح هزيمة، وتركوا جميع ما كانوا أعدوه، وقتل منهم خلق كثير، وانصرف علي مهزومأن فلم يلبث إلا يسيراً حتى أتته الأخبار بإقبال الموفق، ولم يكن لعلي بعد متوث وقعة، حتى فتحت سوق الخميس وطهثا على الموفق، فكتب إليه صاحبه يأمره بالعود إليه، ويستحثه حثاً شديداً.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ولى عمروبن الليث عبيد الله بن عبد اله بن طاهر خلافته على الشرطة ببغداد وسر من رأى في صفر، وخلع عليه الموفق، وعمروابن الليث.
وفيهأن في صفر، غلب اساتكين على الشرطة وهي الآن من أعمال سجستان، وعلى الري، وأخرج منهاخطلنخجور العامل عليهأن ثم مضى إلى قزوين وعليها أخو كيغلغ، فصالحه، ودخل اساتكين قزوين، ثم رجع إلى الري.
وفيها وردت سرية من سرايا الروم إلى تل يسهى، من ديار ربيعة، فأسرت نحواً من مائتين وخمسين إنسانأن ومثلت بالمسلمين، فنفر إليهم أهل الموصل ونصيين، فرجعت الروم.
وفيها مات أبوالساج بجند يسابور، منصرفاً من عسكر عمروبن الليث إلى بغداد؛ ومات قبله سليمان بن عبد اله بن طاهر، وولى عمروبن الليث فيها أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف أصبهان؛ وولى محمد ابن أبي الساج طريق مكة والحرمين.
وفيها فارق إسحاق بن كنداج أحمد بن موسى بن بغأن وكان سبب ذلك أن أحمد لما سار إلى الجزيرة، وولي موسى بن اتامش ديار ربيعة، أنكر ذلك إسحاق بن كنداج، وفارق عسكره، وسار إلى بلد، فأوقع بالأكراد اليعقوبية فهزمهم، وأخذ أموالهم، ثم لقي ابن مساور الخارجي فقتله، وسار إلى الموصل فقاطع أهلها على مال قد أعدوه.
وكان قائد كبير بمعلثايا، اسمه علي بن داود، وهوالمخاطب له عن أهل الموصل، والمدافع، فسار ابن كنداج إليه، فلما بلغه الخبر فارق معلثايأن وعبر دجلة، ومعه حمدان بن حمدون، إلى إسحاق بن أيوب بن أحمد التغلبي العدوي، فاجتمعوا كلهم فبلغت عدتهم نحوخمسة عشر ألفأن وسمع ابن كنداج باجتماعهم، فعبر إلى بلد، وعبر دجلة إليه وهوفي ثلاثة آلاف، وسار إلى نهر أيوب، فالتقوا بكراثا وهي التي تعرف اليوم بتل موسى وتصافوا للحرب، فأرسل مقدم ميسرة ابن أيوب إلى ابن كنداج يقول له: إنني في الميسرة، فاحمل علي لأنهزم؛ ففعل ذلك، فانهزمت ميسرة ابن أيوب، وتبعها الباقون، فسار حمدان بن حمدون، وعلي بن داود إلى نيسابور وأخذ ابن أيوب نحونصيبين، فاتبعه ابن كنداج، فسار ابن أيوب عن نصيبين إلى آمد، واستولى ابن كنداج على نصيبين وديار ربيعة، واستجار ابن أيوب بعيسى بن الشيخ الشيباني، وهوبآمد، فأنجده، وطلب النجدة من أبي المعز بن موسى بن زرارة، وهوبأزرن، فأنجده أيضأن وعاد ابن كنداج إلى الموصل، ووصل إليه من الخليفة المعتمد عهد بولاية الموصل، فعاد إليهأن فأرسل إليه ابن الشيخ وابن زرارة وغيرهما بذلوا له مائتي ألف دينار ليقرهم على أعمالهم، فلم يجبهم، فاجتمعوا على حربه، فلما رأى ذلك أجابهم إلى ما طلبوا وعاد عنهم وقصدوا بلادهم.
وفيها أمر محمد بن عبد الرحمن بإنشاء مراكب بنهر قرطبة، وحملها إلى البحر المحيط، وكان سبب عملها أنه قيل له إن جليقية ليس لها مانع من جهة البحر المحيط، وإن ملكها من هناك سهل، فأمر بعمل المراكب، فلما فرغت، وكملت برجالها وعدتها، سيرها إلى البحر المحيط، فلما دخلته المراكب تقطعت، ولم يجتمع منها مركبان، ولم يرجع منها إلا اليسير.
وفيها التقى أسطول المسلمين وأسطول الروم عند صقلية، فجرى بينهم قتال شديد، فظفر الروم بالمسلمين، وأخذوا مراكبهم، وانهزم من سلم منهم إلى مدينة بلرم بصقلية.
وفيها مكان بإفريقية غلاء شديد وقحط عظيم، كادت الأقوات تعدم.
وفيها قتل أهل حمص عاملهم عيسى الكرخي.
وفيها أسرى لؤلؤ غلام أحمد بن طولون من رابية بني تميم إلى موسى بن أتامش، وهوبرأس عين، فأخذه أسيرأن وسيره إلى الرقة، ثم لقي لؤلؤ أحمد بن موسى بن أتامش ومن معه من الأعراب، فانهزم لؤلؤ، ورجع الأعراب إلى عسكر أحمد لينهبوه، فطف عليهم لؤلؤ وأصحابه، فانهزموأن فبلغت هزيمتهم قرقيسيأن ثم ساروا إلى بغداد وسامرأن وقد ذكرت فيما تقدم أن الذي أسر موسى غير لؤلؤ على ما ذكره مؤرخومصر.
وفيها كانت بين أحمد بن عبد العزيز وبكتمر رقعة، فانهزم بكتمر، وسار إلى بغداد.
وفيها أوقع الخجستاني بالحسن بن زيد بجرجان، وهوغار، فلحق بآمل، وغلب الخجستاني على جرجان وأطراف طبرستان، وكان الحسن لما سار عن طبرستان إلى جرجان استخلف بسارية الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله ابن حسين الأصغر العقيقي، فلما انهزم الحسن ين زيد أظهر العقيقي بسارية أنه قتل، ودعا إلى البيعة لنفسه، فبايعه قوم، ووافاه الحسن بن زيد، فحاربه، ثم ظفر به فقتله.
وفيها كانت وقعة بين الخجستاني وعمروبن الليث انهزم فيها عمرو، ودخل الخجستاني نيسابور، وأخرج منها عامل عمروومن كان يميل إليه.
وفيها كانت فتنة بالمدينة ونواحيها بين العلويين والجعفريين.
وفيها وثب الأعراب على كسوة الكعبة فانتهبوهأن وصار بعضها إلى صاحب الزنج، وأصاب الحجاج فيها شدة شديدة.
وفيها خرجت الروم على ديار ربيعة، فاستنفر الأنس، فنفروا في برد شديد لا يمكن فيه دخول الدرب.
وفيها غزت سيما خليفة أحمد بن طولون على الثغور الشامية في ثلاثمائة رجل من أهل طرسوس، فخرج عليهم نحومن أربعة آلاف من بلاد هرقلة، فاقتتلوا قتالاً شديدأن وقتل المسلمون خلقاً كثيراً من العدو، وأصيب من المسلمين جماعة.
وفيها كانت بمدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، حرب بين العلويين والجعفريين، وغلا السعر بها حتى تعذرت الأقوات، وعم الغلاء سائر البلاد من الحجاز، والعراق، والموصل، والجزيرة، والشام، وغير ذلك، إلا أنه لم يبلغ الشدة التي بالمدينة.
وفيها كان الناس في البلاد التي تحت حكم الخليفة جميعها في شدة عظيمة بتغلب القواد وأمراء الأجناد على الأمر وقلة المراقبة والأمن من إنكار ما يأتونه ويفعلونه، لاشتغال الموفق بقتال صاحب الزنج، ولعجز الخليفة المعتمد، واشتغاله بغير ذلك.
وفيها اشتد الحر في تشرين الثاني، ثم اشتد فيه البرد حتى جمد الماء.
وفيها قدم محمد بن أبي الساج مكة، فحاربه المخزومي فهزمه محمد، واستباح ماله، وذلك يوم التروية.
وفيها سار كيغلغ إلى الجبل وبكتمر راجعاً إلى الدينور. وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي.
وفيها توفي محمد بن شجاع أبوبكر الثلجي، وكان من أصحاب الحسن ابن زياد اللؤلؤي صاحب أبي حنيفة، الثلجي بالثاء المعجمة بثلاث والجيم.
وفيها توفي صالح بن أحمد بن حنبل، وكان مولده سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.
حوادث سنة سبع وستين ومائتين
ذكر أخبار الزنجوفيها غلب أبوالعباس بن الموفق على عامة ما كان بيد سليمان بن جامع والزنج من أعمال دجلة، وأبوالعباس هذا هوالذي صار خليفة بعد المعتمد، فلقي المعتضد بالله.
وكان سبب مسيره أن الزنج لما دخلوا واسط، وعملوا بأهلها ما ذكرنأن بلغ ذلك الموفق، فأمر ابنه بتعجيل المسير بين يديه إليهم، فسار في ربيع الآخر سنة ست وستين ومائتين، وشيعه أبوه، وسير معه عشرة آلاف من الرجالة والخيالة في العدة الكاملة، وأخذ معه الشذوات، والسميريات، والمعابر للرجالة، فسار حتى وافى إلى دير العاقول.
وكان على مقدمته في الشذوات نصير، المعروف بأبي حمزة، فكتب إليه نصير يخبره أن سليمان بن جامع قد وافى بخيلة ورجله في شذوات وسميريات، والحياتي على مقدمته، حتى نزل الجزيرة بحضرة بردرويا، وأن سليمان بن موسى الشعراني قد وافى نهر أبا بخيله ورجله في سميريات، فركب أبوالعباس حتى وافى الصلح، ووجه طلائعه ليعرف أخبارهم، فعادوا وأعلموه بموافاة الزنج وجيشهم، وأن أولهم بالصلح، وآخرهم ببستان موسى بن بغأن أسفل واسط.
وكان سبب جمع الزنج وحشدهم أنهم قالوا: إن أبا العباس فتى حدث، غر بالحرب، والرأي لنا أن نرميه بحدنا كله، ونجبهه في أول مرة نلقاه في إزالته، فلعل ذلك يروعه فينصرف عنا؛ فجمعوأن وحشدوأن فلما علم أبوالعباس قربهم عدل عن سنن الطريق، واعترض في مسيره، ولقي أصحابه أوائل الزنج، فتطاردوا لهم، حتى طمعوا فيهم، واغتروا وابتعوهم، وجعلوا يقولون: اطلبوا أميراً للحرب، فإن أميركم قد اشتغل بالصيد.
فلما قربوا منه خرج عليهم فيمن معه من الخيل والرجل، وصاح بنصير: إلى أين تتأخر عن هذه الأكلب! فرجع نصير، وركب أبوالعباس سميرية وحف به أصحابه من جميع الجهات، فانهزمت الزنج، وكثر القتل فيهم، وتبعوهم إلى أن وصلوا قرية عبد الله، وهي على ستة فراسخ من الموضع الذي لقوهم به، وأخذوا منهم خمس شذوات، وعدة سميريات، وأسر جماعة، واستأمن جماعة، فكان هذا أول الفتح، فسار سليمان بن جامع إلى نهر الأمير، وسار سليمان بن موسى الشعراني إلى سوق الخميس، وانحدر أبوالعباس فأقام بالعمر وهوعلى فرسخ من واسط، وأصلح شذواته، وجعل يراوح القوم القتال ويغاديهم.
ثم إن سليمان استعد وحشد، وجعل أصحابه في ثلاثة أوجه، قالوا: إنه حدث، غر يغرر بنفسه، وكمنوا كناء، فبلغ الخبر أبا العباس، فحذروا وأقبلوا وقد كمنوا الكمناء ليغتر بأتباعهم فيخرج الكمين عليه، فمنع أبوالعباس أصحابه أن يتبعوهم، فلما علموا أن كيدهم لم يتم خرج سليمان في الشذوات والسميريات، فأمر أبوالعباس نصيراً أن يبرز إليهم، وركب هوشذاة من شذواته سماها الغزال، ومعه جماعة من خاصته، وأمر الخيالة بالمسير بإزائه على شاطئ النهر إلى أن ينقطع، فعبروا دوابهم، ونشبت الحرب بين الفريقين، فوقعت الهزيمة على الزنج، وغمن أبوالعباس منهم أربع عشرة شذاة، وأفلت سليمان والحياتي بعد أن أشفيا على الهلاك، وبلغوا طهثا وأسلموا ما كان معهم.
ورجع أبوالعباس إلى معسكره، وأمر بإصلاح ما أخذ منهم من الشذوات والسميريات، وأقام الزنج عشرين يوماً لا يظهر منهم أحد، وجعلوا على طريق الخيل آبارأن وجعلوا فيها سفافيد حديد، وجعلوا على رؤوسهم البواري والتراب ليسقط فيها المجتازون، فاتفق أنه سقط فيها رجل من الفراغنة، ففطنوا لهأن وتركوا ذلك الطريق.
واستمد سليمان صاحب الزنج، فأمده بأربعين سميرية بآلاتها ومقاتليهأن فعادوا للتعرض للحرب، فلم يكونوا يثبتون لأبي العباس؛ ثم سير إليهم عدة سميريات، فأخذها الزنج، فبلغه الخبر وهويتغذى، فركب في سميرية، ولم ينتظر أصحابه، وتبعه منهم من خف، فأدرك الزنج، فانهزموأن وألقوا أنفسهم في الماء، فاستنقذ سميرياته ومن كان فيهأن وأخذ منهم إحدى وثلاثين سميرية؛ ورمى أبوالعباس، يومئذ، عن قوس حتى دميت إبهامه؛ فلما رجع أمر لمن معه بالخلع، وأمر بإصلاح السميريات المأخوذة من الزنج.
ثم إن أبا العباس رأى أن يتوغل في مازروان حتى يصير إلى الحجاجية ونهر الأمير، ويعرف ما هناك، فقدم نصيراً في أول السميريات وركب أبوالعباس في سميرية ومعه محمد بن شعيب، ودخل مازوران وهويظن أن نصيراً أمامه، فلم يقف له على خبر، وكان قد سار على غير طريق أبي العباس، وخرج من مع أبي العباس من الملاحين إلى غمن رأوها ليأخذوهأن فبقي هوومحمد بن شعيب، فأتاهما جمع من الزنج من جانبي النهر، فقاتلهم أبون العباس بالنشاب، ووافاه زيرك في باقي الشذوات، فسلم أبوالعباس وعاد إلى عسكره.
ورجع نصير وجمع سليمان بن جامع أصحابه بطهشا وتحصن الشعراني وأصحابه بسوق الخميس، وجعلوا يحملون الغلات إليهأن وكذلك اجتمع بالصينية جمع كثير، فوجه أبوالعباس جماعة من قواده على الخيل إلى ناحية الصينية، وأمرهم بالمسير في البر، وإذا عرض لهم نهر عبروه، وركب هوفي الشذوات والسميريات، فلما أبصرت الزنج الخيل خافوأن ولجأوا إلى الماء والسفن، فلم يلبثوا أن وافتهم الشذا مع أبي العباس، فلم يجدوا ملجأن فاستسلموأن فقتل منهم فريق، وأسر فريق، وألقى نفسه في الماء فريق، وأخذ أصحاب أبي العباس سفنهم وهي مملوءة أرزأن وأخذ الصينية، وأزاح الزنج عنهأن فانحازوا إلى طهثا وسوق الخميس.
وكان قد رأى أبوالعباس كركيأن فرماه بسهم، فسقط في عسكر الزنج، فعرف الزنج السهم فزاد ذلك في خوفهم، ورجع أبوالعباس إلى عسكره وقد فتح الصينية.
وبلغه أن جيشاً عظيماً للزنج مع ثابت بن أبي دلف ولؤلؤ الزنجيين، فسار إليهم، وأوقع بهم وقعة عظيمة وقت السحر، فقتل منهم خلقاً كثيرأن منهم لؤلؤ، واسر ثابتأن فمن عليه، وجعله مع بعض قواده، واستنقذ من النساء خلقاً كثيرأن فأمر بإطلاقهن وردهن إلى أهلهن، وأخذ كل ما كان الزنج جمعوه، وأمر أصحابه أن يستريحوا لمسير إلى سوق الخميس، وأمر نصيراً بتعبئة أصحابه للمسير، فقال له: إن نهر سوق الخميس ضيق، فأقم أنت ونسير نحن؛ فأبى عليه، فقال له محمد بن شعيب: إن كنت لا بد فاعلاً فلا تكثر من الشذأن ولا من الرجال، فإن النهر ضيق.
فسار إليه، ونصير بين يديه، إلى فم نهر مساور، فوقف أبوالعباس، وتقدمه نصير في خمس عشرة شذاة في نهر براطق، وهوالذي يؤدي إلى مدينة الشعراني التي سماها المنيعة في سوق الخميس، فلما غاب عنه نصير خرج جماعة كبيرة في البر على أبي العباس، فمنعوه من الوصول إلى المدينة، وقاتلوه قتالاً شديداً من أول النهار إلى الظهر، وخفي عليه خبر نصير، وجعل الزنج يقولون: قد قتلنا نصيراً. واغتم أبوالعباس لذلك، وأمر محمد بن شعيب يتعرف خبره، فسار، فرآه عند عسكر الزنج وقد أحرقه وأضرم النار في مدينتهم، وهويقاتلهم قتالاً شديدأن فعاد إلى أبي العباس فاخبره، فسر بذلك.
وأسر نصير من الزنج جماعة كثيرة، ورجع حتى وافى أبا العباس فأخبره، ووقف أبوالعباس يقاتلهم، فرجعوا عنه، وكمن بعض شذواته، وأمر أن يظهر واحدة منهأن فطمعوا فيها وتبعوها حتى أدركوها فعلقوا بسكانهأن فخرجت عليهم السفن المكمنة وفيها أبوالعباس، فانهزم الزنج، وغمن أبوالعباس منهم ست سميريات، وانهزموا لا يلوون على شيء من الخوف، ورجع إلى عسكره سالمأن وخلع على الملاحين وأحسن إليهم.
ذكر وصول الموفق إلى قتال الزنج
وفتح المنيعةوفيها في صفر سار الموفق عن بغداد إلى واسط لحرب الزنج؛ وكان سبب تأخره عن ابنه أبي العباس هذه المدة انه يجمع ويحشد الفرسان والرجالة، ويستكثر من العدة التي يقوى بها على حرب الزنج، ويسد الجهات التي يخاف فيها لئلا يبقى له ما يشغل قلبه.
إلا أن الخبيث رئيس الزنج قد أرسل إلى علي بن أبان المهلبي يأمره بالاجتماع مع سليمان بن جامع على حرب أبي العباس، فخاف وهناً يتطرق إلى ابنه أبي العباس، فسار عن بغداد في صفر، فوصل إلى واسط في ربيع الأول، فلقيه ابنه، واخبره بحال جنده وقواده، فخلع عليه وعليهم، ورجع أبوالعباس إلى معسكره بالعمر، ثم نزل الموفق على نهر شداد بإزاء قرية عبد الله، وأمر ابنه أن يسير لما معه من آلات الحرب إلى فوهة نهر مساور، فرحل في نخبة أصحابه، ورحل الموفق بعده، فنزل فوهة نهر مساور فأقام يومين.
ثم رحل إلى المدينة التي سماها صاحب الزنج المنيعة من سوق الخميس يوم الثلاثاء لثمان خلون من ربيع الآخر من هذه السنة، وسلك بالسفن في نهر مساور، وسارت الخيل بإزائه شرقي نهر مساور، حتى جاوزوا براطق الذي يوصل إلى المنيعة، وأمر بتعبير الخيل، وتصييرها من الجانبين، وأمر ابنه العباس بالتقدم بالشذا بعامة الجيش، ففعل، فلقيه الزنج، فحاربوه حرباً شديدة، ووافاهم أبوأحمد الموفق والخيل من جانبي النهر، فلما رأوا ذلك انهزموا وتفرقوأن وعلا أصحاب أبي العباس السور، ووضعوا السيوف فيمن لقيهم، ودخلوا المدينة فقتلوا فيها خلقاً كثيرأن وأسروا عالماً عظيمأن وغمنوا ما كان فيهأن وهرب الشعراني ومن معه، وتبعه أصحاب الموفق إلى البطائح، فغرق منهم خلق كثير، ولجأ الباقون إلى الآجام.
ورجع أبوأحمد إلى معسكره من يومه، وقد استنقذ من المسلمات زهاء خمسة آلاف امرأة سوى من ظفر به من الزنجيات، وأمر أبوأحمد بحفظ النساء وحملهم إلى واسط ليدفعن إلى أهلهن، ثم بكر إلى المدينة، فأمر الناس بأخذ ما فيهأن فأخذ جميعه، وأمر بهدم سورهأن وطم خندقهأن وإحراق ما بقي بها من السفن، وأخذوا من الطعام، والشعير، والأرز، وغير ذلك، ما لأحد عليه، فأمر ببيع ذلك وصرفه إلى الجند.
ولما انهزم سليمان ولحق بالمزار، وكتب إلى الخائن، صاحب الزنج، بذلك، فورد الكتاب عليه وهويتحدث، فانحل بطنه، فقام إلى الخلاء دفعات، وكتب إلى سليمان بن جامع يحذره مثل الذي نزل بالشعراني، ويأمره بالتيقظ.
وأقام الموفق بنهر مساور يومين يتعرف أخبار الشعراني وسليمان ابن جامع، فأتاه من أخبره أن سليمان بن جامع بالحوانيت فسار حتى وافى الصينينة، وأمر ابنه العباس بالتقدم بالشذا والسميريات إلى الجوانيت مختفيأن فسار أبوالعباس إليهأن فلم ير سليمان بهأن ورأى هناك جميعاً من الزنج مع قائدين لهم خلفهم سليمان بن جامع هناك لحفظ غلات كثيرة لهم فيهأن فحاربهم أبوالعباس، ودامت الحرب إلى أن حجز بينهم الليل، واستأمن إلى أبي العباس رجل، فسأله عن سليمان بن جامع، وأخبره أنه مقيم بطهثأن بمدينته التي سماها المنصورة، فعاد أبوالعباس إلى أبيه بالخبر، فأمره بالمسير إليه، فسار حتى نزل بردودأن فأقام بها لإصلاح ما يحتاج إليه، واستكثر من الآلات اليت يسد بها الأنهار، ويصلح بها الطرق لخيل، وخلف ببردودا بفراج التركي.
ذكر استيلاء الموفق على طهثالما فرغ الموفق من الذي يحتاج إليه سار عن بردودا إلى كهثا لعشر بقين من ربيع الآخر سنة سبع وستين ومائتين، وكان مسيره على الظهر في خيله، وانحدرت السفن والآلات، فنزل بقرية الجوزية، وعقد جسرأن ثم غدا فعبر خيله عليه، ثم عبر بعد ذلك، فسار حتى نزل معسكراً على ميلين من طهثأن فأقام هنالك يومين.
ومطرت السماء مطراً شديدأن فشغل عن القتال، ثم ركب لينظر موضعاً للحرب، فانتهى إلى قريب من سور مدينة سليمان بطهثأن وهي التي سماها المنصورة، فتلقاه خلق كثير، وخرج عليهم كمناء من مواضع شتى، واشتدت الحرب، وترجل جماعة من الفرسان، وقاتلوا حتى خرجوا عن المضيق الذي كانوا فيه، واسروا من غلمان الموفق جماعة.
ورمي أبوالعباس بن الموفق أحمد بن هندي الحيامي بسهم خالط دماغه، فسقط وحمل إلى العلوي، صاحب الزنج، فلم يلبث أن مات، فحضره الخبيث، وصلى عليه، وعظمت لديه المصيبة بموته، إذ كان أعظم أصحابه غناء عنه.
وانصر ف الموفق إلى عسكره وقت المغرب وأمر أصحابه بالتحاس ليلتهم والتأهب للحرب، فلما أصبحوا وذلك يوم السبت لثلاث بقين من ربيع الآخر، عبأ الموفق أصحابه، وجعلهم كتائب يتلوبعضهم بعضأن فرساناً ورجالة، وأمر بالشذا والسميريات أن يسار بها إلى النهر الذي يشق مدينة سليمان، وهوالنهر المعروف بنهر المنذر، ورتب أصحابه في المواضع التي يخاف منهأن ثم نزل فصلى أربع ركعات، وابتهل إلى الله تعالى في النصر، ثم لبس سلاحه، وأمر ابنه أب العباس أن يتقدم إلى السور، فتقدم إليه، فرأى خندقأن فأحجم الناس عنه، فحرضهم قوادهم وترجلوا معهم، فاقتحموه وعبروه، وانتهوا إلى الزنج وهم على سورهم.
فلما رأى الزنج تسرعهم إليه ولوا منهزمين، واتبعهم أصحاب أبي العباس، فدخلوا المدينة، وكان الزنج قد حصنوها بخمسة خنادق، وجعلوا أمام كل خندق سورأن فجعلوا يقفون عند كل سور وخندق، فكشفهم أصحاب أبي العباس، ودخلت الشذا والسميريات المدينة من النهر، فجعلت تغرق كل ما مرت له به من سميرية وشذاة، وقتلوا من بجانبي النهر وأسروا حتى أجلوهم عن المدينة وعما اتصل بهأن وكان مقدار العمارة فيها فرسخاً.
وحوى الموفق ذلك كله، وأفلت سليمان بن جامع ونفر من أصحابه، وكثر القتل فيهم والأسر، واستنقذ أبوأحمد من نساء أهل واسط، والكوفة، والقرى، وغيرهأن وصبيانهم أكثر من عشرين ألفاً، فأمر أبوأحمد بحملهم إلى واسط، ودفعهم إلى أهليهم، وأخذ ما كان فيها من الذخائر والأموال، وأمر بصرفه إلى الأجناد، وأسر من نساء سليمان وأولاده عدة، وتخلص من كان أخذ من أصحاب الموفق، ونجا جمع كثير إلى الآجام فأمر أصحابه برجل منهم جعلأن فكان إذا أتي بالواحد منهم عفا عنه وضمه إلى قواده وغلمانه، لما كان دبره من استمالتهم.
وأرسل في طلب سليمان بن جامع، حتى بلغوا دجلة العوراء، فلم يظفروا به، وأمر زيرك بالمقام بطهثا ليتراجع إلى تلك الناحية أهلها ويأمنوا.
ذكر مسير الموفق إلى الأهواز وإجلاء الزنج عنهافلما فرغ أبوأحمد الموفق من المنصورة رحل نحوالأهواز لإصلاحها وإجلاء الزنج عنهأن فأمر ابنه العباس أن يتقدمه، فأمر بإصلاح الطريق للجيوش، واستخلف على من ترك من عسكره بواسطة ابنه هارون، ولحقه زيرك فأخبره بعود أهل طهثا إليهأن وأمن الناس، فأمره الموفق بالانحدار في الشذا والسميريات مع نصير، وتتبع المنهزمين، والإيقاع بهم وبمن ظفروا به من الزنج، حتى ينتهي إلى مدينة الخبيث بنهر أبي الخصيب، وسار.
وارتحل الموفق مستهل جمادى الآخرة من واسط حتى أتى السوس، وأمر مسروراً بالقدوم عليه، وهوعامله هناك، فأتاه.
وكان الخبيث لما بلغه ما عمل الموفق بسليمان بن جامع والزنج خاف أن يأتيه وهوعلى حال تفرق أصحابه عنه، وكتب إلى علي بن أبان بالقدوم إليه، وكان بالأهواز في ثلاثين ألفأن فترك جميع ما كان عنده من طعام ودواب وأغنام وغير ذلك، واستخلف عليه محمد بن يحيى الكرنبائي، فلم يقم، وابتع علياً.
وكتب صابح الزنج أيضاً إلى بهبود بن عبد الوهاب، وهوبالفيدم والباسيان، وما اتصل بهمأن يأمره بالقدوم عليه، فترك ما كان عنده من الذخائر وسار نحوه، فحوى ذلك جميعه الموفق، وقوي به على حرب الخبيث.
ولما سار علي بن أبان عن الأهواز تخلف بها جمع من أصحابه، زهاء ألف رجل، فأرسلوا إلى الموفق يطلبون الأمان فأمنهم، فقدموا عليه، فأجرى عليهم الأرزاق، ثم رحل عن السوس إلى جند يسابور، وتستر ، وجبى الأموال، ووجه إلى محمد بن عبيد الله الكردي، وكان خائفاً منه، فأمنه وعفا عنه، فطلب منه الأموال والعساكر، فحضر عنده فأحسن إليه.
ثم رحل إلى عسكر مكرم ووافى الأهواز، ثم رحل عنها إلى نهر المبارك من فرات البصرة، وكتب إلى ابنه هارون ليوافيه بجميع الجيش إلى نهر المبارك، فلقيه الجيش بالمبارك منتصف رجب.
وكان زيرك ونصيراً لما خلفهما الموفق ليتتبعا الزنج انحدرا حتى وافيا الأبلة، فاستأمن إليهما رجل أخبرهما أن الخبيث قد أنفذ إليهما عدداً كثيراً في الشذا والسميريات إلى دجلة ليمنع عنها من يريدهأن فإنهم يريدون عسكر نصير، وكان عسكره بنهر المرأة، فرجع نصير إلى عسكره من الأبلة لما بلغه ذك، وسار زيرك من طريق آخر، لأنه قدر أن الزنج يأتون عسكر نصير من ذلك الوجه، فكان ذلك، فلقيهم في طريقهم، فظفر بهم، وانهزموا منه، وكانوا قد جعلوا كمينأن فدل زيرك عليه، فتوغل حتى أتاه، فقتل من الكمناء جماعة واسر جماعة.
وكان ممن ظفر به مقدم الزنج، وهوأبوعيسى محمد بن إبراهيم البصري، وهومن أكابر قوادهم، وأخذ منهم ما يزيد على ثلاثين سميرية، فجزع لذلك جميع الزنج، فاستأمن إلى نصير منهم زهاء ألفي رجل، فكتب بذلك إلى الموفق، فأمره بقبولهم والإقبال إليه بالنهر المبارك، فوافاه هناك.
وأمر الموفق ابنه أبا العباس بالمسير إلى محاربة العلوي بنهر أبي الخصيب، فسار إليه، فحاربه من بكرة إلى الظهر فاستأمن إليه قائد من قواد العلوي ومعه جماعة، فكسر ذلك الخبيث، وعاد أبوالعباس بالظفر، وكتب الموفق إلى العلوي كتاباً يدعوه إلى التوبة والإنابة إلى الله تعالى مما ركب من سفك الدماء، وانتهاك المحارم، وإخراب البلدان، واستحلال الفروج والأموال، وادعاء النبوة والرسالة، ويبذل له الأمان، فوصل الكتاب إليه، فقرأه، ولم يكتب جوابه.
ذكر محاصرة مدينة صاحب الزنجلما أنفذ الموفق الكتاب إلى العلوي، ولم يرد جوابه، عرض عسكره، وأصلح آلاته، ورتب قواده، ثم سار هووابنه العباس في العشرين من رجب إلى مدينة الخبيث التي سماها المختارة، وأشرف عليهأن وتأملها ورأى حصانتها بالأسوار والخنادق، وغور الطريق إليهأن وما أعد من المجانيق والعرادات والقسي وسائر الآلات على سورهأن مما لم ير مثله لمن تقدم من منازعي السلطان، ورأى من كثرة عدد المقاتلة ما استعظمه.
فلما عاين الزنج أصحاب الموفق ارتفعت أصواتهم حتى ارتجت الأرض، فأمر الموفق ابنه بالتقدم إلى سور المدينة والرمي لمن عليه بالسهام، فتقدم حتى ألصق شذواته بمسناة قصر الخبيث، فكثر الزنج وأصحابهم على أبي العباس ومن معه، وتتابعت سهامهم وحجارة مجانيقهم ومقاليعهم، ورمى عوامهم بالحجارة عن أيديهم، حتى ما يقع الطرف إلا على سهم أوحجر.
وثبت أبوالعباس، فرأى العلوي من صبره وثبات أصحابه ما لم ير مثله من أحد حاربهم، ثم أمرهم الموفق بالرجوع ففعلوأن واستأمن إلى الموفق مقاتلة في سميريتين، فأمنهم، فخلع على من فيهما من المقاتلة والملاحين على أقدارهم ووصلهم وأمر بإدنائهم إلى موضع يراهم فيه نظراؤهم، وكان ذلك من أنجع المكايد، فلما رآهم الباقون رغبوا في الأمان، وتنافسوا فيه، وابتدروا إليه، فصار إلى الموفق عدد كثير ذلك اليوم من أصحاب السميريات، فعمهم بالخلع والصلات.
فلما رأى صاحب الزنج ذلك أمر برد أصحاب السميريات إلى نهر أبي الخصيب، ووكل بفوهة النهر من يمنعهم من الخروج، وأمر بهبود وهومن أشرس قواده، أن يخرج في الشذوات، فخرج وبرز إليه أبوالعباس في شذواته، وقاتله، واشتدت الحرب، فانهزم بهبود إلى فناء قصر الخبيث، وأصابته طعنتان، وجرح بالسهام، وأوهنت أعضاؤه بالحجارة، فأولجوه نهر أبي الخصيب وقد أشفى على الموت، فقتل ممن كان معه قائد ذوبأس يقال له عميرة، وظفر أبوالعباس بشذاة فقتل أهلهأن وهوومن معه سالمين، فاستأمن إلى أبي العباس أهل شذاة منهم، فأمنهم، وأحسن إليهم، وخلع عليهم.
ورجع الموفق ومن معه إلى عسكره بالنهر المبارك، واستأمن إليه عند منصرفه خلق كثير، فأمنهم، وخلع عليهم، ووصلهم، وأثبت أسماءهم مع أبي العباس، وأقام في عسكره يومين، ثم نقل عسكره لست بقين من رجب إلى نهر جطى فنزله، وأقام به إلى منتصف شعبان لم يقاتل.
ثم ركب منتصف شعبان ف يالخيل والرجال وأعد الشذا والسميريات، وكان من معه من الجند والمتطوعة زهاء خمسين ألفأن وكان من مع الخبيث أكثر من ثلاثمائة ألف إنسان، كلهم ممن يقاتل بسيف، أورمح، أوقوس، أومقلاع، أومنجنيق، وأضعفهم رماة الحجارة من أيديهم، وهم النظارة، والنساء تشركهم في ذلك، فأقام أبوأحمد ذلك اليوم، ونودي بالأمان للناس كافة إلا الخبيث، وكتب الأمان في رقاع، ورماها في السهام، ووعد فيها الإحسان، فمالت قلوب أصحاب الخبيث، واستأمن ذلك اليوم خلق كثير، فخلع عليهم ووصلهم، ولم يكن ذلك اليوم حرب.
ثم رحل من نهر جطى من الغد، فعسكر قرب مدينة الخبيث، ورتب قواده وأجناده، وعين لكل طائفة موضعاً يحافظون عليه ويضبطونه، وكتب الموفق إلى البلاد في عمل السميريات، والشذوات، والزواريق، والإكثار منها ليضبط بها الأنهار، ليقطع الميرة عن الخبيث، وأسس في منزلته مدينة سماها الموفقية، وكتب إلى عماله في النواحي بحمل الأموال والميرة في البر والبحر إلى مدينته، وأمرهم بإنفاذ من يصلح للإثبات في الديوان، وأقام ينتظر ذلك شهرأن فوردت عليه الميرة متتابعة، وجهز التجار صنوف التجارات إلى الموفقية، واتخذت فيها الأسواق، ووردتها مراكب البحر، وبنى الموفق بها المسجد الجامع، وأمر الناس بالصلاة فيه، فجمعت هذه المدينة من المرافق، وسيق إليها من صنوف الأشياء ما لم يكن في مصر من الأمصار القديمة، وحملت الأموال، وأدرت الأرزاق.
وعبرت طائفة من الزنج، فنهبوا أطراف عسكر نصير، وأوقعوا به، فأمر الموفق نصيراً بجمع عسكره وضبطهم، وأمر الموفق ابنه أبا العباس بالمسر إلى طائفة من الزنج كانوا خارج المدينة، فقاتلهم، فقتل منهم خلقاً كثيرأن وغمن ما كان معهم، فصار إليه طائفة منهم في الأمان، فأمنهم، وخلع عليهم ووصلهم، وأقام أبوأحمد يكايد الخبيث ببذل الأموال لمن صار إليه، ومحاصرة الباقين، والتضييق عليهم.
وكانت قافلة قد أتت من الأهواز، وأسرى إليها بهبود في سميريات فأخذهأن وعظم ذلك على الموفق، وغرم لأهلها ما أخذ منهم، وأمر بترتيب الشذوات على مخارج الأنهار، وقلد ابنه أبا العباس الشذأن وحفظ الأنهار بها من البحر إلى المكان الذي هم به.
وفي رمضان عبر طائفة من أصحاب الخبيث يريدون الإيقاع بنصير، فنذر بهم الناس، فخرجوا إليهم فردوهم خائبين، وظفروا بصندل الزنجي، وكان يكشف رؤوس المسلمات، ويقلبهن تقليب الإماء، فلما أتي به أمر الموفق أن يرمي بالسهام ثم قتله.
واستأمن إلى الموفق من الزنج خلق كثير، فبلغت عدة من استأمن إليه في آخر رمضان خمسين ألفاً.
وفي شوال انتخب صاحب الزنج من عسكر ه خمسة آلاف من شجعانهم وقوادهم، وأمر علي بن أبان المهلبي بالعبور لكبس عسكر الموفق، فكان فيهم أكثر من مائتي قائد، فعبروا ليلأن واختفوا في آخر النخل، وأمرهم، إذا ظهر أصحابهم، وقاتلوا الموفق من بين يديه، ظهروأن وحملوا على عسكره وهم غارون، مشاغيل بحرب من أمامهم، فاستأمن منهم إنسان من الملاحين، فاخبر الموفق، فسير ابنه أبا العباس لقتالهم وضبط الطرق التي يسلكونهأن فقاتلوا قتالاً شديدأن وأسر أكثرهم، وغرق منهم خلق كثير، وقتل بعضهم، ونجا بعضهم، فأمر أبوالعباس أن يحمل الأسرى والرؤوس والسميريات ويعبر بهم على مدينة الخبيث، ففعلوا ذلك.
وبلغ الموفق أن الخبيث قال لأصحابه: إن الأسرى من المستأمنة، وإن الرؤوس تمويه عليهم، فأمر بإلقاء الرؤوس في منجنيق إليهم، فلما رأوها عرفوهأن فأظهروا الجزع والبكاء، وظهر لهم كذب الخبيث.
وفيها أمر الخبيث باتخاذ شذوات، فعملت له، فكانت له خمسون شذاة، فقسمها بين ثلاثة من قواده وأمرهم بالتعرض لعسكر الموفق؛ وكان شذوات الموفق يومئذ قليلة لأنه لم يصل إليه ما أمر بعمله، والتي كانت عنده منها فرقها على أفواه الأنهار لقطع الميرة عن الخبيث، فخافهم أصحاب الموفق، فورد عليهم شذوات كان الموفق أمر بعملهأن فسير ابنه أبا العباس ليوردها خوفاً عليهم من الزنج، فلما أقبل بها رآها الزنج فعارضوها بشذواتهم، فقصدهم غلام لأبي العباس ليمنعهم، وقاتلهم، فانكشفوا بين يديه، وتبعهم حتى أدخلهم نهر أبي الخصيب، وانقطع عن أصحابه، فعطفوا عليه، فأخذوه ومن معه بعد حرب شديدة، فقتلوأن وسلمت الشذوات مع أبي العباس، وأصلحهأن ورتب فيها من يقاتل.
ثم أقبلت شذوات العلوي على عاداتهأن فخرج إليهم أبوالعباس في أصحابه، فقاتلهم فهزمهم، وظفر منهم بعدة شذوات، فقتل منهم من ظفر به فيهأن فمنع الخبيث أصحابه من الخروج عن فناء قصره، وقطع أبوالعباس الميرة عنهم، فاشتد جزع الزنج، وطلب جماعة من وجوه أصحابه الأمان، فأمنوأن وكان منهم محمد بن الحرث القمي، وكان إليه ضبط السور مما يلي عسكر الموفق، فخرج ليلأن فأمنه الموفق، ووصله بصلات كثيرة له ولمن خرج معه، وحمله على عدة دواب بآلاتها وحليتهأن وأراد إخراج زوجته فلم يقدر، فأخذها الخبيث فباعها؛ ومنهم أحمد اليربوعي، وكان من أشجع رجال العلوي، وغيرهمأن فخلع عليهم، ووصلهم بصلات كثيرة.
ولما انقطعت الميرة والمواد عن العلوي أمر شبلاً وأبوالبذي، وهما من رؤساء قواده يثق بهم، بالخروج إلى البطيحة في عشرة آلاف من ثلاثة وجوه للغارة على المسلمين، وقطع الميرة عن الموفق، فسر الموفق إليهم زيرك في جمع من أصحابه، فلقيهم بنهر ابن عمر، فرأى كثرتهم، فراعه ذلك، ثم استخار الله تعالى في قتالهم، فحمل عليهم وقاتلهم، فقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم فانهزموأن ووضع فيهم السيف، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم مثل ذلك، وأسر خلقاً كثيرأن وأخذ من سفنهم ما أمكنه أخذه، وغرق ما أمكنه تغريقه، وكان ما أخذه من سفنهم نحوأربع مائة سفينة، وأقبل بالأسارى والرؤوس إلى مدينة الموفق.
ذكر عبور الموفق مدينة صاحب الزنجوفيها عبر الموفق إلى مدينة الخبيث لست بقين من ذي الحجة، وكان سبب ذلك أن جماعة من قواد الخبيث لما رأوا ما حل بهم من البلاء من قبل من يظهر منهم، وشدة الحصار على من لزم المدينة، وحال من خرج بالأمان، جعلوا يهربون من كل وجه، ويخرجون إلى الموفق بالأمان.
فلما رأى الخبيث ذلك جعل على الطرق التي يمكنهم الهرب منها من يحفظها؛ فأرسل جماعة من القواد إلى الموفق يطلبون الأمان، وأن يوجه لمحاربة الخبيث جيشاً ليجدوا طريقاً إلى المصير إليه، فأمر ابنه أبا العباس بالمسير إلى النهر الغربي، وبه علي بن أبان يحميه، فنهض أبوالعباس ومعه الشذوات، والسميريات، والمعابر، فقصده، وتحارب هووعلي بن أبان واشتدت الحرب، واستظهر أبوالعباس على الزنج، وأمد الخبيث أصحابه بسليمان بن جامع في جمع كثير، فاتصلت الحرب من بكرة إلى العصر، وكان الظفر لأبي العباس، وصار إليه القوم الذين كانوا طلبوا الأمان.
واجتاز أبوالعباس بمدينة الخبيث عند نهر الأتراك، فرأى قلة الزنج هناك، فطمع فيهم، فقصدهم أصحابه وقد انصرف أكثرهم إلى الموفقية، فدخلوا ذلك المسلك، وصعد جماعة منهم السور وعليه فريق من الزنج، فقتلوهم، وسمع العلوي فجهز أصحابه لحربهم، فلما رأى أبوالعباس اجتماعهم وحشدهم لحربه مع قلة أصحابه، رحل فأرسل إلى الموفق يستمده، فأتاه من خف من الغلمان، فظهروا على الزنج فهزموهم.
وكان سليمان بن جامع لما رأى ظهور أبي العباس سار في النهر مصعداً في جمع كبير، ثم أتى أصحاب أبي العباس من خلفهم، وهم يحاربون من بإزائهم، وخففت طبوله، فانكشف أصحاب أبي العباس، ورجع عليهم من كان انهزم عنهم من الزنج، فأصيب جماعة من غلمان الموفق وغيرهم، فأخذ الزنج عدة أعلام، وحامى أبوالعباس عن أصحابه، فسلم أكثرها ثم انصرف.
وطمع الزنج بهذه الوقعة، وشدت قلوبهم، فأجمع الموفق على العبور إلى مدينتهم بجيوشه أجمع، وأمر الناس بالتأهب، وجمع المعابر والسفن وفرقها عليهم، وعبر يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة، وفرق أصحابه على المدينة ليضطر الخبيث إلى تفرقة أصحابه، وقصد الموفق إلى ركن من أركان المدينة، وهوأحصن ما فيهأن وقد أنزله الخبيث ابنه، وهوانكلاي، وسليمان ابن جامع، وعلي بن أبان وغيرهم، وعليه من المجانيق والآلات للقتال ما لا حد له.
فلما التقى الجمعان أمر الموفق غلمانه بالدنومن ذلك الركن، وبينهم وبين ذلك السور نهر الأتراك، وهونهر عريض كثير الماء، فأحجموا عنه، فصاح بهم الموفق، وحرضهم على العبور، فعبروا سباحة، والزنج ترميهم بالمجانيق، والمقاليع، والحجارة، والسهام، فصبروا حتى جاوزوا النهر وانتهوا إلى السور ولم يكن عبر معهم من الفعلة من كان أعد لهدم السور، فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح، وسهل اله تعالى ذلك، وكان معهم بعض السلاليم، فصعدوا على ذلك الركن، ونصبوا علماً من أعلام الموفق، فانهزم الزنج عنه، وأسلموه بعد قتال شديد، وقتل من الفريقين خلق كثير؛ ولما علا أصحاب الموفق السور أحرقوا ما عليه من منجنيق وقوس وغير ذلك.
وكان أبوالعباس قصد ناحية أخرى، فمضى علي بن أبان إلى مقاتلته، فهزمه أبوالعباس، وقتل جمعاً كثيراً من أصحابه ونجا علي، ووصل أصحاب أبي العباس إلى السور، فثلموا فيه ثلمة ودخلوه، فلقيهم سليمان ابن جامع، فقاتلهم حتى درهم إلى مواضعهم؛ ثم أن الفعلة وافوا السور فهدموه في عدة مواضع، فعملوا على الخندق جسرأن فعبر عليه الناس من ناحية الموفق، فانهزم الزنج عن سور باب كانوا قد اعتصموا به، وانهزم الناس معهم، وأصحاب الموفق يقتلونهم، حتى انتهوا إلى نهر ابن سمعان، وقد صارت دار ابن سمعان في أيدي أصحاب الموفق، فأحرقوهأن وقاتلهم الزنج هناك، ثم انهزموا حتى بلغوا ميدان الخبيث، فركب في جمع من أصحابه، فانهزم أصحابه عنه، وقرب منه بعض رجالة الموفق، فضرب وجه فقرسه بترسه، وكان ذلك مع مغيب الشمس، فأمر الموفق الناس بالجوع، فرجعوا ومعهم من رؤوس أصحاب الخبيث شيء كثير.
وكان قد استأمن إلى أبي العباس أول النهار نفر من قواد الخبيث، فتوقف عليهم حتى حملهم في السفن، وأظلم الليل، وهبت ريح عاصف، وقوي الجزر، فلصق أكثر السفن بالطين، فخرج جماعة من الزنج فنالوا منهأن وقتلوا فيها نفرأن وكان بهبود بإزاء مسرور البلخي، فأوقع بأصحاب مسرور، وقتل منهم جماعة، وأسر جماعة، فكسر ذلك من نشاط أصحاب الموفق.
وكان بعض أصحاب الخبيث قد انهزم على وجهه نحونهر الأمير، والقندل، وعبادان، وهرب جماعة من الأعراب إلى البصرة، وأرسلوا يطلبون الأمان فأمنهم الموفق، وخلع عليهم وأجرى الأرزاق عليهم، وكان ممن رغب في الأمان من قواد الفاجر ريحان بن صالح المغربي، وكان من رؤساء أصحابه، أرسل يطلب الأمان، وأن يرسل جماعة إلى مكان ذكره ليخرج إليهم، ففعل الموفق، فصار إليه فخلع عليه، واحسن إليه ووصله، وضمه إلى أبى العباس، واستأمن من بعده جماعة من أصحابه؛ وكان خروج ريحان لليلة بقيت من ذي الحجة من السنة.
ذكر الحرب بين الخوارج ببلد الموصلفي هذه السنة كان بين هارون الخارجي وين محمد بن خرزاد، وهومن الخوارج أيضاً وقعة ببعدرى من أعمال الموصل.
وسبب ذلك أنا قد ذكرنأن سنة ثلاث وستين ومائتين، الحرب الحادثة بين هارون ومحمد بعد موت مساور، فلما كان إلى جمع محمد بن خرزاد أصحابه وسار إلى هارون محارباً له، فنزل واسط، وهي محلة بالقرب من الموصل، وكان يركب البقر لئلا يفر من القتال، ويلبس الصوف الغليظ، ويرفع ثيابه، وكان كثير العبادة والنسك، ويجلس على الأرض ليس بينها وبينه حائل.
فلما نزل واسط خرج إليه وجوه أهل الموصل وكان هارون بمعلثايا يجمع لحرب محمد، فلما سمع بنزول محمد عند الموصل سار إليه ورحل ابن خرزاد نحوه، فالتقوا بالقرب من قرية شمرخ، واقتتلوا قتالاً شديداً كان فيه مبارزة وحملات كثيرة، فانهزم هارون، وقتل من أصحابه نحومائتي رجل، منهم جماعة من الفرسان المشهورين، ومضى هارون منهزمأن فعبر دجلة إلى العرب قاصداً بني تغلب، فنصروه واجتمعوا إليه، ورجع ابن خرزاد من حيث أقبل، وعاد هارون إلى الحديثة، فاجتمع عليه خلق كثير، وكاتب أصحاب ابن خرزاد، واستمالهم، فأتاه منهم الكثير، ولم يبق مع ابن خرزاد إلا عشيرته من الشمردلية، وهم من أهل شهرزور، وإمنا فارقه أصحابه لأنه كان خشن العيش، وهوببلد شهرزور، وهوبلد كثير الأعداء، من الأكراد وغيرهم.
وكان هارون ببلد الموصل قد صلح حاله وحال أصحابه، فلما رأى أصحاب ابن خرزاد ذلك مالوا إليه وقصدوه، وواقع ابن خرزاد بنواحي شهرزور الأكراد الجلالية وغيرهم، فقتل، وتفرد هارون بالرئاسة على الخوارج، وقوي وكثر أتباعه، وغلبوا على القرى والرساتيق، وجعلوا على دجلة من يأخذ الزكاة من الأموال المنحدرة والمصعدة، وبثوا نوابهم في الرساتيق يأخذون الأعشار من الغلات.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ابتدر ابن حفصون بالأندلس بالخلاف على محمد بن عبد الرحمن، صاحب الأندلس، بناحية رية، فخرج إليه جيش من تلك الناحية مع عاملهأن فقاتله، فانهزم صاحب الأندلس، وقوي أمر عمر بن حفصون، وشاع ذكره، وأتاه من يريد الشر والفساد، فسير محمد، صاحب الأندلس، عاملاً آخر في جيش، فصالحه عمر، فطلب الهامل كل من كان له أثر في مساعدة عمر، فأهلكه، وفيهم من أبعده، فاستقامت تلك الناحية.
وفيها كانت زلزلة عظيمة بالشام، ومصر، وبلاد الجزيرة، وإفريقية، والأندلس، وكان قبلها هدة عظيمة قوية.
وفيها ولي جزيرة صقلية الحسن بن العباس، فبث السرايا إلى كل ناحية، وخرج إلى قطانية فأفسد زرعها وزرع طبرمين، وقطع أشجارهأن وسار إلى بقارة فأفسد زرعهأن وانصرف إلى بلرم، وأخرجت الروم سرايا فأصابوا من المسلمين كثيرأن وذلك أيام الحسن بن العباس.
وفيها حبس السلطان محمد بن عبد الله بن طاهر وعدة من أهل بيته، بعد ظفر الخجستاني بعمر بن الليث، وكان عمرواتهمه بمكاتبة الخجستاني والحسين بن طاهر، حيث كان يذكر أنه على منابر خراسان.
وفيها كانت بين كيغلغ التركي وبين أصحاب أحمد بن عبد العزيز ابن أبي دلف حرب انهزم فيها أصحاب أحمد، وسار كيغلغ إلى همذان، فوافاه أحمد بن عبد العزيز فيمن اجتمع إليه من أصحابه، فانهزم كيغلغ وانحاز إلى الصيمرة.
وفيها في ربيع الآخر أم حبيب بنت الرشيد.
وفيها كانت وقعة بين إسحاق بن كنداجيق، وإسحاق بن أيوب، وعيسى ابن الشيخ، وأبي المغر، وحمدان بن حمدون، ومن اجتمع إليهم من ربيعة، وتغلب، وبكر، واليمن، فهزمهم ابن كنداجيق إلى نصيبين، وتبعهم إلى آمد، وخلف على آمد من حصر عيسى، فكانت بينهم وقعات عند آمد.
وفيها دخل الخجستاني نيسابور، وانهزم عمروبن الليث وأصحابه، فأساء السيرة في أهلهأن وهدم دور معاذ بن مسلم، وضرب من قدر عليه منهم وترك ذكر محمد بن طاهر، ودعا للمعتمد ولنفسه.
وفيها في شوال كانت لأصحاب أبي الساج وقعة بالهيصم العجلي قتلوا فيها مقدمته، وغمنوا عسكره.
وفيها أقبل بن عبد اله الخجستاني يريد العراق، فبلغ سمنان، وتحصن منه أهل الري، فرجع إلى خراسان.
وفيها رجع حلق ثير من الحجاج من طريق مكة لشدة الحر، ومضى خلق كثير، فمات منهم عالم عظيم من الحر والعطش، وذاك كله في البيداء، وأوقعت فزارة فيها بالتجار، فأخذ فيما قيل سبع مائة حمل بز.
وفيها نفي الطباع من سامرأن وفيها ضرب الخجستاني لنفسه دنانير ودراهم. وحج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي.
وفيها توفي محمد بن حماد بن بكر بن حماد أبوبكر المقرئ، صاحب خلف بن هشام، في ربيع الآخر، ببغداد.
حوادث سنة ثمان وستين ومائتين
ذكر أخبار الزنجفي هذه السنة في المحرم خرج إلى الموفق من قواد الخبيث جعفر بن إبراهيم المعروف بالسحان، وكان من ثقات الخبيث، فاتاع لذلك، وخلع عليه الموفق، وأحسن إليه، وحمله في سميرية إلى إزاء قصر الخبيث، فكلم الناس من أصحابه، وأخبرهم أنهم في غرور، وأعلمهم بما وقف عليه من كذب الخبيث وفجوره، فاستأمن في ذلك اليوم خلق كثير من قواد الزنج وغيرهم، فاحسن إليهم الموفق، وتتابع الناس في طلب الأمان.
ثم أقام الموفق لا يحارب ليريح أصحابه إلى شهر ربيع الآخر، فلما انتصف ربيع الآخر قصد الموفق إلى مدينة الخبيث، وفرق قواده على جهاتهأن وجعل مع كل طائفة منهم من النقابين جماعة لهدم السور، وتدم إلى جميعهم أن لا يزيدوا على هدم السور، ولا يدخلوا المدينة، وتقدم إلى الرماة أن يحموا بالسهام من يهدم السور وينقبه، فتقدموا إلى المدينة من جهاتها وقابلوهأن فوصلوا إلى السور، وثلموه في مواضع كثيرة.
ودخل أصحاب الموفق من جميع تلك الثلم، وجاء أصحاب الخبيث يحاربونهم، فهزمهم أصحاب الموفق وتبعوهم حتى أوغلوا في طلبهم، فاختلفت بهم طرق المدينة، فبلغوا أبعد من الموضع الذي وصلوا إليه في المرة الأولى، وأحرقوأن وأسروأن وتراجع الزنج عليهم، وخرج الكمناء من مواضع يعرفونها ويجهلها الآخرون، فتحيروأن ودافعوا عن أنفسهم، وتراجعوا نحودجلة بعد أن قتل منهم جماعة، وأخذ الزنج أسلابهم.
ورجع الموفق إلى مدينته، وأمر بجمعهم، فلامهم على مخالفة أمره، والإفساد عليه من رأيه وتدبيره، وأمر بإحصاء من فقد، وأقر ما كان لهم من رزق على أولادهم وأهليهم، فحسن ذلك عندهم وزاد في صحة نياتهم.
ذكر الوقعة بين المعتضد والأعرابوفي هذه السنة أوقع أبوالعباس أحمد بن الموفق، وهوالمعتضد بالله، بقوم من الأعراب كانوا يحملون الميرة إلى عسكر الخبيث، فقتل منهم جماعة، وأسر الباقين، وغمن ما كان معهم، وأرسل إلى البصرة من أقام بها لأجل قطع الميرة.
وسير الموفق رشيقأن مولى أبي العباس، فأوقع بقوم من بني تميم كانوا يجلبون الميرة إلى الخبيث، فقتل أكثرهم، وأسر جماعة منهم، فحمل الأسرى والرؤوس إلى الموفقية، فأمر بهم الموفق، فوقفوا بإزاء عسكر الزنج، وكان فيهم رجل يسفر بين صاحب الزنج والأعراب بجلب الميرة، فقطعت يده ورجله، وألقي في عسكر الخبيث، وأمر بضرب أعناق الأسارى، وانقطعت الميرة بذلك عن الخبيث بالكلية، فأضر بهم الحصار، وأضعف أبدانهم، فكان يسال الأسير والمستأمن عن عهده بالخبز فيقول: عهدي ه منذ زمان طويل.
فلما وصلوا إلى هذا الحال رأى الموفق أن يتابع عليهم الحرب ليزيدهم ضراً وجهدأن فكثر المستأمنون في هذا الوقت، وخرج كثير من أصحاب الخبيث، فتفرقوا في القرى والأنهار البعيدة في طلب القوت، فبلغ ذلك الموفق، فأمر جماعة من قواد غلمانه السودان بقصد تلك المواضع ودعوة من بها إليه، فمن أبى قتلوه، فقتلوا نهم خلقاً كثيراً وأتاه أكثر منهم.
فلما كثر المستأمنون عند الموفق عرضهم، فمن كان ذا قوة وجلد أحسن إليه وخلطهم بغلمانه، ومن كان منهم ضعيفأن أوشيخأن أوجريحاً قد أزمنته الجراحة كساه، وأعطاه دراهم، وأمر به أن يحمل إلى عسكر الخبيث فيلقى هناك، ويؤمر بذكر ما رأى من إحسان الموفق إلى من صار إليه، وأن ذلك رأيه فيهم، فتهيأ له بذلك ما أراد من استمالة أصحاب الخبيث.
وجعل الموفق وابنه أبوالعباس يلازمان قتال الخبيث تارة هذا وتارة هذأن وجرح أبوالعباس ثم برأ.
وكان من جملة من قتل من أعيان قواد الخبيث: بهبود بن عبد الوهاب، وكان كثير الخروج في السميريات، وكان ينصب عليها أعلاماً تشبه أعلام الموفق، فإذا رأى من يستضعفه أخذه وأخذ من ذلك مالاً جزيلأن فواقعه في بعض خرجاته أبوالعباس، فأفلت بعد أن أشفى على الهلاك، ثم إنه خرج مرة أخرى فرأى سميرية فيها بعض أصحاب أبي العباس، فقصدها طامعاً في أخذهأن فحاربه أهلهأن فطعنه غلام من غلمان أبي العباس في بطنه فسقط في الماء، فأخذه أصحابه، فحملوه إلى عسكر الخبيث، فمات قبل وصوله، فأراح الله المسلمين من شره.
وكان قتله من أعظم الفتوح، وعظمت الفجيعة على الخبيث وأصحابه، واشتد جزعهم عليه، وبلغ الخبر الموفق بقتله، فأحضر ذلك الغلام، فوصله، وكساه، وطوقه، وزاد في أرزاقه، وفعل بكل من كان معه في تلك السميرية نحوذلك؛ ثم ظفر الموفق بالدوابني وكان ممايلاً لصاحب الزنج.
ذكر أخبار رافع بن هرثمةلما قتل أحمد بن عبد الله الخجستاني، على ما ذكرناه، وكان قتله هذه السنة، اتفق أصحابه على رافع بن هرثمة فولوه أمرهم.
وكان رافع هذا من أصحاب محمد بن طاهر بن عبد اله بن طاهر، فلما استولى يعقوب بن الليث على نيسابور، وأزال الطاهرية، صار رافع في جملته، فلما عاد يعقوب إلى سجستان صحبه رافع؛ وكان طويل الحية، كريه الوجه، قليل الطلاقة، فدخل يوماً على يعقوب، فلما خرج من عنده قال: أنا لا أميل إلى هذا الرجل، فليلحق بما شاء من البلاد؛ فقيل له ذلك، ففارقه وعاد إلى منزله بتامين، وهي من باذغيس، وأقام به إلى أن استقدمه الخجستاني، على ما ذكرناه، وجعله صاحب جيشه.
فلما قتل الخجستاني اجتمع الجيش عليه، وهوبهراة، فأمروه كما ذكرناه، وسار رافع من هراة إلى نيسابور، وكان أبوطلحة بن شركب قد وردها من جرجان، فحصره فيها رافع وقطع الميرة عنه وعن نيسابور، فاشتد الغلاء بها ففارقها أبوطلحة، ودخلها رافع فأقام بها وذلك سنة تسع وستين ومائتين، فسار أبوطلحة إلى مرو، وولى محمد بن مهتدي هراة، وخطب لمحمد ابن طاهر بمرووهراة، فقصده عمروبن الليث، فحاربه، فهزمه، واستخلف عمروبمرومحمد بن سهل بن هاشم، وعاد عنهأن وخرج شركب إلى بيكند، واستعان بإسماعيل بن أحمد الساماني، فأمده بعسكره، فعاد إلى مرو، فأخرج عنها محمد بن سهل، وأغار على أهل البلد، وخطب لعمروبن الليث، وذلك في شعبان سنة إحدى وسبعين.
وقلد الموفق تلك السنة أعمال خراسان محمد بن طاهر، وكان ببغداد، فاستخلف محمد على أعماله رافع بن هرثمة، ما خلا ما وراء النهر فإنه أقر عليه نصر بن أحمد، ووردت كتب الموفق إلى خراسان بذلك، وبعزل عمروبن الليث ولعنه، فسار رافع إلى هراة وبها محمد بن مهتدي، خليفة أبي طلحة شركب، فقتله يوسف بن معبد وأقام بهراة، فلما وافاه رافع استأمن إله يوسف فأمنه، وعفا عنه، فاستعمل على هراة مهدي بن محسن، فاستمد رافع إسماعيل بن أحمد، فسار إليه بنفسه في أربعة آلاف فارس، واستقدم رافع أيضاً علي بن الحسين المروروذي، فقدم عليه، فساروا بأجمعهم إلى شركب، وهوبمرو، فحاربوه فهزموه، وعاد إسماعيل إلى محازل وذلك سنة اثنتين وسبعين ومائتين، فسار شركب إلى هراة، فطابقه مهدي وخالف رافعأن فقصدهما رافع فهزمهما.
وأما شركب فإنه لحق بعمروبن الليث؛ وأما مهدي فإنه اختفى في سرب، فدل عليه رافع، فأخذه وقال له: تباً لك يا قليل الوفاء! ثم عفا عنه وخلى سبيله، وسار رافع إلى خوارزم سنة اثنتين وسبعين فجبى أموالها ورجع إلى نيسابور.
ذكر الحوادث بالأندلس وبإفريقيةفي هذه السنة سير محمد بن عبد الرحمن، صاحب الأندلس، جيشاً مع ابنه المنذر إلى المخالفين عليه، فقصد مدينة سرقسطة، فأهلك زرعهأن وخرب بلدهأن وافتتح حصن روطة، فأخذ منه عبد الواحد الروطي، وهومن أشجع أهل زمانه، وتقدم إلى دير تروجة، وبلد محمد بن مركب بن موسى، فهتكا بالغارة، وقصد مدينة لاردة وقرطاجنة فكان فيها إسماعيل بن موسى، فحاربه، فأذعن إسماعيل بالطاعة، وترك الخلاف وأعطى رهائنه على ذلك، وقصد مدينة أنقرة وهي للمشركين، فافتتح هنالك حصوناً وعاد.
وفيها أوقع إبراهيم بن أحمد بن الأغلب بأهل بلد الزاب، وكان قد حضر وجوههم عنده، فأحسن إليهم، ووصلهم، وكساهم، وحملهم، ثم قتل أكثرهم، حتى الأطفال، وحملهم على العجل إلى حفرة فألقاهم فيها.
وفيها سارت سرية بصقلية مقدمها رجل يعرف بأبي الثور، فلقيهم جيش الروم، فأصيب المسلمون كلهم غير سبعة نفر، وعزل الحسن بن العباس عن صقلية، ووليها محمد بن الفضل، فبث السرايا في كل ناحية من صقلية وخرج هوفي حشد وجمع عظيم، فسار إلى مدينة قطانية فأهلك زرعهأن ثم رحل إلى أصحاب الشلندية فقاتلهم، فأصاب فيهم فأكثر القتل، ثم رحل إلى طبرمين فافسد زرعهأن ثم رحل فلقي عساكر الروم، فاقتتلوأن فانهزم الروم، وقتل أكثرهم فكانت عدة القتلى ثلاثة آلاف قتيل، ووصلت رؤوسهم إلى بلرم.
ثم سار المسلمون إلى قلعة كان الروم بنوها عن قريب، وسموها مدينة الملك، فملكها المسلمون عنوة، وقتلوا مقاتليهأن وسبوا من فيها.
ذكر عدة حوادثفيها سار عمروبن الليث إلى فارس لحرب عاملها محمد بن الليث عليهأن فهزمه عمرو، واستباح عسكره، ونجا محمد، ودخل عمرواصطخر فنهبها وأصحابه، ووجه في طلب محمد، فظفر به، وأخذه أسيرأن ثم سار إلى شيراز فأقام بها.
وفيها زلزلت بغداد في ربيع الأول، ووقع بها أربع صواعق.
وفيها زحف العباس بن أحمد بن طولون لحرب أبيه فخرج إليه أبوه إلى الاسكندرية، فظفر به، ورده إلى مصر، فرجع معه إليهأن وقد تقدم خبره سابقاً.
وفيها أوقع أخوشركب بالخجستاني واخذ أمه.
وفيها وثب ابن شبث بن الحسين، فأسر عمر بن سيما عامل حلوان.
وفيها انصرف أحمد بن أبي الأصبع من عند عمروبن الليث، وكان عمروقد أنفذه إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، فقدم معه بمال، فأرسل عمروإلى الموفق من المال ثلاثمائة ألف دينار، وخمسين مناص مسكأن وخمسين مناً عنبرأن ومائتي من عود، وثلثمائة ثوب وشي، وآنية ذهب وفضة، ودواب، وغلماناً بقيمة مائتي ألف دينار.
وفها ولي كيغلغ الخليل بن رمال حلوان، فنالهم بالمكاره بسبب عمر ابن سيمأن وأخذهم بجزيرة ابن شبث، وضمنوا له خلاص عمر وإصلاح ابن شبث.
وفيها كانت وقعة بين أذكوتكين بن أساتكين وبين أحمد بن عبد العزيز ابن أبي دلف، فهزمه أذكوتكين، وغلبه على قم.
وفيها وجه عمروبن الليث قائداً بأمر أبي احمد إلى محمد بن عبيد الله الكردي، فأسره القائد وحمله إليه.
وفيها في ذي القعدة، خرج بالشام رجل من ولد عبد الملك بن صالح الهاشمي يقال له بكار بين سلمية وحلب وحمص، فدعا لأبي أحمد، فحاربه ابن عباس الكلابي، فانهزم الكلابي، فوجه إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون قائداً يقال له يوذر في عسكر، فرجع وليس معه كبير أمر.
وفيها اظهر لؤلؤ الخلاف على مولاه أحمد بن طولون.
وفيها قتل أحمد بن عبد الله الخجستاني في ذي الحجة، قتله غلام له.
وفيها قتل أصحاب أبي الساج محمد بن علي بن حبيب اليشكري بالقرية، بناحية واسط، ونصب رأسه ببغداد.
وفيها حارب محمد بن كيجور علي بن الحسين كفتمر، فأسر ككفتمر، ثم أطلقه، وذلك في ذي الحجة.
وفيها سار أبوالمغيرة المخزومي إلى مكة، وعاملها هارون بن محمد الهاشمي، فجمع هارون جمعاً احتمى بهم، فسار المخزومي إلى مشاش فغور ماءهأن وإلى جدة فنهب الطعام، وأحرق بيوت أهلهأن فصار الخبز بمكة: أوقيتان بدرهم.
وفيها خرج ملك الروم المعروف بابن الصقلبية، فنازل ملطية، فأعانهم أهل مرعش والحدث، فانهزم ملك الروم.
وغزا الصائفة، من ناحية الثغور الشامية، الفرغاني، عامل ابن طولون، فقتل من الروم بضعة عشر ألفاً، وغمن الناس، فبلغ السهم أربعين ديناراً.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، وابن أبي الساج على الأحداث والطريق.
وفيها مات محمد بن عبد الله بين عبد الحكم، والبصري، الفقيه المالكي، وكان قد صحب الشافعي، وأخذ عنه العلم.
حوادث سنة تسع وستين ومائتين
ذكر أخبار الزنجوفي هذه السنة رمي الموفق بسهم في صدره؛ وكان سبب ذلك أن بهبود لما هلك طمع العلوي في ما له من الأموال، وكان قد صح عنده أن ملكه قد حوى مائتي ألف دينار، وجوهرأن وفضه، فطلب ذلك، واخذ أهله وأصحابه فضربهم، وهدم أبنيته طمعاً في المال، فلم يجد شيئأن فكان فعله مما أفسد قلوب أصحابه عليه، ودعاهم إلى الهرب منه، فأمر الموفق بالنداء بالأمان في أصحاب بهبود، فسارعوا إليه فألحقهم في العطاء بمن تقدم.
ورأى الموفق ما كان يتعذر عليه من العبور إلى الزنج في الأوقات التي تهب فيها الرياح لتحرك الأمواج، فعزم على أن يوسع لنفسه ولأصحابه موضعاً في الجانب الغربي، فأمر بقطع النخل وإصلاح المكان وأن يعمل له الخنادق والسور ليأمن البيات، وجعل حماية العمالين فيه نوباً على قواده.
فعلم صاحب الزنج وأصحابه أن الموفق إذا جاورهم قرب على من يريد اللحاق به المسافة مع ما يدخل قلوب أصحابه من الخوف، وانتقاض تدبيره عليه، فاهتموا بمنع الموفق من ذلك وبذل الجهد فيه، وقاتلوا أشد قتال، فاتفق أن الريح عصفت في بعض تلك الأيام وقائد من القواد هناك، فانتهز الخبيث الفرصة في إنفاذ هذا القائد وانقطاع المدد عنه، فسير إليه جميع أصحابه، فقاتلوه، فهزموه، وقتلوا كثيراً من أصحابه، ولم تجد الشذوات التي لأصحاب الموفق سبيلاً إلى القرب منهم خوفاًمن الزنج أن تلقيها على الحجارة فتنكسر، فغلب الزنج عليهم، وأكثروا القتل والأسر، ومن سلم منهم ألقى نفسه في الشذوات وعبروا إلى الموفقية، فعظم ذلك على الناس.
ونظر الموفق فرأى أن نزلوه بالجانب الغربي لا يأمن عليه حيلة الزنج وصاحبهم، وانتهاز فرصة، لكثرة الأدغال، وصعوبة المسالك، وأن الزنج أعرق بتلك المضايق وأجرأ عليها من أصحابه، فترك ذلك، وجعل قصده إلى هدم سور الفاسق وتوسعة الطريق والمسالك، فأمر بهدم السور من ناحية النهر المعروف بمنكي، وباشر الحرب بنفسه، واشتد القتال، وكثر القتل والجراح من الجانبين، ودام ذلك أياماً عدة.
وكان أصحاب الموفق لا يستطيعون الولوج لقنطرتين كانتا في نهر منكي، كان الزنج يعبرون عليهما وقت القتال، فيأتون أصحاب الموفق من وراء ظهورهم فينالون منهم، فعمل الحيلة في إزالتهمأن فأمر أصحابه بقصدهما عند اشتغال الزنج وغفلتهم عن حراستهمأن وأمرهم أن يعدوا الفؤوس والمناشير، وما يحتاجون إليه من الآلات، فقصدوا القنطرة الأولى نصف النهار، فأتاهم الزنج لمنعهم، فاقتتلوأن فانهزم الزنج، وكان مقدمهم أبوالندى، فأصابه سهم في صدره فقتله، وقطع أصحاب الموفق القنطرتين ورجعوا.
وألح الموفق على الخبيث بالحرب، وهدم أصحابه من السور ما أمكنهم، ودخلوا المدينة وقاتلوا فيهأن وانتهوا إلى داري ابن سمعان وسليمان بن جامع، فهدموهما ونهبوا ما فيهمأن وانتهوا إلى سويقة للخبيث، سماها الميمونة، فهدمت وأخربت، وهدموا دار الحياتي، وانتهبوا ما كان فيها من خزائن الفاسق، وتقدموا إلى الجامع ليهدموه، فاشتدت محاماة الزنج عنه، فلم يصل إليه أصحاب الموفق لأنه كان قد خلص مع الخبيث نخبة أصحابه وأرباب البصائر، فكان أحدهم يقتل، أويجرح، فيجذبه الذي إلى جنبه ويقف مكانه.
فلما رأى الموفق ذلك أمر أبا العباس بقصد الجامع مع أحد أركانه بشجعان أصحابه، وأضاف إليهم الفعلة للهدم، ونصب السلاليم، فعل ذلك، وقاتل عليه أشد قتال، فوصلوا إليه، فهدموه، فاخذ منبره، فأتي به الموفق؛ ثم عاد الموفق لهدم السور فأكثر منه، وأخذ أصحابه دواوين الخبيث وبعض خزائنه، فظهر للموفق أمارات الفتح، فإنهم لعلى ذلك إذ وصل سهم إلى الموفق فأصابه في صدره، رماه به رومي كان مع صاحب الزنج، اسمه قرطاس، وذلك لخمس بقين من جمادى الأولى، فستر الموفق ذلك، وعاد إلى مدينته وبات، ثم عاد إلى الحرب على ما به من ألم الجراح ليشتد بذلك قلوب أصحابه، فزاد ف علته، وعظم أمرهأن حتى خيف عليه.
واضطرب العسكر والرعية وخافوأن فخرج من مدينته جماعة، وأتاه الخبر، وهوفي هذه الحال، بحادث في سلطانه، فأشار عليه أصحابه وثقاته بأن يعود إلى بغداد ويخلف من يقوم مقامه، فأبى ذلك، وخاف أن يستقيم من حال الخبيث ما فسد، واحتجب عن الناس مدة، ثم برأ من علته، وظهر لهم، ونهض لحرب الخبيث، وكان ظهوره في شعبان من هذه السنة.
ذكر إحراق قصر صاحب الزنجلما صح الموفق من جراحه عاد إلى ما كان عليه من محاربة العلوي، وكان قد أعاد بناء بعض الثلم في السور، فأمر الموفق بهدم ذلك، وهدم ما يتصل به.
وركب في بعض العشايأن وكان القتال، ذلك اليوم، متصلاً مما يلي نهر منكي، والزنج مجتمعون فيه قد شغلوا بتلك الجهة، وظنوا أنهم لا يأتون إلا منهأن فأتى الموفق ومعه الفعلة، وقرب من نهر منكي وقاتلهم، فلما اشتدت الحرب أمر الذين بالشذوات بالمسير إلى أسفل نهر أبي الخصيب، وهوفارغ من المقاتلة والرجالة، فقدم أصحاب الموفق، وأخرجوا الفعلة، فهدموا السور من تلك الناحية، وصعد المقاتلة فقتلوا في النهر مقتلة عظيمة، وانتهوا إلى قصور من قصور الزنج فأحرقوهأن وانتهبوا ما فيهأن واستنقذوا عدداً كثيراً من النساء اللواتي كن فيهأن وغمنوا منها.
وانصرف الموفق، عند غروب الشمس، بالظفر والسلامة، وبكر إلى حربهم، وهدم السور، فأسرع الهدم حتى اتصل بدار الكلابي وهي متصلة بدار الخبيث، فلما أعيت الخبيث الحبل أشار عليه علي بن أبان بإجراء الماء على السباخ، وأن يحفر خنادق في مواضع عدة يمنعهم عن دخول المدينة، ففعل ذلك؛ فرأى الموفق أن يجعل قصده لطم الخنادق، والأنهار، والمواضع المغورة فدام ذلك، فحامى عنه الخبثاء، ودامت الحرب، ووصل إلى الفريقين من القتل والجراح أمر عظيم، وذلك لتقارب ما بين الفريقين.
فلما رأى شدة الأمر من هذه الناحية قصد لإحراق دار الخبيث، والهجوم عليها من دجلة، فكان يعوق عن ذلك كثرة ما أعد الخبيث لها من المقاتلة والحماة عن داره، فكانت الشذا إذا قربت من قصره رميت من فوق القصر بالسهام، والحجارة من المنجنيق والمقالع، وأذيب الرصاص وأفرغ عليهم، فتعذر إحراقها لذلك، فأمر الموفق أن تسقف الشذا بالأخشاب، ويعمل عليها الجبس ويطلى بالأدوية التي تمنع النار من إحراقهأن ففرغ منهأن ورتب فيها أنجاد أحابه، ومن النفاطين جمعاً كثيراً.
واستأمن إلى الموفق محمد بن سمعان، كاتب الخبيث، وكان أوثق أصحابه في نفسه، وكان سبب اسئمانه أن الخبيث أطلعه إلى انه عازم على الخلاص وحده بغير أهل ولا مال، فلما رأى ذلك من عزمه أرسل يطلب الأمان، فأمنه الموفق وأحسن إليه، وقيل: كان سبب خروجه أنه كان كارهاً لصحبة الخبيث، مطلعاً على كفره وسوء باطنه، ولم يمكنه التخلص منه إلى الآن ففارقه، وكان خروجه عاشر شعبان.
فلما كان الغد بكر الموفق إلى محاربة الخبثاء، فأمر أبا العباس بقصد دار محمد الكرنابي، وهي بإزاء دار الخبيث، وإحراقها وما يليها من منازل قواد الزنج، ليشغلهم بذلك عن حماية دار الخبيث، وأمر المرتبين في الشذا المطلية بقصد دار الخبيث وإحراقهأن ففعلوا ذلك، وألصقوا شذواتهم بسور قصره، وحاربهم الفجرة أشد حرب، ونضحوهم بالنيران، فلم تعمل شيئأن واحرق من القصر الرواشين والأبنية الخارجة، وعملت النار فيهأن وسلم الذين كانوا في الشذا مما كان الخبثاء يرسلونه عليهم بالظلال التي كانت في الشذأن وكان ذلك سبباً لتمكينهم من قصره.
وأمر الموفق الذين في الشذا بالرجوع، فرجعوأن فأخرج من كان فيها ورتب غيرهم، وانتظر إقبال المد وعلوه، فلما أقبل عادت الشذا إلى قصره، وأحرقوا بيوتاً منه كانت تشرع على دجلة، فأضرمت النار فيهأن واتصلت، وقويت، فأعجلت الخبيث ومن كان معه عن التوقف على شيء مما كان له من الأموال والذخائر وغير ذلك، فخرج هاربأن وتركه كله.
وعلا غلمان الموفق قصره مع أصحابهم، فانتهبوا ما لم تأت النار عليه من الذهب والفضة والحلي وغير ذلك، واستنقذوا جماعة ن النساء اللواتي كان الخبيث يأنس بهن ممن كان استرقهن، ودخلوا دوره ودور ابنه انكلاي، فاحرقوها جميعأن وفرح الناس بذلك، وتحاربوا هم وأصحاب الخبيث على باب قصره، فكثر القتل في أصحابه، والجراح والأسر، وفعل أبوالعباس في دار الكرنابي من النهب والهدم والإحراق مثل ذلك، وقطع أبوالعباس، يومئذ، سلسلة عظيمة كان الخبيث قطع بها نهر أبي الخصيب ليمنع الشذا من دخوله، فحازها أبوالعباس وأخذها معه.
وعاد الموفق بالناس مع المغرب مظفرأن وأصيب الفاسق في ماله ونفسه وولده، ومن كان عنده من نساء المسلمين، مثل الذي أصاب المسلمين منه من الذعر والجلاء وتشتت الشمل والمصيبة، وجرح ابنه انكلاي في بطنه جراحة أشفى منها على الهلاك.
ذكر غرق نصيروفي يوم الأحد لعشر بقين من شعبان غرق أبوحمزة نصير، وهوصاحب الشذوات.
وكان سبب غرقه أن الموفق بكر إلى القتال، وأمر نصيراً بقصد قنطرة كان الخبيث عملها في نهر أبي الخصيب، دون الجسرين اللذين كان اتخذهما على النهر، وفرق أصحابه من الجهات، فعجل نصير فدخل نهر أبي الخصيب، في أول المد، في عدة من شذواته، فحملها الماء فألصقها بالقنطرة، ودخلت عدة من شذوات الموفق مع غلمانه ممن لم يأمرهم بالدخول، فصكت شذوات نصير، وصك بعضها بعضأن ولم يبق للملاحين فيها عمل.
ورأى الزنج ذلك فاجتمعوا على جانبي النهر، وألقى الملاحون أنفسهم في الماء خوفاً من الزنج، ودخل الزنج الشذوات، فقتلوا بعض المقاتلة، وغرق أكثرهم، وصابرهم نصير، حتى خاف الأسر، فقذف نفسه في الماء فغرق، وأقام الموفق يومه يحاربهم، وينهبهم، ويحرق منازلهم، ولم يزل يومه مستعلياً عليهم.
وكان سليمان بن جامع ذلك اليوم من أشد الناس قتالاً لأصحاب الموفق، وثبت مكانه، حتى خرج عليه كمين للموفق، فانهزم أصحابه، وجرح سليمان جراحة في ساقه، وسقط لوجهه في موضع كان فيه حريق، وفيه بعض الجمر، فاحترق بعض جسده، وحمله أصحابه بعد أن كاد يؤسر؛ وانصرف الموفق سالماً ظافراً؛ وأصاب الموفق المفاصل، فبقي به شهر شعبان، وشهر رمضان، وأياماً من شوال، وأمسك عن حرب الزنج، ثم برأ وتماثل فأمر بإعداد آلة الحرب.
ذكر إحراق قنطرة العلوي صاحب الزنجولما اشتغل الموفق بعلته أعاد الخبيث القنطرة التي غرق عندها نصير، وزاد فيها واحكمهأن ونصب دونها أدقال ساج، وألبسها الحديد، وسكر أمام ذلك سكراً من حجارة ليضيق المدخل على الشذأن وتحتد جربة الماء في النهر، فندب الموفق أصحابه، وسير طائفة في شرقي نهر أبي الخصيب، وطائفة غربيه، وأرسل معهما النجارين والفعلة لقطع القنطرة وما جعل أمامهأن وأمر بسفن مملوءة من القصب أن يصب عليها النفط، وتدخل النهر، ويلقى فيها النار ليحترق الجسر، وفرق جنده على الخبثاء ليمنعوهم عن معاونة من عند القنطرة.
فسار الناس إلى ما أمرهم به عاشر شوال، وتقدمت الطائفتان إلى الجسر، فلقيهما انكلاي ابن الخبيث، وعلي بن أبان، وسليمان بن جامع، واشتبكت الحرب ودامت، وحامى أولئك عن القنطرة لعلمهم بما عليهم في قطعها من المضرة، وأن الوصول إلى الجسرين العظيمين اللذين يأتي ذكرهما بسهل.
ودامت الحرب على القنطرة إلى العصر، ثم إن غلمان الموفق أزالوا الخبثاء عنهأن وقطعها النجارون ونقضوها وما كان عمل من الأدقال الساج، وكان قطعها قد تعذر عليهم، فادخلوا تلك السفن التي فيها القصب والنفط وأضرموها نارأن فوافت القنطرة، فاحرقوهأن فوصل النجارون بذلك إلى ما أرادوأن وأمكن أصحاب الشذا دخول النهر، فدخلوا وقتلوا الزنج حتى أجلوهم عن مواقفهم إلى الجسر الأول الذي يتلوهذه القنطرة، وقتل من الزنج خلق كثير واستأمن بشر كثير، ووصل أصحاب الموفق إلى الجسر المغرب، فكره أن يدركهم الليل، فأمرهم بالرجوع فرجعوأن وكتب إلى البلدان أن يقرأ على المنابر أن يؤتى المحسن على قدر إحسانه ليزدادوا جداً في حرب عدوه، وأخرب من الغد برجين من حجارة كانوا عملوهما ليمنعوا الشذا من الخروج منه إذا دخلته، فلما أخربهما سهل له ما أراد من دخول النهر والخروج منه.
ذكر انتقال صاحب الزنج
إلى الجانب الشرقي وإحراق سوقهلما أحرقت دوره ومساكن أصحابه، ونهبت أموالهم، وانتقوا إلى الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، وجمع عياله حوله، ونقل أسواقه إليه، فضعف أمره بذلك ضعفاً شديداً ظهر للناس، فامتنعوا من جلب الميرة إليه، فانقطعت عنه كل مادة، وبلغ الرطل من خبز البر عشرة دراهم، فأكلوا الشعير وأصناف الحبوب.
ثم لم يزل الأمر بهم إلى أن كان أحدهم يأكل صاحبه إذا انفرد به، والقوي يأكل الضعيف، ثم أكلوا أولادهم.
ورأى الموفق أن يخرب الجانب الشرقي كما اخرب الغربي، فأمر أصحابه بقصد دار الهمداني ومعهم الفعلة، وكان هذا الوضع محصناً بجمع كثير، وعليه عرادات ومنجنيقات وقسي، فاشتبكت الحرب، وكثرت القتلى، فانتصر أصحاب الموفق عليهم، وقتلوهم وهزموهم، وانتهوا إلى الدار، فتعذر عليهم الصعود إليها لعلوسورهأن فلم تبلغه السلاليم الطوال، فرمى بعض غلمان الموفق بكلاليب كانت معهم، فعلقوها في أعلام الخبيث وجذبوهأن فتساقطت الأعلام منكوسة، فلم يشك المقاتلة عن الدار في أن أصحاب الموفق قد ملكوهأن فانهزموا لا يلوي أحد منهم على صاحبه، فأخذها أصحاب الموفق، وصعد النفاطون وأحرقوها وأم كان عليها من المجانيق والعرادات، ونهبوا ما كان فيها من المتاع والأثاث، وأحرقوا ما كان حولها من الدور، واستنقذوا ما كان فيها من النساء، وكن عالماً كثيراً من المسلمات، فحملن إلى الموفقية، وأمر الموفق بالإحسان إليهن.
واستأمن يومئذ من أصحاب الخبيث، وخاصته الذين يلون خدمته، جماعة كثيرة، فأمنهم الموفق، وأحسن إليهم، ودلت جماعة من المستأمنة الموفق على سوق عظيمة كانت للخبيث، متصلة بالجسر الأول، تسمى المباركة، وأعلموه إن أحرقها لم يبق لهم سوى غيرهأن وخرج عنهم تجارهم الذين كان بهم قوامهم، فعزم الموفق على إحراقهأن وأمر أصحابه بقصد السوق من جانبيها، فقصدوهأن وأقبلت الزنج إليهم، فتحاربوا أشد حرب تكون، واتصلت أصحاب الموفق إلى طرف من أطراف السوق وألقوا فيه النار فاحترق واتصلت النار.
وكان الناس يقتتلون، والنار محيطة بهم، واتصلت النار بظلال السوق فاحترقت وسقطت على المقاتلة، واحترق بعضهم، فكانت هذه حالهم إلى مغيب الشمس، ثم تحاجزوأن ورجع أصحاب الموفق إلى عسكرهم، وانتقل تجار السوق إلى أعلى المدينة، وكانوا قد نقلوا معظم أمتعتهم وأموالهم من هذه السوق خوفاً من مثل هذه.
ثم إن الخبيث فعل بالجانب الشرقي من حفر الخنادق، وتغوير الطرق، مثل ما كان فعل بالجانب الغربي، بعد هذه الرقعة، واحتفر خندقاً عريضاً حصن به منازل أصحابه التي على النهر الغربي، فرأى الموفق أن يخرب باقي السور إلى النهر الغربي، فعل ذلك بعد حرب طويلة في مدة بعيدة.
وكان للخبيث في الجانب الغربي جمع من الزنج قد تحصنوا بالسور وهومنيع، وهم أشجع أصحابه، فكانوا يحامون عنه، وكانوا يخرجون على أصحاب الموفق، عند محاربتهم، على حرى كور وما يليه. وأمر الموفق أن يقصد هذا الموضع، ويخرب سوره، ويخرج من فيه، فأمر أبا العباس والقواد بالتأهب لذلك، وتقدم إليهم، وأمر بالشذا أن تقرب من السور، ونشبت الحرب، ودامت إلى بعد الظهر، وهدم مواضع، وأحرق ما كان عليه من العرادات، وتحاجز الفريقان، وهما على السواء سوى هدم السور، وإحراق عرادات كانت عليه، فنال الفريقين من الجراح أمر عظيم.
وعاد الموفق، فوصل أهل البلاد والمجروحين على قدر بلائهم، وهكذا كان عمله ف محاربته، وأقام الموفق بعد هذه الوقعة أيامأن ثم رأى معاودة هذا الموضع لما رأى من صحانته وشجاعة من فيه وأنه لا يقدر على ما بينه وبين حرى كور إلا بعد إزالة هؤلاء، فأعد الآلات، ورتب أصحابه، وقصده وقاتل من فيه، وأدخلت الشذوات النهر واشتدت الحرب ودامت.
وأمد الخبيث أصحابه بالمهلبي وسليمان بن جامع في جيشهمأن فحملوا على أصحاب الموفق حتى ألحقوهم بسفنهم، وقتلوا منهم جماعة، فرجع الموفق ولم يبلغ منهم ما أراد، وتبين له أنه كان ينبغي أن يقاتلهم من عدة وجوه لتخف وطأتهم على من يقصد هذا الموضع، ففعل ذلك، وفرق أصحابه على جهات أصحاب الخبيث، وسار هوإلى جهة النهر الغربي، وقاتل من فيه.
وطمع الزنج بما تقدم من تلك الوقعة، فصدقهم أصحاب الموفق القتال، فهزموهم، فولوا منهزمين وتركوا حصنهم في أيدي أصحاب الموفق، فهدموه، وغمنوا ما فيه، وأسروأن وقتلوا خلقاً لا يحصى، وخلصوا من هذا الحصن خلقاً كثيراً من النساء والصبيان، ورجع الموفق إلى عسكره بما أراد.
ذكر استيلاء الموفق على مدينة صاحب الزنج الغربيةلم اهدم الموفق دور الخبيث أمر بإصلاح المسالك لتتسع على المقاتلة الطريق للحرب، ثم رأى قلع الجسر الأول الذي على نهر أبي الخصيب، لما في ذلك من منع معاوية بعضهم بعضأن وأمر بسفينة كبيرة أن تملأ قصباً ويجعل فيه النفط، ويوضع في وسطها دقل طويل يمنعها من مجاوزة الجسر إذا التصقت به، ثم أرسلها عند غفلة الزنج وقوة المد، فوافت الجسر، وعلم بها الزنج، فأتوها وطموها بالحجارة والتراب، ونزل بعضهم في الماء فنقبها فغرقت، وكان قد احترق من الجسر شيء يسير فأطفأها الزنج.
فعند ذلك اهتم الموفق بالجسر، فندب أصحابه، وأعد النفاطين والفعلة والفؤوس، وأمرهم بقصده من غربي وشرقيه، وركب الموفق في أصحابه، وقصد فوهة نهر أبى الخصيب، وذلك منتصف شوال سنة تسع وستين، فسبق الطائفة التي في غرب النهر، فهزم الموكلين على الجسر، وهما سليمان بن جامع وانكلاي، ولد الخبيث، وأحرقوه.
وأتى بعد ذلك الطائفة الأخرى، ففعلوا بالجانب الشرقي مثل ذلك، وأحرقوا الجسر، وتجاوزوه إلى جانب حظيرة كانت تعمل فيها سميريات الخبيث وآلاته، واحترق ذلك عن آخره، إلا شيئاً يسيراً من الشذوات والسميريات كانت في النهر، وقصدوا سجناً للخبيث، فقاتلهم الزنج عليه ساعة من النهار، ثم غلبهم أصحاب الموفق عليه، فأطلقوا من فيه، وأحرقوا كل ما مروا به إلى دار مصلح، وهومن قدماء أصحابه، فدخلوهأن فنهبوها وما فيهأن وسبوا نساءه وولده، واستنقذوا خلقاً كثيرأن وعاد الموفق وأصحابه سالمين.
وانحاز الخبيث وأصحابه من هذا الجانب إلى الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، واستولى الموفق على الجانب الغربي، غير طريق يسير على الجسر الثاني، فاصلحوا الطرق، فزاد ذلك في رعب الخبيث وأصحابه، فاجتمع كثير من أصحابه وقواده، وأصحابه الذين كان يرى أنهم لا يفارقونه، على طلب الأمان، فبذل لهم، فخرجوا أرسالأن فأحسن الموفق إليهم، وألحقهم بأمثالهم.
ثم إن الموفق أحب أن يتمرن أصحابه بسلوك النهر ليحرق الجسر الثاني، فكان يأمرهم بإدخال الشذا فيه وإحراق ما على جانبه من المنازل، فهرب إليه بعض الأيام قائد للزنج، ومعه قاض كان لهم، ومنبر، ففت ذلك في أعضاد الخبثاء، ثم إن الخبيث وكل بالجسر الثاني من يحفظه، وشحنه بالرجال، فأمر الموفق بعض أصحابه بإحراق ما عند الجسر من سفن، ففعلوا حتى أحرقوهأن فزاد ذلك في احتياط الخبيث، وفي حراسته للجسر لئلا يحرق ويستولي الموفق على الجانب الغربي فيهلك.
وكان قد تخلف من أصحابه جمع في منازلهم المقاربة للجسر الثاني، وكان أصحاب الموفق يأتونهم ويقفون على الطريق الخفية، فلما عرفوا ذلك عزموا على إحراق الجسر الثاني، فأمر الموفق ابنه أبا العباس والقواد بالتجهز لذلك، وأمرهم أن يأتوا من عدة جهات ليوافوا الجسر، وأعد معهم الفؤوس والنفط والآلات؛ ودخل هوفي النهر بالشذوات، ومعه أنجاد غلمانه، ومعهم الآلات أيضأن واشتبكت الحرب في الجانبين جميعاً بين الفريقين، واشتد القتال.
وكان في الجانب الغربي بإزاء أبي العباس ومن معه انكلاي ابن الخبيث وسليمان بن جامع، وفي الجانب الشرقي بإزاء راشد مولى الموفق، ومن معه، الخبيث، والمهلبي في باقي الجيش، فدامت الحرب مقدار ثلاث ساعات، ثم انهزم الخبثاء لا يلوون على شيء، وأخذت السيوف منهم، ودخل أصحاب الشذا النهر، ودنوا من الجسر فقاتلوا من يحميه بالسهام، وأضرموا ناراً.
وكان من المنهزمين سليمان وانكلاي، وكانا قد أثخنا بالجراح، فوافيا الجسر والنار فيه، فحالت بينهما وبين العبور، وألقيا أنفسهما في النهر ومن معهمأن فغرق منهم خلق كثير، وأفلت انكلاي وسليمان بعد أن أشفيا على الهلاك، وقطع الجسر وأحرق، وتفرق الجيش في مدينة الخبيث في الجانبين، فأحرقوا من دورهم وقصورهم وأسواقهم شيئاً كثيرأن واستنقذوا من النساء والصبيان ما لا يحصى، ودخلوا الدار التي كان الخبيث سكنها بعد إحراق قصره، وأحرقوها ونهبوا ما كان فيها مما كان سلم معه، وهرب الخبيث ولم يقف ذلك اليوم على مواضع أمواله.
واستنقذ في هذا اليوم نسوة من العلويات كن محبسات في موضع قريب من داره التي كان يسكنهأن فأحسن الموفق إليهن، وحملهن، وفتح سجناً كان له واخرج منه خلقاً كثيراً ممن كان يحارب الخبيث، ففك الموفق عنهم الحديد، واخرج ذلك اليوم كل ما كان في نهر أبي الخصيب من شذأن ومراكب بحرية، وسفن صغار وكبار، وحراقات وغير ذلك من أصناف السفن إلى دجلة، فأباحها الموفق أصحابه مع ما فيها من السلب، وكانت له قيمة عظيمة.
وأرسل انلكلاي ابن الخبيث يطلب الأمان، وسأل أشياء فأجابه الموفق إليهأن فعلم أبوه بذلك فعذله، وورده عما عزم عليه، فعاد إلى الحرب ومباشرة القتال.
ووجه سليمان بن موسى الشعراني، وهوأحد رؤساء الخبيث، يطلب الأمان، فلم يجبه الموفق إلى ذلك، لما كان قد تقدم منه من سفك الدماء والفساد، فاتصل به أن جماعة من رؤساء أصحاب الخبيث قد استوحشوا المنعة، فأجابه إلى الأمان، فأرسل الشذا إلى موضع ذكره، فخرج هووأخوه وأهله وجماعة من قواده، فأرسل الخبيث من يمنعهم عن ذلك، فقاتلهم، ووصل إلى الموفق، فزاد في الإحسان إليه وخلع عليه وعلى من معه، وأمر بإظهاره لأصحاب الخبيث ليزدادوا ثقة، فلم يبرح من مكانه، حتى استأمن جماعة من قواد الزنج منهم شبل بن سالم، فأجابه الموفق، وأرسل إليه شذوات، فركب فيها هووعياله وولده وجماعة من قواده، فلقيهم قوم من الزنج، فقاتلهم ونجا ووصل إلى الموفق، فأحسن إليه ووصله بصلة جليلة، وهومن قدماء أصحاب الخبيث، فعظم ذلك عليه وعلى أوليائه لما رأوا من رغبة رؤسائهم في الأمان.
ولما رأى الموفق مناصحة شبل، وجودة فهمه، أمره أن يكفيه بعض الأمور، فسار ليلاً في جمع من الزنج، ولم يخالطهم غيرهم، إلى عسكر الخبيث يعرف مكانهم، وأوقع بهم، وأسر منهم وقتل وعاد، فأحسن إليه الموفق وإلى أصحابه.
وصار الزنج بعد هذه الوقعة لا ينامون الليل، ولا يزالون يتحارسون للرعب الذي دخلهم، وأقام الموفق ينفذ السرايا إلى الخبيث ويكيده، ويحول بينه وبين القوت، وأصحاب الموفق يتدربون في سلوك تلك المضايق التي في أرضه ويوسعونها.
ذكر استيلاء الموفق على مدينة الخبيث الشرقية
لما علم الموفق أن أصحابه قد تمرنوا على سلوك تلك الأرض وعرفوهأن صمم العزم على العبور إلى محاربة الخبيث من الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، فجلس مجلساً عامأن وأحضر قواد المستأمنة وفرسانهم، فوقفوا بحيث يسمعون كلامه، ثم كلمهم فعرفهم ما كانوا عليه من الضلالة والجهل، وانتهاك المحارم، ومعصية الله عز وجل، وأن ذلك قد أحل له دمائهم، وأنه غفر لهم زلتهم ووصلهم، وأن ذلك يوجب عليهم حقه وطاعته، وأنهم لن يرضوا ربهم وسلطانهم بأكثر من الجد في مجاهدة الخبيث، وأنهم ليعرفون مسالك العسكر، ومضايق مدينته، ومعاقلها التي أعدهأن فهم أولى أن يجتهدوا في الولوج على الخبيث، والوغول إلى حصونه، حتى يمكنهم الله منه، فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان والمزيد، ومن قصر منهم فقد أسقط منزلته وحاله.
فارتفعت أصواتهم بالدعاء له، والاعتراف بإحسانه، وبما هم عليه من المناصحة والطاعة، وأنهم يبذلون دماءهم في كل ما يقربهم منه، وسألوه أن يفردهم ناحية ليظهر من نكايتهم في العدوما يعرف به إخلاصهم وطاعتهم، فأجابهم إلى ذلك، وأثنى عليهم ووعدهم، وكتب في جمع السفن والمعابر من دجلة والبطيحة ونواحيها ليضيفها إلى ما في عسكره، إذ كان ما عنده يقصر عن الجيش لكثرته، وأحصى ما في الشذأن والسميريات، وأنواع السفن، فكانوا زهاء عشرة آلاف ملاح ممن يجري عليه الرزق من بيت المال مشاهرة، سوى سفن أهل العسكر التي يحمل فيها الميرة، ويركبها الناس في حوائجهم، وسوى ما كان لكل قائد من السميريات، والحربيات، والزواريق.
فلما تكاملت السفن تقدم إلى ابنه أبي العباس، وقواده بقصد مدينة الخبيث الشرقية من جهاتهأن فسير ابنه أبا العباس إلى ناحية دار المهلبي، أسفل العسكر، وكان قد شحنها بالرجال والمقاتلين، وأمر جميع أصحابه بقصد دار الخبيث وإحراقهأن فإن عجزوا عنها اجتمعوا على دار المهلبي، وسار هوفي الشذأن وهي مائة وخمسون قطعة، فيها أنجاد غلمانه، وانتخب من الفرسان والرجالة عشرة آلاف، وأمرهم أن يسيروا على جانبي النهر معه إذا سار، وأن يقفوا معه إذا وقف، ليتصرفوا بأمره.
وبكر الموفق لقتال الفاسقين يوم الثلاثاء لثمان خلون من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائتين، وكانوا قد تقدموا إليهم يوم الاثنين وواقعوهم، وتقدم كل طائفة إلى الجهة التي أمرهم بهأن فلقيهم الزنج، واشتدت الحرب، وكثر القتل والجراح في الفريقين، وحامى الفسقة عن الذي اقتصروا عليه من مدينتهم واستماتوأن وصبروأن فنصر الله أصحاب الموفق، فانهزم الزنج، وقتل منهم خلق كثير، وأسر من أنجادهم وشجعانهم جمع كثير، فأمر الموفق فضربت أعناق الأسرى في المعركة، وقصد بجمعه الدار التي يسكنها الخبيث، وكان قد لجأ إليهأن وجمع أبطال أصحابه للمدافعة عنهأن فلم يغنوا عنها شيئأن وانهزموا عنها وأسلموهأن ودخلها أصحاب الموفق وفيها بقايا ما كان سلم للخبيث من ماله وولده وأثاثه، فنهبوا ذلك أجمع، وأخذوا حرمه وأولاده، وكانوا عشرين ما بين صبية وصبي، وسار الخبيث هارباً نحودار المهلبي لا يلوي على أهل وال مال، وأحرقت داره، وأتي الموفق بأهل الخبيث وأولاده، فسيرهم إلى بغداد.
وكان أصحاب أبي العباس قد قصدوا دار المهلبي، وقد لجأ إليها خلق كثير من المنهزمين، فغلبوهم عليهأن واشتغلوا بنهبهأن وأخذوا ما فيها من حرم المسلمين وأولادهم، وجعل من ظفر منهم بشيء حمله إلى سفينته، فعلوا في الدار ونواحيهأن فلما رآهم الزنج كذلك رجعوا إليهم فقتلوا فيهم مقتلة يسيرة.
وكان جماعة من غلمان الموفق الذي قصدوا دار الخبيث تشغلوا بحمل الغنائم إلى السفن أيضأن فأطمع ذلك الزنج فيهم، فأكبوا عليهم فكشفوهم، واتبعوا آثارهم، وثبت جماعة من أبطال الموفق، فردوا الزنج حتى تراجع الناس إلى مواقفهم، ودامت الحرب إلى العصر، فأمر الموفق غلمانه بصدق الحملة عليهم، ففعلوأن فانهزم الخبيث وأصحابه، وأخذتهم السيوف حتى انتهوا إلى داره أيضأن فرأى الموفق عند ذلك أن يصرف أصحابه إلى إحسانهم، فردهم وقد غمنوأن واستنقذوا جمعاً من النساء المأسورات كن يخرجن ذلك اليوم أرسالاً فيحملن إلى الموفقية.
وكان أبوالعباس قد أرسل في ذلك اليوم قائدأن فأحرق ثم بيادر كانت ذخيرة للخبيث، وكان ذلك مما أضعف به الخبيث وأصحابه، ثم وصل إلى الموفق كتاب لؤلؤ غلام ابن طولون في القدوم عليه، فأمره بذلك، وأخر القتال إلى أن يحضر.
ذكر خلاف لؤلؤ على مولاه أحمد بن طولونوفيها خالف لؤلؤ أحمد بن طولون، صاحب مصر، على مولاه أحمد بن طولون، وفي يده حمص، وقنسرين، وحلب، وديار مصر، من الجزيرة، وسار إلى بالس فنهبهأن وكاتب الموفق في المسير إليه، واشترط شروطأن فأجابه أبوأحمد إليهأن وكان بالرقة، فسار إلى الموفق فنزل قرقيسيأن وبها ابن صفوان العقيلي، فحاربه، وأخذها منه، وسلمها إلى أحمد بن مالك ابن طوق، وسار إلى الموفق، فوصل إليه وهويقاتل الخبيث العلوي.
ذكر مسير المعتمد إلى الشام
وعوده من الطريقوفيها سار المعتمد نحو مصر، وكان سبب ذلك أنه لم يكن له من الخلافة غير اسمهأن ولا ينفذ له توقيع لا في قليل ولا في كثير، وكان الحكم كله لموفق، والأموال تجبى إليه، فضجر المعتمد من ذلك، وأنف منه، فكتب إلى أحمد بن طولون يشكوإليه حاله سراً من أخيه الموفق، فأشار عليه أحمد باللحاق به بمصر، ووعده النصرة، وسير عسكراً إلى الرقة ينتظر وصول المعتمد إليهم، فاغتمن المعتمد غيبة الموفق عنه، فسار في جمادى الأولى ومعه جماعة من القواد، فأقام بالكحيل يتصيد.
فلما سار إلى عمل إسحاق بن كنداجيق، وكان عامل الموصل وعامة الجزيرة، وثب ابن كنداجيق بمن مع المعتمد من القواد، فقبضهم، وهم نيزك، وأحمد بن خاقان، وخطارمش، فقيدهم، وأخذ أموالهم ودوابهم، وكان قد كتب إليه صاعد بن مخلد وزير الموفق عن الموفق، وكان سبب وصوله إلى قبضهم انه أظهر أنه معهم في طاعة المعتمد، إذ هوالخليفة، ولقيهم لما صاروا إلى عمله،، وسار معهم عدة مراحل، فلما قارب عمل ابن طولون ارتحل الأتباع والغلمان الذين مع المعتمد، وقواد، ولم يترك ابن كنداجيق أصحابه يرحلون، ثم خلا بالقواد عند المعتمد، وقال لهم: إنكم قاربتم عمل ابن طولون والأمر أمره، وتصيرون من جنده، وتحت يده، أفترضون بذلك، وقد علمتم أنه كواحد منكم؟ وجرت بينهم في ذلك مناظرة، حتى تعالى النهار، ولم يرحل المعتمد ومن معه، فقال ابن كنداجيق: قوموا بنا نتناظر في غير حضرة أمير المؤمنين؛ فأخذ بأيديهم إلى خيمته لأن مضاربهم كانت قد سارت، فلما دخلوا خيمته قبض عليهم وقيدهم، وأخذ سائر من مع المعتمد من القواد فقيدهم، فلما فرغ من أمورهم مضى إلى المعتمد فعذله في مسيره من دار ملكه وملك آبائه، وفراق أخيه الموفق إلى الحال التي هوبها من حرب من يريد قتله، وقتل أهل بيته، وزوال ملكهم، ثم حمله والذين كانوا معه حتى أدخلهم سامرا.
ذكر الحرب بين عسكر ابن طولون وعسكر الموفق بمكةوفيها كانت وقعة بمكة بين جيش لأحمد بن طولون وبين عسكر الموفق في ذي القعدة.
وكان سببها أن أحمد بن طولون سير جيشاً مع قائدين إلى مكة، فوصلوا إليهأن وجمعوا الحناطين، والجزارين، وفرقوا فيهم مالاً؛ وكان عامل مكة هارون بن محمد إذ ذاك ببستان ابن عامر قد فارقها خوفاً منهم، فوافى مكة جعفر الناعمودي في ذي الحجة في عسكر، وتلقاه هارون بن محمد في جماعة، فقوي بهم جعفر، والتقوا هم وأصحاب ابن طولون فاقتتلوأن وأعان أهل خراسان جعفرأن فقتل من أصحاب ابن طولون مائتي رجل، وانهزم الباقون وسلبوا وأخذت أموالهم، واخذ جعفر من القائدين نحومائتي ألف دينار، وأمن المصريين، والجزارين، والحناطين، وقرئ كتاب المسجد الجامع بلعن ابن طولون، وسلم الناس وأموال التجار.
ذكر عدة حوادثفي المحرم من هذه السنة قطع الأعراب الطريق على قافلة من الحاج بين ثور وسميراء، فسلبوهم، وساقوا نحواً من خمسة آلاف بعير بأحمالها وأناساً كثيراً.
وفيها انخسف القمر، وغاب منخسفأن وانكسفت الشمس فيه أيضاً آخر النهار، وغابت منكسفة، فاجتمع في المحرم كسوفان.
وفيهأن وفي صفر، وثبت العامة ببغداد بإبراهيم الخليجي، فانتهبوا داره، وكان سبب ذلك أن غلاماً له رمى امرأة بسهم فقتلهأن فاستعدى السلطان عليه، فامتنع، ورمى غلمانه الناس، فقتلوا جماعة، وجرحوأن فثارت بهم العامة فقتلوا فيهم رجلين من أصحاب السلطان، ونهبوا منزله ودواببه، وخرج هاربأن فجمع محمد بن عبيد اله بن عبد الله بن طاهر، وكان نائب أبيه، دواب إبراهيم، وما أخذ له، فرده عليه.
وفيها وجه إلى أبي الساج جيش انصرف من مكة، فسيره إلى جدة، فأخذ للمخزومي مركبين فيهما مال وسلاح.
وفيها وثب خلف صاحب أحمد بن طولون بالثغور الشامية وعامله عليها بازمار الخادم، مولى مفلح بن خاقان، فحبسه، فوثب به جماعة فاستنقذوا بازمار، وهرب خلف، وتركوا الدعاء لابن طولون، فسار إليهم ابن طولون، ونزل أذنة، فاعتصم أهل طرسوس بهأن ومعهم بازمار، فرجع عنهم ابن طولون إلى حمص، ثم إلى دمشق، فأقام بها.
وفيها قام رافع هرثمة بما كان الخجستاني غلب غليه من مدن خراسان، فاجتبى عدة من كور خراسان خراجها لبضع عشرة سنة، فأفقر أهلها وأخربها.
وفيها كانت وقعة بين الحسنيين والحسينيين بالحجاز، والجعفريين، فقتل من الجعفريين ثمانية نفر، وخلصوا الفضل بن العباس العباسي عامل المدينة.
وفيهأن في جمادى الآخرة، عقد هارون بن الموفق لابن أبي الساج على الأنبار وطريق الفرات والرحبة، وولى محمد بن احمد الكوفة وسوادهأن فلقي محمد الهيصم العجلي، فانهزم الهيصم.
وفيها توفي عيسى بن الشيخ بن الشليل الشيباني، ويده أرمينية، وديار بكر.
وفيها لعن المعتمد أحمد بن طولون في دار العامة بلعنه على المنابر، وولى إسحاق بن كنداجيق على أعمال ابن طولون، وفوض إليه من باب الشماسية إلى إفريقية، وولى شرطة الخاصة.
وكان سبب هذا اللعن أن ابن طولون قطع خطبة الموفق، وأسقط اسمه من الطرز، فتقدم الموفق إلى المعتمد بلعنه، ففعل مكرهأن لأن هوى المعتمد كان مع ابن طولون.
وفيها كانت وقعة بين ابن أبي الساج والأعراب، فهزموه، ثم بيتهم فقتل منهم وأسر، ووجه بالرؤوس والأسرى إلى بغداد.
وفيهأن في شوال، دخل ابن أبي الساج رحبة مالك بن طوق، بعد أن قاتله أهلها فغلبهم وقتلهم، وهرب أحمد بن مالك بن طوق إلى الشام، ثم سار ابن أبي الساج إلى قرقيسيا فدخلها. وحج بالناس هارون بن محمد ابن إسحاق الهاشمي.
وفيها خرج محمد بن الفضل أمير صقلية في عسكر إلى ناحية رمطة، وبلغ العسكر إلى قطانية، فقتل كثيراً من الروم، وسبى وغمن، ثم انصرف إلى بلرم في ذي الحجة.
وفيها توفي أحمد بن مخالد، مولى المعتصم، وهومن دعاة المعتزلة، وأخذ الكلام عن جعفر بن مبشر.
وفيها توفي سليمان بن حفص بن أبي عصفور الإفريقي، وكان معتزلياً يقول بخلق القرآن، وأراد أهل القيروان، فسلم لذلك، وصحب بشراً المريسي، وأب الهذيل وغيرهما من المعتزلة.
حوادث سنة سبعين ومائتين
ذكر قتل الخبيث صاحب الزنجقد ذكرنا من حرب الزنج، وعود الموفق عنهم مؤيداً بالظفر، فلما عاد من قتالهم إلى مدينة الموفقية عزم على مناجزة الخبثاء، فأتاه كتاب لؤلؤ غلام ابن طولون يستأذنه في المسير إليه، فأذن له وترك القتال ينتظره ليحضر القتال، فوصل إليه ثالث المحرم من هذه السنة في جيش عظيم، فأكرمه الموفق، وأنزله وخلع عليه وعلى أصحابه ووصلهم، واحسن إليهم، وأمر لهم بالأرزاق على قدر مراتبهم، وأضعف ما كان لهم، ثم تقدم إلى لؤلؤ بالتأهب لحرب الخبثاء.
وكان الخبيث لما غلب على نهر أبي الخصيب، وقطعت القناطر والجسور التي عليه، أحدث سكراً في النهر وجانبيه، وجعل في وسط النهر باباً ضيقاً لتحتد جرية الماء فيه، فتمتنع الشذا من دخوله في الجزر، ويتعذر خروجها منه في المد، فرأى الموفق أن جريه لا يتهيأ إلا بقلع هذا السكر، فحاول ذلك، فاشتدت محاماة الخبثاء عليه، وجعلوا يزيدون كل يوم فيه، وهومتوسط دورهم، والمروية تسهل عليهم، وتعظم على من أراد قلعه، فشرع في محاربتهم بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ ليتمرنوا على قتالهم، ويقفوا على المسالك والطرق في مدينتهم، فأمر لؤلؤاً أن يحضر في جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر، ففعل، فرأى الموفق من شجاعة لؤلؤ وإقدامه وشجاعة أصحابه ما سره، فأمر لؤلؤاً بصرفهم إشفاقاً عليهم، ووصلهم الموفق وأحسن إليهم.
وألح على هذا السكر، وكان يحارب المحامين عليه وأصحابه وأصحاب لؤلؤ وغيرهم، والفعلة يعملون في قلعة، ويحارب الخبيث وأصحابه في عدة وجوه، فيحرق مساكنهم، ويقتل مقاتليهم، واستأمن إليه الجماعة، وكان قد بقي لخبيث وأصحابه بقية من أرضين بناحية النهر الغربي، لهم فيها مزارع وحصون وقنطرتان، وبه جماعة يحفظونه، فسار إليهم أبوالعباس، وفرق أصحابه من جهاتهم، وجعل كمينأن ثم أوقع بهم فانهزموأن فكلما قصدوا جهة خرج عليهم من يقاتلهم فيهأن فقتلوا عن آخرهم لم يسلم منهم إلا الشريد، فأخذوا من أسلحتهم ما أثقلهم حمله، وقطع القنطرتين، ولم يزل الموفق يقاتلهم على سكرهم، حتى تهيأ له فيه ما أحبه في خرقه.
فلما فرغ منه عزم على لقاء الخبيث، فأمر بإصلاح السفن والآلات للماء والظهر، وتقدم إلى أبي العباس ابنه أن يأتي الخبيث من ناحية دار المهلبي، وفرق العساكر من جميع جهاته، وأضاف المستأمنة إلى شبل، وأمره بالجد في قتال الخبيث، وأمر الناس أن لا يزحف أحد حتى يحرك علماً أسود كان نصبه على دار الكرماني وحتى ينفخ في بوق بعيد الصوت.
وكان عبوره يوم الاثنين لثلاث بقين من المحرم، فعجل بعض الناس، وزحف نحوهم، فلقيه الزنج، فقتلوه منهم، وردوهم إلى مواقفهم، ولم يعلم سائر العسكر بذلك لكثرتهم، وبعد المسافة فيما بين بعضهم وبعض، وأمر الموفق بتحريك العلم الأسود، والنفخ في البوق، فزحف الناس في البر والماء يتلوبعضهم بعضأن فلقيهم الزنج وقد حشدوا واجترأوأن بما تهيأ لهم، على من كان يسرع إليهم، فلقيهم الجيش بنيات صادقة، وبصائر نافذة، واشتد القتال، وقتل من الفريقين جمع كثير، فانهزم أصحاب الخبيث، وتبعهم أصحاب الموفق يقتلون ويأسرون، واختلط بهم ذلك اليوم أصحاب الموفق، فقتل منهم ما لا يحصى عددأن وغرق منهم مثل ذلك، وحوى الموفق المدينة بأسرهأن فغمنها أصحابه، واستنقذوا من كان بقي من الأسرى من الرجال، والنساء، والصبيان، وظفروا بجميع عيال علي بن أبان المهلبي، وبأخويه: الخليل، ومحمد وأولادهمأن وعبر بهم إلى المدينة الموفقية.
ومضى الخبيث في أصحابه، ومعه ابنه انكلاي، وسليمان بن جامع، وقواد من الزنج وغيرهم، هاربين، عامدين إلى موضع كان الخبيث قد أعده ملجأ إذا غلب على مدينته، وذلك المكان على النهر المعروف بالسفياني، وكان أصحاب الموفق قد اشتغلوا بالنهب والإحراق، وتقدم الموفق في الشذا نحونهر السفياني، ومعه لؤلؤ وأصحابه، فظن أصحاب الموفق أنه رجع إلى مدينتهم الموفقية، فانصرفوا إلى سفنهم بما قد حووأن وانتهى الموفق ومن معه إلى عسكر الخبيث وهم منهزمون، واتبعهم لؤلؤ في أصحابه، حتى عبر السفياني فاقتحم لؤلؤ بفرسه، وابتعه أصحابه، حتى انتهى إلى النهر المعروف بالفربري فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه فأوقعوا به وبمن معه، فهزمهم حتى عبر نهر السفياني، ولؤلؤ في أثرهم، فاعتصموا بجبل وراءه، وانفرد لؤلؤ وأصحابه بأتباعهم إلى هذا المكان في آخر النهار، فأمر الموفق بالانصراف فعاد مشكوراً محموداً لفعله، فحمله الموفق معه، وجدد له من البر والكرامة ورفعة المنزلة ما كان مستحقاً له، ورجع الموفق فلم ير أحداً من أصحابه بمدينة الزنج، فرجع إلى مدينته واستبشر الناس بالفتح وهزيمة الزنج وصاحبهم.
وكان الموفق قد غضب على أصحابه بمخالفتهم أمره، وتركهم الوقوف حيث أمرهم، فجمعهم جميعأن ووبخهم على ذلك، وأغلظ لهم، فاعتذروا بما ظنوه من انصرافه، وانهم لم يعلموا بمسيره، ولوعلموا ذلك لأسرعوا نحوه، ثم تعاقدوا وتحالفوا بمكانهم على أن لا ينصرف منهم أحد إذا توجهوا نحوالخبيث حتى يظفروا به، فإن أعياهم أقاموا بمكانه حتى يحكم الله بينهم وبينه. وسألوا الموفق أن يرد السفن التي يعبرون فيها إلى الخبيث، لينقطع الناس عن الرجوع، فشكرهم وأثنى عليهم وأمرهم بالتأهب.
وأقام الموفق بعد ذلك إلى الجمعة يصلح ما يحتاج الناس إليه، وأمر الناس عشية الجمعة بالمسير إلى حرب الخبثاء بكرة السبت، وطاف عليهم هوبنفسه يعرف كل قائد مركزه، والمكان الذي يقصده، وغدا الموفق يوم السبت لليلتين خلتا من صفر، فعبر بالناس، وأمر برد السفن، فردت وسار يقدمهم إلى المكان الذي قدر أن يلقاهم فيه.
وكان الخبيث وأصحابه قد رجعوا إلى مدينتهم بعد انصراف الجيش عنهم، وأملوا أن تتطاول بهم الأيام وتندفع عنهم المناجزة، فوجد الموفق المتسرعين من فرسان غلمانه والرجالة قد سبقوا الجيش فأوقعوا بالخبيث وأصحابه وقعة هزموهم بهأن وتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض، وتبعهم أصحاب الموفق يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم، وانقطع الخبيث في جماعة من حماة أصحابه وفيهم المهلبي، وفارقه ابنه انكلاي، وسليمان بن جامع، فقصد كل فريق منهم جمعاً كثيفاً من الجيش.
وكان أبوالعباس قد تقدم، فلقي المنهزمين في الموضع المعروف بعسكر ريحان، فوضع أصحابه فيهم السلاح، ولقيهم طائفة أخرى، فأوقعوا بهم أيضأن وقتلوا منهم جماعة، وأسروا سليمان بن جامع، فأتوا به الموفق من غير عهد ولا عقد، فاستبشر الناس بأسره، وكثر التكبير، وأيقنوا بالفتح، إذ كان أكثر أصحاب الخبيث غناء عنه وأسر من بعده إبراهيم بن جعفر الهمداني وكان أحد أمراء جيوشه، فأمر الموفق بالاستيثاق منهم، وجعلهم في شذاة لأبي العباس.
ثم إن الزنج الذين انفردوا مع الخبيث حملوا على الناس حملة أزالوهم عن مواقفهم، فقتروأن فأحس الموفق بفتورهم، فجد في طلب الخبيث وأمعن، فتبعه أصحابه، وانتهى الموفق إلى آخر نهر أبي الخصيب، فلقيه البشير بقتل الخبيث، وأتاه بشير آخر ومعه كف ذكر أنها كفه، فقوي الخبر عنده، ثم أتاه غلام من أصحاب لؤلؤ يركض ومعه رأس الخبيث، فأدناه منه، وعرضه على جماعة من المستأمنة فعرفوه، فخر لله ساجدأن وسجد معه الناس، وأمر الموفق برفع رأسه على قناة، فتأمله الناس، فعرفوه، وكثر الضجيج بالتحميد.
وكان مع الخبيث، لما أحيط به، المهلبي وحده، فولى عنه هاربأن وقصد نهر الأمير فألقى نفسه فيه يريد النجاة؛ وكان انكلاي قد فارق أباه قبل ذلك وسار نحوالديناري.
ورجع الموفق ورأس الخبيث بين يديه، وسليمان معه، وأصحابه إلى مدينته، وأتاه من الزنج عالم كبير يطلبون الأمان فأمنهم، وانتهى إليه خبر انكلاي والمهلبي، ومكانهمأن ومن معهما من مقدمي الزنج، فبث الموفق أصحابه في طلبهم، وأمرهم بالتضييق عليهم، فلما أيقنوا أن لا ملجأ أعطوا بأيديهم، فظفر بهم وبمن معهم، وكانوا زهاء خمسة آلاف، فأمر بالاستيثاق من المهلبي وانكلاي، وكان ممن هرب قرطاس الرومي الذي رمى الموفق بالسهم في صدره، فانتهى إلى رامهرمز، فعرفه رجل، فدل عليه عامل البلد، فأخذه وسيره إلى الموفق فقتله أبوالعباس.
وفيها استأمن درمويه الزنجي إلى أبي أحمد، وكان درمويه من أنجاد الزنج وأبطالهم، وكان الخبيث قد وجهه قبل هلاكه بمدة إلى موضع كثير الشجر والأدغال والآجام، متصل بالبطيخة، وكان هوومن معه يقطعون هنالك على السابلة في زواريق خفاف، فإذا طلبوا دخلوا الأنهار الصغار الضيقة واعتصموا بالأدغال، وإذا تعذر عليهم مسلك لضيقه حملوا سفنهم ولجأوا إلى الأمكنة الوسيعة، ويعبرون على قرى البطيحة، ويقطعون الطريق، فظفر بجماعة من عسكر الموفق معهم نساء قد عادوا إلى منازلهم، فقتل الرجال، وأخذ النساء، فسألهن عن الخبر، فأخبرهن بقتل الخبيث وأسر أصحابه وقواده، ومصير كثير منهم إلى الموفق بالأمان، وإحسانه إليهم، فسقط في يده، ولم ير لنفسه ملجأ إلا طلب الأمان والصفح عن جرمه، فأرسل يطلب الأمان، فأجابه الموفق إليه، فخرج وجميع من معه، حتى وافى عسكر الموفق، فأحسن إليهم وأمنهم.
فلما اطمأن درمويه أظهر ما كان في يده من الأموال والأمتعة، وردها إلى أربابها ظاهرأن فعلم بذلك حسن نيته، فازداد إحسان الموفق إليه، وأمر أن يكتب إلى أمصار المسلمين بالنداء في أهل النواحي التي دخلها الزنج بالرجوع إلى أوطانهم، فسار الناس إلى ذلك؛ وأقام الموفق بالمدينة الموفقية ليأمن الناس بمقامه، وولى البصرة، والأبلة، وكور دجلة، رجلاً من قواده قد حمد مذهبه، وعلم حسن سيرته، يقال له العباس بن تركس، وأمره بالمقام بالبصرة، وولى قضاء البصرة والأبلة وكور دجلة محمد بن حماد.
وقدم ابنه أبا العباس إلى بغداد، ومعه راس الخبيث ليراه الناس، فبلغها لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة.
وكان خروج صاحب الزنج يوم الأربعاء لأربع بقين من شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، وكانت أيامه أربع عشرة سنة وأربعة اشهر وستة أيام، وقيل في أمر الموفق وأصحاب الزنج أشعار كثيرة، فمن ذلك قول يحيى بن محمد الأسلمي:
أقول وقد جاء البشير بوقعة ... أعزت من الإسلام ما كان واهيا
جزى الله خير الناس للناس بعدما ... أبيح حماهم خير ما كان جازيا
تفرد، إذ لم ينصر الله ناصر ... بتجديد دين كان أصبح باليا
وتجديد ملك قد وهى بعد عزه ... واخذ يثارات تبين الأعاديا
ورد عمارات أزيلت وأخربت ... ليرجع فيء قد تخرم وافيا
وترجع أمصار أبيحت وأحرقت ... مراراً فقد أمست قواءً عوافيا
ويشفي صدور المسلمينبوقعة ... يقر بها منها العيون البواكيا
ويتلى كتاب الله في كل مسجد ... ويلقى دعاء الطالبيين خاسيا
فأعرض عن جناته ونعيمه ... وعن لذة الدنيا وأصبح عاريا
وهي قصيدة طويلة، وقال غيره في هذا المعنى أيضاً شعراً كثيراً؛ وقد انقضى أمر الزنج.
ذكر الظفر بالروموفي هذه السنة خرجت الروم في مائة ألف، فنزلوا على قلمية، وهي على ستة أميال من طرسوس، فخرج إليهم بازمار ليلاً فبيتهم في ربيع الأول، فقتل منهم، فيما يقال، سبعين ألفأن وقتل مقدمهم، وهوبطريق البطارقة، وقتل أيضاً بطريق الفنادين، وبطريق الباطليق، وأفلت بطريق قرة وبه عدة جراحات، وأخذ لهم سبعة صلبان من ذهب وفضة؛ وصليبهم الأعظم من ذهب مكلل بالجوهر؛ وأخذ خمسة عشر ألف دابة، ومن السروج وغير ذلك، وسيوفاً محلاة، وأربع كراسي من ذهب، ومائتي كرسي من فضة، وآنية كثيرة، ونحواً من عشرة آلاف علم ديباج، وديباجاً كثيراً وبزيون وغير ذلك.
ذكر وفاة الحسن بن زيد وولاية أخيه محمدوفيها توفي الحسن بن زيد العلوي، صاحب طبرستان، في رجب، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وستة أيام، وولي مكانه أخوه محمد ابن زيد.
وكان الحسن جواداً امتدحه رجل فأعطاه عشرة آلاف درهم، وكان متواضعاً لله تعالى.
حكي عنه أنه مدحه شاعر فقال: اله فرد، وابن زيد فرد، فقال: بفيك الحجر، يا كذاب، هلا قلت الله فرد، وابن زيد عبد! ثم نزل عن مكانه، وخر ساجداً له تعالى، وألصق خده بالتراب، وحرم الشاعر.
وكان عالماً بالفقه والعربية، مدحه شاعر فقال:
لا تقل بشرى، ولكن بشريان ... عزة الداعي ويوم المهرجان
فقال له: كان الواجب أن تفتتح الأبيات بغير لأن فإن الشاعر المجيد يتخير لأول القصيدة ما يعجب السامع، ويتبرك به، ولواتدأت بالمصراع الثاني لكان أحسن؛ فقال له الشاعر: ليس في الدنيا كلمة أجل من قول: لا إله إلا الله، وأولها لا فقال: أصبت! وأجازه.
وحكي عنه أنه غنى عنده مغن بأبيات الفضل بن العباس في عتبة بن أبي لهب التي أولها: وأنا الأخضر من يعرفني؟ أخضر الجلدة من بيت العرب فلما وصل إلى قوله:
برسول الله وابني عمه ... وبعباس بن عبد المطلب
غير البيت فقال: لا بعباس بن عبد المطلب، فغضب الحسن وقال: يا ابن اللخناء، تهجوبني عمنا بين يدي، وتحرف ما مدحوا به؟ لئن فعلتها مرة ثانية لأجعلنها آخر غنائك.
ذكر وفاة أحمد بن طولون
وولاية ابنه خمارويهفي هذه السنة توفي احمد بن طولون، صاحب مصر، والشام، والثغور الشامية.
وكان سبب موته أن نائبه بطرسوس وثب عليه بازمار الخادم، وقبض عليه، وعصى على أحمد، وأظهر الخلاف، فجمع أحمد العساكر وسار إليه، فلما وصل أذنة كاتبه وراسله يستميله، فلم يلتفت إلى رسالته، فسار إليه احمد، ونازله وحصره، فخرق بازمار نهر البلد على منزلة العسكر، فكاد الناس يهلكون، فرحل أحمد مغيظاً حنفاً وكان الزمان شتاء، وأرسل إلى بازمار: إنني لم أرحل إلا خوفاً أن تنخرق حرمة هذا الثغر فيطمع فيه العدو.
فلما عاد إلى أنطاكية أكل لبن الجواميس، فأكثر منه، فأصابه منه هيضة، واتصلت حتى صار منها ذرب، وكان الأطبار يعالجونه، وهويأكل سرأن فلم ينجح الدواء، فتوفي رحمه الله.
وكانت إمارته نحوست وعشرين سنة، وكان عاقلاً حازمأن كثير المعروف والصدقة، متدينأن يحب العلماء وأهل الدين، وعمل كثيراً من أعمال البر ومصالح المسلمين، وهوالذي بنى قلعة يافأن وكانت المدينة بغير قلعة، وكان يميل إلى مذهب الشافعي، ويكرم أصحابه.
وولي بعده ابنه خمارويه، وأطاعه القواد، وعصى عليه نائب أبيه بدمشق، فسير إليه العساكر فأجلوه، وساروا من دمشق إلى شيزر.
ذكر مسير إسحاق بن كنداجيق إلى الشاملما توفي احمد بن طولون كان إسحاق بن كنداجيق على الموصل والجزيرة، فطمع هووابن أبي الساج في الشام، واستصغرا أولاد أحمد، وكاتبا الموفق بالله في ذلك، واستمداه، فأمرهما بقصد البلاد، ووعدهما إنفاذ الجيوش، فجمعأن وقصدا ما يجاورهما من البلاد، فاستوليا عليه وأعانهما النائب بدمشق لأحمد بن طولون، ووعدهما الانحياز إليهمأن فتراجع من بالشام من نواب أحمد بانطاكية، وخلب وحمص، وعصى متولي دمشق، واستولى إسحاق على ذلك.
وبلغ الخبر إلى أبي الجيش خمارويه بن أحمد، فسير الجيوش إلى الشام فملكوا دمشق، وهرب النائب الذي كان بها؛ وسار عسكر خمارويه من دمشق إلى شيزر لقتال إسحاق بن كنداجيق وابن أبي الساج، فطاولهم إسحاق ينتظر المدد من العراق، وهجم الشتاء على الطائفتين، وأضر بأصحاب ابن طولون، فتفرقوا في المنازل بشيزر.
ووصل العسكر العراقي إلى كنداجيق وعليهم أبوالعباس أحمد بن الموفق وهوالمعتضد بالله، فلما وصل سار مجداً إلى عسكر خمارويه بشيزر، فلم يشعروا حتى كبسهم في المساكن، ووضع السيف فيهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وسار من سلم إلى دمشق على أقبح صورة، فسار المعتضد إليهم، فجلوا عن دمشق إلى الرملة، وملك هودمشق، ودخلها في شعبان سنة إحدى وسبعين ومائتين، وأقام عسكر ابن طولون بالرملة، فأرسلوا إلى خمارويه يعرفونه بالحال، فخرج من مصر في عساكره قاصداً إلى الشام.
ذكر عدة حوادثوفيهأن في جمادى الأولى، توفي هارون بن الموفق ببغداد.
وفيها كان فداء أهل سندية على يد بازمار.
وفيهأن في شعبان، شغب أصحاب أبي العباس بن الموفق على صاعد بن مخلد، وهووزير الموفق، وطلبوا الأرزاق، وقاتلهم أصحاب صاعد، وكان بينهم حرب شديدة قتل فيها جماعة، وأسر من أصحاب أبي العباس جماعة، ولم يكن أبوالعباس حاضرأن كان قد خرج متصيدأن ودامت الحرب إلى بعد المغرب، ثم كف بعضهم عن بعض، ثم وضع العطاء من الغد، واصطلحوا.
وفيها كانت وقعة بين إسحاق بن كنداجيق وبين ابن دعباش وكان ابن دعباش بالرقة عاملاً عليهأن وعلى الثغور والعواصم، لابن طولون، وابن كنداجيق على الموصل للخليفة.
وفيها ابتدأ إسماعيل بن موسى بناء مدينة لاردة من الأندلس، وكان مخالفاً لمحمد صاحب الأندلس، ثم صالحه في العام الماضي، فلما سمع صاحب برشلونة الفرنجي جمع وحشد وسار يريد منعه من ذلك، فسمع به إسماعيل، فقصده وقاتله، فانهزم المشركون، وقتل أكثرهم، وبقي أكثر القتلى في تلك الأرض دهراً طويلاً.
وفيها توفي محمد بن إسحاق بن جعفر الصاغاني الحافظ، ومحمد بن مسلم بن عثمان، المعروف بابن واره الرازي، وكان إماماً في الحديث، وله فيه مصنفات.
وفيها توفي داود بن علي الاصبهاني الفقيه، إمام أصحاب الظاهر، وكان مولده سنة اثنتين ومائتين.
وفيها توفي مصعب بن أحمد بن مصعب أبواحمد الصوفي الزاهد، وهومن أقران الجنيد.
وفيها مات ملك الروم، وهوابن الصقلبية، وحج بالناس هارون بن محمد بن محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله ابن العباس.
وفيها توفي خالد بن أحمد بن خالد السدوسي الذهلي الذي كان أمير خراسان ببغداد، وكان قد قصد الحج فقبض عليه الخليفة المعتمد وحبسه، فمات بالحبس، وهوالذي أخرج البخاري، صاحب الصحيح، من بخارى، وخبره معه مشهور، فدعا عليه البخاري فأدركته الدعوة.
حوادث سنة إحدى وسبعين ومائتين
ذكر خلاف محمد وعلي العلويينفي هذه السنة دخل محمد وعلي ابنا الحسين بن جعفر بن موسى بن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المدينة، وقتلا جماعة من أهلهأن وأخذا من قوم مالأن ولم يصل أهل المدينة في مسجد رسول الله، صلى اله عليه وسلم، لا جمعة، ولا جماعة، فقال الفضل بن العباس العلوي في ذلك:
أخربت دار هجرة المصطفى الب ... ر فأبكى خراببها المسلمينا
عين فأبكي مقام جبريل والقب ... ر فبكي والمنبر الميمونا
وعلى المسجد الذي اسه التق ... وى، خلاءً امسى من العابدينا
وعلى طيبة التي بارك الل ... ه عليها بخاتم المرسلينا
ذكر عزل عمرو بن الليث عن خراسانوفيها ادخل المعتمد إليه حاج خراسان، وأعلمهم أنه قد عزل عمروبن الليث عما كان قلده، ولعنه بحضرتهم، وأخبرهم أنه قلد خراسان محمد ابن طاهر، وأمر أيضاً بلعن عمروعلى المنابر، فلعن، فسار صاعد بن مخلد إلى فارس لحرب عمرو، فاستخلف محمد بن طاهر رافع بن هرثمة على خراسان، فلم يغير السامانية عما وراء النهر.
ذكر وقعة الطواحينوفي هذه السنة كانت وقعة الطواحين بين أبي العباس المعتضد وبين خماريه ابن أحمد بن طولون.
وسبب ذلك أن المعتضد سار من دمشق، بعد أن ملكهأن نحوالرملة إلى عساكر خمارويه، فأتاه الخبر بوصول خمارويه إلى عساكره، وكثرة من معه من الجموع، فهم بالعود، فلم يمكنه من معه من أصحاب خمارويه الذين صاروا معه؛ وكان المعتضد قد أوحش ابن كنداجيق، وابن أبي الساج، ونسبهما إلى الجبن، حيث انتظراه ليصل إليهمأن ففسدت نياتهما معه.
ولما وصل خمارويه إلى الرملة نزل على الماء الذي عليه الطواحين، فملكه، فنسبت الوقعة إليه؛ ووصل المعتضد وقد عبأ أصحابه، وكذلك أيضاً فعل خمارويه، وجعل له كميناً عليهم سعيداً الأيسر، وحملت ميسرة المعتضد على ميمنة خمارويه، فانهزمت، فلما رأى ذلك خمارويه، ولم يكن رأى مصافاً قبله، ولى منهزماً في نفر من الأحداث الذين لا علم لهم بالحرب، ولم يقف دون مصر.
ونزل المعتضد إلى خيام خمارويه، وهولا يشك في تمام النصر، فخرج الذين عليهم سعيد الأيسر، وانضاف إليه من بقي من جيش خمارويه، ونادوا بشعارهم، وحملوا على عسكر المعتضد وهم مشغولون بنهب السواد، ووضع المصريون السيف فيهم، وظن المعتضد أن خمارويه قد عاد، فركب فانهزم ولم يلوعلى شيء، فوصل إلى دمشق، ولم يفتح له أهلها بابهأن فمضى منهزماً حتى بلغ طرسوس، وبقي العسكران يضطربان بالسيوف، وليس لواحد منهما أمير.
وطلب سعيد الأيسر خمارويه فلم يجده، فأقام أخاه أبا العشائر، وتمت الهزيمة على العراقيين، وقتل منهم خلق كثير وأسر كثير.
وقال سعيد لعساكر: إن هذا أخوصاحبكم، وهذه الأموال تنفق فيكم؛ ووضع العطاء، فاشتغل الجند عن الشغب بالأموال، وسيرت البشارة إلى مصر، ففرح خمارويه بالظفر، وخجل للهزيمة، غير أنه أكثر الصدقة، وفعل مع الأسرى فعلة لم يسبق إلى مثلها أحد قبله، فقال لأصحابه: إن هؤلاء أضيافكم فأكرموهم؛ ثم أحضرهم بعد ذلك وقال لهم: من اختار المقام عندي فله الإكرام والمواساة، ومن أراد الرجوع جهزناه وسيرناه؛ فمنهم من قام ومنهم من سار مكرماً؛ وعادت عساكر خمارويه إلى الشام أجمع، فاستقر ملك خمارويه له.
ذكر الحرب بين عسكر الخليفة وعمرو الصفارفي هذه السنة عاشر ربيع الأول كانت وقعة بين عساكر الخليفة وفيها أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، وبين عمروبن الليث الصفار، ودامت الحرب من أول النهار إلى الظهر، فانهزم عمرووعساكره وكانوا خمسة عشر ألفاً بين فارس وراجل، وجرح الدرهمي مقدم جيش عمروبن الليث، وقتل مائة رجل من حماتهم، واسر ثلاثة آلاف أسير، واستأمن منهم ألف رجل، وغمنوا من معسكر عمرومن الدواب والبقر والحمير ثلاثين ألف رأس، وما سوى ذلك فخارج عن الحد.
ذكر حروب الأندلس وإفريقيةفي هذه السنة سير محمد، صاحب الأندلس، جيشاً مع ابنه المنذر إلى مدينة بطليوس، فزال عنها ابن مروان الجليقي، وكان مخالفأن كما ذكرنأن وقصد حصن أشير غوة فتحصن به، فأحرق المنذر بطليوس، وسير محمد أيضاً جيشاً مع هاشم بن عبد العزيز إلى مدينة سرقسطة، وبها محمد بن لب بن موسى، فملكها هاشم واخرج منها محمدأن وكان معه عمروبن حفصون الذي ذكرنا خروجه على صاحب الأندلس فصالحه.
فلما عادوا إلى قرطبة هرب عمر بن حفصون، وقصد بربشتر مخالفأن فاهتم صاحب الأندلس به، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها سارت سرية للمسلمين عظيمة بصقلية إلى رمطة، فخربت وغمنت وسبت، وأسرت كثيراً وعادت.
وتوفي أمير صقلية، وهوالحسين بن أحمد، فولي بعد سوادة بن محمد ابن خفاجة التميمي، وقدم إليهأن فسار عسكر كبير إلى مدينة قطانية فأهلك ما فيهأن وسار إلى طبرمين فقاتل أهلهأن وأفسد زرعهأن وتقدم فيهأن فأتاه رسول بطريق الروم يطلب الهدنة والمفاداة، فهادنه ثلاثة أشره، وفاداه ثلاثمائة أسير من المسلمين، فرجع سوادة إلى بلرم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عقد لأحمد بن محمد الطائي على المدينة وطريق مكة، فوثب يوسف بن أبي الساج، وهووالي مكة، على بدر غلام الطائي، وكان أميراً على الحاج، فحاربه وأسره، فثار الجند والحاج بيوسف، فقاتلوه، واستنقذوا بدرأن وأسروا يوسف وحملوه إلى بغداد، وكانت الحرب بينهم على أبواب المسجد الحرام.
وفيها خربت العامة الدير العتيق الذي نهر عيسى وانتهبوا ما فيه، وقلعوا أبوابه، فسار إليهم الحسين بن إسماعيل، صاحب شرطة بغداد من قبل محمد بن طاهر، فمنعهم من هدم ما بقي منه، وكن يتردد هووالعامة إليه أيامأن حتى كاد أن يكون بينهم حرب، ثمبني ما هدم بعد أيام، وكانت إعادة بنائه عبدون أخي صاعد بن مخلد. وحج بالناس هارون بن إسحاق.
وفيها توفي عبد الرحمن بن محمد بن منصور البصري.
حوادث سنة اثنتين وسبعين ومائتين
ذكر الحرب بين اذكوتكين ومحمد بن زيد العلويفي هذه السنة، منتصف جمادى الأولى، كانت حرب شديدة بين أذكوتكين وبين محمد بن زيد العلوي، صاحب طبرستان، ثم سار أذكوتكين من قزوين إلى الري ومعه أربعة آلاف فارس، وكان مع محمد بن زيد من الديلم والطبرية والخراسانية عالم كبير، فاقتتلوأن فانهزم عسكر محمد بن زيد وتفرقوأن وقتل منهم ستة آلاف وأسر ألفان، وغمن أذكوتكين وعسكره من أثقالهم وأموالهم ودوابهم شيئاً لم يروا مثله، ودخل أذكوتكين الري فأقام بهأن وأخذ من أهلها مائة ألف ألف دينار، وفرق عماله في أعمال الري.
ذكر عدة حوادثفيها وقع بين أبي العباس بن الموفق وبين بازمار بطرسوس، فثار أهل طرسوس بأبي العباس فأخرجوه، فسار إلى بغداد في النصف من المحرم.
وفيها توفي سليمان بن وهب في جيش الموفق في صفر.
وفيها خرج خارجي بطريق خراسان، وسار إلى دسكرة الملك فقتل.
وفيها دخل حمدان بن حمدون، وهارون الشاري مدينة الموصل، وصلى بهم الشاري في جامعها.
وفيها نقب المطبق من داخله، وأخرج منه الدوباني العلوي، وفتيان معه، فركبوا دواب أعدت لهم وهربوأن فأغفلت أبواب بغداد، فأخذ الدوباني ومن معه، فأمر الموفق، وهوبواسط، أن تقطع يده ورجله من خلاف، فقطع.
وفيها قدم صاعد بن مخلد ن فارس إلى واسط، فأمر الموفق جميع القواد أن يستقبلوه، فاستقبلوه وترجلوا له، وقبلوا يده، وهولا يكلمهم كبراً وتيهأن ثم قبض الموفق عليه وعلى جميع أهله وأصحابه، ونهب منازلهم بعد أيام، وكان قبضه في رجب، وقبض ابناه أبوعيسى وصالح، وأخوه عبدون ببغداد، واستكب مكانه أبا الصقر إسماعيل بن بلبل، واقتصر به على الكتابة دون غيرها.
وفيها نزل بنوشيبان ومن معهم بين الزانين من أعمال الموصل، وعاثوا في البلد وأفسدوأن وجمع هارون الخارجي على قصدهم، وكتب إلى حمدان ابن حمدون التغلبي في المجيء إليه، إلى الموصل، فسار هارون نحوالموصل، وسار حمدان ومن معه إليه، فعبروا إليه بالجانب الشرقي من دجلة، وساروا جميعاً إلى نهر الخازر، وقاربوا حلل بني شيبان، فواقعته طليعة لبني شيبان على طليعة هارون، فانهزمت طليعة هارون، وانهزم هارون، وجلا أهل نينوى عنهأن إلا من تحصن بالقصور.
وفيها زلزلت مصر، في جمادى الآخرة، زلزلة شديدة أخربت الدور والمسجد الجامع، وأحصي بهأن في يوم واحد، ألف جنازة.
وفيها غلا السعر ببغداد، وكان سببه أن أهل سامرا منعوا من انحدار السفن بالطعام ومنع الطائي أرباب الضياع من الدياس ليغلوا الأسعار، ومنع أهل بغداد عن سامرا الزيت والصابون وغير ذلك، واجتمعت العامة ووثبوا بالطائي، فجمع أصحابه وقاتلهم، فجرح بينهم جماعة، وركب محمد بن طاهر وسكن الناس، وصرفهم عنه.
وفيها توفي إسماعيل بن برية الهاشمي في شوال! وعبيد الله بن عبد الله الهاشمي.
وفيها تحركت الزنج بواسط، وصاحوا: انكلاي، يا منصور، وكان هووالمهلبي وسليمان بن جامع، وجماعة من قوادهم في حبس الموفق ببغداد، وكتب الموفق بقتلهم، فقتلوأن وأرسلت رؤوسهم إليه، وصلبت أبدانهم ببغداد.
وفيها صلح أمر مدينة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتراجع الناس إليها.
وفيها غزا الصائفة بازمار، وحج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق.
وفيها سير صاحب الأندلس إلى ابن مروان الجليقي، وهوبحصن أشير غرة، فحصروه وضيقوا عليه، وسير جيشاً آخر إلى محاربة عمر بن حفصون بحصن بربشتر.
وفيها انقضت الهدنة بين سوادة أمير صقلية والروم، فأخرج سوادة السرايا إلى بلد الروم بصقلية، فغمنت وعادت.
وفيها قدم من القسطنطينية، بطريق، يقال له انجفور، في عسكر كبير، فنزل على مدينة سبرينة فحصرهأن وضيق على من بها من المسلمين، فسلموها على أمان ولحقوا بأرض صقلية، ثم وجه انجفور عسكراً إلى مدينة منتيه، فحصروهأن حتى سلمها أهلها بأمان إلى بلرم من صقلية.
وفيها مات أبوبكر محمد بن صالح بن عبد الرحمن الأمناطي ، المعروف بكنجلة، وهومن أصحاب يحيى بن معين، وهولقبه.
وفيها توفي أحمد بن عبد الجبار بن محمد بن عطارد العطاردي التميمي، وهويروي مغازي ابن إسحاق عن يونس عن ابن إسحاق، ومن طريقه سمعناه.
وفيها توفي إبراهيم بن الوليد بن الخشخاش.
وفيها توفي شعيب بن بكار الكاتب، وله حديث عن أبي عاصم النبيل.
حوادث سنة ثلاث وسبعين ومائتين
ذكر اختلاف بين ابن أبي الساج وابن كنداج والخطبة بالجزيرة لابن طولونفي هذه السنة فسد الحال بين محمد بن أبي الساج وإسحاق بن كنداج، وكانا متفقين في الجزيرة.
وسبب ذلك أن ابن أبي الساج نافر إسحاق في الأعمال، وأراد التقدم، وامتنع عليه إسحاق، فأرسل ابن أبي الساج إلى خمارويه بن احمد بن طولون، صاحب مصر، وأطاعه، وصار معه وخطب له بأعماله، وهي قنسرين، وسير ولده ديوداد إلى خمارويه رهينةً، فأرسل إليه خمارويه مالاً جزيلاً له ولقواده.
وسار خمارويه إلى الشام، فاجتمع هووابن أبي الساج ببالس، وعبر ابن أبي الساج الفرات إلى الرقة، فلقيه ابن كنداج، وجرى بينهما حرب انهزم فيها ابن كنداج، واستولى ابن أبي الساج على ما كان لابن كنداج، وعبر خمارويه الفرات ونزل الرافقة، ومضى إسحاق منهزماُ إلى قلعة ماردين، فحصره ابن أبي الساج، وسار عنها إلى سنجار، فأوقع بقوم من الأعراب، وسار ابن كنداج من ماردين نحوالموصل، فلقيه ابن أبي الساج ببرقعيد، فكمن كمينأن فخرجوا على ابن كنداج وقت القتال، فانهزم عنهأن وعاد إلى ماردين فكان فيها؛ وقوي ابن أبي الساج، وظهر أمره، واستولى على الجزيرة والموصل، وخطب لخمارويه فيها ثم لنفسه بعده.
ذكر وقعة بين عسكر ابن أبي الساج والشراةلما استولى ابن أبي الساج على الموصل أرسل طائفة من عسكره مع غلامه فتح، وكان شجاعاً مقدماً عنده، إلى المرج من أعمال الموصل، فساروا إليهأن وجبوا الخراج منها.
وكان اليعقوبية الشراة بالقرب منه، فأرسل إليهم فهادنهم، وقال: إمنا مقامي بالمرج مدة يسيرة ثم أرحل عنه. فسكنوا إلى قوله وتفرقوأن فنزل بعضهم بالقرب من سوق الأحد، فأسرى إليهم فتح في السحر، فكبسهم وأخذ أموالهم، وانهزم الرجال عنه.
وكان باقي اليعقوبية قد خرجوا إلى أصحابهم الذين أوقع بهم فتح من غير أن يعلموا بالوقعة، فلقيهم المنهزمون من أصحابهم، فاجتمعوأن وعادوا إلى فتح فقاتلوه، وحملوا حملة رجل واحد، فهزموه وقتلوا من أصحابه ثماني مائة رجل، وكان أصحابه ألف رجل، فأفلت في نحومائة رجل، وتفرق مائة في القرى واختفوأن وعادوا إلى الموصل متفرقين، وأقاموا بها.
ذكر وفاة محمد بن عبد الرحمن
وولاية ابنه المنذرفي هذه السنة توفي محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأموي، صاحب الأندلس، لخ صفر، وكان عمره نحواً من خمس وستين سنة، وكانت ولايته أربعاً وثلاثين سنة وأحد عشر شهراً، وكان أبيض، مشرباً بحمرة، ربعة، أوقص، يخضب بالحناء والكتم، وخلف ثلاثة وثلاثين ولداً ذكورأن وكان ذكيأن فطناً بالأمور المشتبهة متعانياً منها.
ولما مات ولي بعده ابنه المنذر بن محمد، بويع له بعد موت أبيه لثلاث ليال، وأطاعه الناس، وأحسن إليهم.
ذكر عدة حوادث
وفيها أيضاً وقعة بالرقة في جمادى الأولى بين إسحاق بن كنداجيق وبين محمد بن أبي الساج، فانهزم إسحاق، ثم كانت بينهما وقعة أخرى في ذي الحجة فانهزم إسحاق أيضاً.
وفي هذه السنة وثب أولاد ملك الروم على أبيهم فقتلوه، وملك أحدهم بعده.
وفيها قبض الموفق على لؤلؤ غلام ابن طولون الذي كان قدم عليه بالأمان حين كان يقاتل الزنج بالبصرة، ولما قبضه قيده، وضيق عليه، وأخذ منه أربع مائة ألف دينار، فكان لؤلؤ يقول: ليس لي ذنب إلا كثرة مالي؛ ولم تنزل أموره في إدبار إلى أن افتقر ولم يبق له شيء، ثم عاد إلى مصر في آخر أيام هارون بن خمارويه، فريداً وحيدأن بغلام واحد، فكان هذا ثمرة العقل السخيف وكفر الإحسان.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق.
وفيها ثار السودان بمصر، وحصروا صاحب الشرطة، فسمع خمارويه ابن أحمد بن طولون الخبر، فركب، وفي يده سيف مسلول، وقصد دار صاحب الشرطة، وقتل كل من لقيه من السودان، فانهزموا منه، وأكثر القتل فيهم، وسكنت مصر وأمن الناس.
وفيها مات أبوداود سليمان بن الأشعث السجستاني، صاحب كتاب السنن، ومحمد بن زيد بن ماجة القزويني، وله أيضاً كتاب السنن، وكان عاقلأن إماماً عالماً؛ وتوفي الفتح بن شحرق أبوداود الكشي الصوفي، وكان موته ببغداد، وهومن أصحاب الأحوال الشريفة؛ وتوفي حنبل بن إسحاق.
حوادث سنة أربع وسبعين ومائتين
ذكر الحرب بين عسكر عمرو بن الليث وبين عسكر الموفقفي هذه السنة سار الموفق إلى فارس لحرب عمروبن الليث الصفار، فبلغ الخبر إلى عمرو، فسير العباس بن إسحاق في جمع كبير من العسكر إلى سيراف، وأنفذ ابنه محمد بن عمروإلى أرجان، وسير أبا طلحة شركب، صاحب جيشه، على مقدمته، فاستأمن أبوطلحة إلى الموفق، وسمع عمروذلك، فتوقف عن قصد الموفق.
ثم إن أبا طلحة عزم على العود إلى عمرو، فبلغ الموفق خبره فقبض عليه بقرب شيراز، وجعل ماله لابنه المعتضد أبي العباس، وسار يطلب عمرأن فعاد عمروإلى كرمان، ومنها إلى سجستان على المفازة، فتوفي ابنه محمد بالمفازة، ولم يقدر الموفق على اخذ كرمان وسجستان من عمروفعاد عنه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا بازمار، فأوغل في أرض الروم فأوقع فيها بكثير من أهلهأن وقتل وغمن، وسبى وأسر، وعاد سالماً إلى طرسوس.
وفيها دخل صديق الفرغاني دور سامرا فنهبهأن وأخذ أموال التجار منها وأفسد؛ وكان صديق هذا يحفر الطريق ويحميه، ثم صار يقطعه.
وحج بالناس هارون بن محمد.
وفيها توفي أبوالعباس بن الكبش بن المتوكل، وكان قد حبسه أخوه المعتمد ثم أطلقه.
وفيها توفي الحسن بن مكر، وعلي بن عبد الحميد الواسطي.
وفيها جمع إسحاق بن كنداج جمعاً كثيراً وسار نحوالشام، فبلغ الخبر خمارويه، فسار إليه وقد عبر الفرات، فالتقيأن وجرى بين الطائفتين قتال شديد، انهزم فيه إسحاق هزيمة عظيمة لم يرده شيء، حتى عبر الفرات وتحصن بهأن وسار خمارويه إلى الفرات، فعمل جسرأن فلما علم إسحاق بذلك سار من هناك إلى قلاع له قد أعدها وحصنهأن وأرسل إلى خماريه يخضع له، ويبذل له الطاعة في جميع ولايته، وهي الجزيرة وما والاهأن فأجابه إلى ذلك.
وصالحه ابن أبي الساج، وجمع جمعاً كثيرأن وسار نحوالشام قاصداً منازعة خمارويه حيث كان أبعد إلى مصر، فبلغ الخبر خمارويه، فخرج عن مصر في عساكره، فالتقيا في البثينة من أعمال دمشق، فاقتتلا قتالاً عظيمأن فانهزم ابن أبي الساج، وعاد منهزماً حتى عبر الفرات، فأحضر خمارويه ولد ابن أبي الساج، وكان رهينة عنده، فخلع عليه، وسيره إلى أبيه، وعاد إلى مصر.
حوادث سنة خمس وسبعين ومائتين
ذكر الاختلاف بين خمارويه وابن أبي الساجقد ذكرنا اتفاق ابن أبي الساج وخمارويه بن طولون، وطاعة ابن أبي الساج له، فلما كان الآن خالف ابن أبي الساج على خمارويه، فسمع خمارويه الخبر، فسار عن مصر في عساكره نحوالشام، فقدم إليه آخر سنة أربع وسبعين، فسار أبن أبي الساج إليه، فالتقوا عند ثنية العقاب بقرب دمشق، واقتتلوا في المحرم من هذه السنة، وكان القتال بينهمأن فانهزمت ميمنة خمارويه وأحاط باقي عسكره بابن أبي الساج ومن معه، فمضى منهزماً واستبح معسكره، وأخذت الأثقال والدواب وجميع ما فيه.
وكان قد خلف بحمص شيئاً كثيرأن فسير إليه خمارويه قائداً في طائفة من العسكر جريدة، فسبقوا ابن أبي الساج إليهأن ومنعوه من دخولها والاعتصام بهأن واستولوا على ما له فيهأن فمضى ابن أبي الساج منهزماً إلى حلب، ثم منها إلى الرقة، فتبعه خمارويه، ففارق الرقة، فعبر خمارويه الفرات، وسار في أثر ابن أبي الساج، فوصل خمارويه إلى مدينة بلد، وكان قد سبقه ابن أبي الساج إلى الموصل.
فلما سمع ابن أبي الساج بوصوله إلى بلد سار عن الموصل إلى الحديثة، وأقام خمارويه ببلد، وعمل له سريراً طويل الأرجل، فكأنه يجلس عليه في دجلة، هكذا ذكر أبوزكرياء يزيد بن إياس الأزدي الموصلي صاحب تاريخ الموصل: أن خمارويه وصل إلى بلد؛ وكان إماماً فاضلاً عالماً بما يقول وهويشاهد الحال.
ذكر الحرب بين ابن كنداج وابن أبي الساجلما انهزم ابن كنداج من ابن أبي الساج، كما ذكرناه، أقام إلى أن انهزم ابن أبي الساج من خمارويه، فلما وافى خمارويه بلداً أقام بهأن وسير مع إسحاق بن كنداج جيشاً كثيرأن وجماعة من القواد، ورحل يطلب ابن أبي الساج، فمضى بين يديه وابن كنداج يتبعه إلى تكريت، فعبر ابن أبي الساج دجلة، وأقام ابن كنداج، وجمع السفن ليعمل جسراً يعبر عليه، وكان يجري بين الطائفتين مراماة.
وكان ابن أبي الساج في نحوألفي فارس، وابن كنداج في شعرين ألفأن فلما رأى ابن أبي الساج اجتماع السفن سار عن تكريت إلى الموصل ليلأن فوصل إليها في اليوم الرابع، فنزل بظاهرها عن الدير الأعلى، وسار ابن كنداج يتبعه، فوصل إلى العزيق، فلما سمع ابن أبي الساج خبره سار إليه، فالتقوأن واقتتلوا عند قصر حرب، فاشتد القتال بينهم، وصبر محمد بن أبي الساج صبراً عظيمأن لأنه كان في قلة، فنصره الله، وانهزم ابن كنداج وجميع عسكره، ومضى منهزماً.
وكان أعظم الأسباب في هزيمته بغيه، فإنه لما قيل له: إن ابن أبي الساج قد أقبل نحوك من الموصل ليقاتلك، قال: أستقبل الكلب! فعد الناس هذا بغياً وخافوا منه، فلما انهزم، وسار إلى القة، تبعه محمد إليهأن وكتب إلى أبي أحمد الموفق يعرفه ما كان فيه، ويستأذنه في عبور الفرات إلى الشام، بلاد خمارويه، فكتب إليه الموفق يشكره، ويأمره بالتوقف إلى أن تصله الإمداد من عنده.
وأما ابن كنداج فإنه سار إلى خمارويه، فسير معه جيشأن فوصلوا إلى الفرات، فكان إسحاق بن كنداج، وابن أبي الساج بالرقة، ووكل بالفرات من يمنع من عبورهأن فبقوا كذلك مدة.
ثم إن ابن كنداج سير طائفة من عسكره، فعبروا الفرات في غير ذلك الموضع، وساروا فلم تشعر طائفة عسكر ابن أبي الساج، وكانوا طليعة، إلا وقد أوقعوا بهم، فانهزموا من عسكر إسحاق إلى الرقة، فلما رأى ابن أبي الساج ذلك سار عن الرقة إلى الموصل، فلما وصل إليها طلب من أهلها المساعدة بالمال، وقال لهم: ليس بالمضطر مروءة؛ فأقام بها نحوشهر، وانحدر إلى بغداد، فاتصل بأبي أحمد الموفق في ربيع الأول من سنة ست وسبعين ومائتين، فاستصحبه معه إلى الجبل، وخلع عليه، ووصله بمال، وأقام ابن كنداج بديار ربيعة وديار مضر من أرض الجزيرة.
ذكر الحرب بين الطائي وفارس العبديوفيها ظهر فارس العبدي في جمع، فأخاف السبيل، وسار إلى دور سامرا ونهب، فسار إليه الطائي مقاتلأن فهزمه الطائي، وأخذ سواده، ثم سار الطائي إلى دجلة ليعبرهأن فدخل طيارة له، لأدركه بعض أصحاب فارس، فتعلقوا بكوثل الطيارة، فرمى الطائي نفسه في الماء وسبح، فلما خرج منه نفض لحيته وقال: أيش ظن العبدي؟ أليس أنا أسبح من سمكة؟ ثم نزل الطائي السن والعبدي بإزائه، وقال علي بن بسام في الطائي:
قد أقبل الطائي ما أقبلا ... يفتح في الأفعال ما أجملا
كأنه من لين ألفاظه ... صبية تمضع جهد البلا
وجهد البلا ضرب من النافط يتعلك.
وفيها قبض الموفق على الطائي وقيده، وختم على كل شيء له، وكان يلي الكوفة وسوادهأن وطريق خراسان، وسامرأن والشرطة ببغداد، وخراج بادوريأن وقطربل، ومسكن.
ذكر قبض الموفق على ابنه المعتضد باللهفي هذه السنة، في شوال، قبض الموفق على ابنه المعتضد بالله أبي العباس أحمد.
وسبب ذلك أن الموفق دخل إلى واسط ونزل بهأن ثم عاد إلى بغداد، وتخلف المعتمد على اله بالمدائن، وأمر الموفق ابنه أن يسير إلى بعض الوجوه، فقال: لا أخرج إلا إلى الشام لأنها الولاية التي ولانيها أمير المؤمنين. فلما امتنع عليه أمر بإحضاره، فلما حضر أمر بعض خدمه أن يحبسه في حجرة في داره، فلما قام المعتضد تقدم إليه الخادم وأمره بدخول تلك الدار، فدخل ووكل بع فيها.
وثار القواد من أصحابه ومن تبعهم وركبوأن واضطربت بغداد لما رأوا السلاح والقواد، فركب الموفق إلى الميدان وقال لهم: ما شأنكم؟ أترون أشفق على ولدي مني، وقد احتجت إلى تقويمه! فانصرفوا.
في هذه السنة سار الطائي إلى سامرا بسب صديق، فراسله وأمنه، ودخل سامرا في جماعة من أصحابه، فأخذهم الطائي وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف،وحملهم إلى بغداد.
وفيها غزا بازمار في البحر، فغمن من الروم أربعة مراكب.
ذكر استيلاء رافع بن هرثمة على جرجانفي هذه السنة سار رافع بن هرثمة إلى جرجان، فأزال عنها محمد بن زيد، وسار محمد إلى استراباذ، فحصره فيها رافع، وأقام عليه نحوسنتين، فغلت الأسعار بحيث لم يوجد ما يؤكل، وبيع وزن درهم ملح بدرهمين فضة، وفارقها محمد بن زيد ليلاً في نفر يسير إلى سارية، فسير إليه رافع عسكرأن فتحاربأن وسار محمد عن سارية وعن طبرستان، وذلك في ربيع الأول سنة سبع وسبعين ومائتين، واستأمن رستم بن قارن إلى رافع بطبرستان، فصاهره ابن قوله.
وقدم على رافع، وهوبطبرستان، علي بن الليث، وكان قد حبسه أخوه عمروبكرمان، فاحتال حتى تخلص هووابناه المعدل والليث، وأنفذ رافع إلى شالوس محمد بن هارون نائباً عنه، فأتاه بها علي بن كالي مستأمنأن فأتاهما محمد بن زيد وحصرهما بشالوس، وأخذ الطريق عليهمأن فلم يصل منهما إلى رافع خبر، فلما تأخر خبرهما عنه أرسل جاسوساً يأتيه بأخبارهمأن فعاد إليه فأخبره بحصر محمد بن زيد إياهما بشالوس، فعظم عليه، وسار إليهمأن فرحل عنهما محمد بن زيد إلى أرض الديلم، فدخل رافع خلفه أرض الديلم فخرقها حتى اتصل بحدود قزوين، وعاد إلى الري، وأقام بها إلى أن توفي الموفق في رجب سنة ست وسبعين ومائتين.
ذكر وفاة المنذر بن محمد الأمويوفيها في المحرم توفي المنذر بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأموي، صاحب الأندلس، وقيل في صفر، وكانت ولايته سنة واحدة وأحد عشر شهراً وعشرة أيام، وكان عمره نحواً من ست وأربعين سنة.
وكان أسمر طويلاً بوجهه أثر جدري، جعدأن كث اللحية، وخلف ستى ذكرو، وكان جواداً يصل الشعراء ويحب الشعر.
ولما توفي بويع أخوه عبد اله بن محمد، بويع له يوم موت أخيه، وكنيته أبومحمد، أمه أم ولد اسمها عشار توفيت قبل ابنها بسنة، وفي أيامه امتلأت الأندلس بالفتن، وصار في كل جهة متغلب، ولم تزل كذلك طول ولايته.
ذكر عدة حوادثوفيها توفي أبوبكر أحمد بن محمد بن الحجاج المروروذي، وهوصاحب أحمد بن حنبل؛ وعبد الله بن يعقوب بن إسحاق العطار الموصلي التميمي، وكان كثير الحديث والرواية، وكان معدلاً عند الحكام.
وفيها توفي أبوسعيد الحسن بن الحسين بن عبد الله البكري النحوي الغوي المشهور، صاحب التصانيف، وقيل توفي سنة سبعين، والأول أصح.
حوادث سنة ست وسبعين ومائتينفي هذه السنة جعلت شرطة بغداد إلى عمروبن الليث، وكتب اسمه على الأعلام والترسة وغيرهأن وكان ذلك في شوال، ثم ترتب في الشرطة عبيد الله بن طاهر من قبل عمرو، ثم أمره بطرح اسم عمروعن الأعلام وغيرها في شوال من هذه السنة.
وفيهأن في منتصف شهر ربيع الأول، سار الموفق إلى بلاد الجبل، وسبب مسيره أن الماذرائي، كاتب أذكوتكين، أخبره أن له هناك مالاً عظيمأن وأنه إن سار معه أخذه جميعه، فسار إليه، فلم يجد المال، فلما لم يجد شيئاً سار إلى الكرج، ثم إلى أصبهان يريد أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، فتنحى أحمد عن البلد بجيشه وعياله، وترك داره بفرشها لينزلها الموفق إذا قدم.
وفيها استعمل الموفق بالله على أذربيجان ابن أبي الساج، فسار إليهأن فخرج إليه عبد الله بن الحسن الهمداني، صاحب مراغة، ليصدره عنهأن فحاربه، فانهزم عبد الله وحصر، وأخذت منه سنة ثمانين ومائتين، كما نذكره، واستقر ابن أبي الساج لعمله.
وفيها توفي محمد بن حماد بن إسحاق بن حماد بن يزيد القاضي.
وفيها قتل عامل الموصل لاين كنداج إنساناً من الخوارج اسمه نعيم، فسمع هارون وتقدم الخوارج بذلك وهوبحديثه الموصل، فجمع أصحابه وسار إلى الموصل يريد حرب أهلهأن فنزل شرقي دجلة، فأرسل إليه أعيانهم ومقدموهم يسألونه ما الذي أقدمه؟ فذكر قتل نعيم؛ فقالوا: إمنا قتله عامل السلطان من غير اختيار منأن وطلبوا منه الأمان ليحضروا عنده يعتذرون، ويتبرئون من قتله، فأمنهم، فخرج إليه جماعة من أهل الموصل وأعيانهم، وتبرؤوا من قتله، فرحل عنهم.
وفيها عاد حجاج اليمن عن مكة، فنزلوا واديأن فأتاهم السيل فحملهم جميعهم وألقاهم في البحر.
وفيها توفي أبوقلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي البصري، وكان يسكن بغداد.
وفيها ورد الخبر بانفراج تل من نهر البصرة، يعرف بتل شقيق، عن سبعة أقبر فيها سبعة أبدان صحيحة، والقبور في شبه الحوض من حجر في لون المسن، عليه كتاب لا يدري ما هو، وعليهم أكفان جدد ويفوح منها ريح المسك، أحدهم شاب له جمة وعلى شفتيه بلل كأنه قد شرب ماء، كأنه قد كحل، وبه ضربة في خاصرته.
وحج بالناس هارون بن محمد الهاشمي.
وفيها توفي أبومحمد عبد اله بن مسلم بن قتيبة، صاحب كتاب: أدب الكاتب، وكتاب المعارف، وهوكوفي، وإمنا قيل له الدينوري لأنه كان قاضيهأن وقيل مات سنة سبعين؛ وأبوسعيد الحسن بن الحسين بن عبد الله اليشكري النحوي الراوية، وكان مولده سنة اثنتي عشرة ومائتين.
وفيها توفي محمد بن علي أبوجعفر القصاب الصوفي، وهومن أقران السري وصحبه الجنيد كثيراً.
حوادث سنة سبع وسبعين ومائتينفي هذه السنة دعا بازمار بطرسوس لخماريه بن أحمد بن طولون.
وسبب ذلك أن خمارويه أنفذ إليه ثلاثين ألف دينار، وخمسمائة ثوب، وخمسمائة مطرف، وسلاحاً كثيرأن فلما وصل إليه دعا له، ثم وجه إليه بخمسين ألف دينار.
وفيهأن في شهر ربيع الآخر، كان بين وصيف خادم ابن أبي الساج والبرابرة أصحاب أبي الصقر قتنة، فاقتتلوأن فقتل بينهم جماعة؛ كان ذلك بباب الشام، فركب أبوالصقر ففرقهم.
وفيها ولي يوسف بن يعقوب المظالم، وأمر من ينادي: من كانت له مظلمة قبل الأمير الناصر لدين الله الموفق، أوأحد من الناس، فليحضر.
وفيهأن في شعبان، قدم بغداد قائد عظيم من قواد خمارويه بن أحمد بن طولون في جيش عظيم؛ وحج بالناس هارون بن محمد بن عيسى الهاشمي.
وفيها توفي أبوجعفر أحمد بن أبي المثنى الموصلي، وكان كثير الحديث، وهومن أهل الصدق والأمانة.
وفيها توفي أبوحاتم الرازي، واسمه محمد بن إدريس بن المنذر، وهومن أقران البخاري ومسلم.
ومات فيها يعقوب بن سفيان بن حوان السري، وكان يتشيع؛ ويعقوب ابن يوسف بن معقل الأموي، والد أبي العباس الأصم.
وفيها توفيت عريب المغنية المأمونية، وقيل إنها ابنة جعفر بن يحيى ابن خالد بن بمك، وكان مولدها سنة إحدى وثمانين ومائة.
وفيها توفي أبوسعيد الخراز، واسمه أحمد بن عيسى، وقيل سنة ست وثمانين، والأول أشبه بالصواب.
الخراز بالخاء المعجمة والراء والزاي.
حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين
ذكر الفتنة ببغدادفيها كانت الحرب ببغداد بين أصحاب وصيف الخادم والبربر، وأصحاب موسى ابن أخت مفلح، أربعة أيام من المحرم، ثم أصطلحوأن وقد قتل بينهم جماعة، ثم وقع بالجانب الشرقي وقعة بين أصحابه يونس قتل فيها رجل، ثم انصرفوا.
ذكر وفاة الموفقوفيها توفي أبوأحمد الموفق بالله بن المتوكل، وكان قد مرض في بلاد الجبل، فانصرف وقد اشتد به وجع النقرس، فلم يقدر على الركوب، فعمل على سرير عليه قبة، فكان يقعد عليه، وخادم له يبرد رجله بالأشياء الباردة، حتى إنه يضع عليها الثلج، ثم صارت علة برجله، داء الفيل، وهوورم عظيم يكون في الساق، يسيل منه ماء، وكان يحمل سريره أربعون رجلاً بالنوبة، فقال لهم يوماً: قد ضجرتم من حملي، بودي أن أكون كواحد منكم أحمل على رأسي، وآكل، وأنا في عافية.
وقال في مرضه: أطبق ديواني على مائة ألف مرتزق، ما أصبح فيهم أسوأ حالاً مني؛ فوصل إلى داره لليلتين خلتا من صفر، وشاع موته بعد انصرف أبي الصفر من داره، وكان تقدم بحفظ أبي العباس، فأغلقت عليه أبواب دون أبواب، وقوي الإرجاف بموته، وكان قد اعترته غشية، فوجه أبوالصقر إلى المدائن، فحمل منها المعتمد وأولاده، فجيء بهم إلى داره، ولم يسر أبوالصقر إلى دار الموفق.
فلما رأى غلمان الموفق الماثلون إلى أبي العباس والرؤساء من غلمان أبي العباس ما نزل بالموفق، كسورا الأقفال والأبواب المغلقة على أبي العباس، فلما سمع أبوالعباس ذلك ظن أنهم يريدون قتله، وأخذ سيفه بيده، وقال غلام عنده: واله لا يصلون إلي وفي شيء من الروح! فلما وصلوا إليه رأى في أولهم غلامه وصيفاً موشكير، فلما رآه ألقي السيف من يده، وعلم أنهم ما يريدون إلا الخير، فأخرجوه وأقعدوه عند أبيه، فلا فتح عينه رآه، فقربه وأدناه إليه.
وجمع أبوالصقر عنده القواد والجند، وقطع الجسرين، وحاربه قوم من الجانب الشرقي، فقتل بينهم قتلى، فلما بلغ الناس أن الموفق حي حضر عنده محمد بن أبي الساج، وفارق أبا الصقر، وتسلل القواد والناس عن أبي الصقر؛ فلما رأى أبوالصقر ذلك حضر هووابنه دار الموفق، فما قال له الموفق شيئاً مما جرى، فأقام في داره الموفق، فلما رأى المعتمد أنه بقي في الدار نزل هووبنوه وبكتمر، فركبوا زورقاً فلقيهم طيار لأبي ليلى بن عبد العزيز بن أبي دلف، فحمله فيه إلى دار علي بن جهشيار.
وذكر أعداء أبي الصقر أنه أراد أن يقرب إلى المعتمد بمال الموفق أسبابه، وأشاعوا ذلك عنه عند أصحاب الموفق، فنهبت دار أبي الصقر، حتى أخرجت نساؤه منها حفاة بغير أزر، ونهب ما يجاورها من الدور، وكسرت أبواب السجون وخرج من كان فيها.
وخلق الموفق على ابنه أبي العباس، وعلى أبي الصقر، وركبا جميعأن فمضى أبوالعباس إلى منزله، وأبوالصقر إلى منزله وقد نهب، فطلب حصيرة يقعد عليها عارية؛ فولى أبوالعباس غلامه بدراً الشرطة، واستخلف محمد بن غامن بن الشاة على الجانب الشرقي.
ومات الموفق يوم الأربعاء لثمان بقين من صفر من هذه السنة، ودفن ليلة الخميس بالرصافة، وجلس أبوالعباس للتعزية.
وكان الموفق عادلأن حسن السيرة، يجلس لمظالم وعنده القضاة وغيرهم، فينتصف الناس بعضهم من بعض، وكان عالماً بالأدب، والنسب، والفقه، وسياسة الملك، وغير ذلك.
قال يوماً: إن جدي عبد الله بن العباس قال: إن الذباب ليقع على جليسي فيؤذيني ذلك؛ وهذا نهاية الكرم، وأنا والله أرى جلسائي بالعين التي أرى بها إخواني، والله لوتهيأ لي أن أغير أسماءهم لنقلتها من الجلساء إلى الأصدقاء والإخوان.
وقال يحيى بن علي: دعا الموفق يوماً جلساءه، فسبقتهم وحدي، فلما رآني وحدي أنشد يقول:
واستصحب الأصحاب حتى إذا دنوا ... وملوا من الإدلاج جئتكم وحدي
فدعوت له، واستحسنت إنشاده في موضعه، وله محاسن كثيرة ليس هذا موضع ذكرها.
ذكر البيعة للمعتضد بولاية العهدلما مات الموفق اجتمع القواد وبايعوا ابنه أبا العباس بولاية العهد بعد المفوض ابن المعتمد، ولقب المعتضد بالله، وخطب له يوم الجمعة بعد المفوض، وذلك لسبع ليال بقين من صفر، واجتمع عليه أصحاب أبيه، وتولى ما كان أبوه يتولاه.
وفيها قبض المعتمد على أبي الصقر وأصحابه، وانتهب منازلهم، وطلب بني الفرات فاختفوأن وخلع على عبيد اله بن سليمان بن وهب، وولاه الوزارة، وسير محمد بن أبي الساج إلى واسط ليرد غلامه وصيفاً إلى بغداد، فمضى وصيف إلى السوس فعاث بها ونهب الطيب، وأبى الرجوع إلى بغداد.
وفيها قتل علي بن الليث أخوالصفار، قتله رافع بن هرثمة، وكان قد يحنق به، وترك أخاه.
وفيها غار ماء النيل، فغلت الأسعار بمصر.
ذكر ابتداء أمر القرامطة
وفيها تحرك بسواد الكوفة قوم يعرفون بالقرامطة، وكان ابتداء أمرهم، فيما ذكر، أن رجلاً منهم قدم من ناحية خوزستان إلى سواد الكوفة، فكان بموضع يقال له النهرين، يظهر الزهد والتقشف، ويسف الخوص، ويأكل من كسب يده، ويكثر الصلاة، فأقام على ذلك مدة فكان إذا قعد إليه رجل ذاكره أمر الدين وزهده في الدنيأن وأعلمه أن الصلاة المفروضة على الناس خمسون صلاة في كل يوم وليلة، حتى فشا ذلك عنه بموضعه، ثم أعلمهم أنه يدعوإلى إمام من آل بيت الرسول، فلم يزل على ذلك حتى استجاب له جمع كثير.
وأن يقعد إلى بقال هناك: فجاء قوم إلى البقال يطلبون منه رجلاً يحفظ عليهم ما صرموا من نخلهم، فدلهم عليه وقال لهم: إن أجابكم إلى حفظ تمركم فإنه بحيث تحبون؛ فكلموه في ذلك؛ فأجابهم على أجرة معلومة، فكان يحفظ لهم، ويصلي اكثر نهاره، ويصوم، ويأخذ عند إفطاره من البقال رطل تمر فيفطر عليه، ويجمع نوى ذلك التمر ويعطيه البقال، فلما حمل التجار تمرهم حاسبوا أجيرهم عند البقال، ودفعوا إليه أجرته، وحاسب الأجير البقال على ما أخذ منه من التمر، وحط ثمن النوى، فسمع أصحاب التمر محاسبته لبقال بثمن النوى فضربوه وقالوا له: ألم ترض بأكل تمرنأن حتى بعت النوى؟ فقال لهم البقال: لا تفعلوا! وقص عليهم القصة، فندموا على ضربه، واستحلوا منه ففعل، وازداد بذلك عند أهل القرية لما وقفوا عليه من زهده.
ثم مرض، فمكث على الطريق مطروحأن وكان في القرية رجل أحمر العينين، يحمل على أثوار له، يسمونه كرميته لحمرة عينيه، وهوبالنبطية أحمر العين، فكلم البقال الكرميتة في حمل المريض إلى منزله والعناية به، ففعل، وأقام عنده حتى برأن ودعا أهل تلك الناحية إلى مذهبه، فأجابوه، وكان يأخذ من الرجل إذا أجابه دينارأن ويزعم أنه للإمام، واتخذ منهم اثني عشر نقيباً أمرهم أن يدعوا الناس إلى مذهبهم، وقال: أنتم كحواريي عيسى بن مريم. فاشتغل أهل كور تلك الناحية عن أعمالهم بما رسم لهم من الصلوات. وكان للهيصم في تلك الناحية ضياع، فرأى تقصير الأكرة في عمارتهأن فسأل عن ذلك، فأخبر بخبر الرجل، فأخذه وحبسه، وحلف أن يقتله لما اطلع على مذهبه، وأغلق باب البيت عليه، وجعل مفتاح البيت تحت وسادته، واشتغل بالشرب، فسمع بعض من في الدار من الجواري بحبسه، فرقت للرجل، فلما نسام الهيصم أخذت المفتاح وقتحت الباب وأخرجته، ثم أعادت المفتاح إلى مكانه، فلما أصبح الهيصم فتح الباب ليقتله فلم يجده.
وشاع ذلك في الناس، فافتتن أهل تلك الناحية، وقالوا: رفع، ثم ظهر في ناحية أخرى، ولقي جماعة من أصحابه وغيرهم، وسألوه عن قصته فقال: لا يمكن أحداً أن ينالني بسوء! فعظم في أعينهم، ثم خاف على نفسه، فخرج إلى ناحية الشام، فلم يوقف له على خبر، وسمي باسم الرجل الذي كان في داره كرميتة صاحب الأنوار؛ ثم خفف فقيل قرمط، هكذا ذكره بعض أصحاب زكرويه عنه.
وقيل إن قرمط لقب رجل كان بسواد الكوفة يحمل غلة السواد على أثوار له، واسمه حمدان؛ ثم فشا مذهب القرامطة بسواد الكوفة، ووقف الطائي أحمد بن محمد على أمرهم، فجعل على الرجل منهم في السنة دينارأن فقدم قوم من الكوفة، فرفعوا أمر القرامطة والطائي إلى السلطان، وأخبروه أنهم قد أحدثوا ديناً غير دين الإسلام، وأنهم يرون السيف على أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، إلا من بايعهم، فلم يلتفت إليهم ولم يسمع قولهم.
وكان فيما حكي عن القرامطة من مذهبهم أنهم جاؤوا بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم! يقول الفرج بن عثمان، وهومن قرية يقال لها نصرانة، داعية المسيح، وهوعيسى، وهوالكلمة، وهوالمهدي، وهوأحمد بن محمد بن الحنيفة، وهوجبريل؛ وذكر أن المسيح تصور له في جسم إنسان، وقال له: إنك الداعية، وإنك الحجة، وإنك الناقة، وإنك الدابة، وإنك يحيى بن زكرياء، وإنك روح القدس.
وعرفه أن الصلاة أربع ركعات: ركعتان قبل طلوع الشمس، وركعتان بعد غروبهأن وأن الأذان في كل صلاة أن يقول المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، مرتين، أشهد أن آدم رسول الله، أشهد أن نوحاً رسول الله، أشهد أن إبراهيم رسول الله، أشهد أن موسى رسول الله، أشهد أن عيسى رسول الله؛ أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن أحمد ابن محمد بن الحنيفة رسول اله، وأن يقرا في كل ركعة الاستفتاح، وهي من المنزل على أحمد بن محمد بن الحنيفة، والقبلة إلى بيت المقدس، والحج إلى بيت المقدس، وأن الجمعة يوم الاثنين لا يعمل فيه شيء، والسورة: الحمد لله بكلمته، وتعالى باسمه، المتخذ لأوليائه بأوليائه.
(يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس) البقرة: 189، ظاهرها ليعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام، وباطنها أوليائي الذين عرفوا عبادي سبيلي اتقوني يا أولي الألباب، وأنا الذي لا أسأل عما أفعل، وأنا العليم الحكيم، وأنا الذي أبلوعبادي، وامتحن خلقي، فمن صبر على بلائي، ومحنتي، واختباري ألقيته في جنتي، وأخلدته في نعمتي، ومن زال عن أمري، وكذب رسلي أخذته مهاناً في عذابي، وأتممت أجلي، وأظهرت أمري على ألسنة رسلي.
وأنا الذي لم يعلوعلي جبار إلا وضعته، ولا عزيز إلا أذللته، وليس الذي أصر على أمري ودام على جهالته، وقالوا: لن نبرح عليه عاكفين، وبه موقنين، أولئك هم الكافرون.
ثم يركع، ويقول في ركوعه: سبحان ربي رب العزة وتعالى عما يصف الظالمون، يقولها مرتين فإذا سجد قال: الله أعلى، الله أعلى، الله أعظم، الله أعظم.
ومن شريعته أن يصوم يومين في السنة، وهما المهرجان والنيروز، وأن النبيذ حرام، والخمر حلال، ولا غسل من جنابة إلا الوضوء كوضوء الصلاة، وأن من حاربه وجب قتله، ومن لم يحاربه ممن يخالفه أخذ منه الجزية، ولا يؤكل كل ذي ناب، ولا كل ذي مخلب.
وكان مسير قرمط إلى سواد الكوفة قبل قتل صاحب الزنج، فسار قومط إليه وقال له: إني على مذهب رأي، ومعي مائة ألف ضارب سيف، فتناظرني، فإن اتفقنا على المذهب ملت إليك بمن معي، وإن تكن الأخرى انصرفت عنك. فتناظرا، فاختلفت رؤاهما، فانصرف قرمط عنه.
ذكر غزو الروم ووفاة بازمارفيهأن في جمادى الآخرة، دخل أحمد العجيفي طرسوس، وغزا مع بازمار الصائفة، فبلغوا شكند، فأصابت بازمار شظية من حجر منجنيق في أضلاعه، فارتحل عنها بعد أن أشرف على أخذهأن فتوفي في الطريق منتصف رجب، وحمل إلى طرسوس فدفن بها.
وكان قد أطاع خمارويه بن أحمد بن طولون، فلما توفي خلفه ابن عجيف، وكتب إلى خمارويه يخبره بوته، فأقره على ولاية طرسوس، وأمده بالخيل والسلاح والذخائر وغيرهأن ثم عزله، واستعمل عليها ابن عمه محمد بن موسى بن طولون.
ذكر الفتنة بطرسوسوفيها ثار الناس، بطرسوس، بالأمير محمد بن موسى، فقبضوا عليه.
وسبب ذلك أن الموفق لما توفي كان له خادماً من خواصه يقال له: راغب، فاختار بالجهاد، فسار إلى طرسوس على عزم المقام بهأن فلما وصل إلى الشام سير ما معه من دواب وآلات وخيام وغير ذلك إلى طرسوس، وسار هوجريدة إلى خمارويه ليزوره، ويعرفه عزمه، فلما لقيه بدمشق أكرمه خمارويه، وأحبه، وأنس به، واستحيا راغب أن يطلب منه المسير إلى طرسوس، فطال مقامه عنده، فظن أصحابه أن خمارويه قبض عليه، فأذاعوا ذلك، فاستعظمه الناس، وقالوا: يعمد إلى رجل قصد الجهاد في سبيل الله فيقبض عليه! ثم شغبوا على أميرهم محمد ابن عم خمارويه، وقبضوا عليه، وقالوا: لا يزال في الحبس إلى أن يطلق ابن عمك راغباً؛ ونهبوا داره، وهتكوا حرمه.
وبلغ الخبر إلى خمارويه، فأطلع راغباً عليه، وأذن له على في المسير إلى طرسوس، فلما بلغ إليها أطلق أهلها أميرهم، فلما أطلقوه قال لهم: قبح الله جواركم! وسار عنها إلى البيت المقدس، فأقام به، ولما سار عن طرسوس عاد العجيفي إلى ولايتها.
ذكر عدة حوادثوفيها ظهر كوكب ذو جمة، وصارت الجمة ذؤابة.
وحج بالناس هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي.
وتوفي فيها عبد الكريم الدير عاقولي.
وفيها توفي إسحاق بن كنداج، وولي ما كان إليه من أعمال الموصل وديار ربيعة ابنه محمد.
وتوفي إدريس بن سليم الفقعسي الموصلي، وكان كثير الحديث والصلاح.
حوادث سنة تسع وسبعين ومائتين
ذكر خلع جعفر بن المعتمد
وولاية المعتضدفي هذه السنة، في المحرم، خرج المعتمد على الله، وجلس للقواد والقضاة ووجوه الناس، وأعلمهم أنه خلع ابنه المفوض إلى الله جعفراً من ولاية العهد، وجعل ولاية العهد للمعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق، وشهدوا على المفوض أنه قد تبرأ من العهد، وأسقط اسمه من السكة، والخطبة، والطراز، وغير ذلك، وخطب للمعتضد، وكان يوماً مشهوداً. فقال يحيى بن علي يهنئ المعتضد:
ليهنك عقد أنت فيه المقدم ... حباك به رب بفضلك أعلم
فإن كنت قد أصبحت والي عهدنا ... فأنت غداً فينا الإمام المعظم
ولا زال من ولاك فينا مبلغاً ... مناه، ومن عاداك يشجى ويرغم
وكان عمود الدين فيه تأود ... فعاد بهذا العهد وهومقوم
وأصبح وجه الملك جذلان ضاحكاً ... يضيء لنا منه الذي كان يظلم
فدونك فاشدد عقد ما قد حويته ... فإنك دون الناس فيه المحكم
وفيها نودي بمدينة السلام أن لا يقعد على الطريق ولا في المسجد الجامع قاض، ولا منجم، ولا زاجر، وحلف الوراقون أن لا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفة.
وفيها قبض على جراد كاتب أبي الصقر إسماعيل بن بلبل.
وفيها انصرف أبوطلحة منصور بن مسلم من شهرزور، وكانتله، فقبض عليه.
ذكر الحرب بين الخوارح وأهل الموصل والأعرابفي هذه السنة اجتمعت الخوارج، ومقدمهم هارون، ومعهم متطوعة أهل الموصل وغيرهم، وحمدان بن حمدون التغلبي، على قتال بني شيبان.
وسبب ذلك أن جمعاً كثيراً من بني شيبان عبروا الزاب، وقصدوا نينوى من أعمال الموصل، للإغارة عليها وعلى البلد، فاجتمع هارون الشاري، وحمدان بن حمدون، وكثير من المتطوعة المواصلة، وأعيان أهلهأن على قتالهم ودفعهم.
وكان بنوشيبان نزلوا على باعشيقا، ومعهم هارون بن سليمان، مولى أحمد بن عيسى بن الشيخ الشيباني، صاحب ديار بكر، وكان قد أنفذه محمد ابن إسحاق بن كنداج والياً على الموصل، فلم يمكنه أهلها من المقام عندهم، فطردوه، فقصد بني شيبان معاوناً على الخوارج وأهل الموصل، فالتقوأن وتصافوأن واقتتلوأن فانهزمت بنوشيبان، وتبعهم حمدان والخوارج، وملكوا بيوتهم، واشتغلوا بالنهب.
وكان الزاب لما عبره بنوشيبان زائدأن فلما انهزموا علموا أن لا ملجأ ولا منجى غير الصبر، فعادوا إلى القتال، والناس مشغولون بالنهب، فأوقعوا بهم، وقتل كثير من أهل الموصل ومن معهم وعاد الظفر للأعراب.
وكتب هارون بن سيما إلى محمد بن إسحاق بن كنداج يعرفه أن البلد خارج عن يده إن لم يحضر هوبنفسه، فسار في جيش كثيف يريد الموصل، فخافه أهلهأن فانحدر بعضهم إلى بغداد يطلبون إرسال وال إليهم، وإزالة ابن كنداج عنهم، فاجتازوا في طريقهم بالحديثة، وبها محمد بن يحيى المجروح يحفظ الطريق، قد ولاه المعتضد ذلك، وقد وصل إليه عهد بولايته الموصل، فحثوه على تعجيل الير وأن يسبق محمد بن كنداج إليهأن وخوفوه من ابن كنداج إن دخل الموصل قبله، فسار، فسبق محمد إليهأن ووصل محمد بن كنداج إلى بلد، فبلغه دخول المجروح الموصل، فندم على التباطؤ وكتب إلى خمارويه بن طولون يخبره الخبر، فأرسل أبا عبد الله بن الخصاص بهدايا كثيرة إلى المعتضد، ويطلب أموراً، منها إمرة الموصل كما كانت له قبل، فلم يجب إلى ذلك، وأخبره كراهة أهل الموصل من عماله، فأعرض عن ذكرها.
وبقي المجروح بالموصل يسيرأن وعزله المعتضد، واستعمل بعده علي ابن داود بن زهراد الكردي، فقال شاعر يقال له العجيني:
ما رأى الناس لهذا ال ... دهر مذ كانوا شبيهاً
ذلت الموصل حتى ... أمر الأكراد فيها
ذكر وفاة المعتمدوفيها توفي المعتمد على الله ليلة الاثنين لإحدى عشرة بقيت من رجب ببغداد، وكان قد شرب على الشط في الحسني ببغداد، يوم الأحد، شراباً كثيرأن وتعشى فأكثر، فمات ليلاً؛ وأحضر المعتمد القضاة وأعيان الناس، فنظروا إليه، وحمل إلى سامرا فدفن بهأن وكان عمره خمسين سنة وستة أشهر، وكان آسن من الموفق بستة اشهر، وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وستة أشهر.
وكان في خلافته محكوماً عليه، قد تحكم عليه اخوة أبوأحمد الموفق، وضيق عليه، حتى إنه احتاج، في بعض الأوقات، إلى ثلاثمائة دينار، فلم يجدها ذلك الوقت، فقال:
أليس من العجائب أن نثلي ... يرى ما قل ممتنعاُ عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعاً ... وما من ذاك شيء في يديه
إليه تحمل الأموال طراً ... ويمنع بعض ما يجبى إليه
وكان أول الخلفاء انتقل من سر من رأى، مذ بنيت، ثم لم يعد إليها أحد منهم.
ذكر خلافة أبي العباس المعتضدوفي صبيحة الليلة التي مات فيها المعتمد بويع لأبي العباس المعتضد بالله أحمد بن الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل بالخلافة، فولى غلامه بدراً الشرطة، وعبيد الله بن سليمان الوزارة، ومحمد بن الشاه بن مالك الحرس، ووصله في شوال رسول عمروبن اليث ومعه هدايا كثيرة، وسأله أن يوليه خراسان، فعقد له عليهأن وسير إليه الخلع واللواء والعهد، فنصب الواء في داره ثلاثة أيام.
ذكر وفاة نصر السامانيوفيها مات نصر بن أحمد الساماني، وقام بما كان إليه من العمل بما وراء النهر، أخوه إسماعيل بن أحمد، وكان نصر دينأن عاقلأن له شعر حسن، منه ما قاله في رافع بن هرثمة:
أخوك فيك على خبر ومعرفة ... إن الذليل ذليل حيثما كانا
لولا زمان خؤون في تصرفه ... ودولة ظلمت ما كنت إنساناً
ذكر عزل رافع بن هرثمة من خراسان وقتلهوفيها عزل المعتضد رافع بن هرثمة عن خراسان.
وسبب ذلك أن المعتضد كتب إلى رافع بتخلية قرى السلطان بالري، فلم يقبل، فأشار على رافع أصحابه برد القوى لئلا يفسد حاله بكتاب، فلم يقبل أيضأن وكتب المعتضد إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف يأمره بمحاربة رافع وإخراجه عن الري، وكتب إلى عمروبن الليث بتوليته خراسان.
ثم إن أحمد بن عبد العزيز لقي رافعاً فقاتله، فانهزم رافع عن الري وسار إلى جرجان، ومات أحمد بن عبد العزيز سنة ثمانين ومائتين، فعاد رافع إلى الري، فلاقاه عمرووبكر ابنا عبد العزيز، فاقتتلوا قتالاً شديدأن فانهزم عمرووبكر، وقتل من أصحابهما مقتلة عظيمة، ووصلوا إلى أصبهان، وذلك في جمادى الأولى سنة ثمانين.
وأقام رافع بالري باقي سنته، ومات علي بن الليث معه في الري، ثم إن عمروبن الليث وافى نيسابور في جمادى الأولى سنة ثمانين واستولى عليها وعلى خراسان، فبلغ الخبر إلى رافع، فجمع أصحابه واستشارهم فيما يفعل، وقال لهم: إن الأعداء قد أحدقوا بنأن ولا آمن أن يتفقوا علينا؛ هذا محمد بن زيد بالديلم ينتظر فرصة لينتهزها؛ وهذا عمروبن عبد العزيز قد فعلت به ما فعلت، فهويتربص الدوائر؛ وهذا عمروبن الليث قد وافى خراسان بجموعه؛ وقد رأيت أن أصالح محمد بن زيد وأعيد إليه طبرستان، وأصالح ابن عبد العزيز، ثم أسير إلى عمروفأخرجه عن خراسان، فوافقوه على ذلك، وأرسل إلى ابن عبد العزيز فصالحه، واستقر الأمر بينهما في شعبان سنة ثمانين.
ثم سار إلى طبرستان، فوردها في شعبان سنة إحدى وثمانين، وكان قد أقام بجرجان، فأحكم أمورهأن ولما استقر بطبرستان راسل محمد ابن زيد وصالحه، وعده محمد بن زيد أن ينجده بأربعة آلاف رجل من شجعان الديلم، وخطب لمحمد بطبرستان وجرجان في ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين ومائتين.
وبلغ خبر مصالحة محمد بن زيد ورافع إلى عمروبن الليث، فأرسل إلى محمد يذكره ما فعل يه، ويحذره منه ومن غدره إن استقام أمره، فعاد عن إنجاده بعسكر.
فلما قوي عمروعرف لمحمد ين زيد ذلك، وخلى عليه طبرستان؛ ولما أحكم رافع أمر محمد ين زيد سار إلى خراسان، فورد نيسابور في ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وجرى بينه وبين عمروحرب شديدة انهزم فيها رافع إلى أبيورد، وأخذ عمرومنه المعدل والليث ولدي أخيه علي ابن الليث، وكانا عنده بعد موت أخيه علي.
ولما ورد رافع أبيورد أراد المسير إلى هراة أومرو، فعلم عمروبذلك، فاخذ عليه الطريق بسرخس، فلما علم رافع بمسير عمروبن نيسابور سار على مضايق وطرق غامضة غير طريق الجيش إلى نيسابور، فدخلهأن وعاد إليه عمرومن سرخس فحصره فيهأن وتلاقيأن واستأمن بعض قواد رافع إلى عمرو، فانهزم رافع وأصحابه، وسير أخاه محمد بن هرثمة إلى محمد بن زيد يستمده، ويطلب ما وعده من الرجال، فلم يفعل، ولم يمده برجل واحد، وتفرق عن رافع أصحابه وغلمانه، وكان له أربعة آلاف غلام، ولم يملك أحد من ولاة خراسان قبله مثله، وفارقه محمد بن هارون إلى إسماعيل ابن أحمد الساماني ببخارى، وخرج رافع منهزماً إلى خوارزم على الجمازات، وحمل ما بقي معه من مال وآلة، وهوفي شرذمة قليلة، وذلك في رمضان سنة ثلاث وثمانين ومائتين.
فلما بلغ رباط جبوه وجه إليه خوارزمشاه أبا سعيد الدرغاني له الأنزال، ويخدمه إلى خوارزم، فرآه أبوسعيد في قلة من رجاله، وغدر به وقتله لسبع خلون من شوال سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وحمل رأسه إلى عمروبن الليث، وهوبنيساور، وأنفذ عمروالرأس إلى المعتضد بالله، فوصل إليه سنة أربع وثمانين، فنصب ببغداد، وصفت خراسان، إلى شاطئ جيجون، لعمرو.
ذكر عدة حوادثوفيها قدم الحسين بن عبد الله، المعروف بابن الجصاص، من مصر بهدايا عظيمة من خمارويه، فتزوج المعتضد ابنة خمارويه.
وفيها ملك أحمد بن عيسى بن الشيخ قلعة ماردين، وكانت بيد محمد بن إسحاق بن كنداجيق.
وحج بالناس هذه السنة هارون بن محمد، وهي آخر حجة حجهأن وأول حجة حجها بالناس، سنة أربع وستين ومائتين إلى هذه السنة.
وفيها توفي أبوعيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي السلمي بترمذ في رجب، وكان إماماً حافظاً له تصانيف حسنة، منها: الجامع الكبير في الحديث، وهوأحسن الكتب، وكان ضريراً؛ وتوفي إبراهيم بن محمد المدبر في شوال وكان يلي ديوان الضياع.
حوادث سنة ثمانين ومائتين
ذكر حبس عبد الله بن المهتديفي هذه السنة أخذ المعتضد عبد الله بن المهتدي، ومحمد بن الحسين المعروف بشميلة، وكان شميلة هذا مع صاحب الزنج إلى آخر أيامه، ثم لحق بالموفق في الأمان، فأمنه.
وكان سبب أخذه إياه أن بعض المستأمنة سعى به إلى المعتضد، وأنه يدعولرجل لا يعرف اسمه، وأنه قد أفسد جماعة من الجند وغيرهم، فأخذه المعتضد فقرره، فلم يقرر بشيء وقال: لوكان الرجل تحت قدمي ما رفعتهما عنه! فأمر به فشد على خشبة من خشب الخيم، ثم أوقدت نار عظيمة، وأدير على النار حتى تقطع جلده، ثم ضربت عنقه، وصلب عند الجسر؛ وحبس عبد الله بن المهتدي إلى أن علم براءته، وأطلقه، وكان المعتضد قثال لشميلة: بلغني أنك تدعوإلى ابن المهتدي؟ فقال: المشهور عني أنني أتولى آل أبي طالب.
ذكر قصة المعتضد بني شيبان وصلحة معهموفيهأن في أول صفر، سار المعتضد من بغداد يريد بني شيبان بالموضع الذي يجتمعون به من أرض الجزيرة، فلما بلغهم قصده جمعوا إليهم أموالهم، وأغار المعتضد على أعراب عند السن، فنهب أموالهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم في الزاب مثل ذلك، وعجز الناس عن حمل ما غمنوه، فبيعت الشاة بدرهم، والبعير بخمسة دراهم.
وسار إلى الموصل وبلد، فلقيه بنوشيبان يسألونه العفو، ويبذلوا له رهائن، فأجابهم إلى ما طلبوأن وعاد إلى بغداد، وأرسل إلى أحمد بن عيسى بن الشيخ يطلب منه ما أخذه من أموال ابن كنداجيق بآمد، فبعثه إليه ومعه هدايا كثيرة.
ذكر خروج محمد بن عبادة على هارون وكلاهما خارجيانفي هذه السنة خرج محمد بن عبادة، ويعرف بأبي جوزة، وهومن بني زهير من أهل قبراثأن من البقعاء، على هارون، وكلاهما من الخوارج، وكان أول أمره فقيرأن وكان هووابنان له يلتقطون الكمأة ويبيعونهأن إلى غير ذلك من الأعمال، ثم إنه جمع جماعة، وحكم، فاجتمع إليه أهل تلك النواحي من الأعراب، وقوي أمره، وأخذ عشر الغلات، وقبض الزكاة، وسار إلى معلثايأن فقاطعه أهلها على خمسمائة دينار، وجبى تلك الأعمال، وعاد وبنى عند سنجار حصنأن وحمل إليه الأمتعة والميرة، وجعل فيه ابنه أبا هلال ومعه مائة وخمسون رجلاً من وجوه بني زهير وغيرهم.
==========================
مجلد 20. كتاب : الكامل في التاريخ ابن الأثير
ووصل خبرهم إلى هارون الشاري فاجتمع رأيه ورأي وجوه أصحابه على قصد الحصن أولأن فإذا فرغوا منه ساروا إلى محمد بن عباده، فجمع أصحابه، فبلغوا مائة راجل وألفاً ومائتي فارس، وسار إليه مبادرأن وأحدق به وحصره؛ ومحمد بن عبادة في قيراثا لا يعلم بذلك.
وجد هارون في قتال الحصن، وكان معه سلاليم قد أخذهأن وزحف إليه، وكان أصحابه قد منعوا أحداً يخرج رأسه من أعلى السور، فلما رأى من معه من بني تغلب تغلبه على الحصن أعطوا من فيه من بني زهير الأمان بغير أمر هارون، فشق عليه، ولم يقدر على تغيير ذلك، إلا أنه قتل أبا هلال بن محمد بن عبادة ونفراً معه قبل الأمان، وفتحوا الحصن وملكوا ما فيه.
وساروا إلى محمد، وهوبقبراثأن فلقوه وهوفي أربعة آلاف رجل، فاقتتلوأن فانهزم هارون ومن معه، فوقف بعض أصحابه ونادى رجالاً بأسمائهم فاجتمعوا نحوأربعين رجلأن وحملوا على ميمنة محمد بن عبادة، فانهزمت الميمنة، وعادت الحرب، فانهزم محمد ومن معه، ووضعوا السيف فيهم، فقتلوا منهم ألفاً وأربع مائة رجل، وحجز بينهم الليل، وجمع هارون مالهم فقسمه بين أصحابه، وانهزم محمد إلى آمد، فأخذه صاحبها أحمد ابن عيسى بن الشيخ، بعد حرب، فظفر به، فأخذه أسيرأن وسيره إلى المعتضد، فسلخ جلده كما يسلخ الشاة.
ذكر عدة حوادثلما افتتح محمد بن أبي الساج مراغة، بعد حرب شديدة وحصار عظيم، أخذ عبد الله الحسين، بعد أن أمنه وأصحابه، وقيده وحبسه، وقرره بجميع أمواله ثم قتله.
وفيها مات أحمد بن ثور عمان وبعث برؤوس جماعة من أهلها.
وفيها توفي جعفر بن المعتمد في ربيع الآخر، وكان ينادم المعتضد.
وفيها دخل عمروبن الليث نيسابور في جمادى الأولى.
وفيها وجه محمد بن أبي الساج ثلاثين نفساً من الخوارج من طريق الموصل فضربت أعناق أكثرهم، وحبس الباقون.
وفيها دخل أحمد بن أبا طرسوس للغزاة من قبل خمارويه بن أحمد ابن طولون، ودخل بعده بدر الحمامي، فغزوا جميعاً مع العجيفي أمير طرسوس حتى بلغوا البلقسون.
وفيها غزا إسماعيل بن أحمد الساماني بلاد الترك، وافتتح مدينة ملكهم، وأسر أباه وامرأته خاتون ونحواً من عشرة آلاف، وقتل منهم خلقاً كثيرأن وغمن من الدواب ما لا يعلم عددأن وأصاب الفارس من الغنيمة ألف درهم.
وفيها توفي راشد مولى الموفق بالدينور، وحمل إلى بغداد في رمضان.
وفي شوال مات مسرور والبلخي.
وفيها غارت المياه بالري وطبرستان، حتى بلغ الماء أرطال بدرهم، وغلت الأسعار.
وفي شوال انكسف القمر، وأصبح أهل دبيل والدنيا مظلمة، ودامت الظلمة عليهم، فلما كان عند العصر هبت ريح سوداء فدامت إلى ثلث الليل، فلما كان ثلث الليل زلزلوا فخربت المدينة، ولم يبق من منازلهم إلا قدر مائة دار، وزلزلوا بعد ذلك مس مرار، وكان جملة من أخرج من تحت الردم مائة ألف وخمسون ألفاً كلهم موتى.
وحج بالناس هذه السنة أبوبكر محمد بن هارون بن إسحاق المعروف بابن ترنجة.
وفيها توفي محمد بن إسماعيل بن يوسف أبوإسماعيل الترمذي في رمضان، وله تصنيف حسنة؛ واحمد بن سيار بن أيوب الفقيه المروزي، وكان زاهداً عالماً؛ وأبوجعفر أحمد بن أبي عمران الفقيه الحنفي بمصر.
حوادث سنة إحدى وثمانين ومائتين
ذكر مسير المعتضد إلى ما ردين
وملكه إياهاوفيها خرج المعتضد الخرجة الثانية إلى الموصل، قاصداً لحمدان بن حمدون، لأنه بلغه أن حمدان مال إلى هارون الشاري، ودعا له، فلما بلغ الأعراب والأكراد مسير المعتضد تحالفوا أنهم يقتلون على دم واحد، واجتمعوأن وعبوا عسكرهم، وسار المعتضد إليهم في خيله جريدة، فأوقع بهم، وقتل منهم، وغرق منهم في الزاب خلق كثير.
وسار المعتضد إلى الموصل يريد قلعة ماردين، وكانت لحمدان بن حمدون، فهرب حمدان منها وخلف ابنه بهأن فنازلها المعتضد، وقاتل من فيها يومه ذلك، فلما كان من الغد ركب المعتضد فصعد إلى باب القلعة، وصاح: يا بن حمدان! فأجابه، فقال: افتح الباب، ففتحه، فقعد المعتضد في الباب، وأمر بنقل ما في القلعة وهدمهأن ثم وجه خلف ابن حمدون، وطلب اشد الطلب، وأخذت أموال له، ثم ظفر به المعتضد بعد عوده إلى بغداد.
وفي عوده قصد السنية وبها رجل كردي يقال له شداد، في جيش كثير، قيل كانوا عشرة آلاف رجل، وكان له قلعة، فظفر به المعتضد وهدم قلعته.
ذكر عدة حوادثوفيها ورد ترك بن العباس، عامل المعتضد على ديار مضر، من الجزيرة إلى بغداد، ومعه نيف وأربعون من أصحاب ابن الأغر، صاحب سميساط، على جمال، عليهم برانس ودراريع حرير، فمضى بهم إلى الحبس، وعاد إلى داره.
وفيها كانت وقعة لوصيف خادم ابن أبي الساج لعمر بن عبد العزيز، فهزمه، ثم سار وصيف إلى مولاه محمد بن أبي الساج.
وفيها دخل طغج بن جف طرسوس لغزوالصائفة من قبل خمارويه ابن احمد بن طولون فبلغ طرابزون، وفتح بلودية في جمادى الآخرة.
وفيها مات أحمد بن محمد الطائي بالكوفة في جمادى.
وفيها غارت المياه بالري وطبرستان.
وفيها سار المعتضد إلى ناحية الجبل، وقصد الدينور، وولى ابنه عليأن وهوالمكتفي، الري، وقزوين، وزنجان، وأبهر، وقم، وهمذان، والدينور، وجعل على كتابته أحمد بن الأصبغ، وقلد عمر بن عبد العزيز ابن أبي دلف أصبهان، ونهاوند، والكرج، وعاد إلى بغداد لأجل غلاء السعر.
وفيها استأمن الحسن بن علي كورة، عامل رافع على الري، إلى علي بن المعتضد في زهاء ألف رجل، فوجهه ومن معه إلى أبيه.
وفيها دخل الأعراب سامرأن فقتلوا ابن سيما في ذي القعدة.
وفيها غزا المسلمون الروم، فدامت الحرب بينهم اثني عشر يومأن فظفر المسلمون وغمنوا غنيمة كثيرة وعادوا.
وفيها توفي عبيد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيأن صاحب التصانيف الكثيرة المشهورة.
حوادث سنة اثنتين وثمانين ومائتين
ذكر النيروز المعتضديفيها أمر المعتضد بالكتابة إلى الأعمال كلها جميعها بترك افتتاح الخراج في النيروز العجمي، وتأخير ذلك إلى الحادي عشر من حزيران، وسماه النيروز المعتضدي، وأنشئت الكتب بذلك من الموصل، والمعتضد بهأن وأراد بذلك الترفيه عن الناس، والرفق بهم.
ذكر قصد حمدان وانهزامه
وعوده إلى الطاعةفي هذه السنة كتب المعتضد إلى إسحاق بن أيوب، وحمدان بن حمدون، بالمسير إليه، وهوفي الموصل، فبادر إسحاق، وتحصن حمدان بقلاعه، وأودع أمواله وحرمه، فسير المعتضد الجيوش نحوه مع وصيف موشكير، ونصر القشوري، وغيرهمأن فصادفوا الحسن بن علي كورة وأصحابه متحصنين بموضع يعرف بدير الزعفران، من أرض الموصل.
وفيها وصل الحسين بن حمدان بن حمدون، فلما رأى الحسين أوائل العسكر طلب الأمان، فأمن، وسير إلى المعتضد، وسلم القلعة، فأمر المعتضد بهدمهأن وسار وصيف في طلب حمدان، وكان بباسورين، فواقعه وصيف، وقتل من أصحابه جماعة، وانهزم حمدان في زورق كان له في دجلة، وحمل معه مالاً كان له، وعبر إلى الجانب الغربي من دجلة، فصار في ديار ربيعة.
وعبر نفر من الجند، فاقتصوا أثره، حتى أشرفوا على دير قد نزله، فلما رآهم هرب، وترك ماله، فأخذ وأتي به المعتضد، وسار أولئك في طلب حمدان، فضاقت عليه الأرض، فقصد خيمة إسحاق بن أيوب، وهومع المعتضد، واستجار به، فأحضره إسحاق عند المعتضد، فأمر بالاحتفاظ به، وتتابع رؤساء الأكراد في طلب الامان، وكان ذلك في المحرم.
ذكر انهزام هارون الخارجي من عسكر الموصلكان المعتضد بالله قد خلف بالموصل نصراً القشوري يجبي الأموال ويعين العمال على جبايتهأن فخرج عامل معلثايا إليها ومعه جماعة من أصحاب نصر، فوقع عليهم طائفة من الخوارج، فاقتتلوا إلى أن أدركهم الليل وفرق بينهم، وقتل من الخوارج إنسان اسمه جعفر، وهومن أعيان أصحاب هارون، فعظم عليه قتله، وأمر أصحابه بالإفساد في البلاد.
فكتب نصر القشوري إلى هارون الخارجي كتاباً يتهدده بقرب الخليفة، وأنه إن هم به أهلكه وأهلك أصحابه، وأنه لا يغتر بمن سار إلى حربه، فعاد عنه بمكر وخديعة، فكتب إليه هارون كتاباً منه: أما ما ذكرت ممن أراد قصدي، ورجع عني، فإنهم لما رأوا جدنا واجتهادنا كانوا بإذن الله فراشاً متتابعأن وقصباً أجوف، ومن صبر لنا منهم ما زاد على الاستتار بالحيطان، ونحن على فرسخ منهم، وما غرك إلا ما أصبت به صاحبنأن فظننت أن دمه مطلول أوأن وتره متروك لك، كلا إن الله تعالى من ورائك، وآخذ بناصيتك، ومعين على إدراك الحق منك، ولم تعيرنا بغيرك وتدع أن يكون ذلك إبداء صفحتك، وإظهار عداوتك؟ وإنا كما قيل:
فلا توعدونا باللقاء وأبرزوا ... إلينا سواداً نلقه بسواد
ولعمر الله ما ندعوإلى البراز ثقة بأنفسنأن ولا عن ظن أن الحول والقوة لنأن لكن ثقة بربنأن واعتماداً على جميل عوائده عندنا.
وأما ما ذكرت من أمر سلطانك، فإن سلطانك لا يزال منا قريبأن وبحالنا عالمأن فلا قدم أجلاً ولا أخره، ولا بسط رزقاً ولا قبضه قد بعثنا على مقابلتك، وستعلم عن قريب إن شاء الله تعالى.
فعرض نصر كتاب هارون على المعتضد، فجد في قصده، وولى الحسن بن علي كورة الموصل، وأمره بقصد الخوارج، وأمر مقدمي الولايات والأعمال كافة بطاعته، فجمعهم، وسار إلى أعمال الموصل، وخندق على نفسه، وأقام إلى أن رفع الناس غلاتهم، ثم سار إلى الخوارج، وعبر الزاب إليهم، فلقيهم قريباً من المغلة، وتصافوا للحرب، فاقتلوا قتالاً شديدأن وانكشف الخوارج عنه ليفرقوا جمعيته ثم يعطفوا عليه، فأمر الحسن أصحابه بلزوم مواقفهم، ففعلوأن فرجع الخوارج وحملوا عليهم سبع عشرة حملة، فانكشفت ميمنة الحسن، وقتل من أصحابه، وثبت هو، فحمل الخوارج عليه حملة رجل واحد، فثبت لهم وضرب على رأسه عدة ضربات فلم تؤثر فيه.
فلما رأى أصحابه ثباته تراجعوا إليه وصبروأن فانهزم الخوارج أقبح هزيمة وقتل منهم خلق كثير، وفارقوا موضع المعركة، ودخلوا أذربيجان.
وأما هارون فإنه تحير في أمره، وقصد البرية، ونزل عند بني تغلب، ثم عاد إلى معلثايأن ثم عاد إلى البرية، ثم رجع عبر دجلة إلى حزة، وعاد إلى البرية.
وأما وجوه أصحابه، فإنهم لما رأوا إقبال دولة المعتضد وقوته، وما لحقهم في هذه الوقعة، راسلوا المعتضد يطلبون الأمان فأمنهم، فأتاه كثير منهم، يبلغون ثلاثمائة وستين رجلأن وبقي معه بعضهم يجول بهم في البلاد، إلى أن قتل سنة ثلاث وثمانين على ما نذكره.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة في ربيع الأول قبض على تكتمر بن طاشتمر، وقيد وأخذ ماله؛ وكان أميراً على الموصل، واستعمل بعده عليها الحسن بن علي الخراساني، ويعرف بكورة.
وفيها قدم ابن الجصاص بابنة خمارويه، زوجة المعتضد، ومعها أحد عمومتها، وكان المعتضد بالموصل.
وفيها عاد المعتضد إلى بغداد، وزفت إليه ابنة خمارويه في ربيع الآخر.
وفيها سار المعتضد إلى الجبل، فبلغ الكرج، وأخذ أموالاً لابن أبي دلف، وكتب إلى عمروبن عبد العزيز يطلب منه جوهراً كان عنده، فوجه به إليه، وتنحى من بين يديه.
وفيها أطلق لؤلؤ غلام ابن طولون، وحمل على دواب وبغال.
وفيها وجه يوسف بن أبي الساج إلى الصيمرة مدداً لفتح القلانسي، غلام الموفق، فهرب يوسف فيمن أطاعه إلى أخيه محمد بمراغة، ولقي مالاً للمعتضد فأخذه، فقال في ذلك عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
إمام الهدى أنصاركم آل طاهر ... بلا سبب تخفون والدهر يذهب
وقد خلطوا شكراً بصبر ورابطوا ... وغيرهم يعطي ويجبي ويهرب
وفيها وجه المعتضد وزيره عبيد الله بن سليمان إلى ابنه الري وعاد منها.
وفيها وجه محمد بن زيد العلوي من طبرستان إلى محمد بن ورد العطار باثنين وثلاثين ألف دينار ليفرقها على أهل بيته ببغداد، والكوفة، والمدينة، فسعي به إلى المعتضد، فأحضر محمد عنه بدر، وسئل عن ذلك، فأقر أنه يوجه إليه كل سنة مثل ذلك، ففرقه، وأنهى بدر إلى المعتضد ذلك، فقال له المعتضد: أما تذكر الرؤيا التي خبرتك بها؟ قال: لا ، يا أمير المؤمنين؛ قال: رأيت في النوم كأني أريد ناحية انهروان، وأنا في جيشي، إذ مررت برجل واقف على تل يصلي ولا يلتفت إلي، فعجبت، فلما فرغ من صلاته قال لي: أقبل، قأقبلت إليه، فقال لي: أتعرفني؟ قلت: لا! قال: أنا علي بن أبي طالب، خذ هذه فاضرب بها الأرض، بمسحاة بين يديه، فأخذتهأن فضربت بها ضربات، فقال لي: إنه سيلي من ولدك هذا الأمر بعدد الضربات، فأوصهم بولدي خيراً.
وأمر بدراً بإطلاق المال والرجل، وأمره أن يكتب إلى صاحبه بطبرستان أن يوجه ما يريد ظاهرأن وأن يفرق ما يأتيه ظاهرأن وتقدم بمعونته على ذلك.
وفيها توفي أبوطلحة منصور ين مسلم في حبس المعتضد.
وفيها ولدت جارية اسمها شغب للمعتضد ولداً سماه جعفرأن وهوالمقتدر.
وفيها قتل خمارويه بن احمد بن طولون، ذبحه بعض خدمه على فراشه في ذي الحجة بدمشق، وقتل من خدمه الذين اتهموا نيف وعشرون نفساً.
وكان سبب قتله أنه سعى إليه بعض الناس وقال له إن جواري داره قد اتخذت كل واحدة منهم خصيأن من خصيان داره، لها كالزوج، وقال: إن شئت أن تعلم صحة ذلك فأحضر بعض الجواري فاضربهأن وقررهأن حتى تعلم صحة ذلك. فبعث من وقته إلى نائبه بمصر يأمره بإحضار عدة من الجواري ليعلم الحال منهن، فاجتمع جماعة من الخدم، قرروا بينهم الاتفاق على قتله، خوفاً من ظهور ما قيل له، وكانوا خاصته، فذبحوه ليلاً وهربوا.
فلما قتل اجتمع القواد وأجلسوا ابنه جيش بن خمارويه في الإمارة، وكان معه بدمشق، وهوأكبر ولده، فبايعوه ففرقت فيهم الأموال، وكان صبياً غراً.
وفيها توفي عثمان بن سعيد بن خالد أبوسعيد الداري، الفقيه الشافعي، أخذ الفقه عن البويطي صاحب الشافعي، والأجرب عن ابن الأعرابي.
وفيها توفي أبوحنيفة أحمد بن داود الدينوري اللغوي صاحب كتاب النبات وغيره.
وفيها توفي الحارث بن أبي أسامة، وله مسند يروى غالباً في زماننا هذا؛ وأبوالعيناء محمد بن القاسم وكان يروي عن الأصمعي.
حوادث سنة ثلاث وثمانين ومائتين
ذكر الظفر بهارون الخارجيفي هذه السنة سار المعتضد إلى الموصل بسبب هارون الشاري وظفر به.
وسبب الظفر به أنه وصل إلى تكريت وأقام بهأن وأحضر الحسين بن حمدان التغلبي وسيره في طلب هارون بن عبد الله الخارجي في جماعة من الفرسان والرجالة، فقال له الحسين: إن أنا جئت به فلي ثلاث حوائج عند أمير المؤمنين؛ قال: اذكرها! قال: إحداهن إطلاق أبي، وحاجتان أذكرهما بعد مجيئي به. فقال له المعتضد: لك ذلك. فانتخب ثلاثمائة فارس، وسار بهم، معهم وصيف بن موشكير، فقال به الحسين: تأمره بطاعتي، يا أمير المؤمنين. فأمره بذلك.
وسار بهم الحسين حتى انتهى إلى مخاضة في دجلة، فقال الحسين لوصيف ولمن معه: ليقفوا هناك، فإنه ليس له طريق إن هرب غير هذأن فلا تبرحن من هذا الموضع حتى يمر بكم فتمنعوه عن العبور، وأجيء أنأن أويبلغكم أني قتلت.
ومضى حسين في طلب هارون، فلقيه، وواقعه وقتل بينهما قتلى، وأنهزم هارون، وأقام وصيف على المخاضة ثلاثة أيام، فقال له أصحابه: قد طال مقامنأن ولسنا نأمن أن يأخذ حسين الشاري، فيكون له الفتح دوننأن والصواب أن منضي في آثارهم، فأطاعهم ومضى.
وجاء هارون منهزماً إلى موضع المخاضة فعبر، وجاء حسين في أثره، فلم ير وصيفاً وأصحابه في الموضع الذي تركهم فيه، ولا عرف لهم خبرأن فعبر في أثر هارون، وجاء إلى حي من أحياء العرب، فسأل عنه، فكتموه، فتهددهم، فاعلموه أنه اجتاز بهم، فتبعه حتى لحقه بعد أيام، وهارون في نحومائة رجل، فناشده الشاري ووعده، وأبى حسين إلا محاربته، فحاربه، فألقى الحسين نفسه عليه، فأخذه أسيراً وجاء به إلى المعتضد، فانصرف المعتضد إلى بغداد، فوصلها لثمان بقين من ربيع الأول.
وخلع المعتضد على الحسين بن حمدان وطوقه، وخلع على إخوته، وأدخل هارون على الفيل، وأمر المعتضد بحل قيود حمدان بن حمدون والتوسعة عليه والإحسان إليه، ووعد بإطلاقه.
ولما أركبوا هارون على الفيل أرادوا أن يلبسوه ديباجاً مشهرأن فامتنع وقال: هذا لا يحل؛ فألبسوه كارهأن ولما صلب نادى بأعلى صوته: لا حكم إلا لله، ولوم كره المشركون؛ وكان هارون صفرياً.
ذكر عصيان دمشق على جيش بن خمارويه وخلاف جنده عليه وقتلهفي هذه السنة خرج جماعة من قواد جيش بن خمارويه عليه، وجاهروا بالمخالفة، وقالوا: لا نرضى بك أميرأن فاعتزلنا حتى نولي عمك الإمارة.
وكان سبب ذلك أنه لما ولي وكان صبياً قرب الأحداث والسفل، وأخلد إلى استماع أقوالهم، فغيروا نيته على قواده وأصحابه، وصار يقع فيهم ويذمهم، ويظهر العزم على الاستبدال بهم، وأخذ نعمهم وأموالهم؛ فاتفقوا عليه ليقتلوه ويقيموا عمه، فبلغه ذلك، فلم يكتمه بل أطلق لسانه فيهم، ففارقه بعضهم، وخلعه طغج بن جف أمير دمشق.
وسار القواد الذين فارقوه إلى بغداد، وهم محمد بن إسحاق بن كنداجيق، وخاقان المفلحي وبدر بن جف، أخوطغج،وغيرهم من قواد مصر، فسلكوا البرية، وتركوا أهاليهم وأموالهم، فتاهوا أيامأن ومات من أصحابهم جماعة من العطش، وخرجوا فوق الكوفة بمرحلتين، وقدموا على المعتضد، فخلع عليهم، واحسن إليهم، وبقي سائر الجنود بمصر على خلافهم ابن خمارويه، فسألهم كاتبه علي بن أحمد الماذرائي أن ينصرفوا يومهم ذلك، فرجعوأن فقتل جيش عمين له، وبكر الجند إليه، فرمى بالراسين إليهم، فهجم الجند عليه فقتلوه ونهبوا داره، ونهبوا مصر وأحرقوهأن وأقعدوا أخاه هارون في الإمرة بعده، فكانت ولايته تسعة أشهر.
ذكر حصر الصقالبة القسطنطينيةوفي هذه السنة سارت الصقالبة إلى الروم، فحصروا القسطنطينية، وقتلوا من أهلها خلقاً كثيرأن وخربوا البلاد، فلما لم يجد ملك الروم منهم خلاصاً جمع من عنده من أسارى المسلمين، وأعطاهم السلاح، وسألهم معونته على الصقالبة، ففعلوا وكشفوا الصقالبة وأزاحوهم عن القسطنطينية، ولما رأى ملك الروم ذلك خاف المسلمين على نفسه، فردهم، وأخذ السلاح منهم، وفرقهم في البلاد حذراً من جنايتهم عليه.
ذكر الفداء بين المسلمين والرومفي هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم، فكان جملة من فدي به من المسلمين الرجال، والنساء، والصبيان، ألفين وخمسمائة وأربعة أنفس.
ذكر الحرب بين عسكر المعتضد وأولاد أبي دلفوفيها سار عبيد الله بن سليمان إلى عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف بالجبل، فسار عمر إليه بالأمان في شعبان، فأذعن بالطاعة، فخلع عليه وعلى أهل بيته.
وكان قبل ذلك قد دخل بكر بن عبد العزيز بالأمان إلى عبيد الله بن سليمان، وبدر، فولياه عمل أخيه على أن يسير إليه فيحاربه، فلما دخل عمر في الأمان قالا لبكر: إن أخاك قد دخل في الطاعة، وإمنا وليناك عمله على أنه عاص، والمعتضد يفعل في أمركما ما يراه، فامضيا إلى بابه.
وولي النوشري أصبهان، وأظهر أنه من قبل عمر بن عبد العزيز، فهرب بكر بن عبد العزيز، فكتب عبيد الله إلى المعتضد بذلك، فكتب إلى بدر ليقيم بمكانه إلى أن يعرف حال بكر.
وسار الوزير إلى علي بن المعتضد بالري، ولحق بكر بن عبد العزيز بالأهواز، فسير المعتضد إليه وصيف بن موشكير، فسار إليه، فلحقه بحدود فارس، وباتا متقابلين، وارتحل بكر إلى أصبهان ليلأن فلم يتبعه وصيف، بل رجع إلى بغداد، وسار بكر إلى أصبهان، فكتب المعتضد إلى بدر يأمره بطلب بكر وحربه، فأمر بدر عيسى النوشري بذلك، فقال بكر:
عني ملامك ليس حين ملام ... هيهات أجدب زائد الأيام
ظأرت عنايات الصبا عن مفرقي ... ومضى أوان شراستي وغرامي
ألقى الأحبة بالعراق عصيهم ... وبقيت نصب حوادث الأيام
وتقاذفت بأخي النوى ورمت به ... رمي العبيد قطيعة الأرحام
فلأقرعن صفاة دهر نابهم ... قرعاً يهز رواسي الأعلام
ولأضربن الهام دون حريمهم ... ضرب القدار نقيعة القدام
ولأتركن الواردين حياضهم ... بقرارة لمواطئ الأقدام
يا بدر إنك لوشهدت مواقفي ... والموت يلحظ والسيوف دوامي
لذممت رأيك في إضاعة حرمتي ... ولضاق ذرعك في اطراح ذمامي
حركتني بعد السكون وإمنا ... حركت من حصن جبال تهام
وعجمتني فعجمت مني من حمى ... خشن المناكب كل يوم زحام
قل للأمير أبي محمد الذي ... يجلوبغرته دجى الإظلام
أسكنتني ظل العلا فسكنته ... في عيشة رغد وعز نام
حتى إذا خليت عني نابني ... نوب أتت وتنكرت أيامي
فلأشكرن جميل ما أوليتني ... ما غردت في الأيك ورق حمام
هذا أبوحفص يدي وذخيرتي ... للنائبات وعدتي وسنامي
ناديته فأجابني وهززته ... فهززت حد الصارم الصمصام
من رام أن يغضي الجفون على القذى ... أويستكين يروم غير مرام
ويخيم حين يرى الأسنة شرعاً ... والبيض مصلتة لضرب الهام
ثم إن النوشري انهزم عن بكر، فقال بكر يذكر هربه، ويعير وصيفاً بالإحجام عنه، ويتهدد بدراً في أبيات منها:
قد أرى النوشري حين التقينا ... من إذا أشرع الرماح يفر
جاء في قسطل لهام فصلنا ... صولة دونها الكماة تهر
ولواء النوشري آثار نار ... رويت عند ذاك بيض وسمر
غر بدراً حلمي وفضل آتاني ... واحتمالي للعبء مما يغر
سوف يأتيه من خيولي قب ... لاحقات البطون جون وشقر
يتنادون كالسعالي عليها ... من بني وائل اسود تكر
لست بكراً إن لم أدعهم حديثاً ... ما سرى كوكب وما كر دهر
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أمر المعتضد بالكتابة إلى جميع البلدان أن يرد الفاضل من سهام المواريث إلى ذوي الأرحام، وأبطل ديوان المواريث.
وفيهأن في شوال مات علي بن محمد بن أبي الشوارب القاضي، وكانت ولايته لقضاء بمدينة المنصور ستة أشهر.
وفيها قدم عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف بغداد، فأمر المعتضد الناس والقواد باستقباله، وقعد له المعتضد، فدخل عليه، وأكرمه وخلع عليه.
وفيهأن في رمضان، تحارب عمروبن الليث الصفار ورافع بن هرثمة، فانهزم رافع، وكان سبب ذلك أن عمراً فارق نيسابور، فخالفه إليها رافع وملكها وخطب فيها لمحمد بن زيد العلوي، فرجع عمرومن مروإلى نيسابور فحصرهأن فانهزم رافع منهأن ووجه عمروفي طلبه عسكراً فلحقوه بطوس، فانهزم منهم إلى خوارزم، فلحقوه بهأن فقتلوه وأرسلوا رأسه إلى المعتضد، فوصله سنة أربع وثمانين في المحرم، أمر بنصبه ببغداد وخلع على القاصد به.
وفيها مات البحتري الشاعر، واسمه الوليد بن عبادة، بمنبج، أوحلب، وكان مولده سنة ست ومائتين.
وفيها توفي محمد بن سليمان أبوبكر المعروف بابن الباغندي، وأبوالحسن علي بن العباس بن جريج الشاعر المعروف بابن الرومي، وقيل: توفي سنة أربع وثمانين، وديوانه معروف، رحمه الله تعالى.
وفيها توفي سهل بن عبد الله بن يونس بن رفيع السري، ومولده سنة مائتين، وقيل ومائتين.
حوادث سنة أربع وثمانين ومائتينفي هذه السنة كان فتنة بطرسوس بين راغب مولى الموفق وبين دميانة.
وكان سبب ذلك أن راغباً ترك الدعاء لهارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون، ودعا لبدر مولى المعتضد، واختلف هووأحمد بن طوغان، فلما انصرف أحمد بن طوغان من الفداء سنة ثلاث وثمانين ركب البحر ومضى، ولم يدخل طرسوس، وخلف دميانة بها لقيام بأمرهأن وأمده ابن طوغان، فقوي بذلك، وأنكر ما كان يفعله راغب، فوقعت الفتنة، فظفر بهم راغب، فحمل دميانة إلى بغداد.
وفيها أوقع عيسى بن النوشري ببكر بن عبد العزيز بن أبي دلف بنواحي أصبهان، فقتل رجاله، واستباح عسكره، ونجا بكر في نفر يسير من أصحابه، فمضى إلى محمد بن زيد العلوي بطبرستان، وأقام عنده إلى سنة خمس وثمانين ومات، ولما وصل خبر موته إلى المعتضد أعطى القاصد به ألف دينار.
وفيهأن في ربيع الأول، قلد أبوعمر يوسف بن يعقوب القضاء بمدينة المنصور مكان علي بن أبي الشوارب.
وفيها أخذ خادم نصراني لغالب النصراني وشهد عليه أنه شتم النبي، صلى الله عليه وسلم، فاجتمع أهل بغداد، وصاحوا بالقاسم بن عبيد الله، وطالبوه بإقامة الحد عليه، فلم يفعل، فاجتمعوا على ذلك إلى دار المعتضد، فسئلوا عن حالهم، فذكروه للمعتضد، فأرسل معهم إلى القاضي أبي عمر، فكادوا يقتلونه من كثرة ازدحامهم، فدخل باباً وأغلقه، ولم يكن بعد ذلك للخادم ذكر، ولا للعامة ذكر اجتماع في أمره.
وفيها قدم قوم من أهل طرسوس على المعتضد يسألونه أن يولي عليهم واليأن وكانوا قد أخرجوا عامل ابن طولون، فسير إليهم المعتضد ابن الإخشيد أميراً.
وفيهأن في ربيع الآخر، ظهرت بمصر ظلمة وحمرة في السماء شديدة، حتى كان الرجل ينظر إلى وجه الآخر فيراه أحمد، فمكثوا كذلك من العصر إلى العشاء الآخرة، وخرج الناس من منازلهم يدعون الله تعالى، ويتضرعون إليه.
وفيها عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر، وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس، وهوكتاب طويل قد أحسن كتابته، إلا أنه قد استدل فيه بأحاديث كثيرة على وجوب لعنه عن النبي، صلى الله عليه وسلم، لا تصح وذكر في الكتاب يزيد وغيره من بني أمية، وعملت به نسخ قرئت بجانبي بغداد، ومنع القضاة والعامة من القعود بالجامعين ورحابهمأن ونهى عن الاجتماع على قاض لمناظرة، أوجدل في أمر الدين، ونهى الذين يسقون الماء في الجامعين أن يترحموا على معاوية أويذكروه، فقال له عبيد الله بن سليمان: إنا نخاف اضطراب العامة وإثارة الفتنة، فلم يسمع منه، وحذره اضطراب العامة، فلم يلتفت، فقال: يا أمير المؤمنين! فما نصنع بالطالبيين الذين يخرجون من كل ناحية، ويميل إليهم خلق كثير من الناس لقرابتهم من رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ فإذا سمع الناس ما في هذا الكتاب من إطرائهم كانوا إليهم أميل، وكانوا هم أبسط ألسنة وأظهر حجة فيهم اليوم. فامسك المعتضد، ولم يأمر في الكتاب بعد ذلك بشيء، وكان عبيد الله من المنحرفة عن علي، عليه السلام.
وفيها سير المعتضد إلى عمروبن الليث الخلع والواء بولاية الري وهدايا.
وفيها فتحت قرة من بلد الروم على بد راغب مولى الموفق وابن كلوب في رجب.
وفيهأن في شعبان، ظهر بدار المعتضد إنسان بيده سيف، فمضى إليه بعض الخدم لينظر ما هو، فضربه بالسيف فجرحه، وهر بالخادم، ودخل الشخص في زرع البستان فتوارى فيه، فطلب باقي ليلته، ومن الغد، فلم يعرف له خبر، فاستوحش المعتضد، وكثر الناس في أمره بالظنون حتى قالوا: إنه من الجن، وظهر مراراً كثيرة، حتى وكل المعتضد بسور داره، وأحكمه بالظنون حتى قالوا: ثم أحضر المجانين والمعزمين بسبب ذلك الشخص، فسألهم عنه فقال المعزمون: نحن نعزم على بعض المجانين، فإذا سقط الجني عنه فاخبره خبره؛ فعزموا على امرأة مجنونة فصرعت والمعاضد ينظر إليهم، فلما صرعت أمرهم بالانصراف.
وفيها وجه كرامة بن مر من الكوفة بقوم مقيدين ذكر أنهم من القرامطة، فقروا بالضرب فأقروا على أبي هاشم بن صدقة الكاتب أنه منهم، فقبض عليه وحبسه.
وفيها وثب الحارث بن عبد العزيز بن أبي دلف المعروف بأبي ليلى بشفيع الخادم فقتله، وكان أخوه عمر بن عبد العزيز قد أخذه وقيده وحبسه في قلعته زر، ووكل به شفيعاً الخادم، ومعه جماعة من غلمان عمر، فلما استأمن عمر إلى المعتضد وهرب بكر بقيت القلعة بما فيها من الأموال بيد شفيع، فكلمه أبوليلى في إطلاقه، فلم يفعل، وطلب من غلام كان يخدمه مبردأن فادخله في الطعام، فبرد مسمار قيده.
وكان شفيع في كل ليلة يأتي إلى أبي ليلى يفتقده ويمضي ينام وتحت رأسه سيف مسلول، فجاء شفيع في ليلة إليه، فحادثه، فطلب منه أن يشرب معه أقداحأن وقام الخادم لحاجته، فجعل أبوليلى في فراشه ثياباً تشبه إنساناً نائمأن وغطاها باللحاف، وقال لجارية كانت تخدمه: إذا عاد شفيع قولي له هونائم. ومضى أبوليلى فاختفى ظاهر الدار، وقد اخرج قيده من رجله، فلما عاد شفيع قالت له الجارية: هونائم! فأغلق الباب ومشى إلى داره ونام فيها. فخرج أبوليلى وأخذ السيف من عند شفيع وقتله، فوثب الغلمان، فقال لهم أبوليلى: قد قتلت شفيعأن ومن تقدم إلي قتلته، فأنتم آمنون! فخرجوا من الدار، واجتمع الأنس إليه فكلمهم، ووعدهم الإحسان، وأخذ عليهم الإيمان، وجمع الأكراد وغيرهم، وخرج مخالفاً على المعتضد، وكان قتل شفيع في ذي القعدة.
ولما خرج أبوليلى على اللطان قصده عيسى النوشري، فاقتتلوأن فأصاب أبا ليلى في حلقه سهم فنحره، فسقط عن دابته، وانهزم أصحابه، وحمل رأسه إلى أصبهان ثم إلى بغداد.
وفيها كان المنجمون يوعدون بغرق أكثر الأقاليم إلا إقليم بابل فإنه يسلم منه اليسير، وأن ذلك يكون بكثرة الأمطار وزيادة الأنهار والعيون، فقحط الناس، وقلت الأمطار، وغارت المياه حتى احتاج الناس إلى الاستسقاء، فاستسقوا ببغداد مرات.
وفيها ظهر اختلال حال هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون بمصر، واختلفت القواد، وطمعوأن فانحل النظام، وتفرقت الكلمة، ثم اتفقوا على أن جعلوا مدير دولته أبا جعفر بن أبأن وكان عند والده وجده مقدمأن كبير القدر، فأصلح من الأحوال ما استطاع، وكم جهد الصناع إذ اتسع الخرق، وكان من بدمشق من الجند قد خالفوا على أخيه جيش كما ذكرنأن فلما تولى أبوجعفر الأمور سير جيشاً إلى دمشق عليهم بدر الحمامي، والحسين بن أحمد الماذرائي، فأصلحا حالها وقررا أمور الشام، واستعملا على دمشق طغج بن جف واستعملا على سائر الأعمال، ورجعا إلى مصر والأمور فيها اختلال، والقواد قد استولى كل واحد منهم على طائفة من الجند وأخذهم إليه، وهكذا يكون انتقاض الدول، وإذا أراد الله أمراً فلا مرد لحكمه وهوسريع الحساب.
وفيها توفي إسحاق بن موسى بن عمران أبويعقوب الاسفرايني، الفقيه الشافعي، والغياثي واسمه عبد العزيز بن معاوية من ولد غياث بن أسيد، بفتح الهمزة وكسر السين.
وفيها أيضاً توفي أبوعبد الله محمد بن الوضاح بن ربيع الأندلسي، وكان من العلماء المشهورين.
حوادث سنة خمس وثمانين ومائتينفيها قطع صالخ بن مدرك الطائي الطريق على الحاج بالأجفر في المحرم، فحاربه حبي الكبير، وهوأمير القافلة، فلم يقوبه وبمن معه من الأعراب، وظفر بالحج ومن معه بالقافلة، فأخذوا ما كان فيها من الأموال والتجارات، وأخذوا جماعة من النساء، والجواري، والمماليك، فكانت قيمة ما أخذوه ألفي ألف دينار.
وفيها ولي عمروبن الليث ما وراء النهر، وعزل إسماعيل بن أحمد.
وفيها كان بالكوفة ريح صفراء، فبقيت إلى المغرب ثم اسودت، فتضرع الناس، ثم مطروا مطراً شديداً برعود هائلة وبروق متصلة، ثم سقط بعد ساعة بقرية تعرف بأحمداباذ ونواحيها أحجار بيض وسود مختلة الألوان، في أوساطها طبق، وحمل منها إلى بغداد فرآه الناس.
وفيها سار فاتك مولى المعتضد إلى الموصل لينظر في أعمالها وأعمال الجزيرة والثغور الشامية والجزرية وإصلاحهأن مضافاً إلى ما كان يتقلده من البريد بها.
وفيها كان بالبصرة ريح صفراء، ثم عادت خضراء، ثم سوداء، ثم تتابعت الأمطار بما لم يروا مثله، ثم وقع برد كبار، وزن البردة مائة وخمسون درهماً فيما قيل.
وفيها مات الخليل بن رمال بحلوان.
وفيها ولى المعتضدمحمد بن أبي الساج أعمال أذربيجان وأرمينية، وكان قد تغلب عليها وخالف؛ وبعث إليه بخلع.
وفيها غزا راغب مولى الموفق في البحر، فغمن مراكب كثيرة، فضرب أعناق ثلاثة آلاف من الروم كانوا فيهأن وأحرق المراكب، وفتح حصوناً كثيرة، وعاد سالماً ومن معه.
وفيها توفي أحمد بن عيسى بن الشيخ، وقام بعده ابنه محمد بآمد وما يليهأن على سبيل التغلب، فسار المعتضد إلى آمد بالعساكر، ومعه ابنه أبومحمد علي المكتفي في ذي الحجة، وجعل طريقه على الموصل، فوصل آمد، وحصرها إلى ربيع الآخر من سنة ست وثمانين ومائيتن، ونصب عليها المجانيق، فأرسل محمد بن أحمد بن عيسى يطلب الأمان لنفسه، ولمن معه، ولأهل البلد، فأمنهم المعتضد، فخرج إليه وسلم البلد، فخلع عليه المعتضد وأكرمه، وهدم سورها.
ثم بلغه أن محمد بن الشيخ يريد الهرب، فقبض عليه وعلى آله.
وفيها وجه هارون بن خمارويه إلى المعتضد ليسأله أن يقاطعه على ما في يده ويد نوابه من مصر والشام، ويسلم أعمال قنسرين إلى المعتضد، ويحمل كل سنة أربع مائة ألف وخمسين ألف دينار، وفأجابه إلى ذلك، وسار من آمد، واستخلف فيها ابنه المكتفي، ووصل إلى قنسرين والعواصم، فتسلمها من أصحاب هارون، وكان ذلك سنة ست وثمانين ومائيتن.
وفيها غزا ابن الأخشيد بأهل طرسوس، فتح اله على يديه، وبلغ إسكندرون؛ وحج بالناس محمد بن عبد الله بن داود الهاشمي.
وفيها توفي إبراهيم بن إسحاق الحربي ببغداد، وهومن أعيان المحدثين، وإسحاق بن إبراهيم الديري صاحب عبد الرزاق بصنعاء، وهوآخر من روى عن عبد الرزاق.
الدبري بفتح الدال المهملة والباء الموحدة وبعدها راء.
وفيها توفي أبوالعباس محمد بن يزيد الأزدي اليماني الخوي، المعروف بالمبرد، وكان قد أخذ النحوعن أبي عثمان المازني.
حوادث سنة ست وثمانين ومائيتن
وفي هذه السنة وجه محمد بن أبي الساج المعروف بأبي المسافر إلى بغداد برهينة بما ضمن من الطاعة والمناصحة، ومعه هدايا جليلة.
وفيها أرسل عمروبن الليث هدية إلى المعتضد من نيسابور، فكانت قيمتها أربعة آلاف درهم.
ذكر ابتداء أمر القرامطة بالبحرينوفيها ظهر رجل من القرامطة يعرف بأبي سعيد الجنابي بالبحرين، فاجتمع إليه جماعة من الأعراب والقرامطة، وقوي أمره، فقتل ما حوله من أهل القرى، ثم سار إلى القطيف فقتل ممن بهأن واظهر أنه يريد البصرة، فكتب أحمد بن محمد بن يحيى الواثقي، وكان متولي البصرة، إلى المعتضد بذلك، فأمره بعمل سورة على البصرة، وكان مبلغ الخرج عليه أربعة عشر ألف دينار.
وكان ابتداء القرامطة بناحية البحرين أن رجلاً يعرف بيحيى بن المهدي قصد القطيف فنزل على رجل يعرف بعلي بن المعلي بن حمدان، مولى الزياديين، وكان مغالياً في التشيع، فاظهر له يحيى أنه رسول المهدي، وكان ذلك سنة إحدى وثمانين ومائتين، وذكر أنه خرج إلى شيعته في البلاد يدعوهم إلى أمره، وأن ظهوره قد قرب؛ فوجه علي بن المعلي إلى الشيعة من أهل القطيف فجمعهم، وأقرأهم الكتاب الذي مع يحيى بن المهدي إليهم من المهدي، فأجابوه، وأنهم خارجون معه إذا اظهر أمره، ووجه إلى سائر قرى البحرين بمثل ذلك فأجابوه.
وكان فيمن أجابه أبوسعيد الجنابي، وكان يبيع للناس الطعام، ويحسب لهم بيعهم، ثم غاب عنهم يحيى بن المهدي مدة، ثم رجع معه كتاب يزعم أنه من المهدي إلى شيعته؛ فيه: قد عرفني رسولي يحيى بن امهدي مسارعتكم إلى أمري، فليدفع إليه كل منكم ستة دنانير وثلثين؛ ففعلوا ذلك.
ثم غاب عنهم وعاد ومعه كتاب فيه: أن ادفعوا إلى يحيى خمس أموالكم، فدفعوا إليه الخمس، وكان يحيى يتردد في قبائل قيس ويورد إليهم كتباً يزعم أنها من المهدي، وأنه ظاهر، فكونوا على أهبة.
وحكى إنسان منهم يقال له إبراهيم الصائغ أنه كان عند أبي سعيد الجنابي، وأتاه يحيى، فأكلوا طعامأن فلما فرغوا خرج أبوسعيد من بيته، وأمر امرأته أن تدخل إلى يحيى وأن لا تمنعه إن أراد، فانتهى هذا الخبر إلى الوالي، فأخذ يحيى فضربه، وحلق رأسه ولحيته، وهرب أبوسعيد الجنابي إلى جنابأن وسار يحيى بن المهدي إلى بني كلاب وعقيل والخريس، فاجتمعوا معه ومع أبي سعيد، فعظم أمر أبي سعيد وكان منه ما يأتي ذكره.
ذكر عدة حوادثوفيها سار المعتضد من آمد بعد أن ملكهأن كما ذكرناه، إلى الرقة، فولى ابنه علياً المكتفي قنسرين، والعواصم، والجزيرة، وكاتبه النصراين واسمه الحسين بن عمرو، فكان ينظر في الأموال، فقال الخليع في ذلك:
حسين ن عمروعدوالقرآن ... يصنع في العرب ما يصنع
يقوم لهيبته المسلمون ... صفوفاً لفرد إذا يطلع
فإن قيل قد أقبل الجاثليق ... تحفى له ومشى يظلع
وفيها توفي ابن الإخشيد أمير طرسوس واستخلف أبا ثابت على طرسوس.
وفيها سار إلى الأنبار جماعة أعراب من بني شيبان، وأغاروا على القرى، وقتلوا من لحقوا من الناس، وأخذوا المواشي، فخرج إليهم أحمد بن محمد بن كمشجور متوليهأن فلم يطقهم، فكتب إلى المعتضد بذلك، فأمده بجيش، فأدركوا الأعراب وقاتلوهم، فهزمهم الأعراب وقتلوا فيهم، وغرق أكثرهم وتفرقوأن وعاث الأعراب في تلك الناحية. وبلغ خبر الهزيمة إلى المعتضد، فسير جيشاً آخر، فرحل الأعراب إلى عين التمر فأفسدوا وعاثوأن وذلك في شعبان وشهر رمضان، فوجه إليهم عسكراً آخر إلى عين التمر، فسلكوا البرية إلى نواحي الشام، فعاد العسكر إلى بغداد ولم يلقهم.
وفيها استدعى المعتضد راغباً مولى الموفق من طرسوس، فقدم عليه وهوبالرقة، فحبسه وأخذ جميع ما كان له، فمات بعد أيام من حبسه، وكان ذلك في شعبان، وقبض على بكنون غلام راغب، وأخذ ما له بطرسوس. وفيها قلد المعتضد ديوان المشرق محمد بن داود بن الجراح، وعزل عنه أحمد بن محمد بن الفرات، وقلد ديوان المغرب علي بن عيسى بن داود ابن الجراح.
وفيها توفي أبوجعفر بن إبراهيم الأمناطي، المعروف بمربع، صاحب يحيى بن معين، وكان حافظاً لحديث؛ ومحمد بن يونس الكريمي البصري.
حوادث سنة سبع وثمانين ومائتين
ذكر قتل أبي ثابت أمير طرسوس
وولاية ابن الأعرابي
في هذه السنة اجتمعت الروم، وحشدت في ربيع الآخر، ووافت باب قلمية من طرسوس، فنفر أبوثابت أمير طرسوس بعد كوت ابن الإخشيد، وكان استخلفه عند موته، فبلغ أبوثابت في نفيره إلى نهر الرجان في طلبهم، فاسر أبوثابت، وأصيب الناس معه.
وكان ابن كلوب غازياً في ردب السلامة، فلما عاد جمع مشايخ الثغر ليتراضوا بأمير، فأجمعوا رأيهم على ابن الأعرابي، فولوه أمرهم، وذلك في ربيع الآخر من هذه السنة.
ذكر ظفر المعتضد بوصيف ومن معهفي هذه السنة هرب وصيف خادم محمد بن أبي الساج من برذعة إلى ملطية من أعمال مولاه، وكتب إلى المعتضد يسأله أن يوليه الثغور، فأخذ رسله وقررهم عن سبب مفارقة وصيف مولاه، فذكروا له أنه فارقه على مواطأة منهما أنه متى ولي وصيف الثغور سار إليه مولاه، وقصدا ديار مصر وتغلبا عليها.
فسار المعتضد نحوه، فنزل العين السوداء وأراد الرحيل في طريق المصيصة، فأتته العيون فأخبروه أن وصيفاً يريد عين زربة، فسأل أهل المعرفة بذلك الطريق، وسألهم عن أقرب الطرق إلى لقاء وصيف، فأخذوه وساروا به نحوه، وقدم جمعاً من عسكره بين يديه، فلقوا وصيفاً فقاتلوه، وأخذوه أسيرأن فأحضروه عند المعتضد فحبسه، وأمر فنودي في أصحاب وصيف بالأمان، وأمر العسكر برد ما نهبوه منهم، ففعلوا ذلك.
وكانت الوقعة لثلاث عشرة بقيت من ذي القعدة؛ فلما فرغ منه رحل إلى المصيصة، واحضر رؤساء طرسوس فقبض عليهم لأنهم كاتبوا وصيفأن وأمر بإحراق مراكب طرسوس التي كانوا يغزون فيهأن وجميع آلاتهأن وكان من جملتها نحومن خمسين مركباً قديمة قد أنفق عليها من الأموال ما لا يحصى، ولا يمكن عمل مثلهأن فأضر ذلك المسلمين، وفت في أعضادهم، وأمر الروم أن يغزوا في البحر، وكان إحراقها بإشارة دميانة غلام بازمار لشيء كان في نفسه على أهل طرسوس، واستعمل على أهل الثغور الحسن بن علي كورة، وسار المعتضد إلى أنطاكية وحلب وغيرهمأن وعاد إلى بغداد.
وفيها توفيت ابنة خمارويه زوج المعتضد.
ذكر أمر القرامطة وانهزام العباس الغنوي منهمفي هذه السنة، في ربيع الآخر، عظم أمر القرامطة بالبحرين، وأغاروا على نواحي هجر، وقرب بعضهم من نواحي البصرة، فكتب أحمد الواثقي يسأل المدد، فسير إليه سميريات فيها ثلاثمائة رجل، وأمر المعتضد باختيار رجل ينفذه إلى البصرة، وعزل العباس بن عمرواللغوي عن بلاد فارس، وأقطعه اليمامة والبحرين، وأمره بمحاربة القرامطة وضم إليه زهاء ألفي رجل، فسار إلى البصرة، واجتمع إليه جمع كثير من المتطوعة والجند والخدم.
ثم سار إلى أبي سعيد الجنابي، فلقوه مساء، وتناوشوا القتال، وحجز بينهم الليل، فلما كان الليل انصرف عن العباس من كان معه من أعراب بني ضبة وكانوا ثلاثمائة إلى البصرة، وتبعهم مطوعة البصرة، فلما أصبح العباس باكر الحرب، فاقتتلوا قتالاً شديدأن ثم حمل نجاح غلام أحمد بن عيسى بن الشيخ من ميسرة العباس في مائة رجل على ميمنة أبي سعيد، فتوغلوا فيهم، فقتلوا عن آخرهم، وحمل الجنابي ومن معه على أصحاب العباس، فانهزموا وأسر العباس، واحتوى الجنابي على ما كان في عسكره، فلما كان من الغد أحضر الجنابي الأسرى فقتلهم جميعاً وحرقهم، وكانت الوقعة آخر شعبان.
ثم سار الجنابي إلى هجر بعد الوقعة، فدخلها وأمن أهلهأن وانصرف من سلم من المنهزمين، وهم قليل، نحوالبصرة بغير زاد، فخرج إليهم من البصرة نحوأربعمائة رجل على الرواحل، ومعهم الطعام والكسوة والماء، فلقوا بها المنهزمين، فخرج عليهم بنوأسد وأخذوا الرواحل وما عليهأن وقتلوا من سلم من المعركة، فاضطربت البصرة لذلك، وعزم أهلها على الانتقال منهأن فمنعهم الواثقي.
وبقي العباس عند الجنابي أياماً ثم أطلقه، وقال له: امض إلى صاحبك وعرفه ما رأيت؛ وحمله على رواحل، فوصل إلى بعض السواحل وركب البحر فوافى الأبلة، ثم سار منها إلى بغداد فوصلها في رمضان، فدخل على المعتضد فخلع عليه.
بلغني أن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: عجائب الدنيا ثلاث: جيش العباس بن عمرو يؤسر وحده، وينجووحده، ويقتل جميع جيشه؛ وجيش عمروبن الصفار يؤسر وحده، ويسلم جميع جيشه؛ وأنا أنزل في بيتي، وتولى ابني أبوالعباس الجسرين ببغداد.
ولما أطلق أبوسعيد العباس أعطاه درجاً ملصقاً وقال له: أوصله إلى المعتضد فإن لي فيه أسراراً. فلما دخل العباس على المعتضد عاتبه المعتضد، فأوصل إليه العباس الكتاب، فقال: والله ليس فيه شيء، وإمنا أراد أن يعلمني أني أنفذتك إليه في العدد الكثير، فردك فردتً؛ وفتح الكتاب وإذ ليس فيه شيء.
وفيهأن في ذي القعدة، أوقع بدر غلام الطائي بالقرامطة، على غرة منهم، فنواحي ميسن وغيرهمأن وقتل منهم مقتلة، ثم تركهم خوفاً أن تخرب السواد، وكانوا فلاحية، وطلب رؤساءهم فقتل من ظفر به منهم.
ذكر أسر عمرو الصفار
وملك إسماعيل خراسانفي هذه السنة، في ربيع الأول، أسر عمروبن الليث الصفار؛ وكان سبب ذلك أن عمراً أرسل إلى المعتضد برأس رافع بن هرثمة، وطلب منه أن يوليه ما وراء النهر، فوجه إليه الخلع والواء بذلك، وهوبنيسابور، فوجه لمحاربة إسماعيل بن أحمد الساماني، صاحب ما وراء النهر، محمد بن بشير، وكان خليفته وحاجبه، وأخص أصحابه بخدمته، وأكبرهم عنده، وغيره من قواده إلى آمل، فعبر إليهم إسماعيل جيجون، فحاربهم، فهزمهم، وقتل محمد بن بشير في نحوستة آلاف رجل.
وبلغ المنهزمون إلى عمرو، وهو بنيسابور، وعاد إسماعيل إلى بخارى فتجهز عمرولقصد إسماعيل، فأشار عليه أصحابه بإنفاذ الجيوش، ولا يخاطر بنفسه، فلم يقبل منهم، وسار عن نيسابور نحوبلخ، فأرسل إليه إسماعيل: أنك قد وليت دنيا عريضة، وأما في يدي ما وراء النهر، وأنا في يغر، فاقنع بما في يدك، واركني في هذا الثغر. فأبى، فذكر لعمرووأصحابه شدة العبور بنهر بلخ، فقال: لوشئت أن أسكره ببذر الأموال واعبره لفعلت.
فسار إسماعيل نحوه وعبر النهر إلى الجانب الغربي، وجاء عمروفنزل بلخ، وأخذ إسماعيل عليه النواحي لكثرة جمعه، وصار عمروكالمحاصر، وندم على ما فعل، وطلب المحاجزة، فأبى إسماعيل عليه، فاقتتلوأن فلم يكن بينهم كثير قتال حتى انهزم عمروفولى هاربأن ومر بأجمة في طريقه، فقيل له: إنها أقرب الطرق، فقال لعامة من معه: امضوا في الطريق الواضح؛ وسار هوفي نفر يسير، فدخل الأجمة، فوحلت به دابته فلم يكن له في نفسه حيلة، ومضى من معه ولم يعرجوا عليه، وجاء أصحاب إسماعيل فأخذوه أسيرأن فسيره إسماعيل إلى سمرقند.
ولما وصل الخبر إلى المعتضد ذم عمراً ومدح إسماعيل، ثم إن إسماعيل خبير عمراً بين مقامه عنده، أوإنفاذه إلى المعتضد، فاختار المقام عند المعتضد، فسيره إليه، فوصل إلى بغداد سنة ثمان وثمانين ومائتين، فلما وصل ركب على جمل وأدخل بغداد، ثم حبس، فبقي محبوساً حتى قتل سنة تسع وثمانين على ما نذكره.
وأرسل المعتضد إلى إسماعيل بالخلع، وولاه ما كان بيد عمرو، وخلع على نائبه بالحضرة المعروف بالمرزباني، واستولى إسماعيل على خراسان وصارت بيده.
وكان عمروأعور شديد السمرة، عظيم السياسة، قد منع أصحابه وقواده أن يضرب أحد منهم غلاماً إلا بأمره، أويتولى عقوبة الغلام نائبه، أوأحد حجابه، وكان يشتري المماليك الصغار، ويربيهم، ويهبهم لقواده ويجري عليهم الجرايات الحسنة سرأن ليطالعوا بأحوال قواده، ولا ينكتم عنه من أخبارهم شيء، ولم يكونوا يعلمون من ينقل إليه عنهم، فكان أحدهم يحذره وهووحده.
حكي عنه أنه كان له عامل بفارس يقال له أبوحصين، فسخط عليه بمرو، وألزمه أن يبيع أملاكه ويوصل ثمنها إليه، ففعل ذلك، ثم طلب منه مائة ألف درهم، فإن أداها في ثلاثة أيام وإلا قتله، فلم يقدر على شيء منهأن فأرسل إلى أبي سعيد الكاتب يطلب منه أن يجتمع به، فأذن له، فاجتمع به، وعرفه ضيق يده وسأله أن يضمنه ليخرج من محبسه ويسعى في تحصيل المبلغ المطلوب منه، ففعل وأخرجه، فلم يفتح عليه بشيء، فعاد إلى أبي سعيد الكاتب، فبلغ خبره عمرأن فقال: والله ما أدري من أيهما أعجب، من أبي سعيد فيما فعل من بذل مائة ألف درهم، أم من أي حصين كيف عاد وقد علم أنه القتل! ثم أمر بإطلاق ما عليه ورده إلى منزله.
وحكي عنه أنه كان يحمل أحمالاً كثيرة من الجرب، ولا يعلم أحد ما مراده، فاتفق في بعض السنين أنه قصد طائفة من العصاة عليه للإيقاع بهم، فسلك طريقاً لا تظن العصاة أنهم يؤتون منه، وكان في طريقه واد، فأمر بتلك الجرب فملئت تراباً وحجارأن ونضد بعضها إلى بعض، وجعلها طريقاً في الوادي، فعبر أصحابه عليهأن وأتاهم وهم آمنون فأثخن فيهم وبلغ منهم ما أراد.
وحكي أيضاً أن أكفر حجابه كان اسمه محمد بن بشير، وكان يخلفه في كثير من أموره العظام، فدخل عليه يومأن وأخذ يعدد عليه ذنوبه، فحلف محمد بالله والطلاق والعتق أنه لا يملك إلا خمسين بدرة، وهويحملها إلى الخزانة، ولا يجعل له ذنباً لم يعلمه، فقال عمرو: ما أعقلك من رجل! احملها إلى الخزانة فحملهأن فرضي عنه، وما أقبح هذا من فعل وشره إلى أموال من أذهب عمره في خدمته!
ذكر قتل محمد بن زيد العلويفي هذه السنة قتل محمد بن زيد العلوي، صاحب طبرستان والديلم.
وكان سبب قتله أنه لما اتصل به أسر عمروبن الليث الصفار خرج من طبرستان نحوخراسان ظناً منه أن إسماعيل الساماني لا يتجاوز عمله، ولا يقصد خراسان، وانه لا دافع له عنها.
فلما سار إلى جرجان أرسل إليه إسماعيل، وقد استولى على خراسان، يقول له: الزم عملك، ولا تتجاوز عمله، ولا تقصد خراسان؛ وترك جرجان له، فأبى ذلك محمد، فندب إليه إسماعيل بن أحمد محمد بن هارون، ومحمد هذا كان يخلف رافع بن هرثمة أيام ولايته خراسان، فجمع محمد جمعاً كثيراً من فارس وراجل، وسار نحومحمد بن زيد، فالتقوا على باب جرجان، فاقتتلوا قتالاً شديدأن فانهزم محمد بن هارون أولاً ثم رجع وقد تفرق أصحاب محمد بن زيد في الطلب، فلما رأوه قد رجع إليهم ولوا هاربين، وقتل منهم بشر كثير، وأصابت ابن زيد ضربات، وأسر ابنه زيد، وغمن ابن هارون عسكره وما فيه، ثم مات محمد بن زيد بعد أيام من جراحاته التي أصابته، فدفن على باب جرجان.
وحمل ابنه زيد بن محمد إلى إسماعيل بن احمد، فأكرمه ووسع في الإنزال عليه، وأنزله بخارى، وسار محمد ين هارون إلى طبرستان.
وكان محمد بن زيد فاضلأن أديبأن شاعرأن عارفأن حسن السيرة، قال أبوعمر الأسترباذي: كنت أورد على محمد بن زيد أخبار العباسيين، فقلت له: إنهم قد لقبوا أنفسهم، فإذا ذكرتهم عندك أسميهم أوألقبهم؟ فقال: الأمر موسع عليك، سمهم ولقبهم بأحسن ألقابهم وأسمائهم، وأحبها إليهم.
وقيل: حضر عنده خصمان أحدهما اسمه معاوية والآخر اسمه علي، فقال: الحكم بينكما ظاهر، فقال معاوية: إن تحت هذين الاسمين خبرأن قال محمد: وما هو؟ قال: إن أبي كان من صادقي الشيعة، فسماني معاوية لينفي شر النواصب، وإن أبا هذا كان ناصبيأن فسماع علياً خوفاً من العلوية والشيعة، فتبسم إليه محمد، واحسن إليه وقربه.
وقيل: استأذن عليه جماعة من أضراء الشيعة وقرائهم، فقال: ادخلوأن فإنه لا يحبنا كل كسير وأعور.
ذكر ولاية أبي العباس صقليةكان إبراهيم ابن الأمير أحمد أمير إفريقية قد استعمل على صقلية أبا مالك أحمد بن عمر بن عبد الله، فاستضعفه، فولى بعده ابنه أبا العباس بن إبراهيم ابن أحمد بن الأغلب، فوصل إليها غرة شعبان من هذه السنة في مائة وعشرين مركباً وأربعين حربي، وحصر طرابلس.
واتصل خبره بعسكر المسلمين بمدينة بلرم وهم يقاتلون أهل جرجنت، فعادوا إلى بلرم، وأرسلوا جماعة من شيوخهم إليه بطاعتهم، واعتذروا من قصدهم جرجنت، ووصل إليه جماعة من أهل جرجنت، وشكوا منهم واخبروه أنهم خالفون عليه، وانهم إمنا سيروا مشايخهم خديعة ومكرأن وأنهم لا إيمان لهم ولا عهد؛ وإن شئت أن تعلم مصداق هذا فاطلب إليك منهم فلاناً وفلاناً.
فأرسل إليهم يطلبهم فامتنعوا من الحضور عنده، وخالفوا عليه، واظهروا ذلك، فاعتقل الشيوخ الواصلين إليه منهم، واجتمع أهل بلرم وساروا إليه منتصف شعبان، ومقدمهم مسعود الباجي، وأمير السفهاء منهم ركموية، وصحبهم ثم أسطول في البحر نحوثلاثين قطعة، فهاج البحر على الأسطول، فعطب أكثره، وعاد الباقي إلى بلرم.
وأما العسكر الذين في البر فإنهم وصلوا إليه وهوعلى طرابلس، فاقتتلوا أشد قتال، فقتل من الفريقين جماعة وافترقوأن ثم عاودوا القتال في الثاني والعشين، فانهزم أهل بلرم وقت العصر وتبعهم أبوالعباس إلى بلرم براً وبحراً فعاودوا قتاله عاشر رمضان من بكرة إلى العصر، فانهزم أهل البلد، ووقع القتل فيهم إلى المغرب، واستعمل أبوالعباس على أرباضهأن ونهبت الأموال، وهرب كثير من الرجال والنساء إلى طبرمين، وهرب ركمويه وأمثاله من رجال الحرب إلى بلاد النصرانية، كالقسطنطينية وغيرهأن وملك أبوالعباس المدينة، ودخلهأن وأمن أهلهأن وأخذ جماعة من وجوه أهلها فوجههم إلى أبيه بإفريقية.
ثم رحل إلى طبرمين، فقطع كرومها وقاتلهم، ثم رحل إلى قطانية فحصرهأن فلم ينل منها غرضأن فرجع إلى المدينة وأقام إلى أد دخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين فتجهز للغزو، وطاب الزمان، وعمر الأسطول وسيره أول ربيع الآخر ونزل على دمنش، ونصب عليها المجانيق، وأقام أياماً.
ثم انصرف إلى مسيني، وجاز في الحربية إلى ريو، وقد اجتمع بها كثير من الروم، فقاتلهم على باب المدينة، وهزمهم، وملك المدينة بالسيف في رجب، وغمن من الذهب والفضة ما لأحد، وشحن المراكب بالدقيق والأمتعة، ورجع إلى مسيني وهدم سورهأن ووجد بها مراكب قد وصلت من القسطنطينية، فأخذ منها ثلاثين مركباً ورجع إلى المدينة، وأقام إلى سنة تسع وثمانين، فأتاه كتاب أبيه إبراهيم يأمره بالعود إلى إفريقية، فرجع إليها جريدة في خمس قطع شواني، وترك العسكر مع ولديه أبي مضر وأبي معد.
فلما وصل إلى إفريقية استخلفه أبوه بهأن وسار هوإلى صقلية مجاهدأن عازماً على الحج بعد الجهاد، فوصلها في رجب سنة سبع وثمانين ومائتين، وقد ذكرنا خبره سنة إحدى وستين ومائتين.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة جمعت طي من قدرت عليه من الأعراب، وخرجوا على قفل الحاج، فواقعوهم بالمعدن، وقاتلوهم يومين بين الخميس والجمعة لثلاث بقين من ذي الحجة، فانهزم العرب وقتل كثير وسلم الحاج.
وفيها مات إسحاق بن أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب العدوي، عدي ربيعة، أمير ديار ربيعة من بلاد الجزيرة، فولي مكانه عبد الله بن الهيثم ابن عبد الله بن المعتمر.
وفيها توفيت قطر الندى ابنة خمارويه بن احمد بن طولون، صاحب مصر، وهي امرأة المعتضد. وحج بالناس هذه السنة محمد بن عبد الله بن داود.
وفيها استعمل المعتضد عيسى النوشري، وهوأمير أصبهان، على بلاد فارس، وأمره بالمسير إليه.
وفيها توفي فهد بن أحمد فهد الأزدي الموصلي، وكان من الأعيان؛ وعلي بن عبد العزيز البغوي، توفي صاحب أبي عبيد القاسم ابن سلام، بالتشديد.
حوادث سنة ثمان وثمانين ومائتينفي هذه السنة وقع الوباء بأذربيجان فمات منه خلق كثير إلى أن فقد الناس ما يكفنون به الموتى، وكانوا يتركونهم على الطرق غير مكفنين ولا مدفنين. وفيها توفي محمد بن أبي الساج بأذربيجان في الوباء الكثير المذكور، فاجتمع أصحابه، فولوا ابنه ديوداد، واعتزلهم عمه يوسف بن أبي الساج مخالفاً لهم، فاجتمع إليه نفر يسير، فأوقع بابن أخيه ديوداد وهوعسكر أبيه فهزمه، وعرض عليه يوسف المقام معه فأبى، وسلك طريق الموصل إلى بغداد، وكان ذلك في رمضان.
وفيهأن في صفر، دخل طاهر بن محمد بن عمروبن الليث بلاد فارس في عسكره وأخرجوا عنها عامل الخليفة، فكتب الأمير إسماعيل بن أحمد الساماني إلى طاهر يذكر له أن الخليفة المعتضد قد ولاه سجستان، وأنه سائر إليهأن فعاد طاهر لذلك.
وفيها ولى المعتضد مولاه يدراً فارس، وأمره بالشخوص إليها لما بلغه أن طاهراً تغلب عليهأن فسار إليها في جيش عظيم في جمادى الآخرة، فلما قرب من فارس تنحى عنها من كان بها من أصحاب طاهر، فدخلها بدر، وجبى خراجهأن وعاد طاهر إلى سجستان، كما ذكرناه من مراسلة إسماعيل الساماني إليه بأنه يريد يقصد سجستان.
وفيها تغلب بعض العلويين على صنعاء، فقصده بنويعفر في جمع كثير فقاتلوه، فهزموه، ونجا هارباً في نحوخمسين فارسأن وأسروا ابناً له، ودخلها بنويعفر، وخطبوا فيها للمعتضد.
وفيها سير الحسين بن علي كورة صاحبه نزار بن محمد إلى صائفة الروم، فغزأن وفتح حصوناً كثيرة للروم، وعاد ومعه الأسرى، ثم إن الروم ساروا في البر والبحر إلى ناحية كيسوم، فأخذوا من المسلمين أكثر من خمسة عشر ألفاً وعادوا.
وفيها قرب أصحاب أبي سعيد الجنابي من البصرة، فخاف أهلهأن وهموا بالهرب منهم، فمنعهم من ذلك واليهم.
وفيهأن في ذي الحجة، قتل وصيف خادم ابن أبي الساج، وصلبت جثته ببغداد، وقيل إنه مات ولم يقتل. وحج بالناس هذه السنة هارون بن محمد المكنى أبا بكر.
وفيهأن في ربيع الآخر، توفي عبيد الله بن سليمان الوزير، فعظم موته على المعتضد، وجعل ابنه أبا الحسين بن عبيد الله بعد أبيه في الوزارة.
وفيها توفي إبراهيم وبشر بن موسى الأسدي، وهومن الحفاظ للحديث.
وفيهأن في صفر، توفي ثابت بن قرة بن سنان الصابي الطبيب المشهور، ومعاذ بن المثنى.
حوادث سنة تسع وثمانين ومائتين
ذكر أخبار القرامطة بالشامفي هذه السنة ظهر بالشام رجل من القرامطة، وجمع جموعاً من الأعراب، وأتى دمشق، وأميرها طغج بن جف من قبل هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون، وكانت بينهما وقعات.
وكان ابتداء حال هذا القرمطي أن زكرويه بن مهرويه الذي ذكرنا أنه داعية قرمط هذأن لما رأى أن الجيوش من المعتضد متتابعة إلى من بسواد الكوفة من القرامطة، فإن القتل قد أبادهم، سعي باستغواء من قرب من الكوفة عن الأعراب: أسد وطي وغيرهم، فلم يجبه منهم أحد، فأرسل أولاده إلى كلب بن وبرة فاستعوزهم، فلم يجبهم منهم إلا الفخذ المعروف ببني العليص بن ضمضم بن عدي بن خباب ومواليهم خاصة، فبايعوا في سنة تسع وثمانين ومائتين، بناحية السماوة، ابن زكرويه، المسمى بيحيى، المكنى أبا القاسم، فلقبوه الشيخ، وزعم أنه محمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقيل: لم يكن لمحمد بن إسماعيل ولد اسمه عبد الله، وزعم أن له بالبلاد مائة ألف تابع، وأن ناقته التي يركبها مأمورة، فإذا تبعوها في مسيرها نصروأن وأظهر عضداً له ناقصة وذكر أنه ابنه، وأتاه جماعة من بني الأصبع، وسموا الفاطميين، ودانوا بدينه، فقصدهم شبل غلام المعتضد من ناحية الرصافة فاغتروه فقتلوه، وأحرقوا مسجد الرصافة، واعترضوا كل قرية اجتازوا بهأن حتى بلغوا هارون بن خمارويه التي قوطع عليها طغج بن جف، فأكثروا القتل بها والغارة، فقاتلهم طغج، فهزموه غير مرة.
ذكر أخبار القرامطة بالعراقوفيها انتشر القرامطة بسواد الكوفة، فوجه المعتضد شبلاً غلام أحمد بن محمد الطائي، وظفر بهم، وأخذ رئيساً لهم يعرف بأبي الفوارس، فسيره إلى المعتضد، فأحضره بين يديه وقال له: أخبرني! هل تزعمون أن روح الله تعالى وروح أنبيائه تحل في أجسادكم فتعصمكم من الزلل وتوفقكم لصالح العمل؟ فقال له: يا هذا إن حلت روح الله فينا فيما يضرك؟ وإن حلت روح إبليس فما ينفعك؟ فلا تسأل عما لا يعنيك وسل عما يخصك.
فقال: ما تقول فيما يخصني؟ قال أقول: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما ت وأبوكم العباس حي، فهل طالب بالخلافة أم هل بايعه أحد من الصحابة على ذلك؟ ثم مات أبوبكر فاستخلف عمر، وهويرى موضع العباس، ولم يوص إليه، ثم مات عمر وجعلها شورى في ستة أنفس، ولم يوص إليه، ولا أدخله فيهم، فبماذا تستحقون أنتم الخلافة؟ وقد اتفق الصحابة على دفع جدل عنها.
فأمر به المعتضد فعذب، وخلعت عظامه، ثم قطعت يداه ورجلاه، ثم قتل.
ذكر وفاة المعتضدفي هذه السنة، في ربيع الآخر، توفي المعتضد بالله أبوالعباس أحمد بن الموفق بن المتوكل ليلة الاثنين لثمان بقين منه، وكان مولده في ذي الحجة من سنة اثنتين وأربعين ومائتين.
ولما اشتد مرضه اجتمع القواد منهم يونس الخادم، وموشكير وغيرهمأن وقالوا للوزير القاسم بن عبيد الله ليجدد البيعة للمكتفي، وقالوا: إنا لا نأمن فتنة، فقال: إن هذا المال لأمير المؤمنين ولولده من بعده، وأخاف أن أطلق فيبرأ من علته فينكر علي ذلك.
فقال: إن برئ من مرضه فنحن المحتجون، والمناظرون، وإن صار الأمر إلى ولده فلا يلومنأن ونحن نطلب الأمر له.
فأطلق المال وجدد عليه البيعة، وأحضر عبد الواحد بن الموفق وأخذ عليه البيعة فوكل به وأحضر ابن المعتز، ومضى ابن المؤيد وعبد العزيز بن المعتمد ووكل بهم.
فلما توفي أحضر يوسف بن يعقوب وأبا حازم وأبا عمر محمد بن يوسف بن يعقوب، فتولى غسله محمد بن يوسف، وصلى عليه الوزير، ودفن ليلاً في دار محمد بن طاهر، وجلس الوزير في دار الخلافة للعزاء. وجدد البيعة للمكتفي.
وكانت أم المعتضد، واسمها ضرار، قد توفيت قبل خلافته، وكانت خلافته سبع سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوماً؛ وخلف من الولد الذكور: علياً وهوالمكتفي، وجعفراً وهوالمقتدر، وهارون، ومن البنات إحدى عشرة بنتأن وقيل سبع عشرة، ولما حضرته الوفاة أنشد:
تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى ... وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا
ولا تأمن الدهر إن قد أمتنه فلم يبق لي حالاً ولم يرع لي حقاً
قتلت صناديد الرجال ولم أدع ... عدواً ولم أمهل على طغيه خلقا
وأخلبت دار الملك من كل نازع ... فشردتهم غرباً ومزقتهم شرقا
فلما بلغت النجم عزاً ورفعةً ... وصارت راقاب الخلق أجمع لي رقا
رماني الردى سهماً فأخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي عاجلاً ألقي
ولم يغن عني ما جمعت ولم أجد ... لذي الملك والأحياء في حسنها رفقا
فيا ليت شعري بعد موتي ما ألقى؟ ... إلى نعم الرحمن أم ناره ألقى
ذكر صفته وسيرتهكان المعتضد اسمر، نحيف الجسم، معتدل الخلق، قد وخطه الشيب، وكان شهمأن شجاعأن مقدامأن وكان ذا عزم، وكان فيه شح بلغه خبر وصيف خادم ابن أبي الساج وعليه قباء اصفر، فسار من ساعته وظفر بوصيف وعاد، فدخل أنطاكية وعليه القباء، فقال بعض أهلها: الخليفة بغير سواد؛ فقال بعض أصحابه: إنه سار فيه، ولم ينزعه إلى الآن. وكان عفيفاً.
حكى القاضي إسماعيل بن إسحاق قال: دخلت على المعتضد وعلى رأسه أحداث روم صباح الوجوه، فأطلت النظر إليهم، فلما قمت أمرني بالقعود فجلست، فلما تفرق الناس قال: يا قاضي، والله ما حللت سراويلي على غير حلال قط.
وكان مهيباً عند أصحابه يتقون سطوته ويكفون عن الظلم خوفاً منه.
ذكر خلافة المكتفي باللهولما توفي المعتضد كتب الوزير إلى أبي محمد علي بن المعتضد، وهوالمكتفي بالله، يعرفه بذلك بأخذ البيعة له، وكان بالرقة، فلما وصله الخبر أخذ البيعة على من عنده من الأجناد، ووضع لهم العطاء وسار إلى بغداد، ووجه إلى النواحي من ديار ربيعة ومضر ونواحي العرب من يحفظهأن ودخل بغداد لثمان خلون من جمادى الأولى، فلما سار إلى منزله أمر بهدم المطامير التي كان أبوه اتخذها لأهل الجرائم.
ذكر قتل عمرو بن الليث الصفاروفي هذا اليوم الذي دخل فيه المكتفي بغداد قتل عمروبن الليث بن الصفار، ودفن من الغد. وكان المعتضد، بعدما امتنع من الكلام، أمر صافياً الخرمي بقتل عمروابن الليث بالإيماء والإشارة، ووضع يده على رقبته وعلى عينه بأن اذبح الأعور، وكان عمروأعور، فلم يفعل ذلك صافي لعلمه بقرب وفاة المعتضد، وكره قتل عمرو، فلما وصل المكتفي بغداد سأل الوزير عنه، فقال، هوحي، فسر بذلك، وأراد الإحسان إليه لأنه كان يكثر من الهدية إليه لما كان بالري، فكره الوزير ذلك، فبعث إليه من قتله.
ذكر استيلاء محمد بن هارون على الريوفي هذه السنة كاتب أهل الري محمد بن هارون الذي كان حارب محمد ابن زيد العلوي، وتولى طبرستان لإسماعيل بن أحمد، وكان محمد بن هارون قد خلع طاعة إسماعيل، فسأله أهل الري المسير إليهم ليسلموها إليه.
وكان سبب ذلك أن الوالي عليهم كان قد أساء السيرة فيهم، فسار محمد بن هارون إليهم فحاربه واليها وهوالدتمش التركي، فقتله محمد وقتل ابنين وأخا كيغلغ، وهومن قواد الخليفة، ودخل محمد بن هارون الري، واستولى عليها في رجب.
ذكر قتل بدر
وفيها قتل بدر غلام المعتضد؛ وكان سبب ذلك أن القاسم الوزير كان قد هم بنقل الخلافة عن ولده المعتضد بعده، فقال لبدر في ذلك في حياة المعتضد بعد أن استخلفه واستكتمه، فقال بدر: ما كنت لأصرفها عن ولد مولاي وولي نعمتي؛ فلم يمكنه مخالفة بدر، إذ كان صاحب الجيش، وحقدها على بدر، فلما مات المعتضد كان بدر بفارس، فعقد القاسم البيعة لمكتفي، وهوبالرقة.
وكان المكتفي أيضاً مباعداً لبدر في حياة أبيه، وعمل القاسم في هلاك بدر خوفاً على نفسه أن يذكر ما كان منه للمكتفي، فوجه المكتفي محمد بن كشتمر برسائل إلى القواد الذين مع بدر يأمرهم بالمسير إليه ومفارقة بدر، ففارقه جماعة منهم العباس بن عمروالغنوي، ومحمد بن إسحاق بن كنداج، وخاقان المفلحي وغيرهم، فاحسن إليهم المكتفي، وسار بدر إلى واسط، فوكل المكتفي بداره، وقبض على أصحابه وقواده وحبسهم، وأمر بمحواسم بدر من التراس والأعلام، وسير الحسين بن علي كورة في جيش إلى واسط.
وأرسل إلى بدر يعرض عليه أي النواحي شاء، فأبى ذلك، وقال: لا بد لي من المسير إلى باب مولاي؛ فوجد القاسم مساغاً للقول، وخوف المكتفي عائلته، وبلغ بدراً ما فعل بأهله وأصحابه، وأرسل من يأتيه بولده هلال سرأن فعلم الوزير بذلك، فاحتاط عليه، ودعا أبا حازم، قاضي الشرقية، وأمره بالمسير إلى بدر، وتطيب نفسه عن المكتفي، وإعطائه الأمان عنه لنفسه وولده وماله، فقال أبوحازم: أحتاج إلى سماع ذلك من أمير المؤمنين؛ فصرفه ودعا أبا عمر القاضي، وأمره بمثل ذلك فأجابه، وسار ومعه كتاب الأمان، فسار بدر عن واسط نحوبغداد، فأرسل إليه الوزير من قتله، فلما أيقن بالقتل سأل أن يمهل حتى يصلي ركعتين، فصلاهمأن ثم ضربت عنقه يوم الجمعة لست خلون من شهر رمضان، ثم أخذ رأسه وتركت جثته هنالك، فوجه عياله من أخذها سراً وجعلوها في تابوت، فلما كان وقت الحج حملوها إلى مكة، فدفنوها بهأن وكان أوصى بذلك وأعتق قبل أن يقتل كل مملوك كان له.
ورجع أبوعمر إلى داره كئيباً حزيناً لما كان منه، وقال الناس فيه أشعارأن وتكلموا فيه، ففما قيل فيه:
قل لقاضي مدينة المنصور ... بم أحللت أخذ رأس الأمير
عند إعطائه المواثيق والعه ... د وعقد الأيمان في منشور
أين أيمانك التي شهد الل ... ه على أنها يمين فجو
إن كفيك لا تفارق كفي ... ه إلى ، ترى عليل السرير
يا قليل الحياء يا أكذب الام ... ة يا شاهداً شهادة زور
ليس هذا فعل القضاة ولا يح ... سن أمثاله ولاة الجسور
أي أمر ركبت في الجمعة الزه ... راء منه في خير هذي الشهور
قد مضى من قتلت في رمضا ... ن صائماً بعد سجدة التعفير
يا بني يوسف بن يعقوب أضحى ... أهل بغداد منكم في غرور
بدد الله شملكم وأراني ... ذلكم في حياة هذا الوزير
فأعدوا الجواب للحكم العد ... ل ومن بعد منكر ونكير
أنتم كلكم فدىً لأبي حا ... زم المستقيم كل الأمور
ذكر ولاية أبي العباس إفريقيةقد ذكرنا سنة إحدى وستين ومائتين أن إبراهيم بن أحمد، أمير إفريقية، عهد إلى ولده أبي العباس عبد الله سنة تسع وثمانين ومائتين، وتوفي فيهأن فلما توفي والده قام بالملك بعده، وكان أديبأن لبيبأن شجاعأن أحد الفرسان المذكورين، مع علمه بالحرب وتصرفها.
وكان عاقلأن عالمأن له نظر حسن في الجدل، وفي أيامه عظم أمر أبي عبد الله الشيعي فأرسل أخاه الأحول، ولم يكن أحول، وإمنا لقب بذلك لأنه كان إذا نظر دائماً ربما كسر جفنه، فلقب بالأحول، إلى قتال أبي عبد الله الشيعي، فلما بلغه حركته إليهم في جموع كثيرة والتقوا عند كموشة، فقتل بينهم خلق عظيم، وانهزم الأحوال، إلا أنه أقام في مقابلة أبي عبد الله.
وكان أبوالعباس أيام أبيه على خوف شديد منه بسوء أخلاقه، واستعمله أبوه على صقلية، ففتح فيها مواضع متعددة، وقد تقدم ذكر ذلك أيام والده، ولما ولي أبوالعباس إفريقية كتب إلى العمال كتاباً يقرأ على العامة يعدهم فيه الإحسان، والعدل، والرفق، والجهاد، ففعل ما وعد من نفسه، وأحضر من العلماء ليعينوه على أمر الرعية.
وله شعر، فمن ذلك قوله بصقلية، وقد شرب دواء:
شربت الدواء على غربة ... بعيداً من الأهل والمنزل
وكنت إذا ما شربت الدوا ... أطيب بالمسك والمندل
وقد صار شربي بحار الدما ... ونقع العجاجة والقسطل
واتصل بأبي العباس عن ولده أبي مضر زيادة الله والي صقلية له اعتكافه على اللهو، وإدمانه شرب الخمر، فعزله وولى محمد بن السرقوسي، وحبس ولده، فلما كان ليلة الأرعاء آخر شعبان من سنة تسعين ومائتين قتل أبوالعباس، قتله ثلاثة نفر من خدمه الصقالبة بوضع من ولده، وحملوا رأسه إلى ولده أبي مضر، وهوفي الحبس، فقتل الخدم وصلبهم، وكان هوالذي وضعهم، فكانت إمارته سنة اثنين وخمسين يوماً، وكان سكناه وقتله، رحمه الله، بمدينة تونس.
وكان كثير العدل، أحضر جماعة كثيرة عنده ليعينوه على العدل، ويعرفوه من أحوال الناس ما يفعل فيه على سبيل الإنصاف، وأمر الحاكم في بلده أن يقضي عليه، وعلى جميع أهله، وخواص أصحابه، ففعل ذلك، ولما قتل ولي ابنه أبومضر، وكان من أمره ما نذكره سنة ست وتسعين ومائتين.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، منتصف رمضان، قتل عبد الواحد بن الموفق، وكانت والدته إذا سألت عنه قيل لها إنه في دار المكتفي، فلما مات المكتفي أيست منه، فأقامت عليه مأتماً.
وفيها كانت وقعة بين أصحاب إسماعيل بن أحمد وبين ابن جستان الديلمي بطبرستان، فانهزم ابن جستان.
وفيها لحق إسحاق الفرغاني، وهومن أصحاب بدر، بالبادية، واظهر الخلاف على الخليفة المكتفي، فحاربه أبوالأغر، فهزمه إسحاق، وقتل من أصحابه جماعة.
وفيها سير خاقان المفلحي إلى الري في جيش كثيف ليتولاها.
وفيها صلى الناس العصر بحمص وبغداد في الصيف، ثم هب هواء من ناحية الشمال، فبرد الوقت، واشتد البرد حتى احتاج الناس إلى النار ولبس الجباب، وجعل البرد يزداد حتى جمد الماء.
وفيها كانت وقعة بين إسماعيل بن أحمد وبين محمد بن هارون بالري، فانهزم محمد، ولحق بالديلم مستجيراً بهم، ودخل إسماعيل الري.
وفيها زادت دجلة قدر خمسة عشر ذراعاً.
وفيها خلع المكتفي على هلال بن بدر وغيره من أصحاب أبيه في جمادى الأولى.
وفيها هبت ريح عاصف بالبصرة، فقلعت كثيراً من نخلهأن وخسف بموضع منها هلك فيه ستة آلاف نفس، وزلزلت بغداد، في رجب، عدة مرات، فتضرع أهلها في الجامع فكشف عنهم.
وفيها مات أبوحمزة بن محمد بن إبراهيم الصوفي، وهومن أقران سري السقطي.
حوادث سنة تسعين ومائتين
ذكر أخبار القرامطةفي هذه السنة، في ربيع الآخر، سير طغج بن جف جيشاً من دمشق إلى القرمطي، عليهم غلام له اسمه بشير، فهزمهم القرمطي وقتل بشيراً.
وفيها حصر القرمطي دمشق، وضيق على أهلهأن وقتل أصحاب طغج، ولم يبق منه إلا القليل، واشرف أهلها على الهلكة، فاجتمع جماعة من أهل بغداد، وانهوا ذلك إلى الخليفة فوعدهم النجدة، وأمد المصريون أهل دمشق ببدر وغيره من القواد، فقاتلوا الشيخ مقدم القرامطة، فقتل على باب دمشق، رماه بعض المغاربة بمزراق، وزرقه نفاط بالنار فاحترق، وقتل منهم خلق كثير.
وكان هذا القرمطي يزعم أنه إذا أشار بيده إلى جهة من التي فيها محاربوه انهزموا؛ ولما قتل يحيى المعروف بالشيخ، وقتل أصحابه، اجتمع من بقي منهم على أخيه الحسين، وسمى نفسه أحمد، وكناه أبا العباس، ودعا الناس فأجابه أكثر أهل البوادي وغيرهم، فاشتدت شوكته، وأظهر شامة في وجه، وزعم أنها آيته، فسار إلى دمشق، فصالحه أهلها على خراج دفعوه إليه وانصرف عنهم.
ثم سار إلى أطراف حمص، فغلب عليهأن وخطب له على منابرها، وتسمي المهدي أمير المؤمنين، وأتاه ابن عمه عيسى بن المهدي، المسمى عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل، فلقبه المدثر، وعهد إليه، وزعم أنه المدثر الذي في القرآن، ولقب غلاماً من أهله المطوق، وقلده قتل أسرى المسلمين.
ولما أطاعه أهل حمص، وفتحوا له بابها خوفاً منه، سار إلى حماه، ومعرة النعمان، وغيرهمأن فقتل أهلهأن وقتل النساء والصبيان، ثم سار إلى بعلبك فقتل عامة أهلهأن ولم يبق منهم إلا اليسير، ثم سار إلى سلمية فمنعه أهلهأن ثم صالحهم وأعطاهم الأمان، ففتحوا له بابهأن فبدأ بمن فيها من بني هاشم، وكانوا جماعة، فقتلهم أجمعين، ثم قتل البهائم، والصبيان بالمكاتب ثم خرج منها وليس بها عين تطرف.
وسار فيها حولها من القرى يسبي، ويقتل، ويخيف السبيل، فذكر عن متطبب بباب المحول يدعى أبا الحسين قال: جاءتني امرأة بعدما أدخل القرمطي صاحب الشامة بغداد، وقالت: أريد أن تعالج جرحاً في كتفي؛ فقلت: ها هنا امرأة تعالج النساء، فانتظرتهأن فقعدت وهي باكية مكروبة، فسألتها عن قصتها قالت: كان لي ولد طالت غيبته عني، فخرجت أطوف عليه البلاد فلم أره، فخرجت من الرقة في طلبه، فوقعت في عسكر القرمطي أطلبه، فرأيته، فشكوت إليه حالي وحال أخواته، فقال: دعيني من هذأن أخبريني ما دينك؟ فقلت: أما تعرف ما ديني؟ فقال: ما كنا فيه باطل، والدين ما نحن فيه اليوم؛ فعجبت من ذلك، وخرج وتركني، ووجه بخبز ولحم، فلم أمسه حتى عاد فأصلحه.
وأتاه رجل من أصحابه فسأله عني هل أحسن من أمر النساء شيئأن فقلت: نعم، فأدخلني دارأن فإذا امرأة تطلق، فقعدت بين يديهأن وجعلت أكلمها ولا تكلمني، حتى ولدت غلامأن فأصلحت من شأنه، وتلطفت بها حتى كلمتني، فسألتها عن حالهأن فقالت: أنا امرأة هاشمية، أخذنا هؤلاء أقوام، فذبحوا أبي وأهلي جميعأن وأخذني صاحبهم، فأقمت عنده خمسة أيام، ثم أمر بقتلي، فطلبني منه أربعة أنفس من قواده، فوهبني لهم، وكنت معهم، فوالله ما ادري ممن هذا الولد منهم.
قالت: فجاء رجل فقالت لي: هنيه، فهنيته، فأعطاني سبيكة فضة، وجاء آخر وآخر، أهني كل واحد منهم، ويعطيني سبيكة فضة، ثم جاء الرابع ومعه جماعة، فهنيته، فأعطاني ألف درهم، وبتنأن فلما أصبحنا قلت للمرأة: قد وجب حقي عليك فالله الله خلصني! قالت: ممن أخلصك؟ فأخبرتها خبر ابني، فقالت: عليك بالرجل الذي جاء آخر القوم، فأقمت يومي، فلما أمسيت وجاء الرجل قمت له، وقبلت يده ورجله، ووعدته أنني أعود بعد أن أوصل ما معي إلى بناتي؛ فدعا قوماً من غلمانه وأمرهم بحملي إلى مكن ذكره، وقال: اتركوها فيه وارجعوا؛ فساروا بين عشرة فراسخ، فلحقنا ابني، فضربني بالسيف فجرحني، ومنعه القوم، وساروا بي إلى المكان الذي سماه لهم صاحبهم، وتركوني وجئت إلى هاهنا.
قالت: ولما قدم الأمير بالقرامطة وبالأساري رأيت ابني فيهم على جمل عليه برنس، وهويبكي، فقلت: لا خفف الله عنك ولا خلصك! ثم إن كتب أهل الشام ومصر وصلت إلى المكتفي يشكون ما يلقون من القرمطي من القتل، والسبي، وتخريب البلاد، فأمر الجند بالتأهب، وخرج من بغداد ف برمضان، وسار إلى الشام وجعل طريقه على الموصل، وقدم بين يديه أبا الأغر في عشرة آلاف رجل، فنزل قريباً من حلب، فكبسهم القرمطي، صاحب الشامة، فقتل منهم خلقاً كثيرأن وسلم أبوالأغر، فدخل حلب في ألف رجل، وكانت هذه الوقعة في رمضان، وسار القرمطي إلى باب حلب، فحاربه أبوالأغر بمن بقي معه، وأهل البلد، فرجع عنهم.
وسار المكتفي حتى نزل الرقة، وسير الجيوش إليه، وجعل أمرهم إلى محمد بن سليمان الكاتب.
وفيهأن في شوال تحارب القرمطي صاحب الشامة وبدر مولى ابن طولون، فانهزم القرمطي وقتل من أصحابه خلق كثير، ومضى من سلم منهم نحوالبادرية، فوجه المكتفي في أثرهم الحسين بن حمدان وغيره من القواد.
وفيها كبس ابن بانوا أمير البحرين حصناً للقرامطة، فظفر بمن فيه، وواقع قرابة أبي سعيد الجنابي، فهزمه ابن بانوأن وكان مقام هذا القرمطي بالقطيف، وهوولي عهد أبي سعيد، ثم إنه وجد بعدما انهزم أصحابه قتيلاً فاخذ رأسه وسار ابن بانوا إلى القطيف فافتتحها.
ذكر أسر محمد بن هارون
وفيها اخذ محمد بن هارون أسيراً؛ وكان سبب ذلك أن المكتفي أنفذ عهداً إلى إسماعيل بن أحمد الساماني بولاية الري، فسار إليهأن وبها محمد بن هارون، فسار عنها إلى محمد إلى قزوين وزنجاز، ثم عاد إلى طبرستان، فاستعمل إسماعيل ابن احمد على جرجان بارس الكبير، وألزمه بإحضار محمد بن هارون قسرأن أوصلحأن وكاتبه بارس وضمن له إصلاح حاله مع الأمير إسماعيل، فقبل محمد قوله، وانصرف عن جستان الديلمي، وقصد بخارى، فلما بلغ مروقيد بهأن وذلك في شعبان سنة تسعين ومائتين، ثم حمل إلى بخارى فأدخلها على جمل وحبس بها فمات بعد شهرين محبوساً.
وكان ابتداء أمره أنه كان خياطأن ثم جمع جمعاً من الرعاع وأهل الفساد، فقطع الطريق بمفازة سرخس مدة، ثم استأمن إلى رافع بن هرثمة، وبقي معه إلى أن انهزم عمروالصفار، فاستأمن إلى إسماعيل بن أحمد الساماني، صاحب ما وراء النهر، بعد قتل رافع، فسيره إسماعيل إلى قتال محمد بن زيد، على ما تقدم ذكره، وقد ذكره الخوافي في شعره فقال:
كان ابن هارون خياطاً له إبر ... وراية سامها عشراً بقيراط
فانسل في الأرض يبغي الملك في عصب ... زط ونوب وأكراد وأنباط
أنى ينال الثريا كف ملتزق ... بالترب عن ذروة العلياء هباط
صبراً أميرك إسماعيل منتقم ... منه ومن كل غدار وخياط
رأيت عيراً سما جهلاً على أسد ... يا عين ويحك ما أشقاك من شاطي
ذكر عدة حوادثوفيهأن في ربيع الآخر، خلع على أبي العشائر أحمد بن نصر وولي طرسوس، وعزل عنها مظفر بن حاج لشكوى أهل الثغور منه.
وفيها قوطع طاهر بن محمد بن عمروبن الليث على مال يحمله عن بلاد فارس، وعقد له المكتفي عليها.
وفيهأن في جمادى الأولى، هرب القائد أبوسعيد الخوارزمي الذي استأمن إلى الخليفة، وأخذ نحوطريق الموصل، فكتب إلى عبد الله المعروف بغلام نون بتكريت، وهويتولى تلك النواحي، فعارضه عبد الله، واجتمع به، فخدعه أبوسعيد وقتله، وسار نحوشهرزور، واجتمع هووابن الربيع الكردي على عصيان الخليفة.
وفيها أراد المكتفي البناء بسامرأن وخرج إليها ومعه الصناع، فقدروا له ما يحتاج، وكان مالاً جليلأن وطولوا له مدة الفراغ، فعظم الوزير ذلك عليه، وصرفه إلى بغداد.
وحج بالناس هذه السنة الفضل بن عبد الملك بن عبد الواحد ين عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.
وفيها توفي محمد بن علي بن علوية بن عبد الله الفقيه الشافعي الجرجاني، وكان قد تفقه على المزني صاحب الشافعي؛ وتوفي عبد الله بن أحمد بن حنبل في جمادى الآخرة، وكان مولده سنة ثلاث عشرة ومائتين.
حوادث سنة إحدى وتسعين ومائيتن
ذكر أخبار القرامطة وقتل صاحب الشامةقد ذكرنا مسير المكتفي إلى الرقة، وإرساله الجيوش إلى صاحب الشامة، وتولية حرب صاحب الشامة محمد بن سليمان الكاتب، فلما كانت هذه السنة أمر محمد بن سليمان بمناهضة صاحب الشامة، فسار إليه في عساكر الخليفة، حتى لقوه وأصحابه بمكان بينهم وبين حماة اثنا عشر ميلاً لست خلون من المحرم، فقدم القرمطي أصحابه إليهم، وبقي في جماعة من أصحابه، معه مال كان جمعه، وسواد عسكره والتحمت الحرب بين أصحاب الخليفة والقرامطة، واشتدت، وانهزمت القرامطة وقتلوا كل قتلة وأسر من رجالهم بشر كثير، وتفرق الباقون في البوادي، وتبعهم أصحاب الخليفة.
فلما رأى صاحب الشامة ما نزل بأصحابه حمل أخاً له يكنى أبا الفضل مالأن وأمره أن يلحق بالبوادي إلى أن يظهر بمكان فيسير إليه، وركب هووابن عمه المسمى بالمدثر، والمطوق صاحبه، وغلام له رومي، واخذ دليلاً وسار يريد الكوفة عرضاً في البرية، فانتهى إلى الدالية من أعمال الفرات وقد نفد ما معهم من الزاد والعلف، فوجه بعض أصحابه إلى الدالية المعروفة بابن طوق ليشتري لهم ما يحتاجون إليه، فأنكروا رأيه، فسألوه عن حاله فكتمه، فرفعوه إلى متولي تلك الناحية خليفة أحمد بن محمد بن كشمرد، فسأله عن خبره، فأعلمه أن صاحب الشامة خلف رابية هناك مع ثلاثة نفر، فمضى إليهم وأخذهم، وأحضرهم عند ابن كشمرد، فوجه بهم إلى المكتفي بالرقة، ورجعت الجيوش من الطلب بعد أن قتلوا وأسروأن وكان أكثر الأنس أثراً في الحرب الحسين بن حمدان، وكتب محمد بن سليمان يثني عليه وعلى بني شيبان، فإنهم اصطلحوا الحرب، وهزموا القرامطة، واكثروا القتل فيهم والأسر، حتى لم ينج منهم إلا قليل.
وفي يوم الاثنين لأربع بقين من المحرم أدخل صاحب الشامة الرقة ظاهراً على فالج وهوالجمل ذوالسنامين وبين يديه المدثر والمطوق؛ وسار المكتفي إلى بغداد ومعه صاحب الشامة وأصحابه، وخلف العساكر مع محمد بن سليمان، وأدخل القرمطي بغداد على فيل، وأصحابه على الجمل، ثم أمر المكتفي بحبسهم إلى أن يقدم محمد بن سليمان، فقدم بغداد، وقد استقصى في طلب القرامطة، فظفر بجماعة من أعيانهم ورؤوسهم، فأمر المكتفي بقطع أيديهم وأرجلهم، وضرب أعناقهم بعد ذلك، واخرجوا من الحبس، وفعل بهم ذلك، وضرب صاحب الشامة مائتي سوط، وقطعت يداه، وكوي، فغشي عليه، وأخذوا خشباً وجعلوا فيه نارأن ووضعوه على خواصره، فجعل يفتح عينه ويغمضهأن فلما خافوا موته ضربوا عنقه، ورفعوا رأسه على خشبة، فكبر الناس لذلك، ونصب على الجسر.
وفيها قدم رجل من بني العليص من وجوه القرامط، يسمى إسماعيل ابن النعمان، وكان نجا في جماعة لم ينج من رؤسائهم غيره، فكاتبه المكتفي وبذل له الأمان، فحضر في الأمان هوونيف ومائة وستون نفسأن فأمنوا واحسن إليهم ووصلوا بمال، وصاروا إلى رحبة مالك بن طوق مع القاسم بن سيمأن وهي من عمله، فأقاموا معه مدة، ثم أرادوا الغدر بالقاسم، وعزموا على أن يثبوا بالرحبة يوم الفطر عند اشتغال الناس بالصلاة، وكان قد صار معهم جماعة كبيرة، فعلم بذلك، فقتلهم، فارتدع من كان بقي من موالي بني العيص، وذلوأن وألزموا السماوة، حتى جاءهم كتاب من الخبيث زكرويه يعلمهم أنه مما أوحي إليه أن صاحب الشامة وأخاه المعروف بالشيخ يقتلان، وأن إمامه الذي هوحي يظهر بعدهما ويظفر.
ذكر عدة حوادثوفيها جاءت أخبار أن حوى وما يليها جاءها سيل فغرق نحومن ثلاثين فرسخأن وغرق خلق كثير، وغرقت المواشي والغلات وخربت القرى، واخرج من الغرقى ألف ومائتا نفس، سوى من لم يلحق منهم.
وفيها خلع المكتفي على محمد بن سليمان، كاتب الجيش، وعلى جماعة من القواد، وأمرهم بالمسير إلى الشام ومصر لأخذ الأعمال من هارون بن خمارويه، لما ظهر من عجزه، وذهاب رجاله بقتل القرمطي، فسار عن بغداد في رجب وهوفي عشرة آلاف رجل، وجد في السير.
وفيها خرجت الترك في خلق كثير لا يحصون إلى ما وراء النهر، وكان في عسكرهم سبع مائة قبة تركية، ولا يكون إلا للرؤساء منهم، فوجه إليهم إسماعيل بن احمد جيشاً كثيرأن وتبعهم من المتطوعة خلق كثير، فساروا نحوالترك، فوصلوا إليهم وهم غارون، فكبسهم المسلمون مع الصبح، فقتلوا منهم خلقاً عظيماً لا يحصون، وانهزم الباقون، واستبيح عسكرهم، وعاد المسلمون سالمين غامنين.
وفيها خرج من الروم عشرة صلبان مع كل صليب عشرة آلاف إلى الثغور، فقصد جماعة منهم إلى الحدث فأغاروا وسبوا واحرقوا.
وفيها سار المعروف بغلام زرافة من طرسوس نحوبالد الروم، ففتح مدينة أنطاكية، وهي تعادل القسطنطينية، فتحها بالسيف عنوة، فقتل خمسة آلاف رجل، وأسر مثلهم، واستنقذ من الأسارى خمسة آلاف، وأخذ لهم ستين مركباً فحمل فيها ما غمن لهم من الأموال والمتاع والرقيق، وقدر نصيب كل رجل ألف دينار، وهذه المدينة على ساحل البحر، فاستبشر المسلمون بذلك.
وحج بالناس الفضل بن عبد الملك بن عبد الله بن العباس.
وفيها توفي القاسم بن عبيد الله، وزير الخليفة، في ذي القعدة، وكان عمره اثنتين وثلاثين سنة وسبعة أشهر واثنين وعشرين يوماً، ولما مات قال ابن سيار:
أمات ليحيأن فما إن حيي، ... وأفنى ليبقى، فما إن بقي
ومازال في كل يوم يرى ... أمارة حتف وشيك وحي
وما زال يسلح من دبره ... إلى أن خزي النفس فيما خري
وفيها مات أبوعبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد ين عبد الرحمن الماستواي الفقيه بنيسابور، ومحمد بن الجزوعي، قاضي الموصل ببغداد.
وفيها توفي أبوالعباس أحمد بن يحيى الشيباني النحوي، وكان عالماً بنحوالكوفيين، وكان موته ببغداد.
حوادث سنة اثنتين وتسعين ومائتين
ذكر استيلاء المكتفي على الشام ومصر
وانقراض ملك الطولونيةوفي المحرم منها سار محمد بن سليمان إلى حدود مصر لحرب هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون.
وسبب ذلك أن محمد بن سليمان لما تخلف عن المكتفي، وعاد عن محاربة القرامطة، واستقصى محمد في طلبهم، فلما بلغ ما أراد عزم على العود إلى العراق، فأتاه كتاب بدر الحمامي غلام ابن طولون، وكتاب فائق، وهما بدمشق، يدعوانه إلى قصد البلاد بالعساكر بساعداه على أخذهأن فلما عاد إلى بغداد أنهى ذلك إلى المكتفي، فأمره بالعود، وسير معه الجنود، والأموال، ووجه المكتفي دميانة غلام بازمار، وأمره بركوب البحر إلى مصر، ودخول النيل، وقطع المواد عن مصر، ففعل، وضيق عليهم.
وزحف إليهم محمد بن سليمان في الجوش، في البر، حتى دنا من مصر وكاتب من بها من القواد، وكان أول من خرج إليه بدر الحمامي، وكان رئيسهم، فكسرهم ذلك، وتتابعه المستأمنة من قواد المصريين، فلما رأى ذلك هارون، في بعض الأيام، عصبية، فاقتتلوأن فخرج هارون يسكنهم، فرماه بعض المغاربة بمرزاق معه فقتله، فلما قتل قام عمه شيبان بالأمر من بعده، وبذل المال للجند، فأطلقوه وقاتلوا معه، فأتتهم كتب بدر يدعوهم إلى الأمان، فأجابوه إلى ذلك.
فلما علم محمد ين سليمان الخبر سار إلى مصر، فأرسل إليه شيبان يطلب الأمان، فأجابه، فخرج إليه ليلاً، ولم يعلم به أحد من الجند، فلما أصبحوا قصدوا داره ولم يجدوه، فبقوا حيارى، ولما وصل محمد مصر دخلهأن واستولى على دور طولون وأموالهم، وأخذهم جميعأن وهم بضعة عشر رجلأن فقيدهم، وحبسهم واستقصى أموالهم، وكان ذلك في صفر، وكتب بالفتح إلى المكتفي، فأمره بإشخاص آل طولون وأسبابهم من مصر والشام إلى بغداد، ولا يترك منهم أحدأن ففعل ذلك، وعاد إلى بغداد، وولى معونة مصر عيسى النوشري.
ثم ظهر بمصر إنسان يعرف بالخلنجي، وهومن قوادهم، وكان تخلف عن محمد بن سليمان، فاستمال جماعة، وخالف على السلطان، وكثر جمعه وعجز النوشري عنه، فسار إلى الإسكندرية، ودخل إبراهيم الخلنجي مصر، وكتب النوشري إلى المكتفي بالخبر، فسير إليه الجنود مع فاتك، مولى المعتضد، وبدر الحمامي، فساروا في شوال نحومصر.
ذكر عدة حوادثوفيها أخذ بالبصرة رجل ذكروا أنه أراد الخروج، وأخذ معه ولده وتسعة وثلاثون رجلأن وحملوا إلى بغداد، فكانوا يبكون، ويستغيثون، ويحلفون انهم برآء، فأمر بهم المكتفي فحبسوا.
وفيها أغار أندرونقس الرومي على مرعش ونواحيهأن فنفر أهل المصيصة وأهل طرسوس فأصيب أبوالرجال بن أبي بكار في جماعة من المسلمين، فعزل الخليفة أبا العشائر عن الثغور، واستعمل عليهم رستم بن بردوا.
وفيها كان الفداء على ي رستم، فكان جملة من فودي به من المسلمين ألف نفس ومائتي نفس.
وحج بالناس الفضل بن عبد الملك بن عبد الله بن عباس بن محمد.
وفيها زادت دجلة زيادة مفرطة، حتى تهدمت الدور التي على شاطئها بالعراق.
وفيهأن في العشرين من أيار، طلع كوكب له ذنب عظيم جداً في برج الجوزاء.
وفيها وقع الحريق ببغداد بباب الطاق من الجانب الشرقي إلى طرق الصفارين، فاحترق ألف دكان مملوءة متاعاً للتجار.
وفيها توفي أبومسلم إبراهيم بن عبد الله الكجي، ويقال الكشي.
وفيها توفي القاضي عبد الحميد بن عبد العزيز أبوحازم، قاضي المعتضد بالله، ببغداد، وكان من أفاضل القضاة.
حوادث سنة ثلاث وتسعين ومائتين
ذكر أول إمارة بني حمدان بالموصل
وما فعلوه بالأكراد
في هذه السنة ولى المكتفي بالله الموصل وأعمالها أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون التغلبي العدوي، فسار إليهأن فقدمها أول المحرم، فأقام بها يومه، وخرج من الغد لعرض الرجال الذين قدموا معه، والذين بالموصل، فأتاه الصريخ من نينوى بأن الأكراد الهذبانية، ومقدمهم محمد بن بلال، قد أغاروا على البلد، وغمنوا كثيراً منه، فسار من وقته وعبر الجسر إلى الجانب الشرقي، فلحق الأكراد بالمعروبة على الخازر، فقاتلوه، فقتل رجل من أصحابه اسمه سيما الحمداني، فعاد عنهم، وكتب إلى الخليفة يستدعي النجدة، فأتته النجدة بعد شهور كثيرة، وقد انقضت سنة ثلاث وتسعين ودخلت سنة أربع وتسعين.
ففي ربيع الأول منها سار فيمن معه إلى الهدباينة، وكانوا قد اجتمعوا في خمسة آلاف بيت، فلما رأوا جدة في طلبهم ساروا إلى البابة التي في جبل السلق، وهومضيق في جبل عال مشرف على شهرزور، فامتنعوا وغار مقدمهم محمد بن بلال، وقرب من ابن حمدان، وراسله في أن يطيعه، ويحضر هووأولاده، ويجعلهم عنده يكونون رهينة، ويتركون الفساد، فقبل ابن حمدان ذلك، فرجع محمد ليأتي بمن ذكر، فحث أصحابه على المسير نحوأذربيجان، وغمنا أراد في الذي فعله مع ابن حمدان أن يترك الجد في الطلب ليأخذ أصحابه أهبتهم ويسيروا آمنين.
فلما تأخر عود محمد عن ابن حمدان علم مراده، فجرد معه جماعة من جملتهم إخوته سليمان، وداود، وسعيد، وغيرهم ممن يثق به وبشجاعته، وأمر النجدة التي جاءته من الخليفة أن يسيروا معه، فتثبطوأن فتركهم وسار يقفوا أثرهم، فلحقهم وقد تعلقوا بالجبل المعروف بالقنديل، فقتل منهم جماعة، وصعدوا ذروة الجبل، وانصرف ابن حمدان عنهم، ولحق الأكراد بأذربيجان، وأنهى ابن حمدان ما كان من حالهم إلى الخليفة والوزير فأنجدوه بجماعة صالحة وعاد إلى الموصل فجمع رجاله وسار إلى جبل السلق، وفيه محمد بن بلال ومعه الأكراد، فدخله ابن حمدان، والجواسيس بين يديه، خوفاً من كمين يكون فيه، وتقدم من بين يدي أصحابه، وهم يتبعونه، فلم يتخلف منهم أحد، وجاوزوا الجبل، وقاربوا الأكراد، وسقط عليهم الثلج، واشتد البرد، وقلت الميرة والعلف عندهم، وأقام على ذلك عشرة أيام، وبلغ الحمل التبن ثلاثين درهمأن ثم عدم عندهم وهوصابر.
فلما رأى الأكراد صبرهم وأنهم لا حيلة لهم في دفعهم لجأ محمد بن بلال وأولاده ومن لحق به، واستولى ابن حمدان على بيوتهم، وسوادهم، وأهلهم، وأموالهم، وطلبوا الأمان فأمنهم، وأبقى عليهم، وردهم إلى بلد حزة، وورد عليهم أموالهم وأهليهم، ولم يقتل منهم غير رجل واحد، وهوالذي قتل صاحبه سيما الحمداني، وأمنت البلاد معه، واحسن السيرة في أهلها.
ثم إن محمد بن بلال طلب الأمان من ابن حمدان فأمنه وحضر عنده، وأقام بالموصل وتتابع الأكراد الحميدية، وأهل جبل داسن إليه بالأمان، فأمنت البلاد واستقامت.
ذكر الظفر بالخلنجيفي هذه السنة، في صفر، وصل عسكر المكتفي إلى نواحي مصر، وتقدم أحمد بن كيغلغ في جماعة من القواد، فلقيهم الخلنجي بالقرب من العريش، فهزمهم أقبح هزيمة، فندب جماعة من القواد إليهم ببغداد، وفيهم إبراهيم بن كيغلغ، فخرجوا في ربيع الأول وساروا نحومصر.
واتصلت الأخبار بقوة الخلنجي، فبرز المكتفي إلى باب الشماسية ليسير إلى مصر في رجب، فوصل إليه كتاب فاتك في شعبان يذكر أنه والقواد رجعوا إلى الخلنجي، وكانت بينهم حروب كثيرة قتل بينهم فيها خلق كثير، فإن آخر حرب كانت بينهم قتل فيها معظم أصحاب الخلنجي، وانهزم الباقون، وظفروا بهم، وغمنوا عسكرهم، وهرب الخلنجي، فدخل فسطاط مصر، فاستتر بها عند رجل من أهل البلد، فدخلنا المدينة، فدلونا عليه، فأخذناه ومن استتر عنده، وهم في الحبس.
فكتب المكتفي إلى فاتك في حمل الخلنجي ومن معه إلى بغداد، وعاد المكتفي بغداد، وأمر برد خزائنه، وكانت قد بلغت تكريت، فوجه فاتك الخلنجي إلى بغداد، فدخلها هوومن معه في شهر رمضان، فأمر المكتفي بحبسهم.
ذكر أمر القرامطة
فيها انفذ زكروية بن مهرويه، بعد قتل صاحب الشامة، رجلاً كان يعلم الصبيان بالرافوفة من الفلوجة يسمى عبد الله بن سعيد، ويكنى أبا غامن، فسمي نصرأن وقيل كان المنفذ ابن زكرويه، فدار على أحياء العرب من كلب وغيرهم يدعوهم إلى رأيه، فلم يقبله منهم أحد، إلا رجلاً من بني زياد يسمى مقدام بن الكيال، واستقوى بطوائف من الأصبغيين المنتمين إلى الفواطم، وغيرهم من العليصيين، وصعاليك من سائر بطون كلب، وقصد ناحية الشام، والعامل بدمشق والأردن احمد بن كيغلغ، وهوبمصر يحارب الخلنجي، فاغتمن ذلك عبد الله بن سعيد، وسار إلى بصرى وأذرعات والبثينة، فحارب أهلهأن ثم أمنهم، فلما استسلموا إليه قتل مقاتليهم، وسبى ذراريهم واخذ أموالهم.
ثم قصد دمشق، فخرج إليهم نائب ابن كيغلغ، وهوصالح بن الفضل، فهزمه القرامطة، وأثخنوا فيهم، ثم أمنوهم وغدروهم بالأمان، وقتلوا صالحأن وفضوا عسكره، وساروا إلى دمشق، فمنعهم أهلهأن فقصدوا طبرية، وانضاف إليه جماعة من جند دمشق افتتنوا به، فواقعهم يوسف بن إبراهيم بن بغامردي، وهوخليفة أحمد بن كيغلغ بالأردن، فهزموه، وبذلوا له الأمان، وغدروا به، وقتلوه، ونهبوا طبرية، وقتلوا خلقاً كثيراً من أهلها وسبوا النساء.
فأنفذ الخليفة الحسين بن حمدان وجماعة من القواد في طلبهم، فوردوا دمشق، فلما علم بهم القرامطة رجعوا نحوالسماوة، وتبعهم الحسين في السماوة وهم ينتقلون في المياه ويغورونهأن حتى لجؤوا إلى ماءين يعرف أحدهما بالدمعانة، والآخر بالحبالة، وانقطع ابن حمدان عنهم لعدم الماء، وعاد إلى الرحبة، وأسرى القرامطة مع نصر إلى هيت وأهلها غافلون، فنهبوا ربضهأن وامتنع أهل المدينة بسورهم، ونهبوا السفن، وقتلوا من أهل المدينة مائتي نفس، ونهبوا الأموال والمتاع، وأوقروا ثلاثة آلاف راحلة من الحنطة.
وبلغ الخبر إلى المكتفي فسير محمد بن إسحاق بن كنداج، فلم يقيموا لمحمد، ورجعوا إلى الماءين فنهض محمد خلفهم، فوجدهم قد غوروا المياه، فأنفذ إليه من بغداد الأزواد والدواب، وكتب إلى ابن حمدان بالمسير إليهم من جهة الرحبة ليجتمع هوومحمد على الإيقاع بهم، ففعل ذلك.
فلما أحس الكبيون بإقبال الجيش إليهم وثبوا بنصر فقتلوه، قتله رجل منهم يقال له الذئب ابن القائم، وسار برأسه إلى المكتفي متقرباً بذلك، مستأمنأن فأجيب إلى ذلك، وأجيز بجائزة سنية، وأمر بالكف عن قومه.
واقتتلت القرامطة بعد نصر حتى صارت بينهم الدماء، وسارت فرقة كرهت أمورهم إلى بني أسد بنواحي عين التمر، واعتذروا إلى الخليفة، فقبل عذرهم، وبقي على المائين بقيتهم ممن له بصيرة في دينه، فكتب الخليفة إلى ابن حمدان يأمره بمعاودتهم، واجتثاث أصلهم، فأرسل إليهم زكرويه ابن مهرويه داعية له يسمى القاسم بن أحمد، ويعرف بأبي محمد، وأعلمهم أن فعل الذئب قد نفره منهم، وأنهم قد ارتدوا عن الدين وأن وقت ظهورهم قد حضر، وقد بايع له من أهل الكوفة أربعون ألفأن وأن يوم موعدهم الذي ذكره الله في شأن موسى، صلى الله عليه وسلم، وعدوه فرعون إذ (قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) طه: 59، ويأمرهم أن يخفوا أمرهم، وأن يسيروا حتى يصبحوا الكوفة يوم النحر سنة ثلاث وتسعين ومائتين، فإنهم لا يمنعون منهأن وأنه يظهر لهم، وينجز لهم وعده الذي يعدهم إياه، وأن يحملوا إليه القاسم بن احمد.
فامتثلوا رأيه، ووافوا باب الكوفة وقد انصرف عن مصلاهم، وعاملهم إسحاق بن عمران، ووصلوها في ثماني مائة فارس عليهم الدروع، والجواشن، والآلات الحسنة، وقد ضربوا على القاسم بن أحمد قبة، وقالوا هذا أثر رسول الله. ونادوا: يا لثارات الحسين، يعنون الحسين بن زكرويه المصلوب ببغداد، وشعارهم: يا أحمد، يا محمد، يعنون ابني زكرويه المقتولين، فأظهروا الأعلام البيض، وأرادوا استمالة رعاع الناس بالكوفة بذلك، فلم يمل إليهم أحد، فأوقع القرامطة من أهل الكوفة، وقتلوا نحواًمن عشرين نفساً.
وبادر الناس الكوفة، وأخذوا السلاح، ونهض بهم إسحاق، ودخل مدينة الكوفة القرامطة مائة فارس، فقتل منهم عشرون نفسأن وأخرجوا عنهأن وظهر إسحاق، وحاربهم إلى العصر، ثم انصرفوا نحوالقادسية، وكان فيمن يقاتلهم مع إسحاق جماعة من الطالبية.
وكتب إسحاق إلى الخليفة يستمده، فأمده بجماعة من قواده، منهم: وصيف بن صوارتكين التركي، والفضل بن موسى بن بغأن وبشر الخادم الأفشيني، ورائق الحري، مولى أمير المؤمنين، وغيرهم من الغلمان الحجرية، فساروا منتصف ذي الحجة حتى قاربوا القادسية فنزلوا بالصوان، فلقيهم زكرويه.
وأما القرامطة فإنهم أنفذوا واستخرجوا زكرويه من جب في الأرض كان منقطعاً فيه سنين كثيرة، بقرية الدرية، وكان على الجب باب حديد محكم العمل، وكان زكرويه إذا خاف الطلب جعل تنوراً هناك على باب الجب، وقامت امرأة تسجره، فلا يفطن إليه، وكان ربما أخفي في بيت خلف باب الدار التي كان بها ساكنأن فإذا انفتح باب الدار انطبق على باب البيت، فيدخل الداخل الدار فلا يرى شيئأن فلما استخرجوه حملوه على أيديهم، وسموه ولي الله، ولما رأوه سجدوا له، وحضر معه جماعة من دعاته وخاصته، وأعلمهم أن القاسم بن أحمد من أعظم الناس عليهم ذمة ومنة، وأنه ردهم إلى الدين بعد خروجهم عنه، وأنهم إن امتثلوا أوامره أنجز موعدهم وبلغوا آمالهم، ورمز لهم رموزاً ذكر فيها آيات من القرآن نقلها عن الوجه الذي أنزلت فيه، فاعترف له من رسخ حب الكفر في قلبه أنه رئيسهم وكهفهم، وأيقنوا بالنصر وبلوغ الأمل.
وسار بهم وهومحجوب يدعونه ولا يبرزونه، والقاسم يتولى الأمور، وأعلمهم أن أهل السواد قاطبة خارجون إليه، فأقام بسقي الفرات عدة أيام، فلم يصل إليه منهم إلا خمس مائة رجل، ثم وافته الجنود المذكورة من عند الخليفة، فلقيهم زكرويه بالصوان، وقالتهم واشتدت الحرب بينهم، وكانت الهزيمة أول النهار على القرامطة، وكان زكرويه قد كمن لهم كميناً من خلفهم، فلم يشعر أصحاب الخليفة إلا والسيف فيهم من ورائهم، فانهزموا أقبح هزيمة، ووضع القرامطة السيف فيهم، فقتلوهم كيف شاءوأن وغمنوا سوادهم، ولم يسلم من أصحاب الخليفة إلا من دابته قوية، أومن أثخن بالجراح، فوضع نفسه بين القتلى، فتحاملوا بعد ذلك، وأخذ للخليفة في هذا العسكر أكثر من ثلاثمائة جمازة عليها المال والسلاح، وخمس مائة بغل، وقتل من أصحاب الخليفة، سوى الغلمان ألف وخمس مائة رجل، وقوي القرامطة بما غمنوا.
ولما ورد خبر هذه الوقعة إلى بغداد أعظمها الخلفة والناس، وندب إلى القرامطة محمد بن إسحاق بن كنداج، وضم إليه من الأعراب بني شيبان وغيرهم أكثر من ألفي رجل، وأعطاهم الأرزاق، ورحل زكرويه من مكانه إلى نهر المثنية لنتن القتلى.
ذكر عدة حوادثوفيهأن في ربيع الآخر، قدم إلى بغداد قائد من أصحاب طاهر بن محمد ابن عمروبن الليث مستأمنأن ويعرف بأبي قابوس.
وسبب ذلك أن طاهراً تشاغل باللهو والصيد، ومضى إلى سجستان للصيد والتنزه، فغلب على الأمر بفارس الليث بن علي بن الليث، وسبكرى مولى عمروبن الليث، فوقع بينهما وبين هذا القائد تباعد، ففارقهم، ووصل إلى بغداد، فخلع عليه الخليفة وأحسن إليه، فكتب طاهر بن محمد يسأل رد أبي قابوس، ويذكر أنه جبى المال وأخذه، ويقول له: إما أن ترد إليه، أوتحتسب له بما ذهب معه من المال من جملة القرار الذي عليه، لم يجبه الخليفة إلى ذلك.
وفيها صارت الداعية التي للقرامطة باليمن إلى مدينة صنعاء، فحاربه أهلهأن فظفر بهم وقتلهم، فلم يفلت إلا اليسير، وتغلب على سائر مدن اليمن، ثم اجتمع أهل صنعاء وغيرهأن فحاربوا الداعية، فهزموه، فانحاز إلى موضع من نواحي اليمن، وبلغ الخبر الخليفة، فخلع على المظفر بن حاج في شوال، وسيره إلى عمله باليمن، وأقام بها إلى أن مات.
وفيها أغارت الروم على قورس، من أعمال حلب، فقاتلهم أهلها قتالاً شديدأن ثم انهزموأن وقتلوا أكثرهم، وقتلوا رؤساء بني تميم، ودخل الروم قورس فأحرقوا جامعهأن وساقوا من بقي من أهلها.
وفيها فتح إسماعيل بن أحمد الساماني، ملك ما وراء النهر، مواضع من بلاد الترك ومن بلاد الديلم؛ وحج بالناس محمد بن عبد الملك الهاشمي.
وفيها توفي نصر بن احمد الحافظ في رمضان، وأبوالعباس عبد الله بن محمد الناشي الشاعر الكاتب الأنباري.
حوادث سنة أربع وتسعين ومائتين
ذكر أخبار القرامطة وأخذهم الحاج
في هذه السنة، في المحرم، أرتحل زكرويه من نهر المثنية يريد الحاج، فبلغ السلمان، وأقام ينتظرهم، فبلغت القافلة الأولى واقصة سابع المحرم، فأنذرهم أهلها وأخبروهم بقرب القرامطة، فارتحلوا لساعتهم.
وسار القرامطة إلى واقصة، فسألوا أهلها عن الحاج، فأخبروهم أنهم ساروأن فاتهمهم زكرويه، فقتل العلافة، وأحرق العلف، وتحصن أهل واقصة في حصنهم، فحصرهم أياماً ثم ارتحل عنهم نحوزبالة، وأغار في طريقه على جماعة من بني أسد.
ووصلت العساكر المنفذة من بغداد إلى عيون الطف، فبلغهم مسير زكرويه من السلمان، فانصرفوأن وسار علان بن كشمرد جريدة، فنزل واقصة بعد أن جازت القافلة الأولى، ولقي زكرويه القرمطي قافلة الخراسانية بعقبة الشيطان راجعين من مكة، فحاربهم حرباً شديدة، فلما رأى شدة حربهم سألهم: هل فيكم نائب للسلطان؟ فقالوا: ما معنا أحد. قال: فلست أريدكم؛ فاطمأنوا وساروأن فلما ساروا أوقع بهم، وقتلهم عن آخرهم، ولم ينج إلا الشريد، وسبوا من الناس ما أرادوأن وقتلوا منهم.
ولقي بعض المنهزمين علان بن كشمرد، فأخبروه خبرهم، وقالوا له: ما بينك وبينهم إلا القليل، ولورأوك لقوزويت نفوسهم، فالله الله فيهم! فقال: لا أعرض أصحاب السلطان للقتل. ورجع هووأصحابه. وكتب من نجا من الحجاج من هذه القافلة الثانية إلى رؤساء القافلة الثالثة من الحجاج يعلمونهم ما جرى من القرامطة، ويأمرونهم بالتحذر، والعدول عن الجادة نحوواسط والبصرة، والرجوع إلى فيد والمدينة إلى أن تأتيهم جيوش السلطان، فلم يسمعوأن ولم يقيموا.
وسارت القرامطة من العقبة بعد اخذ الحاج، وقد طموا الآبار والبرك بالجيف، والأراب، والحجارة، بواقصة، والثعلبية، والعقبة، وغيرها من المناهل في جميع طريقهم، وأقام بالهيبر ينتظر القافلة الثالثة، فساروا فصادفوه هناك، فقاتلهم زكرويه ثلاثة أيام، وهم على غير ماء، فاستسلموا لشدة العطش، فوضع فيهم السيف وقتلهم عن آخرهم، وجمع القتلى كالتل، وأرسل خلف المنهزمين من يبذل لهم الأمان، فلما رجعوا قتلهم، وأن في القتلى مبارك القمي، وولده أبوالعشائر بن حمدان.
وكان نساء القرامطة يطفن بالماء بين القتلى يعرضن عليهم الماء، فمن كلمهن قتلنه، فقيل إن عدة القتلى بلغت عشرين ألفأن ولم ينج إلا من كان بين القتلى فلم يفطن له فنجا بعد ذلك، ومن هرب عند اشتغال القرامطة بالقتل والنهب، فكان من مات من هؤلاء أكثر ممن سلم ومن استعبدوه، وكان مبلغ ما أخذوه من هذه القافلة ألفي ألف دينار.
وكان في جملة ما أخذوا فيها أموال الطولونية وأسبابهم، فإنهم لما عزموا على الانتقال من مصر إلى بغداد خافوا أن يستصحبوها فتؤخذ منهم، فعملوا الذهب والنقرة سبائك، وجعلوها في حدائج الجمال، وجميع ما لهم من الحلي والجوهر، وسيروا الجميع إلى مكة سرأن وسار من مكة في هذه القافلة فأخذت.
وبث زكرويه الطلائع خوفاً من عسكر الذي كان بالقادسية، وأقام ينتظر وصول من كان في الحج من عسكر الخليفة وأصحابه، فكانوا بفيد ينتظرون هل تعرض القرامطة لحاج أم لأن فكان معهم جماعة من التجار أرباب الأموال، فلما بلغهم ما صنع القرامطة أقاموا ينتظرون وصول عسكر من عند الخليفة، فسار زكرويه إليهم، وغور الآبار، والمصانع، والمياه إلى فيد، فاحتمى أهل فيد ومن بها من الحجاج بالحصنين اللذين بفيد وحصرهم فيهما القرامطة، وأرسل زكرويه إلى أهل فيد يأمرهم بإخراجهم أوبتسليم الحصنين إليه، وبذل لهم الأمان على ذلك، فلم يجيبوه، فتهددهم بالنهب والقتل، فازداد امتناعهم، وأقام عليهم عدة أيام، ثم سار إلى الساج ثم إلى جعفر أبي موسى.
ذكر قتل زكرويه لعنه اللهلما فعل زكرويه بالحجاج ما ذكرناه عظم ذلك على الخليفة خاة، وعلى جميع المسلمين عامة، فجهز المكتفي الجيوش، فلما كان أول ربيع الأول سير وصيف بن صوارتكين مع جماعة من القواد والعساكر إلى القرامطة، فساروا على طريق حفان فلقيهم زكرويه، ومن معه من القرامطة، ثامن ربيع الأول، فاقتتلوا يومهم، ثم حجز الليل، وباتوا يتحارسون، ثم بكروا إلى القتال، فاقتتلوا قتالاً شديدأن فقتل من القرامطة مقتلة عظيمة.
ووصل عسكر الخليفة إلى عدوالله زكرويه، فضربه بعض الجند وهومول بالسيف على رأسه، فبلغت الضربة دماغه، وأخذه أسيرأن وأخذ خليفته وجماعة من خواصه وأقربائه، وفيهم ابنه وكاتبه، وزوجته، واحتوى الجند على ما في العسكر.
وعاش زكرويه خمسة أيام ومات، فسيرت جيفته والأسرى إلى بغداد، وانهزم جماعة من أصحابه إلى الشام، فأوقع بهم الحسين بن حمدان، فتلوهم جميعأن وأخذوا جماعة من النساء والصبيان، وحمل رأس زكرويه إلى خراسان، لئلا ينقطع الحجاج، وأخذ الأعراب رجلين من أصحاب زكرويه يعرف أحدهما بالحداد، والآخر بالمنتقم، وهوأخوامرأة زكرويه، كانا قد سارا إليهم يدعوانهم إلى الخروج معهم، فلما أخذوهما سيروهما إلى بغداد، وتتبع الخليفة القرامطة بالعراق، فقتل بعضهم، وحبس بعضهم، وما ت بعضهم في الحبس.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا ابن كيغلغ الروم من طرسوس، فأصاب من الروم أربعة آلاف رأس سبي ودواب ومتاعاً؛ ودخل بطريق من بطارقة الروم في الأمان واسلم.
وفيها غزا ابن كيغلغ فبلغ شكند، وافتتح الله عليه، وسار إلى الليس، فغمنوا نحواً من خمسين ألف رأس، وقتلوا مقتلة عظيمة من الروم، وانصرفوا سالمين.
وكاتب أندرونقس البطريق المكتفي بالله يطلب منه الأمان، وكان على حرب أهل الثغور من قبل ملك الروم، فأعطاه المكتفي ما طلب، فخرج ومعه مائتا أسير من المسلمين كانوا في حصنه، وكان ملك الروم قد أرسل لقبض عليه، فأعطى المسلمين سلاحاً وخرجوا معه، فقبضوا على الذي أرسله ملك الروم ليقبض عليه ليلأن فقتلوا ممن معه خلقاً كثيرأن وغمنوا ما في عسكرهم، فاجتمعت الروم على أندرونقس ليحاربوه، فسار إليهم جمع من المسلمين ليخلصوه ومن معه من أسرى المسلمين، فبلغوا قونية، فبلغ الخبر إلى الروم، فانصرفوا عنه، وسار جماعة من ذلك العسكر إلى أندرونقس، وهوبحصنه، فخرج ومعه أهله إليهم، وسار معهم إلى بغداد، واخرب المسلمون قونية، فأرسل ملك الروم إلى الخليفة المكتفي فطلب الفداء.
وفيها ظهر بالشام رجل يدعي أنه السفياني فأخذ وحمل إلى بغداد فقيل إنه موسوس.
وفيها كانت وقعة بين الحسين بن حمدان وبين أعراب من بني كلب، وطي، واليمن، وأسد، وغيرهم.
وفيها حاصر أعراب طي وصيف بن صوارتكين بفيد، وقد سيره المكتفي أميراً على الموسم، فحصروه ثلاثة أيام، ثم خرج فواقعهم، فقتل منهم قتلى، ثم انهزمت الأعراب ورحل وصيف بمن معه؛ وحج بالناس هذه السنة الفضل بن عبد الله الهاشمي.
وفيها توفي صالح بن محمد الحافظ الملقب بجزرة البغدادي، وأبوعبيد الله محمد بن نصر الروزي، الفقيه الشافعي، وكان موته بسمرقند، وله تصتنيف كثيرة.
وفيها قتل محمد بن إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن راهويه بطريق مكة؛ قتله القرامطة حين أخذوا الحاج.
حوادث سنة خمس وتسعين ومائتين
ذكر وفاة إسماعيل بن أحمد الساماني
وولاية ابنه أحمدفي هذه السنة، منتصف صفر، توفي إسماعيل بن أحمد أمير خراسان وما وراء النهر، ببخارى، وكان يلقب بعد موته بالماضي، وولي بعده ابنه أبونصر أحمد، وأرسل إليه المكتفي عهده بالولاية، وعقد لواءه بيده.
وكان إسماعيل عاقلأن عادلأن حسن السيرة في رعيته، حليماً؛ حكي عنه أنه كان لولده أحمد مؤدب يؤدبه، فمر به الأمير إسماعيل يومأن والمؤدي لا يعلم به، فسمعه وهويسب إبنه، ويقول له: لا بارك الله فيك، ولا فيمن ولدك! فدخل إليه، وقال له: يا هذأن نحن لم نذنب ذنباً لتسبّنا، فهل ترى أن تعفينا من سبك، وتخص المذنب بشتمك وذمك؟ فارتاع المؤدب، فخرج إسماعيل عنه، وأمر له بصلة جزء لخوفه منه.
وقيل: جرى بين يديه ذكر الأنساب والأخشاب فقال لبعض جلسائه: كن عصامياً ولا تكن عظامياً؛ فلم يفهم مراده، فذر له معنى ذلك.
وسأل يوماً يحيى بن زكرياء النيسابوري فقال له: ما السبب في أن آل معاذ لما زلت دولتهم بقيت عليهم نعمتهم بخراسان، مع سوء سيرتهم وظلمتهم، وأن آل طاهر لما زالت دولتهم عن خراسان زالت معها نعمتهم مع عدلهم، وحسن سيرتهم، ونظرهم لرعيتهم؟ فقال له يحيى: السبب في ذلك أن آل معاذ لما تغير أمرهم كان الذي ولي البلاد بعدهم آل طاهر في عدلهم، وإنصافهم، واستعفافهم عن أموال الناس، ورغبتهم في اصطناع أهل البيوتات، فقدموا آل معاذ وأكرموهم، وأن آل طاهر لما زالت عنهم كان سلطان بلادهم آل الصفار في ظلمتهم، وغشمهم، ومعاداتهم لأهل البيوتات ومناصبتهم لأهل الشرف والنعم، فأتوا عليهم وأزالوا نعمتهم.
فقال إسماعيل: لله درك يا يحيى، فقد شفيت صدري! وأمر له لصلة.
ولما ولي بعد أخيه كان يكتب أصحابه وأصدقاءه بما كان يكاتبهم أولأن فقيل له في ذلك، فقال: يجب علينأن إذا زادنا الله رفعة، أن لا ننقص إخواننا بل نزيدهم رفعة، وعلى، وجاهأن ليزيدوا لنا إخلاصاً وشكراً.
ولما ولي بعده أبونصر أحمد، واستوثق أمره، أراد الخروج إلى الري، فاشرا عليه إبراهيم بن زيدويه بالخروج إلى سمرقند والقبض على عمه إسحاق ابن أحمد لئلا يخرج عليه ويشغله، ففعل ذلك، واستدعى عمه إلى بخارى، فحضر فاعتقله بهأن ثم عبر إلى خراسان، فلما ورد نيسابور هرب بارس الكبير من جرجان إلى بغداد، خوفاً منه.
وكان سبب خوفه أن الأمير إسماعيل كان قد استعمل ابنه أحمد على جرجان لما أخذها من محمد بن زيد، ثم عزله عنهأن واستعمل عليها بارس الكبير، على ما ذكرناه، فاجتمع عند بارس أموال جمة من خراج الري، وطبرستان، وجرجان، فبلغت ثمانين وقرأن فحملها إلى إسماعيل، فلما سارت عنه بلغه خبر موت إسماعيل، فردها واخذهأن فلما سار إليه أحمد خافه، وكتب إلى المكتفي يستأذنه في المصير إليه، فأذن له في ذلك، فسار إليه في رابعة آلاف فارس، فأرسل أحمد خلفه عسكرأن فلم يدركوه، واجتاز الري، فتحصن بها نائب أحمد بن إسماعيل، فسار إلى بغداد، فوصلها وقد مات المكتفي، وولي المقتدر بعده، فأعجبه المقتدر.
وكان وصوله بعد حادثة ابن المعتز، فسيره المقتدر في عسكره إلى بني حمدان، وولاه ديار ربيعة، فخافه أصحاب الخليفة أن يتقدم عليهم، فووضعوا عليه غلاماً فسمه فمات، واستولى غلامه على ماله، وتزوج امرأته، وكان موته بالموصل.
ذكر وفاة المكتفيفي هذه السنة في ذي القعدة توفي أمير المؤمنين المكتفي بالله أبومحمد علي ابن المعتضد بالله أبي العباس احمد بن الموفق بن المتوكل؛ وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوماً، وكان عمره ثلاثاً وثلاثين سنة، وقيل اثنتين وثلاثين سنة؛ وكان ربعاً جميلأن رقيق البشرة، حسن الشعر، وافر اللحية، وكنيته أبومحمد، وأمه أم ولد تركية، اسمها جيجك؛ وطال عليه مرضه عدة شهور، ولما مات دفن بدار محمد بن طاهر، رحمه الله.
ذكر خلافة المقتدر باللهوكان السبب في ولاية المقتدر بالله الخلافة، وهوأبوالفضل جعفر بن المعتضد، أن المكتفي لما ثقل في مرضه أفكر الوزير جينئذ، وهوالعباس بن الحسن، فيمن يصلح للخلافة، وكان عادته أن يسايره، إذا ركب إلى دار الخلافة، واحد من هؤلاء الأربعة الذين يتولون الدواوين، وهم: أبوعبد الله محمد بن داود بن الجراح، وأبوالحسن محمد بن عبدان، وأبوالحسن علي بن محمد بن الفرات، وأبوالحسن علي بن عيسى، فاستشار الوزير يوماً محمد ابن داود بن الجراح في ذلك، فأشار بعبد الله بن المعتز، ووصفه بالعقل والأدب والرأي، واستشار بعده أبا الحسن بن الفرات، فقال: هذا شيء ما جرت به عادتي أشير فيه، وإمنا اشاور في العمال لا في الخلفاء؛ فغضب الوزير وقال: هذه مقاطعة باردة، وليس يخفي عليك الصحيح.
وألح عليه، فقال: إن كان رأي الوزير قد استقر على احد يعينه فليفعل؛ فعلم أنه عنى ابن المعتز لأشتهار خبره. فقال الوزير: لا أقنع إلا أن تمحضني النصيحة. فقال ابن الفرات: فليتفق الله الوزير، ولا ينصب إلا من قد عرفه، واطلع على جميع أمواله، ولا ينصب بخيلاً فيضيق على الناس ويقطع أرزاقهم، ولا طماعاً فيشره في أموالهم، فيصادرهم ويأخذ أموالهم وأملاكهم، ولا قليل الدين فلا يخاف العقوبة والأثام، ويرجوالثواب فيما يفعله، ولا يول من عرف نعمة هذأن وبستان هذأن وضيعة هذأن وفرس هذأن ومن قد بقي الناس ولقوه، وعاملهم وعاملوه، ويتخيل، ويحسب حساب نعم الناس، وعرف وجوه دخلهم وخرجهم. فقال الوزير: صدقت ونصحت، فبمن تشير؟ قال: أصلح الموجود جعفر بن المعتضد؛ قال: ويحك، هوصبي؛ قال ابن الفرات: إلا أنه ابن المعتضد، ولم نأت برجل كامل يباشر الأمور بنفسه، غير محتاج إلينا.
ثم إن الوزير استشار علي بن عيسى، فلم يسم أحدأن وقال: لكن ينبغي أن يتقي الله، وينظر من يصلح لدين والدنيا؛ فمالت نفس الوزير ألى ما أشار به ابن الفرات، وانضاف إلى ذلك وصية المكتفي، فإنه أوصى، لما اشتد مرضه، بتقليد أخيه جعفر الخلافة، فلما مات المكتفي نصب الوزير جعفراً للخالفة، وعينه لهأن وأرسل صافياً الحرمي إليه ليحذره من دور آل طاهر بالجانب الغربي وكان يسكنهأن فلما حطه في الحراقة وحدره، وصارت الحراقة مقابل دار الوزير، صاح غلمان الوزير بالملاح ليدخل إلى دار الوزير، فظن الحرمي أن الوزير يريد القبض على جعفر، وينصب في الخلافة غيره، فمنع الملاح من ذلك، وسار إلى دار الخلافة، وأخذ له صافي البيعة على الخدم، وحاشية الدار، ولقب نفسه المقتدر بالله، ولحق الوزير به وجماعة الكتاب فبايعوه، ثم جهزوا المكتفي ودفنوه بدار محمد بن طاهر.
ولما بويع المقتدر كان في بيت المال، حين بويع، خمسة عشر ألف ألف دينار، فأطلق يد الوزير في بيت المال فأخرج منه حق البيعة.
وكان مولده المقتدر ثامن رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وأمه أم ولد يقال لها شغب، فلما بويع استصغره الوزير، وكان عمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة، وكثر كلام الناس فيه، فعزم على خلعه، وتقليد الخلافة أبا عبد الله محمد بن المعتمد على الله وكان حسن السيرة، جميل الوجه والفعل، فراسله في ذلك، واستقر الحال، وانتظر الوزير قدوم بارس حاجب إسماعيل صاحب خراسان، وكان قد أذن له في القدوم، كما ذكرناه، وأراد الوزير أن يستعين به على ذلك، ويتقوى به على غلمان المعتضد، فتأخر بارس.
واتفق أنه وقع بين أبي عبد الله بن المعتمد وبين ابن عمرويه، صاحب الشرطة، منازعه في ضيعة مشتركة بينهمأن فاغلظ له ابن عمرويه، فغضب ابن المعتمد غضباً شديدأن أغمي عليه وفلج في المجلس، فحمل إلى ثيته في محفة، فمات في اليوم الثاني، فأراد الوزير البيعة لأبي الحسين بن المتوكل، فمات أيضاً بعد خمسة أيام، وتم أمر المقتدر.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كانت وقعة بين نجح بن جاخ وبين الاجناد بمنى، ثاني عشر ذي الحجة، فقتل منهم جماعة، لأنهم طلبوا جائزة بيعة المقتدر بالله، وهرب الناس إلى بستان ابن عامر، وأصحاب الحجاج في عودهم عطش عظيم فمات منهم جماعة.
وحكي أن أحدهم كان يبول في كفه تم يشربه.
وفيها خرج عبد الله بن إبراهيم المسمعي عن أصبهان إلى قرية من قراها مخالفاً للخليفة، واجتمع إليه نحومن عشرة آلاف من الأكراد وغيرهم، فامر بدر الحمامي بالمسير إليه، فسار في خمسة آلاف من الجند، وأرسل إليه المنصور بن عبد الله بن منصور الكاتب يخوفه عاقبة الخلاف، فسار إليه وادى إليه الرسالة، فرجع إلى الطاعة، وسار إلى بغداد، واستخلف على عمله باصبهان، فرضي عنه المكتفي بالله.
وفيها كانت وقعة للحسين بن موسى على أعراب طي، الذين كانوا حصروا وصيفأن على غرة منهم، فقتل فيهم كثيرأن وأسر.
وفيها أوقع الحسن بن أحمد بالأكراد الذين تغلبوا على نواحي الموصل، فظفر بهم، واستباحهم، ونهب أموالهم، وهرب رئيسهم إلى رؤوس الجبال، فلم يدرك.
وفيها فتح المظفر بن جاخ بعض ما كان غلب عليه الخارجي باليمن، وخذ رئيساً من رؤساء أصحابه، ويعرف بالحكيمي.
وفيها تم الفداء بين المسلمين والروم في ذي القعدة، وكان عدة من فودي به من الرجال والنساء ثلاثة آلاف نفس؛ وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمي.
وفيها توفي أبوبكر محمد بن إسماعيل بن مهران الجرجاني الإسماعيلي، الفقيه الشافعي المحدث؛ ومحمد بن أحمد بن نصر أبوجعفر الترمذي الفقيه الشافعي، توفي ببغداد؛ وأبوالحسين أحمد بن محمد النوري شيخ الصوفية؛ وتوفي الحسين بن عبد الله بن أحمد أبوعلي الخرقي، الفقيه الحنبلي، يوم الفطر الخرقي بالخاء المعجمة والقاف؛ وعبد الله ابن أبي دارة.
المجلد الخامس
بسم الله الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين
ذكر خلع المقتدر وولاية ابن المعتزوفي هذه السنة اجتمع القوّاد، والقضاة، والكتّاب، مع الوزير العبّاس بن الحسن، على خلع المقتدر، والبيعة لابن المعتزّ، وأرسلوا إلى ابن المعتز في ذلك، فأجابهم على أن لا يكون فيه سفك دم، ولا حرب، فأخبروه باجتماعهم عليه، وأنّهم ليس لهم منازعٌ ولا محاربٌ.
وكان الرأس في ذلك العبّاس بن الحسن، ومحمّد بن داود بن الجَرّاح، وأبو المثنّى أحمد بن يعقوب القاضي؛ ومن القوّاد الحسين بن حمدان، وبدر الأعجميُّ، ووصيف بن صوارتكين.
ثمّ إنّ الوزير رأى أمره صالحاً مع المقتدر، وأنّه على ما يحبّ، فبدا له في ذلك، فوثب به الآخرون فقتلوه، وكان الذي تولى قتله منهم الحسين ابن حّمدان، وبدر الأعجميّ، ووصيف، ولحقوه، وهو سائر إلى بستان له، فقتلوه في طريقه، وقتلوا معه فاتكاً المعتضديَّ، وذلك في العشرين من ربيع الأوّل، وخُلع المقتدر من الغد، وبايع الناس لابن المعتّز.
وركض الحسين بن حَمدان إلى الحَلبة ظنّاً منه أنّ المقتدر يلعب هناك بالكرة، فيقتله، فلم يصادفه، لأنّه كان هناك، فبلغه قتل الوزير وفاتك، فركض دابّته فدخل الدار، وغُلّقت الأبواب، فندم الحسين حيث لم يبدأ بالمقتدر.
وأحضروا ابن المعتّز وبايعوه بالخلافة، وكان الذي يتولّى أخذ البيعة له محمّد بن سعيد الأزرق، وحضر الناس، والقوّاد، وأصحاب الدواوين، سوى أبي الحسن بن الفُرات، وخواصّ المقتدر، فإنّهم لم يحضروا، ولُقّب ابنُ المعتزّ المرتضي بالله، واستوزر محمّد بن داود بن الجرّاح، وقلّد عليّ بن عيسى الدواوين، وكُتبت الكتبُ إلى البلاد من أمير المؤمنين المرتضي بالله أبي العبّاس عبدالله بن المعتزّ بالله، ووجّه إلى المقتدر يأمره بالانتقال إلى دار ابن طاهر التي كان مقيماً فيها، لينتقل هو إلى دار الخلافة، فأجابه بالسمع والطاعة، وسأل الإمهال إلى الليل.
وعاد الحسين بن حَمدان بُكرة غد إلى دار الخلافة، فقاتله الخدم والغلمان والرجّالة من وراء الستور عامّة النهار، فانصرف عنهم آخر النهار، فلمّا جنّه الليل سار عن بغداد بأهله وماله وكلّ ما له إلى الموصل، لا يُدرى لِمَ فعل ذلك؛ ولم يكن بقي مع المقتدر من القوّاد غير مُؤنس الخادم، ومؤنس الخازن، وغريب الخال وحاشية الدار.
فلمّا همّ المقتدر بالانتقال عن الدار قال بعضهم لبعض: لا نسلم الخلافة من غير أن نُبلي عّذراً، ونجتهد في دفع ما أصابنا؛ فأجمع رأيهم على أن يصعدوا في الماء إلى الدار التي فيها ابن المعتزّ بالحرم يقاتلونه، فأخرج لهم المقتدر السلاح والزرديّات وغير ذلك، وركبوا السُّمَيريّات، وأصعدوا في الماء، فلمّا رآهم مَن عند ابن المعتزّ هالهم كثرتهم، واضطربوا، وهربوا على وجوههم من قبل أن يصلوا إليهم، وقال بعضهم لبعض: إنّ الحسين بن حمدان عرف ما يريد أن يجري فهرب من الليل، وهذه مواطأة بينه وبين المقتدر، وهذا كان سبب هربه.
ولمّا رأى ابن المعتزّ ذلك ركب ومعه وزيره محمّد بن داود وهربا، وغلام له ينادي بين يديه: يا معشر العامّة، ادعوا لخليفتكم السنّيّ البربهاريّ، وإنّما نسبت هذه النسبة لأنّ الحسين بن القاسم بن عبيد الله البربهاريّ كان مقدّم الحَنابلة والسُّنّة من العامّة، ولهم فيه اعتقاد عظيم، فأراد استمالتهم بهذا القول.
ثمّ إنّ المعتزّ ومَن معه ساروا نحو الصحراء، ظنّاً منهم أنّ مَن بايعه من الجند يتبعونه، فلم يلحقه منهم أحد، فكانوا عزموا أن يسيروا إلى سُرَّ من رأى بمن يتبعهم من الجند، فيشتدّ سلطانهم، فلمّا رأوا أنّهم لم يأتهم أحدٌ رجعوا عن ذلك الرأي، واختفى محمّد بن داود في داره ونزل ابن المعتزّ عن دابّته، ومعه غلامه يَمِن، وانحدر إلى دار أبي عبد الله بن الجصّاص، فاستجار به، واستتر أكثر مَن بايع ابن المعتزّ، ووقعت الفتنة والنهب والقتل ببغداد، وثار العيّارون والسُّفّل ينهبون الدور.
وكان ابن عمرَويْه، صاحب الشُّرطة، ممّن بايع ابن المعتزّ، فلمّا هرب جمع ابن عمرّويْه أصحابه، ونادى بشعار المقتدر، يدلّس بذلك، فناداه العامّة: يا مرائي، يا كذّاب ! وقاتلوه، فهرب واستتر، وتفرّق أصحابه، فهجاه يحيى بن عليّ بأبياتٍ منها:
بايعوه فلم يكن عند الأن ... وك إلاّ التغييرُ والتخبيط
رافضيّون بايعوا أنْصَبَ الأ ... مَة هذا لعَمْريَ التخليطُ
ثمّ ولَّى من زَعْقَةٍ ومحامو ... ومن خلفهم لهم تَضريطُ
وقلّد المقتدر، تلك الساعة، الشُّرطة مؤنساً الخازن، وهُو غير مؤنس الخادم، وخرج بالعسكر، وقبض على وصيف بن صُوارتكين وغيره، فقتلهم، وقبض على القاضي أبي عُمر، وعليّ بن عيسى، والقاضي محمّد ابن خلف وكيع، ثمّ أطلقهم، وقبض على القاضي المثنّى أحمد بن يعقوب، فقتله لأنّه قيل له: بايع المقتدر، فقال: لا أبايع صبيّاً، فذُبح.
وأرسل المقتدر إلى أبي الحسن بن الفُرات، وكان مختفياً، فاحضره واستوزره، وخلع عليه.
وكان في هذه الحادثة عجائب منها: أنّ الناس كلّهم أجمعوا على خلع المقتدر والبيعة لأبن المعتزّ، فلم يتمّ ذلك، بل كان على العكس من إرادتهم، وكان أمر الله مفعولاً.
ومنها أنّ ابن حَمدان، على شدّة تشيّعه وميله إلى عليّ، عليه السلام، وأهل بيته، يسعى في البيعة لابن المعتزّ على انحرافه عن عليّ وغلوّه في النصْب إلى غير ذلك.
ثمّ إنّ خادماً لابن الجَصّاص، يُعرف بسوسن، أخبر صافياً الحرميَّ بأنّ ابن المعتزّ عند مولاه، ومعه جماعة، فكُبست دار ابن الجَصّاص، وأُخذ ابن المعتزّ منها، وحُبس إلى الليل، وعُصِرتْ خصيتاه حتّى مات، ولُفّ في كساء، وسُلّم إلى أهله.
وصودر ابن الجَصّاص على مال كثير، وأُخذ محمّد بن داود وزير ابن المعتزّ، وكان مستتراً، فقُتل، ونُفي عليُّ بن عيسى إلى واسط، فأرسل إلى الوزير ابن الفُرات يطلب منه أن يأذن له في المسير إلى مكّة، فأذن له في ذلك فسار إليها على طريق البصرة وأقام بها.
وصودر القاضي أبو عُمر على مائة ألف دينار، وسُيّرت العساكر من بغداد في طلب الحسين بن حَمدان فتبعوه إلى الموصل، ثمّ إلى بَلَد فلم يظفروا به، فعادوا إلى بغداد فكتب الوزير إلى أخيه أبي الهيجاء بن حمدان، وهو الأمير على الموصل، يأمره بطلبه، فسار إليه إلى بَلَد، ففارقها الحسين إلى سِنجار، وأخوه في أثره، فدخل البرّيّة فتبعه أخوه عشرة أيّام، فادركه، فاقتتلوا، فظفر أبو الهيجاء، وأسر بعض أصحابه، وأخذ منه عشرة آلاف دينار، وعاد عنه إلى الموصل، ثمّ انحدر إلى بغداد، فلمّا كان فوق تكريت أدركه أخوه الحسين، فبيّته، فقتل منهم قتلى، وانحدر أبو الهيجاء إلى بغداد.
وأرسل الحسين إلى ابن الفُرات، وزير المقتدر، يسأله الرضى عنه، فشفع فيه إلى المقتدر بالله ليرضى عنه، وعن إبراهيم بن كَيْغَلَغ، وابن عمرَوَيْه صاحب الشُّرطة وغيرهم، فرضي عنهم، ودخل الحسين بغداد، فرد عليه أخوه ما أخذ منه، وأقام الحسين ببغداد إلى أن وليّ قُمّ فسار إليها، وأخذ الجرائد التي فيها أسماء مَن أعان على المقتدر، فغرَّقها في دجلة، وبسط ابن الفُرات العدل والإحسان وأخرج الإدرارات للعبّاسيّين والطالبيّين، وأرضى القوّاد بالأموال، ففرّق معظم ما كان في بيوت الأموال.
ذكر حادثة ينبغي أن يحتاط من مثلها ويفعل فيها مثل فعل صاحبها
كان سليمان بن الحسن بن مخلَّد متّصلاً بابن الفرات، وبينهما مودّة وصداقة، فوجد الوزير كتب البيعة لابن المعتزّ بخطّ سليمان، وقلّده الأعمال، فسعى سليمان بابن الفرات إلى المقتدر، وكتب بخطّه مطالعة تتضمّن ذكر أملاك الوزير وضياعه ومستغلاته وما يتعلّق بأسبابه، وأخذ الرقعة ليوصلها إلى المقتدر، فلم يتهيّأ له ذلك.
وحضر دارَ الوزير وهي معه، وسقطت من كمّه، فظفر بها بعضُ الكتّاب فأوصلها إلى الوزير، فلمّا قرأها قبض على سليمان، وجعله في زورق، وأحضره إلى واسط، ووكّل به هناك، وصادره، ثمّ أراد العفو عنه، فكتب إليه: نظرتُ، أعزّك الله، في حقّك عليّ وجرمك إليّ، فرأيتُ الحقّ مُوفياً على الجرم، وتذكّرتُ من سالف خدمتك ما عطفني عليك، وثناني إليك وأعادني لك إلى أفضل ما عهدت، وأجمل ما ألفت؛ وأطلق له عشرة آلاف درهم، وعفا عنه، واستعمله وأكرمه.
ذكر ولاية أبي مضر إفريقية وهربه إلى العراق وما كان من أمرهفي هذه السنة، مستهلّ شهر رمضان، وليّ أبو مُضر زيادة الله بن أبي العبّاس بن عبدالله إفريقية، بعد قتل أبيه، فعكف على اللذّات والشهوات وملازمة الندماء والمضحكين، وأهمل أمور المملكة وأحوال الرعيّة، وأرسل كتاباً يوم وُلّي إلى عمّه الأحول على لسان أبيه يستعجله في القدوم عليه، ويحثّه على السُّرعة، فسار مجدّاً ولم يعلم بقتل أبي العبّاس، فلمّا وصل قتله، وقتل مَن قدر عليه من أعمامه وإخوته.
واشتدّت شوكة أبي عبدالله الشيعيّ في أيّامه، وقوي أمرُه، وكان الأحوال قبالته، فلمّا قُتل صفتْ له البلاد، ودانت له الأمصار والعباد، فسيّر إليه زيادة الله جيشاً مع إبراهيم بن أبي الأغلب، وهو من بني عمّه، بلغت عدّتهم أربعين ألفاً سوى من انضاف إليه، فهزمه أبو عبدالله الشيعيُّ على ما ذكرناه آنفاً؛ فلمّا اتّصل بزيادة الله خبر الهزيمة علم أنّه لا مقام له لأن هذا الجمع هو آخر ما انتهت قدرته إليه، فجمع ما عزّ عليه من أهل ومال وغير ذلك، وعزم على الهرب إلى بلاد الشرق، وأظهر للناس أنّه قد جاءه خبرُ هزيمة أبي عبدالله الشيعيّ، وأمر بإخراج رجال من الحبس، فقتلهم، وأعلم خاصّته حقيقة الحال، وأمرهم بالخروج معه.
فأشار عليه بعض أهل دولته بأن لا يفعل ولا يترك ملكه. قال له: إنّ أبا عبدالله لا يجسر عليك، فشتمه، وردّ عليه رأيه، وقال: أحبّ الأشياء إليك أن يأخذني بيدي. وانصرف كلّ واحد من خاصّته وأهله يتجهّز للمسير معه، وأخذ ما أمكنه حمله.
وكانت دولة آل الأغلب بإفريقية قد طالت مدّتها، وكثرت عبيدها وقوي سلطانها، وسار عن إفريقية إلى مصر في سنة ستّ وتسعين ومائتين، واجتمع معه خلق عظيم، فلم يزل سائراً حتّى وصل طرابلس، فدخلها، فأقام بها تسعة عشر يوماً، ورأى بها أبا العبّاس أخا أبي عبدالله الشيعيّ، وكان محبوساً بالقيروان، حبسه زيادة الله، فهرب إلى طرابلس، فلمّا رآه أحضره وقرّره: هل هو أخو أبي عبدالله ؟ فأنكر وقال: أنا رجل تاجر قيل عنّي إنّني أخو أبي عبدالله فحبستَني. فقال له زيادة الله: أنا أطلقك، فإن كنت صادقاً في أنّك تاجر فلا نأثم فيك، وإنّ كنتَ كاذباً، وأنت أخو أبي عبدالله، فليكن للصنيعة عندك موضع، وتحفظنا فيمن خلّفناه. وأطلقه.
وكان من كبار أهله وأصحابه إبراهيم بن أبي الأغلب، فأراد قتله وقتل رجل آخر كانا قد عرضا أنفسهما على ولاية القيروان، فعلما ذلك، وهربا إلى مصر، وقدما على العامل بها وهو عيسى النُّوشريُّ، فتحدّثا معه، وسعيا بزيادة الله، وقالا له: إنّه يُمنيّ نفسه بولاية مصر، فوقع ذلك في نفسه، وأراد منعه عن دخول مصر إلاّ بأمر الخليفة من بغداد، فوصل زيادة الله ليلاً، وعبر الجسر إلى الجيزة قهراً، فلمّا رأى ذلك النُّوشريُّ لم يمكنه منعه، فأنزله بدار ابن الجصّاص، ونزل أصحابه في مواضع كثيرة، فأقام ثمانية أيّام، ورحل يريد بغداد، فهرب عنه بعض أصحابه، وفيهم غلام له، وأخذ منه مائة ألف دينار، فأقام عند النُّوشريِّ، فأسرل النُّوشريُّ إلى الخليفة، وهو المقتدر بالله، يعرّفه حال زيادة الله وحال من تخلّف بمصر، فأمره بردّ من تخلّف عنه إليه مع المال، ففعل.
وسار زيادة الله حتّى بلغ الرَّقّة وكتب إلى الوزير، وهو ابن الفرات، يسأله في الإذن له لدخول بغداد، فأمره بالتوقّف، فبقي على ذلك سنة، فتفرّق عنه أصحابه، وهو مع هذا مُدمن الخمر، واستماع الملاهي، وسُعي به إلى المقتدر، وقيل له يُرَدّ إلى المغرب يطلب بثأره، فكتب إليه بذلك وكتب إلى النوشري بإنجاده بالرجال والعُدد والأموال من مصر ليعود إلى المغرب، فعاد إلى مصر، فأمره النُّوشريُّ بالخروج إلى ذات الحمّام ليكون هناك إلى أن يجتمع إليه ما يحتاج إليه من الرجال والمال، ففعل، ومطله، فطال مُقامه، وتتابعت به الأمراض، وقيل بل سمّه بعض غلمانه، فسقط شعر لحيته، فعاد إلى مصر، وقصد البيت المقدّس، فتوفّي بالرملة ودُفن بها.
فسبحان الحيّ الذي لا يموت، ولا يزول ملكه، ولم يبق بالمغرب من بني الأغلب أحد، وكانت مدّة ملكهم مائة سنة واثنتي عشرة سنة، وكانوا يقولون: إنّنا نخرج إلى مصر والشام، ونربط خيلنا في زيتون فلسطين؛ فكان زيادة الله هو الخارج إلى فلسطين على هذه الحال لا على ما ظّنوه.
ذكر ابتداء الدولة العلويّة بإفريقية
هذه دولة اتّسعت أكناف مملكتها، وطالت مدّتها، فإنّها ملكت إفريقية هذه السنة، وانقرضت دولتهم بمصر سنة سبع وستين وخمسمائة، فنحتاج أن نستقصي ذكرها فنقول: أوّل مَن وليَ منهم أبو محمّد عبيد الله، فقيل هو محمّد بن عبد الله بن ميمون بن محمّد بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ ابن أبي طالب، رضي الله عنهم، ومَن ينسب هذا النسب يجعله عبد الله بن ميمون القدّاح الذي يُنسب إليه القدّاحيّة، وقيل هو عبيد الله بن أحمد بن إسماعيل الثاني ابن محمّد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن عليّ بن عليّ بن الحسين بن أبي طالب، رضي الله عنهم.
وقد اختلف العلماء في صحّة نسبه، فقال هو وأصحابه القائلون بإمامته: إنّ نسبه صحيح على ما ذكرناه، ولم يرتابوا فيه، وذهب كثير من العلويّين العالمين بالأنساب إلى موافقتهم أيضاً، ويشهد بصحّة هذا القول ما قاله الشريف الرَّضيُّ:
ما مُقامي على الهوان وعندي ... مِقْوَلٌ صارمٌ، وأنْفٌ حميُّ
ألبَسُ الذُّلّ في بلاد الأعادي؛ ... وبمصر الخليفةُ العَلَويُّ
مَنْ أبوه أبي، ومولاه مولا ... ي إذا ضامني البعيدُ القَصيُّ
لفّ عرقي بعرقه سيّدَا النّا ... س جميعاً: محمّدٌ، وعليُّ
إنّ ذُلّي بذلك الجَوّ عزٌّ ... وأُوامي بذلك النّقْعِ ريُّ
وإنّما لم يودعها في بعض ديوانه خوفاً، ولا حجّة بما كَتبه في المحضر المتضمّن القدح في أنسابهم، فإنّ الخوف يحمل على أكثر من هذا، على أنّه قد ورد ما يصدّق ما ذكرتُه، وهو أنّ القادر بالله لمّا بلغته هذه الأبيات أحضر القاضي أبا بكر بن الباقلانيّ، فأرسله إلى الشريف أبي أحمد الموسويّ، والد الشريف الرضيّ، يقول له: قد عرفتَ منزلتك منّا، وما لا نزال عليه من الاعتداد بك بصدق الموالاة منك، وما تقدّم لك في الدولة من مواقف محمودة، ولا يجوز أن تكون أنت على خليفة ترضاه، ويكون ولدك على ما يضادّها، وقد بلغنا أنّه قال شعراً، وهو كذا وكذا، فيا ليت شعري على أيّ مقام ذلٍّ أقام، وهو ناظر في النّقابة والحجّ، وهما من أشرف الأعمال، ولو كان بمصر لكان كبعض الرعايا؛ وأطال القول، فحلف أبو أحمد أنّه ما علم بذلك.
وأحضر ولده وقال له في المعنى فأنكر الشعر، فقال له: اكتب خطّك إلى الخليفة بالاعتذار، واذكر فيه أنّ نسب المصريّ مدخولٌ، وأنّه مدّع في نسبه؛ فقال: لا أفعل ! فقال أبوه: تكذّبني في قولي ؟ فقال: ما أكذبك، ولكنيّ أخاف من الديلم، أخاف من المصريّ ومن الدُّعاة في البلاد؛ فقال أبوه: أتخاف ممّن هو بعيد عنك، وتراقبه، وتُسخط من هو قريب، وأنت بمرأى منه ومسمع، وهو قادر عليك وعلى أهل بيتك ؟ وتردّد القول بينهما، ولم يكتب الرضيُّ خطّه، فحرد عليه أبوه وغضب وحلف أنّه لا يقيم معه في بلد، فآل الأمر إلى أنّ حلف الرضيُّ أنّه ما قال هذا الشعر واندرجت القصّة على هذا.
ففي امتناع الرضيّ من الاعتذار، ومن أن يكتب طعناً في نسبهم مع الخوف، دليلٌ قويٌّ على صحّة نسبهم.
وسألتُ أنا جماعة من أعيان العلويّين في نسبه، فلم يرتابوا في صحّته، وذهب غيرهم إلى أنّ نسبه مدخول ليس بصحيح، وعدا طائفة منهم إلى أن جعلوا نسبه يهوديّاً، وقد كُتب في الأيّام القادريّة محضر يتضمّن القدح في نسبه ونسب أولاده، وكتب فيه جماعة من العلويّين وغيرهم أنّ نسبه إلى أمير المؤمنين عليّ غير صحيح.
فممن كتب فيه من العلويّين المرتضى، وأخوه الرضيُّ، وابن البطحاوي، وابن الأزرق العلويّان، ومن غيرهم ابن الأكفانيّ وابن الخرزيّ، وأبو العبّاس الأبيورديُّ، وأبو حامد، والكشفليُّ، والقدوريُّ، والصَّيْمريُّ، وأبو الفضل النسويُّ، وأبو جعفر النسفيُّ، وأبو عبدالله بن النُّعمان، فقيه الشيعة.
وزعم القائلون بصحّة نسبه أنّ العلماء ممّن كتب في المحضر إنّما كتبوا خوفاً وتقيّة، ومن لا علم عنده بالأنساب فلا احتجاج بقوله.
وزعم الأمير عبد العزيز، صاحب تاريخ إفريقية والمغرب، أنّ نسبه مُعرِقٌ في إليهوديّة، ونقل فيه عن جماعة من العلماء، وقد استقصى ذكر ابتداء دولتهم، وبالغ.
وأنا أذكر معنى ما قاله مع البراءة من عهدة طعنه في نسبه، وما عداه فقد أحسن فيما ذكر، قال: لّما بعث الله تعالى سيّد الأوّلين والآخرين محمّداً، صلى الله عليه وسلم، عظم ذلك على إليهود والنصارى والروم والفرس وقريش، وسائر العرب، لأنّه سفَّه أحلامهم، وعاب أديانهم وآلهتهم، وفرَّق جمعهم، فاجتمعوا يداً واحدةً عليه، فكفاه الله كيدهم، ونصره عليهم، فأسلم منهم مَن هداه الله تعالى؛ فلمّا قُبض، صلى الله عليه وسلم، نجم النفاق، وارتدّت العرب، وظنّوا أنّ الصحابة يضعفون بعده، فجاهد أبو بكر، رضي الله عنه، في سبيل الله، فقتل مُسَيْلمة، وردّ الرِّدّة، وأذلّ الكفر، ووطّأ جزيرة العرب، وغزا فارس والروم، فلمّا حضرتْه الوفاة ظنّوا أن بوفاته ينتقص الإسلام، فاستخلف عمر بن الخطّاب، فأذلّ فارس والروم، وغلب على ممالكها، فدسّ عليه المنافقون أبا لؤلؤة فقتله، ظنّاً منهم أن بقتله ينطفئ نور الإسلام، فوليَ بعده عثمان، فزاد في الفتوح، واتّسعت مملكة الإسلام، فلمّا قُتل ووليَ بعده أمير المؤمنين عليٌّ قام بالأمر أحسن قيام، فلمّا يئس أعداء الإسلام من استئصاله بالقوّة أخذوا في وضع الأحاديث الكاذبة، وتشكيك ضعفة العقول في دينهم، بأمور قد ضبطها المحدّثون، وأفسدوا الصحيح بالتأويل والطعن عليه.
فكان أوّل من فعل ذلك أبو الخطّاب محمّج بن أبي زينب مولى بني أسد، وأبو شاكر ميمون بن ديصان، صاحب كتاب الميزان في نصرة الزندقة، وغيرهما، فألقوا إلى من وثقوا به أنّ لكلّ شيء من العبادات باطناً، وأنّ الله تعالى لم يوجب على أوليائه، ومن عرف الأئمّة والأبواب، صلاة، ولا زكاة، ولا غير ذلك، ولا حرّم عليهم شيئاً، وأباحوا لهم نكاح الأمّهات والأخوات، وإنّما هذه قيود للعامّة ساقطة عن الخاصّة.
وكانوا يظهرون التشيّع لآل النبيّ، صلى الله عليه وسلم، ليستروا أمرهم، ويستميلوا العامّة، وتفرّق أصحابهم في البلاد، وأظهروا الزهد والعبادة، يغرّون الناس بذلك وهم على خلافه، فقُتل أبو الخطّاب وجماعة من أصحابه بالكوفة، وكان أصحابه قالوا له: إنّا نخاف الجند؛ فقال لهم: إنّ أسلحتهم لا تعمل فيكم؛ فلمّا ابتدأوا في ضرب أعناقهم قال له أصحابه: ألم تقُلْ إنّ سيوفهم لا تعمل فينا ؟ فقال: إذا كان قد أراد اللهُ فما حيلتي ؟ وتفرّقت هذه الطائفة في البلاد وتعلّموا الشعبذة، والنارنجيات، والزرق، والنجوم، والكيمياء، فهم يحتالون على كل قوم بما يتّفق عليهم وعلى العامّة بإظهار الزهد.
ونشأ لأبن ديصان ابن يقال له عبدالله القدّاح، علّمه الحيل، وأطلعه على أسرار هذه النِّحلة، فحذق وتقدّم.
وكان بنواحي كرْخ وأصبهان رجل يُعرف بمحمّد بن الحسين ويلقّب بدندان يتولّى تلك المواضع، وله نيابة عَظيمة، وكان يبغض العرب، ويجمع مساويهم، فسار إليه القدّاح، وعرّفه من ذلك ما زاد به محلّه، وأشار عليه أن لا يُظهر ما في نفسه، إنّما يكتمه، ويُظهر التشيّع والطعن على الصحابة، فإنّ الطعن فيهم طعن في الشريعة، فإنّ بطريقهم وصلتَ إلى من بعدهم. فاستحسن قوله وأعطاه مالاً عظيماً ينفقه على الدُّعاة إلى هذا المذهب، فسيّره إلى كُوَر الأهواز، والبصرة، والكوفة، وطالقان، وخُراسان، وسلميّة، من أرض حِمص، وفرّقه في دعاته؛ وتوفّي القدّاح، ودندان.
وإنّما لُقّب القدّاح لأنّه كان يعالج العيون ويقدحها. فلمّا توفّي القدّاح قام بعده ابنه أحمد مقامه، وصحبه إنسان يقال له رستم بن الحسين ابن حوشب بن داذان النجّار، من أهل الكوفة، فكانا يقصدان المشاهد، وكان باليمن رجل اسمه محمّد بن الفضل كثير المال والعشيرة من أهل الجَنَد، يتشيّع، فجاء إلى مشهد الحسين بن عليّ يزوره، فرآه أحمد ورستم يبكي كثيراً، فلمّا خرج اجتمع به أحمد، وطمع فيه لما رأى من بكائه، وألقى إليه مذهبه، فقبله، وسيّر معه النّجّار إلى اليمن، وأمره بلزوم العبادة والزهد ودعوة الناس إلى المهديّ وأنّه خارج في هذا الزمان باليمن، فسار النّجار إلى اليمن، ونزل بعدن، بقرب قوم من الشيعة يُعرفون ببني موسى، وأخذ في بيع ما معه.
وأتاه بنو موسى، وقالوا له: فِيمَ جئتَ ؟ قال: للتجارة. قالوا: لستَ بتاجر، وإنّما أنت رسول المهديّ، وقد بلغنا خبرُك، ونحن بنو موسى، ولعلّك قد سمعتَ بنا، فانبسطْ، ولا تحتشم، فإنّا إخوانك. فأظهر أمره، وقوّي عزائمهم، وقرب أمر المهديّ فأمرهم بالاستكثار من الخيل والسلاح، وأخبرهم أنّ هذا أوان ظهور المهديّ، ومن عندهم يظهر.
واتّصلت أخباره بالشيعة الذين بالعراق، فساروا إليه فكثر جمعهم، وعظم بأسهم، وأغاروا على من جاورهم، وسبوا، وجبوا الأموال، وأرسل إلى مَن بالكوفة من ولد عبدالله القدّاح هدايا عظيمة، وكانوا أنفذوا إلى المغرب رجلينْ أحدهما يُعرف بالحلوانيّ، والآخر يعرف بأبي سفيان، وقالوا لهما: إنّ المغرب أرض بور، فاذهبا فاحرثا حتى يجيء صاحب البدر؛ فسارا فنزل أحدهما بأرض كُتامة ببلد يسمّى مَرْمجَنّة والآخر بسوق حمار، فمالت قلوب أهل تلك النواحي إليهما، وحملوا إليهما الأموال والتحف، فأقاما سنين كثيرة، وماتا، وكان أحدهما قريب الوفاة من الآخر.
ذكر إرسال أبي عبد الله الشيعيّ إلى المغرب
كان أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمّد بن زكريّاء الشيعيُّ من أهل صنعاء، وقد سار إلى ابن حوشب النجّار، وصحبه بعدن، وصار من كبار أصحابه، وكان له علم وفهم ودهاء ومكر، فلمّا أتى خبر وفاة الحلوانيّ وأبي سفيان إلى ابن حوشب قال لأبي عبد الله الشيعيّ: إنّ أرض كُتامة من المغرب قد حرثها الحلوانيُّ وأبو سفيان، وقد ماتا، وليس لها غيرك، فبادِرْ، فإنّها موطَّأة ممهّدة لك.
فخرج أبو عبدالله إلى مكّة، وأعطاه ابن حوشب مالاً، وسيّر معه عبد الله بن أبي ملاحف، فلمّا قدم أبو عبدالله مكّة سأل عن حُجّاج كُتامة فأُرشد إليهم، فاجتمع به، ولم يعرّفهم قصده، وجلس قريباً منهم، فسمعهم يتحدّثون بفضائل أهل البيت، فأظهر استحسان ذلك، وحدثهم بما لم يُعلموه، فلمّا أراد القيام سألوه أن يأذن لهم في زيارته والأنبساط معه، فأذن لهم في ذلك، فسألوه أين مقصده، فقال: أُريد مصر؛ ففرحوا بصحبته.
وكان من رؤساء الكُتاميّين بمكّة رجل اسمه حُرَيْث الجُميليُّ، وآخر اسمه موسى بن مكاد، فرحلوا، وهو لا يخبرهم بغرضه، وأظهر لهم العبادة والزهد، فازدادوا فيه رغبةً، وخدموه، وكان يسألهم عن بلادهم وأحوالهم وقبائلهم، وعن طاعتهم لسلطان إفريقية، فقالوا: ما له علينا طاعة، وبيننا وبينه عشرة أيّام. قال: أفتحملون السلاح ؟ قالوا: هو شغلنا؛ ولم يزل يتعرّف أحوالهم، حتّى وصلوا إلى مصر، فلمّا أراد وداعهم قالوا له: أيّ شيء تطلب بمصر ؟ قال: أطلب التعليم بها، قالوا: إذا كنتَ تقصد هذا فبلادنا أنفع لك، ونحن أعرف بحقّك؛ ولم يزالوا به حتّى أجابهم إلى المسير معهم بعد الخضوع والسؤال، فسار معهم.
فلمّا قاربوا بلادهم لقيهم رجال من الشيعة، فأخبروهم بخبره، فرغبوا في نزوله عندهم، واقترعوا فيمن يضيفه منهم ثم رحلوا حتّى وصلوا إلى أرض كُتامة، منتصف شهر ربيع الأوّل سنة ثمانين ومائتين، فسأله قوم منهم أن ينزل عندهم حتّى يقاتلوا دونه، فقال لهم: أين يكون فجّ الأخيار ؟ فتعجّبوا من ذلك، ولم يكونوا ذكروه له، فقالوا له: عند بني سليان. فقال: إليه نقصد، ثمّ نأتي كلّ قوم منكم في ديارهم، ونزورهم في بيوتهم؛ فأرضى بذلك الجميع.
وسار إلى جبل يقال له إنْكِجان، وفيه فجّ الأخيار، فقال: هذا فجّ الأخيار، وما سُمّي إلاّ بكم، ولقد جاء في الآثار: إنّ للمهديّ هِجرة تنبو عن الأوطان، ينصره فيها الأخيار من أهل ذلك الزمان، قوم مشتقٌ اسمهم من الكِتمان، فإنّهم كُتامة، وبخروجكم من هذا الفجّ يسمّى فجّ الأخيار.
فتسامعتِ القبائل، وصنع من الحيل والمَكِيدات والنارنجيات ما أذهل عقولهم، وأتاه البربر من كلّ مكان، وعظم أمره إلى أن تقاتلتْ كُتامة عليه مع قبائل البربر، وسلم من القتل مراراً، وهو في كلّ ذلك لا يذكر اسم المهديّ، فاجتمع أهل العلم على مناظرته وقتله، فلم يتركه الكُتاميّون يناظرهم، وكان اسمه عندهم أبا عبدالله المشرقيّ.
وبلغ خبره إلى إبراهيم بن أحمد بن الأغلب أمير إفريقية، فأرسل إلى عامله على مدينة ميْلَةَ يسأله عن أمره، فصغّره وذكر له أنّه يلبس الخشن، ويأمر بالخير والعبادة، فسكت عنه.
ثمّ إنّه قال للكُتاميّين. أنا صاحب البدر الذي ذكر لكم أبو سفيان والحلوانيُّ؛ فازدادت محبّتهم له، وتعظيمهم لأمره، وتفرّقت كلمة البربر وكُتامة بسببه، فأراد بعضهم قتله، فاختفى، ووقع بينهم قتال شديد، واتّصل الخبر بإنسان اسمه الحسن بنهارون، وهو من أكابر كُتامة، فأخذ أبا عبدالله إليهن ودافع عنه، ومضيا إلى مدينة ناصرون، فأتته القبائل من كلّ مكان وعظم شأنه، وصارت الرئاسة للحسن بن هارون، وسلّم إليه أبو عبدالله أعنّة الخيل، وظهر من الاستتار، وشهر الحروب، فكان الظفر له فيها، وغنم الأموال، وانتقل إلى مدينة ناصرون وخندق عليها، فزحفت قبائل البربر إليها، واقتتلوا، ثمّ اصطلحوا، ثمّ أعادوا القتال، وكان بينهم وقائع كثيرة، وظفر بهم، وصارت إليه أموالهم، فاستقام له أمر البربر وعامّة كُتامة.
ذكر ملكه مدينة مِيْلَةَ وانهزامه
فلمّا تمّ لأبي عبد الله ذلك زحف إلى مدين مِيْلة، فجاءه منها رجل اسمه الحسن بن أحمد، فأطلعه على غرّة البلد، فقاتل أهله قتالاً شديداً، وأخذ الأرباض، فطلبوا منه الأمان فأمّنهم، ودخل مدينة مِيلة، وبلغ الخبر أمير إفريقية، وهو حينئذٍ إبراهيم بن أحمد، فنفّذ ولده الأحول في اثني عشر ألفاً، وتبعه مثلهم، فالتقيا، فاقتتل العسكران، فانهزم أبو عبد الله، وكثر القتل في أصحابه، وتبعه الأحول، وسقط ثلج عظيم حال بينهم، وسار أبو عبد الله إلى جبل إنِكجَان، فوصل الأحوال إلى مدينة ناصرون، فأحرقها، وأحرق مدينة مِيلَة، ولم يجد بها أحداً.
وبنى أبو عبد الله بإنْكِجَانَ دار هجرة، فقصدها أصحابه، وعاد الأحول إلى إفريقية، فسار أبو عبد الله بعد رحيلهم، فغنم ما رأى ممّا تخلّف عنهم؛ وأتاه خبر وفاة إبراهيم، فسُرّ به، ثمّ أتاه خبر قتل أبي العبّاس ولده، وولاية زيادة الله، واشتغاله باللهو اللعب، فاشتدّ سروره.
وكان الحول قد جمع جيشاً كثيراً أيّام أخيه أبي العبّاس، ولقي أبا عبد الله، فانهزم الأحول.
وبقي الأحول قريباً منه يقاتله ويمنعه من التقدّم، فلمّا وليَ أبو مُضر زيادة الله إفريقية أحضر الأحولَ وقتله، كما ذكرناه؛ ولم يكن أحولَ، وإنّما كان يكسر عينه إذا أدام النظر فلُقّب بهِ، فلمّا قُتل انتشرت حينئذ جيوش أبي عبدالله في البلاد، وصار أبو عبدالله يقول: المهديُّ يخرج في هذه الأيّام، ويملك الأرض، فيا طوبى لمن هاجر إليّ وأطاعني ! ويغري الناس بأبي مُضر، ويعيبه.
وكان كلّ مَن عنده زيادة الله من الوزراء شيعة، فلا يسوءهم أن يظفر أبو عبدالله لا سيّما مع ما كان يُذْكَر لهم من الكرامات التي للمهديّ من إحياء الموتى، وردّ الشمس من مغربها، وملكه الأرض بأسرها ! وأبو عبد الله يرسل إليهم، ويسحرهم، ويعدهم.
ذكر سبب اتّصال المهديّ عبيد الله بأبي عبد الله الشيعيّ ومسيره إلى سِجِلْماسة
لمّا توفّي عبد الله بن ميمون القدّاح ادّعى ولده أنهم من ولد عَقِيل بن أبي طالب، وهم مع هذا يسترون، ويُسِرّون أمرهم، ويخُفون أشخاصهم.
وكان ولده أحمد هو المشار إليه منهم، فتوفّي وخلّف ولَدهُ محمّداً، وكان هو الذي يكاتبه الدعاة في البلاد، وتوفّي محمّد وخلّف أحمد والحسين، فسار الحسين إلى سَلَمِيّة من أرض حِمص، وله بها ودائع وأموال من ودائع جدّه عبدالله القدّاح، ووكلاء، وغلمان، وبقي ببغداد من أولاد القدّاح أبو الشلَغْلَغ.
وكان الحسين يدّعي أنّه الوصيّ وصاحب الأمر، والدعاة باليمن والمغرب يكاتبونه ويراسلونه؛ واتّفق أنّه جرى بحضرته حديث النساء بسَلَمِيّة، فوصفوا له امرأة رجل يهوديّ حدّاد، مات عنها زوجها، وهي في غاية الحسن، فتزوّجها، ولها ولد من الحدّاد يماثلها في الجمال، فأحبّها وحسُن موقعها معه، وأحبّ ولدها، وأدّبه، وعلّمه، فتعلّم العلم، وصارت له نفس عظيمة، وهمّة كبيرة.
فمن العلماء من أهل هذه الدعوة مَن يقول: إنّ الإمام الذي كان بسَلَمِيّة، وهو الحسين، مات ولم يكن له ولدٌ، فعهد إلى ابن إليهوديّ الحدّاد، وهو عبيدالله، وعرّفه أسرار الدعوة من قول وفعل، وأين الدُّعاة، وأعطاه الأموال والعلامات، وتقدّم إلى أصحابه بطاعته وخدمته، وأنّه الإمام والوصيّ، وزوّجه ابنة عمّه أبي الشلَغْلَغ. وهذا قول أبي القاسم الأبيض العلويّ وغيره، وجعل لنفسه نسباً، وهو عبيدالله بن الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ ابن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب.
وبعض الناس يقولون، وهم قليل: إنّ عبيدالله هذا من ولد القدّاح، وهذه الأقوال فيها ما فيها، فيا ليت شعري ما الذي حمل أبا عبدالله الشيعيّ وغيره ممّن قام بإظهار هذه الدعوة، حتّى يخرجوا هذا الأمر من أنفسهم، ويسلّموه إلى ولد يهوديّ، وهل يسامح نفسه بهذا الأمر من يعتقده ديناً يثاب عليه ؟ قال: فلمّا عهد الحسين إلى عبيدالله قال له: إنّك ستهاجر بعدي هجرة بعيدة، وتلقى محناً شديدةً؛ فتوفّي الحسين، وقام بعده عبيدالله، وانتشرت دعوته، وبذل الأموال خلاف مَن تقدّم، وأرسل إليه أبو عبدالله رجالاً من كُتامة من المغرب ليخبروه بما فتح الله عليه، وأنّهم ينتظرونه.
وشاع خبره عند الناس أيّام المكتفي فطُلب، فهرب هو وولده أبو القاسم نزار الذي وليّ بعده، وتلقّب بالقائم، وهو يومئذ غلام، وخرج معه خاصّته وموإليه يريد المغرب، وذلك أيّام زيادة الله، فلمّا انتهى إلى مصر أقام مستتراً بزيّ التجار، وكان عامل مصر حينئذ عيسى النُّوشريّ، فأتته الكتب من الخليفة بصفته وحليته، وأمر بالقبض عليه وعلى كلّ مَن يشبهه.
وكان بعض خاصّة عيسى متشيّعاً، فأخبر المهديَّ وأشار عليه بالانصراف، فخرج من مصر مع أصحابه، ومعه أموال كثيرة، فأوسع النفقة على مَن صحبه، فلمّا وصل الكتاب إلى النُّوشريّ فرّق الرسل في طلب المهديّ وخرج بنفسه فلحقه، فلمّا رآه لم يشكّ فيه، فقبض عليه، ونزل ببستان، ووكّل به، فلمّا حضر الطعام دعاه ليأكل، فأعلمه أنّه صائم، وفرّق له، وقال له: أعلمني بحقيقة حالك حتّى أُطلقك؛ فخوّفه بالله تعالى، وأنكر حاله، ولم يزل يخوّفه ويتلطّفه فأطلقه، وخلّى سبيله، وأراد أن يرسل معه مَن يوصله إلى رفقته، فقال: لا حاجة بي إلى ذلك، ودعا له.
وقيل: إنّه أعطاه في الباطن مالاً حتّى أطلقه، فرجع بعض أصحاب النُّوشريّ عليه اللوم، فندم على إطلاقه، وأراد إرسال الجيش وراءه ليردّوه، وكان المهديُّ لمّا لحق أصحابه رأى أبنه أبا القاسم قد ضيّع كلباً كان له يصيد به، وهو يبكي عليه، فعرّفه عبيده أنّهم تركوه في لبستان الذي كانوا فيه، فرجع المهديُّ بسبب الكلب، حتّى دخل البستان ومعه عبيده، فرآهم لنُّوشريُّ فسأل عنهم فقيل: إنّه فلان، وقد عاد بسبب كذا وكذا؛ فقال النُّوشريُّ لأصحابه: فبحكم الله ! أردتم أن تحملوني على قتل هذا حتّى آخذه، فلو كان يطلب ما يقال أو كان مُريباً كان يطوي المراحل، ويخفي نفسه، وما كان رجع في طلب كلب؛ وتركه.
وجدّ المهديُّ في الهرب، فلحقه لصوصٌ بموضع يقال له الطاحونة، فأخذوا بعض متاعه، وكانت عنده كتب وملاحم لآبائه، فأُخذت، فعظم أمرها عليه، فيقال إنّه لمّا خرج ابنه أبو القاسم في المرّة الأولى إلى الديار المصريّة أخذها من ذلك المكان.
وانتهى المهديُّ وولده إلى مدينة طرابلس، وتفرّق مَن صحبه من التجار، وكان في صحبته أبو العبّاس أخو أبي عبدالله الشيعيّ، فقدّمه المهديًُّ إلى القَيروان ببعض ما معه، وأمره أن يلحق بكُتامة. فلمّا وصل أبو العبّاس إلى القَيروان وجد الخبر قد سبقه إلى زيادة الله بخبر المهديّ، فسأل عنه رفقته، فأخبروا أنّه تخلّف بطرابلس، وأنّ صاحبه أبا العبّاس بالقَيروان، فأُخذ أبو العبّاس، وقُرّر فأنكر وقال: إنّما أنا رجل تاجر صحبتُ رجلاً في القفل؛ فحبسه.
وسمع المهديُّ، فسار إلى قَسطيلة، ووصل كتاب زيادة الله إلى عامل طرابلس بأخذه، وكان المهديُّ قد أهدى له واجتمع به، فكتب العامل يخبره أنّه قد سار ولم يدركه، فلمّا وصل المهديُّ إلى قَسطيلة ترك قصد أبي عبد الله الشيعيّ، لأن أخاه أبا العبّاس كان قد أُخذ، فعلم أنّه إذا قصد أخاه تحقّقوا الأمر وقتلوه، فتركه وسار إلى سِجِلْماسة، ولّما سار من قَسطيلة وصل الرسل في طلبه فلم يوجد، ووصل إلى سِجِلماسة، فأقام بها؛ وفي كلّ ذلك عليه العيون في طريقه.
وكان صاحب سِجِلماسة رجلاً ألِيْسَع بن مدرار، فأهدى له المهديُّ، وواصله، فقرّب ألِيْسَع، وأحبّه، فأتاه كتاب زيادة الله يعرّفه أنّه الرجل الذي يدعو إليه أبو عبد الله الشيعيُّ، فقبض عليه وحبسه، فلم يزل محبوساً حتّى أخرجه أبو عبد الله على ما نذكره.
ذكر استيلاء أبي عبد الله على إفريقية وهرب زيادة الله أميرهاقد ذكرنا من حال أبي عبد الله ما تقدّم، ثمّ إنّ زيادة الله لما رأى استيلاء أبى عبد الله على البلاد، وأنّه قد فتح مدينة مِيْلة ومدينة سَطيف، وغيرهما، أخذ في جمع العساكر، وبذل الأموال، فاجتمعت إليه عساكر عظيمة، فقدّم عليهم إبراهيم بن خُنَيْش وهو من أقاربه، وكان لا يعرف الحرب، فبلغت عدّة جيشه أربعين ألفاً، وسلّم إليه الأموال والعُدد، ولم يترك بإفريقية شجاعاً إلاّ أخرجه معه، وسار إليه، فانضاف إليه مثل جيشه، فلّما وصل قسطنطينية الهواء، وهي مدينة قديمة حصينة، نزل بها، وأتاه كثير من كُتامة الذين لم يطيعوا أبا عبد الله، فقتل في طريقه كثيراً من أصحاب أبي عبدالله، وخاف أبو عبد الله منه، وجميع كُتامة، وأقام بقُسطنطينية ستّة أشهر، وأبو عبدالله متحصّن في الجبل.
فلمّا رأى إبراهيم أنّ أبا عبد الله لا يتقدّم إليه بادر وزحف بالعساكر المجتمعة إلى بلد اسمه كرمة، فأخرج إليه أبو عبد الله خيلاً اختارها ليختبر نزوله، فوافاها بالموضع المذكور، فلمّا رأى إبراهيم الخيل قصد إليها بنفسه، ولم يصحبه إليها أحدٌ من جيشه، وكانت أثقال العسكر على ظهور الدوابّ لم تحطّ، ونشبت الحرب، واقتتلوا قتالاً شديداً.
واتّصل الخبر بأبي عبدالله، فزحف بالعساكر، فوقعت الهزيمة على إبراهيم ومَن معه، فجُرح، وعُقر فرسه، وتمّت الهزيمة على الجيش جميعه، وأسلموا الأثقال بأسرها، فغنمها أبو عبدالله، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وتمّ أمر إبراهيم إلى القَيروان، فشاشت بلاد إفريقية، وعظم أمر أبي عبد الله، واستقرّت دولته، وكتب أبو عبد الله كتاباً إلى المهديّ، وهو في سجن سِجِلماسة، يبشّره، وسيّر الكتاب مع بعض ثقاته، فدخل السجن في زيّ قصّاب يبيع اللحم، فاجتمع به وعرّفه ذلك.
وسار أبو عبد الله إلى مدينة طُبْنَة، ونصب عليها الدبابات، ونقب برجاً وبدنة، فسقط السور بعد قتال شديد، وملك البلد، فاحتمى المقدّمون بحصن البلد، فحصرهم، فطلبوا الأمان، فأمّنهم، وأمّن أهل البلد، وسار إلى مدينة بَلَزْمة، وكان قد حصرها مراراً كثيرة فلم يظفر بها، فلمّا حصرها الآن ضيّق عليها، وجدّ في القتال، ونصب عليها الدبابات، ورماها بالنار، فأحرقها، وفتحها بالسيف وقتل الرجال، وهدم الأسوار.
واتّصلت الأخبار بزيادة الله، فعظم عليه وأخذ في الجمع والحشد، فجمع عسكراً عدّتهم اثنا عشر ألفاً، وأمرّ عليهم هارونَ بن الطُّبنيّ، فسار، واجتمع معه خلق كثير، وقصد مدينة دار ملوك، وكان أهلها قد أطاعوا أبا عبدالله، فقتل هارون أهلها، وهدم الحصن، ولقيه في طريقه خيل لأبي عبدالله كان قد أرسلها ليختبروا عسكره، فلمّا رآها العسكر اضطربوا، وصاحوا صيحة عظيمة، وهربوا من غير قتال، فظنّ أصحاب أبي عبدالله أنّها مكيدة، فلمّا ظهر أنّها هزيمة استدركوا الأمر، ووضعوا السيف، فما يحصى مَن قتلوا، وقُتل هارون أمير العسكر، وفتح أبو عبدالله مدينة تيجس صلحاً، فاشتدّ الأمر حينئذ على زيادة الله، وأخرج الأموال، وجيّش الجيوش، وخرج بنفسه إلى محاربة أبي عبدالله، فوصل إلى الأُرْبُس في سنة خمس وتسعين ومائتين، فقال له وجوه دولته: إنّك تغرّر بنفسك، فإن يكن عليك لا يبقى لنا ملجأ والرأي أن ترجع إلى مستقرّ ملكك، وترسل الجيش مع مَن تثق به، فإن كان الفتح لنا فنصل إليك، وإن كان غير ذلك فتكون ملجأ لنا.
ورجع ففعل ذلك، وسيّر الجيش، وقدّم عليه رجلاً من بني عمّه يقال له إبراهيم بن أبي الأغلب، وكان شجاعاًن وبلغ أبا عبدالله الخبر، وكان أهل باغاية قد كاتبوه بالطاعة، فسار إليهم، فلمّا قر منها هرب عاملها إلى الاُربُس، فدخلها أبو عبدالله، وترك بها جنداً، وعاد إلى إنكِجَان، ووصل الخبر إلى زيادة الله، فزاده غمّاً وحوناً، فقال له إنسان كان يضحّكه: يا مولانا لقد عملتُ بيت شعر، فعسى تجعل من يلحّنه وتشرب عليه واترك هذا الحزن؛ فقال: ما هو ؟ فقال المضحك للمغّنين: غنّوا شعراً كذا، وقولوا بعد فراغ كلّ بيت:
اشرب واسقينا من القرن يكفينا
فلمّا غنّوا طرب زيادة الله، وشرب، وانهمك في الأكل والشرب والشهوات، فلمّا رأى ذلك أصحابه ساعدوه على مراده.
ثمّ إنّ أبا عبدالله أخرج إلى مدينة مَجَانةَ فافتتحها عنوةً، وقتل عاملها، وسيّر عسكراً آخر إلى مدينة تيفاش، فملكها وأمّن أهلها.
وقصد جماعة من رؤساء القبائل أبا عبدالله يطلبون منه الأمان فأمّنهم، وسار بنفسه إلى مسكيانة ثمّ إلى تَبِسّةَ، ثم إلى مدبرة، فوجد فيها أهل قصر الإفريقي ومدينة مَرمَجَنّة، ومدينة مَجَانَة، وأخلاطاً من الناس قد التجأوا إليها وتحصّنوا فيها، وهي حصينة، فنزل عليها، وقاتلها، فأصابه علّة الحصى، وكانت تعتاده، فشغل بنفسه، وطلب أهلها الأمان فأمّنهم بعض أهل العسكر، ففتحوا الحصن، فدخلها العسكر، ووضعوا السيف، وانتهبوا.
وبلغ ذلك أبا عبدالله، فعظم عليه، ورحل، فنزل على القصرين من قمودة وطلب أهلها الأمان فأمّنهم، وبلغ إبراهيم بن أبي الأغلب، أمير الجيش الذي سيره زيادة الله، أنّ أبا عبدالله يريد أنت يقصد زيادة الله برَقّادةَ، ولم يكن مع زيادة الله كبير عسكر، فخرج من الأُربُس ونزل دردمين، وسيّر أبو عبدالله سرّية إلى دردمين، فجرى بينهما وبين أصحاب زيادة الله قتال، فقُتل من أصحاب أبي عبدالله جماعة، وانهزم الباقون.
واستبطأ أبو عبدالله خبرهم، فسار في جميع عساكره، فلقي أصحابه منهزمين، فلمّا رأوه قويت قلوبهم، ورجعوا، وكرّوا على أصحاب إبراهيم، وقتلوا منهم جماعة، وحجز الليل بينهم.
ثمّ سار أبو عبدالله إلى قَسطيلة، فحصرها، فقاتله أهلها، ثمّ طلبوا الأمان فأمّنهم، وأخذ ما كان لزيادة الله فيها من الأموال والعُدد، ورحل إلى قَفْصَةَ، فطلب أهلها الأمان فأمّنهم، ورجع إلى باغاية، فترك بها جيشاً، وعاد إلى جبل إنكِجَان.
فسار إبراهيم بن أبي الأغلب في جيشه إلى باغاية وحصرها، فبلغ الخبر أبا عبدالله، فجمع عسكره وسار مجدّاً إليها، ووجّه اثني عشر ألف فارس، وأمر مقدّمهم أن يسير إلى باغاية، فإن كان إبراهيم قد رحل عنها فلا يجاوز فجّ العَرعار، فمضى الجيشُ، وكان أصحاب أبي عبد الله الذين في باغاية قد قاتلوا عسكر إبراهيم قتالاً شديداً، فلمّا رأى صبرهم عجب هو وأصحابه منهم، فأرعب ذلك قلوبهم؛ ثمّ بلغهم قرب العسكر منهم، فعاد إبراهيم بعساكره، فوصل عسكر أبي عبدالله، فلم يرَ واحداً، فنهبوا ما وجدوا وعادوا.
ورجع إبراهيم إلى الأُربُس. ولمّا دخل فصل الربيع، وطاب الزمان، جمع أبو عبدالله عساكره، فبلغت مائتَيْ ألف فارس وراجل، واجتمع من عساكر زيادة الله بالأُربُس مع إبراهيم ما لا يُحصى، وسار أبو عبدالله، أوّل جُمادى الآخرة سنة ستّ وتسعين ومائتين، فالتقوا، واقتتلوا أشدّ قتال، وطال زمانه، وظهر أصحاب زيادة الله، فلمّا رأى ذلك أبو عبدالله اختار من أصحابه ستّمائة راجل، وأمرهم أن يأتوا عسكر زيادة الله من خلفهم، فمضوا لما أمرهم في الطريق الذي أمرهم بسلوكه.
واتّفق أنّ إبراهيم فعل مثل ذلك، فالتقى الطائفتان، فاقتتلوا في مضيق هناك فانهزم أصحاب إبراهيم، ووقع الصوت في عسكره بكمين أبي عبدالله وانهزموا، وتفرّقوا، وهرب كلّ قوم إلى جهة بلادهم، وهرب إبراهيم وبعض من معه إلى القَيروان، وتبعهم أصحاب أبي عبدالله يقتلون ويأسرون، وغنموا الأموال والخيل والعُدَد، ودخل أصحابه مدينة الأُربُس فقتلوا بها خلقاً عظيماً، ودخل كثير من أهلها الجامع فقُتل فيه أكثر من ثلاثة آلاف ونهبوا البلد، وكانت الوقعة أواخر جمادى الآخرة، وانصرف أبو عبدالله إلى قمودة.
فلمّا وصل خبر الهزيمة إلى زيادة الله هرب إلى الديار المصريّة، وكان من أمره ما تقدّم ذكره، ولمّا هرب زيادة الله هرب أهل مدينة رقّادة على وجوههم، في الليل، إلى القصر القديم، وإلى القيروان، وسُوسة، ودخل أهل القَيروان رقّادة ونهبوا ما فيها، وأخذ القويُّ الضعيفَ، ونُهبت قصور بني الأغلب، وبقي النهب ستّة أيّام.
ووصل إبراهيم بن أبي الأغلب إلى القَيروان، فقصد قصر الإِمارة، واجتمع إليه أهل القَيروان، ونادى مناديه بالأمان، وتسكين الناس، وذكر لهم أحوال زيادة الله، وما كان عليه، حتّى أفسد ملكه؛ وصغّر أمر أبي عبد الله الشيعيّ، ووعدهم أن يقاتل عنهم، ويحمي حريمهم وبلدهم، وطلب منهم المساعدة بالسمع والطاعة والأموال، فقالوا: إنّما نحن فقهاء، وعامّة، وتجار، وما في أموالنا ما يبلغ غرضك، وليس لنا بالقتال طاقة؛ فأمرهم بالانصراف، فلمّا خرجوا من عنده وأعلموا الناس بما قاله صاحوا به: اخرج عنّا، فما لك عندنا سمع ولا طاعة ! وشتموه، فخرج عنهم وهم يرجمونه.
ولمّا بلغ أبا عبد الله هرب زيادة الله كان بناحية سَبِيبَةَ، ورحل فنزل بوادي النمل، وقدّم بين يديه عروبة بن يوسف، وحسن بن أبي خنزير، في ألف فارس إلى رقّادة، فوجدوا الناس ينهبون ما بقي من الأمتعة والأثاث، فأمّنوهم ولم يتعرّضوا لأحد، وتركوا لكلّ واحد ما حمله، فأتى الناس إلى القَيروان، فأخبروه الخبر، ففرح أهلها.
وخرج الفقهاء ووجوه البلد إلى لقاء أبي عبدالله، فلقوه، وسلّموا عليه، وهنّأوه بالفتح، فردّ عليهم ردّاً حسناً، وحدّثهم، وأعطاهم الأمان، فأعجبهم ذلك وسرّهم، وذمّوا زيادة الله، وذكروا مساوئه، فقال لهم: ما كان إلاّ قويّاً، وله مَنَعة، ودولة شامخة، وما قصرّ في مدافعته، ولكنّ أمر الله لا يُعانَد ولا يُدافَع ! فأمسكوا عن الكلام، ورجعوا إلى القَيروان.
ودخل رقّادة يوم السبت، مستهلّ رجب من سنة ستّ وتسعين ومائتين، فنزل ببعض قصورها، وفرّق دورها على كُتامة، ولم يكن بقي أحد من أهلها فيها، وأمر فنودي بالأمان، فرجع الناس إلى أوطانهم، وأخرج العمّال إلى البلاد، وطلب أهلَ الشرّ فقتلهم، وأمر أن يجمع ما كان لزيادة الله من الأموال، والسلاح، وغير ذلك، فاجتمع كثير منه، وفيه كثير من الجواري لهنّ مقدار وحظّ من الجمال، فسأل عمّن يكفلهنّ، فذُكر له امرأة صالحة كانت لزيادة الله، فأحضرها، وأحسن إليها، وأمر بحفظهنّ، وأمر لهنّ بما يصلحهنّ ولم ينظر إلى واحدة منهنّ.
ولمّا حضرت الجمعة أمر الخطباء بالقَيروان ورَقّادة، فخطبوا ولم يذكروا أحداً، وأمر بضرب السكّة، وأن لا يُنقش عليها اسمٌ، ولكنّه جعل مكان الاسم من وجه: بلغت حجّة الله؛ ومن الوجه الآخر: تفرّق أعداء الله؛ ونقش على السلاح: عُدّةٌ في سبيل الله؛ ووسم الخيل على أفخاذها: الملك لله؛ وأقام على ما كان عليه من لبس الدون الخشن، والقليل من الطعام الغليظ.
ذكر مسير أبي عبد الله إلى سِجِلماسة وظهور المهديّ
لمّا استقرّت الأمور لأبي عبد الله في رقّادة وسائر بلاد أفريقية أتاه أخوه أبو العبّاس محمّد، ففرح به، وكان هو الكبير، فسار أبو عبد الله في رمضان من السنة من رقّادة، واستخلف على إفريقية أخاه أبا العبّاس، وأبا زاكي، وسار في جيوش عظيمة، فاهتزّ المغرب لخروجه، وخافته زَناتة، وزالت القبائل عن طريقه، وجاءته رسلهم ودخلوا في طاعته.
فلمّا قر من سِجِلْماسة، وانتهى خبره إلى ألِيْسَع بن مِدرار، أمير سجلماسة، أرسل إلى المهديّ، وهو في حبسه، على ما ذكرناه، يسأله عن نسبه وحاله، وهل إليه قصد أبو عبد الله ؟ فحلف له المهديّ أنّه ما رأى أبا عبدالله؛ ولا عرفه، وإنّما أنا رجل تاجر؛ فاعتُقل في دار وحدة، وكذلك فعل بولده أبي القاسم، وجعل عليهما الحرس، وقرّر ولده أيضاً، فما حال عن كلام أبيه، وقرّر رجلاً كانوا معه، وضربهم، فلم يقرّوا بشيء.
وسمع أبو عبد الله ذلك، فشقّ عليه، فأرسل إلى ألِيْسَع يتلطّفه، وأنّه لم يقصد الحرب، وإنّما له حاجة مهمّة عنده، ووعده الجميل، فرمى الكتاب، وقتل الرسل، فعاوده بالملاطفة خوفاً على المهديّ، ولم يذكره له، فقتل الرسول أيضاً، فأسرع أبو عبد الله في السير، ونزل عليه، فخرج إليه ألِيْسَع، وقاتله يومه ذلك، وافترقوا، فلمّا جنّهم الليل هرب أليسع وأصحابه من أهله وبني عمّه، وبات أبو عبدالله ومَن معه فيغمّ عظيم لا يعلمون ما صنع بالمهديّ وولده، فلمّا أصبح خرج إليه أهل البلد، وأعلموه بهرب أليسع، فدخل هو وأصحابه البلد، وأتوا المكان الذي فيه المهديّ، فاستخرجه، واستخرج ولده، فكانت في الناس مسرّة عظيمة كادت تذهب بعقولهم، فأركبهما، ومشى هو ورؤساء القبائل بين أيديهما، وأبو عبدالله يقول للناس: هذا مولاكم، وهو يبكي من شدّة الفرح، حتّى وصل إلى فسطاط قد ضُرب له، فنزل فيه، وأمر بطلب أليسع، فطُلب، فأُدرك، فأُخذ وضُرب بالسياط ثمّ قُتل.
فلمّا ظهر المهديُّ أقام بسِجِلماسة أربعين يوماً، وسار إلى أفريقية، وأحضر الأموال من إنكجان، فجعلها أحمالاً وأخذها معه، ووصل إلى رقّادة العشر الأخير من ربيع الآخر من سنة سبع وتسعين ومائتين، وزال ملك بني الأغلب، وملك بني مدرار الذين منهم ألِيسع وكان لهم ثلاثون ومائة سنة منفردين بسجلماسة، وزال ملك بني رستم من تاهرَت، ولهم ستون ومائة سنة تفرّدوا بتاهَرت، وملك المهديُّ جميع ذلك، فلمّا قرب من رقّادة تلقّاه أهلها، وأهل القَيروان، وأبو عبدالله، ورؤساء كُتامة مشاةً بين يديه، وولده خلفه، فسلّموا عليه، فردّ جميلاً، وأمرهم بالانصراف، ونزل بقصر من قصور رقّادة، وأمر يوم الجمعة بذكر اسمه في الخطبة في البلاد، وتلقّب بالمهديّ أمير المؤمنين.
وجلس بعد الجمعة رجل يُعرف بالشريف، ومعه الدعاة، وأحضروا الناس بالعنف والشدّة، ودعوهم إلى مذهبهم، فمن أجاب أُحسن إليه، ومَن أبى حُبس، فلم يدخل في مذهبهم إلاّ بعض الناس، وهم قليل، وقُتل كثير ممّن لم يوافقهم على قولهم.
وعَرض عليه أبو عبدالله جواريَ زيادة الله، فاختار منهنّ كثيراً لنفسه ولولده أيضاً، وفرّق ما بقي على وجوه كُتامة، وقسّم عليهم أعمال إفريقية، ودوّن الدواوين، وجبى الأموال، واستقرّت قدمه، ودانت له أهل البلاد، واستعمل العمّال عليها جميعها؛ فاستعمل على جزيرة صِقلّية الحسن بن أحمد ابن أبي خنزير، فوصل إلى مازَرَ عاشر ذي الحجّة سنة سبع وتسعين ومائتين، فولّى أخاه على جرجنت، وجعل قاضياً بصقلّية إسحاق بن المنهال، وهو أوّل قاضٍ تولّى بها للمهديّ العلويّ.
وبقي ابن أبي خنزير إلى سنة ثمان وتسعين، فسار في عسكره إلى دَمَنْشَ، فغنم، وسبى، وأحر، وعاد فبقي مدّة يسيرة، وأساء السيرة في أهلها، فثاروا به، وأخذوه وحبسوه، وكتبوا إلى المهديّ بذلك، واعتذروا، فقبل عذرهم، واستعمل عليهم عليَّ بن عمر البَلَويَّ، فوصل آخر ذي الحجّة سنة تسع وتسعين ومائتين.
ذكر قتل أبي عبد الله الشيعيّ وأخيه أبي العبّاس
في سنة ثمان وتسعين ومائتين قُتل أبو عبد الله الشيعيُّ، قتله المهديَّ عبيد الله.
وسبب ذلك أنّ المهديّ لمّا استقامت له البلاد، ودانت له العباد، وباشر الأمور بنفسه، وكفّ يد أبي عبد الله، ويد أخيه أبي العبّاس، داخل أبا العبّاس الحسد، وعظُم عليه الفطام عن الأمر والنهي، والأخذ والعطاء، فأقبل يُزري على المهديّ في مجلس أخيه، ويتكلّم فيه، وأخوه ينهاه، ولا يرضى فعله، فلا يزيده ذلك إلاّ لجاجاً.
ثمّ إنّه أظهر أبا عبدالله على ما في نفسه، وقال له: ملكتَ أمراً، فجئت بمن أزالك عنه، وكان الواجب عليه أن لا يسقط حقّك.
ولم يزل حتّى أثّر في قلب أخيه، فقال يوماً للمهديّ: لو كنتَ تجلس في قصرك، وتتركني مع كُتامة آمرهم وأنهاهم، لأنّي عارفٌ بعاداتهم، لكان أهيب لك في أعين الناس.
وكان المهديُّ سمع شيئاً ممّا يجري بين أبي عبد الله وأخيه، فتحقّق ذلك، غير أنّه ردّ ردّاً لطيفاً، فصار أبو العبّاس يشير إلى المقدّمين بشيء من ذلك، فمن رأى منه قبولاً كشف له ما في نفسه، وقال: ما جازاكم على ما فعلتم، وذكر لهم الأموال التي أخذها المهديُّ من إنكِجَان، وقال: هلاّ قسّمها فيكم ! وكلّ ذلك يتّصل بالمهديّ، وهو يتغافل، وأبو عبدالله يداري، ثمّ صار أبو العبّاس يقول: إن هذا ليس الذي كنّا نعتقد طاعته، وندعو إليه لأنّ المهديّ يختم بالحجّة، ويأتي بالآيات الباهرة، فأخذ قوله بقلوب كثير من الناس، منهم إنسان من كُتامة يقال له شيخ المشايخ، فواجه المهديَّ بذلك، وقال: إن كنتَ المهديَّ فأظهر لنا آيةً، فقد شككنا فيك؛ فقتله المهديُّ، فخافه أبو عبدالله، وعلم أنّ المهديّ قد تغيّر عليه، فاتّفق هو وأخوه ومن معهما على الاجتماع عند أبي زاكي، وعزموا على قتل المهدي واجتمع معهم قبائل كُتامة إلاّ قليلاً منهم.
وكان معهم رجل يُظهر أنّه منهم، وينقل ما يجري إلى المهديّ، ودخلوا عليه مراراً فلم يجسروا على قتله، فاتّفق أنّهم اجتمعوا ليلة عند أبي زاكي، فلمّا أصبحوا لبس أبو عبدالله ثوبه مقلوباً ودخل على المهديّ، فرأى ثوبه، فلم يعرّفه به، ثمّ دخل عليه ثلاثة أيّام والقميص بحاله، فقال له المهديُّ: ما هذا الأمر الذي أذهلك عن إصلاح ثوبك ؟ فهو مقلوب منذ ثلاثة أيّام فعلمتُ أنّك ما نزعتَه؛ فقال: ما علمتُ بذلك إلاّ ساعتي هذه؛ قال: أين كنتَ البارحة والليالي قبلها ؟ فسكت أبو عبدالله؛ فقال: أليس بتّ في دار أبي زاكي ؟ قال: بلى. قال: وما الذي أخرجك من دارك ؟ قال: خفتُ. قال: وهل يخاف الإنسان إلا من عدوّه ؟ فعلم أنّ أمره ظهر للمهديّ، فخرج وأخبر أصحابه، وخافوا، وتخلّفوا عن الحضور.
فذُكر ذلك للمهديّ، وعنده رجل يقال له ابن القديم، كان من جملة القوم، وعنده أموال كثيرة، من أموال زيادة الله، فقال: يا مولاي إن شئتِ أتيتُك بهم، ومضى فجاء بهم، فعلم المهديُّ صحّة ما قيل عنه، فلاطفهم وفرّقهم في البلاد، وجعل أبا زاكي والياً على طرابلس، وكتب إلى عاملها أن يقتله عند وصوله، فلمّا وصلها قتله عاملها، وأرسل رأسه إلى المهديّ، فهرب ابن القديم، فأُخذ، فأمر المهديُّ بقتله فقُتل.
وأمر المهديُّ عُرُوبة ورجالاً معه أن يرصدوا أبا عبدالله وأخاه أبا العبّاس، ويقتلوهما، فلمّا وصلا إلى قرب القصر حمل عروبة على أبي عبدالله، فقال: لا تفعل يا بنيّ ! فقال: الذي أمَرتَنا بطاعته أمرنا بقتلك؛ فقُتل هو وأخوه، وكان قتلهما في اليوم الذي قُتل فيه أبو زاكي، فقيل: إنّ المهديّ صلّى على أبي عبدالله، وقال: رحمك الله: أبا عبدالله، وجزاك خيراً بجميل سعيك.
وثارت فتنة بسبب قتلهما، وجرّد أصحابهما السيوف، فركب المهديُّ وأمّن الناس، فسكنوا، ثمّ تَتّبعهم حتّى قتلهم.
وثارت فتنة ثانية بين كُتامة وأهل القَيروان، قُتل فيها خلق كثير، فخرج المهديُّ وسكّن الفتنة، وكفّ الدعاة عن طلب التشيّع من العامّة.
ولمّا استقامت الدولة للمهديّ عهد إلى ولده أبي القاسم نِزار بالخلافة، ورجعت كُتامة إلى بلادهم، فأقاموا طفلاً وقالوا: هذا هو المهديُّ، ثمّ زعموا أنّه نبيّ يوحى إليه، وزعموا أنّ أبا عبدالله لم يمُتْ، وزحفوا إلى مدينة مِيلة، فبلغ ذلك المهديَّ فأخرج ابنه أبا القاسم، فحصرهم، فقاتلوه فهزمهم واتّبعهم حتّى أجلاهم إلى البحر، وقتل منهم خلقاً عظيماً، وقتل الطفل الذي أقاموه.
وخالف عليه أهل صقلّية مع ابن وهب، فأنفذ إليهم أسطولاً، ففتحها وأتى بابن وهب فقتله.
وخالف عليه أهل تاهَرت، فعزاها، ففتحها، وقتل أهل الخلاف، وقتل جماعة من بني الأغلب برقّادة كانوا قد رجعوا إليها بعد وفاة زيادة الله.
ذكر عدّة حوادث
فيها سُيّر القاسم بن سيما وجماعة من القوّاد في طلب الحسين بن حَمدان، فساروا حتّى بلغوا قَرِقِيسياء والرَّحَبة، فلم يظفروا به، فكتب المقتدر إلى أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان، وهو الأمير بالموصِل، يأمره بطلب أخيه الحسين، فسار هو والقاسم بن سيما، فالتقوا عند تَكريت، فانهزم الحسين، فأرسل أخاه إبراهيم بن حَمدان يطلب الأمان، فأُجيب إلى ذلك، ودخل بغداد، وخُلع عليه، وعُقد له على قُمّ وقاشان، فسار غليها وصرف عنها العبّاس بن عمرو.
وفيها وصل بارس غلام إسماعيل السامانيّ، وقُلّد ديار ربيعة، وقد تقدّم ذكره.
وفيها كانت وقعة بين طاهر بن محمّد بن عمرو بن الليث وبين سُبكرى غلام عمرو، فأسر طاهراً ووجّهه وأخاه يعقوب بن محمّد بن عمرو إلى المقتدر مع كاتبه عبد الرحمن بن جعفر الشيرازيّ، فأُدخلا بغداد أسيرين، فحُبسا، وكان سُبكرى قد تغلّب على فارس بغير أمر الخليفة، فلمّا وصل كاتبه قرّر أمره على مال يحمله، وكان وصوله إلى بغداد سنة سبع وتسعين.
وفيها خُلع على مؤنس المظفَّر الخادم، وأُمر بالمسير إلى غزو الروم، فسار في جمع كثيف، فغزا من ناحية مَلَطْية، ومعه أبو الأغر السلميُّ، فظفر وغنم وأسر منهم جماعة وعاد.
وفيها قّلّد يوسف بن أبي الساج أعمال أرمينية وأذربيجان، وضمنها بمائة ألف وعشرين ألف دينار، فسار إليها من الدَّينَور.
وفيها سقط ببغداد ثلج كثير من بُكرة إلى العصر، فصار على الأرض أربع أصابع، وكان معه برد شديد، وجمد الماء والخلّ والبيض والأدهان، وهلك النخل، وكثير من الشجر؛ وحجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشميُّ.
وفيها توفّي محمّد بن طاهر بن عبدالله بن طاهر.
وفيها قُتل سَوْسَن حاجب المقتدر، وسبب ذلك أنّه كان له أثر في أمر ابن المعتزّ، فلمّا بويع ابن المعتّز واستحجب غيره لزم المقتدر، فلمّا استوزر ابن الفرات تفرّد بالأمور، فعاداه سوسن، وسعى في فساد حاله، فأعلم ابنُ الفرات المقتدر بالله بحال سوسن، وأنّه كان ممّن أعان ابن المعتّز فقبض عليه وقتله.
وفيها توفّي محمّد بن داود بن الجرّاح عمّ عليّ بن عيسى الوزير، وكان عالماً بالكتابة.
وفيها توفّي عبدالله بن جعفر بن خاقان، وأبو عبد الرحمن الدهكانيُّ.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائتين
ذكر استيلاء الليث على فارس وقتلهفي هذه السنة سار الليث بن عليّ بن الليث من سِجِستان إلى فارس في جيش وأخذها، واستولى عليها، وهرب سُبكرى عنها إلى أرّجان، فلمّا بلغ الخبر المقتدر جهّز مؤنساً الخادم وسيّره إلى فارس، معونة لسُبكرى، فاجتمعا بأرّجان.
وبلغ خر اجتماعهما الليثَ، فسار إليهما، فأتاه الخبر بمسير الحسين ابن حَمدان من قُمّ إلى البيضاء، معونة لمؤنس، فسيّر أخاه في بعض جيشه إلى شيراز ليحفظها، ثمّ سار في بعض جنده في طريق مختصر ليواقع الحسين ابن حَمدان، فأخذ به الدليل في طريق الرجّالة، فهلك أكثر دوابّه، ولقي هو وأصحابه مشقّة عظيمة، فقتل الدليل، وعدل عن ذلك الطريق، فأشرف على عسكر مؤنس، فظنّه هو وأصحابه أنّه عسكره الذي سُيّر مع أخيه إلى شيراز، فكبّروا، فثار إليهم مؤنس وسُبكرى في جندهما، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عسكر الليث، وأُخذ هو أسيراً.
فلمّا أسره مؤنس قال له أصحابه: إنّ المصلحة أن نقبض على سُبكرى، ونستولي على بلاد فارس، ونكتب إلى الخليفة ليقرّها عليك؛ فقال: سأفعل غداً، إذا صار إلينا على عادته، فلمّا جاء الليل أرسل مؤنس إلى سُبكرى سرّاً يعرّفه ما أشار به أصحابه، وأمره بالمسير من ليلته إلى شِيراز، ففعل، فلمّا أصبح مؤنس قال لأصحابه: أرى سُبكرى قد تأخّر عنّا، فتعرّفوا خبره؛ فسار إليه بعضهم، وعاد فأخبره أنّ سُبكرى سار من ليلته إلى شِيراز، فلام أصحابه، وقالب: من جهتكم بلغه الخبر حتّى استوحش؛ وعاد مؤنس ومعه الليث إلى بغداد، وعاد الحسين بن حَمدان إلى قمّ.
ذكر أخذ فارس من سُبكرى
لمّا عاد مؤنس عن سُبكرى استولى كاتبه عبد الرحمن بن جعفر على الأمور، فحسده أصحاب سُبكرى، فنقلوا عنه أنّه كاتب الخليفة، وأنّه قد حلّف أكثر القوّاد له، فقبض عليه وقيّده وحبسه، واستكتب مكانه إسماعيل ابن إبراهيم البمّيّ، فحمله على العصيان ومَنْع ما كان يحمله إلى الخليفة، ففعل ذلك.
فكتب عبد الرحمن بن جعفر إلى ابن الفرات، وزير الخليفة، يعرّفه ذلك، وأنّه لمّا نهى سُبكرى عن العصيان قبض عليه، فكتب ابن الفرات إلى مؤنس، وهو بواسط، يأمره بالعود إلى فارس، ويعجزه حيث لم يقبض على سُبكرى، ويحمله مع الليث إلى بغداد؛ فعاد مؤنس إلى الأهواز.
وأرسل سُبكرى مؤنساً، وهاداه، وسأله أن يتوسّط حاله مع الخليفة، فكتب في أمره، وبذل عنه مالاً، فلم يستقرّ بينهم شيء؛ وعلم ابن الفرات أنّ مؤنساً يميل إلى سُبكرى، فأنفذ وصيفاً كاتبه، وجماعة من القوّاد، ومحمّد بن جعفر الفريابيّ، وعوّل عليه في فتح فارس، وكتب إلى مؤنس يأمره باستصحاب الليث معه إلى بغداد، فعاد مؤنس.
وسار محمّد بن جعفر إلى فارس، وواقع سُبكرى على باب شيراز، فانهزم سُبكرى إلى بمّ وتحصّن بها، وتبعه محمّد بن جعفر وحصره بها، فخرج إليه سُبكرى وحاربه مرة ثانية، فهزمه محمّد ونهب ماله ودخل سُبكرى مفازة خراسان، فظفر به صاحب خُراسان، على ما نذكره، واستولى محمّد ابن جعفر على فارس فاستعمل عليها قنبجاً خادم الأفشين، والصحيح أنّ فتح فارس كان سنة ثمان وتسعين.
ذكر عدّة حوادث
وفيها وجّه المقتدر القاسم بن سيما لغزو الصائفة؛ وحجّ بالناس الفضل ابن عبد الملك الهاشميُّ.
وفيها توفّي عيسى النُّوشريُّ في شعبان بمصر، بعد موت أبي العبّاس ابن بِسطام بعشرة أيّام، ودُفن بالبيت المقدّس، واستعمل المقتدر مكانه تكين الخادم، وخلع عليه منتصف شهر رمضان.
وفيها توفّي أبو عبدالله محمّد بن سالم، صاحب سهل بن عبد الله التُّستريّ.
وفيها توفّي الفيض بن الخضر، وقيل ابن محمّد أبو الفيض الأولاشيُّ الطَّرسوسيُّ، وأبو بكر محمّد بن داود بن عليّ الأصفهانيُّ الفقيه الظاهريُّ، وموسى بن إسحاق القاضي، والقاضي أبو محمّد يوسف بن يعقوب بن حمّاد وله تسع وثمانون سنة.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائتينذكر استيلاء أحمد بن إسماعيل على سِجِستان
في هذه السنة، في رجب، استولى أبو نصر أحمد بن إسماعيل السامانيُّ على سِجِستان.
وسبب ذلك أنّه لمّا استقرّ أمره، وثبت ملكه، خرج في سنة سبع وتسعين ومائتين إلى الرَّيّ، وكان يسكن بخارى، ثمّ سار إلى هراة، فسيّر منها جيشاً في المحرّم سنة ثمان وتسعين إلى سِجِستان، وسيّر جماعة من أعيان قوّاده وأمرائه، منهم أحمد بن سهل، ومحمّد بن المظفَّر، وسيمجور الدواتيُّ، وهو والد آل سيمجور ولاة خُراسان للسامانيّة، وسيرد ذكرهم، واستعمل أحمد على هذا الجيش الحسينَ بن عليّ المَروَرُوذيَّ، فساروا حتّى أتوا سجستان، وبها المعدَّل بن عليّ بن الليث الصَّفّار وهو صاحبها.
فلمّا بلغ المعدَّل خبرهم سيّر أخاه أبا عليّ محمّد بن عليّ بن الليث إلى بُست والرُخَّج ليحمي أموالها، ويرسل منها الميرة إلى سجستان، فسار المير أحمد بن إسماعيل إلى أبي عليّ ببُست، وجاذبه، وأخذه أسيراً، وعاد به إلى هَراة.
وأمّا الجيش الذي بسجستان فإنّهم حصروا المُعدَّل، وضايقوه، فلمّا بلغه أنّ أخاه أبا عليّ محمّداً قد أُخذ أسيراً، صالح الحسينَ بن عليّ، واستأمن إليه، فاستولى الحسين على سجستان، فاستعمل عليها الأميرَ أحمد أبا صالح منصور بن إسحاق، وهو ابن عمّه، وانصرف الحسين عنها ومعه المعدّل إلى بخارى؛ ثمّ إنّ سجستان خالف أهلها سنة ثلاثمائة على ما نذكره.
ولمّا استولى السامانيّة على سجستان بلغهم خبر مسير سُبكرى في المفازة من فارس إلى سجستان، فسيّروا إليه جيشاً، فلقوه وهو وعسكره قد أهلكهم التعب، فأخذوه أسيراً، واستولوا على عسكره، وكتب الأمير أحمد إلى المقتدر بذلك، وبالفتح، فكتب إليه يشكره على ذلك، ويأمره بحمل سُبكرى، ومحمّد بن عليّ بن الليث، إلى بغداد، فسيّرهما، وأُدخلا بغداد مشهورَيّن على فيلَينْ، وأعاد المقتدر رسل أحمد، صاحب خُراسان، ومعهم الهدايا والخلع.؟
ذكر عدّة حوادث
فيها أطلق الأمير أحمد بن إسماعيل عمّه إسحاق بن أحمد من محبسه، وأعاده إلى سَمَرْقَنْد وفَرْغانة.
وفيها توفّي محمّد بن جعفر الفريابيُّ، وقنبج الخادم أمير فارس، فاستعمل عليها عبدَ الله بن إبراهيم المِسْمعيَّ، وأضاف إليه كَرْمان.
وفيها جُعلت أمُّ موسى الهاشميّة قَهرمانة دار المقتدر بالله، فكانت تؤدّي الرسائل من المقتدر وأمّه إلى الوزير، وإنّما ذكرناها لأنّ لها فيما بعد من الحكم في الدولة ما أوجب ذكرها، وإلاّ كان الإضراب عنها أولى.
وفيها غزا القاسم بن سيما الصائفة.
وفيها، في رجب، توفّي المظفَّر بن جاخ، أمير اليمن، وحُمل إلى مكّة ودُفن بها، واستعمل الخليفة على اليمن بعده ملاحظاً؛ وحجّ بالناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك الهاشميُّ.
وفيها، في شعبان، أُخذ جماعة ببغداد، قيل إنّهم أصحاب رجل يدّعي الربوبيّة، يُعرف بمحمّد بن بشر.
وفيها هبّت ريح شديدة حارة صفراء بحديثة الموصل، فمات لشدّة حرّها جماعة كثيرة.
وفيها توفّي أبو القاسم جُنَيْد بن محمّد الصُّوفُّي، وكان إمام الدنيا في زمانه، وأخذ الفقه عن أبي ثور، صاحب الشافعيّ، والتصوّف عن سريّ السقطيّ.
وفيها توفّي أبو برزة الحاسب، واسمه الفضل بن محمد.
وفيها توفّي القاسم بن العبّاس أبو محمّد المعشريُّ، وإنّما قيل له المعشريُّ لأنّه ابن بنت أبي معشر نجيح المدنيّ، وكان زاهداً فقيهاً.
وفيها توفّي أحمد بن سعيد بن مسعود بن عصام أبو العبّاس، ومحمّد بن إياس والد أبي زكرياء، صاحب تاريخ الموصل، وكان خيّراً فاضلاً، وهو أزديّ.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائتين
ذكر القبض على ابن الفرات
ووزارة الخاقانيّ
في هذه السنة قبض المقتدر على الوزير أبي الحسن بن الفرات في ذي الحجّة، وكان قد ظهر، قبل القبض عليه بمدة يسيرة، ثلاثة كواكب مذنّبة، أحدها ظهر آخر رمضان في بُرج الأسد، والآخر ظهر في ذي القعدة في المشرق، والثالث ظهر في المغرب في ذي القعدة أيضاً في برج العقرب.
ولمّا قبض على الوزير وكّل بداره، وهتك حُرمه، ونهب ماله، ونُهبت دور أصحابه ومَن يتعلّق به، وافتتنت بغداد لقبضه، ولقي الناس شدّة ثلاثة أيّام، ثمّ سكنوا.
وكانت مدّة وزارته هذه السنة، وهي الوزارة الأولى، ثلاث سنين وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوماً، وقُلّد أبو عليّ محمّد بن يحيى بن عبيدالله بن يحيى بن خاقان الوزارة، فرتّب أصحاب الدواوين؛ وتولّى مناظرة ابن الفرات أبو الحسين أحمد بن يحيى بن أبي البغل، وكان أخوه أبو الحسن بن أبي البغل مقيماً بأصبهان، فسعى أخوه له في الوزارة هو وأمّ موسى القهرمانة، فأذن المقتدر في حضوره ليتولّى الوزارة، فحضر، فلّما بلغ ذلك الخاقانيَّ انحلّت أموره، فدخل على الخليفة وأخبره بذلك، فأمره بالقبض على أبي الحسن، وأبي الحسين أخيه، فقبض على أبي الحسن وكتب في القبض على أبي الحسين، فقُبض أيضاً، ثمّ خاف القهرمانة، فأطلقهما واستعملهما.
ثمّ إنّ أمور الخاقانيّ انحلّتْ لأنّه كان ضجوراً، ضيّق الصدر مهملاً لقراءة كتب العُمّال، وجباية الأموال، وكان يتقرّب إلى الخاصّة والعامّة، فمنع خدم السلطان وخواصّه أن يخاطبوه بالعبد، وكان إذا رأى جماعة من الملاحين والعامّة يصلّون جماعة، ينزل ويصلّي معهم، وإذا سأله أحدٌ حاجةً دقّ صدره وقال، نعم وكرامة، فسُمّي: دقّ صدره، إلاّ أنّه قصّر في إطلاق الأموال للفرسان والقوّاد، فنفروا عنه واتّضعت الوزارة بفعله ما تقدّم.
وكان أولاده قد تحكّموا عليه، فكلّ منهم يسعى لمن يرتشي منه، وكان يولّي في الأيّام القليلة عدّة من العُمّال، حتّى إنّه ولَّى بالكوفة، في مدّة عشرين يوماً، سبعةً من العُمّال، فاجتمعوا في الطريق، فعرَضوا توقيعاتهم، فسار الخير منهم، وعاد الباقون يطلبون ما خدموا به أولاده، فقيل فيه:
وزيرٌ قد تكاملَ في الرّقاعهْ ... يولّي ثمّ يَعْزِلُ بَعْدَ ساعَهْ
إذا أهل الرُّشى اجتمعوا لدَيهِ ... فخَيرُ القَومِ اوفَرُهُم بضاعَهْ
وليسَ يُلامُ في هذا بحالٍ ... لأنّ الشيخَ أفلَتَ من مَجَاعَهْ
ثمّ زاد الأمر، حتّى تحكّم أصحابه، فكانوا يطلقون الأموال ويفسدون الأحوال، فانحلّت القواعد، وخبثت النيّات، واشتغل الخليفة بعزل وزرائه والقبض عليهم، والرجوع إلى قول النساء والخدم، والتصرّف على مقتضى آرائهم، فخرجت الممالك، وطمع العمّال في الأطراف، وكان ما نذكره فيما بعد.
ثمّ إنّ الخليفة أحضر الوزر ابن الفُرات من محبسه، فجعله عنده في بعض الحُجر مكرماً، فكان يَعِرض عليه مطالعات العمّال وغير ذلك، وأكرمه، وأحسن إليه، بعدَ أن أخذ أمواله.
ذكر عدّة حوادث
فيها غزا رستم أمير الثغور الصائفة من ناحية طَرَسُوس، ومعه دميانة، فحصر حصن مَليح الأرمنيّ، ثمّ دخل بلده وأحرقه.
وفيها دخل بغداد العظيم والأغبر وهما من قوّاد زكرويه القُرمطيّ، دخلا بالأمان؛ وحجّ بالناس الفضل بن عبد الملك.
وفيها جاء نفر من القَرامطة من أصحاب أبي سعيد الجنّابيّ إلى باب البصرة، وكان عليها محمّد بن إسحاق بن كنداجيق، وكان وصولهم يوم الجمعة، والناس في الصلاة، فوقع الصوت بمجيء القَرامطة، فخرج إليهم الموكَّلون بحفظ باب البصرة، فرأوا رجلَيْن منهم، فخرجوا إليهما، فقتل القرامطة منهم رجلاً وعادوا فخرج إليهم محمّد بن إسحاق في جمع، فلم يرهم، فسيّر في أثرهم جماعة، فأدركوهم، وكانوا نحو ثلاثين رجلاًن فقاتلوهم، فقُتل بينهم جماعة، وعاد ابن كنداجيق وأغلق أبواب البصرة، ظنّاً منه أنّ أولئك القرامطة كانوا مقدّمة لأصحابهم، وكاتب الوزير ببغداد يعرّفه وصول القرامطة ويستمدّه، فلمّا أصبح ولم يرَ للقرامطة أثراً ندم على ما فعل، وسيّر إليه من بغداد عسكراً مع بعض القوّاد.
وفيها خالف أهل طرابلس الغرب على المهديّ، عبيدالله العلويّ، فسيّر إليها عسكراً فحاصرها، فلم يظفر بها، فسيّر إليها المهديُّ ابنَهُ أبا القاسم في جُمادى الآخرة سنة ثلاثمائة، فحاصرها، وصابرها، واشتدّ في القتال، فعدمت الأقوات في البلد حتّى أكل أهله الميتة. ففتح البلد عنفاً، وعفا عن أهله، وأخذ أموالاً عظيمة من الذين أثاروا الخلاف وغرّم أهل البلد جميع ما أخرجه على عسكره، وأخذ وجوه البلد رهائن عنده، واستعمل عليه عاملاً وانصرف.
وفيها كانت زلازل بالقَيروان لم يُرَ مثلها شدّة وعظمة، وثار أهل القَيروان، فقتلوا من كُتامة نحو ألف رجل.
وفيها توفّي محمّد بن أحمد بن كَيسان أبو الحسن النحويُّ، وكان عالماً بنحو البصريّين والكوفيّين، لأنّه أخذه عن ثعلب والمبرّد.
وفيها توفّي محمّد بن السريّ القنطريُّ، وأبو صالح الحافظ، وأبو عليّ ابن سيبويه، وأبو يعقوب إسحاق بن حُنَينْ الطبيب.
ثم دخلت سنة ثلاثمائةذكر عزل الخاقانيّ عن الوزارة
ووزارة عليّ بن عيسى
في هذه السنة ظهر للمقتدر تخليط الخاقانيّ، وعجزه في الوزارة، فأراد عزله، وإعادة أبي الحسن بن الفرات إلى الوزارة، فمنعه مؤنس الخادم عن ابن الفرات لنفوره عنه لأمور، منها: إنفاذ الجيش إلى فارس مع غيره، وإعادته إلى بغداد، وقد ذكرناه، فقال للمقتدر: متى أعدتَه ظنّ الناس أنّك إنّما قبضتَ عليه شرهاً في ماله، والمصلحة أن تستدعي عليَّ بن عيسى من مكّة وتجعله وزيراً، فهو الكافي الثقة، الصحيح العمل، المتين الدين.
فأمر المقتدر بإحضاره، فأنفذ مَن يحضره، فوصل إلى بغداد أوّل سنة إحدى وثلاثمائة، وجلس في الوزارة، وقُبض على الخاقانيّ وسُلّم إليه، فأحسن قبضه، ووسّع عليه، وتولّى عليُّ بن عيسى، ولازم العمل والنظر في الأمور، وردّ المظالم، وأطلق من المكوس شيئاً كثيراً بمكّة وفارس، وأطلق المواخير والمُفسدات بدوْبق، وأسقط زيادات كان الخاقانيُّ قد زادها للجند، لأنّه عمل الدخل والخرج، فرأى الخرج أكثر، فأسقط أولئك، وأمر بعمارة المساجد والجوامع، وتبييضها وفرشها بالحصر، وإشعال الأضواء فيها، وأجرى للأئمة، والقراء، والمؤذنين، أرزاقاً، وأمر بإصلاح البيمارستانات، وعمل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية، وقرّر فيها فضلاء الأطبّاء، وأنصف المظلومين، وأسقط ما زيد في خراج الضياع، ولمّا عُزل الخاقانيُّ أكثر الناس التزوير على خطّه بمسامحات وإدرارات، فنظر عليُّ بن عيسى في تلك الخطوط، فأنكرها، وأراد إسقاطها، فخاف ذمّ الناس، ورأى أن ينفذها إلى الخاقانيّ ليميّز الصحيح من المزوّر عليه، فيكون الذمّ له، فلمّا عُرضت تلك الخطوط عليه قال: هذه جميعها خطّي وأنا أمرتُ بها؛ فلمّا عاد الرسول إلى عليّ بن عيسى بذلك قال: والله لقد كذب، وقد علم المزوَّر من غيره، ولكنّه اعترف بها ليحمده الناس ويذمّوني؛ وأمر بها فأُجيزتْ.
وقال الخاقانيُّ لولده: يا بنيّ هذه ليست خطّي، ولكنّه أنفذها أليّ وقد عرف الصحيح من السقيم، ولكنّه أراد أن يأخذ الشوك بأيدينا، ويبغّضنا إلى الناس، وقد عكست مقصوده.
ذكر خلاف سجستان وعودها إلى طاعة أحمد ابن إسماعيل السامانيّ
وفي هذه السنة أنفذ الأمير أبو نصر أحمد بن إسماعيل السامانيُّ عسكراً إلى سِجِستان ليفتحها ثانياً، وكانت قد عصتْ عليه، وخالف مَن بها.
وسبب ذلك أنّ محمَد بن هُرمُز، المعروف بالمولى الصندليّ، كان خارجيّ المذهب، وكان قد أقام ببخارى وهو من أهل سِجِستان، وكان شيخاً كبيراً، فجاء يوماً إلى الحسين بن عليّ بن محمّد العارض يطلب رزقه، فقال له: إنّ الأصلح لمثلك من الشيوخ أن يلزم رباطاً يعبد الله فيه، حتّى يوافيه أجله؛ فغاظه ذلك، فانصرف إلى سِجِستان والوالي عليها منصور بن إسحاق، فاستمال جماعةً من الخوارج، ودعا إلى الصَّفّار، وبايع في السرّ لعمرو بن يعقوب بن محمّد بن عمرو بن الليث، وكان رئيسهم محمّد بن العبّاس، المعروف بابن الحَفّار، وكان شديد القوّة، فخرجوا، وقبضوا على منصور بن إسحاق أميرهم وحبسوه في سجن أرْكٍ وخطبوا لعمرو بن يعقوب، وسلّموا إليه سجستان.
فلمّا بلغ الخبر إلى المير أحمد بن إسماعيل سيّر الجيوش مع الحسين ابن عليّ، مرّةً ثانية إلى زَرَنْجَ، في سنة ثلاثمائة، فحصرها تسعة أشهر، فصعد يوماً محمّد بن هُرمُز الصندليُّ إلى السور، وقال: ما حاجتكم إلى أذى شيخ لا يصلح إلا للزوم رباط ؟ يذكرهم بما قاله العارض ببخارى؛ واتّفق أنّ الصندلي مات، فاستأمن عمرو بن يعقوب الصَّفّار وابن الحفّار إلى الحسين بن عليّ، وأطلقوا عن منصور بن إسحاق، وكان الحسين بن عليّ يكرم ابن الحفّار ويقرّبه، فواطأ ابن الحفّار جماعة على الفتك بالحسين، فعلم الحسين ذلك، وكان ابن الحفّار يدخل على الحسين، لا يحجب عنه، فدخل إليه يماً وهو مشتمل على سيف، فأمر الحسين بالقبض عليه، وأخذه معه إلى بخارى.
ولمّا انتهى خبر فتح سِجِستان إلى المير أحمد استعمل عليها سيمجورَ الدواتيَّ، وأمر الحسينَ بالرجوع إليهن فرجع ومعه عمرو بن يعقوب وابن الحفّار وغيرهما، وكان عوده في ذي الحجّة سنة ثلاثمائة، واستعمل الأمير أحمدُ منصوراً ابن عمّه إسحاق على نَيسابور وأنفذه إليها، وتوفّي ابن الحفّار.
ذكر طاعة أهل صقلّية للمقتدر
وعودهم إلى طاعة المهديّ العلويّ
قد ذكرنا سنة سبع وتسعين ومائتين استعمال المهديّ عليَّ بن عمر على صِقلّية، فلمّا وليها كان شيخاً ليّناً، فلم يرض أهل صِقلّية بسيرته، فعزلوه عنهم، وولّوا على أنفسهم أحمد بن قرهب، فلمّا وليّ سيّر سريّة إلى أرض قِلُّورِيَةَ، فغنموا منها، وأسروا من الروم وعادوا.
وأرسل سنة ثلاثمائة ابنه عليّاً إلى قلعة طَبَرْمين في جيش، وأمره بحصرها، وكان غرضه إذا ملكها أن يجعل بها ولده وأمواله وعبيده، فإذا رأى من أهل صقلّية ما يكره امتنع بها، فحصرها ابنه ستّة أشهر، ثمّ اختلف العسكر عليه، وكرهوا المُقام، فأحرقوا خيمته، وسواد العسكر، وأرادوا قتله، فمنعهم العرب.
ودعا أحمد بن قرهب الناس إلى طاعة المقتدر، فأجابوه إلى ذلك، فخَطب له بصِقلّية، وقَطع خطبة المهديّ، وأخرج ابن قرهب جيشاً في البحر إلى ساحل أفريقية، فلقوا هناك أسطول المهديّ ومقدّمه الحسن بن أبي خنزير، فأحرقوا الأسطول، وقتلوا الحسن، وحملوا رأسه إلى ابن قرهب، وسار الأسطول الصقلّيُّ إلى مدينة سَفَاقُس، فخرّبوها، وساروا إلى طرابلس، فوجدوا فيها القائم بن المهديّ، فعادوا.
ووصلت الخلع السود والألوية إلى ابن قرهب من المقتدر، ثمّ أخرج مراكب فيها جيش إلى قِلُّورِيَةَ، فغنم جيشه، وخربوا وعادوا؛ وسيّر أيضاً اسطولاً إلى إفريقية، فخرج عليه أسطول المهديّ، فظفروا بالذي لابن قرهب وأخذوه، ولم يستقم بعد ذلك لابن قرهب حال، وأدبر أمره، وطمع فيه الناس، وكانوا يخافونه.
وخاف منه أهل جرجنت، وعصوا أمره، وكاتبوا المهديّ، فلمّا رأى ذلك أهل البلاد كاتبوا المهديَّ أيضاً، وكرهوا الفتنة، وثاروا بابن قرهب، وأخذوه أسيراً سنة ثلاثمائة وحبسوه، وأرسلوه إلى المهديّ مع جماعة من خاصّته، فأمر بقتلهم على قبر ابن أبي خنزير، فقُتلوا، واستعمل على صقلّية أبا سعيد موسى بن أحمد، وسيّر معه جماعة كثيرة من شيوخ كُتامة، فوصلوا إلى طَرَابُنُش.
وسبب إرسال العسكر معه أنّ ابن قرهب كان قد كتب إلى المهديّ يقول له: إنّ أهل صقلّية يكثرون الشغب على أمرائهم، ولا يطيعونهم، وينهبون أموالهم، ولا يزول ذلك إلاّ بعسكر يقهرهم ويزيل الرئاسة عن رؤسائهم، ففعل المهديُّ ذلك، فلمّا وصل معه العسكر خاف منه أهل صقلّية، فاجتمع عليه أهل جرجنت وأهل المدينة وغيرها، فتحصّن منهم أبو سعيد وعمل على نفسه سوراً إلى البحر، وصار المرسى معه، فاقتتلوا، فانهزم أهل صقلّية، وقُتل جماعة من رؤسائهم، وأُسر جماعة، وطل أهل المدينة الأمان، فأمّنهم إلا رجلَيْن هما أثارا الفتنة، فرضوا بذلك وتسلّم الرجلَيْن، وسيّرهما إلى المهديّ بإفريقية، وتسلّم المدينة، وهدم أبوابها، وأتاه كتاب المهديّ يأمره بالعفو عن العامّة.
ذكر وفاة عبد الله بن محمّد صاحب الأندلس وولاية عبد الرحمن الناصر
وفيها توفّي عبد الله بن محمّد بن عبد الرحمن بن الحاكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية الأمويُّ، صاحب الأندلس، في ربيع الأوّل، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، وكان أبيض، أصهب، أزرق، ربعة، يخضب بالسواد، وكانت ولايته خمساً وعشرين سنة وأحد عشر شهراً، وخلّف أحد عشر ولداً ذكراً، أحدهم محمّد المقتول، قتله في حدّ من الحدود، وهو والد عبد الرحمن الناصر.
ولمّا توفّي وليَ بعده ابن ابنه هذا محمّد، واسمه عبد الرحمن بن محمّد ابن عبد الله بن محمّد بن عبد الرحمن بن الحاكم بن هِشام بن عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس ابن معاوية بن هِشام بن عبد الملك بن مَروان بن الحاكم الأمويّ، وأمّه أمّ ولد تسمّى مرتة، وكان عمره لمّا قُتل أبوه عشرين يوماً.
وكانت ولايته من المستطرف لأنّه كان شاباً، وبالحضرة أعمامه وأعمام أبيه، فلم يختلفوا عليه، ووُلِّيَ الإمارة والبلاد كلّها، وقد اختلف عليهم قبله، وامتنع حصون بكورة رَيّة وحصن بُبَشْتَر فحاربه، حتّى صلحت البلاد بناحيته، وكان مَن بطُليطُلة أيضاً قد خالفوا، فقاتلهم حتّى عادوا إلى الطاعة، ولم يزل يقاتل المخالفين حتّى أذعنوا له، وأطاعوه نيّفاً وعشرين سنة، فاستقامت البلاد، وأمنت في دولته، ومضى لحال سبيله.
ذكر عدّة حوادث
في هذه السنة عُزل عبد الله بن إبراهيم المِسْمعيُّ عن فارس وكَرمان واستُعمل عليها بدر الحمّاميُّ، وكان بدر يتقلّد أصبهان، واستُعمل بعده على أصبهان عليُّ بن وهسوذان الديلميُّ.
وفيها ورد الخبر إلى بغداد، ورسوله من عامل بَرقة، وهي من عمل مصر وما بعدها بأربعة فراسخ لمصر وما وراء ذلك من عمل المغرب، بخبر خارجيّ خرج عليهم، وأنهم ظفروا به وبعسكره، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ووصل على يد الرسول من أنوفهم وآذانهم شيء كثير.
وفيها كثرت الأمراض والعلل ببغداد.
وفيها كلبت الكلاب والذئاب بالبادية، فأهلكت خلقاً كثيراً.
وفيها وُلِّيَ بشر الأفشينيُّ طَرَسُوس.
وفيها قُلّد مؤنس المظفَّر الحرمَينْ والثغور.
وفيها انقضّت الكواكب انقضاضاً كثيراً إلى جهة المشرق.
وفيها مات أسكندروس بن لاون ملك الروم، وملك بعده ابنه، واسمه قسطنطين، وعمره اثنتا عشرة سنة.
وفيها توفّي عبيدالله بن عبدالله بن طاهر بن الحسين، وكان مولده سنة ثلاث وعشرين ومائتين.
وفيها توفّي أحمد بن عليّ الحدّاد، وقيل سنة تسع وتسعين ومائتين، وهو الصحيح.
وفيها توفّي أحمد بن يعقوب ابن أخي العرق المقرئ، والحسين بن عمر بن أبي الأخوص، وعليُّ بن طيفور النشويُّ، وأبو عمر القتّات.
وفيها، في ربيع الآخر، توفّي يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم المعروف بالنديم.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثمائةفي هذه السنة خُلع على الأمر أبي العبّاس بن المقتدر بالله، وقُلد أعمال مصر والمغرب، وعمره أربع سنين، واستخلف له على مصر مؤنس الخادم، وأبو العبّاس هذا هو الذي وليَ الخلافة بعد القاهر بالله، ولُقّبَ الراضي بالله.
وخُلع أيضاً على الأمير عليّ بن المقتدر، ووليَ الرّيّ، ودنباوند، وقزوين، وزنجان، وأبهر.
وفيها أُحضر بدار عيسى رجل يُعرف بالحلاّج ويكنّى أبا محمّد، وكان مشعبذاً في قول بعضهم، وصاحب حقيقة في قول بعضهم، ومعه صاحب له، فقيل، إنّه يدّعي الربوبيّة، وصُلب هو وصاحبه ثلاثة أيّام، كلّ يوم من بُكرة إلى انتصاف النهار، ثمّ يؤمَرُ بهما إلى الحبس، وسنذكر أخباره واختلاف الناس فيه عند صلبه.
وفيها، في صفر، عُزل أبو الهيجاء عبدالله بن حمدان عن الموصل، وقُلّد يُمن الطولونيُّ المعونة بالموصل، ثمّ صُرف عنها في هذه السنة، واستُعمل عليها نحرير الخادم الصغير.
وفيها خالف أبو الهيجاء عبدُ الله بن حَمدان على المقتدر فسُيّر إليه مؤنس المظفَّر، وعلى مقدّمته بنّيّ بن نفسي، خرج إلى الموصل منتصف صفرٍ ومعه جماعة من القوّاد، وخرج مؤنس في ربيع الأوّل، فلمّا علم أبو الهيجاء بذلك قصد مؤنساً مستأمناً من تلقاء نفسه، وورد معه إلى بغداد، فخلع المقتدر عليه.
وفيها توفّي دميانة أمير الثغور وبحر الروم، وقُلّد مكانه ابن بلك.
ذكر قتل الأمير أبي نصر الساماني
وولاية ولده نصروفي هذه السنة قُتل الأمير أحمد بن إسماعيل بن أحمد السامانيُّ صاحب خراسان وما وراء النهر، وكان مولعاً بالصيد، فخرج إلى فربر متصيّداً، فلمّا انصرف أمر بإحراق ما اشتمل عليه عسكره، وانصرف، فورد عليه كتاب نائبه بطبرستان، وهو أبو العبّاس صعلوك، وكان يليها بعد وفاة ابن نوح بها، يخبره بظهور الحسن بن عليّ العلويّ الأطروش بها، وتغلّبه عليها، وأنّه أخرجه عنها، فغمّ ذلك أحمد، وعاد إلى معسكره الذي أحرقه فنزل عليه فتطيّر الناس من ذلك.
وكان له أسدٌ يربطه كلّ ليلة على باب مبيته، فلا يجسر أحد أن يقربه، فأغفلوا إحضار الأسد تلك الليلة، فدخل إليه جماعة من غلمانه، فذبحوه على سريره وهربوا، وكان قَتْله ليلة الخميس لسبع بقين من جُمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثمائة، فحُمل إلى بخارى فدُفن بها، ولُقّب حينئذ بالشهيد، وطُلب أولئك الغلمان، فأُخذ بعضهم فقُتل.
ووليَ الأمر بعده ولده أبو الحسن نصر بن أحمد، وهو ابن ثماني سنين، وكانت ولايته ثلاثين سنة وثلاثة وثلاثين يوماً، وكان موته في رجب سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، ولُقّب بالسعيد، وبايعه أصحاب أبيه ببخارى بعد دفن أبيه، وكان الذي تولّى ذلك أحمد بن محمّد بن الليث، وكان متولّي أمر بخارى، فحمله على عاتقه، وبايع له الناس، ولّما حمله خدم أبيه ليظهر للناس خافهم وقال: أتريدون أن تقتلوني كما قتلتم أبي ؟ فقالوا: لا إنّما نريد أن تكون موضع أبيك أميراً؛ فسكن روعه.
واستصغر الناس نصراً، واستضعفوه، وظنّوا أنّ أمره لا ينتظم مع قوّة عمّ أبيه الأمير إسحاق بن أحمد، وهو شيخ السامانيّة، وهو صاحب سَمَرْقند، ومَيْل الناس بما وراء النهر سوى بخارى إليه وإلى أولاده، وتولّى تدبير دولة السعيد نصر بن أحمد أبو عبدالله محمّد بن أحمد الجَيْهانيُّ، فأمضى الأمور، وضبط المملكة، واتّفق هو وحشم نصر بن أحمد على تدبير الأمر فأحكموه، ومع هذا، فإنّ أصحاب الأطراف طمعوا في البلاد، فخرجوا من النواحي على ما نذكره.
فممنّ خرج عن طاعته سِجِستان، وعمّ أبيه إسحاق بن أحمد بن أسد بسَمرقند، وابناه منصور وإلياس ابنا إسحاق، ومحمّد بن ا لحسين بن مت، وأبو الحسن بن يوسف، والحسين بن عليّ المَرْورُوذيُّ، ومحمّد بن جيد، وأحمد بن سهل، وليلى بن نعمان، صاحب العلويّين بَطَبِرستان، ووقّعه سيمجور مع أبي الحسن بن الناصر، وقراتكين، وما كان بن كالي، وخرج عليه إخوته يحى ومنصور وإبراهيم، أولاد أحمد بن إسماعيل، وجعفر بن أبي جعفر، وابن داود، ومحمّد بن إلياس، ونصر بن محمّد بن مت، ومرداويج ووشمكير ابنا زيار، وكان السعيد مظفَّراً منصوراً عليهم.
ذكر أمر سجستانولّما قُتل الأمير أحمد بن إسماعيل خالف أهل سجِستان على ولده نصر، وانصرف عنها سيمجور الدواتيٌّ، فولاّها المقتدر بالله بدراً الكبير، فأنفذ إليها الفضلَ بن حميد، وأبا يزيد خالد بن محمد المروزيّ، وكان عُبيد الله بن أحمد الجَيْهانيُّ ببُستَ، والرُّخَّج، وسعد الطالقانيُّ بغَزنة من جهة السعيد نصر بن أحمد، فقصدهما الفضل خالد، وانكشف عنهما عبيدالله، وقبضا على سعد الطالقانيّ وأنفذاه إلى بغداد، واستولى الفضل وخالد على غزنة وبُست، ثمّ اعتلَّ الفضل، وانفرد خالد بالأمور، وعصى على الخليفة، فأنفذ إليه دركاً أخا نجح الطولونيّ، فقاتله فهزمه خالد.
وسار خالد إلى كَرمان، فأنفذ إليه بدر جيشاً، فقاتلهم خالد، فجُرح، وانهزم أصحابه، وأُخذ هو أسيراً، فمات، فحُمل رأسه إلى بغداد.
ذكر خروج إسحاق بن أحمد وابن إلياسوفي هذه السنة، وهي إحدى وثلاثمائة، خرج على السعيد نصر بن أحمد ابن إسماعيل عمّ أبيه إسحاق بن أحمد بن أسد وابنه إلياس، وكان إسحاق بسَمَرْقَنْد لّما قُتل أحمد بن إسماعيل ووليَ ابنه نصر بن أحمد، فلمّا بلغه ذلك عصى بها، وقام ابنه إلياس يأمر الجيش، وقوي أمرهما، فساروا نحو بخارى، فسار إليه حمويه بن عليّ في عسكر، وكان ذلك في شهر رمضان، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم إسحاق إلى سَمَرْقَنْد، ثمّ جمع وعاد مرّة ثانية، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم إسحاق أيضاً، وتبعه حموية إلى سَمَرْقَنْد فملكها قهراً.
واختفى إسحاق، وطلبه حموية، ووضع عليه العيون والرصد، فضاق بإسحاق مكانه، فأظهر نفسه، واستأمن إلى حموية فأمّنه وحمله إلى بخارى فأقام بها إلى أن مات.
وأمّا ابنه إلياس فإنّه سار إلى فرغانة، وبقي بها إلى أن خرج ثانياً.
ذكر ظهور الحسن بن عليّ الأطروش
وفيها استولى الحسن بن عليّ بن الحسن بن عمر بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب على طَبَرِسْتان، وكان يلقّب بالناصر.
وكان سبب ظهوره ما نذكره، وقد ذكرنا فيما تقدّم عصيان محمّد ابن هارون على أحمد بن إسماعيل، وهربه منه، وغير ذلك، ثمّ إنّ الأمير أحمد بن إسماعيل استعمل على طبرستان أبا العبّاس عبدالله بن محمّد بن نوح، فأحسن فيهم السيرة، وعدل فيهم، وأكرم مَن بها من العلويّين، وبالغ في الإحسان إليهم، وراسل رؤساء الديلم، وهاداهم، واستمالهم.
وكان الحسن بن عليّ الأطروش قد دخل الديلم بعد قتل محمّد بن زيد، وأقام بينهم نحو ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام، ويقتصر منهم على العشر، ويدافع عنهم ابن حسّان ملكهم، فأسلم منهم خلق كثير، واجتمعوا عليه، وبنى في بلادهم مساجد.
وكان للمسلمين بإزائهم ثغور مثل: قَزوين، وسالوس، وغيرهما، وكان بمدينة سالوس حصن منيع قديم، فهدمه الأطروش حين أسلم الديلم والجيل؛ ثمّ إنّه جعل يدعوهم إلى الخروج معه إلى طبرستان، فلا يجيبونه إلى ذلك لإحسان ابن نوح، فاتّفق أنّ الأمير أحمد عزل ابنَ نوح عن طبرستان وولاّها سلاماً، فلم يحسن سياسة أهلها، وهاج عليه الديلم، فقاتلهم وهزمهم، واستقال عن ولايتها، فعزله الأمير أحمد، وأعاد إليها ابن نوح، فصلحت البلاد معه.
ثمّ إنّه مات بها، واستعمل عليها أبو العبّاس محمّد بن إبراهيم صُعلوك، فغيّر رسوم ابن نوح، وأساء السيرة، وقطع عن رؤساء الديلم ما كان يهديه إليهم ابن نوح، فانتهز الحسن بن عليّ الفرصة، وهيّج الديلم عليه ودعاهم إلى الخروج معه، فأجابوه وخرجوا معه، وقصدهم صُعلوك، فالتقوا بمكان يسمّى نَوْرُوز وهو على شاطئ البحر، على يوم من سالوس، فانهزم ابن صُعلوك، وقُتل من أصحابه نحو أربعة آلاف رجل، وحصر الأطروش الباقين ثمّ أمّنهم على أموالهم وأنفسهم وأهليهم، فخرجوا إليه، فأمّنهم وعاد عنهم إلى آمل، وانتهى إليهم الحسن بن القاسم الداعي العلويُّ، وكان ختَن الأطروش، فقتلهم عن آخرهم لأنّه لم يكن أمّنهم، ولا عاهدهم، واستولى الأطروش على طبرستان.
وخرج صعلوك إلى الرَّيّ، وذلك سنة إحدى وثلاثمائة، ثمّ سار منها إلى بغداد، كان الأطروش قد أسلم على يده من الديلم الذين هم وراء أسفيدروذ إلى ناحية آمل، وهم يذهبون مذهب الشيعة.
وكان الأطروش زيديَّ المذهب، شاعراً مفلقاً، ظريفاً، علاّمة، إماماً في الفِقه والدين، كثير المُجون، حسن النادرة.
حُكي عنه أنّه استعمل عبدالله بن المبارك على جُرجان، وكان يُرمى بالأُبنة، فاستعجزه الحسن يوماً في شغل له وأنكره عليه، فقال: أيّها الأمير ! أنا أحتاج إلى رجال أجلاد يعينونني؛ فقال: قد بلغني ذلك.
وكان سبب صممه أنّه ضُرب على رأسه بسيف في حرب محمّد بن زيد فطرش؛ وكان له من الأولاد أبو الحسن، وأبو القاسم، وأبو الحسين، فقال يوماً لأبنه أبي الحسن: يا بنيّ ! ها هنا شيء من الغراء نلصق به كاغداً ؟ فقال: لا، إنّما ها هنا بالخاء، فحقدها عليه، ولم يولّه شيئاً، وولّى ابنيه أبا القاسم والحسين، وكان أبو الحسن ينكر تركه معزولاً، ويقول: أنا أشرف منهما لأنّ أمّي حسنيّة، وأمّهما أمَة.
وكان أبو الحسن شاعراً، وله مناقضات مع ابن المعتزّ، ولحق أبو الحسن بابن أبي الساج، فخرج معه يوماً متصيّداً، فسقط عن دابّته فبقي راجلاً، فمرّ به ابن أبي الساج فقال له: اركب معي على دابّتي ! فقال: أيّها الأمير لا يصلح بطلان على دابّة.
ذكر القرامطة وقتل الجُنّابيّ
في هذه السنة قُتل أبو سعيد الحسن بن بَهرام الجُنّابيُّ كبير القرامطة، قتله خادم له صَقلبيّ، في الحمّام، فلمّا قتله استدعى رجلاً من أكابر رؤسائهم وقال له: السيّد يستدعيك؛ فلمّا دخل قتله، ففعل ذلك بأربعة نفر من رؤسائهم، واستدعى الخامس، فلمّا دخل فطن لذلك، فأمسك بيد الخادم وصاح، فدخل الناس، وصاح النساء، وجرى بينهم وبين الخادم مناظرات ثمّ قتلوه.
وكان أبو سعيد قد عهد إلى ابنه سعيد، وهو الأكبر، فعجز عن الأمر، فغلبه أخوه الأصغر أبو طاهر سليمان، وكان شهماً شجاعاً، ويرد من أخباره ما يُعلم به محلّه.
ولّما قُتل أبو سعيد كان قد استولى على هَجَر والإحساء والقَطيف والطائف، وسائر بلاد الحرين؛ وكان المقتدر قد كتب إلى أبي سعيد كتاباً ليّناً في معنى مَن عندّه من أسرى المسلمين، ويناظره، ويقيم الدليل على فساد مذهبه، ونفّذه مع الرسل، فلمّا وصلوا إلى البصرة بلغهم خبر موته، فأعلموا الخليفة بذلك، فأمرهم بالمسير إلى ولده، فأتوا أبا طاهر بالكتاب، فأكرم الرسل، وأطلق الأسرى، ونفّذهم إلى بغداد، وأجاب عن الكتاب.
ذكر مسير جيش المهديّ إلى مصر
في هذه السنة جهّز المهديُّ العساكر من إفريقية، وسيّرها مع ولده أبي القاسم إلى الديار المصريّة، فساروا إلى برقة، واستولوا عليها في ذي الحجّة، وساروا إلى مصر، فملك الإسكندريّة والفيّوم، وصار في يده أكثر البلاد، وضيّق على أهلها، فسيّر إليها المقتدر بالله مؤنساً الخادم في جيش كثيف، فحاربهم وأجلاهم عن مصر، فعادوا إلى المغرب مهزومين.
ذكر عدّة حوادث
وفي هذه السنة كثرت الأمراض الدموية بالعراق، ومات بها خلق كثير، وأكثرهم بالحربيّة، فإنّها أُغلقت بها دور كثيرة لفناء أهلها.
وفيها توفّي جعفر بن محمّد بن الحسن الفريابيُّ ببغداد، والقاضي أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن محمّد بن أبي بكر المقدّميُّ الثقفيُّ.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثمائة
في هذه السنة أُمر عليُّ بن عيسى الوزير بالمسير إلى طَرَسُوس لغزو الصائفة، فسار في ألفَيْ فارس معونةً لبشر الخادم والي طَرَسُوس، فلم يتيسّر لهم غزو الصائفة، فغزوها شاتية في برد شديد وثلج.
وفيها تنحّى الحسن بن عليّ الأطروش العلويُّ عن آمل، بعد غلبته عليها، كما ذكرناه، وسار إلى سالوس، ووجّه إليه صُعلوك جيشاً من الرَّيّ، فلقيهم الحسن، وهزمهم، وعاد إلى آمل.
وكان الحسن بن عليّ حسن السيرة، عادلاً، ولم يرَ الناس مثله في عدله، وحُسن سيرته، وإقامته الحقّ، وقد ذكره ابن مِسكويه في كتاب تجارب الأمم فقال: الحسن بن عليّ الداعي، وليس به، إنّما الداعي عليُّ بن القاسم، وهو ختَن هذا على ما ذكرناه.
وفيها قبض المقتدر على أبي عبدالله الحسين بن عبدالله المعروف بابن الجصّاص الجوهريّ، وأخذ ما في بيته من صنوف الأموال، وكان قيمته أربعة آلاف ألف دينار، وكان هو يدّعي أنّ قيمة ما أُخذ منه عشرون ألف ألف دينار وأكثر من ذلك.
ذكر مخالفة منصور بن إسحاقوفي هذه السنة خالف منصور بن إسحاق بن أحمد بن أسد على الأمير نصر بن أحمد، ووافقه على المخالفة الحسينُ بن عليّ المَرْورُوذيُّ، ومحمّد ابن حَيد.
وكان سبب ذلك أنّ الحسين بن عليّ لّما افتتح سِجِسْتان، الدفعة الأولى على ما ذكرناه، للأمير أحمد بن إسماعيل طمع أن يتولاها، فوليها منصور بن إسحاق هذا، فخالف أهلها، وحبسوا منصوراً، فأنفذ الأمير أحمد عليّاً أيضاً، فافتتحها ثانياً، وطمع أن يتولاّها فوليها سيمجور، وقد ذكرنا هذا جميعه.
فلمّا وليها سيمجور استوحش عليٌّ لذلك، ونفر منه، وتحدّث مع منصور بن إسحاق في الموافقة والتعاضد بعد موت الأمير أحمد، وتكون إمارة خراسان لمنصور، ويكون الحسين بن عليّ خليفته على أعماله، فاتّفقا على ذلك فلمّا قُتل الأمير أحمد بن إسماعيل كان منصور بن إسحاق بنيسابور، والحسين بهرَاة، فأظهر الحسين العصيان، وسار إلى منصور يحثّه على ما كانا اتّفقا عليه، فخالف أيضاً، وخطب لمنصور بنيسابور فتوجه إليها من بخارى حموية بن علي في عسكر ضخم لمحاربتهما، فاتّفق أنّ منصوراً مات، فقيل إنّ الحسين بن عليّ سمّه، فلمّا قاربه حموية سار الحسين بن عليّ عن نَيسابور إلى هَراة وأقام بها.
وكان محمّد بن حَيد على شُرطة بخارى مدّة طويلة، فسُيّر من بخارى إلى نَيسابور لشغل يقوم به، فوردها، ثمّ عاد عنها بغير أمر، فكتب إليه من بخارى بالإنكار عليه، فخاف على نفسه، فعدل عن الطريق إلى الحسين بن عليّ بهراة، فسار الحسين بن عليّ من هراة إلى نَيسابور، واستخلف بهراة أخاه منصور بن عليّ، واستولى على نَيسابور، فسُيّر من بخارى إليه أحمد بن سهل لمحاربته، فابتدأ أحمد بهراء فحصرها وأخذها، واستأمن إله منصور بن عليّ، وسار أحمد من هراة إلى نيسابور، وكان وصوله إليها في ربيع الأوّل سنة ستّ وثلاثمائة، فنازل الحسين، وحصره، وقاتله، فانهزم أصحاب الحسين، وأُسر الحسين بن عليّ، وأقام أحمد بن سهل بنَيسابور.
وكان ينبغي أن نذكر استيلاء أحمد على نَيسابور، وأسر الحسين سنة ستّ وثلاثمائة، لكن رأينا أن نجمع سياق الحادثة لئلاّ يُنسى أوّلها.
وأمّا ابن حَيد فإنّه كان بمرو، فلمّا بلغه استيلاء أحمد بن سهل على نَيسابور، وأسره الحسين بن عليّ، سار إليه، فقبض عليه أحمد وأخذ ماله وسواده، وسيّره والحسين بن عليّ إلى بخارى، فأمّا ابن حَيد فإنّه سُيّر إلى خُوارزم فمات بها.
وأمّا الحسين بن عليّ فإنّه حُبس ببخارى إلى أن خلَّصه أبو عبدالله الجيهانيُّ، وعاد إلى خدمة الأمير نصر بن أحمد، فبينما هو يوماً عنده إذ طلب الأمير نصر ماء، فأُتي بماء في كوز غير حسن الصنعة، فقال الحسين بن عليّ لأحمد بن حموية، وكان حاضراً: ألا يهدي والدك إلى الأمير من نَيسابور من هذه الكيزان اللطاف النظاف ؟ فقال أحمد: إنّما يُهدي أبي إلى الأمير مثلك ومثلَ أحمد بن سهل، ومثلَ ليلة الديلميّ، لا الكيزان؛ فأطرق الحسين مُفحَماً، وأعجب نصراً قوله.
ذكر خبر مصر مع العلويّ المهديّ
وفيها أنفذ أبو محمّد عبيدُ الله العلويُّ الملقّب بالمهديّ جيشاً من إفريقية مع قائد من قوّاده يقال له حُباسة إلى الإسكندريّة، فغلب عليها.
وكان مسيره في البحر، ثمّ سار منها إلى مصر، فنزل بين مصر والإسكندريّة، فبلغ ذلك المقتدر، فأرسل مؤنساً الخادم في عسكر إلى مصر لمحاربة حُباسة، وأمدّه بالسلاح والمال، فسار إليها، فالتقى العسكران في جُمادى الأولى، فاقتتلوا قتالاً شديداً فقُتل من الفريقَيْن جمع كثير، وجُرح مثلهم، ثمّ كان بينهم وقعة أخرى بنحوها، ثمّ وقعة ثالثة ورابعة، فانهزم فيها المغاربة أصحاب العلويّ، وقُتلوا، وأُسروا، فكان مبلغ القتلى سبعة آلاف مع الأسرى وهرب الباقون.
وكانت هذه الوقعة سلخ جمادى الآخرة، وعادوا إلى الغرب، فلمّا وصلوا إلى الغرب قتل المهديُّ حُباسةَ.
وفيها خالف عروبة بن يوسف الكُتاميُّ على المهديّ بالقَيروان، واجتمع إليه خلق كثير من كُتامة والبرابر، فأخرج المهديُّ إليهم مولاه غالباً، فاقتتلوا قتالاً شديداً في محضر القَيروان، فقُتل عروبة وبنو عمّه، وقُتل معهم عالم لا يحصون، وجُمعت رؤوس مقدّميهم في قفّة وحُملت إلى المهديّ، فقال: ما أعجب أمور الدنيا ؟؟؟! قد جمعت هذه القفّة رؤوس هؤلاء، وقد كان يضيق بعساكرهم فضاء المغرب.
ذكر عدة حوادثفيها غزا بشر الخادم والي طَرَسُوس بلاد الروم، ففتح فيها وغنم وسبى، وأسر مائة وخمسين بطريقاً، وكان السبي نحواً من ألفَيْ رأس.
وفيها أوقع مؤنس الخادم بناحية وادي الذئاب بمن هنالك من الأعراب من بني شيبان، فقتل منهم خلقاً كثيراً، ونهب بيوتهم فأصاب فيها من أموال التجار التي كانوا أخذوها بقطع الطريق ما لا يحصى.
وفيها في ذي الحجّة ماتت بدعة المغنّية، مولاة عَريب مولى المأمون.
وفيها، في ذي الحجّة، خرجت الأعراب من الحاجر على الحجّاج، فقطعوا عليهم الطريق، وأخذوا من العين وما معهم من الأمتعة والجمال ما أرادوا، وأخذوا مائتين وخمسين امرأة؛ وحجّ بالناس هذه السنة الفضل بن عبد الملك.
وفيها قُلّد أبو الهيجاء عبدالله بن حمدان الموصل.
وفيها مات الشاه بن ميكال.
وفيها، في ليلة الأضحى، انقضّ ثلاثة كواكب كبار اثنان أوّل الليل وواحد آخره سوى كواكب صغار كثيرة.
وإلى آخر هذه السنة انتهى تاريخ أبي جعفر الطبريّ، رحمه الله، ورأيتُ في بعض النسخ إلى آخر سنة ثلاث وثلاثمائة، وقيل إنّ سنة ثلاث هي زيادة فيه، وليس من تاريخ الطبريّ، والله أعلم.
وفيها توفّي إسحاق بن أبي حسّان الأنماطيُّ، وإبراهيم بن شريك، وأبو عيسى بن القزّاز، وأبو العبّاس البرّانيُّ، وعليُّ بن محمّد بن نصر بن بسام الشاعر وله نيّف وسبعون سنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثمائة
ذكر أمر الحسين بن حمدانفي هذه السنة خرج الحسين بن حَمدان بالجزيرة عن طاعة المقتدر.
وسبب ذلك أنّ الوزير عليّ بن عيسى طالبه بمال عليه من ديار ربيعة، وهو يتولاّها، فدافعه، فأمره بتسليم البلاد إلى عُمّال السلطان، فامتنع.
وكان مؤنس الخادم غائباً بمصر لمحاربة عسكر المهديّ العلويّ، صاحب إفريقية، فجهّز الوزير رائقاً الكبير في جيش وسيّره إلى الحسين بن حمدان، وكتب إلى مؤنس يأمره بالمسير إلى ديار الجزيرة لقتال الحسين، بعد فراغه من أصحاب العلويّ، فسار رائع إلى الحسين بن حمدان.
وجمع لهم الحسين نحو عشرين ألف فارس، وسار إليهم فوصل إلى الحبشة وهم قد قاربوها، فلّما رأوا كثرة جيشه علموا عجزهم عنه لأنّهم كانوا أربعة آلاف فارس، فانحازوا إلى جانب دجلة، ونزلوا بموضع ليس له طريق إلاّ من وجه واحد، وجاء الحسين فنزل عليهم وحصرهم، ومنع الميرة عنهم من فوق ومن أسفل، فضاقت عليهم الأقوات والعلوفات، فأرسلوا إليه يبذلون له أن يولّيه الخليفة ما كان بيده ويعود عنهم، فلم يجب إلى ذلك.
ولزم حصارهم، وأدام قتالهم إلى أن عاد مؤنس من الشام، فلّما سمع العسكر بقربه قويت نفوسهم وضعفت نفوس الحسين ومَن معه، فخرج العسكر إليه ليلاً وكبسوه، فانهزم وعاد إلى ديار ربيعة، وسار العسكر فنزلوا على الموصل.
وسمع مؤنس خبر الحسين، وجدّ مؤنس في المسير نحو الحسين، واستصحب معه أحمد بن كَيْغَلَغ، فلّما قرب منه راسله الحسين يعتذر، وتردّدت الرسل بينهما، فلم يستقر حال، فرحل مؤنس نحو الحسين حتّى نزل بإزاء جزيرة ابن عمر، ورحل الحسين نحو أرمينية مع ثقله وأولاده، وتفرّق عسكر الحسين عنه، وصاروا إلى مؤنس.
ثمّ إنّ مؤنساً جهّز جيشاً في أثر الحسين، مقدّمهم بُلَيق ومعه سيما الجزريُّ، وجنى الصّفوانيُّ، فتبعوه إلى تل فافان، فرأوها خاوية على عروشها، قد قتل أهلها وأحرقها، فجدّوا في أتّباعه فأدركوه فقاتلوه، فانهزم من بقي معه من أصحابه، وأُسر هو ومعه ابنه عبد الوهّاب وجميع أهله وأكثر مَنْ صَحِبه، وقبض أملاكه.
وعاد مؤنس إلى بغداد؟؟؟؟؟؟؟ على طريق الموصل والحسين معه، فأُركب على جمل هو وابنه وعليهما البرانس، واللبود الطوال، وقمصان من شعر أحمر، وحُبس الحسين وابنه عند زيدان القهرمانة، وقبض المقتدر على أبي الهيجاء بن حمدان وعلى جميع إخوته وحُبسوا، وكان قد هرب بعض أولاد الحسين بن حمدان، فجمع جمعاً ومضى نحو آمِد، فأوقع بهم مستحفظها، وقتل ابن الحسين وأنفذ رأسه إلى بغداد.
ذكر بناء المهديّة
في هذه السنة خرج المهديُّ بنفسه إلى تونس وقرطاجَنّة وغيرهما يرتاد موضعاً على ساحل البحر يتّخذ فيه مدينة.
وكان يجد في الكتب خروج أبي يزيد على دولته، ومن أجله بنى المهديّة، فلم يجد موضعاً أحسن ولا أحصن من موضع المهديّة، وهي جزيرة متّصلة بالبّر كهيئة كفّ متّصلةٍ بزند، فبناها وجعلها دار ملكه، وجعل لها سوراً محكماً وأبواباً عظيمة وزْن كلّ مصراع مائة قنطار.
وكان ابتداء بنائها يوم السبت لخمس خلون من ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثمائة، فلّما ارتفع السور أمر رامياً أن يرمي بالقوس سهماً إلى ناحية المغرب، فرمى سهمه فانتهى إلى موضع المصلّى، فقال: إلى موضع هذا يصل صاحب الحمار، يعني أبا يزيد الخارجيّ، لأنّه كان يركب حماراً.
وكان يأمر الصُّنّاع بما يعملون، ثمّ أمر أن ينقر دار صناعة في الجبل تسع مائةَ شيني، وعليها باب مغلق؛ ونقر في أرضها أهراء للطعام، ومصانع للماء، وبنى فيها القصور والدور، فلّما فرغ منها قال: اليوم أمنتُ على الفاطميّات، يعني بناته، وارتحل عنها.
ولّما رأى إعجاب الناس بها، وبحصانتها، كما يقول: هذا لساعة من نهار، وكان كذلك لأنّ أبا يزيد وصل إلى موضع السهم، ووقف فيه ساعة، وعاد ولم يظفر.
ذكر عدّة حوادث
فيها أغارت الروم على الثغور الجزريّة، وقصدوا حصن نصور، وسبوا مَن فيه، وجرى على الناس أمر عظيم، وكانت الجنود متشاغلة بأمر الحسين ابن حمدان.
وفيها عاد الحُجّاج وقد لقوا من العطش والخوف شدّة، وخرج جماعة من العرب على أبي حامد ورقاء بن محمّد المرتّب على الثعلبيّة لحفظ الطريق، فقاتلهم، وظفر بهم، وقتل جماعة منهم، وأسر الباقين وحملهم إلى بغداد، فأمر المقتدر بتسليمهم إلى صاحب الشُّرطة ليحبسهم، فثارت بهم العامة فقتلوهم وألقوهم في دجلة.
وفيها ظهر بالجامدة إنسان زعم أنّه علويّ فقتل العامل بها ونهبها، وأخذ من دار الخراج أموالاً كثيرة، ثمّ قُتل بعد ظهوره بيسير، وقُتل معه جماعة من أصحابه، وأُسر جماعة.
وفيها ظهرت الروم وعليهم الغثيط فأوقعوا بجماعة من مقاتلة طَرَسُوس والغزاة، فقتلوا منهم نحو ستّمائة فارس، ولم يكن للمسلمين صائفة.
وفيها خرج مليح الأرمنيُّ إلى مَرْعَش، ! فعاث في بلدها، وأسر جماعة ممّن حولها وعاد.
وفيها وقع الحريق ببغداد في عدّة مواضع، فاحترق كثير منها.
وفيها توفّي أبو عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب النسائي، صاحب كتاب السُّنَن، بمكّة، ودُفن بين الصفا والمروة؛ والحسن بن سفيان النسويُّ.
وفيها توفّي أبو بكر محمّد بن عينونة بنَصِيبين، وكان يتولّى أعمال الخراج والضياع بديار ربيعة، ولّما توفّي وليَ ابنه الحسن مكانه.
وفيها توفّي أبو عليّ محمّد بن عبد الوهّاب الجُبائيُّ المعتزليُّ.
وفيها توفّي يموت بن المزرّع العبديُّ، وهو ابن أخت الجاحظ، توفّي بدمشق.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثمائة
ذكر عزل ابن وهسوذان عن أصبهان
في هذه السنة، في المحرم، أرسل عليُّ بن وهسوذان، وهو متولّي الحر بأصبهان، غلاماً كان ربّاه وتَبنّاه إلى أحمد بن شاه، متولّي الخراج، في حاجة فلقيه راكباً فكلّمه في حاجة مولاه، ورفع صوته، فشتمه أحمد وقال: يا مؤاجر تكلّمني بهذا على الطريق ! وحرد عليه، فعاد إلى مولاه باكياً، وعرّفه ذلك، فقال: صدق، لولا أنّك مؤاجر لقتلتَه؛ فعاد الغلام فلقيه وهو راكب فقتله، فأنكر الخليفة ذلك، وصرف عليَّ بن وهسوذان عن أصبهان، وولّى مكانه أحمد بن مسرور البَلْخيّ، وأقام ابن وهسوذان بنواحي الجبل.
ذكر وزارة ابن الفرات الثانيةوعزل عليّ بن عيسى
في هذه السنة، في ذي الحجّة، عُزل عليُّ بن عيسى عن الوزارة، وأُعيد إليها أبو الحسن عليُّ بن الفرات.
وكان سبب ذلك أنّ أبا الحسن بن الفرات كان محبوساً، وكان المقتدر يشاوره وهو في محبسه، ويرجع إلى قوله؛ وكان عليُّ بن عيسى يمشّي أمر الوزارة، ولم يتبع أصحاب ابن الفرات وأسبابه لا غيره، وكان جميل المحضر، قليل الشرّ، فبلغه أنّ أبا الحسن بن الفرات قد تحدّث له جماعة من أصحاب الخليفة في إعادته إلى الوزارة، فسارعَ واستعفى من الوزارة، وسأل في ذلك، فأنكر المقتدر عليه، ومنعه من ذلك، فسكن.
فلّما كان آخر ذي القعدة جاءته أمّ موسى القهرمانة لتتفّق معه على ما يحتاج حرم الدار والحاشية التي للدار من الكسوات والنفقات، فوصلتْ إليه وهو نائم، فقال لها حاجبه: إنّه نائم ولا أجسر أن أوقظه، فاجلسي في الدار ساعةً حتّى يستيقظ؛ فغضبت من هذا وعادت، واستيقظ عليُّ بن عيسى في الحال، فأرسل إليها حاجبَه وولده يعتذر، فلم يُقْبَلْ منه، ودخلت على المقتدر وتحرصت على الوزير عنده وعند أمّه، فعزله عن الوزارة، وقبض عليه ثامن ذي القعدة.
وأُعيد ابن الفرات إلى الوزارة، وضمن على نفسه أن يحمل كلّ يوم إلى بيت المال ألف دينار وخمسمائة دينار، فقبض على أصحاب الوزير عليّ بن عيسى وعاد فقبض على الخاقانيّ الوزير وأصحابه، واعترض العُمّال وغيرهم، وعاد عليهم بأموال عظيمة ليقوم بما ضمنه.
وكان عليُّ بن عيسى قد تعجّل بمال من الخراج لينفقه في العيد، فاتّسع به ابن الفرات.
وكان قد كاتب العمّالَ بالبلاد كفارس، والأهواز، وبلاد الجبل، وغيرها في حمل المال، وحثّهم على ذلك غاية الحثّ، فوصل بعد قبضه، فادّعى ابن الفرات الكفاية والنهضة في جمع المال.
وكان أبو عليّ بن مثقلة مستخفياً مُذ قُبض ابن الفرات إلى الآن، فلّما عاد ابن الفرات إلى الوزارة ظهر، فاشخصه ابن الفرات وقرّبه.
ذكر أمر يوسف بن أبي الساجكان يوسف بن أبي الساج على أذربيجان وأرمينية قد وليَ الحربَ، والصلاة، والأحكام، وغيرها، منذ أوّل وزارة ابن الفرات الأولى، وعليه مال يؤدّيه إلى ديوان الخلافة، فلمّا عُزل ابن الفرات ووليَ الخاقانيُّ الوزارة، وبعده عليُّ بن عيسى، طمع فأخَّر حمل بعض المال، فاجتمع له ما قويت به نفسه على الامتناع، وبقي كذلك إلى هذه السنة.
فلمّا بلغه القبض على الوزير عليّ بن عيسى أظهر أن الخليفة أنفذ له عهداً بالرَّي، وأنّ الوزير عليّ بن عيسى سعى له في ذلك، فأنفذه إليه، وجمع العساكر وسار إلى الرَّيّ وبها محمّد بن عليّ صُعلوك يتولّى أمرها لصاحب خُراسان، وهو الأمير نصر بن أحمد بن إسماعيل السامانيُّ، وكان صُعلوك قد تغلّب على الرَّيّ وما يليها، أيّام وزارة عليّ بن عيسى، ثمّ أرسل إلى ديوان الخلافة فقاطع عليها بمال يحمله، فلمّا بلغه مسير يوسف بن أبي الساج نحوه سار إلى خُراسان، فدخل يوسف الرَّيّ واستولى عليها وعلى قزوين وزنجان وأبهر، فلمّا بلغ المقتدر فعله، وقوله إنّ عليّ بن عيسى أنفذ له العهد واللواء بذلك، أنكره واستعظمه.
وكتب يوسف إلى الوزير ابن الفرات يعرّفه أنّ عليّ بن عيسى أنفذ إليه بعهده على هذه الأماكن، وأنّه افتتحها وطرد عنها المتغلّبين عليها، ويعتذر بذلك، ويذكر كثرة ما أخرجه، فعظم ذلك على المقتدر، وأمر ابن الفرات أن يسأل عليَّ بن عيسى عن الذي ذكره يوسف، فأحضره وسأله، فأنكر ذلك وقال: سلوا الكتّاب وحاشية الخليفة، فإنّ العهد واللواء لا بدّ أن يسير بهما بعض خدم الخليفة، أو بعض قوّاده؛ فعلموا صدقه.
وكتب ابن الفرات إلى ابن أبي الساج ينكر عليه تعرّضه لهذه البلاد، وكذبه على الوزير عليّ بن عيسى، وجهّز العساكر لمحاربته، وكان مسير العساكر سنة خمس وثلاثمائة.
وكان المقدّم على العسكر خاقان المُفلطحي، ومعه جماعة من القوّاد كأحمد ابن مسرور البَلْخيّ، وسيما الجزريّ، ونحرير الصغير، فساروا، ولقوا يوسف، واقتتلوا، فهزمهم يوسف، وأسر منهم جماعة، وأدخلهم الرَّيّ مشهورين على الجمال، فسيّر الخليفة مؤنساً الخادم في جيش كثيف إلى محاربته، فسار، وانضم إليه العسكر الذي كان مع خاقان، فصُرف خاقان عن أعمال الجبل، ووليها نحرير الصغير.
وسار مؤنس فأتاه أحمد بن عليّ، وهو أخو محمّد بن عليّ صعلوك، مستأمناً، فأكرمه ووصله؛ وكتب ابن أبي الساج يسأل الرضى، وأن يقاطع على أعمال الريّ وما يليها على سبعمائة ألف دينار لبيت المال، سوى ما يحتاج إليه الجند وغيرهم، فلم يجبه المقتدر إلى ذلك، ولو بذل مِلء الأرض لما أقرّه على الريّ يوماً واحداً لإقدامه على التزوير، فلمّا عرف ابن أبي الساج ذلك سار عن الريّ بعد أن أخربها، وجبى خراجها في عشرة أيّام.
وقلّد الخليفة الريّ وقَزوين وأبهر وصيفاً البكتمريَّ، وطلب ابن أبي الساج أن يقاطع على ما كان بيده من الولاية، فأشار ابن الفرات بأجابته إلى ذلك فعارضه نصر الحاجب، وابن الحواريّ، وقالا: لا يجوز أن يجاب إلى ذلك إلاّ بعد أن يطأ البساط.
ونسب ابن الفرات إلى مواطأة ابن أبي الساج والميل معه، فحصل بينهما وبين ابن الفرات عداوة، فامتنع المقتدر من إجابته إلى ذلك إلى أن يحضر في خدمته بنفسه، فلمّا رأى يوسف أنّ دمه على خطر إن حضر لخدمته حارب مؤنساً، فانهزم مؤنس إلى زنجان، وقُتل من قوّاده سيما بن بويه، وأسر جماعة منهم، فيهم هلال بن بدر، فأدخلهم أردبيل مشتهرين على الجمال.
وأقام مؤنس بزنجان يجمع العساكر، ويستمدّ الخليفة، وكاتبه ابن أبي الساج في الصلح، وتراسلا في ذلك، وكتب مؤنس إلى الخليفة، فلم يجبه إلى ذلك، فلمّا كان في المحرّم سنة سبع وثلاثمائة، والوزير يومئذ حامد بن العبّاس، اجتمع لمؤنس عسكر كبير، فسار إلى يوسف، فتواقعا على باب أردبيل، فانهزم عسكر يوسف، وأُسر يوسف وجماعة من أصحابه، وعاد بهم مؤنس إلى بغداد، فدخلها في المحرّم أيضاً، وأدخل يوسف أيضاً بغداد مشتهراً على جمل، وعليه برنس بأذناب الثعالب، فأُدخل إلى المقتدر، ثمّ حُبس بدار الخليفة عند زيدان القهرمانة.
ولمّا ظفر مؤنس بابن أبي الساج قلّد عليَّ بن وهسوذان أعمال الريّ، ودنباوند، وقَزوين، وأبهر، زنجان، وجعل أموالها لرجاله، وقلّد أصبهان، وقُمّ، وقَاشان، وساوة لأحمد بن عليّ بن صعلوك، وسار عن أذربيجان.
ذكر حال هذه البلاد بعد مسير مؤنسلمّا سار مؤنس عن أذربيجان إلى العراق وثب سُبُك غلام يوسف بن أبي الساج على بلاد أذربيجان، فملكها، واجتمع إليه عسكر عظيم، فأنفذ إليه مؤنس محمّدَ بن عبيدالله الفارقيَّ، وقلّده البلاد، وسار إلى سُبُك وحاربه، فانهزم الفارقيُّ وسار إلى بغداد، وتمكّن سُبُك من البلاد، ثمّ كتب إلى الخليفة يسأل أن يقاطع على أذربيجان، فأجيب إلى ذلك، وقُرّر عليه كلّ سنة مائتان وعشرون ألف دينار، وأُنفذت إليه الخلع والعهد، فلم يقف على ما قرّره.
ثمّ وثب أحمد بن مسافر، صاحب الطرم، على ابن أخيه عليّ بن وهسوذان وهو مقيم بناحية قزوين، فقتله على فراشه، وهرب إلى بلده، فاستعمل مكان عليّ بن وهسوذان وصيفاً البكتمريَّ، وقلّد محمّد بن سليمان صاحب الجيش أعمال الخراج بها.
وسار أحمد بن عليّ بن صعلوك من قُمّ إلى الريّ، فدخلها، فأنفذ الخليفة ينكر عليه ذلك ويأمره بالعود إلى قمّ فعاد، ثمّ إنّه أظهر الخلاف، وصرف عمّال الخراج عن قمّ، واستعدّ للمسير إلى الريّ، فكوتب نحرير الصغير، وهو على هَمذان، ليسير هو ووصيف إلى الريّ لمنع أحمد بن عليّ عنها فساروا إليها، فلقيهم أحمد بن عليّ على باب الريّ، فهزمهم أحمد، وقُتل محمّد ابن سليمان، واستولى أحمد على الريّ، وكاتب نصراً الحاجب ليصلح أمره مع الخليفة، ففعل ذلك، وأصلح أمره، وقرّر عليه عن الريّ ودنباوند وقَزوين وزنجان وأبهر مائة وستّين ألف دينار محمولة كلّ سنة إلى بغداد، فنزل أحمد عن قمّ، فاستعمل الخليفة عليها من ينظر فيها.
ذكر تغلّب كثير بن أحمد على سجستان ومحاربته
كان كثير بن أحمد بن شهفور قد تغلّب على أعمال سجستان، فكتب الخليفة إلى بدر بن عبدالله الحمّاميّ، وهو متقلّد أعمال فارس، يأمره أن يرسل جيشاً يحاربون كثيراً، ويؤمّر عليهم دردا، ويستعمل على الخراج بها زيد ابن إبراهيم، فجهّز بدر جيشاً كثيفاً وسيّرهم، فلمّا وصلوا قاتلهم كثير، فلم يكن له بهم قوّة، وضعف أمره وكادوا يملكون البلد، فبلغ أهل البلد أنّ زيداً معه قيود وأغلال لأعيانهم، فاجتمعوا مع كثير، وشدّوا منه، وقاتلوا معه، فهزموا عسكر الخليفة، وأسروا زيداً، فوجدوا معه القيود والأغلال، فجعلوها في رجليه وعنقه.
وكتب كثير إلى الخليفة يتبرّأ من ذلك، ويجعل الذنب فيه لأهل البلد، فأرسل الخليفة إلى بدر الحمّاميّ يأمره أن يسير بنفسه إلى قتال كثير، فتجهّز بدر، فلمّا سمع كثير ذلك خاف، فأرسل يطلب المقاطعة على مال يحمله كل سنة، فأُجيب إلى ذلك، وقوطع على خمسمائة ألف درهم، وقُرّرت البلاد عليه.
ذكر عدّة حوادث
في هذه السنة، في الصيف، خافت العامّة ببغداد من حيوان كانوا يسمّونه الزبزب، ويقولون إنّهم يرونه في الليل على سطوحهم، وإنّه يأكل أطفالهم، وربّما عضّ يد الرجل وثَدْيَ المرأة فقطعهما وهرب بهما، فكان الناس يتحارسون، ويتزاعقون، ويضربون بالطشوت والصوانيّ وغيرها ليفزعوه، فارتجَّتْ بغداد لذلك. ثم إنّ أصحاب السلطان صادوا ليلة حيواناً أبلق بسواد، قصير اليدين والرجلين، فقالوا: هذا هو الزبزب، وصلبوه على الجسر، فسكن الناس، وهذه دابّة تسمّى طبرة، وأصحاب اللصوص حاجتهم لاشتغال الناس عنهم.
وفيها توفّي الناصر العلويُّ، صاحب طَبَرِسْتان، في شعبان وعمره تسع وسبعون سنة، وبقيت طبرستان في أيدي العلويّة إلى أن قُتل الداعي، وهو الحسن بن القاسم، سنة ستّ عشرة وثلاثمائة على ما نذكره.
وفيها خالف أبو يزيد خالد بن محمّد المادرائيُّ على المقتدر بالله بكرمان، وكان يتولّى الخراج، وسار منها إلى شيراز يريد التغلّب على فارس، فخرج إله بدر الحمّاميُّ فحاربه وقتله، وحُمل رأسه إلى بغداد وطيف به.
وفيها سار مؤنس المظفَّر إلى بلاد الروم لغزاة الصائفة، فلمّا صار بالموصل قلّد سُبُك المفلحي بازَبْدَى وقَرْدَى، وقلّد عثمانَ العنزيَّ مدينة بلد، وباعيناثا، وسنجار، وقلّد وصيفاً البكتمريَّ باقي بلاد ربيعة، وسار مؤنس إلى مَلَطْية وغزا فيها، وكتب إلى أبي القاسم عليّ بن أحمد ابن بِسطام أن يغزو من طَرَسُوس في أهلها، ففعل.
وفتح مؤنس حصوناً كثيرة من الروم، وأثر آثاراً جميلة، وعتب عليه أهل الثغور وقالوا: لو شاء لفعل أكثر من هذا؛ وعاد إلى بغداد، فأكرمه الخليفة وخلع عليه.
وفيها توفّي يَمُوتُ بن المزرّع العبديُّ، وهو ابن أخت الجاحظ، وسليمان بن محمّد بن أحمد أبو موسى النحويُّ المعروف بالحامض أخذ العلم عن ثعلب، وكانت وفاته في ذي الحجّة، وكان من أصحاب ثعلب، ويوسف ابن الحسين بن عليّ، أبو يعقوب الرازيّ، وهو من أصحاب ذي النون المصريّ، وهو صاحب قصّة الفأرة معه.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثمائةفي هذه السنة، في المحرّم، وصل رسولان من ملك الروم إلى المقتدر يطلبان المهادنة والفداء، فأُكرما إكراماً كثيراً، وأُدخلا على الوزير وهو في أكمل أُبّهة، وقد صفّ الأجناد بالسلاح والزينة التامّة، وأدّيا الرسالة إليه؛ ثمّ إنّهما دخلا على المقتدر، وقد جلس لهما، واصطفّ الأجناد بالسلاح والزينة التامّة، وأدّيا الرسالة، فأجابهما المقتدر إلى ما طلب ملك الروم من الفداء، وسيّر مؤنساً الخادم ليحضر الفداء، وجعله أميراً على كلّ بلد يدخله يتصرّف فيه على ما يريد إلى أن يخرج عنه، وسيّر معه جمعاً من الجنود، وأطلق لهم أرزاقاً واسعة، وأنفذ معه مائة ألف وعشرين ألف دينار لفداء أسرى المسلمين، وسار مؤنس والرسل، وكان الفداء على يد مؤنس.
وفيها أُطلق أبو الهيجاء عبدالله بن حمدان، وإخوته، وأهل بيته من الحبس، وكانوا محبوسين بدار الخليفة، وقد تقدّم ذكر حبسهم وسببه.
وفيها مات العبّاس بن عمرو الغنويُّ وكان متقلّداً أعمال الحرب بديار مضر، فجُعل مكانه وصيف البكتمريُّ، فلم يقدر على ضبط العمل، فعُزل، وجُعل مكانه جنّي الصفوانيُّ، فضبطه أحسن ضبط.
وفي هذه السنة كانت بالبصرة فتنة عظيمة، وسببها أنّه كان الحسن ابن الخليل بن رمال متقلّداً أعمال الحرب بالبصرة، وأقام بها سنين، وجرت بينه وبين العامّة من مضر وربيعة فتن كثيرة، وسكنت، ثمّ ثارت بينهم فتنة اتّصلت، فلم يمكنه الخروج من منزله برحبة بني نمر، واجتمع الجند كلّهم معه، وكان لا يوجد أحد منهم في طريق إلاّ قُتل، حتّى حوصرت، وغُوّرت القناة التي يجري فيها الماء إلى بني نُمير، فاضطّر إلى الركوب إلى المسجد الجامع، فقتل من العامّة خلقاً كثيراً.
فلمّا عجز عن إصلاحهم خرج هو ومعه الأعيان من أهل البصرة إلى واسط، فعُزل عنها، واستعمل أبو دلف هاشم بن محمّد الخزاعيُّ عليها فبقي نحو سنة وصُرف عنها، ووليها سُبُك المفلحيُّ نيابة عن شفيع المقتدريّ.
وفيها عُقد لثمال الخادم على الغزاة في بحر الروم، وسار.
وفيها غزا جنّي الصفوانيُّ بلاد الروم، فغنم ونهب وسبَى وعاد سالماً.
وفي هذه السنة مات أبو خليفة المحدّثُ البصريُّ.
وفيها، في جُمادى الأولى، مات أبو جعفر بن محمّد بن عثمان العسكريُّ المعروف بالسَّمّان، ويُعرف أيضاً بالعمريّ، رئيس الإماميّة، وكان يدّعي أنّه الباب إلى الإمام المنتظر، وأوصى إلى أبي القاسم بن الحسين بن روح.
وفي آخرها توفّي أحمد بن محمّد بن شُريح وكان عالماً بمذهب الشافعيَّ.
ثم دخلت سنة ست وثلاثمائة
ذكر عزل ابن الفراتووزارة حامد بن العبّاس
في هذه السنة، في جُمادى الآخرة، قُبض على الوزير أبي الحسن بن الفرات، وكانت مدّة وزارته هذه، وهي الثانية، سنة واحدة وخمسة أشهر وتسعة عشر يوماً.
وكان سبب ذلك أنّه أخّر إطلاق أرزاق الفرسان، واحتجّ عليهم بضيق الأموال، وأنّها أُخرجت في محاربة ابن أبي الساج، وأنّ الارتفاع نقص بأخذ يوسف أموال الريّ وأعمالها، فشغب الجند شغباً عظيماً، وخرجوا إلى لمصلّى، والتمس ابن الفرات من المقتدر إطلاق مائتَيْ ألف دينار من بيت المال الخاص ليضيف إليها مائتَيْ ألف دينار يحصلها، ويصرف الجميع في أرزاق الجند، فاشتدّ ذلك على المقتدر، وأرسل إليه: إنّك ضمنتَ أنّك ترضي جميع الأجناد، وتقوم بجميع النفقات الراتبة على العادة الأولى وتحمل بعد ذلك ما ضمنت أنّك تحمله يوماً بيوم، فأراك تطلب من بيت المال الخاص؛ فاحتجّ بقلّة الارتفاع، وما أخذه ابن أبي الساج من الارتفاع وما خرج على محاربته؛ فلم يسمع المقتدر حجّته وتنكّر له عليه.
وقيل: كان سبب قبضة أنّ المقتدر قيل له: إنّ ابن الفرات يريد إرسال الحسين بن حمدان إلى ابن أبي الساج ليحاربه، وإذا صار عنده اتّفقا عليك؛ ثمّ إنّ ابن الفرات قال للمقتدر في إرسال الحسين إلى ابن أبي الساج، فقتل ابنَ حمدان في جمادى الأولى، وقبض على ابن الفرات في جمادى الآخرة.
ثمّ إنّ بعض العُمّال ذكر لابن الفرات ما يتحصّل لحامد بن العبّاس من أعمال واسط زيادة على ضمانه، فاستكثره، وأمره أن يكاتبه بذلك، فكاتبه، فخاف حامد أن يؤخذ ويطالب بذلك المال، فكتب إلى نصر الحاجب وإلى والدة المقتدر، وضمن لهما مالاً ليتحدّثا له في الوزارة، فذكر للمقتدر حاله وسعة نفسه، وكثرة أتباعه، وأنّه له أربع مائة مملوك يحملون السلاح؛ واتّفق ذلك عند نفرة المقتدر عن ابن الفرات، فأمره بالحضور من واسط، فحضر، وقبض على ابن الفرات وولده المحسن وأصحابهما وأتباعهما.
ولّما وصل حامد إلى بغداد أقام ثلاثة أيّام في دار الخليفة، فكان يتحدّث مع الناس، ويضاحكهم، ويقوم لهم، فبان للخدم ولأبي القاسم بن الحواريّ وحاشية الدار قلّة معرفته بالوزارة، وقال له حاجبه: يا مولانا ! الوزير يحتاج إلى لُبْسه، وجَلْسه، وعَبْسه؛ فقال له: تعني أن تلبس، وتقعد، فلا تقوم لأحد، ولا تضحك في وجه أحد، ولا تحدّث أحداً ؟ قال: نعم.
قال حامد: إنّ الله أعطاني وجهاً طلقاً، وخَلقاً حسناً، وما كنتُ بالذي أعبس وجهي، وأقبح خَلقي لأجل الوزارة؛ فعابوه عند المقتدر، ونسبوه إلى الجهل بأمور الوزارة، فأمر المقتدر بإطلاق عليّ بن عيسى من محبسه، وجعله يتولّى الدواوين شبه النائب عن حامد، فكان يراجعه في الأمور ويصدر عن رأيه، ثمّ إنّه استبدّ بالأمر دون حامد، ولم يبق لحامد غير اسم الوزارة ومعناها لعليّ، حتّى قيل فيهما:
هذا وزيرٌ بلا سوادٍ ... وذا سوادٌ بلا وزير
ثمّ أنّ حامداً أحضر ابن الفرات ليقابله على أعماله، ووكّل بمناظرته عليَّ ابن أحمد المادرائي ليصحّح عليه الأموال، فلم يقدر على إثبات الحجّة عليه، فانتدب له حامد، وسبّه، ونال منه، وقام إليه فلكمه.
وكان حامد سفيهاً فقال له ابن الفرات: أنت على بساط السلطان، وفي دار المملكة، وليس هذا الموضع ممّا تعرفه من بَيْدَرٍ تقسمه، أو غلّة تستفضل في كيلها، ولا هو مثل أكار تشتمه؛ ثمّ قال لشفيع اللؤلؤيّ: قل لأمير المؤمنين عني أنّ حامداً إنّما حمله على الدخول في الوزارة، وليس من أهلها، إنّني أوجبت عليه أكثر من ألفَيّ ألف دينار من فضل ضمانه، وألححت في مطالبته بها، فظنّ أنّها تندفع عنه بدخوله في الوزارة، وأنه يضيف إليها غيرها، فاستشاط حامد، وبالغ في شتمه، فأنفذ المقتدر، فأقام ابن الفرات من مجلسه، وردّه إلى محبسه، وقال عليُّ بن عيسى، ونصر الحاجب لحامد: قد جنَيتَ علينا وعلى نفسك جناية عظيمة بما فعلتَه بابن الفرات، وأيقظت منه شيطاناً لا ينام.
ثمّ إنّ ابن الفرات صودر على مال عظيم، وضرب ولده المحسن وأصحابه، وأخذ منهم أموالاً جمة.
وفي هذه السنة عُزل نِزال عن شُرطة بغداد، وجُعل فيها نجح الطولونيُّ، وجُعل في الأرباع فقهاء يكون عمل أصحاب الشُّرطة بفتواهم، فضعفت هيبة السلطنة بذلك، وطمع اللصوص والعيّارون، وكثرت الفتن وكُبست دور التجار، وأُخذت بنات الناس في الطريق المنقطعة، وكثر المفسدون.
ذكر إرسال المهديّ العلويّ العساكر إلى مصر
وفي هذه السنة جهّز المهديُّ صاحب إفريقية جيشاً كثيفاً مع ابنه أبي القاسم، وسيّرهم إلى مصر، وهي المرّة الثانية، فوصل إلى الإِسكندريّة في ربيع الآخر سنة سبع وثلاثمائة، فخرج عامل المقتدر عنها، ودخلها القائم، ورحل إلى مصر، فدخل الجيزة، وملك الأشمونين وكثيراً من الصعيد، وكتب إلى أهل مكّة يدعوهم إلى الدخول في طاعته فلم يقبلوا منه.
ووردت بذلك الأخبار إلى بغداد، فبعث المقتدر بالله مؤنساً الخادم في شعبان، وجدّ في السير فوصل إلى مصر، وكان بينه وبين القائم عدّة وقعات، ووصل من إفريقية ثمانون مركباً نجدةً للقائم، فأرست بالإِسكندريّة، وعليها سليمان الخادم، ويعقوب الكُتاميُّ، وكانا شجاعين، فأمر المقتدر بالله أنّ يسيّر مراكب طَرَسُوس إليهم، فسار خمسة وعشرون مركباً، وفيها النفط والعُدد، ومقدّمها أبو اليمن، فالتقت المراكب بالمراكب، واقتتلوا على رشيد، فظفر أصحاب مراكب المقتدر، وأحرقوا كثيراً من مراكب إفريقية، وهلك أكثر أهلها، وأُسر منهم كثير، وفي الأسرى سليمان الخادم، ويعقوب، فقُتل من الأسرى كثير، وأُطلق كثير، ومات سليمان في الحبس بمصر، وحُمل يعقوب إلى بغداد، ثمّ هرب منها وعاد إلى أفريقية.
وأمّا عسكر القائم فكان بينه وبين مؤنس وقعات كثيرة، وكان الظفر لمؤنس فلُقّب حينئذ بالمظفَّر.
ووقع الوباء في عسكر القائم، والغلاء، فمات منهم كثير من الناس والخيل، فعاد من سلم إلى إفريقية. وسار عسكر مصر في أثرهم، حتّى أبعدوا، فوصل القائم إلى المهديّة في رجب من السنة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا بشر الأفشينيُّ بلاد الروم، فافتتح عدّة حصون، وغنم، وسلم؛ وغزا ثمل في بحر الروم، فغنم، وسبى، وعاد؛ وكان على الموصل أبو أحمد بن حماد الموصليُّ.
وفيها دخل جنّيّ الصفوانيُّ بلاد الروم، فنهب، وخرّب، وأحرق، وفتح وعاد، فقرئت الكتب على المنابر ببغداد بذلك.
وفيها وقعت فتنة ببغداد بين العامّة والحنابلة، فأخذ الخليفة جماعة منهم وسيّرهم إلى البصرة فحُبسوا.
وفيها أمر المقتدر ببناء بيمارستان، فبُني، وأُجري عليه النفقات الكثيرة، وكان يسمّى البيمارستان المقتدريّ.
وفيها توفّي القاضي محمّد بن خلف بن حيّان أبو بكر الضَّبّيُّ المعروف بوكيع، وكان عالماً بأخبار الناس وغيرها، وله تصانيف حسنة؛ والقاضي أبو العبّاس أحمد بن عمر بن سريج الفقيه الشافعيُّ وله سبع وخمسون سنة.
وفيها مات كُنَيْز المغنّي، وهو مشهور بالحذق في الغناء. كُنيز بضمّ الكاف وفتح النون وآخرها زاي.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثمائةفي هذه السنة ضمن حامد بن العبّاس أعمال الخراج، والضياع الخاصّة، والعامّة، والمستحدثة، والفراتيّة بسواد بغداد، والكوفة، وواسط، والبصرة، والأهواز، وأصبهان.
وسبب ذلك أنّه لمّا رأى أنّه قد تعطّل عن الأمر والنهب وتفرّد به عليُّ ابن عيسى شرع في هذا ليصير له حديث وأمر ونهي، واستأذن المقتدر في الانحدار إلى واسط ليدبّر أمر ضمانه الأوّل، فأذن له في ذلك، فانحدر إليها واسم الوزارة عليه، وعليُّ بن عيسى يدبّر الأمور، وأظهر حامد زيادة ظاهرة في الأموال، وزاد زيادة متوفّرة، فسُرّ المقتدر بذلك، وبسط يد حامد في الأعمال، حتّى خافه عليُّ بن عيسى.
ثمّ إنّ السعر تحرّك ببغداد، فثارت العامّة والخاصّة لذلك، واستغاثوا، وكسروا المنابر، وكان حامد يخزن الغلال، وكذلك غيره من القوّاد، ونُهبت عدّة من دكاكين الدقّاقين، فأمر المقتدر بإحضار حامد بن العبّاس، فحضر من الأهواز، فعاد الناس إلى شغبهم، فأنفذ حامد لمنعهم، فقاتلوهم، وأحرقوا الجسرين، وأخرجوا المحبَّسين من السجون، ونهبوا دار صاحب الشُّرطة، ولم يتركوا له شيئاً، فأنفذ المقتدر جيشاً مع غريب الخال، فقاتل العامّة، فهربوا من بين يديه، ودخلوا الجامع بباب الطاق، فوكّل بأبواب الجامع، وأخذ كلّ من فيه فحبسهم، وضرب بعضهم،، وقطع أيدي من يُعرف بالفساد.
ثمّ أمر المقتدرُ من الغد، فنودي في الناس بالأمان، فسكنت الفتنة، ثمّ إنّ حامداً ركب إلى دار المقتدر في الطيّار، فرجمه العامّة، ثمّ أمر المقتدرُ بتسكينهم فسكنوا، وأمر المقتدرُ بفتح مخازن الحنطة والشعير التي لحامد، ولأمّ المقتدر، وغيرهما، وبيع ما فيها، فرخصت الأسعار، وسكن الناس، فقال عليُّ بن عيسى للمقتدر: إنّ سبب غلاء الأسعار إنما هو ضمان حامد لأنّه منع من بيع الغلال في البيادر وخزنها، فأمر بفسخ الضمان عن حامد، وصرف عُمّاله عن السواد، وأمر عليَّ بن عيسى أن يتولّى ذلك، فسكن الناس واطمأنّوا؛ وكان أصحاب حامد يقولون إنّ ذلك الشغب كان بوضع من عليّ بن عيسى.
ذكر أمر أحمد بن سهلفي هذه السنة ظفر الأمير نصر بن أحمد صاحب خراسان وما وراء النهر بأحمد بن سهل، ونحن نذكر حاله من أوّله.
كان أحمد بن سهل هذا من كبار قوّاد الأمير إسماعيل بن أحمد، وولده أحمد بن إسماعيل، وولده نصر بن أحمد، وقد تقدّم من ذكر تقدُّمه على الجيوش في الحروب ما يدلّ على علوّ منزلته.
وهو أحمد بن سهل بن هاشم بن الوليد بن جبَلة بن كامكار بن يزدجرد ابن شهريار الملك، وكان كامكار دهقاناً بنواحي مرو، وإليه يُنسب الورد الكامكاريُّ، وهو الشديد الحمرة، وهو الذي يسمّى بالرَّيّ القصرانيّ، وبالعراق والجزيرة والشام الجُوريّ، يُنسب إلى قصران، وهي قرية بالرَّيّ، وإلى مدينة جور، وهي من مدن فارس.
وكان لأحمد إخوة يقال لهم محمّد، والفضل، والحسين، قُتلوا في عصبية العرب والعجم بمَرو، وكان أحمد خليفة عمرو بن الليث على مَرو، فقبض عليه عمرو، ونقله إلى سِجِسْتان، فحبسه بها، فرأى وهو في السجن كأنّ يوسف النبيّ، عليه السلام، على باب السجن، فقال له: ادعُ الله أن يخلّصني ويولّيني ! فقال له: قد أذن الله في خلاصك، لكنّك لا تلي عملاً برأسك.
ثمّ إنّ أحمد طلب الحمّام فأُدخل إليه، فأخذ النورة فطلى بها رأسه ولحيته فسقط شعره، وخرج من الحمّام ولم يعرفه أحد، فاختفى، فطلبه عمرو فلم يظفر به، ثمّ خرج من سِجِسْتان نحو مرو، فقبض على خليفة عمرو واستولى عليها، واستأمن إلى إسماعيل بن أحمد بخارى، فأكرمه، وقدّمه، ورفع قدره، وكان عاقلاً كتوماً لأسراره.
فلمّا عصى الحسين بن عليّ سيّر إليه أحمد، فظفر به على ما ذكرناه، وضمن له الأمير نصر أشياء لم يفِ له بها، فاستوحش من ذلك، فأتاه يوماً بعض أصحاب أبي جعفر صعلوك، فحادثه، فأنشده أحمد بن سهل، وقد ذكر حاله، وأنّهم لم يفوا له بما وعدوه:
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتَني ... يميَنك، فانظر أيّ كفّيْك تُبدلُ
وفي الناس أن رثّت حبالُك واصلٌ ... وفي الأرض عن دار العُلى متحوَّلُ
إذا أنت لم تُنصفْ أخاك وجدتَه ... على طرَف الهِجران إن كان يعقِلُ
وتركبُ حدّ السيفِ من أن تُضيمَه ... إذا لم يكن عن شَفرَةِ السيفِ مرحلُ
إذا انصرفتْ نفسي عن الشيء لم تكدْ ... إليه بوجهٍ، آخرَ الدهرِ، تُقُبِلُ
قال: فعلمت أنّه قد أضمر المخالفة، فلم تمض إلا أيّام حتّى خالفه بنَيسابور واستولى عليها وأسقط خطبة السعيد نصر بن أحمد، وأنفذ رسولاً إلى بغداد يخطب له أعمال خُراسان.
وسار من نَيسابور إلى جُرجان وبها قراتكين، فحاربه، واستولى عليها، وأخرج قراتكين عنها، ثمّ عاد إلى خُراسان، وقصد مرو فاستولى عليها، وبنى عليها سوراً وتحصّن بها، فأرسل إليه السعيد نصر الجيوش مع حموية بن عليّ من بخارى، فوافى مرو الرُّوذ، فأقام بنواحيها ليخرج إليه أحمد بن سهل منها، فلم يفعل.
ودخل بعض أصحاب أحمد عليه يوماً، وهو يفكر بعد نزول حموية عليه، فقال له صاحبه: لا شكّ أنّ الأمير مشغول القلب لهذا الخطب، فما هو رأي الأمير ؟ فقال: ليس بي ما تظنّ، ولكن ذكرتُ رؤيا رأيتُها في حبس سِجِسْتان، وذكر قول يوسف الصِّدِّيق، عليه السلام: إنّك لا تلي عملاً برأسك. قال: فقلت له: إنّ القوم يغتنمون سلمك، ويعطونك ما تريد، فإن رأيت أن يتوسّط الحال فعلنا؛ فأنشد:
سأغسلُ عنّي العارَ بالسيفِ جالباً ... عليَّ قضاءُ الله ما كانَ جالبا
ولّما رأى حموية أنّه لا يخرج إليه من مرو عمل الحيلة في ذلك، فجعل يقول: قد أدخلتُ ابن سهل في جحر فأرٍ، وسددتُ عليه وجوه الفرار؛ وأشباه هذا من الكلام ليغضب أحمد فيخرج، فلم يفعل ذلك، فحينئذ أمر حموية جماعة من ثقات قوّاده، فكاتبوا أحمد بن سهل سرّاً، وأظهروا له الميل، ودعوه إلى الخروج من مَرْو ليسلّموا إليه حموية، فأجابهم إلى ذلك، لما في نفسه من الغيظ على حموية، فخرج عن مَرْو نحو حموية، فالتقوا على مرحلة من مرو الرُّوذ في رجب سنة سبع وثلاثمائة، فانهزم أصحاب أحمد، وحارب هو إلى أن عجزت دابّته، فنزل عنها واستأمن، فأخذوه أسيراً، وأنفذوه إلى بخارى، فمات بها في الحبس في ذي الحجّة من سنة سبع وثلاثمائة.
وكان الأمير احمد بن إسماعيل بن أحمد يقول: لا ينبغي لأحمد بن سهل أن يغيب عن باب السلطان، فإنّه أن غاب عنه أثار شغلاً عظيماً، كأنّه كان يتوسّم فيه ما فعل، فهكذا ينبغي أن تكون فراسة الملك.
ذكر عدّة حوادث
في هذه السنة وقع حريق بالكرخ من بغداد، فاحترق فيه كثير من الدور والناس.
وفيها قُلّد إبراهيم بن حمدان ديار ربيعة، وقُلّد بنّيّ بن نفسي شهرزور، فامتنعت عليه، فاستمدّ المقتدر، فسيّر إليه جيشاً، فحصرها ولم يفتحها، وقُلّد القتال بالموصل وأعمالها.
وفيها أوقع ثمل متولِّي الغزو في البحر بمراكب للمهديّ العلويّ، صاحب إفريقية، وقتل جماعة ممّن فيها، وأسر خادماً له.
وفيها انقضّ كوكب عظيم فاشتدّ ضوءُه وعظم، وتفرّق ثلاث فرق، وسمع عند انقضاضه مثل صوت الرعد الشديد، ولم يكن في السماء غيم.
وفيها كانت فتنة بالموصل بين أصحاب الطعام وبين الأساكفة، واحترق سوق الأساكفة وما فيه، وكان الوالي على الموصل وأعمالها العبّاس بن محمّد بن إسحاق بن كنداج، وكان خارجاً عن البلد، فسمع بالفتنة، فرجع ليوقع بأهل الموصل، فعزموا على قتاله، وحصنوا البلد، وسدّوا الدروب، فلمّا علم بذلك ترك قتالهم، وأمر الأعراب بتخريب الأعمال، فصاروا يقطعون الطريق على الجسر وفي الميدان، ويقاسمونه، فخرب البلد، فبلغ الخبر إلى الخليفة، فعزله سنة ثمان وثلاثمائة، واستعمل بعده عبدالله بن محمّد الفتّان، وكان عفيفاً، صارماً، كفّ الأعراب عن البلد.
وفيها توفّي أبو يعلى أحمد بن عليّ بن المُثنّى الموصليُّ، صاحب المسند بها.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثمائةفي هذه السنة خلع المقتدر على أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان، وقُلّد طريق خُراسان والدِّيَنور، وخلع على أخويه أبي العلاء وأبي السرايا.
وفيها وصل رسول أخي صعلوك بالمال، والهدايا، والتُّحف، ويخبر باستمراره على الطاعة للمقتدر بالله.
وفيها توفّي إبراهيم بن حَمدان في المحرم.
وفيها قُلّد بدر الشرابيُّ دقوقا، وعُكْبَرا، وطريق الموصل.
وفيها توفّي إبراهيم بن محمّد بن سفيان صاحب مسلم بن الحجّاج، ومن طريقه يُروى صحيح مسلم إلى اليوم.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثمائةذكر قتل ليلى بن النُّعمان الديلميّ
في هذه السنة قُتل ليلى بن النُّعمان الديلميُّ، وكان ليلى هذا أحد قوّاد أولاد الأُطروش العلويّ، وكان إليه ولاية جُرجان، وكان قد استعمله عليها الحسن ابن القاسم الداعي سنة ثمان وثلاثمائة، وكان أولاد الأُطروش يكاتبونه: المؤيِّد لدين الله المنتصر لآل رسول الله، صلى الله علية وسلم، ليلى بن النُّعمان؛ وكان كريماً، بذّالاً للأموال، شجاعاً، مقداماً على الأهوال.
وسار من جُرجان إلى الدَّامغان، فحاربه أهلها، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وعاد إلى جُرجان، فابتنى أهل الدَّامغان حصناً يَحميهم، وسار قراتكين إليه بجُرجان، فحاربه على نحو عشرة فراسخ من جُرجان، فانهزم قراتكين، واستأمن غلامه بارس إلى ليلى ومعه ألف فارس، فأكرمه ليلى، وزوّجه أخته، واستأمن إليه أبو القاسم بن حفص ابن أخت أحمد بن سهل، فأكرمه ليلى.
ثمّ إنّ الأجناد كثروا على ليلى بن النعمان، فضاقت الأموال عليه، فسار نحو نَيسابور بأمر الحسن بن القاسم الداعي، وتحريض أبي القاسم بن حفص، وكان بها قراتكين، فوردها في ذي الحجّة سنة ثمان وثلاثمائة، وأقام بها الخطبة للداعي، وأنفذ السعيد نصر من بخارى إليه حموية بن عليّ، فالتقوا بطوس، واقتتلوا، فانهزم أكثر أصحاب حموية بن عليّ حتّى بلغوا مَرْو، وثبت حموية، ومحمّد بن عبدالله البلغميُّ، وأبو جعفر صعلوك، وخوارزم شاه، وسيمجور الدواتيُّ فاقتتلوا، فانهزم بعض أصحاب ليلى، ومضى ليلى منهزماً، فدخل ليلى سكّة لم يكن له فيها مخرج، ولحقه بغرا فيها، فلم يقدر ليلى على الهرب، فنزل وتوارى في دار، فقبض عليه بغرا، وأنفذ إلى حمويه فأعلمه بذلك، فأنفذ من قطع رأس ليلى، ونصبه على رمح، فلمّا رآه أصحابه طلبوا الأمان فأُمّنُوا.
ثمّ قال حموية للجند: قد مكّنكم الله من شياطين الجيل والدَّيلم، فأبيدوهم واستريحوا منهم أبد الدهر؛ فلم يفعلوا، وحامى كلّ قائد جماعة، فخرج منهم من خرج بعد ذلك، وكان قتل ليلى في ربيع الأوّل سنة تسع وثلاثمائة، وحُمل رأسه إلى بغداد، وبقي بارس غلام قراتكين بجرجان.
وقيل إنّ حموية لمّا سار إلى قتال ليلى قيل له: أنّ ليلى يستبطئك في قصده، فقال: إنّي البس أحدَ خُفَّيّ للحرب العامَ، والآخر في العام المقبل؛ فبلغ قوله ليلى، فقال: لكنّي ألبس أحد خُفّيّ للحرب قاعداً، والثاني قائماً وراكباً، فلمّا قُتل قال حموية: هكذا مَن تعجّل إلى الحرب.
ذكر قتل الحسين الحلاّج
في هذه السنة قُتل الحسين بن منصور الحلاّج الصوفيُّ وأُحرق، وكان ابتداء حاله أنّه كان يُظهر الزهد والتصوّف، ويُظهر الكرامات، ويخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، ويمدّ يده إلى الهواء فيعيدها مملوءة دراهم عليها مكتوب: (قل هو الله أحد)، ويسمّيها دراهم القدرة، ويخبر الناس بما أكلوه، وما صنعوه في بيوتهم، ويتكلّم بما في ضمائرهم، فافتتن به خلق كثير واعتقدوا فيه الحلول، وبالجملة فإنّ الناس اختلفوا فيه اختلافهم في المسيح، عليه السلام، فَمِنْ قائل أنّه حلّ فيه جزء ألهيّ، ويدّعي فيه الربوبيّة، ومِن قائل أنّه وليّ الله تعالى، وإنّ الذي يظهر منه من جملة كرامات الصالحين، ومِن قائل إنّه مشعبذ، وممَخرق، وساحر كذّاب، ومتكهّن، والجنّ تطيعه فتأتيه بالفاكهة في غير أوانها.
وكان قدم من خُراسان إلى العراق وسار إلى مكّة فأقام بها سنة في الحجر لا يستظلّ تحت سقف شتاءً ولا صيفاً، وكان يصوم الدهر، فإذا جاء العشاء أحضر له القوّام كوز ماء، وقرصاً، فيشربه، وبعض من القرص ثلاث عضّات من جوانبه، فيأكلها ويترك الباقي فيأخذونه، ولا يأكل شيئاً آخر إلى الغد آخر النهار.
وكان شيخ الصوفيّة يومئذ بمكّة عبدالله المغربيّ، فأخذ أصحابه ومشى إلى زيارة الحلاّج، فلم يجده في الحجر، وقيل له: قد صعد إلى جبل أبي قُبَيس؛ فصعد إليه، فرآه على صخرة حافياً، مكشوف الرأس، والعرق يجري منه إلى الأرض، فأخذ أصحابه وعاد ولم يكلّمه، فقال: هذا يتصبّر ويتقوّى على قضاء الله، سوف يبتليه الله بما يعجز عنه صبره وقدرته؛ وعاد الحسين إلى بغداد.
وأمّا سبب قتله فإنّه نُقل عنه عند عوده إلى بغداد إلى الوزير حامد ابن العبّاس أنّه أحيا جماعة، وأنّه يحيي الموتى، وأنّ الجنّ يخدمونه، وأنّهم يُحضرون عنده ما يشتهي، وأنّه قد موّه على جماعة من حواشي الخليفة، وأنّ نصراً الحاجب قد مال إليه وغيره، فالتمس حامد الوزير من المقتدر بالله أن يسلّم إليه الحلاّج وأصحابه، فدفع عنه نصر الحاجب، فألحّ الوزير، فأمر المقتدر بتسليمه إليه، فأخذه، وأُخذ معه إنسان يُعرف بالشمريّ، وغيره، قيل إنّهم يعتقدون أنّه إلهٌ، فقرّرهم، فاعترفوا أنّهم قد صحّ عندهم أنّه إلهٌ، وأنّه يحيي الموتى، وقابلوا الحلاّج على ذلك، فأنكره وقال: أعوذ بالله أن ادّعي الربوبيّة، أبو النّبّوة، وإنّما أنا رجل أعبد الله، عزّ وجلّ! فأحضر حامد القاضي أبا عمرو والقاضي أبا جعفر بن البهلول، وجماعة من وجوه الفقهاء والشهود، فاستفتاهم، فقالوا: لا يفتى في أمره بشيء، إلاّ أن يصحّ عندنا ما يوجب قتله، ولا يجوز قبول قول مَن يدّعي عليه ما ادعاه إلا ببيّنة إقرار.
وكان حامد يخرج الحلاّج إلى مجلسه، ويستنطقه، فلا يظهر منه ما تكرهه الشريعة المطهرة.
وطال الأمر على ذلك وحامد الوزير مجدّ في أمره، وجرى له معه قصص يطول شرحها، وفي آخرها أنّ الوزير رأى له كتاباً حكى فيه أنّ الإنسان إذا أراد الحجّ، ولم يمكنه، أفرد من داره بيتاً لا يلحقه شيء من النجاسات، ولا يدخله أحد، فإذا حضرت أيّام الحجّ طاف حوله، وفعل ما يفعله الحاجّ بمكّة، ثمّ يجمع ثلاثين يتيماً، ويعمل أجود طَعامٍ يمكنه، ويُطعمُهُم في ذلك البيت، ويَخدُمهم بنفسه، فإذا فرغوا كساهم، وأعطى كلّ واحد منهم سبعة دراهم، فإذا فعل ذلك كان كمَنْ حجّ.
فلمّا قرئ هذا على الوزير قال القاضي أبو عمرو للحلاّج: من أين لك هذا ؟ قال: من كتاب الإخلاص للحسن البصريّ؛ قال له القاضي: كذبتَ يا حلالَ الدم ! قد سمعناه بمكّة وليس فيه هذا؛ فلمّا قال له: يا حَلالَ الدمِ، وسمعها الوزير قال له: اكتب بهذا؛ فدافعه أبو عمرو، فألزمه حامد، فكتب بإباحة دمه، وكتب بعده من حضر المجلس.
ولّما سمع الحلاّج ذلك قال: ما يحلّ لكم دمي واعتقادي الإسلام ومذهبي السُّنّة، ولي فيها كتب موجودة، فالله الله في دمي ! وتفرّق الناس.
وكتب الوزير إلى الخليفة يستأذنه في قتله، وأرسل الفتاوى إليه، فأذن في قتله، فسلّمه الوزير إلى صاحب الشّرطة، فضربه ألف سوط فما تأوّه، ثمّ قطع يده، ثم رجله، ثم يده، ثمّ رجله، ثمّ قُتل وأُحرق بالنار، فلمّا صار رماداً أُلقي في دجلة، ونصب الرأس ببغداد، وأُرسل إلى خُراسان لأنّه كان له بها أصحاب، فأقبل بعض أصحابه يقولون: إنّه لم يُقتل، وإنّما أُلقي شبه على دابّة، وإنّه يجيء بعد أربعين يوماً؛ وبعضهم يقول: لقيتُه على حمار بطريق النَّهروان، وإنّه قال لهم: لا تكونوا مثل هؤلاء البقر الذي يظنّون أنّي ضُربت وقُتلتُ.
ذكر عدّة حوادث
وفيها، في ربيع الأوّل، وقع حريق كبير في الكرخ، فاحترق فيه بشر كثير.
وفيها استعمل المقتدر على حرب الموصل ومعونتها محمّد بن نصر الحاجب، في جُمادى الأولى، وسار إلها فيه، فلمّا وصل إليها أوقع بمن خالفه من الأكراد المارانيّة، فقتل، وأسر، وأرسل إلى بغداد نيّفاً وثمانين أسيراً، فشُهروا.
وفيها قُلّد داود بن حمدان ديار ربيعة.
وفيها توفّي أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن سهل بن عطاء الآدميُّ الصوفيُّ من كبار مشايخهم وعُمائهم، وأبو إسحاق إبراهيم بن هارون الحرّانيُّ الطبيب، وأبو محمّد عبدالله بن حمدون النديم.
ثم دخلت سنة عشر وثلاثمائة
ذكر حرب سيمجور
مع أبي الحسين بن العلويّ
قد ذكرنا قتل ليلى بن النُّعمان، وأنّ جُرجان تخلّف بها بارس غلام قراتكين، فلمّا قُتل ليلى بن النُّعمان عاد قراتكين إلى جُرجان، فاستأمن إليه غلامه ارس، فقتله قراتكين، وانصرف عن جُرجان، وقدمها أبو الحسين ابن الحسن بن عليّ الأُطروش العلويّ، الملقّب والده بالناصر، وأقام بها، فأنفذ إليه السعيد نصر بن أحمد سيمجورَ الدواتيَّ في أربعة آلاف فارس، فنزل على فرسخين من جُرجان، وحاصر أبا الحسين نحو شهر من هذه السنة.
وخرج إليه أبو الحسين في ثمانية آلاف رجل من الدَّيلم، والجُرجانيّة، وصاحب جيشه سُرخاب بن وهسوذان ابن عمّ ما كان بن كالي الديلميّ، فتحاربا حرباً عظيمة، وكان سيمجور قد جعل كميناً من أصحابه، فأبطأوا عنه، فانهزم سيمجور، ووقع أصحاب أبي الحسين في عسكر سيمجور، واشتغلوا بالنهب والغارة، فخرج عليهم الكمين بعد الظفر، فقتلوا من الديلم والجُرجانيّة نحو أربعة آلاف رجل، وانهزم أبو الحسين، وركب في البحر ثمّ عاد إلى أسّتراباذ، واجتمع إليه فلّ أصحابه.
وكان سُرخاب قد تبع سيمجور في هزيمته، فلمّا عاد رأى أصحابه مقتّلين مشرّدين، فسار إلى استراباذ، واستصحب معه عيال أصحابه ومخلّفيهم، وأقام بها مع أبي الحسين بن الناصر، ثم سمع سيمجور بظفر أصحابه، فعاد إليهم، وأقام بجرجان، ثمّ اعتلّ سُرخاب ومات، ورجع ابن الناصر إلى سارية، واستخلف ما كانَ بن كالي على استراباذ، فاجتمع إليه الديلم، وقدّموه، وأمّروه على أنفسهم.
ثمّ سار محمّد بن عبيد الله البلغميُّ وسيمجور إلى باب استراباذ، وحاربوا ما كان بن كالي، فلمّا طال مقامهم اتّفقوا معه على أن يخرج عن استراباذ إلى سارية، وبذلوا له على هذا مالاً ليظهر للناس أنّهم قد افتتحوها، ثمّ ينصرفون عنها ويعود إليها، ففعل وسار إلى سارية، ثمّ رحلوا عن استراباذ إلى جُرجان، ثمّ إلى نَيسابور، وجعلوا بُغرا باستراباذ، فلمّا ساروا عنها عاد إليها ما كان بن إلى، ففارقها بغرا أليلأ جُرجان، وأساء السيرة في أهلها، وخرج إليه ما كان، فرجع بُغرا إلى نَيسابور، وأقام ما كان بجرجان؛ ونحن نذكر ابتداء حال ما كان، وننقلها عند قتله سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
ذكر خروج إلياس بن إسحاق بن أحمد بن أسد السامانيّ
ثمّ خرج إلياس بن إسحاق بن أحمد، المقدَّم ذكره أنّه خرج مع أبيه، وانهزم إلى فرغانة، فلمّا بلغ فرغانة أقام بها إلى أن خرج ثانياً، واستعان عند خروجه بمحمّد بن الحسين بن متّ، وجمع من الترك، فاجتمع معه ثلاثون ألف عنان، فقصد سَمَرْقَنْد مشاقّاً للسعيد نصر بن أحمد، فسيّر إليه نصر أبا عمرو محمّد بن أسد وغيره في ألفين وخمسمائة رجل، فكمنوا خارج سَمَرْقَنْد يوم ورود إلياس، فلمّا وردها، واشتغل هو ومَن معه بالنزول، خرج الكمين عليه من بين الشجر، ووضعوا السيوف فيهم، فانهزم إلياس وأصحابه، فوصل إلياس إلى فرغانة، ووصل ابن متّ إلى اسبيجاب، ومنها إلى ناحية طراز، فكوتب دهقان الناحية التي نزلها، وأُطمع، وقَبض عليه، وقتلهن وأنفذ رأسه إلى بخارى.
وكان ابن متّ شجاعاً، وكان قد سخّر جمالاً عند خروجه، فجاء أصحابه يطلبونها منه، فقال: سأردّها عليكم ببغداد، يعني أنّه لا يردّ شيئاً من بغداد، ثقةً بكثرة جمعه وقوّته، فجاءت الأقدار بما لم يكن في الحسا.
ثمّ عاد إلياس فخرج مرّة ثالثة، وأعانه أبو الفضل بن أبي يوسف، صاحب الشاش، فسيّر إليه محمّد بن ألِيسَع، فحاربهم، فانهزم إلياس إلى كاشْغَر، وأُسر أبو الفضل، وحُمل إلى بخارى فمات بها.
وأمّا إلياس فصاهر دهقان كاشْغَر طغانتكين، واستقرّ بها، ثمّ وليَ محمّد بن المظفَّر فرغانة، فرجع إليها إلياس بن إسحاق معانداً، فحاربه محمّد ابن المظفَّر، فهزمه مرّة أخرى، فعاد إلى كاشغر، فكاتبه محمّد بن المظفّر، واستماله، ولطف به، فأمن إلياس إليهن وحضره إلى بخارى، فأكرمه السعيد، وصاهره، وأقام معه.
ذكر وفاة محمّد بن جرير الطبريّ
وفي هذه السنة توفّي محمّد بن جرير الطبريُّ، صاحب التاريخ، ببغداد، ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين، ودفن ليلاً بداره، لأنّ العامّة اجتمعت، ومنعت من دفنه نهاراً، وادعو عليه الرفض، ثمّ ادعوا عليه الإلحاد؛ وكان عليٌّ بن عيسى يقولك والله لو سُئِل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه، ولا فهموه، وهكذا ذكره ابن مِسكويه صاحب تجارب الأمم، وحُوشي ذلك الإمام عن مثل هذه الأشياء.
وأمّا ما ذكره عن تعصّب العامّة، فليس الأمر كذلك، وأنّما بعض الحنابلة تعصّبوا عليه، ووقعوا فيه، فتبعهم غيرهم، ولذلك سبَب، وهو أنّ الطبريّ جمع كتاباً ذكر فيه اختلاف الفقهاء، لم يصنف مثله، ولم يذكر فيه أحمد بن حَنبَل، فقيل له في ذلك، فقال: لم يكن فقيهاً، وإنّما كان محدّثاً، فاشتدّ ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد، فشغبوا عليه، وقالوا ما أرادوا:
حَسدوا الفَتى إذ لم ينالوا سَعيّة ... فالناسُ أعداءٌ له وخُصومُ
كضرائرِ الحَسناءِ قُلنَ لِوَجهِها ... حسَداً وبَغياً إنّه لَدَمِيمُ
وقد ذكرت شيئاً من كلام الأئمّة في أبي جعفر يُعلم منه محلّه في العلم، والثقة، وحسن الاعتقاد، فمن ذلك ما قاله الإمام أبو بكر الخطيب، بعد أن ذكر مَن روى الطبريُّ عنه، ومَن روى عن الطبريّ، فقال: وكان أحد أئمّة العلماء يُحكم بقوله، ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسن وطرقها، صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقاويل الصحابة والتابعين، ومَن بعدّهم في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، خبيراً بأيّام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، والكتاب الذي في التفسير لم يصنّف مثله، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، وأخبار من أقاويل الفقهاء؛ وتفرّد بمسائل حُفظتْ عنه.
وقال أبو أحمد الحسين بن عليّ بن محمّد الرازيُّ: أوّل ما سألني الإمام أبو بكر بن خُزَيمة قال لي: كتبتَ عن محمّد بن جرير الطبريّ ؟ قلتُ: لا ! قال: لِمَ ؟ قلتك لا يظهر، وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه؛ فقال: بئس ما فعلت ! ليتك لم تكتب عن كلّ مَن كتبت عنه؛ وسمعت عن أبي جعفر، وقال حسين: واسمه الحسين بن عليّ التميميُّ، عن ابن خُزَيمة نحو ما تقدم.
وقال ابن خُزيمة حين طالع كتاب التفسير للطبريّ: ما أعلم على أديم الأرض أعلم من أبي جعفر، ولقد ظلمتْه الحنابلة.
وقال أبو محمّد عبدالله بن أحمد الفرغانيُّ، بعد أن ذكر تصانيفه: وكان أبو جعفر ممّن لا يأخذه في الله لومة لائم، ولا يعدل، في علمه وتبيانه، عن حقّ يلزمه لربّه للمسلمين، إلى باطل لرغبة ولا رهبة، مع عظيم ما كان يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل، وحاسد، وملحد.
وأمّا أهل الدين والورع فغير منكرين علمه، وفضله، وزهده، وتركه الدنيا مع إقبالها عليه، وقناعته بما كان يرد عليه من قرية خلّفها له أبوه بطبرستان يسيرة؛ ومناقبه كثيرة لا يحتمل ها هنا أكثر من هذا.
ذكر عدة حوادثفيها أطلق المقتدر يوسفَ بن أبي الساج من الحبس بشفاعة مؤنس الخادم وحُمل إليه، ودخل إلى المقتدر، وخلع عليه، ثمّ عقد له على الرّيّ، وقَزوين، وأبهر، وزنجان، وأذربيجان، وقرّر عليه خمسمائة ألف دينار محمولة كلّ سنة إلى بيت المال سوى أرزاق العساكر الذين بهذه البلاد.
وخلع في هذا اليوم على وصيف البكتمريّ، وعلى طاهر ويعقوب ابنَيْ محمّد بن عمرو بن الليث.
وتجهّز يوسف، وضمّ إليه المقتدرُ بالله العساكر مع وصيف البكتمريّ، وسار عن بغداد في جمادى الآخرة إلى أذربيجان، وأمر أن يجعل طريقه على الموصل، وينظر في أمر ديار ربيعة، فقدم إلى الموصل، ونظر في الأعمال، وسار إلى أذربيجان، فرأى غلامه سُبُكاً قد مات.
وفيها قُلّد نازوك الشُّرطة ببغداد.
وفيها وصلت هدية إلى أبي زبور الحسين بن أحمد الماذرائي من مصر وفيها بغلة، ومعها فِلْوٌ يتبعها، ويرضع منها، وغلام طويل اللسان، ويلحق لسانه أرنبة أنفه.
وفيها قبض المقتدر على أمّ موسى القهرمانة، وكان سبب ذلك أنّها زوّجت ابنة أختها من أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن إسحاق بن المتوكّل على الله، وكان محسناً، له نعمة ظاهرة، ومروءة حسنة، وكان يرشّح للخلافة، فلمّا صاهرتْه أكثرت من النثار والدعوات، وخسّرت أموالاً جليلة، فتكلّم أعداؤها، وسعوا بها إلى المقتدر، وقالوا إنّها قد سعت لأبي العبّاس في الخلافة، وحلّفت له القوّاد؛ وكثر القول عليها، فقبض عليها، وأخذ منها أموالاً عظيمة وجواهر نفيسة. وفيها غزا المسلمون في البرّ والبحر، فغنموا وسلموا.
وفيها كان بالموصل شغب من العامّة، وقتلوا خليفة محمّد بن نصر الحاجب بها، فتجهّز العسكر من بغداد إلى الموصل.
وفيها، في جُمادى الآخرة، انقضّ كوكب عظيم له ذنب في المشرق في برج السنبلة، طوله نحو ذراعَينْ.
وفيها سار محمّد بن نصر الحاجب من الموصل إلى الغزاة على قَالِيقَلا، فغزا الروم من تلك الناحية، ودخل أهل طَرَسُوس ملَطْية، فظفروا، وبلغوا من بلاد الروم والظفر بهم ما لم يظنّوه وعادوا.
وفيها توفّي أبو عبد الله محمّد بن العبّاس بن محمّد بن أبي محمّد اليزيديُّ الأديب، أخذ العلم عن ثعلب والرياشيّ. وحج بالناس هذه السنة إسحاق عبد الملك الهاشمي.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وثلاثمائة
ذكر عزل حامد وولاية ابن الفراتفي هذه السنة، في ربيع الآخر، عزل المقتدرُ حامدَ بن العبّاس عن الوزارة، وعليَّ بن عيسى عن الدواوين، وخلع على أبي الحسين بن الفرات، وأعيد إلى الوزارة.
وكان سبب ذلك أن المقتدر ضجر من استغاثة الأولاد، والحُرَم، والخدم والحاشية من تأخير أرزاقهم، فإنّ عليّ بن عيسى كان يؤخّرها، فإذا اجتمع عدّة شهور أعطاهم البعض، وأسقط البعض، وحطّ من أرزاق العمّال في كلّ سنة شهرَيْن، وغيرهم ممّن له رزق، فزادت عداوة الناس له.
وكان حامد بن العبّاس قد ضجر من المُقام ببغداد، وليس إليه من الأمر شيء غير لبس السواد، وأنف من طّراح عليّ بن عيسى بجانبه، فإنّه كان يُهينه في توقيعاته بالإطلاق عليه لضامنه بعض الأعمال، وكان يكتب: ليطلق جهبذ الوزير أعزّه الله، وليبادر نائب الوزير.
وكان إذا شكا إليه بعض نوّاب حامد يكتب على القصّة: إنّما عقد الضمان، على النائب الوزيريّ، عن الحقوق الواجبة السلطانيّة، فليتقدّم إلى عمّاله بكفّ الظلم عن الرعيّة. فاستأذن حامد، وسار إلى واسط لينظر في ضمانه، فأذن له، وجرى بين مفلح الأسود وبين حامد كلام، قال له حامد: لقد هممتُ أن أشتري مائة خادم أسود، وأسمّيهم مُفلحاً، وأهبهم لغلماني؛ فحقده مُفلح، وكان خصّيصاً بالمقتدر، فسعى معه المحسن بن الفرات لوالده بالوزارة، وضمن أموالاً جليلة، وكتب على يد رقعة يقول: أن يُسلّم الوزير، وعليّ بن عيسى، وابن الحواريّ، وشفيع اللؤلؤيّ، ونصر الحاجب، وأمّ موسى القهرمانة، والمادرانيّون يستخرج منهم سبعة آلاف ألف دينار.
وكان المحسن مطلقاً، وكان يواصل السعاية بهؤلاء الجماعة، وذكر ابن الفرات للمقتدر ما كان يأخذه ابن الحواريّ كلّ سنة من المال، فاستكثره، فقبض على عليّ بن عيسى في ربيع الآخر، وسُلّم إلى زيدان القهرمانة، فحبسته في الحجرة التي كان ابن الفرات محبوساً فيها، وأُطلق ابن الفرات، وخُلع عليه، وتولّى الوزارة، وخُلع على ابنه المحسن، وهذه الوزارة الثالثة لابن الفرات.
وكان أبو عليّ بن مقلة قد سعى بابن الفرات، وكان يتقلّد بعض الأعمال أيّام حامد، فحضر عند ابن الفرات، وكان ابن الفرات هو الذي قدّم ابن مقلة، وربّاه، وأحسن إليه، ولّما قيل عنه إنّه سعى به لم يصدق ذلك، حنّى تكرّر ذلك منه.
ثمّ إنّ حامداً صعد من واسط، فسيّر إليه ابن الفرات من يقبض عليه في الطريق وعلى أصحابه، فقبض على بعض أصحابه، وسمع حامد فهرب واختفى ببغداد؛ ثمّ إنّ حامداً لبس زيّ راهب، وخرج من مكانه الذي اختفى فيه، ومشى إلى نصر الحاجب، فاستأذن عليه، فأذن له، فدخل عليه، وسأله إيصال حاله إلى الخليفة، فاستدعى نصر مفلحاً الخادم وقال: هذا يستأذن إلى الخليفة، إذا كان عند حرمه.
فلمّا حضر مُفلح فرأى حامداً قال: أهلاً بمولانا الوزير؛ أين مماليكك السودان الذين سمّيتَ كلّ واحد منهم مُفلحاً ؟ فسأله نصر أن لا يؤاخذه، وقال له: حامد يسأل أن يكون محبسه في دار الخليفة، ولا يُسلّم إلى ابن الفرات.
فدخل مُفلح، وقال ضدّ ما قيل له، فأمر المقتدر بتسليمه إلى ابن الفرات، فأُرسل إليه، فحبسه في دار حسنة، وأجرى عليه من الطعام، والكسوة، والطيب، وغير ذلك ما كان له وهو وزير، ثمّ أحضره، وأحضر الفقهاء والعمّال، وناظره على ما وصل إليه من المال، وطالبه به، فأقرّ بجهات تقارب ألف ألف دينار وضمنه المحسن بن أبي الحسن بن الفرات من المقتدر بخمسمائة ألف دينار، فسلّمه إليه، فعذّبه بأنواع العذاب، وأنفذه إلى واسط مع بعض أصحابه ليبيع ما له بواسط، وأمرهم بأن يسقوه سمّاً، فسقوه سمّاً في بيض مشوي، وكان طلبه، فأصابه إسهال، فلمّا وصل إلى واسط أفرط الإغيام به، وكان قد تسلّمه محمّد بن علي البَزَوْفريُّ، فلما رأى حاله أحضر القاضي والشهود ليشهدوا عليه أن ليس له في أمره صنع، فلمّا حضروا عند حامد قال لهم: إن أصحاب المحسن سقوني سمّاً في بيض مشوي، فأنا أموت منه، وليس لمحمّد في أمري صنع، لكنّه قد أخذ قطعة من أموالي وأمتعتي، وجعل يحشوها في المَساور، وتباع المِسْوَرةُ في السوق بمحضر من أمين السلطان بخمسة دراهم، ووضع عليها مَن يشتريها ويحملها إليه، فيكون فيها أمتعة تساوي ثلاثة آلاف دينار، فاشهدوا على ذلك.
وكان صاحب الخبر حاضراً، فكتب ذلك، وسيّره، وندم البزوفريُّ على ما فعل، ثمّ مات حامد في رمضان من هذه السنة، ثمّ صودر عليُّ بن عيسى بثلاثمائة ألف دينار، فأخذه المحسن بن الفرات ليستوفي منه المال، فعذّبه وصفعه فلم يؤدّ إليه شيئاً.
وبلغ الخبر الوزير أبا الحسن بن الفرات، فأنكر على ابنه ذلك، لأنّ عليّاً كان محسناً إليهم أيّام ولايته، وكان قد أعطى المحسن، وقت نكبته، عشرة آلاف درهم، وأدّى عليُّ بن عيسى مال المصادرة، وسيّره ابن الفرات إلى مكّة وكتب إلى أمير مكّة لِيُسيّره إلى صنعاء، ثمّ قبض ابن الفرات على أبي عليّ بن مقلة، ثمّ أطلقه؛ وقبض على ابن الحواريّ، وكان خِصّيصاً بالمقتدر، وسلّمه إلى ابنه المحسن، فعذّبه عذاباً شديداً، وكان المحسن وقحاً، سيئ الأدب ظالماً، ذا قسوة شديدة، وكان الناس يسمّونه الخبيث بن الطيّب؛ وسيّر ابن الحواريّ إلى الأهواز ليستخرج منه الأموال التي له، فضربه الموكَّل به حتّى مات.
وقبض أيضاً على الحسين بن أحمد، ومحمّد بن عليّ المادرانيّين، وكان الحسين قد تولّى مصر والشام، فصادرهما على ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دينار، ثمّ صادر جماعة من الكتّاب ونكبهم.
ثمّ إنّ ابن الفرات خوّف المقتدر من مؤنس الخادم، وأشار عليه بأن يسيّره عن الحضرة إلى الشام ليكون هنالك، فسمع قوله، وأمره بالمسير، وكان قد عاد من الغزاة، فسأل أن يقيم عدّة أيّام بقيت من شهر رمضان، فأُجيب إلى ذلك، وخرج في يوم شديد المطر.
وسبب ذلك أنّ مؤنساً لمّا قدم ذكر للمقتدر ما اعتمده ابن الفرات من مصادرات الناس، وما يفعله ابنه من تعذيبهم وضربهم، إلى غير ذلك من أعمالهم، فخافه ابن الفرات، فأبعده عن المقتدر، ثمّ سعى ابن الفرات بنصر الحاجب، وأطمع المقتدر في ماله وكثرته، فالتجأ نصر إلى أمّ المقتدر، فمنعته من ابن الفرات.
ذكر القرامطةوفيها قصد أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الهجريُّ البصرة، فوصلها ليلاً في ألف وسبعمائة رجل، ومعه السلاليم الشعر، فوضعها على السور، وصعد أصحابه ففتحوا الباب، وقتلوا الموكلين به؛ وكان ذلك في ربيع الآخر.
وكان على البصرة سُبُك المُفلحيُّ، فلم يشعر بهم إلاّ في السَّحَر، ولم يعلم أنّهم القرامطة بل اعتقد أنّهم عرب تجمّعوا، فركب إليهم، ولقيهم، فقتلوه ووضعوا السيف في أهل البصرة، وهرب الناس إلى الكَلإِ وحاربوا القرامطة عشرة أيّام، فظفر بهم القرامطة، وقتلوا خلقاً كثيراً وطرح الناس أنفسهم في الماء، فغرق أكثرهم.
وأقام أبو طاهر سبعة عشر يوماً يحمل منها ما يقدر عليه من المال والأمتعة، والنساء والصبيان، فعاد إلى بلده؛ واستعمل المقتدر على البصرة محمّد بن عبدالله الفارقيّ، فانحدر إليها وقد سار الهجريُّ عنها.
ذكر استيلاء ابن أبي الساج على الرَّيّ
في هذه السنة سار يوسف بن أبي الساج من أذربيجان إلى الرَّيّ، فحاربه أحمد بن عليّ أخو صعلوك، فانهزم أصحاب احمد وقُتل هو في المعركة، وأنفذ رأسه إلى بغداد؛ وكان أحمد بن عليّ قد فارق أخاه صعلوكاً، وسار إلى المقتدر فأُقطع الريّ كما ذكرناه، ثمّ عصى، وهادن ما كان بن كالي وأولاد الحسن بن عليّ الأطروش، وهم بطبرستان، وجُرجان، وفارق طاعة المقتدر وعصى عليه؛ ووصل رأسه إلى بغداد.
وكان ابن الفرات يقع في نصر الحاجب، ويقول للمقتدر أنّه هو الذي أمر أحمد بن عليّ بالعصيان لمودّة بينهما.
وكان قتلُ أحمد بن عليّ آخر ذي القعدة، واستولى ابن أبي الساج على الرَّيّ، ودخلها في ذي الحجّة من السنة، ثمّ سار عنها في أوّل سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة إلى همذان، واستخلف بالريّ غلامه مُفلحاً، فأخرجه أهل الريّ عنهم، فلحق يوسف، وعاد يوسف إلى الريّ في جُمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة واستولى عليها.
ذكر عدّة حوادث
وفيها غزا مؤنس المظفَّر بلاد الروم، فغنم وفتح حصوناً، وغزا ثمل أيضاً في البحر، فغنم من السبي ألف رأس، ومن الدوابّ ثمانية آلاف رأس، ومن الغنم مائتي ألف رأس، ومن الذهب والفضّة شيئاً كثيراً.
وفيها ظهر جراد كثير بالعراق، فأضرّ بالغلاّت والشجر وعظم.
وفيها استُعمل بنّيّ بن نفيس على حرب أصبهان.
وفيها توفّي بدر المعتضديُّ بفارس، وهو أميرها، ووليَ ابنه محمّد مكانه.
وفيها توفّي أبو محمّد أحمد بن محمّد بن الحسين الجُريريُّ الصوفيُّ، وهو من مشاهير مشايخهم الجُريريّ بضمّ الجيم؛ وأبو إسحاق إبراهيم بن السرّيّ الزجّاج النحويُّ، صاحب كتاب معاني القرآن.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة
ذكر حادثة غريبةفي هذه السنة ظهر في دار كان يسكنها المقتدر بالله إنسان أعجميٌّ، وعليه ثياب فاخرة، وتحتها ممّا يلي بدنه قميص صوف، ومعه مِقْدحة، وكبريت، ومِحْبرة، وأقلام، وسكّين، وكاغد، وفي كيس سَويق، وسكر، وحبل طويل من قُنّب، يقال إنّه دخل مع الصُنّاع، فبقي هناك، فعطش، فخرج يطلب الماء فأُخذ، فأحضروه عند ابن الفرات، فسأله عن حاله، فقال: لا أخبر إلاّ صاحب الدار، فرفق به، فلم يخبره بشيء، وقال: لا أخبر إلاّ صاحب الدار، فضربوه ليقرّروه، فقال: بسم الله بدأتم بالشر ؟ ولزم هذه اللفظة، ثمّ جعل يقول بالفارسيّة: ندانم معناه لا أدري، فأمر به فأُحرق.
وأنكر ابن الفرات على نصر الحاجب هذه الحال حيث هو الحاجب، وعظّم الأمر بين يدي المقتدر، ونسبه إلى إنه أخفاه لقتل المقتدر، فقال نصر: لِمَ أقتل أمير المؤمنين وقد رفعني من الثرى إلى الثريا ؟ إنّما يسعى في قتله من صادره، وأخذ أمواله، وأطال حبسه هذه السنين، وأخذ ضياعه؛ وصار لابن الفرات بسبب هذا حديث في معنى نصر.
ذكر أخذ الحاجّ
في هذه السنة سار أبو طاهر القرمطيُّ إلى الهَبِير في عسكر عظيم ليلقى الحاجّ سنة إحدى عشرة وثلاثمائة في رجوعهم من مكّة، فأوقع بقافلة تقدّمت معظم الحاجّ، وكان فيها خلق كثير من أهل بغداد وغيرهم، فنهبهم؛ واتّصل الخبر بباقي الحاجّ وهم بفَيد، فأقاموا بها حتّى فني زادهم، فارتحلوا مسرعين.
وكان أبو الهيجاء بن حَمدان قد أشار عليهم بالعود إلى وادي القُرى، وأنّهم لا يقيمون بفَيد، فاستطالوا الطريق، ولم يقبلوا منه، وكان إلى أبي الهيجاء طريق الكوفة وكثير الحاجّ، فلمّا فني زادهم ساروا على طريق الكوفة، فأوقع بهم القرامطة، وأخذوهم، وأسروا أبا الهيجاء، وأحمد ابن كشمرد، ونحرير، وأحمد بن بدر عمّ والدة المقتدر، وأخذ أبو طاهر جمال الحجّاج جميعها، وما أراد من الأمتعة، والأموال، والنساء، والصبيان، وعاد إلى هَجَر وترك الحاجّ في مواضعهم، فمات أكثرهم جوعاً، وعطشاً، ومن حرّ الشمس.
وكان عُمْرُ أبي طاهر حينئذ سبع عشرة سنة، وانقلبت بغداد، واجتمع حُرَم المأخوذين إلى حُرَم المنكوبين الذي نكبهم ابن الفرات، وجعلن ينادين: القُرمطيُّ الصغير أبو طاهر قتل المسلمين في طريق مكّة، والقُرمطيُّ الكبير ابن الفرات قد قتل المسلمين ببغداد.
وكانت صورة فظيعة شنيعة، وكسر العامّة منابر الجوامع، وسوّدوا المحاريب يوم الجمعة لستّ خلون من صفر، وضعفت نفس ابن الفرات، وحضر عند المقتدر ليأخذ أمره فيما فعله، وحضر نصر الحاجب المشورة، فانبسط لسانه على ابن الفرات، وقال له: الساعة تقول أيّ شيء نصنع، وما هو الرأي بعد أن زعزعتَ أركان الدولة، وعرَّضتَها للزوال في الباطن بالميل مع كلّ عدوّ يظهر ومكاتبته، ومهادنته وفي الظاهر بإبعادك مؤنساً ومن معه إلى الرَّقّة، وهم سيوف الدولة، فمن يدفع الآن هذا الرجل أن قصد الحضرة، أنت أو ولدك ؟ وقد ظهر الآن أنّ مقصودك بإبعاد مؤنس وبالقبض عليَّ وعلى غيري أن تستضعف الدولة وتقوي اعداءها لتشفي غيظ قلبك ممّن صادرك وأخذ أموالك، ومن الذي سلّم النّاس إلى القرمطيّ غيرك لما يجمع بينكما من التشيع والرفض ؟ وقد ظهر أيضاً أنّ ذلك الرجل العجميّ كان من أصحاب القُرمطيّ، وأنت أوصلتَه.
فحلف ابن الفرات أنّه ما كاتب القُرمطيَّ، ولا هاداه، ولا رأى ذلك الأعجميَّ إلا تلك الساعة؛ والمقتدر معرض عنه، وأشار نصر على المقتدر أن يحضر مؤنساً ومَن معه، ففعل ذلك، وكتب إليه بالحضور فسار إلى ذلك، ونهض ابن الفرات، فركب في طيارة فرجمه العامّة حتّى كاد يغرق.
وتقدّم المقتدر إلى ياقوت بالمسير إلى الكوفة ليمنعها من القرامطة، فخرج في جمع كثير، ومع ولداه المظفَّر ومحمّد، فخرج على ذلك العسكر مال عظيم، وورد الخبر بعود القرامطة، فعطل مسير ياقوت.
ووصل مؤنس المظفَّر إلى بغداد، ولّما رأى المحسن ابن الوزير ابن الفرات انحلال أمورهم، وأخذ كلّ مَن كان محبوساً عنده من المصادرين، فقتلهم لأنّه كان قد أخذ منهم أموالاً جليلة، ولم يوصلها إلى المقتدر، فخاف أن يقرّوا عليه.
ذكر القبض على الوزير ابن الفرات
وولده المحسنثمّ إنّ الإرجاف كثر على ابن الفرات، فكتب إلى المقتدر يعرّفه ذلك، وأنّ الناس إنّما عادوه لنصحه وشفقته، وأخذ حقوقه منهم، فأنفذ المقتدر إليه يسكّنه، ويطيّب قلبه، فركب هو وولده إلى المقتدر، فأدخلهما إليه، فطيّب قلوبهما فخرجا من عنده فمنعهما نصر الحاجب من الخروج ووكّل بهما، فدخل مُفلح على المقتدر، وأشار عليه بتأخير عزله، فأمر بإطلاقهما، فخرج هو وابنه المحسن، فأمّا المحسن فإنّه اختفى، وأمّا الوزير فإنّه جلس عامّة نهاره يمضي الأشغال إلى الليل، ثمّ بات مفكراً، فلمّا أصبح سمعه بعض خدمه ينشد:
وأصبَحَ لا يَدري، وإن كان حازماً، ... أقُدّامَه خيرٌ له أم وراءُه
فلمّا أصبح الغد، وهو الثامن من ربيع الأوّل، وارتفع النهار أتاه نازوك، وبليق في عدّة من الجند، فدخلوا إلى الوزير، وهو عند الحرم، فأخرجوه حافياً مكشوف الرأس، وأُخذ إلى دجلة، فألقى عليه بليق طيلساناً غطى به رأسه، وحُمل إلى طيار فيه مؤنس المظفَّر، ومعه هلال بن بدر، فاعتذر إليه ابن الفرات، وألان كلامه، فقال له: أنا الآن الأستاذ، وكنتُ بالأمس الخائن الساعي في فساد الدولة، وأخرجتَني والمطر على رأسي ورؤوس أصحابي، لم تمهلني.
ثمّ سُلّم إلى شفيع اللؤلؤي، فحُبس عنده، وكانت مدّة وزارته هذه عشرة أشهر وثمانية عشر يوماً، وأُخذ أصحابه وأولاده ولم ينج منهم إلاّ المحسن، فإنّه اختفى؛ وصودر ابن الفرات على جملة من المال مبلغها ألف ألف دينار.
ذكر وزارة أبي القاسم الخاقانّي
ولّما تغيّر حال ابن الفرات سعى عبدالله بن محمّد بن عُبيد الله بن يحيى ابن خاقان أبو القاسم بن أبي عليّ الخاقانيّ في الوزارة، وكتب خطّه أنّه يتكفّل ابن الفرات وأصحابه بمصادرة ألفَيْ ألف دينار، وسعى له مؤنس الخادم، وهارون بن غريب الخال، ونصر الحاجب.
وكان أبو عليّ الخاقانيُّ، والد أبي القاسم، مريضاً شديد المرض، وقد تغيّر عليه لكبر سنّه، فلم يعلم بشيء من حال ولده؛ وتولّى أبو القاسم الوزارة تاسع ربيع الأوّل، وكان المقتدر يكرهه، فلمّا سمع ابن الفرات، وهو محبوس، بولايته قال: الخليفة هو الذي نُكِبَ لا أنا، يعني أنّ الوزير عاجز لا يعرف أمر الوزارة.
ولّما وزَر الخاقانيُّ شفع إليه مؤنس الخادم في إعادة عليّ بن عيسى من صنعاء إلى مكّة، فكتب إلى جعفر عامل اليمن في الإذن لعليّ بن عيسى في العود إلى مكّة، ففعل ذلك، وأذن لعليّ في الاطلاع على أعمال مصر والشام.
ومات أبو عليّ الخاقانيُّ في وزارة ولده هذه.
ذكر قتل ابن الفرات وولده المحسنوكان المحسن ابن الوزير ابن الفرات مختفياً، كما ذكرنا، وكان عند حماته حزانة، وهي والدة الفضل بن جعفر بن الفرات، وكانت تأخذه كلّ يوم إلى المقبرة، وتعود به إلى المنازل التي يثق بأهلها عشاء وهو في زيّ امرأة، فمضت يوماً إلى مقابر قريش، وأدركها الليل، فبعد عليها الطريق، فأشارت عليها امرأة معها أن تقصد امرأة صالحة تعرفها بالخير، تختفي عندها، فأخذت المحسن وقصدت تلك المرأة وقالت لها: معنا صبيّة بكر نريد بيتاً نكون فيه؛ فأمرتهم بالدخول إلى دارها، وسلّمت إليهم قبّة في الدار، فأدخلن المحسن إليها، وجلست النساء اللائي معه في صفّة بين يدي باب القبّة، فجاءت جارية سوداء، فرأت المحسن في القبّة، فعادت إلى مولاتها، فأخبرتها أنّ في الدار رجلاً، فجاءت صاحبتها، فلمّا رأته عرفته.
وكان المحسن قد أخذ زوجها ليصادره، فلمّا رأى الناسَ في داره يُجلدون، ويشقَّون، ويعذَّبون، مات فجأةً، فلمّا رأت المرأة المحسن وعرفته ركبت في سفينة، وقصدت دار الخليفة وصاحت: معي نصيحة لأمير المؤمنين ! فأحضرها نصر الحاجب، فأخبرته بخبر المحسن، فانتهى ذلك إلى المقتدر، فأمر نازوك، صاحب الشُّرطة، أن يسير معها ويحضره، فأخذها معه إلى منزلها، ودخل المنزل، وأخذ المحسن وعاد به إلى المقتدر، فردّه إلى دار الوزير، فعُذب بأنواع العذاب ليجيب إلى مصادرة يبذلها، فلم يجبهم إلى دينار واحد، وقال: لا أجمع لكم بين نفسي ومالي؛ واشتدّ العذاب عليه بحيث امتنع عن الطعام فلمّا علم ذلك المقتدر أمر بحمله مع أبيه إلى دار الخلافة، فقال الوزير أبو القاسم لمؤنس، وهارون بن غريب الخال، ونصر الحاجب: إن يُنقل ابن الفرات إلى دار الخلافة بذل أمواله، وأطمع المقتدر في أموالنا، وضمننا منه، وتسلّمنا فأهلكنا؛ فوضعوا القوّاد والجند، حتّى قالوا للخليفة: إنّه لا بدّ من قتل ابن الفرات وولده، فإنّنا لا نأمن على أنفسنا ما داما في الحياة.
وتردّدت الرسائل في ذلك، وأشار مؤنس، وهارون بن غريب، ونصر الحاجب بموافقتهم وإجابتهم إلى ما طلبوا، فأمر نازوك بقتلهما، فذبحهما كما يذبح الغنم.
وكان ابن الفرات قد أصبح يوم الأحد صائماً، فأُتي بطعام فلم يأكله، فأُتي أيضاً بطعام ليُفطر عليه، فلم يفطر، وقال: رأيتُ أخي العبّاس في النوم يقول لي: أنت وولدك عندنا يوم الاثنين؛ ولا شكّ أنّنا نُقتل؛ فقُتل ابنه المحسن يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر، وحُمل رأسه إلى أبيه، فارتاع لذلك شديداً، ثمّ عُرض أبوه على السيف فقال: ليس إلاّ السيف، راجعوا في أمري، فإن عندي أموالاً جمّة، وجواهر كثيرة؛ فقيل له: جلّ الأمر عن ذلك ! وقُتل وكان عمره إحدى وسبعين سنة، وعمر ولده المحسن ثلاثاً وثلاثين سنة، فلمّا قُتلا حُمل رأساهما إلى المقتدر بالله، فأمر بتغريقهما.
وقد كان أبو الحسن بن الفرات يقولك إن المقتدر بالله يقتلني، فصحّ قوله، فمن ذلك أنّه عاد من عنده يوماً، وهو مُفكر كثير الهمّ، فقيل له في ذلك، فقال: كنتُ عند أمير المؤمنين فما خاطبتُه في شيء من الأشياء إلاّ قال ل نعم، فقلتُ له الشيء وضدّه، ففي كلّ ذلك يقول نعم؛ فقيل له: هذا لحُسن ظنّه بك، وثقته بما تقول، واعتماده على شفقتك؛ فقال: لا والله، ولكنه أذن لكلّ قائل، وما يؤمنيّ أن يقال له بقتل الوزير، فيقول نعم؛ والله إنّه قاتلي ! ولّما قُتل ركب هارون بن غريب مسرعاً إلى الوزير الخاقانيّ، وهنّأه بقتله، فأُغمي عليه، حتّى ظنّ هارون ومَن هناك أنّه قد مات، وصرخ أهله وأصحابه عليه، فلمّا أفاق من غشيته لم يفارقه هارون حتّى أخذ منه ألفَي دينار.
وأمّا أولاده سوى المحسن فإنّ مؤنساً المظفَّر شفع في ابنَيْه عبدالله وأبي نصر، فأُطلقا له، فخلع عليهما، ووصلهما بعشرين ألف دينار، وصودر ابنه الحسن على عشرين ألف دينار، وأُطلق إلى منزله.
وكان الوزير أبو الحسن بن الفرات كريماً، ذا رئاسة وكفاية في عمله، حسن السؤال والجواب، ولم يكن له سيّئة ألاّ ولده المحسن.
======================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب { متن الدرة المضيئة في السيرة}الدرة المضية

    كتاب { متن الدرة المضيئة في السيرة}الدرة المضية بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي  ----------------- قال الشيخ الإمام الحبر الحافظ أبو...