مجلد 23 و24. من كتاب : الكامل في التاريخ ابن الأثير
لما ملك الروم إنطاكية أنفذوا جيشاً كثيفاً إلى حلب، وكان أبو المعالي شريف بن سيف الدولة محاصراً لها، وبها قرعويه السيفي متغلباً عليها. فلما سمع أبو المعالي خبرهم فارق حلب وقصد البرية ليبعد عنهم، وحصروا البلد، وفيه قرعويه وأهل البلد قد تحصنوا بالقلعة، فملك الروم المدينة، وحصروا القلعة، فخرج إليهم جماعة من أهل حلب، وتوسطوا بينهم وبين قرعويه، وترددت الرسل، فاستقر الأمر بينهم على هدنة مؤبدة على مال يحمله قرعويه إليهم، وأن يكون للروم إذا أرادوا الغزاة أن لا يمكن قرعويه أهل القرايا من الجلاء عنها ليبتاع الروم ما يحتاجون إليه منها.
وكان مع حلب حماة، وحمص، وكفر طاب، والمعرة، وأفامية، وشيزر، وما بين ذلك من الحصون والقرايا، وسلموا الرهائن إلى الروم، وعادوا عن حلب وتسلمها المسلمون.
ذكر ملك الروم ملازكردوفيها أرسل ملك الروم جيشاً إلى ملازكرد من أعمال أرمينية، فحصروها، وضيقوا على من بها من المسلمين، وملكوها عنوة وقهراً، وعظمت شوكتهم، وخافهم المسلمون في أقطار البلاد، وصار كلها سائبة لا تمتنع عليهم يقصدون أيها شاؤوا.
ذكر مسير ابن العميد إلى حسنويهوفي هذه السنة جهز ركن الدولة وزيره أبا الفضل بن العميد في جيش كثيف، وسيرهم إلى بلد حسنويه.
وكان سبب ذلك أن حسنويه بن الحسين الكردي كان قد قوي واستفحل أمره لاشتغال ركن الدولة بما هو أهم منه، ولأنه كان يعين الديلم على جيوش خراسان إذا قصدتهم، فكان ركن الدولة يراعيه لذلك، ويغضي على ما يبدو منه؛ وكان يتعرض إلى القوافل وغيرها بخفارة، فبلغ ذلك ركن الدولة، فسكت عنه.
فلما كان الآن وقع بينه وبين سهلان بن مسافر خلاف أدى إلى أن قصده سهلان وحاربه، وهزمه حسنويه، فانحاز هو وأصحابه إلى مكان اجتمعوا فيه، فقصدهم حسنويه وحصرهم فيه، ثم إنه جمع من الشوك والنبات وغيره شيئاً كثيراً، وفرقه في نواحي أصحاب سهلان وألقى فيه النار، وكان الزمان صيفاً، فاشتد عليهم الأمر حتى كادوا يهلكون، فلما عاينوا الهلاك طلبوا الأمان فأمنهم، فأخذهم عن آخرهم.
وبلغ ذلك ركن الدولة فلم يحتمله له، فحينئذ أمر ابن العميد بالمسير إليه، فتجهز وسار في المحرم ومعه ولده أبو الفتح، وكان شاباً مرحاً، قد أبطره الشباب والأمر والنهي، وكان يظهر منه ما يغضب بسببه والده، وازدادت علته، وكان به نقرس وغيره من الأمراض. فلما وصل إلى همذان توفي بها، وقام ولده مقامه، فصالح حسنويه على مالٍ أخذه منه، وعاد إلى الري إلى خدمة ركن الدولة.
وكان والده يقول عند موته: ما قتلني إلا ولدي، وما أخاف على بيت العميد أن يخرب ويهلكوا إلا منه. فكان على ما ظن.
وكان أبو الفضل بن العميد من محاسن الدنيا قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره من حسن التدبير، وسياسة الملك، والكتابة التي أتى فيها بكل بديع.
وكان عالماً في عدة فنون منها الأدب، فإنه كان من العلماء به، ومنها حفظ أشعار العرب، فإنه حفظ منها ما لم يحفظ غيره مثله؛ ومنها علوم الأوائل فإنه كان ماهراً فيها مع سلامة اعتقاد، إلى غير ذلك من الفضائل، ومع حسن خلق، ولين عشرة مع أصحابه وجلسائه، وشجاعة تامة، ومعرفة بأمور الحرب والمحاصرات، وبه تخرج عضد الدولة، ومنه تعلم سياسة الملك، ومحبة العلم والعلماء، وكان عمر ابن العميد قد زاد على ستين سنة يسيراً، وكانت وزارته أربعاً وعشرين سنة.
ذكر قتل تقفور ملك الرومفي هذه السنة قتل تقفور ملك الروم، ولم يكن من أهل بيت المملكة، وإنما كان دمستقاً، والدمستق عندهم الذي كان يلي بلاد الروم التي هي شرقي خليج القسطنطينية، وأكثرها اليوم بيد أولاد تلج أرسلان، وكان كل من يليها يلقب بالدمستق، وكان تقفور هذا شديداً على المسلمين، وهو الذي أخذ حلب أيام سيف الدولة فعظم شأنه عند الروم، وهو أيضاً الذي فتح طرسوس، والمصيصة، وأذنة، وعين زربة، وغيرها.
ولم يكن نصراني الأصل، وإنما هو من ولد رجل مسلم من أهل طرسوس يعرف بابن الفقاس تنصر، وكان ابنه هذا شهماً، شجاعاً، حسن التدبير لما يتولاه. فلما عظم أمره وقوي شأنه قتل الملك الذي كان قبله، وملك الروم بعده. وقد ذكرنا هذا جميعه.
فلما ملك تزوج امرأة الملك المقتول على كره منها، وكان لها من الملك المقتول ابنان، وجعل تقفور همته قصد بلاد الإسلام والاستيلاء عليها، وتم له ما أراد باشتغال ملوك الإسلام بعضهم ببعض، فدوخ البلاد، وكان قد بنى أمره على أن يقصد سواد البلاد فينهبه ويخربه، فيضعف البلاد فيملكها، وغلب على الثغور الجزرية والشامية وسبى، وأسر ما يخرج عن الحصر، وهابه المسلمون هيبة عظيمة، ولم يشكوا في أنه يملك جميع الشام، ومصر، والجزيرة وديار بكر لخلوا الجميع من مانع.
فلما استفحل أمره أتاه أمر الله من حيث لم يحتسب، وذلك أنه عزم على أن يخصي ابني الملك المقتول لينقطع نسلهما، ولا يعارض أحد أولاده في الملك، فلما علمت أمهما ذلك قلقت منه، واحتالت على قتله، فأرسلت إلى ابن الشمشقيق، وهو الدمستق حينئذ، ووافقته على أن يصير إليها في زي النساء ومعه جماعة، وقالت لزوجها إن نسوةً من أهلها قد زاروها، فلما صار إليها هو ومن معه جعلتهم في بيعة تتصل بدار الملك، وكان ابن الشمشقيق شديد الخوف منه لعظم هيبته، فاستجاب للمرأة إلى ما دعته إليه، فلما كان ليلة الميلاد من هذه السنة نام تقفور، فقتل منهم نيف وسبعون رجلاً، وأجلس في الملك الأكبر من ولدي الملك المقتول، وصار المدبر له ابن الشمشقيق، ويقال إن تقفور ما بات قط إلا بسلاح إلا تلك الليلة لما يريده الله تعالى من قتله وفناء أجله.
ذكر ملك أبي تغلب مدينة حرانفي هذه السنة، في الثاني والعشرين من جمادى الأولى، سار أبو تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان إلى حران، فرأى أهلها قد أغلقوا أبوابها، وامتنعوا منه، فنازلهم وحصرهم، فرعى أصحابه زروع تلك الأعمال، وكان الغلاء في العسكر كثيراً، فبقي كذلك إلى ثالث عشر جمادى الآخرة، فخرج إليه نفران من أعيان أهلها ليلاً وصالحاه، وأخذ الأمان لأهل البلد وعادا.
فلما أصبحا أعلما أهل حران ما فعلاه، فاضطربوا، وحملوا السلاح وأرادوا قتلهما، فسكنهم بعض أهلها، فسكنوا، واتفقوا على إتمام الصلح، وخرجوا جميعهم إلى أبي تغلب، وفتحوا أبواب البلد ودخله أبو تغلب وإخوته وجماعة من أصحابه، وصلوا به الجمعة، وخرجوا إلى معسكرهم، واستعمل عليهم سلامة البرقعيدي لأنه طلبه أهله لحسن سيرته، وكان إليه أيضاً عمل الرقة، وهو من أكابر أصحاب بني حمدان، وعاد أبو تغلب إلى الموصل ومعه جماعة من أحداث حران، وسبب سرعة عوده أن بني نمير عاثوا في بلد الموصل، وقتلوا العامل ببرقعيد، فعاد إليهم ليكفهم.
ذكر قتل سليمان بن أبي علي بن إلياسفي هذه السنة قتل سليمان بن أبي علي بن إلياس الذي كان والده صاحب كرمان.
وسبب ذلك أنه ذكر للأمير منصور بن نوح صاحب خراسان أن أهل كرمان من القفص والبلوص معه وفي طاعته، وأطعمه في كرمان، فسير معه عسكراً إليهما، فلما وصل إليها وافقه القفص والبلوص وغيرهما من الأمم المفارقة لطاعة عضد الدولة، فاستفحل أمره، وعظم جمعه، فلقيه كوركير ابن جستان، خليفة عضد الدولة بكرمان، وحاربه، فقتل سليمان وابنا أخيه إليسع، وهما بكر والحسين، وعدد كثير من القواد والخراسانية، وحملت رؤوسهم إلى عضد الدولة بشيراز، فسيرها إلى أبيه ركن الدولة، فأخذ منهم جماعة كثيرة أسرى.
ذكر الفتنة بصقليةوفي هذه السنة استعمل المعز لدين الله الخليفة العلوي، على جزيرة صقلية، يعيش مولى الحسن بن علي بن أبي الحسين، فجمع القبائل في دار الصناعة، فوقع الشر بين موالي كتامة والقبائل، فاقتتلوا، فقتل من موالي كتامة كثير، وقتل من الموالي بناحية سرقوسة جماعة.
وازداد الشر بينهم، وتمكنت العدواة، وسعى يعيش في الصلح، فلم يوافقوه، وتطاول أهل الشر من كل ناحية، ونهبوا وأفسدوا، واستطالوا على أهل المراعي، واستطالوا على أهل القلاع المستأمنة، فبلغ الخبر إلى المعز، فعزل يعيش، واستعمل أبا القاسم بن الحسن بن علي بن أبي الحسين نيابة عن أخيه أحمد، فسار إليها، فلما وصل فرح به الناس، وزال الشر من بينهم، واتفقوا على طاعته.
ذكر حصر عمران بن شاهين
في هذه السنة، في شوال، انحدر بختيار إلى البطيحة لمحاصرة عمران بن شاهين، فأقام بواسط يتصيد شهراً، ثم أمر وزيره أبا الفضل أن ينحدر إلى الجامدة، وطفوف البطيحة، وبنى أمره على أن يسد أفواه الأنهار ومجاري المياه إلى البطيحة، ويردها إلى دجلة والفاروث، وربع طير، فبنى المسنيات التي يمكن السلوك عليها إلى العراق، فطالت الأيام، وزادت دجلة فخرجت ما عملوه.
وانتقل عمران إلى معقل آخر من معاقل البطيحة، ونقل كل ماله إليه، فلما نقصت المياه، واستقامت الطرق، وجدوا مكان عمران بن شاهين فارغاً، فطالت الأيام، وضجر الناس من المقام، وكرهوا تلك الأرض من الحر، والبق والضفادع، وانقطاع المواد التي ألفوها، وشغب الجند على الوزير، وشتموه، وأبوا أن يقيموا، فاضطر بختيار إلى مصالحة عمران على مال يأخذه منه.
وكان عمران قد خافه في الأول، وبذل له خمسة آلاف ألف درهم، فلما رأى اضطراب أمر بختيار بذل ألفي ألف درهم في نجوم، ولم يسلم إليهم رهائن، ولا حلف لهم على تأدية المال، ولما رحل العسكر تخطف عمران أطراف الناس فغنم، وفسد عسكر بختيار، وزالت عنهم الطاعة والهيبة، ووصل بختيار إلى بغداد في رجب سنة إحدى وستين وثلاثمائة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الآخر، اصطلح قرعويه، غلام سيف الدولة ابن حمدان، وأبو المعالي بن سيف الدولة، وخطب لأبي المعالي بحلب، وكان بحمص، وخطب هو وقرعويه في أعمالهما للمعز لدين الله العلوي، صاحب المغرب ومصر.
وفيها، في رمضان، وقع حريق عظيم ببغداد في سوق الثلاثاء، فاحترق جماعة رجال ونساء، وأما الرحال وغيرها فكثير، ووقع الحريق أيضاً في أربعة مواضع من الجانب الغربي فيها أيضاً.
وفيها كانت الخطبة بمكة للمطيع لله وللقرامطة الهجريين، وخطب بالمدينة للمعز لدين الله العلوي، وخطب أبو أحمد الموسوي والد الشريف الرضي خارج المدينة للمطيع لله.
وفيها مات عبيد بن عمر بن أحمد أبو القاسم العبسي المقرئ الشافعي بقرطبة، وله تصانيف كثيرة، وكان مولده ببغداد سنة خمس وتسعين ومائتين؛ وأبو بكر محمد بن داود الدينوري الصوفي، المعروف بالرقي، وهو من مشاهير مشايخهم، وقيل مات سنة اثنتين وستين.
وفيها توفي القاضي أبو العلاء محارب بن محمد بن محارب الفقيه الشافعي في جمادى الآخرة، وكان عالماً بالفقه والكلام.
ثم دخلت سنة ستين وثلاثمائة
ذكر عصيان أهل كرمان على عضد الدولةلما ملك عضد الدولة كرمان، كما ذكرناه، اجتمع القفص والبلوص، وفيهم أبو سعيد البلوصي وأولاده، على كلمة واحدة في الخلاف، وتحالفوا على الثبات والاجتهاد، فضم عضد الدولة إلى كوركير بن جستان عابد ابن علي فسارا إلى جيرفت فيمن معهما من العساكر، فالتقوا عاشر صفر، فاقتتلوا، وصبر الفريقان ثم انهزم القفص ومن معهم، فقتل منهم خمسة آلاف من شجعانهم ووجوههم، وقتل ابنان لأبي سعيد.
ثم سار عابد بن علي يقص آثارهم ليستأصلهم، فأوقع بهم عدة وقائع، وأثخن فيهم، وانتهى إلى هرموز فملكها، واستولى على بلاد التيز ومكران، وأسر ألفي أسير، وطلب الباقون الأمان، وبذلوا تسليم معاقلهم وجبالهم، على أن يدخلوا في السلم، وينزعوا شعار الحرب، ويقيموا حدود الإسلام من الصلاة والزكاة والصوم.
ثم سار عابد إلى طوائف أخر يعرفون بالحرومية والحاسكية يخيفون السبيل في البحر والبر، وكانوا قد أعانوا سليمان بن أبي علي بن إلياس، وقد تقدم ذكرهم، فأوقع بهم، وقتل كثيراً منهم، وأنفذهم إلى عضد الدولة، فاستقامت تلك الأرض مدة من الزمان.
ثم لم يلبث البلوص أن عادوا إلى ما كانوا عليه من سفك الدم وقطع الطريق، فلما فعلوا ذلك تجهز عضد الدولة وسار إلى كرمان في ذي القعدة، فلما وصل إلى السيرجان رأى فسادهم وما فعلوه من قطع الطريق بكرمان وسجستان وخراسان، فجرد عابد بن علي في عسكر كثيف، وأمره باتباعهم، فلما أحسوا به وأوغلوا في الهرب إلى مضايق ظنوا أن العسكر لا يتوغلها، فأقاموا آمنين.
فسار في آثارهم، فلم يشعروا إلا وقد أطل عليهم، فلم يمكنهم الهرب، فصبروا يومهم، وهو تاسع عشر ربيع الأول من سنة إحدى وستين وثلاثمائة، ثم انهزموا آخر النهار، وقتل أكثر رجالهم المقاتلة، وسبى الذراري والنساء، وبقي القليل، وطلبوا الأمان فأجيبوا إليه، ونقلوا عن تلك الجبال، وأسكن عضد الدولة مكانهم الأكرة والزراعين، حتى طبقوا تلك الأرض بالعمل وتتبع عابد تلك الطوائف براً وبحراً حتى أتى عليهم وبدد شملهم.
ذكر ملك القرامطة دمشقفي هذه السنة، في ذي القعدة، وصل القرامطة إلى دمشق فملكوها، وقتلوا جعفر بن فلاح.
وسبب ذلك أنهم لما بلغهم استيلاء جعفر بن فلاح على الشام أهمهم وأزعجهم وقلقوا لأنه قد تقرر بينهم وبين ابن طغج أن يحمل إليهم كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، فلما ملها جعفر علموا أن المال يفوتهم، فعزموا على قصد الشام، وصاحبهم حينئذ الحسين بن أحمد بن بهرام القرمطي، فأرسل إلى عز الدولة بختيار يطلب منه المساعدة بالسلاح والمال، فأجابه إلى ذلك، واستقر الحال أنهم إذا وصلوا إلى الكوفة سائرين إلى الشام حمل الذي استقر، فلما وصلوا إلى الكوفة أوصل إليهم ذلك، وساروا إلى دمشق.
وبلغ خبرهم إلى جعفر بن فلاح، فاستهان بهم ولم يحترز منهم، فلم يشعر بهم حتى كبسوه بظاهر دمشق وقتلوه وأخذوا ماله وسلاحه ودوابه، وملكوا دمشق، وأمنوا أهلها، وساروا إلى الرملة، واستولوا على جميع ما بينهما.
فلما سمع من بها من المغاربة خبرهم ساروا عنها إلى يافا فتحصنوا بها، وملك القرامطة الرملة، وساروا إلى مصر، وتركوا على يافا من يحصرها، فلما وصلوا إلى مصر اجتمع معهم خلق كثير من العرب والجند والإخشيدية والكافورية، فاجتمعوا بعين شمس عند مصر، واجتمع عساكر جوهر وخرجوا إليهم، فاقتتلوا غير مرة، الظفر في جميع تلك الأيام للقرامطة، وحصروا المغاربة حصراً شديداً، ثم إن المغاربة خرجوا في بعض الأيام من مصر، وحملوا على ميمنة القرامطة، فانهزم من بها من العرب وغيرهم، وقصدوا سواد القرامطة فنهبوه، فاضطروا إلى الرحيل، فعادوا إلى الشام، فنزلوا الرملة.
ثم حصروا يافا حصراً شديداً، وضيقوا على من بها، فسير جوهر من مصر نجدة إلى أصحابه المحصورين بيافا، ومعهم ميرة في خمسة عشر مركباً، فأرسل القرامطة مراكبهم إليها، فأخذوا مراكب جوهر، ولم ينج منها غير مركبين، فغنمهما مراكب الروم.
وللحسين بن بهرام مقدم القرامطة شعر، فمنه في المغاربة أصحاب المعز لدين الله:
زعمت رجال الغرب أنّي هبتها ... فدمي إذاً ما بينهم مطلول
يا مصر إن لم أسق أرضك من دم ... يروي ثراك فلا سقاني النّيل
ذكر قتل محمد بن الحسين الزناتّي
في هذه السنة قتل يوسف بلكين بن زيري محمد بن الحسين بن خزر الزناتي وجماعةً من أهله وبني عمه، وكان قد عصى على المعز لدين الله بإفريقية، وكثر جمعه من زناتة والبربر، فأهم المعز أمره لأنه أراد الخروج إلى مصر، فخاف أن يخلف محمداً في البلاد عاصياً، وكان جباراً عاتياً طاغياً.
وأما كيفية قتله فإنه كان يشرب هو وجماعة من أهله وأصحابه، فعلم يوسف به، فسار إليه جريدة متخفياً، فلم يشعر به محمد حتى دخل عليه، فلما رآه محمد قتل نفسه بسيفه، وقتل يوسف الباقين وأسر منهم، فحل ذلك عند المعز محلاً عظيماً، وقعد للهناء به ثلاثة أيام.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض عضد الدولة على كوركير بن جستان قبضاً فيه إبقاء وموضع للصلح.
وفيها تزوج أبو تغلب بن حمدان ابنة عز الدولة بختيار، وعمرها ثلاث سنين، على صداق مائة ألف دينار؛ وكان الوكيل في قبول العقد أبا الحسن علي بن عمرو بن ميمون صاحب أبي تغلب بن حمدان، ووقع العقد في صفر.
وفيها قتل رجلان بمسجد دير مار ميخائيل بظاهر الموصل، فصادر أبو تغلب جماعة من النصارى.
وفيها استوزر مؤيد الدولة بن ركن الدولة الصاحب أبا القاسم بن عباد، وأصلح أموره كلها.
وفيها مات أبو القاسم سليمان بن أيوب الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة بأصبهان وكان عمره مائة سنة، وأبو بكر محمد بن الحسين الآجري بمكة، وهما من حفاظ المحدثين.
وفيها توفي السري بن أحمد بن السري أبو الحسن الكندي الرفا، الشاعر الموصلي، ببغداد.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وثلاثمائة
ذكر ما فعله الروم بالجزيرةفي هذه السنة، في المحرم، أغار ملك الروم على الرها ونواحيها، وسار في ديار الجزيرة حتى بلغوا نصيبين، فغنموا، وسبوا، وأحرقوا وخربوا البلاد، وفعلوا مثل ذلك بديار بكر، ولم يكن من أبي تغلب بن حمدان في ذلك حركة، ولا سعي في دفعه، لكنه حمل إليه مالاً كفه به عن نفسه.
فسار جماعة من أهل تلك البلاد إلى بغداد مستنفرين، وقاموا في الجوامع والمشاهد، واستنفروا المسلمين، وذكروا ما فعله الروم من النهب، والقتل، والأسر، والسبي، فاستعظمه الناس، وخوفهم أهل الجزيرة من انفتاح الطريق وطمع الروم، وأنهم لا مانع لهم عندهم، فاجتمع معهم أهل بغداد، وقصدوا دار الخليفة الطائع لله، وأرادوا الهجوم عليه، فمنعوا من ذلك، وأغلقت الأبواب، فأسمعوا ما يقبح ذكره.
وكان بختيار حينئذ يتصيد بنواحي الكوفة، فخرج إليه وجوه أهل بغداد مستغيثين، منكرين عليه اشتغاله بالصيد، وقتال عمران بن شاهين وهو مسلم، وترك جهاد الروم، ومنعهم عن بلاد الإسلام حتى توغلوها، فوعدهم التجهز للغزاة، وأرسل إلى الحاجب سبكتكين يأمره بالتجهز للغزو وأن يستنفر العامة، ففعل سبكتكين ذلك، فاجتمع من العامة عدد كثير لا يحصون كثرة، وكتب بختيار إلى أبي تغلب بن حمدان، صاحب الموصل، يأمره بإعداد الميرة والعلوفات، ويعرفه عزمه على الغزاة، فأجابه بإظهار الفرح، وإعداد ما طلب منه.
ذكر الفتنة ببغدادفي هذه السنة وقعت ببغداد فتنة عظيمة، وأظهروا العصبية الزائدة، وتحزب الناس، وظهر العيارون وأظهروا الفساد، وأخذوا أموال الناس.
وكان سبب ذلك ما ذكرناه من استنفار العامة للغزاة، فاجتمعوا وكثروا فتولد بينهم من أصناف البنوية، والفتيان، والسنة، والشيعة، والعيارين، فنهبت الأموال، وقتل الرجال، وأحرقت الدور، وفي جملة ما احترق محلة الكرخ، وكانت معدن التجار والشيعة، وجرى بسبب ذلك فتنة بين النقيب أبي أحمد الموسوي والوزير أبي الفضل الشيرازي وعداوة.
ثم إن بختيار أنفذ إلى المطيع لله يطلب منه مالاً يخرجه في الغزاة، فقال المطيع: إن الغزاة والنفقة عليها، وغيرها من مصالح المسلمين، تلزمني إذا كانت الدنيا في يدي وتجبي إلي الأموال، وأما إذا كانت حالي هذه فلا يلزمني شيء من ذلك، وإنما يلزم من البلاد في يده، وليس لي إلا الخطبة، فإن شئتم أن أعتزل فعلت.
وترددت الرسائل بينهما، حتى بلغوا إلى التهديد، فبذل المطيع لله أربعمائة ألف درهم، فاحتاج إلى بيع ثيابه، وأنقاض داره، وغير ذلك، وشاع بين الناس من العراقيين وحجاج خراسان وغيرهم أن الخليفة قد صودر. فلما قبض بختيار المال صرفه في مصالحه، وبطل حديث الغزاة.
ذكر مسير المعز لدين الله العلوي من الغرب إلى مصرفي هذه السنة سار المعز لدين الله العلوي من إفريقية يريد الديار المصرية، وكان أول مسيره أواخر شوال من سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وكان أول رحيله من المنصورية، فأقام بسردانية، وهي قرية قريبة من القيروان، ولحقه بها رجاله، وعماله، وأهل بيته، وجميع ما كان له في قصره من أموال وأمتعة وغير ذلك، حتى إن الدنانير سبكت وجعلت كهيئة الطواحين وحمل كل طاحونتين على جمل.
وسار عنها واستعمل على بلاد إفريقية يوسف بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي الحميري، إلا أنه لم يجعل له حكماً على جزيرة صقلية، ولا على مدينة طرابلس الغرب، ولا على أجدابية، وسرت، وجعل على صقلية حسن بن علي بن أبي الحسين، على ما قدمنا ذكره، وجعل على طرابلس عبدالله بن يخلف الكتامي، وكان أثيراً عنده، وجعل على جباية أموال إفريقية زيادة الله بن القديم، وعلى الخراج عبد الجبار الخراساني، وحسين بن خلف الموصدي، وأمرهم بالانقياد ليوسف بن زيري.
فأقام بسردانية أربعة أشهر حتى فرغ من جميع ما يريد، ثم رحل عنها، ومعه يوسف بلكين وهو يوصيه بما يفعله، ونحن نذكر من سلف يوسف بلكين وأهله ما تمس الحاجة إليه، ورد يوسف إلى أعماله، وسار إلى طرابلس ومعه جيوشه وحواشيه، فهرب منه بها جمع من عسكره إلى جبال نفوسة فطلبهم فلم يقدر عليهم.
ثم سار إلى مصر، فلما وصل إلى برقة ومعه محمد بن هانئ الشاعر الأندلسي، قتل غيلة، فرؤي ملقىً على جانب البحر قتيلاً لا يدرى من قتله، وكان قتله أواخر رجب من سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وكان من الشعراء المجيدين إلا أنه غالى في مدح المعز حتى كفره العلماء، فمن ذلك قوله:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهّار
وقوله:
ولطال ما ... زاحمت حول ركابه جبريلا
ومن ذلك ينسب إليه ولم أجدها في ديوانه قوله:
حلّ برقّادة المسيح ... حلّ بها آدمٌ ونوح
حلّ بها الله ذو المعالي ... فكلّ شيء سواه ريح
ورقادة اسم مدينة بالقرب من القيروان، إلى غير ذلك، وقد تأوّل ذلك من يتعصّب له، والله أعلم، وبالجملة فقد جاز حد المديح.
ثم سار المعز حتى وصل إلى الإسكندرية أواخر شعبان من السنة، وأتاه أهل مصر وأعيانها، فلقيهم، وأكرمهم، وأحسن إليهم، وسار فدخل القاهرة خامس شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وأنزل عساكره مصر والقاهرة في الديار، وبقي كثير منهم في الخيام.
وأما يوسف بلكين فإنه لما عاد من وداع المعز أقام بالمنصورية يعقد الولايات للعمال على البلاد، ثم سار في البلاد، وباشر الأعمال، وطيب قلوب الناس، فوثب أهل باغاية على عامله فقاتلوه فهزموه، فسير إليهم يوسف جيشاً فقاتلهم فلم يقدر عليهم، فأرسل إلى يوسف يعرفه الحال، فتأهب يوسف، وجمع العساكر ليسير إليهم، فبينما هو في التجهز أتاه الخبر عن تاهرت أن أهلها قد عصوا، وخالفوا، وأخرجوا عامله، فرحل إلى تاهرت فقاتلها، فظفر بأهلها، وخرها، فأتاه الخبر بها أن زناتة قد نزلوا على تلمسان، فرحل إليهم، فهربوا منه، وأقام على تلمسان فحصرها مدة ثم نزلوا على حكمه فعفا عنهم، إلا أنه نقلهم إلى مدينة أشير، فبنوا عندها مدينة سموها تلمسان.
ثم إن زيادة الله بن القديم جرى بينه وبين عامل آخر كان معه، اسمه عبد الله بن محمد الكاتب، منافسة صارت إلى محاربة، واجتمع مع كل واحد منهما جماعة، وكان بينهما حروب عدة دفعات، وكان يوسف بلكين مائلاً مع عبدالله لصحبة قديمة بينهما، ثم إن أبا عبدالله قبض على ابن القديم وسجنه واستبد بالأمور بعده، وبقي ابن القديم محبوساً حتى توفي المعز بمصر، وقوي أمر يوسف بلكين.
وفي سنة أربع وستين طلع خلف بن حسين إلى قلعة منيعة، فاجتمع إليه خلق كثير من البربر وغيرهم، وكان من أصحاب ابن القديم المساعدين له، فسمع يوسف بذلك، فسار إليه ونازل القلعة وحاربه، فقتل بينهما عدة قتلى، وافتتحها، وهرب خلف بن حين، وقتل ممن كان بها خلق كثير، وبعث إلى القيروان من رؤوسهم سبعة آلاف رأس، ثم أخذ خلف وأمر به فطيف به على جمل، ثم صلب، وسير رأسه إلى مصر، فلما سمع أهل باغاية بذلك خافوا، فصالحوا يوسف ونزلوا على حكمه، فأخرجهم من باغاية وخرب سورها.
ذكر خبر يوسف بلكين بن زيري بن مناد وأهل بيتههو يوسف بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي الحميري، اجتمعت صنهاجة ومن والاها بالمغرب على طاعته، قبل أن يقدمه المنصور، وكان أبوه مناد كبيراً في قومه، كثير المال والولد، حسن الضيافة لمن يمر به، ويقدم ابنه زيري في أيامه، وقاد كثيراً من صنهاجة، وأغار بهم، وسبى، فحسدته زناتة، وجمعت له لتسير إليه وتحاربه، فسار إليهم مجداً، فكبسهم ليلاً وهم غارون بأرض مغيلة، فقتل منهم كثيراً، وغنم ما معهم، فكثر تبعه، فضاقت بهم أرضهم، فقالوا له: لو اتخذت لنا بلداً غير هذا؛ فسار بهم إلى موضع مدينة أشير، فرأى ما فيه من العيون، فاستحسنه، وبنى فيه مدينة أشير، وسكنها هو وأصحابه، وكان ذلك سنة أربع وستين وثلاثمائة.
وكانت زناتة تفسد في البلاد، فإذا طلبوا احتموا بالجبال والبراري، فلما بنيت أشير صارت صنهاجة بين البلاد وبين زناتة والبربر، فسر بذلك القائم.
وسمع زيري بغمارة وفسادهم، واستحلالهم المحرمات، وأنهم قد ظهر فيهم نبي، فسار إليهم، وغزاهم، وظفر بهم، وأخذ الذي كان يدعي النبوة أسيراً، وأحضر الفقهاء فقتله.
ثم كان له أثر حسن في حادثة أبي يزيد الخارجي، وحمل الميرة إلى القائم بالمهدية، فحسن موقعها منه.
ثم إن زناتة حصرت مدينة أشير، فجمع لهم زيري جموعاً كثيرة، وجرى بينهم عدة وقعات قتل فيها كثير من الفريقين، ثم ظفر بهم واستباحهم.
ثم ظهر بجبل أوراس رجل، وخالف على المنصور، وكثر جمعه، يقال له سعيد بن يوسف، فسير إليه زيري ولده بلكين في جيش كثيف، فلقيه عند باغاية، واقتتلوا، فقتل الخارجي ومن معه من هوارة وغيرهم، فزاد محله عند المنصور، وكان له في فتح مدينة فاس أثر عظيم، على ما ذكرناه.
ثم إن بلكين بن زيري قصد محمد بن الحسين بن خزر الزناتي، وقد خرج عن طاعة المعز، وكثر جمعه، وعظم شأنه، فظفر به يوسف بلكين، وأكثر القتل في أصحابه، فسر المعز بذلك سروراً عظيماً لأنه كان يريد أن يستخلف يوسف بلكين على الغرب لقوته، وكثرة أتباعه، وكان يخاف أن يتغلب على البلاد بعد مسيره عنها إلى مصر. فلما استحكمت الوحشة بينه وبين زناتة أمن تغلبه على البلاد.
ثم إن جعفر بن علي، صاحب مدينة مسيلة وأعمال الزاب، كان بينه وبين زيري محاسدة، فلما كثر تقدم زيري عند المعز ساء ذلك جعفراً، ففارق بلاده ولحق بزناتة فقبلوه قبولاً عظيماً، وملكوه عليهم عداوةً لزيري، وعصى على المعز، فسار زيري إليه في جمع كثير من صنهاجة وغيرهم فالتقوا في شهر رمضان، واشتد القتال بينهم، فكبا بزيري فرسه فوقع فقتل، ورأى جعفر من زناتة تغيرً عن طاعته، وندماً على قتل زيري، فقال لهم: إن ابنه يوسف بلكين لا يترك ثأر أبيه، ولا يرضى بمن قتل منكم، والرأي أن نتحصن بالجبال المنيعة، والأوعار؛ فأجابوه إلى ذلك، فحمل ماله وأهله في المراكب، وبقي هو مع الزناتيين، وأمر عبيده في المراكب أن يعملوا في المراكب فتنة، فعلوا وهو يشاهدهم من البر، فقال لزناتة: أريد أن أنظر ما سبب هذا الشر؛ فصعد المركب، ونجا معهم، وسار إلى الأندلس إلى الحاكم الأموي، فأكرمه، وأحسن إليه، وندمت زناتة كيف لم يقتلوه ويغنموا ما معه.
ذكر الصلح بين الأمير منصور بن نوح وبين ركن الدولة وعضد الدولةفي هذه السنة تم الصلح بين الأمير منصور بن نوح الساماني، صاحب خراسان وما وراء النهر، وبين ركن الدولة وابنه عضد الدولة، على أن يحمل ركن الدولة وعضد الدولة إليه كل سنة مائة ألف وخمسين ألف دينار، وتزوج نوح بابنة عضد الدولة، وحمل إليه من الهدايا والتحف ما لم يحمل مثله، وكتب بينهم كتاب صلح، وشهد فيه أعيان خراسان، وفارس، والعراق.
وكان الذي سعى في هذا الصلح وقرره محمد بن إبراهيم بن سيمجور، صاحب جيوش خراسان من جهة الأمير منصور.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في صفر، انقض كوكب عظيم، وله نور كثير، وسمع له عند انقضاضه صوت كالرعد، وبقي ضوءه.
وفي شوال منها ملك أبو تغلب بن حمدان قلعة ماردين، سلمها إليه نائب أخيه حمدان، فأخذ أبو تغلب كل ما كان لأخيه فيها من أهل ومال وأثاث وسلاح، وحمل الجميع إلى الموصل.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وثلاثمائة
ذكر انهزام الروم وأسر الدمستقفي هذه السنة كانت وقعة بين هبة الله بن ناصر الدولة بن حمدان وبين الدمستق بناحية ميافارقين.
وكان سببها ما ذكرناه من غزو الدمستق بلاد الإسلام، ونهبه ديار ربيعة وديار بكر، فلما رأى الدمستق أنه لا مانع له عن مراده قوي طمعه على أخذ آمد، فسار إليها وبها هزارمرد غلام أبي الهيجاء بن حمدان، فكتب إلى أبي تغلب يستصرخه ويستنجده، ويعلمه الحال، فسير إليه أخاه أبا القاسم هبة الله بن ناصر الدولة، واجتمعا على حرب الدمستق، وسار إليه فلقياه سلخ رمضان، وكان الدمستق في كثرة لكن لقياه في مضيق لا تجول فيه الخيل، والروم على غير أهبة، فانهزموا، وأخذ المسلمون الدمستق أسيراً، ولم يزل محبوساً إلى أن مرض سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، فبالغ أبو تغلب في علاجه، وجمع الأطباء له، فلم ينفعه ذلك ومات.
ذكر حريق الكرخفي هذه السنة، في شعبان، احترق الكرخ حريقاً عظيماً.
وسبب ذلك أن صاحب المعونة قتل عامياً، فثار به العامة والأتراك، فهرب ودخل دار بعض الأتراك، فأخرج من فيها، فركب الوزير أبو الفضل لأخذ الجناة، وأرسل حاجباً له يسمى صافياً في جمع لقتال العامة بالكرخ، وكان شديد العصبية للسنة، فألقى النار في عدة أماكن من الكرخ، فاحترق حريقاً عظيماً، وكان عدة من احترق فيه سبعة عشر ألف إنسان، وثلاثمائة دكان، وكثير من الدور، وثلاثة وثلاثين مسجداً، ومن الأموال ما لا يحصى.
ذكر عزل أبي الفضل من وزارة عز الدولة ووزارة ابن بقيةوفيها أيضاً عزل الوزير أبو الفضل العباس بن الحسين من وزارة عز الدولة بختيار في ذي الحجة، واستوزر محمد بن بقية، فعجب الناس لذلك لأنه كان وضيعاً في نفسه، من أهل أوانا، وكان أبوه أحد الزراعين، لكنه كان قريباً من بختيار، وكان يتولى له المطبخ، ويقدم إليه الطعام ومنديل الخوان على كتفه، إلى أن استوزر.
وحبس الوزير أبو الفضل، فمات عن قريب، فقيل إنه مات مسموماً، وكان في ولايته مضيعاً لجانب الله. فمن ذلك أنه أحرق الكرخ ببغداد، فهلك فيه من الناس والأموال ما لا يحصى؛ ومن ذلك أنه ظلم الرعية، وأخذ الأموال ليفرقها على الجند ليسلم، فما سلمه الله تعالى، ولا نفعه ذلك، وصدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: (من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس).
وكان ما فعله من ذلك أبلغ الطرق التي سلكها أعداؤه من الوقيعة فيه، والسعي به، وتمشى لهم ما أرادوا لما كان عليه من تفريطه في أمر دينه، وظلم رعيته، وعقب ذلك أن زوجته ماتت وهو محبوس وحاجبه وكاتبه، فخرجت داره، وعفي أثرها، نعوذ بالله من سوء الأقدار، ونسأله أن يختم بخير أعمالنا، فإن الدنيا إلى زوال ما هي.
وأما ابن بقية فإن استقامت أموره، ومشت الأحوال بين يديه بما أخذه من أموال أبي الفضل، وأموال أصحابه، فلما فني ذلك عاد إلى ظلم الرعية، فانتشرت الأمور على يده، وخربت النواحي، وظهر العيارون، وعملوا ما أرادوا، وزاد الاختلاف بين الأتراك وبين بختيار، فشرع ابن بقية في إصلاح الحال مع بختيار وسبكتكين، فاصطلحوا، وكانت هدنة على دخن وركب سبكتكين إلى بختيار ومعه الأتراك، فاجتمع به، ثم عاد الحال إلى ما كان عليه من الفساد.
وسبب ذلك أن ديلمياً اجتاز بدار سبكتكين وهو سكران، فرمى الروشن بزوبين في يده، فأثبته فيه، وأحس به سبكتكين، فصاح بغلمانه فأخذوه، وظن سبكتكين أنه قد وضع على قتله، فقرره فلم يعترف، وأنفذه إلى بختيار وعرفه الحال، فأمر به فقتل، فقوي ظن سبكتكين أنه كان وضعه عليه، وإنما قتله لئلا يفشي ذلك، وتحرك الديلم لقتله، وحملوا السلاح، ثم أرضاهم بختيار فرجعوا.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ذي الحجة، أرسل عز الدولة بختيار الشريف أبا أحمد الموسوي، والد الرضي والمرتضى، في رسالة إلى أبي تغلب بن حمدان بالموصل، فمضى إليه، وعاد في المحرم سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.
وفيها توفي أبو العباس محمد بن الحسن بن سعيد المخرمي الصوفي صاحب الشبلي بمكة.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وثلاثمائة
ذكر استيلاء بختيار على الموصل
وما كان من ذلكفي هذه السنة، في ربيع الآخر، سار بختيار إلى الموصل ليستولي عليها وعلى أعمالها وما بيد أبي تغلب بن حمدان وكان سبب ذلك ما ذكرناه من مسير حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان وأخيه إبراهيم إلى بختيار، واستجارتهما به، وشكواهما إليه من أخيهما أبي تغلب، فوعدهما أن ينصرهما ويخلص أعمالهما وأموالهما منه، وينتقم لهما، واشتغل عن ذلك بما كان منه في البطيحة وغيرها، فلما فرغ من جميع أشغاله عاود حمدان وإبراهيم الحديث معه، وبذل له حمدان مالاً جزيلاً، وصغر عنده أمر أخيه أبي تغلب، وطلب أن يضمنه بلاده ليكون في طاعته، ويحمل إليه الأموال ويقيم له الخطبة.
ثم إن الوزير أبا الفضل حسن ذلك، وأشار به ظناً منه أن الأموال تكثر عليه فتمشي الأمور بين يديه، ثم إن إبراهيم بن ناصر الدولة هرب من عند بختيار، وعاد إلى أخيه أبي تغلب، فقوي عزم بختيار على قصد الموصل أيضاً، ثم عزل أبا الفضل الوزير واستوزر ابن بقية، فكاتبه أبو تغلب، فقصر في خطابه، فأغرى به بختيار، وحمله على قصده، فسار عن بغداد، ووصل إلى الموصل تاسع عشر ربيع الآخر ونزل بالدير الأعلى.
وكان أبو تغلب بن حمدان قد سار عن الموصل لما قرب منه بختيار، وقصد سنجار، وكسر العروب، وأخلى الموصل من كل ميرة، وكاتب الديوان، ثم سار من سنجار يطلب بغداد، ولم يعرض إلى أحد من سوادها بل كان هو وأصحابه يشترون الأشياء بأوفى الأثمان. فلما سمع بختيار بذلك أعاد وزيره ابن بقية، والحاجب سبكتكين إلى بغداد، فأما ابن بقية فدخل إلى بغداد، وأما سبكتكين فأقام بحربى، وكان أبو تغلب قد قارب بغداد، فثار العيارون بها، وأهل الشر بالجانب الغربي، ووقعت فتنة عظيمة بين السنة والشيعة، وحمل أهل سوق الطعام، وهم من السنة، امرأة على جمل وسموها عائشة، وسمى بعضهم نفسه طلحة، وبعضهم الزبير، وقاتلوا الفرقة الأخرى، وجعلوا يقولون: نقاتل أصحاب علي بن أبي طالب، وأمثال هذا من الشر.
وكان الجانب الشرقي آمناً، والجانب الغربي مفتوناً، فأخذ جماعة من رؤساء العيارين وقتلوا، فسكن الناس بعض السكون. وأما أبو تغلب فإنه لما بلغه دخول ابن بقية بغداد، ونزول سبكتكين الحاجب بحربى، عاد عن بغداد، ونزل بالقرب منه، وجرى بينهما مطاردة يسيرة، ثم اتفقا في السر على أن يظهرا الاختلاف إلى أن يتمكنا من القبض على الخليفة والوزير ووالدة بختيار وأهله، فإذا فعلوا ذلك انتقل سبكتكين إلى بغداد، وعاد أبو تغلب إلى الموصل، فيبلغ من بختيار ما أراد، ويملك دولته.
ثم إن سبكتكين خاف سوء الأحدوثة، فتوقف وسار الوزير ابن بقية إلى سبكتكين، فاجتمع به، وانفسخ ما كان بينهما، وتراسلوا في الصلح على أن أبا تغلب يضمن البلاد على ما كانت معه، وعلى أن يطلق لبختيار ثلاثة آلاف كر غلة عوضاً عن مؤونة سفره، وعلى أن يرد على أخيه حمدان أملاكه وإقطاعه، إلا ماردين.
ولما اصطلحوا أرسلوا إلى بختيار بذلك ليرحل عن الموصل، وعاد أبو تغلب إليها، ودخل سبكتكين بغداد، وأسلم بختيار. فلما سمع بختيار بقرب أبي تغلب منه خافه لأن عسكره كان قد عاد أكثره مع سبكتكين، وطلب الوزير ابن بقية من سبكتكين أن يسير نحو بختيار، فتثاقل، ثم فكر في العواقب، فسار على مضض، وكان أظهر للناس ما كان هم به.
وأما بختيار فإنه جمع أصحابه وهو بالدير الأعلى؛ ونزل أبو تغلب بالحصباء، تحت الموصل، وبينهما عرض البلد، وتعصب أهل الموصل لأبي تغلب، وأظهروا محبته لما نالهم من بختيار من المصادرات وأخذ الأموال، ودخل الناس بينهما في الصلح، فطلب أبو تغلب من بختيار أن يلقب لقباً سلطانياً، وأن يسلم إليه زوجته ابنة بختيار، وأن يحط عنه من ذلك القرار. فأجابه بختيار خوفاً منه، وتحالفا، وسار بختيار عن الموصل عائداً إلى بغداد، فأظهر أهل الموصل السرور برحيله، لأنه كان قد أساء معهم السيرة وظلمهم.
فلما وصل بختيار إلى الكحيل بلغه أن أبا تغلب قد قتل قوماً كانوا من أصحابه، وقد استأمنوا إلى بختيار، فعادوا إلى الموصل ليأخذوا ما لهم بها من أهل وما فقتلهم. فلما بلغه ذلك اشتد عليه، وأقام بمكانه، وأرسل إلى الوزير أبي طاهر بن بقية والحاجب سبكتكين يأمرهما بالإصعاد إليه، وكان قد أرسل إليهما يأمرهما بالتوقف، ويقول لهما إن الصلح قد استقر، فلما أرسل إليهما يطلبهما أصعدا إليه في العساكر، فعادوا جميعهم إلى الموصل، ونزلوا بالدير الأعلى أواخر جمادى الآخرة، وفارقها أبو تغلب إلى تل يعفر، وعزم عز الدولة على قصده وطلبه أين سلك، فأرسل أبو تغلب كاتبه وصاحبه أبا الحسن علي بن أبي عمرو إلى عز الدولة فاعتقله، واعتقل معه أبا الحسن ابن عرس، وأبا أحمد بن حوقل.
وما زالت المراسلات بينهما، وحلف أبو تغلب أنه لم يعلم بقتل أولئك، فعاد الصلح واستقر، وحمل إليه ما استقر من المال. فأرسل عز الدولة الشريف أبا أحمد الموسوي، والقاضي أبا بكر محمد بن عبد الرحمن، فحلفا أبا تغلب، وتجدد الصلح، وانحدر عز الدولة عن الموصل سابع عشر رجب، وعاد أبو تغلب إلى بلده.
ولما عاد بختيار عن الموصل جهز ابنته وسيرها إلى أبي تغلب، وبقيت معه إلى أن أخذت منه، ولم يعرف لها بعد ذلك خبر.
ذكر الفتنة بين بختيار وأصحابهفي هذه السنة ابتدأت الفتنة بين الأتراك والديلم بالأهواز، فعمت العراق جميعه، واشتدت.
وكان سبب ذلك أن عز الدولة بختيار قلت عنده الأموال، وكثر إدلال جنده عليه، واطراحهم لجانبه، وشغبهم عليه، فتعذر عليه القرار، ولم يجد ديوانه ووزيره جهة يحتال منها بشيء، وتوجهوا إلى الموصل لهذا السبب، فلم ينفتح عليهم، فرأوا أن يتوجهوا إلى الأهواز، ويتعرضوا لبختكين آزادرويه، وكان متوليها، ويعملوا له حجة يأخذون منه مالاً ومن غيره، فسار بختيار وعسكره، وتخلف عنه سبكتكين التركي، فلما وصلوا إلى الأهواز خدم بختيار وحمل له أموالاً جليلة المقدار، وبذل له من نفسه الطاعة، وبختيار يفكر في طريق يأخذه به.
فاتفق أنه جرى فتنة بين الأتراك والديلم، وكان سببها أن بعض الديلم نزل داراً بالأهواز، ونزل قريباً منه بعض الأتراك، وكان هناك لبن موضوع، فأراد غلام الديلمي أن يبني منه معلفاً للدواب، فمنعه غلام التركي، فتضاربا، وخرج كل واحد من التركي والديلمي إلى نصرة غلامه، فضعف التركي عنه، فركب واستنصر بالأتراك، فركبوا وركب الديلم، وأخذوا السلاح، فقتل بينهم بعض قواد الأتراك، وطلب الأتراك بثأر صاحبهم، وقتلوا به من الديلم قائداً أيضاً، وخرجوا إلى ظاهر البلد.
واجتهد بختيار في تسكين الفتنة، فلم يمكنه ذلك، فاستشار الديلم فيما يفعله، وكان أذناً يتبع كل قائل، فأشاروا عليه بقبض رؤساء الأتراك لتصفو له البلاد، فأحضروا آزادرويه وكاتبه سهل بن بشر، وسباشى الخوارزمي بكتيجور، وكان حماً لسبكتكين، فحضروا، فاعتقلهم وقيدهم، وأطلق الديلم في الأتراك، فنهبوا أموالهم ودوابهم وقتل بينهم قتلى، وهرب الأتراك، واستولى بختيار على إقطاع سبكتكين فأخذه، وأمر فنودي بالبصرة بإباحة دم الأتراك.
ذكر حيلة لبختيار عادت عليهكان بختيار قد واطأ والدته وإخوته أنه إذا كتب إليهم بالقبض على الأتراك يظهرون أن بختيار قد مات، ويجلسون للعزاء، فإذا حضر سبكتكين عندهم قبضوا عليه، فلما قبض بختيار على الأتراك كتب إليهم على أجنحة الطيور يعرفهم ذلك، فلما وقفوا على الكتب وقع الصراخ في داره، وأشاعوا موته، ظناً منهم أن سبكتكين يحضر عندهم ساعة يبلغه الخبر، فلما سمع الصراخ أرسل يسأل عن الخبر، فأعلموه، فأرسل يسأل عن الذي أخبرهم، وكيف أتاهم الخبر، فلم يجد نقلاً يثق القلب به، فارتاب بذلك.
ثم وصله رسله الأتراك بما جرى، فعلم أن ذلك كان مكيدة عليه، ودعاه الأتراك إلى أن يتأمر عليهم، فتوقف، وأرسل إلى أبي إسحاق بن معز الدولة يعلمه أن الحال قد انفسد بينه وبين أخيه، فلا يرجى صلاحه، وأنه لا يرى العدول عن طاعة مواليه وإن أساءوا إليه، ويدعوه إلى أن يعقد الأمر له. فعرض قوله على والدته، فمنعته.
فلما رأى سبكتكين ذلك ركب في الأتراك، وحصر دار بختيار يومين، ثم أحرقها ودخلها، وأخذ أبا إسحاق وأبا طاهر ابني معز الدولة ووالدتهما ومن كان معهما، فسألوه أن يمكنهم من الانحدار إلى واسط، ففعل، وانحدروا، وانحدر معهم المطيع لله في الماء، فأنفذ سبكتكين فأعاد ورده إلى داره، وذلك تاسع ذي القعدة، واستولى على ما كان لبختيار جميعه ببغداد، ونزل الأتراك في دور الديلم وتتبعوا أموالهم وأخذوها، وثارت العامة من أهل السنة ينصرون سبكتكين لأنه كان يتسنن، فخلع عليهم، وجعل لهم العرفاء والقواد، فثاروا بالشيعة وحاربوهم وسفكت بينهم الدماء، وأحرقت الكرخ حريقاً ثانياً، وظهرت السنة عليهم.
ذكر خلع المطيع وخلافة الطائع للهوفي هذه السنة، منتصف ذي القعدة، خلع المطيع لله، وكان به مرض الفالج، وقد ثقل لسانه، وتذرت الحركة عليه، وهو يستر ذلك، فانكشف حاله لسبكتكين هذه الدفعة، فدعاه إلى أن يخلع نفسه من الخلافة ويسلمها إلى ولده الطائع لله، واسمه أبو الفضل عبد الكريم، ففعل ذلك، وأشهد على نفسه بالخلع ثالث عشر ذي القعدة. وكانت مدة خلافته تسعاً وعشرين سنة وخمسة أشهر غير أيام، وبويع للطائع لله بالخلافة، واستقر أمره.
ذكر الحرب بين المعز لدين الله العلوي والقرامطةفي هذه السنة سار القرامطة، ومقدمهم الحسن بن أحمد، من الأحساء إلى ديار مصر فحصرها، ولما سمع المعز لدين الله صاحب مصر بأنه يريد قصد مصر كتب إليه كتاباً يذكر فيه فضل نفسه وأهل بيته وأن الدعوة واحدة، وأن القرامطة إنما كانت دعوتهم إليه، وإلى آبائه من قبله، ووعظه وبالغ، وتهدده، وسير الكتاب إليه.
فكتب جوابه: وصل كتابك الذي قل تحصيله وكثر تفضيله، ونحن سائرون إليك على أثره، والسلام.
وسار حتى وصل إلى مصر، فنزل على عين شمس بعسكره، وأنشب القتال، وبث السرايا في البلاد ينهبونها، فكثرت جموعه، وأتاه من العرب خلق كثير، وكان ممن أتاه حسان بن الجراح الطائي، أمير العرب بالشام، ومعه جمع عظيم.
فلما رأى المعز كثرة جموعه استعظم ذلك وأهمه، وتحير في أمره، ولم يقدم على إخراج عسكره لقتاله، فاستشار أهل الرأي من نصائحه، فقالوا: ليس حيلة غير السعي في تفريق كلمتهم، وإلقاء الخلف بينهم، ولا يتم ذلك إلا بابن الجراح؛ فراسله المعز واستماله، وبذل له مائة ألف دينار إن هو خالف على القرمطي، فأجابه ابن الجراح إلى ما طلب منه، فاستحلفوه، فحلف أنه إذا وصل إليه المال المقرر انهزم بالناس.
فاحضروا المال، فلما رأوه استكثروه، فضربوا أكثرها دنانير من صفر، وألبسوها الذهب، وجعلوها في أسافل الأكياس، وجعلوا الذهب الخالص على رؤوسها، وحمل إليه، فأرسل إلى المعز أن يخرج في عسكره يوم كذا ويقاتلوه وهو في الجهة الفلانية فإنه ينهزم، المعز ذلك فانهزم وتبعه العرب كافة، فلما رآه الحسن القرمطي منهزماً تحير في أمره، وثبت، وقاتل بعسكره، إلا أن عسكر المعز طمعوا فيه وتابعوا الحملات عليه من كل جانب، فأرهقوه، فولى منهزماً، واتبعوا أثره، وظفروا بمعسكره فأخذوا من فيه أسرى، وكانوا نحو ألف وخمسمائة أسير، فضربت أعناقهم، ونهب ما في المعسكر.
وجرد المعز القائد أبا محمد بن إبراهيم بن جعفر في عشرة آلاف رجل، وأمره باتباع القرامطة والإيقاع بهم، فاتبعهم، وتثاقل في سيره خوفاً أن ترجع القرامطة إليه؛ وأما هم فإنهم ساروا حتى نزلوا أذرعات، وساروا منها إلى بلدهم الأحساء، ويظهرون أنهم يعودون.
ذكر ملك المعز دمشق وما كان فيها من الفتنلما بلغ المعز انهزام القرمطي من الشام، وعوده إلى بلاده، أرسل القائد ظالم بن موهوب العقيلي والياً على دمشق، فدخلها، وعظم حاله، وكثرت جموعه وأمواله وعدته، لأن أبا المنجى وابنه صاحبي القرمطي كانا بدمشق، ومعهما جماعة من القرامطة، فأخذهم ظالم وحبسهم، وأخذ أموالهم وجميع ما يملكونه.
ثم إن القائد أبا محمود الذي سيره المعز يتبع القرامطة وصل إلى دمشق بعد وصول ظالم إليها بأيام قليلة، فخرج ظالم متلقياً له مسروراً بقدومه، لأنه كان مستشعراً من عود القرمطي إليه، فطلب منه أن ينزل بعسكره بظاهر دمشق، ففعل، وسلم إليه أبا المنجى وابنه ورجلاً آخر يعرف بالنابلسي، وكان هرب من الرملة، وتقرب إلى القرمطي، فأسر بدمشق أيضاً، فحملهم أبو محمد إلى مصر، فسجن أبو المنجى وابنه، وقيل للنابلسي: أنت الذي قلت لو أن معي عشرة أسهم لرميت تسعة في المغاربة وواحداً في الروم ؟ فاعترف، فسلخ جلده وحشي تبناً وصلب.
ولما نزل أبو محمود بظاهر دمشق امتدت أيدي أصحابه بالعيث والفساد، وقطع الطريق، فاضطرب الناس وخافوا، ثم إن صاحب الشرطة أخذ إنساناً من أهل البلد فقتله، فثار به الغوغاء والأحداث، وقتلوا أصحابه، وأقام ظالم بين الرعية يداريهم، وانتزح أهل القرى منها لشدة نهب المغاربة أموالهم، وظلمهم لهم، ودخلوا البلد، فلما كان نصف شوال من السنة وقعت فتنة عظيمة بين عسكر أبي محمود وبين العامة، وجرى بين الطائفتين قتال شديد، وظالم مع العامة يظهر أنه يريد الإصلاح، ولم يكاشف أبا محمود، وانفصلوا.
ثم إن أصحاب أبي محمود أخذوا من الغوطة قفلاً من حوران، وقتلوا منه ثلاثة نفر، فأخذهم أهلوهم وألقوهم في الجامع، فأغلقت الأسواق، وخاف الناس، وأرادوا القتال، فسكنهم عقلاؤهم.
ثم إن المغاربة أرادوا نهب قينية واللؤلؤة، فوقع الصائح في أهل البلد، فنفروا، وقاتلوا المغاربة في السابع عشر ذي القعدة، وركب أبو محمود في جموعه وزحف الناس بعضهم إلى بعض، فقوي المغاربة، وانهزم العامة إلى سور البلد، فصبروا عنده، وخرج إليهم من تخلف عنهم، وكثر النشاب على المغاربة فأثخن فيهم، فعادوا، فتبعهم العامة، فاضطروهم إلى العود، فعادوا، وحملوا على العامة فانهزموا، وتبعوهم إلى البلد، وخرج ظالم من دار الإمارة.
وألقى المغاربة النار في البلد من ناحية باب الفراديس، وأحرقوا تلك الناحية فأخذت النار إلى القبلة فأحرقت من البلد كثيراً، وهلك فيه جماعة من الناس، وما لا يحد من الأثاث والرحال والأموال، وبات الناس على أقبح صورة، ثم إنهم اصطلحوا هم وأبو محمود، ثم انتقضوا، ولم يزالوا كذلك إلى ربيع الآخر سنة أربع وستين وثلاثمائة.
ذكر ولاية جيش بن الصمصامة دمشقثم عادت الفتنة في ربيع الآخر سنة أربع وستين وثلاثمائة، وترددوا في الصلح، فاستقر الأمر بين القائد أبي محمود والدمشقيين على إخراج ظالم من البلد، وأن يليه جيش بن الصمصامة، وهو ابن أخت أبي محمود، واتفقوا على ذلك، وخرج ظالم من البلد، ووليه جيش بن الصمصامة، وسكنت الفتنة واطمأن الناس.
ثم إن المغاربة بعد أيام عاثوا وأفسدوا باب الفراديس، فثار الناس عليهم وقاتلوهم، وقتلوا من لحقوه، وصاروا إلى القصر الذي فيه جيش، فهرب منه هو ومن معه من الجند المغاربة، ولحق بالعسكر، فلما كان من الغد، وهو أول جمادى الأولى من السنة، زحف جيش في العسكر إلى البلد، وقاتله أهله، فظفر بهم وهزمهم، وأحرق من البلد ما كان سلم، ودام القتال بينهم أياماً كثيرة، فاضطرب الناس وخافوا، وخربت المنازل وانقطعت المواد، وانسدت المسالك، وبطل البيع والشراء، وقطع الماء عن البلد، فبطلت القنوات والحمامات، ومات كثير من الفقراء على الطرقات من الجوع والبرد، فأتاهم الفرج بعزل أبي محمود.
ذكر ولاية ريان الخادم دمشقلما كان بدمشق ما ذكرناه من القتال، والتحريق، والتخريب، وصل الخبر بذلك إلى المعز صاحب مصر، فأنكر ذلك واستبشعه واستعظمه، فأرسل إلى القائد ريان الخادم، والي طرابلس، يأمره بالمسير إلى دمشق لمشاهدة حالها وكشف أمور أهلها، وتعريفه حقيقة الأمر، وأن يصرف القائد أبا محمود عنها، فامتثل ريان ذلك، سار إلى دمشق، وكشف الأمر فيها وكتب به إلى المعز، وتقدم إلى القائد أبي محمود بالانصراف عنها، فسار في جماعة قليلة من العسكر إلى الرملة، وبقي الأكثر منهم مع ريان. وبقي الأمر كذلك إلى أن ولي الفتكين، على ما نذكره.
ذكر حال بختيار بعد قبض الأتراكلما فعل بختيار ما ذكرناه من قبض الأتراك ظفر بذخيرة لآزادرويه بجنديسابور، فأخذها، ثم رأى ما فعله الأتراك مع سبكتكين، وأن بعضهم بسواد الأهواز قد عصوا عليه، واضطر عليه غلمانه الذين في داره، وأتاه مشايخ الأتراك من البصرة، فعاتبوه على ما فعل بهم، وقال له عقلاء الديلم: لا بد لنا في الحرب من الأتراك يدفعون عنا بالنشاب؛ فاضطرب رأي بختيار، ثم أطلق آزادرويه، وجعله صاحب الجيش موضع سبكتكين، وظن أن الأتراك يأنسون به، وأطلق المعتقلين وسار إلى والدته وإخوته بواسط، وكتب إلى عمه ركن الدولة وإلى ابن عمه عضد الدولة يسألهما أن ينجداه، ويكشفا ما نزل به، وكتب إلى أبي تغلب بن حمدان يطلب منه أن يساعده بنفسه، وأنه إذا فعل ذلك أسقط عنه المال الذي عليه، وأرسل إلى عمران بن شاهين بالبطيحة خلعاً، وأسقط عنه باقي المال الذي اصطلحا عليه، وخطب إليه إحدى بناته، وطلب منه أن يسير إليه عسكراً.
فأما ركن الدولة عمه فإنه جهز عسكراً مع وزيره أبي الفتح بن العميد، وكتب إلى ابنه عضد الدولة يأمره بالمسير إلى ابن عمه والاجتماع مع ابن العميد.
وأما عضد الدولة فإنه وعد بالمسير، وانتظر ببختيار الدوائر طمعاً في ملك العراق.
وأما عمران بن شاهين فإنه قال: أما إسقاط المال فنحن نعلم أنه لا أصل له، وقد قبلته، وأما الوصلة فإنني لا أتزوج أحداً إلا أن يكون الذكر من عندي، وقد خطب إلي العلويون، وهم موالينا، فما أجبتهم إلى ذلك، وأما الخلع والفرس فإنني لست ممن يلبس ملبوسكم، وقد قبلها ابني، وأما إنفاذ عسكر فإن رجالي لا يسكنون إليكم لكثرة ما قتلوا منكم.
ثم ذكر ما عامله به هو وأبوه مرة بعد أخرى، وقال: ومع هذا فلا بد أن يحتاج إلى أن يدخل بيتي مستجيراً بي، والله لأعمالنه بضد ما عاملني به هو وأبوه؛ فكان كذلك.
وأما أبو تغلب بن حمدان فإنه أجاب إلى المسارعة، وأنفذ أخاه أبا عبدالله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان إلى تكريت في عسكر، وانتظر انحدار الأتراك عن بغداد، فإن ظفروا ببختيار دخل بغداد مالكاً لها، فلما انحدر الأتراك عن بغداد سار أبو تغلب إليها ليوجب على بختيار الحجة في إسقاط المال الذي عليه، ووصل إلى بغداد والناس في بلاء عظيم مع العيارين، فحمى البلد، وكف أهل الفساد.
وأما الأتراك فإنهم انحدروا مع سبكتكين إلى واسط، وأخذوا معهم الخليفة الطائع لله، والمطيع أيضاً وهو مخلوع، فلما وصلوا إلى دير العاقول توفي بها المطيع، ومرض سبكتكين فمات بها أيضاً، فحملا إلى بغداد، وقدم الأتراك عليهم الفتكين، وهو من أكابر قوادهم وموالي معز الدولة، وفرح بختيار بموت سبكتكين، وظن أن أمر الأتراك ينحل وينتشر بموته، فلما رأى انتظام أمورهم ساءه ذلك.
ثم إن الأتراك ساروا إليه، وهو بواسط، فنزلوا قريباً منه، وصاروا يقاتلونه نوائب نحو خمسين يوماً، ولم تزل الحرب بين الأتراك وبختيار متصلة، والظفر للأتراك في كل ذلك، وحصروا بختيار، واشتد عليه الحصار، وأحدقوا به، وصار خائفاً يترقب، وتابع إنفاذ الرسل إلى عضد الدولة بالحث والإسراع وكتب إليه:
فإن كنت مأكولاً فكن أنت آكلي ... وإلاّ فأدركني ولّما أمزّق
فلما رأى عضد الدولة ذلك، وأن الأمر قد بلغ ببختيار ما كان يرجوه، سار نحو العراق نجدة له في الظاهر، وباطنه بضد ذلك.
ذكر ملك عضد الدولة عمانفي هذه السنة استولى الوزير أبو القاسم المطهر بن محمد وزير عضد الدولة على جبال عمان، ومن بها من الشراة، في ربيع الأول.
وسبب ذلك أن معز الدولة لما توفي، وبعمان أبو الفرج بن العباس، نائب معز الدولة، فارقها، فتولى أمرها عمر بن نهبان الطائي، وأقام الدعوة لعضد الدولة، ثم إن الزنج غلبت على البلد، ومعهم طوائف من الجند، وقتلوا ابن نهبان، وأمروا عليهم إنساناً يعرف بابن حلاج، فسير عضد الدولة جيشاً من كرمان، واستعمل عليهم أبا حرب طغان، فساروا في البحر إلى عمان، فخرج أبو حرب من المراكب إلى البر، وسارت المراكب في البحر من ذلك المكان، فتوافوا على صحار قصبة عمان فخرج إليهم الجند والزنج واقتتلوا قتالاً شديداً في البر والبحر، فظفر أبو حرب، واستولى على صحار، وانهزم أهلها، وكان ذلك سنة اثنتين وستين.
ثم إن الزنج اجتمعوا إلى بريم، وهو رستاق بينه وبين صحار مرحلتان، فسار إليهم أبو حرب، فأوقع بهم وقعة أتت عليهم قتلاً وأسراً، فاطمأنت البلاد.
ثم إن جبال عمان اجتمع بها خلق كثير من الشراة، وجعلوا لهم أميراً اسمه ورد بن زياد، وجعلوا لهم خليفة اسمه حفص بن راشد، فاشتدت شوكتهم، فسير عضد الدولة المطهر بن عبدالله في البحر أيضاً، فبلغ إلى نواحي حرفان من أعمال عمان، فأوقع بأهلها، وأثخن فيهم، وأسر، ثم سار إلى دما، وهي على أربعة أيام من صحار، فقاتل من بها، وأوقع بهم وقعة عظيمة قتل فيها وأسر كثيراً من رؤسائهم، وانهزم أميرهم ورد، وإمامهم حفص، واتبعهم المطهر إلى نزوى، وهي قصبة تلك الجبال، فانهزموا منه، فسير إليهم العساكر، فأوقعوا بهم وقعة أتت على باقيهم، وقتل ورد، وانهزم حفص إلى اليمن، فصار معلماً، وسار المطهر إلى مكان يعرف بالشرف به جمع كثير من العرب، نحو عشرة آلاف، فأوقع بهم، واستقامت البلاد، ودانت بالطاعة، ولم يبق فيها مخالف.
ذكر عدة حوادثوفيها خطب للمعز لدين الله العلوي، صاحب مصر، بمكة والمدينة، في الموسم.
وفيها خرج بنو هلال وجمع من العرب على الحاج، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وضاق الوقت، فبطل الحج، ولم يسلم إلا من مضى مع الشريف أبي أحمد الموسوي، والد الرضي، على طريق المدينة، فتم حجهم.
وفيها كانت بواسط زلزلة عظيمة في ذي الحجة.
وفيها توفي عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد الفقيه الحنبلي المعروف بغلام الخلال وعمره ثمان وسبعون سنة.
وإلى آخر هذه السنة انتهى تاريخ ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة، وأوله من خلافة المقتدر بالله سنة خمس وتسعين ومائتين.
ثم دخلت سنة أربع وستين وثلاثمائة
ذكر استيلاء عضد الدولة على العراق
وقبض بختيارفي هذه السنة وصل عضد الدولة واستولى على العراق، وقبض بختيار ثم عاد فأخرجه.
وسبب ذلك أن بختيار لما تابع كتبه إلى عضد الدولة يستنجده، ويستعين به على الأتراك، سار إليه في عساكر فارس، واجتمع به أبو الفتح بن العميد، وزير أبيه ركن الدولة، في عساكر الري بالأهواز، وساروا إلى واسط. فلما سمع الفتكين بخبر وصولهم رجع إلى بغداد، وعزم على أن يجعلها وراء ظهره، ويقاتل على ديالى.
ووصل عضد الدولة، فاجتمع به بختيار، وسار عضد الدولة إلى بغداد في الجانب الشرقي، وأمر بختيار أن يسير في الجانب الغربي.
ولما بلغ الخبر إلى أبي تغلب بقرب الفتكين منه عاد عن بغداد إلى الموصل لأن أصحابه شغبوا عليه، فلم يمكنه المقام، ووصل الفتكين إلى بغداد، فحصل محصوراً من جميع جهاته، وذلك أن بختيار كتب إلى ضبة بن محمد الأسدي، وهو من أهل عين التمر، وهو الذي هجاه المتنبي، فأمره بالإغارة على أطراف بغداد، وبقطع الميرة عنها، وكتب بمثل ذلك إلى بني شيبان.
وكان أبو تغلب بن حمدان من ناحية الموصل يمنع الميرة وينفذ سراياه، فغلا السعر ببغداد، وثار العيارون والمفسدون فنهبوا الناس ببغداد، وامتنع الناس من المعاش لخوف الفتنة، وعدم الطعام والقوت بها، وكبس الفتكين المنازل في طلب الطعام.
وسار عضد الدولة نحو بغداد، فلقيه الفتكين والأتراك بين ديالى والمدائن، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزم الأتراك فقتل منهم خلق كثير، ووصلوا إلى ديالى فعبروا على جسور كانوا عملوها عليه، فغرق منهم أكثرهم من الزحمة، وكذلك قتل وغرق من العيارين الذين أعانوهم من بغداد، واستباحوا عسكرهم، وكانت الوقعة رابع عشر جمادى الأولى.
وسار الأتراك إلى تكريت، وسار عضد الدولة فنزل بظاهر بغداد، فلما علم وصول الأتراك إلى تكريت دخل بغداد ونزل بدار المملكة، وكان الأتراك قد أخذوا الخليفة معهم كارهاً، فسعى عضد الدولة حتى رده إلى بغداد، فوصلها ثامن رجب في الماء، وخرج عضد الدولة فلقيه في الماء أيضاً، وامتلأت دجلة بالسيمريات والزبازب، ولم يبق ببغداد أحد، ولو أراد إنسان أن يعبر دجلة على السميريات من واحدة إلى أخرى لأمكنه ذلك لكثرتها؛ وسار عضد الدولة مع الخليفة وأنزله بدار الخلافة.
وكان عضد الدولة قد طمع في العراق، واستضعف بختيار، وإنما خاف أباه ركن الدولة، فوضع جند بختيار على أن يثوروا به ويشغبوا عليه، ويطالبوه بأموالهم والإحسان لأجل صبرهم مقابل الأتراك، ففعلوا ذلك، وبالغوا. وكان بختيار لا يملك قليلاً ولا كثيراً، وقد نهب البعض، وأخرج هو الباقي، والبلاد خراب، فلا تصل يده إلى أخذ شيء منها.
وأشار عضد الدولة على بختيار بترك الالتفات إليهم، والغلظة لهم وعيهم، وأن لا يعدهم بما لا يقدر عليه، وأن يعرفهم أنه لا يريد الإمارة والرئاسة عليهم، ووعده أنه إذا فعل ذلك توسط الحال بينهم على ما يريده. فظن بختيار أنه ناصح له، مشفق عليه، ففعل ذلك، واستعفى من الإمارة، وأغلق باب داره، وصرف كتابه وحجابه، فراسله عضد الدولة ظاهراً بمحضر من مقدمي الجند يشير عليه بمقاربتهم، وتطييب قلوبهم، وكان أوصاه سراً أن لا يقبل منه ذلك. فعمل بختيار بما أوصاه، وقال: لست أميراً لهم، ولا بيني وبينهم معاملة، وقد برئت منهم. فترددت الرسل بينهم ثلاثة أيام، وعضد الدولة يغريهم به، والشغب يزيد، وأرسل بختيار إليه يطلب نجاز ما وعده به، ففرق الجند على عدة جميلة، واستدعى بختيار وإخوته إليه، فقبض عليهم، ووكل بهم، وجمع الناس وأعلمهم استعفاء بختيار عن الإمارة عجزاً عنها، ووعدهم الإحسان والنظر في أمورهم، فسكنوا إلى قوله. وكان قبضه على بختيار في السادس والعشرين من جمادى الآخرة.
وكان الخليفة الطائع لله نافراً عن بختيار لأنه كان مع الأتراك في حروبهم، فلما بلغه قبضه سره ذلك، وعاد إلى عضد الدولة، فأظهر عضد الدولة من تعظيم الخلافة ما كان قد نسي وترك، وأمر بعمارة الدار، والإكثار من الآلات، وعمارة ما يتعلق بالخليفة، وحماية إقطاعه؛ ولما دخل الخليفة إلى بغداد ودخل دار الخلافة أنفذ إليه عضد الدولة مالاً كثيراً، وغيره من الأمتعة والفرش وغير ذلك.
ذكر عود بختيار إلى ملكه
لما قبض بختيار كان ولده المرزبان بالبصرة متولياً لها، فلما بلغه قبض والده امتنع فيها على عضد الدولة، وكتب إلى ركن الدولة يشكو ما جرى على والده وعميه من عضد الدولة ومن أبي الفتح بن العميد، ويذكر له الحيلة التي تمت عليه، فلما سمع ركن الدولة ذلك ألقى نفسه عن سريره إلى الأرض وتمرغ عليها، وامتنع من الأكل والشرب عدة أيام، ومرض مرضاً لم يستقل منه باقي حياته.
وكان محمد بن بقية، بعد بختيار، قد خدم عضد الدولة، وضمن منه مدينة واسط وأعمالها، فلما صار إليها خلع طاعة عضد الدولة، وخالف عليه، وأظهر الامتعاض لقبض بختيار، وكاتب عمران بن شاهين، وطلب مساعدته، وحذره مكر عضد الدولة، فأجابه عمران إلى ما التمس.
وكان عضد الدولة قد ضمن سهل بن بشر، وزير الفتكين، بلد الأهواز، وأخرجه من حبس بختيار، فكاتبه محمد بن بقية واستماله، فأجابه، فلما عصى ابن بقية أنفذ إليه عضد الدولة جيشاً قوياً، فخرج إليهم ابن بقية في الماء ومعه عسكر قد سيره إليه عمران، فانهزم أصحاب عضد الدولة أقبح هزيمة، وكاتب ركن الدولة بحاله وحال بختيار، فكتب ركن الدولة إليه وإلى المرزبان وغيرهما ممن احتمى لبختيار، يأمرهم بالثبات والصبر، ويعرفهم أنه على المسير إلى العراق لإخراج عضد الدولة وإعادة بختيار.
فاضطربت النواحي على عضد الدولة، وتجاسر عليه الأعداء حيث علموا إنكار أبيه عليه، وانقطعت عنه مواد فارس والبحر، ولم يبق بيده إلا قصبة بغداد، وطمع فيه العامة، وأشرف على ما يكره، فرأى إنفاذ أبي الفتح بن العميد برسالة إلى أبيه يعرفه ما جرى له وما فرق من الأموال، وضعف بختيار عن حفظ البلاد، وإن أعيد إلى حاله خرجت المملكة والخلافة عنهم، وكان بوارهم، ويسأله ترك نصرة بختيار. وقال لأبي الفتح: فإن أجاب إلى ما تريد منه، وإلا فقل له: إنني أضمن منك أعمال العراق، وأحمل إليك منها كل سنة ثلاثين ألف ألف درهم، وأبعث بختيار وأخويه إليك لتجعلهم بالخيار، فإن اختاروا أقاموا عندك، وإن اختاروا بعض بلاد فارس سلمته إليهم، ووسعت عليهم، وإن أحببت أنت أن تحضر في العراق لتلي تدبير الخلافة، وتنفذ بختيار إلى الري وأعود أنا إلى فارس فالأمر إليك.
وقال لابن العميد: فإن أجاب إلى ما ذكرت له، وإلا فقل له: أيها السيد الوالد، أنت مقبول الحكم والقول، ولكن لا سبيل إلى إطلاق هؤلاء القوم بعد مكاشفتهم، وإظهار العداوة، وسيقاتلونني بغاية ما يقدرون عليه، فتنتشر الكلمة، ويختلف أهل هذا البيت أبداً، فإن قبلت ما ذكرته فأنا العبد الطائع، وإن أبيت، وحكمت بانصرافي، فإني سأقتل بختيار وأخويه، وأقبض على كل من أتهمه بالميل إليهم، وأخرج عن العراق، وأترك البلاد سائبة ليدبرها من اتفقت له.
فخاف ابن العميد أن يسير بهذه الرسالة، وأشار أن يسير بها غيره، ويسير هو بعد ذلك، ويكون كالمشير على ركن الدولة بإجابته إلى ما طلب، فأرسل عضد الدولة رسولاً بهذه الرسالة، وسير بعده ابن العميد على الجمازات، فلما حضر الرسول عند ركن الدولة، وذكر بعض الرسالة، وثب إليه ليقتله، فهرب من بين يديه، ثم رده بعد أن سكن غضبه، وقال: قل لفلان، يعني عضد الدولة، وسماه بغير اسمه، وشتمه، خرجت إلى نصرة ابن أخي وللطمع في مملكته، أما عرفت أني نصرت الحسن بن الفيرزان، وهو غريب مني، مراراً كثيرة أخاطر فيها بملكي ونفسي، فإذا ظفرت أعدت له بلاده، ولم أقبل منه ما قيمته درهم واحد. ثم نصرت إبراهيم بن المرزبان، وأعدته إلى أذربيجان، وأنفذت وزيري وعساكري في نصرته، ولم آخذ منه درهماً واحداً، كل ذلك طلباً لحسن الذكر، ومحافظة على الفتوة، تريد أن تمن أنت علي بدرهمين أنفقتهما أنت علي وعلى أولاد أخي، ثم تطمع في ممالكهم وتهددني بقتلهم ! فعاد الرسول ووصل ابن العميد، فحجبه عنه، ولم يسمع حديثه، وتهدده بالهلاك، وأنفذ إليه يقول له: لأتركنك وذلك الفاعل، يعني عضد الدولة، تجتهدان جهدكما، ثم لا أخرج إليكما إلا في ثلاثمائة جمازة وعليها الرجال، ثم اثبتوا إن شئتم، فوالله لا قاتلتكما إلا بأقرب الناس إليكما.
وكان ركن الدولة يقول: إنني أرى أخي معز الدولة كل ليلة في المنام يعض على أنامله ويقول: يا أخي هكذا ضمنت لي أن تخلفني في ولدي. وكان ركن الدولة يحب أخاه محبة شديدة لأنه رباه، فكان عنده بمنزلة الولد.
ثم إن الناس سعوا لابن العميد، وتوسطوا الحال بينه وبين ركن الدولة، وقالوا: إنما تحمل ابن العميد هذه الرسالة ليجعلها طريقاً للخلاص من عضد الدولة، والوصول إليك لتأمر بما تراه. فأذن له في الحضور عنده، فاجتمع به، وضمن له إعادة عضد الدولة إلى فارس، وتقرير بختيار بالعراق، فرده إلى عضد الدولة، وعرفه جلية الحال.
فلما رأى عضد الدولة انحراف الأمور عليه من كل ناحية أجاب إلى المسير إلى فارس وإعادة بختيار، فأخرجه من محبسه، وخلع عليه، وشرط عليه أن يكون نائباً عنه بالعراق، ويخطب له، ويجعل أخاه أبا إسحاق أمير الجيش لضعف بختيار، ورد عليهم عضد الدولة جميع ما كان لهم، وسار إلى فارس في شوال من هذه السنة، وأمر أبا الفتح بن العميد، وزير أبيه، أن يلحقه بعد ثلاثة أيام.
فلما سار عضد الدولة أقام ابن العميد عند بختيار متشاغلاً باللذات، وبما هو بختيار مغرى به من اللعب، واتفقا باطناً على أنه إذا مات ركن الدولة سار إليه ووزر له. واتصل ذلك بعضد الدولة، فكان سبب هلاك ابن العميد، على ما نذكره.
واستقر بختيار ببغداد، ولم يقف لعضد الدولة على العهود. فلما ثبت أمر بختيار أنفذ ابن بقية من خلفه له، وحضر عنده، وأكد الوحشة بين بختيار وعضد الدولة، وثارت الفتنة بعد مسير عضد الدولة، واستمال ابن بقية الأجناد، وجبى كثيراً من الأموال إلى خزانته، وكان إذا طالبه بختيار بالمال وضع الجند على مطالبته، فثقل على بختيار، فاستشار في مكروه يوقعه به، فبلغ ذلك ابن بقية، فعاتب بختيار عليه، فأنكره وحلف له، فاحترز ابن بقية منه.
ذكر اضطراب كرمان على عضد الدولة وعودها لهفي هذه السنة خالف أهل كرمان على عضد الدولة.
وسبب ذلك أن رجلاً من الجرومية، وهي البلاد الحارة، يقال له طاهر ابن الصمة، ضمن من عضد الدولة ضمانات، فاجتمع عليه أموال كثيرة، فطمع فيها، وكان عضد الدولة قد سار إلى العراق، وسير وزيره المطهر بن عبدالله إلى عمان ليستولي عليها، فخلت كرمان من العساكر، فجمع طاهر الرجال الجرومية وغيرهم، فاجتمع له خلق كثير.
واتفق أن بعض الأتراك السامانية، اسمه يوزتمر، كان قد استوحش من أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيمجور، صاحب جيش خراسان للسامانية، فكاتبه طاهر، وأطعمه في أعمال كرمان، فسار إليه، واتفقا، وكان يوزتمر هو الأمير، فاتفق أن الرجال الجرومية شغبوا على يوزتمر، فظن أن طاهراً وضعهم، فاختلفا واقتتلا، فظفر يوزتمر بطاهر وأسره، وظفر بأصحابه.
وبلغ الخبر إلى الحسين بن أبي علي بن إلياس، وهو بخراسان، فطمع في البلاد، فجمع جمعاً وسار إليها، فاجتمع عليه بها جموع كثيرة. ثم إن المطهر بن عبدالله استولى على عمان وجبالها، وأوقع بالشراة فيها وعاد، فوصله كتاب عضد الدولة من بغداد يأمره بالمسير إلى كرمان، فسار إليها مجداً، وأوقع في طريقه بأهل العيث والفساد، وقتلهم، وصلبهم، ومثل بهم، ووصل إلى يوزتمر على حين غفلة منه، فاقتتلوا بنواحي مدينة بم، فانهزم يوزتمر ودخل المدينة، وحصره المطهر في حصن في وسط المدينة، فطلب الأمان فأمنه، فخرج إليه ومعه طاهر، فأمر المطهر بطاهر فشهر، ثم ضرب عنقه.
وأما يوزتمر فإنه رفعه إلى بعض القلاع، فكان آخر العهد به، وسار المطهر إلى الحسين بن إلياس، فرأى كثرة من معه، فخاف جانبهم، ولم يجد من اللقاء بداً، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الحسين على باب جيرفت، وانهزم عسكره فمنعهم سور المدينة من الهرب، فكثر فيهم القتل، وأخذ الحسين أسيراً، وأحضر عند المطهر، فلم يعرف له بعد خبر، وصلحت كرمان لعضد الدولة.
ذكر ولاية الفتكين دمشق وما كان منه إلى أن ماتقد ذكرنا ما كان من انهزام الفتكين التركي، مولى معز الدولة بن بويه، من مولاه بختيار بن معز الدولة، ومن عضد الدولة في فتنة الأتراك بالعراق، فلما انهزم منهم سار في طائفة صالحة من الجند الترك، فوصل إلى حمص، فنزل بالقرب منها، فقصده ظالم بن موهوب العقيلي الذي كان أمير دمشق للمعز لدين الله ليأخذه، فلم يتمكن من أخذه، فعاد عنه وسار الفتكين إلى دمشق فنزل بظاهرها.
وكان أميرها حينئذ ريان الخادم للمعز، وكان الأحداث قد غلبوا عليها، وليس للأعيان معهم حكم، ولا للسلطنة عليهم طاعة، فلما نزل خرج أشرافها شيوخها إليه، وأظهروا له السرور بقدومه، وسألوه أن يقيم عندهم، ويملك بلدهم، ويزيل عنهم سمة المصريين، فإنهم يكرهونها بمخالفة الاعتقاد، ولظلم عمالهم، ويكف عنهم شر الأحداث. فأجابهم إلى ذلك؛ واستحلفهم على الطاعة والمساعدة، وحلف لهم على الحماية وكف الأذى عنهم منه ومن غيره، ودخل البلد، وأخرج عنه ريان الخادم، وقطع خطبة المعز، وخطب للطائع لله في شعبان، وقمع أهل العيث والفساد، وهابه الناس كافة، وأصلح كثيراً من أمورهم.
فكانت العرب قد استولت على سواد البلد وما يتصل به، فقصدهم وأوقع بهم، وقتل كثيراً منهم، وأبان عن شجاعة، وقوة نفس، وحسن تدبير، فأذعنوا له، وأقطع البلاد، وكثر جمعه، وتوفرت أمواله، وثبت قدمه.
وكاتب المعز بمصر يداريه، ويظهر له الانقياد، فشكره، وطلب منه أن يحضر عنده ليخلع عليه، ويعيده والياً من جانبه، فلم يثق به، وامتنع من المسير، فتجهز المعز، وجمع العساكر لقصده، فمرض ومات، على ما نذكره سنة خمس وستين وثلاثمائة، وولي بعده ابنه العزيز بالله، فأمن الفتكين بموته جهة مصر، فقصد بلاد العزيز التي بساحل الشام، فعمد إلى صيدا فحصرها وبها ابن الشيخ، ومعه رؤوس المغاربة، ومعهم ظالم بن موهوب العقيلي، فقاتلهم وكانوا في كثرة، فطمعوا فيه وخرجوا إليه فاستجرهم حتى أبعدوا، ثم عاد عليهم فقتل منهم نحو أربعة آلاف قتيل.
وطمع في أخذ عكا، فتوجه إليها، وقصد طبرية، ففعل فيها من القتل والنهب مثل صيدا، وعاد إلى دمشق.
فلما سمع العزيز بذلك استشار وزيره يعقوب بن كلس فيما يفعل، فأشار بإرسال جوهر في العساكر إلى الشام فجهزه وسيره. فلما سمع الفتكين بمسيره جمع أهل دمشق وقال: قد علمتم أنني ما وليت أمركم إلا عن رضىً منكم، وطلب من كبيركم وصغيركم لي، وإنما كنت مجتازاً وقد أظلكم هذا الأمر، وأنا سائر عنكم لئلا ينالكم أذىً بسببي. فقالوا: لا نمكنك من فراقنا، ونحن نبذل الأنفس والأموال في هواك، وننصرك، ونقو معك؛ فاستحلفهم على ذلك، فحلفوا له، فأقام عندهم. فوصل جوهر إلى البلد في ذي القعدة من سنة خمس وستين وثلاثمائة، فحصره، فرأى من قتال الفتكين ومن معه ما استعظمه، ودامت الحرب شهرين، قتل فيها عدد كثير من الطائفتين.
فلما رأى أهل دمشق طول مقام المغاربة عليهم أشاروا على الفتكين بمكاتبة الحسن بن أحمد القرمطي، واستنجاده، ففعل ذلك، فسار القرمطي إليه من الأحساء، فلما قرب منه رحل جوهر عن دمشق، خوفاً أن يبقى بين عدوين، وكان مقامه عليها سبعة أشهر، ووصل القرمطي واجتمع هو والفتكين، وسارا في أثر جوهر، فأدركاه وقد نزل بظاهر الرملة، وسير أثقاله إلى عسقلان، فاقتتلوا، فكان جمع الفتكين والقرمطي كثيراً من رجال الشام والعرب وغيرهم، فكانوا نحو خميسن ألف فارس وراجل، فنزلوا على نهر الطواحين، على ثلاثة فراسخ من البلد، ومنه ماء أهل البلد، فقطعوه عنهم، فاحتج جوهر ومن معه إلى ماء المطر في الصهاريج، وهو قليل لا يقوم بهم، فرحل إلى عسقلان، وتبعه الفتكين والقرمطي فحصراه بها، وطال الحصار، فقلت الميرة، وعدمت الأقوات، وكان الزمان شتاء، فلم يمكن حمل الذخائر في البحر من مصر وغيرها، فاضطروا إلى أكل الميتة، وبلغ الخبز كل خمسة أرطال، بالشامي، بدينار مصري.
وكان جوهر يراسل الفتكين، ويدعوه إلى الموافقة والطاعة، ويبذل له البذول الكثيرة، فيهم أن يفعل، فيمنعه القرمطي ويخوفه منه، فزادت الشدة على جوهر ومن معه، فعاينوا الهلاك، فأرسل إلى الفتكين يطلب منه أن يجتمع به، فتقدم إليه واجتمعا راكبين. فقال له جوهر: قد عرفت ما يجمعنا من عصمة الإسلام وحرمة الدين، وقد طالت هذه الفتنة، وأريقت فيها الدماء، ونهبت الأموال، ونحو المؤاخذون بها عند الله تعالى، وقد دعوتك إلى الصلح والطاعة والموافقة، وبذلت لك الرغائب، فأبيت إلا القبول ممن يشب نار الفتنة، فراقب الله تعالى، وراجع نفسك، وغلب رأيك على هوى غيرك.
فقال الفتكين: أنا والله واثق بك في صحة الرأي والمشورة منك، لكنني غير متمكن مما تدعوني إليه بسبب القرمطي الذي أحوجتني أنت إلى مداراته والقبول منه.
فقال جوهر: إذا كان الأمر على ما ذكرت فإنني أصدقك الحال تعويلاً على أمانتك، وما أجده من الفتوة عندك؛ وقد ضاق الأمر بنا، وأريد أن تمن علي بنفسي وبمن معي من المسلمين، وتذم لنا، وأعود إلى صاحبي شاكراً لك، وتكون قد جمعت بين حقن الدماء واصطناع المعروف.
فأجابه إلى ذلك، وحلف له على الوفاء به، وعاد واجتمع بالقرمطي وعرفه الحال فقال: لقد أخطأت، فإن جوهراً له رأي وحزم ومكيدة، وسيرجع إلى صاحبه فيحمله على قصدنا بما لا طاقة لنا به، والصواب أن ترجع عن ذلك ليموتوا جوعاً، ونأخذهم بالسيف؛ فامتنع الفتكين من ذلك وقال: لا أغدر به؛ وأذن لجوهر ولمن معه بالمسير إلى مصر، فسار إليه، واجتمع بالعزيز، وشرح له الحال وقال: إن كنت تريدهم فاخرج إليهم بنفسك، وإلا فهم واصلون على أثري؛ فبرز العزيز، وفرق الأموال، وجمع الرجال، وسار وجوهر على مقدمته.
وورد الخبر إلى الفتكين والقرمطي فعادا إلى الرملة، وجمعا العرب وغيرها، وحشدا، ووصل العزيز فنزل بظاهر الرملة، ونزلا بالقرب منه، ثم اصطفوا للحرب في المحرم سنة سبع وستين وثلاثمائة، فرأى العزيز من شجاعة الفتكين ما أعجبه، فأرسل إليه في تلك الحال يدعوه إلى طاعته، ويبذل له الرغائب والولايات، وأن يجعله مقدم عسكره، والمرجوع إليه في دولته، ويطلب أن يحضر عنده، ويسمع قوله، فترجل وقبل الأرض بين الصفين، وقال للرسول: قل لأمير المؤمنين: لو قدم هذا القول لسارعت وأطعت، وأما الآن فلا يمكن إلا ما ترى. وحمل على الميسرة فهزمها، وقتل كثيراً منها، فلما رأى العزيز ذلك حمل من القلب، وأمر الميمنة فحملت، فانهزم القرمطي والفتكين ومن معهما، ووضع المغاربة السيف، فأكثروا القتل، وقتلوا نحو عشرين ألفاً.
ونزل العزيز في خيامه، وجاءه الناس بالأسرى، فكل من أتاه بأسير خلع عليه، وبذل لمن أتاه بالفتكين أسيراً مائة ألف دينار، وكان الفتكين قد مضى منهزماً، فكظه العطش، فلقيه المفرج بن دغفل الطائي وكان بينهما أنس قديم، فطلب منه الفتكين ماء، فسقاه، وأخذه معه إلى بيته فأنزله وأكرمه، وسار إلى العزيز بالله فأعلمه بأسر الفتكين، وطلب منه المال، فأعطاه ما ضمنه، وسير معه من تسلم الفتكين منه، فلما وصل الفتكين إلى العزيز لم يشك أنه يقتله لوقته، فرأى من إكرام العزيز له والإحسان إليه ما أعجزه، وأمر له بالخيام فنصبت، وأعاد إليه جميع من كان يخدمه، فلم يفقد من حاله شيئاً، وحمل إليه من التحف والأموال ما لم ير مثله، وأخذه معه إلى مصر وجعله من أخص خدمه وحجابه.
وأما الحسن القرمطي فإنه وصل منهزماً إلى طبرية، فأدركه رسول العزيز يدعوه إلى العود إليه ليحسن إليه، ويفعل معه أكثر مما فعل مع الفتكين، فلم يرجع، فأرسل إليه العزيز عشرين ألف دينار، جعلها له كل سنة، فكان يرسلها إليه، وعاد إلى الأحساء.
ولما عاد العزيز إلى مصر أنزل الفتكين عند قصره، وزاد أمره، وتحكم، فتكبر على وزيره يعقوب بن كلس، وترك الركوب إليه، فصار بينهما عداوة متأكدة، فوضع عليه من سقاه سماً فمات، فحزن عليه العزيز واتهم الوزير فحبسه نيفاً وأربعين يوماً، وأخذ منه خمسمائة ألف دينار، ثم وقفت أمور دولة العزيز باعتزال الوزير، فخلع عليه، وأعاده إلى وزارته.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سار الحجاج إلى سميراء فرأوا هلال ذي الحجة بها، والعادة جارية بأن يرى الهلال بأربعة أيام، وبلغهم أنهم لا يرون الماء إلى غمرة، وهو بها أيضاً قليل، وبينهما نحو عشرة أيام، فغدوا إلى المدينة فوقفوا بها وعادوا، فكانوا أول المحرم في الكوفة.
وفيها ظهر بإفريقية كوكب عظيم من جهة المشرق، وله ذؤابة وضوء عظيم، فبقي يطلع كذلك نحواً من شهر، ثم غاب فلم ير وفيها توفي أبو القاسم عبد السلام بن أبي موسى المخرمي الصوفي نزيل مكة، وكان قد صحب أبا علي الروذباري وطبقته وغيره.
ثم دخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة
ذكر وفاة المعز لدين الله العلوي
وولاية ابنه العزيز بالله
في هذه السنة توفي المعز لدين الله أبو تميم معد بن المنصور بالله إسماعيل ابن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي أبي محمد عبيدالله العلوي الحسيني بمصر، وأمه أم ولد، وكان موته سابع عشر شهر ربيع الآخر من هذه السنة، وولد بالمهدية من إفريقية حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وعمره خمس وأربعون سنة وستة أشهر تقريباً.
وكان سبب موته أن ملك الروم بالقسطنطينية أرسل إليه رسولاً كان يتردد إليه بإفريقية، فخلا به بعض الأيام، فقال له المعز: أتذكر إذ أتيتني رسولاً، وأنا بالمهدية، فقلت لك: لتدخلن علي وأنا بمصر مالكاً لها ؟ قال: نعم ! وأنا أقول لك: لتدخلن علي ببغداد وأنا خليفة.
فقال له الرسول: إن أمنتني على نفسي، ولم تغضب، قلت لك ما عندي. قال له المعز: قل وأنت آمن؛ قال: بعثني إليك الملك ذلك العام، فرأيت من عظمتك في عيني وكثرة أصحابك ما كدت أموت منه، ووصلت إلى قصرك، فرأيت عليه نوراً عظيماً غطى بصري، ثم دخلت عليك، فرأيتك على سريرك، فظننتك خالقاً، فلو قلت لي إنك تعرج إلى السماء لتحققت ذلك، ثم جئت إليك الآن، فما رأيت من ذلك شيئاً، وأشرفت على مدينتك، فكانت في عيني سوداء مظلمة، ثم دخلت عليك، فما وجدت من المهابة ما وجدته ذلك العام، فقلت إن ذلك كان أمراً مقبلاً وإنه الآن بضد ما كان عليه.
فأطرق المعز، وخرج الرسول من عنده، وأخذت المعز الحمى لشدة ما وجد، واتصل مرضه حتى مات.
وكانت ولايته ثلاثاً وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام، منها: مقامه بمصر سنتان وتسعة أشهر، والباقي بإفريقية، وهو أول الخلفاء العلويين ملك مصر، وخرج إليها، وكان مغرىً بالنجوم، ويعمل بأقوال المنجمين. قال له منجمه: إن عليه قطعاً في وقت كذا، وأشار عليه بعمل سرداب يختفي فيه إلى أن يجوز ذلك الوقت، ففعل ما أمره وأحضر قواده، فقال لهم: إن بيني وبين الله عهداً أنا ماضٍ إليه، وقد استخلفت عليكم ابني نزارا، يعني العزيز، فاسمعوا له وأطيعوا.
ونزل السرداب، فكان أحد المغاربة إذا رأى سحاباً نزل وأومأ بالسلام إليه، ظناً منه أن العز فيه. فغاب سنة ثم ظهر، وبقي مديدة، ومرض وتوفي، فستر ابنه العزيز موته إلى عيد النحر من السنة، فصلى بالناس وخطبهم، ودعا لنفسه، وعزى بأبيه.
وكان المعز عالماً، فاضلاً، جواداً، شجاعاً، جارياً على منهاج أبيه من حسن السيرة، وإنصاف الرعية، وستر ما يدعون إليه، إلا عن الخاصة، ثم أظهره، وأمر الدعاة بإظهاره إلا أنه لم يخرج فيه إلى حد يذم به.
ولما استقر العزيز في الملك أطاعه العسكر، فاجتمعوا عليه، وكان هو يدبر الأمور منذ مات أبوه إلى أن أظهره، ثم سير إلى الغرب دنانير عليها اسمه، فرقت في الناس، وأقر يوسف بلكين على ولاية إفريقية، وأضاف إليه ما كان أبوه استعمل عليه غير يوسف، وهي طرابلس، وسرت، وأجدابية، فاستعمل عليها يوسف عماله، وعظم أمره حينئذ، وأمن ناحية العزيز، واستبد بالملك، وكان يظهر الطاعة مجاملة، ومراقبة لا طائل وراءها.
ذكر حرب يوسف بلكين مع زناتة
وغيرها بإفريقيةفي هذه السنة جمع خزرون بن فلفول بن خزر الزناتي جمعاً كبيراً، وسار إلى سجلماسة، فلقيه صاحبها في رمضان فقتله خزرون، وملك سجلماسة، وأخذ منها، من الأموال والعدد، شيئاً كثيراً، وبعث برأس صاحبها إلى الأندلس، وعظم شأنه زناتة، واشتد ملكهم.
وكان بلكين عند سبتة، وكان قد رحل إلى فاس وسجلماسة وأرض الهبط، وملكه كله، وطرد عنه عمال بني أمية وهربت زناتة منه، فلجأ كثير منهم إلى سبتة، وهي للأموي صاحب الأنلدس، وكان في طريقه شعاري مشتبكة، ولا تسلك، فأمر بقطعها وإحراقها، فقطعت وأحرقت حتى صارت للعسكر طريقاً.
ثم مضى بنفسه حتى أشرف على سبتة من جبل مطل عليها، فوقف نصف نهار لينظر من أي جهة يحاصرها ويقاتلها، فرأى أنها لا تؤخذ إلا بأسطول، فخافه أهلها خوفاً عظيماً، ثم رجع عنها نحو البصرة، وهي مدينة حسنة تسمى بصرة في المغرب، فلما سمعت به زناتة رحلوا إلى أقاصي الغرب في الرمال والصحاري هاربين منه، فدخل يوسف البصرة، وكان قد عمرها صاحب الأندلس عمارة عظيمة، فأمر بهدمها ونهبها، ورحل إلى بلد برغواطة.
وكان ملكهم عبس بن أم الأنصار، وكان مشعبذاً، ساحراً، وادعى النبوة، فأطاعوه في كل ما أمرهم به، وجعل لهم شريعة، فغزاه بلكين، وكانت بينهم حروب عظيمة لا توصف، كان الظفر في آخرها لبلكين، وقتل الله عبس بن أم الأنصار، وهزم عساكره، وقتلوا قتلاً ذريعاً، وسبى من نسائهم وأبنائهم ما لا يحصى، وسيره إلى إفريقية، فقال أهل إفريقية: إنه لم يدخل إليهم من السبي مثله قط؛ وأقام يوسف بلكين بتلك الناحية قاهراً لأهلها، وأهل سبتة منه خائفون، وزناتة هاربون في الرمال إلى سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة.
ذكر حصر كسنتة وغيرهافي هذه السنة سار أمي صقلية، وهو أبو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي الحسين، في عساكر المسلمين، ومعه جماعة من الصالحين والعلماء، فنازل مدينة مسيني في رمضان، فهرب العدو عنها، وعدا المسلمون إلى كسنتة فحصروها أياماً، فسأل أهلها الأمان، فأجابهم إليه، وأخذ منهم مالاً، ورحل عنها إلى قلعة جلوا، ففعل كذلك بها وبغيرها، وأمر أخاه القاسم أن يذهب بالأسطول إلى ناحية بربولة ويبث السرايا في جميع قلورية، ففعل ذلك فغنم غنائم كثيرة، وقتل وسبى، وعاد هو وأخوه إلى المدينة.
فلما كان سنة ست وستين وثلاثمائة أمر أبو القاسم بعمارة رمطة، وكانت قد خربت قبل ذلك، وعاود الغزو وجمع الجيوش، وسار فنازل قلعة إغاثة، فطلب أهلها الأمان فأمنهم، وسلموا إليه القلعة بجميع ما فيها، ورحل إلى مدينة طارنت، فرأى أهلها قد هربوا منها وأغلقوا أبوابها، فصعد الناس السور، وفتحوا الأبواب، ودخلها الناس، فأمر الأمير بهدمها فهدمت وأحرقت، وأرسل السرايا فبلغوا أذرنت وغيرها، ونزل هو على مدينة عردلية، فقاتلها، فبذل أهلها له مالاً صالحهم عليه وعاد إلى المدينة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خطب للعزيز العلوي بمكة، حرسها الله تعالى، بعد أن أرسل جيشاً إليها، فحصروها، وضيقوا على أهلها، ومنعوهم الميرة، فغلت الأسعار بها، ولقي أهلها شدة شديدة.
وفيها أقام بسلس بن أرمانوس ملك الروم ورداً، المعروف بسقلاروس، دمستقاً، فلما استقر في الولاية استوحش من الملك، فعصى عليه، واستظهر بأبي تغلب بن حمدان، وصاهره، ولبس التاج وطلب الملك.
وفيها توفي أبو أحمد بن عدي الجرجاني في جمادى الآخرة، وهو إمام مشهور؛ ومحمد بن بدر الكبير الحمامي، غلام ابن طولون، وكان قد ولي فارس بعد أبيه.
وفيها، في ذي القعدة، توفي ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة الصابي، صاحب التاريخ.
ثم دخلت سنة ست وستين وثلاثمائة
ذكر وفاة ركن الدولة
وملك عضد الدولةفي هذه السنة، في المحرم، توفي ركن الدولة أبو علي الحسن بن بويه، واستخلف على ممالكه ابنه عضد الدولة، وكان ابتداء مرضه حين سمع بقبض بختيار ابن أخيه معز الدولة، وكان ابنه عضد الدولة قد عاد من بغداد، بعد أن أطلق بختيار على الوجه الذي ذكرناه.
وظهر عند الخاص والعام غضب والده عليه، فخاف أن يموت أبوه وهو على حال غضبه فيختل ملكه، وتزول طاعته، فأرسل إلى أبي الفتح بن العميد، وزير والده، يطلب منه أن يتوصل مع أبيه وإحضاره عنده، وأن يعهد إليه بالملك بعده. فسعى أبو الفتح في ذلك، فأجابه إليه ركن الدولة، وكان قد وجد نفسه خفة، فسار من الري إلى أصبهان، فوصلها في جمادى الأولى سنة خمس وستين وثلاثمائة، وأحضر ولده عضد الدولة من فارس، وجمع عنده أيضاً سائر أولاده بأصبهان، فعمل أبو الفتح بن العميد دعوة عظيمة حضرها ركن الدولة وأولاده، والقواد والأجناد.
فلما فرغوا من الطعام عهد ركن الدولة إلى ولده عضد الدولة بالملك بعده، وجعل لولده فخر الدولة أبي الحسن علي همذان وأعمال الجبل، ولولده مؤيد الدولة أصبهان وأعمالها، وجعلهما في هذه البلاد بحكم أخيهما عضد الدولة.
وخلع عضد الدولة على سائر الناس، ذلك اليوم، الأقبية والأكسية على زي الديلم، وحياه القواد وإخوته بالريحان على عادتهم مع ملوكهم، وأوصى ركن الدولة أولاده بالاتفاق وترك الاختلاف، وخلع عليهم.
ثم سار عن أصبهان في رجب نحو الري، فدام مرضه إلى أن توفي، فأصيب به الدين والدنيا جميعاً لاستكمال جميع خلال الخير فيه، وكان عمره قد زاد على سبعين سنة، وكانت إمارته أربعاً وأربعين سنة.
ذكر بعض سيرته
كان حليماً، كريماً وصلى الله عليه وسلم اسع الكرم، كثير البذل، حسن السياسة لرعاياه وجنده، رؤوفاً بهم، عادلاً في الحكم بينهم، وكان بعيد الهمة، عظيم الجد والسعادة، متحرجاً من الظلم، مانعاً لأصحابه منه، عفيفاً عن الدماء، يرى حقنها واجباً إلا فيما لا بد منه؛ وكان يحامي على أهل البيوتات، وكان يجري عليهم الأرزاق، ويصونهم عن التبذل، وكان يقصد المساجد الجامعة، في أشهر الصيام، للصلاة، وينتصب لرد المظالم، ويتعهد العلويين بالأموال الكثيرة، ويتصدق بالأموال الجليلة على ذوي الحاجات، ويلين جانبه للخاص والعام.
قال له بعض أصحابه في ذلك، وذكر له شدة مرداويج على أصحابه، فقال: أنظر كيف احترم، ووثب عليه أخص أصحابه به، وأقربهم منه لعنفه وشدته، وكيف عمرت، وأحبني الناس للين جانبي.
وحكي عنه أنه سار في سفر، فنزل في خركاة قد ضربت له قبل أصحابه، وقدم إليه طعام، فقال لبعض أصحابه: لأي شيء قيل في المثل: خير الأشياء في القرية الإمارة ؟ فقال صاحبه: لقعودك في الخركاة، وهذا الطعام بين يديك، وأنا لا خركاة ولا طعام؛ فضحك وأعطاه الخركاة والطعام، فانظر إلى هذا الخلق ما أحسنه وما أجمله.
وفي فعله في حادثة بختيار ما يدل على كمال مروءته، وحسن عهده، وصلته لرحمه، رضي الله عنه وأرضاه، وكان له حسن عهد ومودة وإقبال.
ذكر مسير عضد الدولة إلى العراقفي هذه السنة تجهز عضد الدولة وسار يطلب العراق لما كان يبلغه عن بختيار وابن بقية من استمالة أصحاب الأطراف كحسنويه الكردي، وفخر الدولة بن ركن الدولة، وأبي تغلب بن حمدان، وعمران بن شاهين، وغيرهم، والاتفاق على معاداته، ولما كانا يقولانه من الشتم القبيح له، ولما رأى من حسن العراق وعظم مملكته إلى غير ذلك.
وانحدر بختيار إلى واسط على عزم محاربة عضد الدولة، وكان حسنويه وعده أنه يحضر بنفسه لنصرته، وكذلك أبو تغلب بن حمدان، فلم يف له واحد مهما.
ثم سار بختيار إلى الأهواز، أشار بذلك ابن بقية، وسار عضد الدولة من فارس نحوهم، فالتقوا في ذي القعدة واقتتلوا، فخامر على بختيار بعض عسكره، وانتقلوا إلى عضد الدولة، فانهزم بختيار، وأخذ ماله ومال ابن بقية، ونهبت الأثقال وغيرها؛ ولما وصل بختيار إلى واسط حمل إليه ابن شاهين صاحب البطيحة مالاً، وسلاحاً، وغير ذلك من الهدايا النفيسة، ودخل بختيار إليه، فأكرمه، وحمل إليه مالاً جليلاً، وأعلاقاً نفيسة، وعجب الناس من قول عمران: إن بختيار سيدخل منزلي وسيستجير بي؛ فكان كما ذكر. ثم أصعد بختيار إلى واسط.
وأما عضد الدولة فإنه سير إلى البصرة جيشاً فملكوها. وسبب ذلك أن أهلها اختلفوا، وكانت مضر تهوى عضد الدولة، وتميل إليه لأسباب قررها معهم، وخالفتهم ربيعة، ومالت إلى بختيار، فلما انهزم ضعفوا، وقويت مضر، وكاتبوا عضد الدولة، وطلبوا منه إنفاذ جيش إليهم، فسير جيشاً تسلم البلد وأقام عندهم.
وأقام بختيار بواسط، وأحضر ما كان له ببغداد والبصرة من مال وغيره ففرقه في أصحابه، ثم إنه قبض على ابن بقية لأنه اطرحه واستبد بالأمور دونه، وجبى الأموال إلى نفسه، ولم يوصل إلى بختيار منها شيئاً، وأراد أيضاً التقرب إلى عضد الدولة بقبضه لأنه هو الذي كان يفسد الأحوال بينهم.
ولما قبض عليه أخذ أمواله ففرقها، وراسل عضد الدولة في الصلح، وترددت الرسل بذلك، وكان أصحاب بختيار يختلفون عليه، فبعضهم يشير به، وبعضهم ينهى عنه، ثم إنه أتاه عبد الرزاق وبدر ابنا حسنويه في نحو ألف فارس معونةً له، فلما وصلا إليه أظهر المقام بواسط ومحاربة عضد الدولة. فاتصل بعضد الدولة أنه نقض الشرط، ثم بدا لبختيار في المسير، فسار إلى بغداد، فعاد عنه ابنا حسنويه إلى أبيهما، وأقام بختيار ببغداد، وانقضت السنة وهو بها، وسار عضد الدولة إلى واسط، ثم سار منها إلى البصرة، فأصلح بين ربيعة ومضر، وكانوا في الحروب والاختلاف نحو مائة وعشرين سنة.
ومن عجيب ما جرى لبختيار في هذه الحادثة أنه كان له غلام تركي يميل إليه، فأخذ في جملة الأسرى، وانقطع خبره عن بختيار، فحزن لذلك، وامتنع من لذاته والاهتمام بما رفع إليه من زوال ملكه وذهاب نفسه، حتى قال على رؤوس الأشهاد: إن فجيعتي بهذا الغلام أعظم من فيجعتي بذهاب ملكي، ثم سمع أنه في جملة الأسرى، فأرسل إلى عضد الدولة يبذل له ما أحب في رده إليه، فأعاده عليه، وسارت هذه الحادثة عنه، فازداد فضيحة وهواناً عند الملوك وغيرهم.
ذكر وفاة منصور بن نوح وملك ابنه نوحفي هذه السنة مات الأمير منصور بن نوح صاحب خراسان، وما وراء النهر، منتصف شوال، وكان موته ببخارى، وكانت ولايته خمس عشرة سنة، وولي الأمر بعده ابنه أبو القاسم نوح، وكان عمره حين ولي الأمر ثلاث عشرة سنة، ولقب بالمنصور.
ذكر وفاة القاضي منذر البلوطيفي هذه السنة، في ذي القعدة، مات القاضي منذر بن سعيد البلوطي، أبو الحاكم قاضي قضاة الأندلس، وكان إماماً فقيهاً، خطيباً، شاعراً، فصيحاً، ذا دين متين، دخل يوماً على عبد الرحمن الناصر، صاحب الأندلس، بعد أن فرغ من بناء الزهراء وقصورها، وقد قعد في قبة مزخرفة بالذهب، والبناء البديع الذي لم يسبق إليه، ومعه جماعة من الأعيان، فقال عبد الرحمن الناصر: هل بلغكم أن أحداً بنى مثل هذا البناء ؟ فقال له الجماعة: لم نر، ولم نسمع بمثله؛ وأثنوا، وبالغوا، والقاضي مطرق، فاستنطقه عبد الرحمن، فبكى القاضي، وانحدرت دموعه على لحيته، وقال: والله ما كنت أظن أن الشيطان، أخزاه الله تعالى، يبلغ منك هذا المبلغ، ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين، مع ما آتاك الله، وفضلك به، حتى أنزلك منازل الكافرين.
فقال له عبد الرحمن: انظر ما تقول، وكيف أنزلني منزل الكافرين ؟ فقال: قال الله تعالى: (وَلَوْلاَ أنْ يَكُونَ النّاس أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَن لِبُيُوتِهمْ سُقُفاً مِنْ فِضّةٍ، وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُون، وَلِبُيُوتِهمْ أبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ، وَزُخْرُفاً)، إلى قوله: (وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) الزخرف: 33 - 35.
فوجم عبد الرحمن وبكى، وقال: جزاك الله خيراً، وأكثر في المسلمين مثلك وأخبار هذا القاضي كثيرة حسنة جداً، ومنها: أنه قحط الناس وأرادوا الخروج للاستسقاء، فأرسل إليه عبد الرحمن يأمره بالخروج، فقال القاضي للرسول: يا ليت شعري ما الذي يصنعه الأمير يومنا هذا ؟ فقال: ما رأيته قط أخشع منه الآن، قد لبس خشن الثياب، وافترش التراب، وجعله على رأسه ولحيته، وبكى، واعترف بذنوبه، ويقول: هذه ناصيتي بيدك، أتراك تعذب هذا الخلق لأجلي ؟ فقال القاضي: يا غلام احمل الممطر معك، فقد أذن الله بسقيانا، إذا خشع جبار الأرض رحم جبار السماء؛ فخرج واستسقى بالناس، فلما صعد المنبر ورأى الناس قد شخصوا إليه بأبصارهم قال: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ، كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أنَّهُ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأصْلَحَ) الأنعام: 54 الآية، وكررها، فضج الناس بالبكاء والتوبة، وتمم خطبته فسقي الناس.
ذكر القبض على أبي الفتح بن العميدفي هذه السنة قبض عضد الدولة على أبي الفتح بن العميد، وزير أبيه، وسمل عينه الواحدة وقطع أنفه.
وكان سبب ذلك أن أبا الفتح لما كان ببغداد مع عضد الدولة، على ما شرحناه، وسار عضد الدولة نحو فارس تقدم إلى أبي الفتح بتعجيل المسير عن بغداد إلى الري، فخالفه وأقام، وأعجبه المقام ببغداد، وشرب مع بختيار، ومال في هواه، واقتنى ببغداد أملاكاً ودوراً على عزم العود إليها إذا مات ركن الدولة، ثم صار يكاتب بختيار بأشياء يكرهها عضد الدولة.
وكان له نائب يعرضها على بختيار، فكان ذلك النائب يكاتب بها عضد الدولة ساعة فساعة، فلما ملك عضد الدولة، بعد موت أبيه، كتب إلى أخيه فخر الدولة بالري يأمره بالقبض عليه وعلى أهله وأصحابه، ففعل ذلك، وانقلع بيت العميد على يده كما ظنه أبوه أبو الفضل.
وكان أبو الفتح ليلة قبض قد أمسى مسروراً، فأحضر الندماء والمغنين، وأظهر من الآلات الذهبية، والزجاج المليح، وأنواع الطيب ما ليس لأحد مثله، وشربوا، وعمل شعراً وغني له فيه وهو:
دعوت المنى ودعوت العلى ... فلمّا أجابا دعوت القدح
وقلت لأيّام شرخ الشباب ... إليّ فهذا أوان الفرح
إذا بلغ المرء آماله ... فليس له بعدها مقترح
فلما غني في الشعر استطابه، وشرب عليه إلى أن سكر، وقام وقال لغلمانه: اتركوا المجلس على ما هو عليه لنصطبح غداً؛ وقال لندمائه: بكروا إلي غداً لنصطبح، ولا تتأخروا. فانصرف الندماء، ودخل هو إلى بيت منامه، فلما كان السحر دعاه مؤيد الدولة فقبض عليه، وأرسل إلى داره فأخذ جميع ما فيها ومن جملته ذلك المجلس بما فيه.
ذكر وفاة الحاكم وولاية ابنه هشاموفي هذه السنة توفي الحاكم بن عبد الرحمن بن محمد بن عبدالله بن محمد بن عبد الرحمن المستنصر بالله الأموي، صاحب الأندلس، وكانت إمارته خمس عشرة سنة وخمسة أشهر، وعمره ثلاثاً وستين سنة وسبعة أشهر، وكان أصهب أعين، أقنى، عظيم الصوت، ضخم الجسم، أفقم، وكان محباً لأهل العلم، عالماً، فقيهاً في المذاهب، عالماً بالأنساب والتواريخ، جماعاً للكتب والعلماء، مكرماً لهم، محسناً إليهم، أحضرهم من البلدان البعيدة ليستفيد منهم ويحسن إليهم.
ولما توفي ولي بعده انه هشام بعهد أبيه، وله عشر سنين، ولقب المؤيد بالله، واختلفت البلاد في أيامه، وأخذ وحبس، ثم عاد إلى الإمارة.
وسببه أنه لما ولي المؤيد تحجب له المنصور أبو عامر محمد بن أبي عامر المعافري، وابناه المظفر والناصر، فلما حجب له أبو عامر حجبه عن الناس، فلم يكن أحد يراه، ولا يصل إليه، وقام بأمر دولته القيام المرضي، وعدل في الرعية، وأقبلت الدنيا إليه، واشتغل بالغزو، وفتح من بلاد الأعداء كثيراً، وامتلأت بلاد الأندلس بالغنائم والرقيق، وجعل أكثر جنده منهم كواضح الفتى وغيره من المشهورين، وكانوا يعرفون بالعامريين.
وأدام الله له الحال ستاً وعشرين سنة، غزا فيها اثنتين وخمسين غزاة ما بين صائفة وشاتية، وتوفي سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وكان حازماً، قوي العزم، كثير العدل والإحسان، حسن السياسة.
فمن محاسن أعماله: أنه دخل بلاد الفرنج غازياً، فجاز الدرب إليها، وهو مضيق بين جبلين، وأوغل في بلاد الفرنج يسبي، ويخرب، ويغنم، فلما أراد الخروج رآهم قد سدوا الدرب، وهم عليه يحفظونه من المسلمين، فأظهر أنه يريد المقام في بلادهم، وشرع هو وعسكره في عمارة المساكن وزرع الغلات، وأحضروا الحطب، والتبن، والميرة، وما يحتاجون إليه، فلما رأوا عزمه على المقام مالوا إلى السلم، فراسلوه في ترك الغنائم والجواز إلى بلاده، فقال: أنا عازم على المقام؛ فتركوا له الغنائم، فلم يجبهم إلى الصلح، فبذلوا له مالاً، ودواب تحمل له ما غنمه من بلادهم، فأجابهم إلى الصلح، وفتحوا له الدرب، فجاز إلى بلاده.
وكان أصله من الجزيرة الخضراء، وورد شاباً إلى قرطبة، طالباً للعلم والأدب وسماع الحديث، فبرع فيها وتميز، ثم تعلق بخدمة صبح والدة المؤيد، وعظم محله عندها، فلما مات الحاكم المستنصر كان المؤيد صغيراً، فخيف على الملك أن يختل، فضمن لصبح سكون البلاد، وزوال الخوف، وكان قوي النفس، وساعدته المقادير، وأمدته الأمراء بالأموال، فاستمال العساكر، وجرت الأمور على أحسن نظام.
وكانت أمه تميمية، وأبوه معافرياً، بطن من حمير، فلما توفي ولي بعده ابنه عبد الملك الملقب بالمظفر، فسار كسيرة أبيه، وتوفي سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، فكانت ولايته سبع سنين.
وكان سبب موته أن أخاه عبد الرحمن سمه في تفاحة قطعها بسكين كان قد سم أحد جانبيها، فناول أخاه ما يلي الجانب المسموم، وأخذ هو ما يلي الجانب الصحيح، فأكله بحضرته، فاطمأنه المظفر، وأكل ما بيده منها فمات.
فلما توفي ولي بعده أخوه عبد الرحمن الملقب بالناصر، فسلك غير طريق أبيه وأخيه، وأخذ في المجون، وشرب الخمور، وغير ذلك، ثم دس إلى المؤيد من خوفه منه إن لم يجعله ولي عهده، ففعل ذلك، فحقد الناس وبنو أمية عليه ذلك، وأبغضوه، وتحركوا في أمره إلى أن قتل.
وغزا شاتية، وأوغل في بلاد الجلالقة، فلم يقدم ملكها على لقائه، وتحصن منه في رؤوس الجبال، ولم يقدر عبد الرحمن على اتباعه لزيادة الأنهار، وكثرة الثلوج، فأثخن في البلاد التي وطئها، وخرج موفوراً، فبلغه في طريقه ظهور محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر لدين الله بقرطبة، واستيلاؤه عليها، وأخذه المؤيد أسيراً، فتفرق عنه عسكره، ولم يبق معه إلا خاصته، فسار إلى قرطبة ليتلافى ذلك الخطب، فخرج إليه عسكر محمد بن هشام فقتلوه وحملوا رأسه إلى قرطبة فطافوا به؛ وكان قتله سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، ثم صلبوه.
ذكر ظهور محمد بن هشام بقرطبةوفي سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ظهر بقرطبة محمد بن هشان بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر لدين الله الأموي، ومعه اثنا عشر رجلاً، فبايعه الناس، وكان ظهوره سلخ جمادى الآخرة، وتلقب بالمهدي بالله، وملك قرطبة، وأخذ المؤيد فحبسه معه في القصر، ثم أخرجه وأخفاه، وأظهر أنه مات.
وكان قد مات إنسان نصراني يشبه المؤيد، فأبرزه للناس في شعبان من هذه السنة، وذكر لهم أنه المؤيد، فلم يشكوا في موته، وصلوا عليه، ودفنوه في مقابر المسلمين، ثم إنه أظهره، على ما نذكره، وأكذب نفسه، فكانت مدة ولاية المؤيد هذه إلى أن حبس ثلاثاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر، ونقم الناس على ابن عبد الجبار أشياء منها أنه كان يعمل النبيذ في قصره، فسموه نباذاً، ومنها فعله بالمؤيد، وأنه كان كذاباً، متلوناً، مبغضاً للبربر، فانقلب الناس عليه.
ذكر خروج هشام بن سليمان عليهلما استوحش أهل الأندلس من ابن عبد الجبار، وأبغضوه، قصدوا هشام ابن سليمان بن عبد الرحمن الناصر لدين الله، فأخرجوه من داره وبايعوه، فتلقب بالرشيد، وذلك لأربع بقين من شوال سنة تسع وتسعين، واجتمعوا بظاهرة قرطبة، وحصروا ابن عبد الجبار، وترددت الرسل بينهم ليخلع ابن عبد الجبار من الملك على أن يؤمنه وأهله وجميع أصحابه.
ثم إن ابن عبد الجبار جمع أصحابه وخرج إليهم فقاتلهم، فانهزم هشام وأصحابه، وأخذ هشام أسيراً، فقتله ابن عبد الجبار، وقتل معه عدة من قواده، واستقر أمر ابن عبد الجبار، وكان عم هشام.
ذكر خروج سليمان عليه أيضاً
ولما قتل ابن عبد الجبار هشام بن سليمان بن الناصر وانهزم أصحابه انهزم معهم سليمان بن الحاكم بن سليمان بن الناصر، وهو ابن أخي هشام المقتول، فبايعه أصحاب عمه، وأكثرهم البربر، بعد الوقعة بيومين، ولقبوه المستعين بالله، ثم لقب بالظاهر بالله، وساروا إلى النصارى فصالحوهم واستنجدوهم وأنجدوهم وساروا معهم إلى قرطبة، فاقتتلوا هم وابن عبد الجبار بقنتيج، وهي الوقعة المشهورة غزوا فيها، وقتل ما لا يحصى، فانهزم ابن عبد الجبار، وتحصن بقصر قرطبة، ودخل سليمان البلد، وحصره في القصر.
فلما رأى ابن عبد الجبار ما نزل به أظهر المؤيد ظناً منه أنه يخلع هو وسليمان ويرجع الأمر إلى المؤيد، فلم يوافقه أحد ظناً منهم أن المؤيد قد مات. فلما أعياه الأمر احتار في الهرب، فهرب سراً واختفى، ودخل سليمان القصر، وبايعه الناس بالخلافة في شوال سنة أربعمائة، وبقي بقرطبة أياماً؛ وكان عدة القتلى بقنتيج نحو خمسة وثلاثين ألفاً، وأغار البربر والروم على قرطبة فنهبوا وسبوا وأسروا عدداً عظيماً.
ذكر عود ابن عبد الجبار وقتله وعود المؤيدلما اختفى ابن عبد الجبار سار سراً إلى طليطلة، وأتاه واضح الفتى العامري في أصحابه، وجمع له النصارى وسار بهم إلى قرطبة، فخرج إليهم سليمان فالتقوا بقرب عقبة البقر، واقتتلوا أشد قتال، فانهزم سليمان ومن معه منتصف شوال سنة أربعمائة، ومضى سليمان إلى شاطبة، ودخل ابن عبد الجبار قرطبة وجدد البيعة لنفسهن وجعل الحجابة لواضح وتصرف بالاختيار.
ثم إن جماعة من الفتيان العامريين، منهم عنبر، وخيرون، وغيرهما، كانوا مع سليمان، فأرسلوا إلى ابن عبد الجبار يطلبون قبول طاعتهم، وأن يجعلهم في جملة رجاله، فأجابهم إلى ذلك، وإنما فعلوا ذلك مكيدة به ليقتلوه، فلما دخلوا قرطبة استمالوا واضحاً فأجابهم إلى قتله، فلما كان تاسع ذي الحجة سنة أربعمائة اجتمعوا في القصر فملكوه، وأخذوا ابن عبد الجبار أسيراً، وأخرجوا المؤيد بالله فأجلسوه مجلس الخلافة وبايعوه، وأحضروا ابن عبد الجبار بين يديه، فعدد ذنوبه عليه، ثم قتل، وطيف برأسه في قرطبة، وكان عمره ثلاثاً وثلاثين سنة، وأمه أم ولد.
وكان ينبغي أن نذكر هذه الحوادث متأخرة، وإنما قدمناها لتعلق بعضها ببعض، ولأن كل واحد منهم ليس له من طول المدة ما تؤخر أخباره وتفرق.
ذكر عود أبي المعالي بن سيف الدولة إلى ملك حلبفي هذه السنة عاد أبو المعالي شريف بن سيف الدولة بن حمدان ملك حلب.
وكان سببه أن قرعويه لما تغلب عليها أخرج منها مولاه أبا المعالي، كما ذكرناه سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، فسار أبو المعالي إلى والدته بميافارقين، ثم أتى حماة، وهي له، فنزل بها، وكانت الروم قد خربت حمص وأعمالها، وقد ذكر أيضاً، فنزل إليه يا رقتاش مولى أبيه، وهو بحصن برزويه، وخدمه، وعمر له مدينة حمص، فكثر أهلها.
وكان قرعويه قد استناب بحلب مولىً له اسمه بكجور، فقوي بكجور، واستفحل أمره، وقبض على مولاه قرعويه، وحبسه في قلعة حلب، وأقام بها نحو ست سنين، فكتب من بحلب من أصحاب قرعويه إلى أبي المعالي بن سيف الدولة ليقصد حلب ويملكها، فسار إليها، وحصرها أربعة أشهر، وملكها.
وبقيت القلعة بيد بكجور، فترددت الرسل بينهما، فأجاب إلى التسليم على أن يؤمنه في نفسه وأهله وماله، ويوليه حمص، وطلب بكجور أن يحضر هذا الأمان والعهد وجوه بني كلاب، ففعل أبو المعالي ذلك، وأحضرهم الأمان والعهد، وسلم قلعة حلب إلى أبي المعالي، وسار بكجور إلى حمص فوليها لأبي المعالي، وصرف همته إلى عمارتها، وحفظ الطرق، فازدادت عمارتها، وكثر الخير بها، ثم انتقل منها إلى ولاية دمشق، على ما نذكره سنة ست وسبعين وثلاثمائة.
ذكر ابتداء دولة آل سبكتكينفي هذه السنة ملك سبكتكين مدينة غزنة وأعمالها، وكان ابتداء أمره أنه كان من غلمان أبي إسحاق بن البتكين، صاحب جيش غزنة للسامانية، وكان مقدماً عنده، وعليه مدار أمره، وقدم إلى بخارى، أيام الأمير منصور بن نوح، مع أبي إسحاق، فعرفه أرباب تلك الدولة بالعقل، والعفة، وجودة الرأي والصرامة، وعاد معه إلى غزنة، فلم يلبث أبو إسحاق أن توفي، ولم يخلف من أهله وأقاربه من يصلح للتقدم، فاجتمع عسكره ونظروا فيمن يلي أمرهم، ويجمع كلمتهم، فاختلفوا ثم اتفقوا على سبكتكين، لما عرفوه من عقله، ودينه، ومروءته، وكمال خلال الخير فيه، فقدموه عليهم، وولوه أمرهم، وحلفوا له، وأطاعوه، فوليهم، وأحسن السيرة فيهم، وساس أمورهم سياسةً حسنةً، وجعل نفسه كأحدهم في الحال والمال، وكان يذخر من إقطاعه ما يعمل منه طعاماً لهم في كل أسبوع مرتين.
ثم إنه جمع العساكر وسار نحو الهند مجاهداً، وجرى بينه وبين الهنود حروب يشيب لها الوليد، وكشف بلادهم، وشن الغارات عليها، وطمع فيها، وخافه الهنود، ففتح من بلادهم حصوناً ومعاقل، وقتل منهم ما لا يدخل تحت الإحصاء.
واتفق له في بعض غزواته أن الهنود اجتمعوا في خلق كثير، وطاولوه الأيام، وماطلوه القتال، فعدم الزاد عند المسلمين، وعجزوا عن الامتيار، فشكوا إليه ما هم فيه، فقال لهم: إني استصحبت لنفسي شيئاً من السويق استظهاراً، وأنا أقسمه بينكم قسمة عادلة على السواء إلى أن يمن الله بالفرج؛ فكان يعطي كل إنسان منهم ملء قدح معه، ويأخذ لنفسه مثل أحدهم، فيجتزئ به يوماً وليلة، وهم مع ذلك يقاتلون الكفار، فرزقهم الله النصر عليهم والظفر بهم، فقتلوا منهم وأسروا خلقاً كثيراً.
ذكر ولاية سبكتكين على قصدار وبستثم إن سبكتكين عظم شأنه، وارتفع قدره، وحسن بين الناس وذكره، وتعلقت الأطماع بالاستعانة به، فأتاه بعض الأمراء الكبار، وهو صاحب بست واسمه طغان، مستعيناً به مستنصراً.
وسبب ذلك أنه خرج عليه أمير يعرف ببابي تور، فملك مدينة بست عليه، وأجلاه عنها بعد حرب شديدة، فقصد سبكتكين مستنصراً به، وضمن له مالاً مقرراً، وطاعة يبذلها له، فتجهز وسار معه حتى نزل على بست، وخرج إليه بابي تور، فقاتله قتالاً شديداً، ثم انهزم بابي تور وتفرق هو وأصحابه وتسلم طغان البلد.
فلما استقر فيه طالبه بكتكين بما استقر عليه من المال، فأخذ في المطل، فأغلظ له في القول لكثرة مطله، فحمل طغان جهله على أن سل السيف فضرب يد سبكتكين فجرحها، فأخذ سبكتكين السيف وضربه أيضاً فجرحه، وحجز العسكر بينهما، وقامت الحرب على ساق، فانهزم طغان واستولى سبكتكين على بست.
ثم إنه سار إلى قصدار، وكان متوليها قد عصى عليه لصعوبة مسالكها، وحصانتها، وظن أن ذلك يمنعه، فسار إليه جريدة مجداً، فلم يشعر إلا والخيل معه، فأخذ من داره، ثم إنه من عليه ورده إلى ولايته، وقرر عليه مالاً يحمله إليه كل سنة.
ذكر مسير الهند إلى بلاد الإسلام
وما كان منهم مع سبكتكينلما فرغ سبكتكين من بست وقصدار غزا الهند، فافتتح قلاعاً حصينة على شواهق الجبال، وعاد سالماً ظافراً.
ولما رأى جيبال ملك الهند ما دهاه، وأن بلاده تملك من أطرافها، أخذه ما قدم وحدث، فحشد وجمع واستكثر من الفيول، وسار حتى اتصل بولاية سبكتكين، وقد باض الشيطان في رأسه وفرخ، فسار سبكتكين عن غزنة إليه ومعه عساكره وخلق كثير من المتطوعة، فالتقوا واقتتلوا أياماً كثيرة، وصبر الفريقان.
وكان بالقرب منهم عقبة غورك، وفيها عين ماء لا تقبل نجساً ولا قذراً، وإذا لقي فيه شيء من ذلك اكفهرت السماء، وهبت الرياح، وكثر الرعد والبرق والأمطار، ولا تزال كذلك إلى أن تطهر من الذي ألقي فيها، فأمر سبكتكين بإلقاء نجاسة في تلك العين، فجاء الغيم والرعد والبرق، وقامت القيامة على الهنود لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وتوالت عليهم الصواعق والأمطار، واشتد البرد، حتى هلكوا، وعميت عليهم المذاهب، واستسلموا لشدة ما عاينوه.
وأرسل ملك الهند إلى سبكتكين يطلب الصلح، وترددت الرسل، فأجابهم إليه بعد امتناع من ولده محمود، على مال يؤديه، وبلاد يسلمها، وخمسين فيلاً يحملها إليه، فاستقر ذلك، ورهن عنده جماعة من أهله على تسليم البلاد، وسير معه سبكتكين من يتسلمها، فإن المال والفيلة كانت معجلة، فلما أبعد جيبال ملك الهند قبض على من معه من المسلمين وجعلهم عنده عوضاً عن رهائنه.
فلما سمع سبكتكين بذلك جمع العساكر وسار نحو الهند، فأخرب كل ما مر عليه من بلادهم، وقصد لمغان، وهي من أحصن قلاعهم، فافتتحها عنوةً وهدم بيوت الأصنام وأقام فيها شعار الإسلام، وسار عنها يفتح البلاد، ويقتل أهلها، فلما بلغ ما أراده عاد إلى غزنة.
فلما بلغ الخبر إلى جيبال سقط في يده، وجمع العساكر وسار في مائة ألف مقاتل، فلقيه سبكتكين، وأمر أصحابه أن يتناوبوا القتال مع الهنود، ففعلوا ذلك، فضجر الهنود من دوام القتال معهم، وحملوا حملة واحدة، فعند ذلك اشتد الأمر وعظم الخطب، وحمل أيضاً المسلمون جميعهم، واختلط بعضهم ببعض، فانهزم الهنود، وأخذهم السيف من كل جانب، وأسر منهم ما لا يعد، وغنم أموالهم وأثقالهم ودوابهم الكثيرة.
وذل الهنود بعد هذه الوقعة، ولم يكن لهم بعدها راية، ورضوا بأن لا يطلبوا في أقاصي بلادهم، ولما قوي سبكتكين، بعد هذه الوقعة، أطاعه الأفغانية والخلج وصاروا في طاعته.
ذكر ملك قابوس بن وشمكير جرجانفي هذه السنة توفي ظهير الدولة بيستون بن وشمكير بجرجان؛ وكان قابوس أخوه زائراً خاله رستم بجبل شهريار؛ وخلف بيستون ابناً صغيراً بطبرستان مع جده لأمه، فطمع جده أن يأخذ الملك، فبادر إلى جرجان، فرأى بها جماعة من القواد قد مالوا إلى قابوس، فقبض عليهم، وبلغ الخبر إلى قابوس فسار إلى جرجان، فلما قاربها خرج الجيش إليه، وأجمعوا عليه، وملكوه، وهرب من كان مع ابن بيستون، فأخذه عمه قابوس وكفله، وجعله أسوة أولاده، واستولى على جرجان وطبرستان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في جمادى الأولى، نقلت ابنة عز الدولة بختيار إلى الطائع لله، وكان تزوجها.
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن عبدالله بن زكرياء بن حيويه في رجب.
في صفر منها توفي أبو الحسن علي بن وصيف الناشئ المعروف بالخلال، صاحب المراثي الكثيرة في أهل البيت.
وفيها توفي أبو يعقوب بن الحسن الجنابي صاحب هجر، وكان مولده سنة ثمانين ومائتين، وتولى أمر القرامطة بعده ستة نفر شركة، وسموا السادة، وكانوا متفقين.
ثم دخلت سنة سبع وستين وثلاثمائة
ذكر استيلاء عضد الدولة على العراقفي هذه السنة سار عضد الدولة إلى بغداد، وأرسل إلى بختيار يدعوه إلى طاعته، وأن يسير عن العراق إلى أي جهة أراد، وضمن مساعدته بما يحتاج إليه من مال وسلاح وغير ذلك.
فاختلف أصحاب بختيار عليه في الإجابة إلى ذلك، إلا أنه أجاب إليه لضعف نفسه، فأنفذ له عضد الدولة خلعة، فلبسها، وأرسل إليه يطلب منه ابن بقية، فقلع عينيه وأنفذه إليه.
وتجهز بختيار بما أنفذه إليه عضد الدولة، وخرج عن بغداد عازماً على قصد الشام، وسار عضد الدولة فدخل بغداد، وخطب له بها، ولم يكن قبل ذلك يخطب لأحد ببغداد، وضرب على بابه ثلاث نوب، ولم تجر بذلك عادة من تقدمه، وأمر بأن يلقى ابن بقية بين قوائم الفيلة لتقتله، ففعل به ذلك، وخبطته الفيلة حتى قتلته، وصلب على رأس الجسر في شوال من هذه السنة، فرثاه أبو الحسين الأنباري بأبيات حسنة في معناها وهي:
علوٌّ في الحياة وفي الممات ... لحقٌّ أنت إحدى المعجزات
كأنّ الناس حولك حين قاموا ... وفود نداك أيّام الصّلات
كأنّك قائمٌ فيهم خطيباً، ... وكلّهم قيامٌ للصّلاة
مددت يديك نحوهم اقتفاءً، ... كمدّهما إليهم في الهبات
ولّما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضمّ علاك من بعد الممات
أصاروا الجوّ قبرك، واستنابوا ... عن الأكفان ثوب السافيات
لعظمك في النفوس تبيت ترعى ... بحرّاسٍ وحفّاظٍ ثقات
وتشعل عندك النيران ليلاً ... كذلك كنت أيّام الحياة
ولم أر قبل جذعك قطّ جذعاً ... تمكّن من عناق المكرمات
ركبت مطّيةً من قبل زيدٌ ... علاها في السّنين الذّاهبات
وهي كثيرة؛ قوله زيد علاها يعني زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، لما قتل وصلب أيام هشام بن عبد الملك، وقد ذكر؛ وبقي ابن بقية مصلوباً إلى أيام صمصام الدولة فأنزل من جذعه ودفن.
ذكر قتل بختيارلما سار بختيار عن بغداد عزم على قصد الشام ومعه حمدان بن ناصر الدولة ابن حمدان، فلما صار بختيار بعكبرا حسن له حمدان قصد الموصل، وكثرة أموالها، وأطمعه فيها، وقال إنها خير من الشام وأسهل.
فسار بختيار نحو الموصل، وكان عضد الدولة قد حلفه أنه لا يقصد ولاية أبي تغلب بن حمدان لمودة ومكاتبة كانت بينهما، فنكث وقصدها، فلما صار إلى تكريت أتته رسل أبي تغلب تسأله أن يقبض على أخيه حمدان ويسلمه إيه، وإذا فعل سار بنفسه وعساكره إليه، وقاتل معه عضد الدولة، وأعاده إلى ملكه بغداد، فقبض بختيار على حمدان وسلمه إلى نواب أبي تغلب، فحبسه في قلعة له، وسار بختيار إلى الحديثة، واجتمع مع أبي تغلب، وسارا جميعاً نحو العراق، وكان مع أبي تغلب نحو من عشرين ألف مقاتل.
وبلغ ذلك عضد الدولة، فسار عن بغداد نحوهما، فالقوا بقصر الجص بنواحي تكريت ثامن عشر شوال، فهزمهما، وأسر بختيار، وأحضر عند عضد الدولة، فلم يأذن بإدخاله إليه، وأمر بقتله فقتل، وذلك بمشورة أبي الوفاء طاهر بن إبراهيم، وقتل من أصحابه خلق كثير، واستقر ملك عضد الدولة بعد ذلك، وكان عمر بختيار ستاً وثلاثين سنة، وملك إحدى عشرة سنة وشهوراً.
ذكر استيلاء عضد الدولة على ملك بني حمدانلما انهزم أبو تغلب وبختيار سار عضد الدولة نحو الموصل، فملكها ثاني عشر ذي القعدة، وما يتصل بها، وظن أبو تغلب أنه يفعل كما كان غيره يفعل، يقيم يسيراً، ثم يضطر إلى المصالحة، ويعود.
وكان عضد الدولة أحزم من ذلك، فإنه لما قصد الموصل حمل معه الميرة والعلوفات، ومن يعرف ولاية الموصل وأعمالها، وأقام بالموصل مطمئناً، وبث السرايا في طلب أبي تغلب، فأرسل أبو تغلب يطلب أن يضمن البلاد، فلم يجبه عضد الدولة إلى ذلك، وقال: هذه البلاد أحب إلي من العراق.
وكان مع أبي تغلب المرزبان بن بختيار، وأبو إسحاق، وأبو طاهر ابنا معز الدولة، ووالدتهما، وهي أم بختيار، وأسبابهم، فسار أبو تغلب إلى نصيبين، فسير عضد الدولة سرية عليها حاجبه أبو حرب طغان إلى جزيرة ابن عمر، وسير في طلب أبي تغلب سرية، واستعمل عليها أبا الوفاء طاهر ابن محمد، على طريق سنجار، فسار أبو تغلب مجداً، فبلغ ميافارقين، وأقام بها ومعه أهله، فلما بلغه مسير أبي الوفاء إليه سار نحو بدليس ومعه النساء وغيرهم من أهله، ووصل أبو الوفاء إلى ميافارقين، فأغلقت دونه، وهي حصينة منيعة من حصون الروم القديمة، وتركها وطلب أبا تغلب.
وكان أبو تغلب قد عدل من أرزن الروم إلى الحسنية من أعمال الجزيرة وصعد إلى قلعة كواشى وغيرها من قلاعه، وأخذ ما له فيها من الأموال، وعاد أبو الوفاء إلى ميافارقين وحصرها.
ولما اتصل بعضد الدولة مجيء أبي تغلب إلى قلاعه سار إليه بنفسه، فلم يدركه، ولكنه استأمن إليه أكثر أصحابه، وعاد إلى الموصل، وسير في أثر أبي تغلب عسكراً مع قائد من أصحابه يقال له طغان، فتعسف أبو تغلب إلى بدليس، وظن أنه لا يتبعه أحدٌ، فتبعه طغان، فهرب من بدليس وقصد بلاد الروم ليتصل بملكهم المعروف بورد الرومي، وليس من بيت الملك، وإنما تملك عليهم قهراً، واختلف الروم عليه، ونصبوا غيره من أولاد ملوكهم، فطالت الحرب بينهم، فصاهر ورد هذا أبا تغلب ليتقوى به، فقدر أن أبا تغلب احتاج إلى الأعتضاد به.
ولما سار أبو تغلب من بدليس أدركه عسكر عضد الدولة، وهم حريصون على أخذ ما معه من المال، فإنهم كانوا قد سمعوا بكثرته، فلما وقعوا عليه نادى أميرهم: لا تتعرضوا لهذا المال، فهو لعضد الدولة؛ ففتروا عن القتال.
فلما رآهم أبو تغلب فاترين حمل عليهم فانهزموا، فقتل منهم مقتلة عظيمة ونجا منهم، فنزل بحصن زياد، ويعرف الآن بخرتبرت، وأرسل ورد المذكور فعرفه ما هو بصدده من اجتماع الروم عليه، واستمده، وقال: إذا فرغت عدت إليك. فسير إليه أبو تغلب طائفة من عسكره، فاتفق أن ورداً انهزم، فلما علم أبو تغلب بذلك يئس من نصره، وعاد إلى بلاد الإسلام، فنزل بآمد، وأقام بها شهرين إلى أن فتحت ميافارقين.
ذكر عدة حوادثفيها ظهر بإفريقية في السماء حمرة بين المشرق والشمال، مثل لهب النار، فخرج الناس يدعون الله تعالى، ويتضرعون إليه، وكان بالمهدية زلازل وأهوال أقامت أربعين يوماً، حتى فارق أهلها منازلهم، وأسلموا أمتعتهم.
وفيها سير العزيز بالله العلوي صاحب مصر وإفريقية أميراً على الموسم ليحج بالناس، وكانت الخطبة له بمكة، وكان الأمير على الموسم باديس بن زيري أخا يوسف بلكين، خليفته بإفريقية، فلما وصل إلى مكة أتاه اللصوص بها فقالوا له: نتقبل منك الموسم بخمسين ألف درهم، ولا تتعرض لنا؛ فقال لهم؛ أفعل ذلك، اجمعوا إلي أصحابكم حتى يكون العقد مع جميعكم، فاجتمعوا فكانوا نيفاً وثلاثين رجلاً، فقال: هل بقي منك أحد ؟ فحلفوا أنه لم يبق منهم أحد، فقطع أيديهم كلهم.
وفيها زادت دجلة زيادة عظيمة، وغرقت كثيراً من الجانب الشرقي ببغداد، وغرقت أيضاً مقابر بباب التبن بالجانب الغربي منها، وبلغت السفينة أجرة وافرة، وأشرف الناس على الهلاك، ثم نقص الماء فأمنوا.
وفيها توفي القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قريعة، وله نوادر مجموعة، وعمره خمس وستون سنة.
وفيها خلع على القاضي عبد الجبار بن أحمد بالري، وولي القضاء بها وبما تحت حكم مؤيد الدولة من البلاد، وهو من أئمة المعتزلة، ويرد في تراجم تصانيفه قاضي القضاة، ويعني به قاضي قضاة أعمال الري، وبعض من لا يعلم ذلك يظنه قاضي القضاة مطلقاً وليس كذلك.
ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلاثمائة
ذكر فتح ميافارقين وآمد
وغيرهما من ديار بكر على يد عضد الدولة
لما عاد أبو الوفاء من طلب أبي تغلب نازل ميافارقين، وكان الوالي عليها هزارمرد، فضبط البلد، وبالغ في قتال أبي الوفاء ثلاثة أشهر، ثم مات هزارمرد، فكوتب أبو تغلب بذلك، فأمر أن يقام مقامه غلام من الحمدانية اسمه مؤنس فولي البلد، ولم يكن لأبي الوفاء فيه حيلة، فعدل عنه، وراسل رجلاً من أعيان البلد اسمه أحمد بن عبيدالله، واستماله فأجابه، وشرع في استمالة الرعية إلى أبي الوفاء، فأجابوه إلى ذلك، وعظم أمره، وأرسل إلى مؤنس يطلب منه المفاتيح، فلم يمكنه منعه لكثرة أتباعه، فأنفذها إليه، وسأله أن يطلب له الأمان، فأرسل أحمد بن عبيدالله إلى أبي الوفاء في ذلك فأمنه، وأمن سائر أهل البلد، ففتح له البلد وسلمه إليه.
وكان أبو الوفاء مدة مقامه على ميافارقين قد بث سراياه في تلك الحصون المجاورة لها، فافتتحها جميعها، فلما سمع أبو تغلب بذلك سار عن آمد نحو الرحبة، هو وأخته جميلة، وأمر بعض أهله بالاستئمان إلى أبي الوفاء، ففعلوا، ثم إن أبا الوفاء سار إلى آمد فحصرها، فلما رأى أهلها ذلك سلكوا مسلك أهل ميافارقين، فسلموا البلد بالأمان، فاستولى أبو الوفاء على سائر ديار بكر، وقصده أصحاب أبي تغلب وأهله مستأمنين إليه، فأمنهم، وأحسن إليهم، وعاد إلى الموصل.
وأما أبو تغلب فإنه لما قصد الرحبة أنفذ رسولاً إلى عضد الدولة يستعطفه، ويسأله الصفح، فأحسن جواب الرسل، وبذل له إقطاعاً يرضيه، على أن يطأ بساطه، فلم يجبه أبو تغلب إلى ذلك، وسار إلى الشام، إلى العزيز بالله صاحب مصر.
ذكر فتح ديار مضر على يد عضد الدولةكان متولي ديار مضر لأبي تغلب بن حمدان سلامة البرقعيدي، فأنفذ إليه سعد الدولة بن سيف الدولة من حلب جيشاً، فجرت بينهم حروب، وكان سعد الدولة قد كاتب عضد الدولة، وعرض نفسه عليه، فأنفذ عضد الدولة النقيب أبا أحمد، والد الرضي، إلى البلاد التي بيد سلامة، فتسلمها بعد حرب شديدة، ودخل أهلها في الطاعة، فأخذ عضد الدولة لنفسه الرقة حسب، ورد باقيها إلى سعد الدولة فصارت له.
ثم استولى عضد الدولة على الرحبة، وتفرغ بعد ذلك لفتح قلاعه وحصونه، وهي قلعة كواشى، وكانت فيها خزائنه وأمواله، وقلعة هرور والملاسي وبرقى والشعباني وغيرها من الحصون، فلما استولى على جميع أعمال أبي تغلب استخلف أبا الوفاء على الموصل، وعاد إلى بغداد في سلخ ذي القعدة، ولقيه الطائع لله، وجمع من الجند وغيرهم.
ذكر ولاية قسام دمشقلما فارق الفتكين دمشق، كما ذكرناه، تقدم على أهلها قسام، وكان سبب تقدم قسام أن الفتكين قربه ووثق إليه، وعول في كثير من أموره عليه، فعلا ذكره وصيته، وكثر أتباعه من الأحداث، فاستولى على البلد وحكم فيه.
وكان القائد أبو محمود قد عاد إلى البلد والياً عليه للعزيز، فلم يتم له مع قسام أمر، وكان لا حكم له، ولم يزل أمر قسام على دمشق نافذاً، وهو يدعو للعزيز بالله العلوي.
ووصل إليه أبو تغلب بن حمدان، صاحب الموصل، منهزماً، كما ذكرناه، فمنعه قسام من دخول دمشق، وخافه على البلد أن يتولاه، إما غلبةً، وإما بأمر العزيز، فاستوحش أبو تغلب وجرى بين أصحابه وأصحاب أبي تغلب شيء من قتال، فرحل أبو تغلب إلى طبرية.
وورد من عند العزيز قائد اسمه الفضل في جيش، فحصر قساماً بدمشق، فلم يظفر به، فعاد عنه، وبقي قسام كذلك إلى سنة تسع وستين وثلاثمائة، فسير من مصر أميراً إلى دمشق اسمه سلمان بن جعفر بن فلاح، فوصل إليها، فنزل بظاهرها، ولم يتمكن من دخولها، وأقام في غير شيء، فنهى الناس عن حمل السلاح، فلم يسمعوا منه، ووضع قسام أصحابه على سلمان، فقاتلوه وأخرجوه من الموضع الذي كان فيه. وكان قسام بالجامع، والناس عنده، فكتب محضراً وسيره إلى العزيز يذكر أنه كان بالجامع عند هذه الفتنة، ولم يشهدها، وبذل من نفسه أنه إن قصده عضد الدولة بن بويه أو عسكر له قاتله، ومنعه من البلد، فأغضى العزيز لقسام على هذه الحال لأنه كان يخاف أن يقصد عضد الدولة الشام، فلما فارق سلمان دمشق عاد إليها القائد أبو محمود، ولا حكم له، والحكم جميعه لقسام، فدام ذلك.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كانت زلازل شديدة كثيرة، وكان أشدها بالعراق.
وفيها توفي القاضي أبو سعيد الحسن بن عبدالله السيرافي النحوي مصنف شرح كتاب سيبويه، وكان فقيهاً، فاضلاً، مهندساً، منطيقياً، فيه كل فضيلة، وعمره أربع وثمانون سنة، وولي بعده أبو محمد بن معروف الحاكم بالجانب الشرقي ببغداد.
ثم دخلت سنة تسع وستين وثلاثمائة
ذكر قتل أبي تغلب بن حمدانفي هذه السنة، في صفر، قتل أبو تغلب فضل الله بن ناصر الدولة بن حمدان.
وكان سبب قتله أنه سار إلى الشام، على ما تقدم ذكره، ووصل إلى دمشق، وبها قسام قد تغلب عليها، كما ذكرناه، فلم يمكن أبا تغلب من دخولها، فنزل بظاهر البلد، وأرسل رسولاً إلى العزيز بمصر يستنجده ليفتح له دمشق، فوقع بين أصحابه وأصحاب قسام فتنة، فرحل إلى نوى، وهي من أعمال دمشق، فأتاه كتاب رسوله من مصر يذكر أن العزيز يريد أن يحضر هو عنده بمصر ليسير معه العساكر، فامتنع، وترددت الرسل، ورحل إلى بحيرة طبرية، وسير العزيز عسكراً إلى دمشق مع قائد اسمه الفضل، فاجتمع بأبي تغلب عند طبرية، ووعده، عن العزيز، بكل ما أحب، وأراد أبو تغلب المسير معه إلى دمشق، فمنعه بسبب الفتنة التي جرت بين أصحابه وأصحاب قسام، لئلا يستوحش قسام، وأراد أخذ البلد منه سلماً، ورحل الفضل إلى دمشق فلم يفتحها.
وكان بالرملة دغفل بن المفرج بن الجراح الطائي قد استولى على هذه الناحية، وأظهر طاعة العزيز من غير أن يتصرف بأحكامه، وكثر جمعه، وسار إلى أحياء عقيل المقيمة بالشام ليخرجها من الشام، فاجتمعت عقيل إلى أبي تغلب وسألته نصرتها، وكتب إليه دغفل يسأله أن لا يفعل، فتوسط أبو تغلب الحال، فرضوا بما يحكم به العزيز.
ورحل أبو تغلب، فنزل في جوار عقيل، فخافه دغفل، والفضل صاحب العزيز، وظنا أنه يريد أخذ تلك الأعمال. ثم إن أبا تغلب سار إلى الرملة في المحرم سنة تسع وستين، فلم يشك ابن الجراح والفضل أنه يريد حربهما، وكانا بالرملة، فجمع الفضل العساكر من السواحل، وكذلك جمع دغفل من أمنه جمعه، وتصاف الناس للحرب، فلما رأت عقيل كثرة الجمع انهزمت، ولم يبق مع أبي تغلب إلا نحو سبعمائة رجل من غلمانه وغلمان أبيه، فانهزم ولحقه الطلب، فوقف يحمي نفسه وأصحابه، فضرب على رأسه فسقط، وأخذ أسيراً، وحمل إلى دغفل فأسره وكتفه.
وأراد الفضل أخذه وحمله إلى العزيز بمصر، فخاف دغفل أن يصطنعه العزيز، كما فعل بالفتكين، ويجعله عنده، فقتله، فلامه الفضل على قتله، وأخذ رأسه وحمله إلى مصر، وكان مع أخته جميلة بنت ناصر الدولة وزوجته، وهي بنت عمه سيف الدولة، فلما قتل حملهما بنو عقيل إلى حلب إلى سعد الدولة بن سيف الدولة، فأخذ أخته، وسير جميلة إلى الموصل، فسلمت إلى أبي الوفاء نائب عضد الدولة، فأرسلها إلى بغداد، فاعتقلت في حجرة في دار عضد الدولة.
ذكر محاربة الحسن بن عمران بن شاهين مع جيوش عضد الدولةفي هذه السنة توفي عمران بن شاهين، فجأةً، في المحرم، وكانت ولايته، بعد أن طلبه الملوك والخلفاء وبذلوا الجهد في أخذه، وأعملوا الحيل، أربعين سنة، فلم يقدرهم الله عليه، ومات حتف أنفه.
فلما مات ولي مكانه ابنه الحسن، فتجدد لعضد الدولة طمع في أعمال البطيحة، فجهز العساكر مع وزيره المطهر بن عبدالله، فأمدهم بالأموال والسلاح والآلات، وسار المطهر في صفر، فلما وصل شرع في سد أفواه الأنهار الداخلة في البطائح، فضاع فيها الزمان والأموال، وجاءت المدود، وبثق الحسن بن عمران بعض تلك السدود، فأعانه الماء فقلعها.
وكان المطهر إذا سد جانباً انفتحت عدة جوانب، ثم جرت بينه وبين الحسن وقعة في الماء فاستظهر عليه الحسن، وكان المطهر سريعاً قد ألف المناجزة، ولم يألف المصابرة، فشق ذلك عليه.
وكان معه في عسكره أبو الحسن محمد بن عمر العلوي الكوفي، فاتهمه بمراسلة الحسن، وإطلاعه على أسراره، وخاف المطهر أن تنقص منزلته عند عضد الدولة، ويشمت به أعداؤه، كأبي الوفاء وغيره، فعزم على قتل نفسه، فأخذ سكيناً وقطع شرايين ذراعه، فخرج الدم منه، فدخل فراش له، فرأى الدم فصاح، فدخل الناس فرأوه، وظنوا أن أحداً فعل به ذلك، فتكلم، وكان بآخر رمق، وقال: إن محمد بن عمر أحوجني إلى هذا؛ ثم مات، وحمل إلى بلده كازرون، فدفن فيها.
وأرسل عضد الدولة من حفظ العسكر، وصالح الحسن بن عمران على مال يؤديه، وأخذ رهائنه، وانفرد نصر بن هارون بوزارة عضد الدولة، وكان مقيماً بفارس فاستخلف له عضد الدولة بحضرته أبا الريان حمد بن محمد.
ذكر الحرب بين بني شيبان وعسكر عضد الدولةفي هذه السنة، في رجب، سير عضد الدولة جيشاً إلى بني شيبان، وكانوا قد أكثروا الغارات على البلاد والفساد، وعجز الملوك عن طلبهم، وكانوا قد عقدوا بينهم وبين أكراد شهرزور مصاهرات، وكانت شهرزور ممتنعة على الملوك، فأمر عضد الدولة عسكره بمنازلة شهرزور لينقطع طمع بني شيبان عن التحصن بها، فاستولى أصحابه عليها وملكوها، فهرب بنو شيبان، وسار العسكر في طلبهم، وأوقعوا بهم وقعة عظيمة قتل من بني شيبان فيها خلق كثير، ونهبت أموالهم ونساؤهم، وأسر منهم ثمانمائة أسير وحملوا إلى بغداد.
ذكر وصول ورد الرومي إلى ديار بكر وما كان منهفي هذه السنة وصل ورد الرومي إلى ديار بكر مستجيراً بعضد الدولة، وأرسل إليه يستنصره على ملوك الروم، ويبذل له الطاعة إذا ملك وحمل الخراج.
وكان سبب قدومه أن أرمانوس ملك الروم لما توفي خلف ولدين له صغيرين، فملكا بعده، وكان نقفور، وهو حينئذ الدمستق، قد خرج إلى بلاد الإسلام فنكى فيها وعاد، فلما قارب القسطنطينية بلغه موت أرمانوس، فاجتمع إليه الجند وقالوا له: إنه لا يصلح للنيابة عن الملكين غيرك، فإنهما صغيران؛ فامتنع، فألحوا عليه فأجابهم، وخدم الملكين، وتزوج بوالدتهما، ولبس التاج.
ثم إنه جفا والدتهما، فراسلت ابن الشمشقيق في قتل نقفور وإقامته مقامه، فأجابها إلى ذلك، وسار إليها سراً هو وعشرة رجال، فاغتالوا الدمستق فقتلوه، واستولى ابن الشمشقيق على الأمر، وقبض على لاون أخي الدمستق، وعلى ورديس ابن لاون، واعتقله في بعض القلاع، وسار إلى أعمال الشام فأوغل فيها، ونال من المسلمين ما أراد، وبلغ إلى طرابلس فامتنع عليه أهلها فحصرهم.
وكان لوالدة الملكين أخ خصي، وهو حينئذ الوزير، فوضع على ابن الشمشقيق من سقاه سماً، فلما أحس به أسرع العود إلى القسطنطينية، فمات في طريقه.
وكان ورد بن منير من أكابر أصحاب الجيوش وعظماء البطارقة، فطمع في الأمر، وكاتب أبا تغلب بن حمدان وصاهره، واستجاش بالمسلمين من الثغور، فاجتمعوا عليه، فقصد الروم، فأخرج إليه الملكان جيشاً بعد جيش وهو يهزمهم، فقوي جنانه وعظم شأنه، وقصد القسطنطينية، فخافه الملكان، فأطلقا ورديس بن لاون، وقدماه على الجيوش، وسيراه لقتال ورد، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وطال الأمر بينهما، ثم انهزم ورد إلى بلاد الإسلام، فقصد ديار بكر، ونزل بظاهر ميافارقين، وراسل عضد الدولة، وأنفذ إليه أخاه يبذل الطاعة والاستنصار به، فأجابه إلى ذلك ووعده به.
ثم إن ملكي الروم راسلا عضد الدولة واستمالاه، فقوي في نفسه ترجيح جانب الملكين، وعاد عن نصرة ورد، وكاتب أبا علي التميمي، وهو حينئذ ينوب عنه بديار بكر، بالقبض على ورد وأصحابه، فشرع يدبر الحيلة عليه، واجتمع إلى ورد أصحابه وقالوا له: إن ملوك الروم قد كاتبوا عضد الدولة وراسلوه في أمرنا، ولا شك أنهم يرغبونه في المال وغيره فيسلمنا إليهم، والرأي أن نرجع إلى بلاد الروم على صلح إن أمكننا، أو على حرب نبذل فيها أنفسنا، فإما ظفرنا أو متنا كراماً.
فقال: ما هذا رأي، ولا رأينا من عضد الدولة إلا الجميل، ولا يجوز أن ننصرف عنه قبل أن نعلم ما عنده؛ ففارقه كثير من أصحابه، فطمع فيه أبو علي التميمي، وراسله في الاجتماع، فأجابه إلى ذلك، فلما اجتمع به قبض عليه، وعلى ولده وأخيه، وجماعة من أصحابه، واعتقلهم بميافارقين ثم حملهم إلى بغداد، فبقوا في الحبس إلى أن فرج الله عنهم، على ما نذكره، وكان قبضه سنة سبعين وثلاثمائة.
ذكر عمارة عضد الدولة بغداد
في هذه السنة شرع عضد الدولة في عمارة بغداد، وكانت قد خربت بتوالي الفتن فيها، وعمر مساجدها وأسواقها، وأدر الأموال على الأئمة، والمؤذنين، والعلماء، والقراء، والغرباء، والضعفاء، الذين يأوون إلى المساجد، وألزم أصحاب الأملاك الخراب بعمارتها، وجدد ما دثر من الأنهار، وأعاد حفرها وتسويتها، وأطلق مكوس الحجاج، وأصلح الطريق من العراق إلى مكة، شرفها الله تعالى، وأطلق الصلات لأهل البيوتات والشرف، والضعفاء المجاورين بمكة والمدينة، وفعل مثل ذلك بمشهدي على والحسين، عليهما السلام، وسكن الناس من الفتن، وأجرى الجرايات على الفقهاء، والمحدثين، والمتكلمين، والمفسرين، والنحاة، والشعراء، والنسابين، والأطباء، والحساب، والمهندسين، وأذن لوزيره نصر بن هارون، وكان نصرانياً، في عمارة البيع والديرة، وإطلاق الأموال لفقرائهم.
ذكر وفاة حسنويه الكرديفي هذه السنة توفي حسنويه بن الحسين الكردي البرزيكاني بسرماج، وكان أميراً على جيش من البرزيكان يسمون البرزينية، وكان خالاه ونداد وغانم ابنا أحمد أميرين على صنف آخر منهم يسمون العيشانية، وغلبا على أطراف نواحي الدينور، وهمذان، ونهاوند، والصامغان، وبعض أطراف أذربيجان إلى حد شهرزور نحو خمسين سنة.
وكان يقود كل واحد منهما عدة ألوف، فتوفي غانم سنة خمسين وثلاثمائة، فكان ابنه أبو سالم ديسم بن غانم مكانه بقلعته قسان، إلى أن أزاله أبو الفتح بن العميد، واستصفى قلاعه المسماة قسنان، وغانم آباذ وغيرهما.
وتوفي ونداد بن أحمد سنة تسع وأربعين، فقام مقام ابنه أبو الغنائم عبد الوهاب إلى أن أسره الشاذنخان وسلموه إلى حسنويه، فأخذ قلاعه وأملاكه.
وكان حسنويه مجدوداً، حسن السياسة والسيرة، ضابطاً لأمره، ومنع أصحابه من التلصص، وبنى قلعة سرماج بالصخور المهندمة، وبنى بالدينور جامعاً على هذا البناء، وكان كثير الصدقة بالحرمين، إلى أن مات في هذه السنة، وافترق أولاده من بعده، فبعضهم انحاز إلى فخر الدولة، وبعضهم إلى عضد الدولة، وهم أبو العلاء، وعبد الرزاق، وأبو النجم بدرٌ، وعاصم، وأبو عدنان، وبختيار، وعبد الملك.
وكان بختيار بقلعة سرماج ومعه الأموال والذخائر، فكاتب عضد الدولة ورغب في طاعته، ثم تلون عنه وتغير، فسير عضد الدولة إليه جيشاً فحصره وأخذ قلعته، وكذلك قلاع غيره من إخوته، واصطنع من بينهم أبا النجم بدر ابن حسنويه، وقواه بالرجال، فضبط تلك النواحي، وكف عادية من بها من الأكراد، واستقام أمره، وكان عاقلاً.
ذكر قصد عضد الدولة أخاه فخر الدولة وأخذ بلادهفي هذه السنة سار عضد الدولة إلى بلاد الجل، فاحتوى عليها.
وكان سبب ذلك أن بختيار بن معز الدولة كان يكاتب ابن عمه فخر الدولة، بعد موت ركن الدولة، ويدعوه إلى الاتفاق معه على عضد الدولة، فأجابه إلى ذلك واتفقا.
وعلم عضد الدولة به، فكتم ذلك إلى الآن، فلما فرغ من أعدائه كأبي تغلب، وبختيار، وغيرهما، ومات حسنويه بن الحسين، ظن عضد الدولة أن الأمر يصلح بينه وبين أخويه، فراسل أخويه فخر الدولة، ومؤيد الدولة، وقابوس بن وشمكير.
فأما رسالته إلى أخيه مؤيد الدولة، فيشكره على طاعته وموافقته، فإنه كان مطيعاً له غير مخالف.
وأما إلى فخر الدولة، فيعاتبه ويستميله، ويذكر له ما يلزمه به الحجة.
وأما إلى قابوس، فيشير عليه بحفظ العهود التي بينهما.
فأجاب فخر الدولة جواب المناظر المناوئ، ونسي كبر السن، وسعة الملك وعهد أبيه.
وأما قابوس فأجاب جواب المراقب. وكان الرسول خواشاده، وهو من أكابر أصحابه، فاستمال أصحاب فخر الدولة، فضمن لهم الإقطاعات، وأخذ عليهم العهود، فلما عاد الرسول برز عضد الدولة من بغداد على عزم المسير إلى الجبل وإصلاح تلك الأعمال، وابتدأ فقدم العساكر بين يديه يتلو بعضها بعضاً، منهم أبو الوفاء على عسكر، وخواشاده على عسكر، وأبو الفتح المظفر بن محمد في عسكر، فسارت هذه العساكر، وأقام هو بظاهر بغداد.
ثم سار عضد الدولة، فلقيته البشائر بدخول جيوشه همذان، واستئمان العدد الكثير من قواد فخر الدولة ورجال حسنويه، ووصل إليه أبو الحسن عبيدالله بن محمد بن حمدويه وزير فخر الدولة، ومعه جماهير أصحابه، فانحل أمر فخر الدولة، وكان بهمذان، فخاف من أخيه، وتذكر قتل ابن عمه بختيار، فخرج هارباً، وقصد بلد الديلم، ثم خرج منها إلى جرجان، فنزل على شمس المعالي قابوس بن وشمكير، والتجأ إليه فأمنه وآواه، وحمل إليه فوق ما حدث به نفسه، وشركه فيما تحت يده من ملك وغيره.
وملك عضد الدولة ما كان بيد فخر الدولة همذان، والري، وما بينهما من البلاد وسلمها إلى أخيه مؤيد الدولة بن بويه، وجعله خليفته ونائبه في تلك البلاد، ونزل الري، واستولى على تلك النواحي.
ثم عرج عضد الدولة إلى ولاية حسنويه الكردي، فقصد نهاوند، وكذلك الدينور، وقلعة سرماج، وأخذ ما فيها من ذخائر حسنويه، وكانت جليلة المقدار، وملك معها عدة من قلاع حسنويه، ولحقه في هذه السفرة صرع، وكان هذا قد أخذه بالموصل، وحدث به فيها، فكتمه، وصار كثير النسيان لا يذكر الشيء إلا بعد جهدٍ، وكتم ذلك أيضاً، وهذا دأب الدنيا لا تصفو لأحد.
وأتاه أولاد حسنويه، فقبض على عبد الرزاق، وأبي العلاء، وأبي عدنان، وأحسن إلى بدر بن حسنويه، وخلع عليه، وولاه رعاية الأكراد؛ هذا آخر ما في تجارب الأمم تأليف أبي علي بن مسكويه.
ذكر ملك عضد الدولة بلد الهكاريةفي هذه السنة سير عضد الدولة جيشاً إلى الأكراد الهكارية من أعمال الموصل، فأوقع بهم وحصر قلاعهم، وطال مقام الجند في حصرها.
وكان من بالحصون من الأكراد ينتظرون نزول الثلج لترحل العساكر عنهم، فقدر الله تعالى أن الثلج تأخر نزوله في تلك السنة، فأرسلوا يطلبون الأمان، فأجيبوا إلى ذلك، وسلموا قلاعهم، ونزلوا مع العسكر إلى الموصل، فلم يفارقوا أعمالهم غير يوم واحد حتى نزل الثلج.
ثم إن مقدم الجيش غدر بهم، وصلبهم على جانبي الطريق من معلثايا إلى الموصل نحو خمسة فراسخ وكف الله شرهم عن الناس.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ورد رسول العزيز بالله صاحب مصر إلى عضد الدولة برسائل أداها.
وفيها قبض عضد الدولة على محمد بن عمر العلوي وأنفذه إلى فارس، وكان سبب قبضه ما تكلم به المطهر في حقه عند موته، وأرسل إلى الكوفة فقبض أمواله، فوجد له من المال والسلاح والذخائر ما لا يحصى، واصطنع عضد الدولة أخاه أبا الفتح أحمد، وولاه الحج بالناس.
وفيها تجددت وصلة بين الطائع لله وبين عضد الدولة، فتزوج الطائع ابنته، وكان غرض عضد الدولة أن تلد ابنته ولداً ذكراً فيجعله ولي عهده، فتكون الخلافة في ولد لهم فيه نسب، وكان الصداق مائة ألف دينار.
وفيها كانت فتنة عظيمة ين عامة شيراز من المسلمين وبين المجوس، نهبت فيها دور المجوس، وضربوا، وقتل منهم جماعة، فسمع عضد الدولة الخبر، فسير إليهم من جمع كل من له أثر في ذلك، وضربهم، وبالغ في تأديبهم وزجرهم.
وفيها أرسل سرية إلى عين التمر، وبها ضبة بن محمد الأسدي، وكان يسلك سبيل اللصوص وقطاع الطريق، فلم يشعر إلا والعساكر معه، فترك أهله وماله ونجا بنفسه فريداً، وأخذ ماله وأهله، وملكت عين التمر، وكان قبل ذلك قد نهب مشهد الحين، صلوات الله عليه، فعوقب بهذا.
وفيها قبض عضد الدولة على النقيب أبي أحمد الحسين الموسوي، والد الشريف الرضي، وعلى أخيه أبي عبدالله، وعلى قاضي القضاة أبي محمد وسيرهم إلى فارس، واستعمل على قضاء القضاة أبا سعد بشر بن الحسين، وهو شيخ كبير، وكان مقيماً بفارس، واستناب على القضاء ببغداد.
وفيها توفي أبو عبدالله أحمد بن عطاء بن أحمد بن محمد بن عطاء الروذباري، الصوفي، بنواحي عكا، وكان قد انتقل من بغداد إلى الشام.
وفيها، في ذي الحجة، توفي محمد بن عيسى بن عمرويه أبو أحمد الجلودي الزاهد، راوي صحيح مسلم عن ابن سفيان، ودفن بالحيرة في نيسابور وله ثمانون سنة.
الجلودي بفتح الجيم، وقيل بضمها، وهو قليل، والحيرة بكسر الحاء المهملة وبالراء المهملة، وهي محلة بنيسابور.
وفيها توفي أبو الحسين أحمد بن زكرياء بن فارس اللغوي، صاحب كتاب المجمل وغيره. وله شعر، فمن ذلك قوله قبل وفاته بيومين:
يا ربّ إنّ ذنوبي قد أحطت بها ... علماً، وبي وبإعلاني وإسراري
أنا الموحّد لكنّي المقرّ بها، ... فهب ذنوبي لتوحيدي وإقراري
وفي شوال توفي أبو الحسن ثابت بن إبراهيم الحراني المتطبب، الصابي، ومولده بالرقة سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وكان عارفاً حاذقاً في الطب.
ثم دخلت سنة سبعين وثلاثمائة
ذكر إقطاع مؤيد الدولة همذانفي هذه السنة أرسل الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد إلى عضد الدولة بهمذان رسولاً من عند أخيه مؤيد الدولة يبذل له الطاعة والموافقة، فالتقاه عضد الدولة بنفسه، وأكرمه، وأقطع أخاه مؤيد الدولة همذان وغيرها، وأقام عند عضد الدولة إلى أن عاد إلى بغداد، فرده إلى مؤيد الدولة، فأقطعه إقطاعاً كثيراً، وسير معه عسكراً يكون عند مؤيد الدولة في خدمته.
ذكر قتل أولاد حسنويه سوى بدرلما خلع عضد الدولة على بدر وأخويه عاصم وعبد الملك، وفضل بدراً عليهما وولاه الأكراد حسده أخواه، فشقا العصا، وخرجا عن الطاعة، واستمال عاصم جماعة الأكراد المخالفين، فاجتمعوا عليه، فسير إليه عضد الدولة عسكراً، فأوقعوا بعاصم ومن معه، فانهزموا، وأسر عاصم، وأدخل همذان على جمل، ولم يعرف له خبر بعد ذلك اليوم، وقتل أولاد حسنويه، إلا بدراً فإنه ترك على حاله، وأقر على عمله، وكان عاقلاً، لبيباً، حازماً، كريماً، حليماً، وسيرد من أخباره ما يعلم به ذلك، إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك عضد الدولة قلعة سندةوفيها استولى عضد الدولة على قلاع أبي عبدالله المري بنواحي الجبل، وكان منزله بسندة، وله فيها مساكن نفيسة، وكان قديم البيت، فقبض عليه وعلى أولاده واعتقلهم، فبقوا كذلك إلى أن أطلقهم الصاحب بن عباد فيما بعد، واستخدم ابنه أبا طاهر، واستكتبه، وكان حسن الخط واللفظ.
ذكر الحرب بين عسكر العزيز وابن جراح وعزل قسام عن دمشقفي هذه السنة سيرت العساكر من مصر لقتال المفرج بن جراح.
وسبب ذلك أن ابن جراح عظم شأنه بأرض فلسطين، وكثر جمعه، وقويت شوكته، وبالغ هو في العيث والفساد، وتخريب البلاد، فجهز العزيز بالله العساكر وسيرها، وجعل عليها القائد يلتكين التركي، فسار إلى الرملة، واجتمع إليه من العرب، من قيس وغيرها، جمع كثير، وكان مع ابن جراح جمع يرمون بالنشاب، ويقاتلون قتال الترك، فالتقوا ونشبت الحرب بينهما، وجعل يلتكين كميناً، فخرج على عسكر ابن جراح، من وراء ظهورهم، عند اشتداد الحرب، فانهزموا وأخذتهم سيوف المصريين، ومضى ابن جراح منهزماً إلى إنطاكية، فاستجار بصاحبها فأجاره؛ وصادف خروج ملك الروم من القسطنطينية في عساكر عظيمة يريد بلاد الإسلام، فخاف ابن جراح، وكاتب بكجور بحمص والتجأ إليه.
وأما عسكر مصر فإنهم نازلوا دمشق، مخادعين لقسام، لم يظهروا له إلا أنهم جاؤوا لإصلاح البلد، وكف الأيدي المتطرقة إلى الأذى؛ وكان القائد أبو محمود قد مات سنة سبعين وهو والي البلد، ولا حكم له، وإنما الحكم لقسام، فلما مات قام بعده في الولاية جيش بن الصمصامة، وهو ابن أخت أبي محمود، فخرج إلى يلتكين وهو يظن أنه يريد إصلاح البلد، فأمره أن يخرج هو ومن معه وينزلوا بظاهر البلد، ففعلوا. وحذر قسام، وأمر من معه بمباشرة الحرب، فقاتلوا دفعات عدة؛ فقوي عسكر يلتكين، ودخلوا أطراف البلد، وملكوا الشاغور، وأحرقوا ونهبوا، فاجتمع مشايخ البلد عند قسام، وكلموه في أن يخرجوا إلى يلتكين، ويأخذوا أماناً لهم وله، فانخذل وذل، وخضع بعد تجبره وتكبره وقال: افعلوا ما شئتم.
وعاد أصحاب قسام إليه، فوجدوه خائفاً، ملقياً بيده، فأخذ كل لنفسه. وخرج شيوخ البلد إلى يلتكين، فطلبوا منه الأمان لهم ولقسام، فأجابهم إليه وقال: أريد أن أتسلم البلد اليوم؛ فقالوا: افعل ما تؤمر ! فأرسل والياً يقال له ابن خطلخ، ومعه خيل ورجل.
وكان مبدأ هذه الحرب والحصر في المحرم سنة سبعين لعشر بقين منه، والدخول إلى البلد لثلاث بقين منه، ولم يعرض لقسام ولا لأحد من أصحابه، وأقام قسام في البلد يومين ثم استتر، فأخذ كل ما في داره وما حولها من دور أصحابه وغيرهم، ثم خرج إلى الخيام، فقصد حاجب يلتكين وعرفه نفسه، فأخذه وحمله إلى يلتكين، فحمله يلتكين إلى مصر، فأطلقه العزيز، واستراح الناس من تحكمه عليهم، وتغلبه بمن تبعه من الأحداث من أهل العيث والفساد.
ذكر عدة حوادث
وفيها توفي علي بن محمد الأحدب المزور، وكان يكتب على خط كل واحد فلا يشك المكتوب عنه أنه خطه؛ وكان عضد الدولة إذا أراد الإيقاع بين الملوك أمره أن يكتب على خط بعضهم إليه في الموافقة على من يريد إفساد الحال بينهما، ثم يتوصل ليصل المكتوب إليه، فيفسد الحال. وكان هذا الأحدب ربما ختمت يده لهذا السبب.
وفيها زادت الفرات زيادة عظيمة جاوزت المألوف، وغرق كثير من الغلات، وتمردت الصراة، وخربت قناطرها العتيقة والجديدة، وأشفى أهل الجانب الغربي من بغداد على الغرق، وبقيت الزيادة بها وبدجلة ثلاثة أشهر ثم نقصت.
وفيها زفت ابنة عضد الدولة إلى الخليفة الطائع، ومعها من الجواهر شيء لا يحصى.
وفيها ورد على عضد الدولة هدية من صاحب اليمن فيها قطعة واحدة من عنبر وزنها ستة وخمسون رطلاً؛ وحج بالناس أبو الفتح أحمد بن عمر بن يحيى العلوي، وخطب بمكة والمدينة للعزيز بالله صاحب مصر العلوي.
وفيها توفي أبو بكر أحمد بن علي الرازي، إمام الفقهاء الحنفية في زمانه، وطلب ليلي قضاء القضاة، فامتنع، وهو من أصحاب الكرخي.
وفيها توفي الزبير بن عبد الواحد بن موسى أبو يعلى البغدادي، سمع البغوي وابن صاعد، وسافر إلى أصبهان وخراسان وأذربيجان وغيرها، وسمع فيها الكثير، وتوفي بالموصل هذه السنة؛ ومحمد بن جعفر بن الحسين بن محمد أبو بكر المفيد، المعروف بغندر، توفي بمفازة بخارى؛ وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس؛ وأبو محمد علي بن الحسن الأصبهاني؛ والحسن ابن بشر الآمدي.
وفيها توفي القائد أبو محمود إبراهيم بن جعفر والي دمشق للعزيزي، وقام بعده جيش بن الصمصامة.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة
ذكر عزل ابن سيمجور عن خراسانفي هذه السنة عزل أبو الحسن محمد بن إبراهيم بن سيمجور عن قيادة جيوش خراسان، واستعمل عوضه حسام الدولة أبو العباس تاش.
وكان سبب ذلك أن الأمير نوح بن منصور لما ملك خراسان وما وراء النهر، وهو صبي، استوزر أبا الحسين العتبي، فقام في حفظ الدولة القيام المرضي؛ وكان محمد بن سيمجور قد استوطن خراسان، وطالت أيامه فيها، فلا يطيع إلا فيما يريد، فعزله أبو الحسين العتبي عنها، واستعمل مكانه حسام الدولة أبا العباس تاش، وسيره من بخارى إلى نيسابور في هذه السنة، فاستقر بها ودبر خراسان، ونظر في أمورها، وأطاعه جندها.
ذكر استيلاء عضد الدولة على جرجانفي هذه السنة، في جمادى الآخرة، استولى عضد الدولة على بلاد جرجان وطبرستان، وأجلى عنها صاحبها قابوس بن وشمكير.
وسبب ذلك أن عضد الدولة لما استولى على بلاد أخيه فخر الدولة انهزم فخر الدولة، فلحق بقابوس، كما ذكرناه، وبلغ ذلك عضد الدولة، فأرسل إلى قابوس يبذل له الرغائب من البلاد، والأموال، والعهود، وغير ذلك، ليسلم إليه أخاه فخر الدولة، فامتنع قابوس من ذلك، ولم يجب إليه. فجهز عضد الدولة أخاه مؤيد الدولة، وسيره، ومعه العساكر، والأموال، والعدد، إلى جرجان.
وبلغ الخبر قابوساً، فسار إليه، فلقيه بنواحي أستراباذ، فاقتتلوا من بكرة إلى الظهر، فانهزم قابوس وأصحابه في جمادى الأولى، وقصد قابوس بعض قلاعه التي فيها ذخائره وأمواله، فأخذ ما أراد وسار نحو نيسابور، فلما وردها لحق به فخر الدولة، وانضم إليهما من تفرق من أصحابهما.
وكان وصولهما إليها. عند ولاية حسام الدولة أبي العباس تاش خراسان، فكتب حسام الدولة إلى الأمير أبي القاسم نوح بن منصور يعرفه خبر وصولهما، وكتبا أيضاً إلى نوح يعرفانه حالهما، ويستنصرانه على مؤيد الدولة. فوردت كتب نوح على حسام الدولة يأمره بإجلال محلهما، وإكرامهما، وجمع العساكر والمسير معهما، وإعادتهما إلى ملكهما، وكتب وزيره أبو الحسين بذلك أيضاً.
ذكر مسير حسام الدولة وقابوس إلى جرجان
فلما وردت الكتب من الأمير نوح على حسام الدولة بالمسير بعساكر خراسان جميعها مع فخر الدولة وقابوس، جمع العساكر وحشد، فاجتمع بنيسابور عساكر سدت الفضاء، وساروا نحو جرجان فنازلوها وحصروها، وبها مؤيد الدولة، ومعه من عساكره وعساكر أخيه عضد الدولة جمع كثير، إلا أنهم لا يقاربون عساكر خراسان، فحصرهم حسام الدولة شهرين يغاديهم القتال ويراوحهم، وضاقت الميرة على أهل جرجان، حتى كانوا يأكلون نخالة الشعير معجونة بالطين، فلما اشتد عليهم الأمر خرجوا من جرجان، في شهر رمضان، على عزم صدق القتال إما لهم وإما عليهم. فلما رآهم أهل خراسان ظنوها كما تقدم من الدفعات، يكون قتال، ثم تحاجز، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً، فرأوا الأمر خلاف ما ظنوه.
وكان مؤيد الدولة قد كاتب بعض قواد خراسان، يسمى فائق الخاصة، وأطعمه ورغبه، فأجابه إلى الأنهزام عند اللقاء؛ وسيرد من أخبار فائق هذا ما يعرف به محله من الدولة.
فلما خرج مؤيد الدولة، هذا اليوم، حمل عسكره على فائق وأصحابه، فانهزم هو ومن معه، وتبعه الناس، وثبت فخر الدولة، وحسام الدولة في القلب، واشتد القتال إلى آخر النهار، فلما رأوا تلاحق الناس في الهزيمة لحقوا بهم، وغنم أصحاب مؤيد الدولة منهم ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وأخذوا من الأقوات شيئاً كثيراً.
وعاد حسام الدولة، وفخر الدولة، وقابوس إلى نيسابور، وكتبوا إلى بخارى بالخبر، فأتاهم الجواب يمنيهم، ويعدهم بانفاذ العساكر والعود إلى جرجان والري، وأمر الأمير نوح سائر العساكر بالمسير إلى نيسابور، فأتوها من كل حدبٍ ينسلون، فاجتمع بظاهر نيسابور من العساكر أكثر من المرة الأولى، وحسام الدولة ينتظر تلاحق الأمداد ليسير بهم، فأتاهم الخبر بقتل الوزير أبي الحسين العتبي، فتفرق ذلك الجمع، وبطل ذلك التدبير.
وكان سبب قتله أن أبا الحسن بن سيمجور وضع جماعة من المماليك على قتله، فوثبوا به فقتلوه، فلما قتل كتب الرضي نوح بن منصور إلى حسام الدولة يستدعيه إلى بخارى ليدبر دولته، ويجمع ما انتشر منها بقتل أبي الحسين، فسار عن نيسابور إليها، وقتل من ظفر به من قتلة أبي الحسين، وكان قتله سنة اثنتين وسبعين.
ذكر قتل الأمير أبي القاسم أمير صقلية وهزيمة الفرنجفي هذه السنة، في ذي القعدة، سار الأمير أبو القاسم، أمير صقلية، من المدينة يريد الجهاد.
وسبب ذلك أن ملكاً من ملوك الفرنج، يقال له بردويل، خرج في جموع كثيرة من الفرنج إلى صقلية، فحصر قلعة ملطة وملكها، وأصاب سريتين للمسلمين، فسار الأمير أبو القاسم بعساكره ليرحله عن القلعة، فلما قاربها خاف وجبن، فجمع وجوه أصحابه، وقال لهم: إني راجع من مكاني هذا فلا تكسروا علي رأيي. فرجع هو وعساكره.
وكان أسطول الكفار يساير المسلمين في البحر، فلما رأوا المسلمين راجعين أرسلوا إلى بردويل، ملك الروم، يعلمونه ويقولون له: إن المسلمين خائفون منك، فالحق بهم فإنك تظفر. فجرد الفرنجي عسكره من أثقالهم، وسار جريدة، وجد في السير، فأدركهم في العشرين من المحرم سنة اثنتين وسبعين، فتعبأ المسلمون للقتال، واقتتلوا، واشتدت الحرب بينهم، فحملت طائفة من الفرنج على القلب والأعلام، فشقوا العسكر ووصلوا إليها، وقد تفرق كثير من المسلمين عن أميرهم، واختل نظامهم، فوصل الفرنج إليه، فأصابته ضربة على أم رأسه فقتل، وقتل معه جماعة من أعيان الناس وشجعانهم.
ثم إن المنهزمين من المسلمين رجعوا مصممين على القتال ليظفروا أو يموتوا، واشتد حينئذ الأمر، وعظم الخطب على الطائفتين، فانهزم الفرنج أقبح هزيمة، وقتل منهم نحو أربعة آلاف قتيل، وأسر من بطارقتهم كثير وتبعوهم إلى أن أدركهم الليل، وغنموا من أموالهم كثيراً. وأفلت ملك الفرنج هارباً ومعه رجل يهوديٌ كان خصيصاً به، فوقف فرس الملك، فقال له إليهودي: اركب فرسي، فإن قتلت فأنت لولدي؛ فركبه الملك وقتل إليهودي، فنجا الملك إلى خيامه وبها زوجته وأصحابه فأخذهم وعاد إلى رومية.
ولما قتل الأمير أبو القاسم كان معه ابنه جابر، فقام مقام أبيه، ورحل بالمسلمين لوقتهم، ولم يمكنهم من إتمام الغنيمة، فتركوا كثيراً منها، وسأله أصحابه ليقيم إلى أن يجمع السلاح وغيره ويعمر به الخزائن، فلم يفعل.
وكانت ولاية أبي القاسم على صقلية اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، وكان عادلاً، حسن السيرة، كثير الشفقة على رعيته والإحسان إليهم، عظيم الصدقة، ولم يخلف ديناراً ولا درهماً ولا عقاراً، فإنه كان قد وقف جميع أملاكه على الفقراء وأبواب البر.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وقع حريق بالكرخ ببغداد فاحترق فيها مواضع كثيرة هلك فيها خلق كثير من الناس، وبقي الحريق أسبوعاً.
وفيها قبض عضد الدولة على القاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي، وألزمه منزله، وعزله عن أعماله التي كان يتولاها، وكان حنفي المذهب، شديد التعصب على الشافعي يطلق لسانه فيه، قاتله الله ! وفيها أفرج عضد الدولة عن أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب، وكان القبض عليه سنة سبع وستين.
وكان سبب قبضه أنه كان يكتب عن بختيار كتباً في معنى الخلف الواقع بينه وبين عضد الدولة، فكان ينصح صاحبه، فمما كتبه عن الخليفة الطائع إلى عضد الدولة في المعنى، وقد لقب عز الدولة بشاهنشاه، فتزحزح له عن سنن المساواة، فنقم عليه عضد الدولة ذلك، وهذا من أعجب الأشياء، فإنه كان ينبغي أن يعظم في عينه لنصحه لصاحبه، فلما أطلقه أمره بعمل كتاب يتضمن أخبارهم ومحاسنها، فعمل التاجي في دولة الديلم.
وفيها أرسل عضد الدولة القاضي أبا بكر محمد بن الطيب الأشعري المعروف بابن الباقلاني إلى ملك الروم في جواب رسالة وردت منه، فلما وصل إلى الملك قيل له ليقبل الأرض بين يديه، فلم يفعل، فقيل: لا سبيل إلى الدخول إلا مع تقبيل الأرض؛ فأصر على الامتناع، فعمل الملك باباً صغيراً يدخل منه القاضي منحنياً ليرهم الحاضرين أنه قبل الأرض، فلما رأى القاضي الباب علم ذلك، فاستدبره ودخل منه، فلما جازه استقبل الملك وهو قائم، فعظم عندهم محله.
وفيها فتح المارستان العضدي، غربي بغداد، ونقل إليه جميع ما يحتاج إليه من الأدوية.
وفي هذه السنة توفي الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الاسماعيلي الجرجاني، الفقيه الشافعي، وكان عالماً بالحديث وغيره من العلوم؛ والإمام محمد بن أحمد بن عبدالله بن محمد أبو زيد المروزي الفقيه الشافعي الزاهد، يروي صحيح البخاري عن الفربري، وتوفي في رجب؛ وأبو عبدالله محمد بن خفيف الشرازي، شيخ الصوفية في وقته، صحب الجريري وابن عطاء وغيرهما.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن إبراهيم الصوفي المعروف بالحصري.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة
ذكر ولاية بكجور دمشققد ذكرنا سنة ست وستين ولاية بكجور حمص لأبي المعالي ابن سيف الدولة بن حمدان، فلما وليها عمرها؛ وكان بلد دمشق قد خربه العرب وأهل العيث والفساد مدة تحكم قسام عليها، وانتقل أهله إلى أعمال حمص، فعمرت، وكثر أهلها والغلات فيها، ووقع الغلاء والقحط بدمشق، فحمل بكجور الأقوات من حمص إليها وتردد الناس في حمل الغلات وحفظ الطرق وحماها.
وكاتب العزيز بالله بمصر، وتقرب إليه، فوعده ولاية دمشق، فبقي كذلك إلى هذه السنة.
ووقعت وحشة بين سعد الدولة أبي المعالي بن سيف الدولة وبين بكجور، فأرسل سعد الدولة يأمره بأن يفارق بلده، فأرسل بكجور إلى العزيز بالله يطلب نجاز ما وعده من إمارة دمشق. وكان الوزير ابن كلس يمنع العزيز من ولايته إلى هذه الغاية.
وكان القائد يلتكين قد ولي دمشق بعد قسام، كما ذكرناه، فهو مقيم بها. فاجتمع المغاربة بمصر على الوثوب بالوزير ابن كلس وقتله، فدعته الضرورة إلى أن يستحضر يلتكين من دمشق، فأمره العزيز بإحضاره وتسليم دمشق إلى بكجور. فقال: إن بكجور إن وليها عصى فيها. فلم يصغ إلى قوله، وأرسل إلى يلتكين يأمره بقصد مصر، وتسليم دمشق إلى بكجور، ففعل ذلك ودخلها في رجب من هذه السنة والياً عليها، فأساء السيرة إلى أصحاب الوزير ابن كلس والمتعلقين به، حتى إنه صلب بعضهم، وفعل مثل ذلك في أهل البلد، وظلم الناس، وكان لا يخلوا من أخذ مالٍ، وقتلٍ، وصلبٍ، وعقوبة، فبقي كذلك إلى سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، وسنذكر هناك عزله، إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة عضد الدولةفي هذه السنة، في شوال، اشتدت علة عضد الدولة، وهو ما كان يعتاده من الصرع، فضعفت قوته عن دفعه، فخنقه، فمات منه ثامن شوال ببغداد، وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، فدفن به.
وكانت ولايته بالعراق خمس سنين ونصفاً. ولما توفي جلس ابنه صمصام الدولة أبو كاليجار للعزاء فأتاه الطائع لله معزياً، وكان عمر عضد الدولة سبعاً وأربعين سنة. وكان قد سير ولده شرف الدولة أبا الفوارس إلى كرمان مالكاً لها، قبل أن يشتد مرضه، وقيل إنه لما احتضر لم نطلق لسانه إلا بتلاوة (مَا أَغْنْى عَنِّي مَاليه هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ) الحاقة: 28.
وكان عاقلاً، فاضلاً، حسن السياسة، كثير الإصابة، شديد الهيبة، بعيد الهمة، ثاقب الرأي، محباً للفضائل وأهلها، باذلاً في مواضع العطاء، مانعاً في أماكن الحزن، ناظراً في عواقب الأمور.
قيل: لما مات عضد الدولة بلغ خبره بعض العلماء، وعنده جماعة من أعيان الفضلاء، فتذاكروا الكلمات التي قالها الحماء عند موت الإسكندر، وقد ذكرتها في أخباره، فقال بعضهم: لو قلتم أنتم مثلها لكان ذلك يؤثر عنكم. فقال أحدهم: لقد وزن هذا الشخص الدنيا بغير مثقالها، وأعطاها فوق قيمتها، وطلب الربح فيها فخسر روحه فيها.
وقال الثاني: من استيقظ للدنيا فهذا نومه، ومن حلم فيها فهذا انتباهه.
وقال الثالث: ما رأيت عاقلاً في عقله، ولا غافلاً في غفلته مثله، لقد كان ينقض جانباً وهو يظن أنه مبرم، ويغرم وهو يظن أنه غانم.
وقال الرابع: من جد للدنيا هزلت به، ومن هزل راغباً عنها جدت له.
وقال الخامس: ترك هذا الدنيا شاغرة، ورحل عنها بلا زاد ولا راحلة.
وقال السادس: إن ماء أطفأ هذه النار لعظيم، وإن ريحاً زعزعت هذا الركن لعصوفٌ.
وقال السابع: إنما سلبك من قدر عليك.
وقال الثامن: أما إنه لو كان معتبراً في حياته لما صار عبرةً في مماته.
وقال التاسع: الصاعد في درجات الدنيا إلى استفال، والنازل في درجاتها إلى تعال.
وقال العاشر: كيف غفلت عن كيد هذا الأمر حتى نفذ فيك، وهلا اتخذت دونه جنةً تقيك، إن في ذلك لعبرة للمعتبرين، وإنك لآية للمستبصرين.
وبنى على مدينة النبي، صلى الله علية وسلم، سوراً. وله شعر حسن، فمن شعره لما أرسل إليه أبو تغلب بن حمدان يعتذر من مساعدته بختيار، ويطلب الأمان، فقال عضد الدولة:
أأفاق حين وطئت ضيق خناقه ... يبغي الأمان، وكان يبغي صارما
فلأركبنّ عزيمةً عضديّةً، ... تاجيّة، تدع الأنوف رواغما
وقال أبياتاً منها بيت لم يفلح بعده، وهي هذه:
ليس شرب الكأس إلاّ في المطر، ... وغناءٍ من جوارٍ في السّحر
غانياتٍ، سالباتٍ للنّهى، ... ناغماتٍ في تضاعيف الوتر
مبرزات الكاس من مطلعها، ... ساقيات الراح من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها،، ... ملك الأملاك غلاّب القدر
وهذا البيت هو المشار إليه.
وحكي عنه أنه كان في قصره جماعة من الغلمان يحمل إليهم مشاهراتهم من الخزانة، فأمر أبا نصر خواشاذه أن يتقدم إلى الخازن بأن يسلم جامكية الغلمان إلى نقيبهم في شهر قد بقي منه ثلاثة أيام. قال أبو نصر: فأنسيت ذلك أربعة أيام، فسألني عضد الدولة عن ذلك فقلت: أنسيته؛ فأغلظ لي، فقلت: أمس استهل الشهر، والساعة نحمل المال، وما ها هنا ما يوجب شغل القلب.
فقال: المصيبة بما لا تعلمه من الغلط أكثر منها في التفريط، ألا تعلم أنا إذا أطلقنا لهم مالهم قبل محله كان الفضل لنا عليهم، فإذا أخرنا ذلك عنهم، حتى استهل الشهر الآخر، حضروا عند عارضهم وطالبوه، فيعدهم فيحضرونه في اليوم الثاني، فيعدهم، ثم يحضرونه في اليوم الثالث؛ ويبسطون ألسنتهم، فتضيع المنة، وتحصل الجرأة، ونكون إلى الخسارة أقرب منا إلى الربح.
وكان لا يعول في الأمور إلا على الكفاة، ولا يجعل للشفاعات طريقاً إلى معارضة من ليس من جنس الشافع، ولا فيما يتعلق به.
حكي عنه أنه مقدم جيشه أسفار بن كردويه شفع في بعض أبناء العدول ليتقدم إلى القاضي ليسمع تزكيته ويعدله، فقال: ليس هذا من أشغالك، إنما الذي يتعلق بك الخطاب في زيادة قائد، ونقل مرتبة جندي، وما يتعلق بهم، وأما الشهادة وقبولها فهو إلى القاضي وليس لنا ولا لك الكلام فيه، ومتى عرف القضاة من إنسان ما يجوز معه قبول شهادته، فعلوا ذلك بغير شفاعة.
وكان يخرج في ابتداء كل سنة شيئاً كثيراً من الأموال للصدقة والبر في سائر بلاده، ويأمر بتسليم ذلك إلى القضاة ووجوه الناس ليصرفوه إلى مستحقيه.
وكان يوصل إلى العمال المتعطلين ما يقوم بهم ويحاسبهم به إذا عملوا.
وكان محباً للعلوم وأهلها، مقرباً لهم، محسناً إليهم، وكان يجلس معهم يعارضهم في المسائل، فقصده العلماء من كل بلد، وصنفوا له الكتب منها الإيضاح في النحو، والحجة في القراءات، والملكي في الطب، والتاجي في التاريخ، إلى غير ذلك، وعمل المصالح في سائر البلاد كالبيمارستانات والقناطر غير ذلك من المصالح العامة، إلا أنه أحدث في آخر أيام رسوماً جائرة في المساحة، والضرائب على بيع الدواب، وغيرها من الأمتعة، وزاد على ما تقدم، ومنع من عمل الثلج، والقز، وجعلهما متجراً للخاص، وكان يتوصل إلى أخذ المال بكل طريق.
ولما توفي عضد الدولة قبض على نائبه أبي الريان من الغد، فأخذ من كمه رقعة فيها:
أيا واثقاً بالدهر عند انصرافه ! ... رويدك إنّي بالزمان أخو خبر
ويا شامتاً مهلاً، فكم ذي شماتةٍ ... تكون له العقبى بقاصمة الظّهر
ذكر ولاية صمصام الدولة العراق وملك أخيه شرف الدولة بلاد فارسلما توفي عضد الدولة اجتمع القواد والأمراء على ولده أبي كاليجار المرزبان، فبايعوه وولوه الإمارة، ولقبوه صمصام الدولة، فلما ولي خلع على أخويه أبي الحسين أحمد، وأبي طاهر فيروزشاه، وأقطعهما فارس، وأمرهما بالجد في السير ليسبقا أخاهما شرف الدولة أبا الفوارس شيرزيل إلى شيراز.
فلما وصلا إلى أرجان أتاهما خبر وصول شرف الدولة إلى شيراز، فعادا إلى الأهواز. وكان شرف الدولة بكرمان، فلما بلغه خبر وفاة أبيه سار مجداً إلى فارس فملكها، وقبض على نصر بن هارون النصراني، وزير أبيه، وقتله لأنه كان يسيء صحبته أيام أبيه، وأصلح أمر البلاد، وأطلق الشريف أبا الحسين محمد بن عمر العلوي، والنقيب أبا أحمد الموسوي والد الشريف الرضي، والقاضي أبا محمد بن معروف، وأبا نصر خواشاذه، وكان عضد الدولة حبسهم، وأظهر مشاقة أخيه صمصام الدولة، وقطع خطبته، وخطب لنفسه، وتلقب بتاج الدولة، وفرق الأموال، وجمع الرجال، وملك البصرة وأقطعها أخاه أبا الحسين، فبقي كذلك ثلاث سنين إلى أن قبض عليه شرف الدولة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
فلما سمع صمصام الدولة بما فعله شرف الدولة سير إليه جيشاً، واستعمل عليهم الأمير أبا الحسن بن دبعش، حاجب عضد الدولة، فجهز تاج الدولة عسكراً واستعمل عليهم الأمير أبا الأعز دبيس بن عفيف الأسدي، فالتقيا بظاهر قرقوب، واقتتلوا، فانهزم عسكر صمصام الدولة، وأسر دبعش فاستولى حينئذ أبو الحسين بن عضد الدولة على الأهواز، وأخذ ما فيها وفي رامهرمز، وطمع في الملك، وكانت الوقعة في ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة.
ذكر قتل الحسين بن عمران بن شاهينفي هذه السنة قتل الحسين بن عمران بن شاهين، صاحب البطيحة، قتله أخوه أبو الفرج واستولى على البطيحة.
وكان سبب قتله أنه حسده على ولايته ومحبة الناس له، فاتفق أن أختاً لهما مرضت، فقال أبو الفرج لأخيه الحسين: إن أختنا مشفية، فلو عدتها؛ ففعل وسار إليها، ورتب أبو الفرج في الدار نفراً يساعدونه على قتله، فلما دخل الحسين الدار تخلف عنه أصحابه، ودخل أبو الفرج معه وبيده سيفه، فلما خلا به قتله، ووقعت الصيحة، فصعد إلى السطح وأعلم العسكر بقتله، ووعدهم الإحسان فسكتوا، وبذل لهم المال، فأقروه في الأمر، وكتب إلى بغداد يظهر الطاعة، ويطلب تقليده الولاية، وكان متهوراً جاهلاً.
ذكر عود ابن سيمجور إلى خراسانلما عزل أبو الحسن بن سيمجور عن قيادة جيوش خراسان ووليها أبو العباس سار ابن سيمجور إلى سجستان فأقام بها، فلما انهزم أبو العباس عن جرجان، على ما ذكرناه، ورأى الفتنة قد رفعت رأسها، سار عن سجستان نحو خراسان، وأقام بقهستان. فلما سار أبو العباس إلى بخارى، وخلت منه خراسان، كاتب ابن سيمجور فائقاً يطلب موافقته على الاستيلاء على خراسان، فأجابه إلى ذلك، واجتمعا بنيسابور، واستوليا على تلك النواحي.
وبلغ الخبر إلى أبي العباس فسار عن بخارى في جمع كثير إلى مرو، وترددت الرسل بينهم، فاصطلحوا على أن تكون نيسابور وقيادة لأبي العباس، وتكون بلخ لفائق، وتكون هراة لأبي علي بن أبي الحسن بن سيمجور، وتفرقوا على ذلك، وقصد كل واحد منهم ولايته.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي نقيب النقباء أبو تمام الزينبي، وولي النقابة بعد ابنه أبو الحسن؛ وتوفي محمد بن جعفر المعروف بزوج الحرة في صفر ببغداد، وتوفي في جمادى الأولى منصور بن أحمد بن هارون الزاهد وهو ابن خمس وستين سنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة
ذكر موت مؤيد الدولة
وعود فخر الدولة إلى مملكتهفي هذه السنة، في شعبان، توفي مؤيد الدولة أبو منصور بويه بن ركن الدولة بجرجان، وكانت علته الخوانيق، وقال له الصاحب بن عباد: لو عهدت إلى أحد؛ فقال: أنا في شغل عن هذا، ولم يعهد بالملك إلى أحد؛ وكان عمره ثلاثاً وأربعين سنة.
وجلس صمصام الدولة للعزاء ببغداد، فأتاه الطائع لله معزياً، فلقيه في طيارة. لما مات مؤيد الدولة تشاور أكابر دولته فيمن يقوم مقامه، فأشار الصاحب إسماعيل بن عباد بإعادة فخر الدولة إلى مملكته، إذ هو كبير البيت، ومالك تلك البلاد قبل مؤيد الدولة، ولما فيه من آيات الإمارة والملك. فكتب إليه واستدعاه، وهو بنيسابور، وأرسل الصاحب إليه من استخلفه لنفسه، وأقام في الوقت خسرو فيروز بن ركن الدولة ليسكن الناس إلى قدوم فخر الدولة.
فلما وصلت الأخبار إلى فخر الدولة سار إلى جرجان، فلقيه العسكر بالطاعة، وجلس في دست ملكي في رمضان بغير منةٍ لأحدٍ، فسبحان من إذا أراد أمراً كان.
ولما عاد إلى مملكته قال له الصاحب: يا مولانا قد بلغك الله، وبلغني فيك ما أملته، ومن حقوق خدمتي لك إجابتي إلى ترك الجندية، وملازمة داري والتوفر على أمر الله. فقال: لا تقل هذا، فما أريد الملك إلا لك، ولا يستقيم لي أمر إلا بك، وإذا كرهت ملابسة الأمور كرهتها أنا أيضاً وانصرفت.
فقبل الأرض، وقال الأمر لك؛ فاستوزره وأكرمه وعظمه، وصدر عن رأيه في جليل الأمور وصغيرها.
وسيرت الخلع من الخليفة إلى فخر الدولة، والعهد واتفق فخر الدولة وصمصام الدولة فصار يداً واحدةً.
ذكر عزل أبي العباس عن خراسان
وولاية ابن سيمجورلما عاد أبو العباس عن بخارى إلى نيسابور، كما ذكرناه، استوزر الأمير نوح عبدالله بن عزيز، وكان ضداً لأبي الحسين العتبي، وأبي العباس، فلما ولي الوزارة بدأ بعزل أبي العباس عن خراسان، وإعادة أبي الحسن بن سيمجور إليها، فكتب من بخراسان من القواد إليه يسألونه أن يقر أبا العباس على عمله، فلم يجبهم إلى ذلك، فكتب أبو العباس إلى فخر الدولة بن بويه يستمده، فأمده بمال كثير وعسكر، فأقاموا بنيسابور، وأتاهم أبو محمد عبدالله بن عبد الرزاق معاضداً لهم على ابن سيمجور.
وكان أبو العباس حينئذ بمرو، فلما سمع أبو الحسن بن سيمجور وفائق بوصول عسكر فخر الدولة إلى نيسابور قصدوهم، فانحاز عسكر فخر الدولة عبد الرزاق، وأقاموا ينتظرون أبا العباس، ونزل ابن سيمجور ومن معه بظاهر نيسابور، ووصل أبو العباس فيمن معه واجتمع بعسكر الديلم، ونزل بالجانب الآخر، وجرى بينهم حروب عدة أيام، وتحصن ابن سيمجور بالبلد، وأنفذ فخر الدولة إلى أبي العباس عسكراً آخر، أكثر من ألفي فارس، فلما رأى ابن سيمجور قوة أبي العباس انحاز عن نيسابور، فسار عنها ليلاً، وتبعه عسكر أبي العباس، فغنموا كثيراً من أموالهم ودوابهم، واستولى أبو العباس على نيسابور، وراسل الأمير نوح بن منصور يستميله ويستعطفه، ولج ابن عزيز في عزله، ووافقه على ذلك والدة الأمير نوح، وكانت تحكم في دولة ولدها، وكانوا يصدرون عن رأيها، فقال بعض أهل العصر في ذلك:
شيئان يعجز ذو الرّياضة عنهما: ... رأي النّساء، وإمرة الصّبيان
أمّا النساء فميلهنّ إلى الهوى، ... وأخو الصّبا يجري بغير عنان
ذكر انهزام أبي العباس إلى جرجان
ووفاته
لما انهزم ابن سيمجور أقام أبو العباس بنيسابور يستعطف الأمير نوحاً ووزيره ابن عزيز، وترك اتباع ابن سيمجور وإخراجه من خراسان، فتراجع إلى ابن سيمجور أصحابه المنهزمون، وعادت قوته، وأتته الأمداد من بخارى، وكاتب شرف الدولة أبا الفوارس بن عضد الدولة، وهو بفارس، يستمده، فأمده بألفي فارس مراغمةً لعمه فخر الدولة، فلما كثف جمعه قصد أبا العباس، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً إلى آخر النهار، فانهزم أبو العباس وأصحابه، وأسر، منهم جماعة كثيرة.
وقصد أبو العباس جرجان، وبها فخر الدولة، فأكرمه وعظمه، وترك له جرجان ودهستان وأستراباذ صافية له ولمن معه، وسار عنها إلى الري، وأرسل إليه من الأموال والآلات ما يجل عن الوصف.
وأقام أبو العباس بجرجان هو وأصحابه، وجمع العساكر وسار نحو خراسان، فلم يصل إليها، وعاد إلى جرجان وأقام بها ثلاث سنين، ثم وقع بها وباء شديد مات فيه كثير من أصحابه، ثم مات هو أيضاً، وكان موته سنة سبع وسبعين، وقيل: إنه مات مسموماً.
وكان أصحابه قد أساؤوا السيرة مع أهل جرجان، فلما مات ثار بهم أهلها ونهبوهم، وجرت بينهم وقعة عظيمة أجلت عن هزيمة الجرجانية، وقتل منهم خلق كثير، وأحرقت دورهم، ونهبت أموالهم، وطلب مشايخهم الأمان، فكفوا عنهم، وتفرق أصحابه، فسار أكثرهم إلى خراسان، واتصلوا بأبي علي بن أبي الحسن بن سيمجور، وكان حينئذ صاحب الجيش مكان أبيه، وكان والده قد توفي فجأةً، وهو يجامع بعض حظاياه، فمات على صدرها، فلما مات قام بالأمر بعد ابنه أبو علي، واجتمع إخوته على طاعته، منهم أخوه أبو القاسم وغيره، فنازعه فائق الولاية، وسنذكر ذلك سنة ثلاث وثمانين عند ملك الترك بخارى، إن شاء الله تعالى.
ذكر قتل أبي الفرج محمد بن عمران
وملك أبي المعالي ابن أخيه الحسنفي هذه السنة قتل أبو الفرج محمد بن عمران بن شاهين صاحب البطيحة، وولي أبو المعالي ابن أخيه الحسن.
وسبب قتله أن أبا الفرج قدم الجماعة الذين ساعدوه على قتل أخيه، ووضع من حال مقدمي القواد، فجمعهم المظفر بن علي الحاجب، وهو أكبر قواد أبيه عمران وأخيه الحسن، وحذرهم عاقبة أمرهم، فاجتمعوا على قتل أبي الفرج، فقتله المظفر وأجلس أبا المعالي مكانه، وتولى تدبيره بنفسه، وقتل كل من كان يخافه من القواد، ولم يترك معه إلا من يثق به، وكان أبو المعالي صغيراً.
ذكر استيلاء المظفر على البطيحةلما طالت أيام علي المظفر بن علي الحاجب، وقوي أمره، طمع في الاستقلال بأمر البطيحة، فوضع كتاباً عن لسان صمصام الدولة إليه يتضمن التعويل عليه في ولاية البطيحة، وسلمه إلى ركابي غريب، وأمره أن يأتيه إذا كان القواد والأجناد عنده، ففعل ذلك، وأتاه وعليه أثر الغبار، وسلم إليه الكتاب، فقبله وفتحه، وقرأه بمحضر من الأجناد، وأجاب بالسمع والطاعة، وعزل أبا المعالي، وجعله مع والدته، وأجرى عليهما جراية، ثم أخرجهما إلى واسط، وكان يصلهما بما ينفقانه، واستبد بالأمر، وأحسن السيرة، وعدل في الناس مدةً.
ثم إنه عهد إلى ابن أخته أبي الحسن علي بن نصر الملقب بمهذب الدولة، وكان يلقب حينئذ بالأمير المختار، وبعده إلى أبي الحسن علي بن جعفر، وهو ابن أخته الأخرى، وانقرض بيت عمران بن شاهين، وكذلك الدنيا دول، وما أشبه حاله بحال باذٍ، فإنه ملك، وانتقل الملك إلى ابن أخته ممهد الدولة ابن مروان.
ذكر عصيان محمد بن غانموفيها عصى محمد بن غانم البرزيكاني بناحية كوردر، من أعمال قم، على فخر الدولة، وأخذ بعض غلات السلطان، وامتنع بحصن الهفتجان، وجمع البرزيكاني إلى نفسه، فسارت إليه العساكر، في شوال، لقتاله، فهزمها، وأعيدت إليه من الري مرة أخرى فهزمها.
فأرسل فخر الدولة إلى أبي النجم بدر بن حسنويه ينكر ذلك عليه، ويأمره بإصلاح الحال معه، ففعل، وراسله، فاصطلحوا أول سنة أربع وسبعين وبقي إلى سنة خمس وسبعين، فسار إلى جيش لفخر الدولة، فقاتله، فأصابته طعنة، وأخذ أسيراً، فمات من طعنته.
ذكر انتقال بعض صنهاجة من إفريقية إلى الأندلس وما فعلوهفي هذه السنة انتقل أولاد زيري بن مناد، وهم زاوي وجلالة وماكسن إخوة بلكين، إلى الأندلس.
وسبب ذلك أنهم وقع بينهم وبين أخيهم حماد حروب وقتال على بلاد بينهم، فغلبهم حماد، فتوجهوا إلى طنجة ومنها إلى قرطبة، فأنزلهم محمد بن أبي عامر وسر بهم، وأجرى عليهم الوظائف وأكرمهم، وسألهم عن سبب انتقالهم، فأخبروه، وقالوا له: إنما اخترناك على غيرك، وأحببنا أن نكون معك نجاهد في سبيل الله. فاستحسن ذلك منهم، ووعدهم ووصلهم، فأقاموا أياماً.
ثم دخلوا عليه وسألوه إتمام ما وعدهم به من الغزو، فقال: انظروا ما أردتم من الجند نعطكم؛ فقالوا: ما يدخل معنا بلاد العدو غيرنا إلا الذين معنا من بني عمنا، وصنهاجة وموالينا؛ فأعطاهم الخيل والسلاح والأموال، وبعث معهم دليلاً، وكان الطريق ضيقاً، فأتوا أرض جليقية، فدخلوها ليلاً، وكمنوا في بستان بالقرب من المدينة، وقتلوا كل من به وقطعوا أشجاره. فلما أصبحوا خرج جماعة من البلد فضربوا عليهم وأخذوهم وقتلوهم جميعهم ورجعوا.
وتسامع العدو، فركبوا في أثرهم، فلما أحسوا بذلك كمنوا وراء ربوة، فلما جاوزهم العدو خرجوا عليهم من وراءهم، وضربوا في ساقتهم وكبروا، فلما سمع العدو تكبيرهم ظنوا أن العدد كثير، فانهزموا، وتبعهم صنهاجة، فقتلوا خلقاً كثيراً، وغنموا دوابهم وسلاحهم وعادوا إلى قرطبة، فعظم ذلك عند ابن أبي عامر، ورأى من شجاعتهم ما لم يره من جند الأندلس، فأحسن إليهم وجعلهم بطانته.
ذكر غزو ابن أبي عامر إلى الفرنج بالأندلسلما رأى أهل الأندلس فعل صنهاجة حسدوهم، ورغبوا في الجهاد، وقالوا للمنصور بن أبي عامر: لقد نشطنا هؤلاء للغزو. فجمع الجيوش الكثيرة من سائر الأقطار، وخرج إلى الجهاد، وكان رأى في منامه، تلك الليالي، كأن رجلاً أعطاه الأسبراج، فأخذه من يده وأكل منه، فعبره على ابن أبي جمعة، فقال له: اخرج إلى بلد إليون فإنك ستفتحها؛ فقال: من أين أخذت هذا ؟ فقال: لأن الأسبراج يقال له في المشرق الهليون، فملك الرؤيا قال لك: هاليون.
فخرج إليها ونازلها، وهي من أعظم مدائنهم، واستمد أهلها الفرنج، فأمدوهم بجيوش كثيرة، واقتتلوا ليلاً ونهاراً، فكثر القتل فيهم، وصبرت صنهاجة صبراً عظيماً، ثم خرج قومص كبير من الفرنج لم يكن لهم مثله، فجال بين الصفوف وطلب البراز، فبرز إليه جلالة بن زيري الصنهاجي فحمل كل واحد منهما على صاحبه، فطعنه الفرنجي فمال عن الطعنة وضربه بالسف على عاتقه فأبان عاتقه، فسقط الفرنجي إلى الأرض، وحمل المسلمون على النصارى، فانهزموا إلى بلادهم، وقتل منهم ما لا يحصى وملك المدينة.
وغنم ابن أبي عامر غنيمة عظيمة لم ير مثلها، واجتمع من السبي ثلاثون ألفاً، وأمر بالقتلى فنضدت بعضها على بعض، وأمر مؤذناً أذن فوق القتلى المغرب، وخرب مدينة قامونة، ورجع سالماً وهو وعساكره.
ذكر وفاة يوسف بلكين
وولاية ابنه المنصورفي هذه السنة، لسبع بقين من ذي الحجة، توفي يوسف بلكين بن زيري صاحب إفريقية بوارقلين.
وسبب مضيه إليها أن خزرون الزناتي دخل سجلماسة، وطرد عنها نائب يوسف بلكين، ونهب ما فيها من الأموال والعدد، وتغلب على فارس زيري ابن عطية الزناتي، فرحل يوسف إليها، فاعتل في الطريق بقولنج، وقيل خرج في يده بثرة فمات منها، فأوصى بولاية ابنه المنصور، وكان المنصور بمدينة أشير، فجلس للعزاء بأبيه، وأتاه أهل القيروان وسائر البلاد يعزونه بأبيه وينهونه بالولاية، فأحسن إلى الناس وقال لهم: إن أبي يوسف وجدي زيري كانا يأخذان الناس بالسيف، وأنا لا آخذهم إلا بالإحسان، ولست ممن يولى بكتاب ويعزل بكتاب، يعني أن الخليفة بمصر لا يقدر على عزله بكتاب.
ثم سار إلى القيروان، وسكن برقادة، وولي الأعمال، واستعمل الأمراء وأرسل هدية عظيمة إلى العزيز بالله بمصر، قيل: كانت قيمتها ألف ألف دينار، ثم عاد إلى أشير، واستخلف على جباية الأموال بالقيروان، والمهدية، وجميع إفريقية إنساناً يقال له عبدالله بن الكاتب.
ذكر أمر باذ الكردي بني مروان وملكه الموصل
في هذه السنة قوي أمر باذ الكردي، واسمه أبو عبدالله الحسين بن دوستك وهو من الأكراد الحميدية، وكان ابتداء أمره أنه كان يغزو بثغور ديار بكر كثيراً، وكان عظيم الخلقة، له بأس وشدة، فلما ملك عضد الدولة الموصل حضر عنده، فلما رأى عضد الدولة خافه وقال: ما أظنه يبقي علي؛ فهرب حين خرج من عنده، وطلبه عضد الدولة بعد خروجه ليقبض عليه، وقال: له بأسٌ وشدة، وفيه شر، ولا يجوز الإبقاء على مثله؛ فأخبر بهربه، فكف عن طلبه.
وحصل بثغور ديار بكر، وأقام بها إلى أن استفحل أمره وقوي، وملك ميافارقين وكثيراً من ديار بكر بعد موت عضد الدولة، ووصل بعض أصحابه إلى نصيبين، فاستولى عليها، فجهز صمصام الدولة إليه العساكر مع أبي سعد بهرام بن أردشير، فواقعه، فانهزم بهرام وأسر جماعة من أصحابه، وقوي أمر باذ، فأرسل صمصام الدولة إليه أبا القاسم سعد بن محمد الحاجب في عسكر كثير، فالتقوا بباجلايا على خابور الحسينية، من بلد كواشى، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم سعد وأصحابه، واستولى باذ على كثير من الديلم، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم سعد وأصحابه، واستولى باذ على كثير من الديلم، فقتل وأسر، ثم قتل الأسرى صبراً. وفي هذه الوقعة يقول أبو الحسين البشنوي:
بباجلايا جلونا عنه غمّته، ... ونحن في الروع جلاّؤون للكرب
يعنى باذاً، وسنذكر سببه سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، إن شاء الله تعالى.
ولما هزم باذ الديلم وسعداً، وفعل بهم ما تقدم ذكره، سبقه سعد فدخل الموصل، وسار باذ في أثره، فثار العامة بسعد لسوء سيرة الديلم فيهم، فنجا منهم بنفسه، ودخل باذ إلى الموصل واستولى عليها، وقويت شوكته، وحدث نفسه بالتغلب على بغداد وإزالة الديلم عنها، وخرج من حد المتطرفين، وصار في عداد أصحاب الأطراف. فخافه صمصام الدولة، وأهمه أمره وشغله عن غيره، وجمع العساكر ليسيرها إليه، فانقضت السنة.
وقد حدثني بعض أصدقائنا من الأكراد الحميدية ممن يعتني بأخبار باذ أن باذاً كنيته أبو شجاع، واسمه باذ، وأن أبا عبدالله هو الحسين بن دوستك، وهو أخو باذ، وكان ابتداء أمره أنه كان يرعى الغنم، وكان كريماً جواداً، وكان يذبح الغنم التي له ويطعم الناس، فظهر عنه اسم الجود، فاجتمع عليه الناس، وصار يقطع الطريق، وكلما حصل له شيء أخرجه، فكثر جمعه، وصار يغزو، ثم إنه دخل أرمينية، فملك مدينة أرجيش، وهي أول مدينة ملكها، فقوي بها، وسار منها إلى ديار بكر، فملك مدينة آمد، ثم ملك مدينة ميافارقين وغيرها من ديار بكر، وسار إلى الموصل فملكها كما ذكرناه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة استعمل العزيز بالله الخليفة العلوي على دمشق وأعمالها بكجور التركي مولى قرعويه أحد غلمان سيف الدولة بن حمدان، وكان له حمص، فسار منها إلى دمشق، وظلم أهلها، وعسفهم وأساء السيرة فيهم، وقد ذكرناه سنة اثنتين وسبعين مستقصىً.
وفيها وزر أبو محمد علي بن العباس بن فسانجس لشرف الدولة.
وفيها، في ربيع الأول، انقض كوكب عظيم أضاءت له الدنيا، وسمع له مثل دوي الرعد الشديد.
وفيها غلت الأسعار بالعراق وما يجاوره من البلاد، وعدمت الأقوات، فمات كثير من الناس جوعاً.
وفيها وزر أبو عبدالله الحسين بن أحمد بن سعدان لصمصام الدولة.
وفيها ورد القرامطة إلى قريب بغداد، وطمعوا بموت عضد الدولة، فصولحوا على مال أخذوه وعادوا.
وفيها، في جمادى الآخرة، توفي سعيد بن سلام أبو عثمان المغربي بنيسابور، ومولده بالقيروان، ودخل الشام، فصحب الشيوخ منهم أبو الخير الأقطع وغيره، وكان من أرباب الأحوال.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وثلاثمائة
ذكر عود الديلم إلى الموصل
وانهزام باذلما استولى باذ الكردي على الموصل اهتم صمصام الدولة ووزيره ابن سعدان بأمره، فوقع الاختيار على إنفاذ زيار بن شهراكويه، وهو أكبر قوادهم، فأمره بالمسير إلى قتاله، وجهزه، وبالغ في أمره، وأكثر معه الرجال والعدد والأموال، وسار إلى باذ، فخرج إليهم، ولقيهم في صفر من هذه السنة، فأجلت الوقعة عن هزيمة باذ وأصحابه وأسر كثير من عسكره وأهله، وحملوا إلى بغداد فشهروا بها، وملك الديلم الموصل.
وأرسل زيار عسكراً مع سعد الحاجب في طلب باذ، فسلكوا على جزيرة ابن عمر، وأرسل عسكراً آخر إلى نصيبين، فاختلفوا على مقدميهم، فلم يطاوعوهم على المسير إليه، وكان باذ بديار بكر قد جمع خلقاً كثيراً فكتب وزير صمصام الدولة إلى سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان، وبذل له تسليم ديار بكر إليه، فسير إليها جيشاً، فلم يكن لهم قوة بأصحاب باذ، فعادوا إلى حلب، وكانوا قد حصروا ميافارقين، فلما شاهد سعد ذلك من عسكره أعمل الحيلة في قتل باذ، فوضع رجلاً على ذلك، فدخل الرجل خيمة باذ ليلاً، وضربه بالسيف، وهو يظن أنه يضرب رأسه، فوقعت الضربة على ساقه، فصاح، وهرب ذلك الرجل، فمرض باذ من تلك الضربة، فأشفى على الموت، وكان قد جمع معه من الرجال خلقاً كثيراً، فراسل زياراً وسعداً يطلب الصلح، فاستقر الحال بينهم، واصطلحوا على أن تكون داير بكر لباذ، والنصف من طور عبدين أيضاً، وانحدر زيار إلى بغداد، وأقام سعد بالموصل.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قلد أبو طريف عليان بن ثمال الخفاجي حماية الكوفة، وهي أول إمارة بني ثمال.
وفيها خطب أبو الحسين بن عضد الدولة بالأهواز لفخر الدولة، وخطب له أبو طاهر بن عضد الدولة بالبصرة، ونقشا اسمه على السكة.
وفيها خطب لصمصام الدولة بعمان، وكانت لشرف الدولة، ونائبه بها أستاذ هرمز، فصار مع صمصام الدولة، فلما بلغ الخبر إلى شرف الدولة أرسل إليه جيشاً، فانهزم أستاذ هرمز وأخذ أسيراً، وعادت عمان إلى شرف الدولة، وحبس أستاذ هرمز في بعض القلاع وطولب بمال كثير.
وفيها توفي علي بن كامة، مقدم عسكر ركن الدولة.
وفيها أفرج شرف الدولة عن أبي منصور بن صالحان واستوزره، وقبض على وزيره أبي محمد بن فسانجس.
وفيها أرسل شرف الدولة رسولاً إلى القرامطة، فلما عاد قال: إن القرامطة سألوني عن الملك فأخبرتهم بحسن سيرته فقالوا: من ذلك أنه استوزر ثلاثة في سنة لغير سبب، فلم يغير شرف الدولة بعد هذا على وزيره أبي منصور بن صالحان.
وفي هذه السنة توفي أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي الموصلي، الحافظ المشهور، وقيل في سنة تسع وستين، وكان ضعيفاً في الحديث.
ثم دخلت سنة خمس وسبعين وثلاثمائة
ذكر الفتنة ببغدادفي هذه السنة جرت فتنة ببغداد بين الديلم، وكان سببها أن أسفار بن كردويه، وهو من أكابر القواد، استنفر من صمصام الدولة، واستمال كثيراً من العسكر إلى طاعة شرف الدولة، واتفق رأيهم على أن يولوا الأمير بهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة العراق نيابةً عن أخيه شرف الدولة.
وكان صمصام الدولة مريضاً، فتمكن أسفار من الذي عزم عليه، وأظهر ذلك، وتأخر عن الدار، وراسله صمصام الدولة يستميله ويسكنه، فما زاده إلا تمادياً، فلما رأى ذلك من حاله راسل الطائع يطلب منه الركوب معه، وكان صمصام الدولة قد أبل من مرضه، فامتنع الطائع من ذلك، فشرع صمصام الدولة، واستمال فولاذ زماندار، وكان موافقاً لأسفار إلا أنه كان يأنف من متابعته لكبر شأنه. فلما راسله صمصام الدولة أجابه، واستحلفه على ما أراد، وخرج من عنده، وقاتل أسفار، فهزمه فولاذ، وأخذ الأمير أبو نصر أسيراً، وأحضر عند أخيه صمصام الدولة، فرق له، وعلم أنه لا ذنب له، فاعتقله مكرماً، وكان عمره حينئذ خمس عشرة سنة.
وثبت أمر صمصام الدولة، وسعي إليه بابن سعدان الذي كان وزيره، فعزله، وقيل إنه كان هواه معهم، فقتل ومضى أسفار إلى الأهواز، واتصل بالأمير أبي الحسين بن عضد الدولة، وخدمه، وسار باقي العسكر إلى شرف الدولة.
ذكر أخبار القرامطةفي هذه السنة ورد إسحاق وجعفر البحريان، وهما من الستة القرامطة الذين يلقبون بالسادة، فملكا الكوفة، وخطبا لشرف الدولة، فانزعج الناس لذلك لما في النفوس من هيبتهم وبأسهم، وكان لهم من الهيبة ما إن عضد الدولة وبختيار أقطعاهم الكثير.
وكان نائبهم ببغداد يعرف بأبي بكر بن شاهويه، يتحكم تحكم الوزراء، فقبض عليه صمصام الدولة، فلما ورد القرامطة الكوفة كتب إليهما صمصام الدولة يتلطفهما، ويسألهما عن سبب حركتهما، فذكرا أن قبض نائبهم هو السبب في قصدهم بلاده، وبثا أصحابهما، وجبيا المال.
ووصل أبو قيس الحسن بن المنذر إلى الجامعين، وهو من أكابرهم، فأرسل صمصام الدولة العساكر، ومعهم العرب، فعبروا الفرات إليه وقاتلوه، فانهزم عنهم، وأسر أبو قيس وجماعة من قوادهم، فقتلوا، فعاد القرامطة وسيروا جيشاً آخر في عدد كثير وعدة، فالتقوا هم وعساكر صمصام الدولة بالجامعين أيضاً، فأجلت الوقعة عن هزيمة القرامطة، وقتل مقدمهم وغيره، وأسر جماعة، ونهب سوادهم، فلما بلغ المنهزمون إلى الكوفة رحل القرامطة، وتبعهم العسكر إلى القادسية، فلم يدركوهم، وزال من حينئذ ناموسهم.
ذكر الإفراج عن ورد الرومي وما صار أمره إليه ودخول الروس في النصرانيةفي هذه السنة أفرج صمصام الدولة عن ورد الرومي، وقد تقدم ذكر حبسه. فلما كان الآن أفرج عنه وأطلقه، وشرط عليه إطلاق عدد كثير من أسرى المسلمين، وأن يسلم إليه سبعة حصون من بلد الروم برساتيقها، وأن لا يقصد بلاد الإسلام هو ولا أحد من أصحابه ما عاش، وجهزه بما يحتاج إليه من مال وغيره، فسار إلى بلاد الروم، واستمال في طريقه خلقاً كثيراً من البوادي وغيرهم، وأطمعهم في العطاء والغنيمة، وسار حتى نزل بملطية، فتسلمها، وقوي بها وبما فيها من مالٍ وغيره.
وقصد ورديس بن لاون، فتراسلا، واستقر الأمر بينهما على أن تكون القسطنطينية، وما جاورها من شمالي الخليج، لورديس، وهذا الجانب من الخليج لورد، وتحالفا واجتمعا، فقبض ورديس على ورد وحبسه، ثم إنه ندم فأطلقه عن قريب، وعبر ورديس الخليج، وحصر القسطنطينية وبها الملكان ابنا أرمانوس، وهما بسيل وقسطنطين وضيف عليهما، فراسلا ملك الروسية، واستنجداه وزوجاه بأخت لهما، فامتنعت من تسليم نفسها إلى من يخالفها في الدين، فتنصر، وكان هذا أول النصرانية بالروس، وتزوجها وسار إلى لقاء ورديس، فاقتتلوا وتحاربوا فقتل ورديس، واستقر الملكان في ملكهما، وراسلا ورداً وأقراه على ما بيده، فبقي مديدةً ومات، قيل إنه مات مسموماً.
وتقدم بسيل في الملك، وكان شجاعاً عادلاً، حسن الرأي، ودام ملكه، وحارب البلغار خمساً وثلاثين سنة، وظفر بهم، وأجلى كثيراً منهم من بلادهم، وأسكنها الروم، وكان كثير الإحسان إلى المسلمين والميل إليهم.
ذكر ملك شرف الدولة الأهوازفي هذه السنة شرف الدولة أبو الفوارس بن عضد الدولة من فارس يطلب الأهواز، وأرسل إلى أخيه أبي الحسين وهو بها يطبب نفسه، ويعده الإحسان، وأن يقره على ما بيده من الأعمال، وأعلمه أن مقصده العراق، وتخليص أخيه الأمير أبي نصر من محبسه، فلم يصغ أبو الحسين إلى قوله، وعزم على منعه، وتجهز لذلك، فأتاه الخبر بوصول شرف الدولة إلى أرجان، ثم إلى رامهرمز، فتسلل أجناده إلى شرف الدولة ونادوا بشعاره، فهرب أبو الحسين نحو الري إلى عمه فخر الدولة، فبلغ أصبهان وأقام بها، واستنصر عمه فأطلق له مالاً ووعده بنصره.
فلما طال عليه الأمر قصد التغلب على أصبهان ونادى بشعار أخيه شرف الدولة، فثار به جندها وأخذوه أسيراً وسيروه إلى الري، فحبسه عمه، وبقي محبوساً إلى أن مرض عمه فخر الدولة مرض الموت، فلما اشتد مرضه أرسل إليه من قتله، وكان يقول شعراً، فمن قوله:
هب الدهر أرضاني وأعتب صرفه، ... وأعقب بالحسنى، وفكّ من الأسر
فمن لي بأيّام الشباب التي مضت، ... ومن لي بما قد فات في الحبس من عمري
وأما شرف الدولة فإنه سار إلى الأهواز وملكها، وأرسل إلى البصرة فملكها، وقبض على أخيه أبي طاهر، وبلغ الخبر إلى صمصام الدولة، فراسله في الصلح، فاستقر الأمر على أن يخطب لشرف الدولة بالعراق قبل صمصام الدولة، ويكون صمصام الدولة نائباً عنه، ويطلق أخاه الأمير بهاء الدولة أبا نصر، فأطلقه وسيره إليه، وصلح الحال واستقام.
وكان قواد شرف الدولة يحبون الصلح لأجل العود إلى أوطانهم، وخطب لشرف الدولة بالعراق، وسيرت إليه الخلع والألقاب من الطائع لله، فإلى أن عادت الرسل إلى شرف الدولة ليحلفوه ألقت إليه البلاد مقاليدها كواسط وغيرها، وكاتبه القواد بالطاعة، فعاد عن الصلح، وعزم على قصد بغداد والاستيلاء على الملك، ولم يحلف لأخيه.
وكان معه الشريف أبو الحسن محمد بن عمر يشير عليه بقصد العراق، ويحثه عليه، ويطمعه فيه، فوافقه على ذلك. وسنذكر باقي خبره سنة ست وسبعين، إن شاء الله تعالى.
ذكر انهزام عساكر المنصور من صاحب سجلماسةقد ذكرنا استيلاء خزرون وزيري الزناتيين على سجلماسة وفاس، وموت يوسف بلكين لما قصدهما، فلما مات تمكنا من تلك البلاد؛ فلما استقر المنصور سير جيشاً كثيفاً إليهما ليردهما إلى طاعته، فلما صار الجيش قريب فاس خرج إليهم صاحبها زيري بن عطية الزناتي، المعروف بالقرطاس، في عساكره، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عسكر المنصور، وقتل منهم خلق كثير، وأسر جماعة كثيرة، وثبت قدمه في ولايته.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خرج بعمان طائر من البحر كبير، أكبر من الفيل، ووقف على تل هناك، وصاح بصوت عالٍ، ولسان فصيح: قد قرب، قد قرب، قد قرب، ثلاثاً ثم غاص في البحر، ففعل ذلك ثلاثة أيام، ثم غاب ولم ير بعد ذلك.
وفيها جدد صمصام الدولة ببغداد على الثياب الإبرسيم والقطن المبيعة ضريبة مقدارها عشر الثمن، فاجتمع الناس في جامع المنصور، وعزموا على قطع الصلاة، وكاد البلد يفتتن، فأعفوا من ذلك.
وفيها توفي ابن مؤيد الدولة بن بويه، فجلس صمصام الدولة للعزاء، فأتاه الطائع لله معزياً.
وفيها توفي أبو علي الحسن بن الحسين بن أبي هريرة الفقيه الشافعي المشهور؛ وأبو القاسم عبد العزيز بن عبدالله الداركي وكان رئيس أصحاب الشافعي بالعراق، وتوفي في شوال وله نيف وسبعون سنة؛ وأبو بكر محمد بن عبدالله بن محمد بن صالح الفقيه المالكي، ومولده سنة سبع وثمانين ومائتين، وسئل أن يلي قضاء القضاة فامتنع؛ والوليد بن أحمد بن محمد بن الوليد أبو العباس الزوزني الصوفي المحدث، كان من العلماء في الحقائق، وله تصانيف حسنة.
ثم دخلت سنة ست وسبعين وثلاثمائة
ذكر ملك شرف الدولة العراق
وقبض صمصام الدولةفي هذه السنة سار شرف الدولة أبو الفوارس بن عضد الدولة من الأهواز إلى واسط فملكها، فأرسل إليه صمصام الدولة أخاه أبا نصر يستعطفه بإطلاقه، وكان محبوساً عنده، فلم يتعطف له، واتسع الخرق على صمصام الدولة، وشغب عليه جنده، فاستشار أصحابه في قصد أخيه والدخول في طاعته، فنهوه عن ذلك، وقال بعضهم: الرأي أننا نصعد إلى عكبرا لنعلم بذلك من هو لنا ممن هو علينا، فإن رأينا عدتنا كثيرة قاتلناهم وأخرجنا الأموال، وإن عجزنا سرنا إلى الموصل، فهي وسائر بلاد الجبل لنا، فيقوى أمرنا، ولا بد أن الديلم والأتراك تجري بينهم منافسة ومحاسدة ويحدث اختلال فنبلغ الغرض.
وقال بعضهم: الرأي أننا نسير إلى قرميسين تكاتب عمك فخر الدولة وتستنجده، وتسير على طريق خراسان وأصبهان إلى فارس، فتتغلب عليها، على خزائن شرف الدولة وذخائره، فما هناك ممانع ولا مدافع، فإذا فعلنا ذلك لا يقدر شرف الدولة على المقام بالعراق، فيعود حينئذ فيقع الصلح.
فأعرض صمصام الدولة عن الجميع، وسار في طيار إلى أخيه شرف الدولة في خواصه، فوصل إلى أخيه شرف الدولة، فلقيه وطيب قلبه. فلما خرج من عنده قبض عليه، وأرسل إلى بغداد من يحتاط على دار المملكة، وسار فوصل إلى بغداد في شهر رمضان، فنزل بالشفيعي، وأخوه صمصام الدولة معه تحت الاعتقال، وكانت إمارته بالعراق ثلاث سنين وأحد عشر شهراً.
ذكر الفتنة بين الأتراك والديلمفي هذه السنة جرت فتنة بين الديلم والأتراك الذين مع شرف الدولة ببغداد. وسببها أن الديلم اجتمعوا مع شرف الدولة في خلق كثير بلغت عدتهم خمسة عشرة ألف رجل، وكان الأتراك في ثلاثة آلاف، فاستطال عليهم الديلم، فجرت منازعة بين بعضهم في دار وإصطبل، ثم صارت إلى المحاربة، فاستظهر الديلم لكثرتهم، وأرادوا إخراج صمصام الدولة وإعادته إلى ملكه.
وبلغ شرف الدولة الخبر، فوكل بصمصام الدولة من يقتله إن هم الديلم بإخراجه. ثم إن الديلم لما استظهروا على الأتراك تبعوهم، فتشوشت صفوفهم، فعادت الأتراك عليهم من أمامهم وخلفهم، فانهزموا وقتل منهم زيادة على ثلاثة آلاف، ودخل الأتراك البلد، فقتلوا من وجدوه منهم، ونهبوا أموالهم، وتفرق الديلم، فبعضهم اعتصم بشرف الدولة، وبعضهم سار عنه.
فلما كان الغد دخل شرف الدولة بغداد والديلم المعتصمون به معه، فخرج الطائع لله ولقيه وهنأه بالسلامة، وقبل شرف الدولة الأرض، وأخذ الديلم يذكرون صمصام الدولة، فقيل لشرف الدولة: اقتله، وإلا ملكوه الأمر.
ثم إن شرف الدولة أصلح بين الطائفتين، وحلف بعضهم لبعض، وحمل صمصام الدولة إلى فارس، فاعتقل في قلعةٍ هناك، فرد شرف الدولة على الشريف محمد بن عمر جميع أملاكه وزاده عليها، وكان خراج أملاكه كل سنة ألفي ألف وخمس مائة ألف درهم، ورد على النقيب أبي أحمد الموسوي أملاكه، وأقر الناس على مراتبهم، ومنع الناس من السعايات ولم يقبلها، فأمنوا وسكنوا. ووزر له أبو منصور بن صالحان.
ذكر ولاية مهذب الدولة البطيحةفي هذه السنة توفي المظفر بن علي، وولي بعده ابن أخته أبو الحسن علي ابن نصر بالعهد المذكور، وكتب إلى شرف الدولة يبذل له الطاعة، ويطلب التقليد، فأجيب إلى ذلك، ولقب بمهذب الدولة، فأحسن السيرة، وبذل الخير والإحسان، فقصده الناس، وأمن عنده الخائف.
وصارت البطيحة معقلاً لكل من قصدها، واتخذها الأكابر وطناً، وبنوا فيها الدور الحسنة، ووسعهم بره وإحسانه، وكاتب ملوك الأطراف وكاتبوه، وزجه بهاء الدولة ابنته، وعظم شأنه إلى أن قصده القادر بالله فحماه، وبقي عنده إلى أن أتته الخلافة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي أبو الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي، المنجم لعضد الدولة، وكان مولده بالري سنة إحدى وتسعين ومائتين.
وفيها كان بالموصل زلزلة شديدة تهدم بها كثير من المنازل، وهلك كثير من الناس.
وفيها قتل المنصور بن يوسف، صاحب إفريقية، عبدالله الكاتب، وقام على ولاية الأعمال بإفريقية عوضه يوسف بن أبي محمد، وكان والي قفصة قبل ذلك.
وفيها كان بالعراق غلاء شديد جلا لشدته أكثر أهله.
وفيها توفي أحمد بن يوسف بن يعقوب بن البهلول التنوخي الأزرق، الأنباري الكاتب.
وأحمد بن الحسين بن علي أبو حامد المروزي، ويعرف بابن الطبري الفقيه الحنفي، تفقه ببغداد على أبي الحسن الكرخي، وولي قضاء القضاة بخراسان، ومات في صفر، وكان عابداً محدثاً ثقة.
وإسحاق بن المقتدر بالله أو محمد والد القادر، ومولده سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وصلى عليه ابنه القادر وهو حينئذ أمير.
وأبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي، صاحب الإيضاح؛ قيل كان معتزلياً وقد جاوز تسعين سنة.
وأبو أحمد محمد بن أحمد بن الحسين بن الغطريف الجرجاني، توفي في رجب، وهو عالي الإسناد في الحديث.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وثلاثمائة
الحرب بين ابن حسنويه وشرف الدولة
ذكر الحرب بين بدر بن حسنويه وعسكر شرف الدولةفي هذه السنة جهز شرف الدولة عسكراً كثيفاً مع قراتكين الجهشياري، وهو مقدم عسكره وكبيرهم، وأمرهم بالمسير إلى بدر بن حسنويه وقتاله.
وسبب ذلك أن شرف الدولة كان مغيظاً حنقاً على بدر لانحرافه عنه، وميله إلى عمه فخر الدولة، فلما استقر ملكه ببغداد وأطاعه الناس شرع في أمره بدر، وكان قراتكين قد جاوز الحد في التحكم والإدلال، وحماية الناس على نواب شرف الدولة، فرأى أن يخرجه في هذا الوجه، فإن ظفر ببدر شفى غيظه منه، وإن ظفر به بدر استراح منه.
فساروا نحو بدر، وتجهز بدر وجمع العساكر، وتلاقيا على الوادي بقرميسين، فلما اقتتلوا انهزم بدر حتى توارى عنه، وظن قراتكين وأصحابه أنه مضى على وجهه، فنزلوا عن خيولهم وتفرقوا في خيامهم، فلم يلبثوا إلا ساعة حتى كر بدر راجعاً إليهم، وأكب عليهم، وأعجلهم عن الركوب، وقتل منهم مقتلة عظيمة، واحتوى على جميع ما في عسكرهم، ونجا قراتكين في نفرٍ من غلمانه، فبلغ جسر النهروان، وأقام به حتى اجتمع إليه المنهزمون، ودخل بغداد.
واستولى بدر بعد ذلك على أعمال الجبل وما والاها، وقويت شوكته.
وأما قرتكين فإنه لما عاد من الهزيمة زاد إدلاله وتجنيه، وأغرى العسكر بالشغب، والتوثب على الوزير أبي منصور بن صالحان، فلقوه بما يكره، فلاطفهم ودفعهم، وأصلح شرف الدولة بين الوزير وبين قراتكين، وشرع في إعمال الحيلة على قراتكين، فلم تمض غير أيام حتى قبض عليه وعلى جماعة من أصحابه وكتابه، وأخذ أموالهم، وشغب الجند لأجله، فقتله شرف الدولة، فسكنوا، وقدم عليهم طغان الحاجب، فصلحت طاعته.
ذكر مسير المنصور بن يوسف لحرب كتامةفي هذه السنة جمع المنصور، صاحب إفريقية، عساكره وسار إلى كتامة قاصداً حربها.
وسبب ذلك أن العزيز بالله العلوي بمصر كان قد أرسل داعياً له إلى كتامه، يقال له أبو الفهم، واسمه حسن بن نصر، يدعوهم إلى طاعته، وغرضه أن تميل كتامة إليه وترسل إليه جنداً يقاتلون المنصور، ويأخذون إفريقية منه، لما رأى من قوته. فدعاهم أبو الفهم، فكثر تبعه، وقاد الجيوش، وعظم شأنه، وعزم المنصور على قصده، فأرسل إلى العزيز بمصر يعرفه الحال، فأرسل العزيز رسولين إلى المنصور ينهاه عن التعرض لأبي الفهم وكتامة، وأمرهما أن يسيرا إلى كتامة بعد الفراغ من رسالة المنصور.
فلما وصلا إلى المنصور وأبلغاه رسالة العزيز أغلظ القول لهما وللعزيز أيضاً، وأغلظا له، فأمرهما بالمقام عنده بقية شعبان ورمضان، ولم يتركهما يمضيان إلى كتامة، وتجهز لحرب كتامة وأبي الفهم، وسار بعد عيد الأضحى، فقصده مدينة ميلة، وأراد قتل أهلها وسبي نسائهم وذراريهم، فخرجوا إليه يتضرعون ويبكون فعفا عنهم، وخرب سورها، وسار منها إلى كتامة والرسولان معه.
فكان لا يمر بقصر ولا منزل إلا هدمه، حتى بلغ مدينة سطيف، وهي كرسي عزهم، فاقتتلوا عندها قتالاً عظيماً، فانهزمت كتامة، وهرب أبو الفهم إلى جبل وعرٍ فيه ناس من كتامة يقال لهم بنو إبراهيم، فأرسل إليهم المنصور يتهددهم إن لم يسلموه، فقالوا: هو ضيفنا ولا نسلمه، ولكن أرسل أنت إليه فخذه ونحن لا نمنعه. فأرسل فأخذه، وضربه ضرباً شديداً، ثم قتله وسلخه، وأكلت صنهاجة وعبيد المنصور لحمه، وقتل معه جماعة من الدعاة ووجوه كتامة، وعاد إلى أشير، ورد الرسولين إلى العزيز فأخبراه بما فعل بأبي الفهم، وقالا: جئنا من عند شياطين يأكلون الناس. فأرسل العزيز إلى المنصور يطيب قلبه، وأرسل إليه هدية، ولم يذكر له أبا الفهم.
ذكر معاودة باذ القتالفي هذه السنة تجدد لباذ الكردي طمع في بلاد الموصل وغيرها.
وسبب ذلك أن سعداً الحاجب الذي تقدم ذكره توفي بالموصل، فسير إليها شرف الدولة أبا نصر خواشاذه، وجهز إليه العساكر، وكتب يستمد من شرف الدولة العساكر والأموال، فتأخرت الأموال عنه، فأحضر العرب من بني عقيل وأقطعهم البلاد ليمنعوا عنها، وانحدر باذ فاستولى على طور عبدين، ولم يقدر على النزول إلى الصحراء، وأرسل أخاه في عسكر، فقاتلوا العرب، فقتل أخوه وانهزم عسكره، وأقام بعضهم مقابل بعض.
فبينما هم كذلك أتاهم الخبر بموت شرف الدولة، فعاد خواشاذه إلى الموصل وأظهر موته، وأقامت العرب بالصحراء تمنع باذاً من النزول إليها، وباذ بالجبل، وكان خواشاذه يصلح أمره ليعاود حرب باذ، فأتاه إبراهيم وأبو الحسين ابنا ناصر الدولة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة جلس الطائع لله لشرف الدولة جلوساً عاماً وحضره أعيان الدولة، وخلع عليه، وحلف كل واحد منهما لصاحبه.
وفيها ولد الأمير أبو علي الحسن بن فخر الدولة في رجب.
وفيها سار الصاحب بن عباد إلى طبرستان فأصلحها، ونفى المتغلبين عنها، وفتح عدة حصون منها: حصن قريم، وعاد في سنته.
وفيها عصى الأمير أبو منصور بن كوريكنج، صاحب قزوين، على فخر الدولة، فلاطفه فخر الدولة، وبذل له الأمان والإحسان، فعاد إلى طاعته.
وفيها، في رمضان، حدثت فتنة شديدة بين الديلم والعامة بمدينة الموصل، قتل فيها مقتلة عظيمة، ثم أصلح الحال بين الطائفتين.
وفيها تأخر المطر حتى انتصف كانون الثاني، وغلت الأسعار بالعراق وما يجاوره من البلاد، واستسقى الناس مرتين فلم يسقوا، حتى جاء المطر سابع عشر كانون الثاني، وزال القنوط، وتتابعت الأمطار.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة
ذكر القبض على شكر الخادمفي هذه السنة قبض شرف الدولة على شكرٍ الخادم، وكان أخص الناس عند والده عضد الدولة وأقربهم إليه، يرجع إلى قوله ويعول عليه.
وكان سبب قبضه أنه كان أيام والده يقصد شرف الدولة ويؤذيه، وهو الذي تولى إبعاده إلى كرمان من بغداد، وقام بأمر صمصام الدولة، فحقد عليه شرف الدولة ذلك، فلما ملك شرف الدولة العراق اختفى شكر، فطلبه أشد الطلب فلم يوجد، وكان له جارية حبشية قد تزوجها، فطلبها إليه، فأقامت عنده مدة تخدمه.
وكان قد علق بقلبها غيره، فصارت تأخذ المأكول وغيره وتحمله إلى حيث شاءت، فأحس بها شكر، فلم يحتملها، فضربها، فخرجت غضبى إلى باب دار شرف الدولة، فأخبرت بحال شكرٍ، فأخذ وأحضر عند شرف الدولة، فأراد قتله، فشفع فيه نحرير الخادم، فوهبه له، وأستأذنه في الحج، فأذن له، فسار إلى مكة ثم منها إلى مصر، فنال هناك منزلةً كبيرةً، وسيرد خبره إن شاء الله تعالى.
ذكر عزل بكجور عن دمشقفي هذه السنة عزل بكجور عن دمشق.
وسبب ذلك أنه أساء السيرة في دمشق، وفعل الأعمال الذميمة، وكان الوزير يعقوب بن كلس منحرفاً عنه، يسيء الرأي فيه، وانضاف إلى ذلك ما فعله بأصحابه بدمشق على ما ذكرناه. فلما بلغه فعله بدمشق تحرك في عزله، وقبح ذكره عند العزيز بالله، فأجابه إلى ذلك، فجهزت العساكر من مصر مع القائد منير الخادم، فساروا إلى الشام.
فجمع بكجور العرب وغيرها وخرج، فلقي العسكر المصري عند داريا، وقاتلهم، فاشتد القتال بينهم، فانهزم بكجور وعسكره، وخاف من وصول نزال والي طرابلس، وكان قد كوتب من مصر بمعاضدة منير، فلما انهزم بكجور خاف أن يجيء نزال فيؤخذ، فأرسل يطلب الأمان ليسلم البلد إليهم، فأجابوه إلى ذلك، فجمع ماله جميعه وسار، وأخفى أثره لئلا يغدر المصريون به، وتوجه إلى الرقة فاستولى عليها، وتسلم منير البلد، ففرح به أهله وسرهم ولايته، وسنذكر سنة إحدى وثمانين باقي أخباره وقتله، إن شاء الله تعالى.
ذكر ظفر الأصفر بالقرامطةفي هذه السنة جمع إنسان يعرف بالأصفر من بني المنتفق جمعاً كثيراً، وكان بينه وبين جمع من القرامطة وقعة شديدة قتل فيها مقدم القرامطة، وانهزم أصحابه وقتل منهم، وأسر كثير.
وسار الأصفر إلى الأحساء، فتحصن منه القرامطة، فعدل إلى القطيف فأخذ ما كان فيها من عبيدهم وأموالهم ومواشيهم وسار بها إلى البصرة.
ذكر نكتة حسنةفي هذه السنة أهدى الصاحب بن عباد، أول المحرم، إلى فخر الدولة ديناراً وزنه ألف مثقال، وكان على أحد جانبيه مكتوب:
وأحمر يحكي الشمس شكلاً وصورةً ... فأوصافه مشتقّةٌ من صفاته
فإن قيل دينارٌ فقد صدق اسمه، ... وإن قيل ألفٌ كان بعض سماته
بديعٌ، ولم يطبع على الدهر مثله، ... ولا ضربت أضرابه لسراته
فقد أبرزته دولةٌ فلكيّةٌ ... أقام بها الإقبال صدر قناته
وصار إلى شاهانشاه انتسابه، ... على أنّه مستصغرٌ لعفاته
يخبّر أن يبقى سنين كوزنه ... لتستبشر الدنيا بطول حياته
تأنّق فيه عبده، وابن عبده، ... وغرس أياديه، وكافي كفاته
وكان على الجانب الآخر سورة الإخلاص، ولقب الخليفة الطائع لله، ولقب فخر الدولة، واسم جرجان لأنه ضر بها. قوله: دولة فكلية يعني أن لقب فخر الدولة كان فلك الأمة. وقوله: وكافي كفاته، فإن الصاحب كان لقبه كافي الكفاة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة تتابعت الأمطار، وكثرت البروق والرعود، والبرد الكبار، وسالت منه الأودية، وامتلأت الأنهار والآبار ببلاد الجبل، وخربت المساكن، وامتلأت الأقناء طيناً وحجارةً، وانقطعت الطرق.
وفيها عصى نصر بن الحسن بن الفيرزان بالدامغان على فخر الدولة، واجتاز به أحمد بن سعيد الشبيبي الخراساني مقبلاً من الري ومعه عسكر من الديلم لمحاربته، فلما رأى الجد في أمره راسل فخر الدولة، وعاود طاعته، فأجابه إلى قبول ذلك منه وأقره على حاله؛ وفيها توفي الأمير أبو علي بن فخر الدولة في رجب.
وفيها وقع الوباء بالبصرة والبطائح من شدة الحر، فمات خلق كثير حتى امتلأت منهم الشوارع.
وفي شعبان كثرت الرياح العواصف، وجاءت وقت العصر، خامس شعبان، ريح عظيمة بفم الصلح، فهدمت قطعة من الجامع، وأهلكت جماعة من الناس، وغرقت كثيراً من السفن الكبار المملوءة، واحتملت زورقاً منحدراً فيه دواب، وعدة من السفن، وألقت الجميع على مسافة من موضعها.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب المفيد، كان محدثاً مكثراً، ومولده سنة أربع وثمانين ومائتين.
وأبو حامد محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق الحاكم النيسابوري، في ربيع الأول، وهو صاحب التصانيف المشهورة.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وثلاثمائة
ذكر سمل صمصام الدولةكان نحرير الخادم يشير على شرف الدولة بقتل أخيه صمصام الدولة، وشرف الدولة يعرض عن كلامه، فلما اعتقل شرف الدولة واشتدت علته ألح عليه نحرير وقال له: الدولة معه على خطرٍ، فإن لم تقتله فاسلمه. فأرسل في ذلك محمداً الشيرازي الفراش، فمات شرف الدولة قبل أن يصل الفراش إلى صمصام الدولة، فلما وصل الفراش إلى القلعة التي بها صمصام الدولة لم يقدم على سلمه، فاستشار أبا القاسم العلاء بن الحسن الناظر هناك، فأشار بذلك، فسلمه. وكان صمصام الدولة يقول: ما أعماني إلا العلاء لأنه أمضى في حكم سلطان قد مات.
ذكر وفاة شرف الدولة
وملك بهاء الدولةفي هذه السنة، مستهل جمادى الآخرة، توفي الملك شرف الدولة أبو الفوارس شيرزيل بن عضد الدولة مستسقياً، وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، فدفن به، وكانت إمارته بالعراق سنتين وثمانية أشهر، وكان عمره ثمانياً وعشرين سنة وخمسة أشهر.
ولما اشتدت علته سير ولده أبا على إلى بلاد فارس، وأصحبه الخزائن والعدد وجماعة كثيرة من الأتراك، فلما أيس أصحابه منه اجتمع إليه أعيانهم وسألوه أن يملك أحداً، فقال: أنا في شغل عما تدعونني إليه. فقالوا له ليأمر أخاه بهاء الدولة أبا نصر أن ينوب عنه إلى أن يعافى ليحفظ الناس لئلا تثور فتنة، ففعل ذلك، وتوقف بهاء الدولة ثم أجاب إليه.
فلما مات جلس بهاء الدولة في المملكة، وقعد للعزاء، وركب الطائع لله أمير المؤمنين إلى العزاء في الزبزب، فتلقاه بهاء الدولة، وقبل الأرض بين يديه، وانحدر الطائع لله إلى داره، وخلع على بهاء الدولة خلع السلطنة، وأقر بهاء الدولة أبا منصور بن صالحان على وزارته.
ذكر مسير الأمير أبي علي بن شرف الدولة إلى فارس وما كان منه مع صمصام الدولة
لما اشتد مرض شرف الدولة جهز ولده الأمير أبا علي وسيره إلى فارس ومعه والدته وجواريه، وسير معه من الأموال والجواهر والسلاح أكثرها. فلما بلغ البصرة أتاهم الخبر بموت شرف الدولة، فسير ما معه في البحر إلى أرجان، وسار هو مجداً إلى أن وصل إليها، واجتمع معه من بها من الأتراك، وساروا نحو شيراز، وكاتبهم متوليها وهو أبو القاسم العلاء بن الحسن بالوصول إليها ليسلمها إليهم، وكان المرتبون في القلعة التي بها صمصام الدولة وأخوه أبو طاهر قد أطلقوهما ومعهما فولاذ وساروا إلى سيراف.
واجتمع على صمصام الدولة كثير من الديلم. وسار الأمير أبو علي إلى شيراز، ووقعت الفتنة بها بين الأتراك والديلم، وخرج الأمير أبو علي من داره إلى معسكر الأتراك، فنزل معهم، واجتمع الديلم وقصدوا ليأخذوه ويسلموه إلى صمصام الدولة، فرأوه قد انتقل إلى الأتراك، فكشفوا القناع، ونابذوا الأتراك، وجرى بينهم قتال عدة أيام.
ثم سار أبو علي والأتراك إلى فسا، فاستولوا عليها وأخذوا ما بها من مال، وقتلوا من بها من الديلم، وأخذوا أموالهم وسلاحهم فقووا بذلك.
وسار أبو علي إلى أرجان، وعاد الأتراك إلى شيراز، فقاتلوا صمصام الدولة ومن معه من الديلم، ونهبوا البلد، وعادوا إلى أبي علي بأرجان، وأقاموا معه مديدةً.
ثم وصل رسول من بهاء الدولة إلى أبي علي وأدى الرسالة، وطيب قلبه ووعده، ثم إنه راسل الأتراك سراً، واستمالهم إلى نفسه، وأطعمهم، فحسنوا لأبي علي المسير إلى بهاء الدولة، فسار إليه، فلقيه بواسط منتصف جمادى الآخرة سنة ثمانين وثلاثمائة، فأنزله وأكرمه، وتركه عدة أيام، وقبض عليه، ثم قتله بعد ذلك بيسير، وتجهز بهاء الدولة للمسير إلى الأهواز لقصد بلاد فارس.
ذكر الفتنة ببغداد بين الأتراك والديلموفي هذه السنة أيضاً وقعت الفتنة ببغداد بين الأتراك والديلم، واشتد الأمر، ودام القتال بينهم خمسة أيام، وبهاء الدولة في داره يراسلهم في الصلح، فلم يسمعوا قوله، وقتل بعض رسله.
ثم إنه خرج إلى الأتراك، وحضر القتال معهم، فاشتد حينئذ الأمر، وعظم الشر، ثم إنه شرع في الصلح، ورفق بالأتراك، وراسل الديلم، فاستقر الحال بينهم، وحلف بعضهم لبعض، وكانت مدة الحرب اثني عشر يوماً.
ثم إن الديلم تفرقوا، فمضى فريق بعد فريق، وأخرج بعضهم، وقبض على البعض، فضعف أمرهم، وقويت شوكة الأتراك، واشتدت حالهم.
ذكر مسير فخر الدولة إلى العراق وما كان منهوفي هذه السنة سار فخر الدولة بن ركن الدولة من الري إلى همذان، عازماً على قصد العراق والاستيلاء عليها.
وكان سبب حركته أن الصاحب بن عباد كان يحب العراق لا سيما بغداد، ويؤثر التقدم بها، ويرصد أوقات الفرصة، فلما توفي شرف الدولة علم أن الفرصة قد أمنت، فوضع على فخر الدولة من يعظم عنده ملك العراق، ويسهل أمره عليه، ولم يباشر هو ذلك خوفاً من خطر العاقبة، إلى أن قال له فخر الدولة: ما عندك في هذا الأمر ؟ فأحال على أن سعادته تسهل كل صعب، وعظم البلاد؛ فتجهز وسار إلى همذان، وأتاه بدر بن حسنويه، وقصده دبيس بن عفيف الأسدي، فاستقر الأمر على أن يسير الصاحب بن عباد وبدر إلى العراق على الجادة، ويسير فخر الدولة على خوزستان. فلما سار الصاحب حذر فخر الدولة من ناحيته، وقيل له ربما استماله أولاد عضد الدولة، فاستعاده إليه، وأخذه معه إلى الأهواز فملكها، وأساء السيرة مع جندها، وضيق عليهم، ولم يبذل الماء، فخابت ظنون الناس فيه، واستشعر منه أيضاً عسكره، وقالوا: هكذا يفعل بنا إذا تمكن من إرادته، فتخاذلوا.
وكان الصاحب قد أمسك نفسه تأثراً بما قيل عنه من اتهامه، فالأمور بسكوته غير مستقيمة. فلما سمع بهاء الدولة بوصولهم إلى الأهواز سير إليهم العساكر، والتقوا هم وعساكر فخر الدولة.
فاتفق أن دجلة الأهواز زادت ذلك الوقت زيادة عظيمة وانفتحت البثوق منها، فظنها عسكر فخر الدولة مكيدة، فانهزموا، فقلق فخر الدولة من ذلك، وكان قد استبد برأيه، فعاد حينئذ إلى رأي الصاحب، فأشار ببذل المال، واستصلاح الجند، وقال له: إن الرأي في مثل هذه الأوقات إخراج المال وترك مضايقة الجند، فإن أطلقت المال ضمنت لك حصول أضعافه بعد سنة. فلم يفعل ذلك، وتفرق عنه كثير من عسكر الأهواز، واتسع الخرق عليه، وضاقت الأمور به، فعاد إلى الري، وقبض في طريقه على جماعة من القواد الرازيين، وملك أصحاب بهاء الدولة الأهواز.
ذكر هرب القادر بالله إلى البطيحةفي هذه السنة هرب القادر بالله من الطائع لله إلى البطيحة فاحتمى فيها.
وكان سبب ذلك أن إسحاق بن المقتدر والد القادر لما توفي جرى بين القادر وبين أخت له منازعة في ضيعة وطال الأمر بينهما. ثم إن الطائع لله مرض مرضاً أشفى منه، ثم أبل، فسعت إليه بأخيه القادر وقالت له: إنه شرع في طلب الخلافة عند مرضك؛ فتغير رأيه فيه، فأنفذ أبا الحسن بن النعمان وغيره للقبض عليه، وكان بالحريم الطاهري، فأصعدوا في الماء إليه.
وكان القادر قد رأى في منامه كأن رجلاً يقرأ عليه: (الَّذِينَ قَاَلَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمٍ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللُه وَنِعْمَ الوَكِيلُ) آل عمران: 173 فهو يحكي هذا المنام لأهله ويقول: أنا خائف من طالب يطلبني؛ ووصل أصحاب الطائع لله إليه واستدعوه، فأراد لبس ثيابه، فلم يمكنوه من مفارقتهم، فأخذه النساء منهم قهراً، وخرج عن داره واستتر، ثم سار إلى البطيحة، فنزل على مهذب الدولة، فأكرم نزله، ووسع عليه، وحفظه، وبالغ في خدمته، ولم يزل عنده إلى أن أتته الخلافة، فلما وليها جعل علامته: (حَسْبُنَا اللُه وَنِعْمَ الوَكِيلُ) آل عمران: 173.
ذكر عود بني حمدان إلى الموصلفي هذه السنة ملك أبو طاهر إبراهيم وأبو عبدالله الحسين ابنا ناصر الدولة ابن حمدان الموصل.
وسبب ذلك أنهما كانا في خدمة شرف الدولة ببغداد، فلما توفي وملك بهاء الدولة استأذنا في الإصعاد إلى الموصل، فأذن لهما، فأصعدا، ثم علم القواد الغلط في ذلك، فكتب بهاء الدولة إلى خواشاذه، وهو يتولى الموصل، يأمره بدفعهما عنها، فأرسل إليهما خواشاذه يأمرهما بالعود عنه، فأعادا جواباً جميلاً، وجدا في السير حتى نزلا بالدير الأعلى بظاهر الموصل.
وثار أهل الموصل بالديلم والأتراك، فنهبوهم، وخرجوا إلى بني حمدان، وخرج الديلم إلى قتالهم، فهزمهم المواصلة وبنو حمدان، وقتل منهم خلق كثير، واعتصم الباقون بدار الإمارة، وعزم أهل الموصل على قتلهم والاستراحة منهم، فمنعهم بنو حمدان عن ذلك، وسيروا خواشاذه ومن معه إلى بغداد، وأقاموا بالموصل، وكثر العرب عندهم.
ذكر خلاف كتامة على المنصور
وفي هذه السنة خرج إنسان آخر من كتامة يقال له أبو الفرج، لا يعرف من أي موضعٍ هو، وزعم أن أباه ولد القائم العلوي، جد المعز لدين الله، فعمل أكثر مما عمله أبو الفهم، واجتمعت إليه كتامة، واتخذ البنود والطبول، وضرب السكة، وجرت بينه وبين نائب المنصور وعساكره بمدينة ميلة وسطيف حروب كثيرة ووقعات متعددة، فسار المنصور إليه في عساكره، وزحف هو إلى المنصور في عساكر كتامة، فكان بينهما حرب شديدة، فانهزم أبو الفرج وكتامة، وقتل منهم مقتلة عظيمة، واختفى أبو الفرج في غارٍ في جبل، فوثب عليه غلامان كانا له فأخذاه وأتيا به المنصور، فسره ذلك وقتله شر قتلة.
وشحن المنصور بلاد كتامة بالعساكر، وبث عماله فيها، ولم يدخلها عامل قبل ذلك، فجبوا أموالها، وضيقوا على أهلها.
ورجع المنصور إلى مدينة أشير، فأتاه سعيد بن خزرون الزناتي، وكان أبوه قد تغلب على سجلماسة سنة خمس وستين وثلاثمائة، وصار في طاعة المنصور، واختص به، وعلت منزلته عنده، فقال له المنصور يوماً: يا سعيد هل تعرف أحداً أكرم مني ؟ وكان قد وصله بمال كثير، فقال: نعم ! أنا أكرم منك. فقال المنصور: وكيف ذلك ؟ قال: لأنك جدت علي بالمال، وأنا جدت عليك بنفسي. فاستعمله المنصور على طبنة، وزوج ابنه ببعض بنات سعيد. فلامه على ذلك بعض أهله، فقال: كان أبي وجدي يستتبعانهم بالسيف، وأما أنا فمن رماني برمح رميته بكيس، حتى تكون مودتهم طبعاً واختياراً.
ورجع سعيد إلى أهله، وبقي إلى سنة إحدى وثمانين، ثم عاد إلى المنصور زائراً، فاعتل سعيد أياماً، وتوفي أول رجب. ثم قدم فلفل بن سعيد على المنصور، فأحسن إليه، وحمل إليه مالاً كثيراً، فرده إلى طبنة ولاية أبيه.
ذكر خلاف عم المنصور عليهوفي هذه السنة أيضاً خالف أبو البهار عم المنصور بن يوسف بلكين، صاحب إفريقية، عليه لشيء جرى عليه من المنصور لم يحمله له لعزة نفسه، فسار المنصور إليه بتاهرت، ففارقها عمه إلى الغرب بمن معه من أهله وأصحابه، ودخل عسكر المنصور تاهرت فانتهبوها، ثم طلب أهلها الأمان فأمنهم، ثم سار في طلب عمه حتى جاوز تاهرت سبع عشرة مرحلة، ولقي العسكر شدة.
وقصد عمه زيري بن عطية، صاحب فاس، فأكرمه، وأعلى محله، وبقي جنده يغيرون على نواحي المنصور.
وفي سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة قصدوا النواحي المجاورة لفاس، فأوقعوا بأصحاب المنصور بها واستولوا عليها. ثم ندم أبو البهار، فسار إلى المنصور معتذراً مما جرى منه، فقبله المنصور، وأحسن إليه وأكرمه، وحمل إليه كل ما يحتاج إليه من مالٍ وغيره.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض بهاء الدولة على أبي الحسن محمد بن عمر العلوي الكوفي، وكان قد عظم شأنه مع شرف الدولة، واتسع جاهه، وكثرت أمواله، فلما ولي بهاء الدولة سعى به أبو الحسن المعلم إليه، وأطمعه في أمواله وملكه، وعظم ذلك عنده وقبض عليه.
وفيها أسقط بهاء الدولة ما كان يؤخذ من المراعي من سائر السواد.
وفيها ولد الأمير أبو طالب رستم بن فخر الدولة.
وفيها خرج ابن الجراح الطائي على الحجاج بين سميراء وفيد ونازلهم، فصالحوه على ثلاثمائة ألف درهم، وشيء من الثياب، فأخذها وانصرف.
وفيها بني جامع القطيعة ببغداد.
وفيها توفي محمد بن أحمد بن العباس بن أحمد بن جلاد أبو العباس السلمي النقاش، كان من متكلمي الأشعرية، وعنه أخذ أبو علي بن شاذان الكلام، وكان ثقةً في الحديث.
ثم دخلت سنة ثمانين وثلاثمائة
ذكر قتل باذفي هذه السنة قتل باذ الكردي، صاحب ديار بكر.
وكان سبب قتله أن أبا طاهر والحسين ابني حمدان لما ملكا الموصل طمع فيها باذ، وجمع الأكراد فأكثر، وممن أطاعه الأكراد البشنوية أصحاب قلعة فنك، وكانوا كثيراً، ففي ذلك يقول الحسين البشنوي الشاعر لبني مروان يعتد عليهم بنجدتهم خالهم باذاً من قصيدة:
البشنويّة أنصارٌ لدولتكم، ... وليس في ذا خفاً في العجم والعرب
أنصار باذٍ بأرجيشٍ وشيعته، ... بظاهر الموصل الحدباء في العطب
بباجلايا جلونا عنه غمته ... ونحن في الروع جلاؤون للكرب
وكاتب أهل الموصل فاستمالهم، فأجابه بعضهم فسار إليهم، ونزل بالجانب الشرقي، فضعفا عنه، وراسلا أبا الذواد محمد بن المسيب، أمير بني عقيل، واستنصراه، فطلب منهما جزيرة ابن عمر، ونصيبين، وبلداً، وغير ذلك، فأجاباه إلى ما طلب، واتفقوا، وسار إليه أبو عبدالله بن حمدان وأقام أبو طاهر بالموصل يحارب باذاً.
فلما اجتمع أبو عبدالله وأبو الذواد سارا إلى بلد، وعبرا دجلة، وصارا مع باذ على أرض واحدة وهو لا يعلم، فأتاه الخبر بعبورهما وقد قارباه، فأراد الانتقال إلى الجبل لئلا يأتيه هؤلاء من خلفه وأبو طاهر من أمامه، فاختلط أصحابه، وأدركه الحمدانية، فناوشوهم القتال، وأراد باذ الانتقال من فرس إلى آخر، فسقط واندقت ترقوته، فأتاه ابن أخته أبو علي ابن مروان، وأراده على الركوب فلم يقدر، فتركوه وانصرفوا واحتموا بالجبل.
ووقع باذ بين القتلى فعرفه بعض العرب فقتله وحمل رأسه إلى بني حمدان وأخذ جائزةً سنيةً، وصلبت جثته على دار الإمارة، فثار العامة وقالوا: رجل غازٍ، ولا يحل فعل هذا به؛ وظهر منهم محبة كثيرة له، وأنزلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه.
ذكر ابتداء دولة بني مروانلما قتل باذ سار ابن أخته أبو علي بن مروان في طائفة من الجيش إلى حصن كيفا، وهو على دجلة، وهو من أحصن المعاقل، وكان به امرأة باذ وأهله، فلما بلغ الحصن قال لزوجة خاله: قد أنفذني خالي إليك في مهم؛ فظنته حقاً، فلما صعد إليها أعلمها بهلاكه، وأطمعها في التزوج بها، فوافقته على ملك الحصن وغيره، ونزل وقصد حصناً حصناً، حتى ملك ما كان لخاله، وسار إلى ميافارقين؛ وسار إليه أبو طاهر وأبو عبدالله ابنا حمدان طمعاً فيه، ومعهما رأس باذ، فوجدا أبا علي قد أحكم أمره، فتصافوا واقتتلوا، وظفر أبو علي وأسر أبا عبدالله بن حمدان، فأكرمه وأحسن إليه، ثم أطلقه فسار إلى أخيه أبي طاهر، وهو بآمد يحصرها، فأشار عليه بمصالحة ابن مروان، فلم يفعل، واضطر أبو عبدالله إلى موافقته، وسارا إلى ابن مروان فواقعاه، فهزمها، وأسر أبا عبدالله أيضاً فأساء إليه وضيق عليه، إلى أن كاتبه صاحب مصر وشفع فيه فأطلقه، ومضى إلى مصر وتقلد منها ولاية حلب، وأقام بتلك الديار إلى أن توفي.
وأما أبو طاهر فإنه لما وصل إلى نصيبين قصده أبو الذواد فأسره وعلياً ابنه والمزعفر أمير بني نمير، وقتلهم صبراً.
وأقام ابن مروان بديار بكر وضبطها، وأحسن إلى أهلها، وألان جانبه لهم، فطمع فيه أهل ميافارقين، فاستطالوا على أصحابه، فأمسك عنهم إلى يوم العيد، وقد خرجوا إلى المصلى، فلما تكاملوا في الصحراء وافى إلى البلد، وأخذ أبا الصقر شيخ البلد فألقاه من على السور، وقبض على من كان معه، وأخذ الأكراد ثياب الناس خارج البلد، وأغلق أبواب البلد، وأمر أهله أن ينصرفوا حيث شاءوا، ولم يمكنهم من الدخول فذهبوا كل مذهب.
وكان قد تزوج ست الناس بنت سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان، فأتته من حلب، فعزم على زفافها بآمد، فخاف شيخ البلد، واسمه عبد البر، أن يفعل بهم مثل فعله بأهل ميافارقين، فأحضر ثقاته وحلفهم على كتمان سره، وقال لهم: قد صح عزم الأمير على أن يفعل بكم مثل فعله بأهل ميافارقين، وهو يدخل من باب الماء ويخرج من باب الجهاد، فقفوا له في الدركاه، وانثروا عليه هذه الدراهم، ثم اعتمدوا بها وجهه، فإنه سيغطيه بكمه، فاضربوه بالسكاكين في مقتله؛ ففعلوا.
وجرت الحال كما وصف، وتولى قتله إنسان يقال له ابن دمنة كان فيه إقدام وجرأة، فاختبط الناس وماجوا، فرمى برأسه إليهم فأسرعوا السير إلى ميافارقين.
وحدث جماعة من الأكراد نفوسهم بملك البلد، فاستراب بهم مستحفظ ميافارقين لإسراعهم، وقال: إن كان الأمير حياً فادخلوا معه، وإن كان قتل فأخوه مستحق لموضعه فما كان بأسرع من أن وصل ممهد الدولة أبو منصور بن مروان أخو أبي علي إلى ميافارقين، ففتح له باب البلد فدخله وملكه، ولم يكن له فيه إلا السكة والخطبة لما نذكره.
وأما عبد البر فاستولى على آمد، وزوج ابن دمنة، الذي قتل أبا علي ابنته فعمل له ابن دمنة دعوة وقتله، وملك آمداً، وعمر البلد، وبنى لنفسه قصراً عند السور، وأصلح أمره مع ممهد الدولة، وهادى ملك الروم، وصاحب مصر، وغيرهما من الملوك وانتشر ذكره.
وأما ممهد الدولة فإنه كان معه إنسان من أصحابه يسمى شروة، حاكماً في مملكته، وكان لشروة غلام قد ولاه الشرطة، وكان ممهد الدولة يبغضه، ويريد قتله، ويتركه احتراماً لصاحبه، ففطن الغلام لذلك، فأفسد ما بينهما، فعمل شروة طعاماً بقلعة الهتاخ، وهي إقطاعه، ودعا إليها ممهد الدولة، فلما حضر عنده قتله، وذلك سنة اثنتين وأربعمائة، وخرج من الدار إلى بني عم ممهد الدولة، فقبض عليهم وقيدهم، وأظهر أن ممهد الدولة أمره بذلك، ومضى إلى ميافارقين وبين يديه المشاعل، ففتحوا له ظناً منهم أنه ممهد الدولة، فملكها، وكتب إلى أصحاب القلاع يستدعيهم، وأنفذ إنساناً إلى أرزن ليحضر متوليها، ويعرف بخواجه أبي القاسم، فسار خواجه نحو ميافارقين، ولم يسلم القلعة إلى القاصد إليه.
فلما توسط الطريق سمع بقتل ممهد الدولة، فعاد إلى أرزن، وأرسل إلى أسعرد، فأحضر أبا نصر بن مروان أخا ممهد الدولة، وكان أخوه قد أبعده عنه، وكان يبغضه لمنام رآه، وهو أنه رأى كأن الشمس سقطت في حجره، فنازعه أبو نصر عليها وأخذها، فأبعده لهذا، وتركه بأسعرد مضيقاً عليه، فلما استدعاه خواجه قال له دبير: تفلح ؟ قال: نعم.
وكان شروة قد أنفذ إلى أبي نصر، فوجدوه قد سار إلى ارزن، فعلم حينئذ انتقاض أمره. وكان مروان والد ممهد الدولة قد أضر، وهو بأرزن، عند قبر ابنه أبي علي، هو وزوجته، فأحضر خواجه أبا نصر عندهما، وحلفه على القبول منه، والعدل، وأحضر القاضي والشهود على اليمين وملكه أرزن، ثم ملك سائر بلاد ديار بكر، فدامت أيامه، وأحسن السيرة، وكان مقصداً للعلماء من سائر الآفاق، وكثروا ببلاده.
وممن قصده أبو عبدالله الكازروني، وعنه انتشر مذهب الشافعي بديار بكر، وقصده الشعراء وأكثروا مدحه وأجزل جوائزهم، وبقي كذلك من سنة اثنتين وأربعمائة إلى سنة ثلاث وخمسين، فتوفي فيها، وكان عمره نيفاً وثمانين سنة، وكانت الثغور معه آمنة، وسيرته في رعيته أحسن سيرةٍ، فلما مات ملك بلاده ولده.
ذكر ملك آل المسيب الموصللما انهزم أبو طاهر بن حمدان من أبي علي بن مروان، كما ذكرناه، سار إلى نصيبين في قلة من أصحابه، وكانوا قد تفرقوا، فطمع فيه أبو الذواد محمد ابن المسيب، أمير بني عقيل، وكان صاحب نصيبين حينئذ، كما ذكرناه، فثار بأبي طاهر، فأسره وأسر ولده وعدة من قوادهم، وقتلهم، وسار إلى الموصل فملكها وأعمالها، وكاتب بهاء الدولة يسأله أن ينفذ إليه من يقيم عنده من أصحابه يتولى الأمور، فسير إليه قائداً من قواده.
وكان هاء الدولة قد سار من العراق إلى الأهواز، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وأقام نائب بهاء الدولة، وليس له من الأمر شيء ولا يحكم إلا فيما يريده أبو الذواد، وسيرد من ذكره وذكر عقبه ما تقف عليه إن شاء الله تعالى.
ذكر مسير بهاء الدولة إلى الأهواز وما كان منه ومن صمصام الدولةفي هذه السنة سار بهاء الدولة عن بغداد إلى خوزستان عازماً على قصد فارس، واستخلف ببغداد أبا نصر خواشاذه، ووصل إلى البصرة ودخلها، وسار عنها إلى خوزستان، فأتاه نعي أخيه أبي طاهر، فجلس للعزاء به، ودخل أرجان فاستولى عليها وأخذ ما فيها من الأموال، فكان ألف ألف دينار وثمانية آلاف ألف درهم، ومن الثياب والجواهر ما لا يحصى، فلما علم الجند بذلك شغبوا شغباً متتابعاً فأطلقت تلك الأموال كلها لهم ولم يبق منها إلا القليل. ثم سارت مقدمته وعليها أبو العلاء بن الفضل إلى النوبندجان، وبها عساكر صمصام الدولة، فهزمهم، وبث أصحابه في نواحي فارس، فسير إليهم صمصام الدولة عسكراً وعليهم فولاذ زماندار، فواقعهم، فانهزم أبو العلاء وعاد مهزوماً.
وكان سبب الهزيمة أنه كان بين العسكرين وادٍ وعليه قنطرة، وكان أصحاب أبي العلاء يعبرون القنطرة ويغيرون على أثقال الديلم، عسكر صمصام الدولة، فوضع فولاذ كميناً عند القنطرة، فلما عبر أصحاب بهاء الدولة خرجوا عليهم فقتلوهم جميعهم، وراسل فولاذ أبا العلاء وخدعه، ثم سار إليه وكبسه، فانهزم من بين يديه وعاد إلى أرجان مهزوماً، وغلت الأسعار بها.
ولما بلغ الخبر إلى صمصام الدولة سار عن شيراز إلى فولاذ، وترددت الرسل في الصلح، فتم على أن يكون لصمصام الدولة بلاد فارس وأرجان، ولبهاء الدولة خوزستان والعراق، وأن يكون لكل واحدٍ منهما إقطاع في بلد صاحبه، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وعاد بهاء الدولة إلى الأهواز.
ولما سار بهاء الدولة عن بغداد ثار العيارون بجانبي بغداد، ووقعت الفتن بين السنة والشيعة، وكثر القتل بينهم، وزالت الطاعة، وأحرق عدة محال، ونهبت الأموال، وأخربت المساكن، ودام ذلك عدة شهور إلى أن عاد بهاء الدولة إلى بغداد.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض بهاء الدولة على وزيره أبي منصور بن صالحان، واستوزر أبا نصر سابور بن أردشير قبل ميره إلى خوزستان، وكان المدبر لدولة بهاء الدولة أبا الحسين المعلم، وإليه الحكم.
وفيها توفي أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس، وزير العزيز، صاحب مصر، وكان كامل الأوصاف، متمكناً من صاحبه، فلما مرض عاده العزيز صاحب مصر، وقال: وددت أنك تباع فأبتاعك بملك، فهل من حاجة ترضى بها ؟ فبكى، وقبل يده، ووضعها على عينه، وقال: أما فيما يخصني فإنك أرعى لحقي من أن أوصيك بمخلفي، ولكن فيما يتعلق بدولتك سالم الحمدانية ما سالموك، واقنع منهم بالدعة، وإن ظفرت بالمفرج فلا تبق عليه.
فلما مات حزن العزيز عليه، وحضر جنازته، وصلى عليه، وألحده بيده في قصره، وأغلق الدواوين عدة أيام، واستوزر بعده أبا عبدالله الموصلي، ثم صرفه، وقلد عيسى بن نسطورس النصراني، فمال إلى النصارى وولاهم، واستناب بالشام يهودياً يعرف بمنشا، ففعل مع إليهود مثل ما فعل عيسى بالنصارى، وجرى على المسلمين تحامل عظيم.
وفيها، في ربيع الأول، قلد الشريف أبو أحمد والد الرضي نقابة العلويين والمظالم، وإمارة الحج، وحج الناس أبو عبدالله أحمد بن محمد بن عبدالله العلوي نيابةً عن النقيب أبي أحمد الموسوي.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن الفقيه الحنفي، ومولده سنة عشرين وثلاثمائة.
وفيها توفي عبدالله محمد بن عبد البر النمري بالأندلس، والد الإمام أبي عمر بن عبد البر.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة
ذكر القبض على الطائع للهفي هذه السنة قبض الطائع لله، قبضه بهاء الدولة، وهو الطائع لله أبو كر عبد الكريم بن الفضل المطيع لله بن جعفر المقتدر بالله بن المعتضد بالله ابن أبي أحمد الموفق بن المتوكل.
وكان سبب ذلك أن الأمير بهاء الدولة قلت عنده الأموال، فكثر شغب الجند، فقبض على وزيره سابور، فلم يغن عنه ذلك شيئاً.
وكان أبو الحسن بن المعلم قد غلب على بهاء الدولة، وحكم في مملكته، فحسن له القبض على الطائع، وأطمعه في ماله، وهون عليه ذلك وسهله، فأقدم عليه بهاء الدولة، وأرسل إلى الطائع وسأله الإذن في الحضور في خدمته ليجدد العهد به، فأذن له في ذلك، وجلس له كما جرت العادة، فدخل بهاء الدولة ومعه جمع كثير، فلما دخل قبل الأرض، وأجلس على كرسي، فدخل بعض الديلم كأنه يريد أن يقبل يد الخليفة فجذبه، فأنزله عن سريره، والخليفة يقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون)؟! وهو يستغيث ولا يلتفت إليه، وأخذ ما في دار الخليفة من الذخائر فمشوا به في الحال، ونهب الناس بعضهم بعضاً، وكان من جملتهم الشريف الرضي فبادر بالخروج فسلم وقال أبياتاً من جملتها:
من بعد ما كان ربّ الملك مبتسماً ... إليّ أدنوه في النجوى ويدنيني
أمسيت أرحم من قد كنت أغبطه، ... لقد تقارب بين العزّ والهون
ومنظرٌ كان بالسّراء يضحكني؛ ... يا قرب ما عاد بالضّراء يبكيني
هيهات أغترّ بالسّلطان ثانيةً، ... قد ضلّ ولاّج أبواب السلاطين
ولما حمل الطائع إلى دار بهاء الدولة أشهد عليه بالخلع، وكان مدة خلافته سبع عشرة سنة وثمانية شهور وستة أيام، وحمل إلى القادر بالله لما ولي الخلافة، فبقي عنده إلى أن توفي سنة ثلاث وتسعين، ليلة الفطر، وصلى عليه القادر بالله، وكبر عليه خمساً.
وكان مولده سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وكان أبيض، مربوعاً، حسن الجسم؛ وكان أنفه كبيراً جداً، وكان شديد القوة، كثير الإقدام، اسم أمه عتب، وعاشت إلى أن أدركت أيامه، ولم يكن له من الحكم في ولايته ما يعرف به حال يستدل به على سيرته.
ذكر خلافة القادر باللهلما قبض على الطائع لله ذكر بهاء الدولة من يصلح للخلافة، فاتفقوا على القادر بالله وهو أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بن المعتضد، وأمه أم ولد اسمها دمنة، وقيل تمنى، وكان بالبطيحة، كما ذكرناه، فأرسل إليه بهاء الدولة خواص أصحابه ليحضروه إلى بغداد ليتولى الخلافة، فانحدروا إليه، وشغب الديلم ببغداد، ومنعوا من الخطبة، فقيل على المنبر: اللهم أصلح عبدك وخليفتك القادر بالله، ولم يذكروا اسمه، وأرضاهم بهاء الدولة.
ولما وصل الرسل إلى القادر بالله كان تلك الساعة يحكي مناماً رآه تلك الليلة، وهو ما حكاه هبة الله بن عيسى كاتب مهذب الدولة قال: كنت أحضر عند القادر بالله كل أسبوع مرتين، فكان يكرمني، فدخلت عليه يوماً فوجدته قد تأهب تأهباً لم تجر به عادته، ولم أر منه ما ألفته من إكرامه، واختلفت بي الظنون، فسألته عن سبب ذلك، فإن كان لزلة مني اعتذرت عن نفسي. فقال: بل رأيت البارحة في منامي كأن نهركم هذا، نهر الصليق، قد اتسع، فصار مثل دجلة، دفعات، فسرت على حافته متعجباً منه، ورأيت قنطرة عظيمة، فقلت: من قد حدث نفسه بعمل هذه القنطرة على هذا البحر العظيم ؟ ثم صعدتها، وهي محكمة، فبينا أنا عليها أتعجب منها إذ رأيت شخصاً قد تأملني من ذلك الجانب، فقال: أتريد أن تعبر ؟ قلت نعم فمد يده حتى وصلت إلي، فأخذني وعبرني، فهالني وتعاظمني فعله، قلت: من أنت ؟ قال: علي بن أبي طالب، وهذا الأمر صائر إليك، ويطول عمرك فيه، فأحسن إلى ولدي وشيعتي.
فما انتهى القادر إلى هذا القول حتى سمعنا صياح الملاحين وغيرهم، وسألنا عن ذلك، وإذا هم الواردون إليه لإصعاده ليتولى الخلافة، فخاطبته بإمرة المؤمنين وبايعته، وقام مهذب الدولة بخدمته أحسن قيام، وحمل إليه من المال وغيره ما يحمله كبار الملوك للخلفاء وشيعه. فسار القادر بالله إلى بغداد، فلما دخل جبل انحدر بهاء الدولة وأعيان الناس لاستقباله، وساروا في خدمته، فدخل دار الخلافة ثاني عشر رمضان، وبايعه بهاء الدولة والناس، وخطب له ثالث عشر رمضان، وجدد أمر الخلافة، وعظم ناموسها، وسيرد من أخباره، إن شاء الله تعالى، وما يعلم به ذلك، وحمل إليه بعض ما نهب من دار الخلافة، وكانت مدة مقامه في البطيحة سنتين وأحد عشر شهراً ولم يخطب له في جميع خراسان، كانت الخطبة فيها للطائع لله.
ذكر ملك خلف بن أحمد كرمانفي هذه السنة أنفذ خلف بن أحمد، صاحب سجستان، وهو ابن بانوا بنت عمرو بن الليث الصفار، ابنه عمراً إلى كرمان فملكها.
وكان سبب ذلك أنه كان لما قوي أمره، وجمع الأموال الكثيرة، حدث نفسه بملك كرمان، ولم يتهيأ له ذلك لهدنة كانت بينه وبين عضد الدولة. فلما مات عضد الدولة، وملك شرف الدولة، واستقر أمره وانتظم، وأمن ملكه، لم يتحرك بشيء من ذلك. فلما توفي شرف الدولة، واضطرب ملوك بني بويه، ووقع الخلف بين صمصام الدولة وبهاء الدولة، قوي طمعه، وانتهز الفرصة، وجهز ولده عمراً، وسيره في عسكر كثير إلى كرمان، وبها قائد يقال له تمرتاش كان قد استعمله شرف الدولة، فلم يشعر تمرتاش إلا وعمرو قد قاربه، فلم يكن له ولمن معه حيلة إلا الدخول إلى بردسير، وحملوا ما أمكنهم حمله، وغنم عمروا الباقي، وملك كرمان ما عدا بردسير، وصادر الناس وجبى الأموال.
فلما وصل الخبر إلى صمصام الدولة، وهو صاحب فارس، جهز العساكر وسيرها إلى تمرتاش، وقدم عليهم قائداً يقال له أبو جعفر، وأمره بالقبض على تمرتاش عند الاجتماع به، لأنه اتهمه بالميل إلى أخيه بهاء الدولة. فسار أبو جعفر، فلما اجتمع بتمرتاش أنزله عنده بعلة الاجتماع على ما يفعلانه، ! وقبض عليه وحمله إلى شيراز، فسار أبو جعفر بالعسكر جميعه يقصد عمرو ابن خلف ليحاربه، فالتقوا بدارزين واقتتلوا، فانهزم أبو جعفر والديلم، وعادوا على طريق جيرفت.
وبلغ الخبر إلى صمصام الدولة وأصحابه، فانزعجوا لذلك، ثم اجمعوا أمرهم على إنفاذ العباس بن أحمد في عسكر أكثر من الأول، فسيروه في عدد كثير وعدة ظاهرة، فسار حتى بلغ عمراً، فالتقوا بقرب السيرجان، واقتتلوا فكانت الهزيمة على عمرو بن خلف وأسر جماعة من قواده وأصحابه، وكان هذا في المحرم سنة اثنتين وثمانين، وعاد عمرو إلى أبيه بسجستان مهزوماً، فلما دخل عليه لامه ووبخه، ثم حبسه أياماً، ثم قتله بين يديه وتولى غسله والصلاة عليه، ودفنه في القلعة. فسبحان الله ما كان أقسى قلب هذا الرجل مع علمه ومعرفته ! ثم إن صمصام الدولة عزل العباس عن كرمان واستعمل عليها أستاذ هرمز، فلما وصل إلى كرمان خافه خلف بن أحمد، فكاتبه في تجديد الصلح، واعتذر عن فعله، فاستقر الصلح، وأنفذ خلف قاضياً كان بسجستان يعرف بأبي يوسف كان له قبول عند العامة والخاصة، ووضع عليه إنساناً يكون معه وأمره أن يسقيه سماً إذا صار عند أستاذ هرمز ويعود مسرعاً ويشيع بأن أستاذ هرمز قتله.
فسار أبو يوسف إلى كرمان، فصنع له أستاذ هرمز طعاماً، فحضره وأكل منه، فلما عاد إلى منزله سقاه ذلك الرجل سماً فمات منه، وركب جمازة وسار مجداً إلى خلف، فجمع له خلف وجوه الناس ليسمعوا له، فذكر أن أستاذ هرمز قتل القاضي أبا يوسف، وبكى خلف وأظهر الجزع عليه، ونادى في الناس بغزو كرمان والأخذ بثأر أبي يوسف، فاجتمع الناس واحتشدوا، فسيرهم مع ولده طاهر، فوصلوا إلى نرماسير، وبها عسكر الديلم، فهزموهم وأخذوا البلد منهم.
ولحق الديلم بجيرفت، فاجتمعوا بها، وجعلوا ببردسير من يحميها، وهي أصل بلاد كرمان ومصرها، فقصدها طاهر وحصرها ثلاثة أشهر، فضاق بأهلها، وكتبوا إلى أستاذ هرمز يعلمونه حالهم، وأنه إن لم يدركهم سلموا البلد. فركب الخطر وسار مجداً في مضايق وجبال وعرة، حتى أتى بردسير، فلما وصل إليها رحل طاهر ومن معه عنها، وعادوا إلى سجستان، واستقرت كرمان للديلم، وكان ذلك سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
ذكر عصيان بكجور على سعد الدولة بن حمدان وقتلهلما وصل بكجور إلى الرقة منهزماً من عساكر مصر بدمشق وأقام، على ما ذكرناه، واستولى على الرحلة وما يجاور الرقة، راسل الملك بهاء الدولة ابن بويه بالانضمام إليه، وكاتب أيضاً باذاً الكردي المتغلب على ديار بكر والموصل بالمسير إليه، وراسل سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان، صاحب حلب، بأن يعود إلى طاعته على قاعدته الأولى ويقطعه منه مدينة حمص كما كانت له، فليس فيهم من أجابه إلى شيء مما طلب، فبقي في الرقة يراسل جماعة رفقاء من مماليك سعد الدولة، ويستميلهم، فأجابوه إلى الموافقة على قصد بلد سعد الدولة، وأخبروه أنه مشغول بلذاته وشهواته عن تدبير الملك؛ فأرسل حينئذ بكجور إلى العزيز بالله، صاحب مصر، يطمعه في حلب، ويقول له إنها دهليز العراق، ومتى أخذت كان ما بعدها أسهل منها، ويطلب الإنجاد بالعساكر. فأجابه العزيز إلى ذلك وأرسل إلى نزال، والي طرابلس، وإلى ولاة غيرها من البلاد الشامية يأمرهم بتجهيز العساكر مع نزال إلى بكجور، والتصرف على ما يأمرهم به من قتال سعد الدولة وقصد بلاده.
وكتب عيسى بن نسطورس النصراني، وزير العزيز، إلى نزال يأمره بمدافعة بكجور، وإطماعه في المسير إليه، فإذا تورط في قصد سعد الدولة تخلى عنه.
وكان السبب في فعل عيسى هذا ببكجور أنه كان بينه وبين بكجور عداوة مستحكمة، وولي الوزارة بعد وفاة ابن كلس، فكتب إلى نزال ما ذكرناه. فلما وصل أمر العزيز إلى نزال بإنجاد بكجور كتب إليه يعرفه ما أمر به من نجدته بنفسه وبالعساكر معه، وقال له بكجور: مسيرك عن الرقة يوم كذا، ومسيري أنا عن طرابلس يوم كذا، ويكون اجتماعنا على حلب يوم كذا؛ وتابع رسله إليه بذلك، فسار مغتراً بقوله إلى بالس، فامتنعت عليه، فحصرها خمسة أيام فلم يظفر بها فسار عنها.
وبلغ الخبر بمسير بكجور إلى سعد الدولة، فسار عن حلب ومعه لؤلؤ الكبير، ومولى أبيه سيف الدولة، وكتب إلى بكجور يستميله ويدعوه إلى الموادعة، ورعاية حق الرق والعبودية، ويبذل له أن يقطعه من الرقة إلى حمص، فلم يقبل منه ذلك.
وكان سعد الدولة قد كاتب الوالي بأنطاكية لملك الروم يستنجده، فسير إليه جيشاً كثيراً من الروم، وكاتب أيضاً من مع بكجور من العرب يرغبهم في الإقطاع، والعطاء الكثير، والعفو عن مساعدتهم بكجور، فمالوا إليه، ووعدوه الهزيمة بين يديه، فلما التقى العسكران اقتتلوا، واشتد القتال، فلما اختلط الناس في الحرب وشغل بعضهم ببعض عطف العرب على سواد بكجور فنهبوه، واستأمنوا إلى سعد الدولة، فلما رأى بكجور ذلك اختار من شجعان أصحابه أربعمائة رجل، وعزم على أ، يقصد موقف سعد الدولة ويلقي نفسه عليه، فإما له وإما عليه، فهرب واحد ممن حضر الحال إلى لؤلؤ الكبير وعرفه ذلك، فطلب لؤلؤ من سعد الدولة أن يتحرك من موقفه ويقف مكانه، فأجابه إلى ذلك بعد امتناع. فحمل بكجور ومن معه، فوصلوا إلى موقف لؤلؤ بعد قتال شديد عج الناس منه واستعظموه كلهم، فلما رأى لؤلؤاً ألقى نفسه عليه وهو يظنه سعد الدولة، فضربه على رأسه، فسقط إلى الأرض، فظهر حينئذ سعد الدولة وعاد إلى موقفه، ففرح به أصحابه وقويت نفوسهم، وأحاطوا ببكجور وصدقوه القتال، فمضى منهزماً هو وعامة أصحابه، وتفرقوا، وبقي منهم معه سبعة أنفس، وكثر القتل والأسر في الباقين.
ولما طال الشوط ببكجور ألقى سلاحه وسار، فوقف فرسه، فنزل عنه وسار راجلاً، فلحقه نفر من العرب، فأخذوا ما عليه، وقصد بعض العرب فنزل عليه وعرفه نفسه، وضمن له حمل بعير ذهباً ليوصله إلى الرقة، فلم يصدقه لبخله المشهور عنه، فتركه في بيته وتوجه إلى سعد الدولة فعرفه أن بكجور عنده، فحكمه سعد الدولة في مطالبه، فطلب مائتي فدان ملكاً، ومائة ألف درهم، ومائة جمل تحمل له حنطة، وخمسين قطعة ثياباً، فأعطاه ذلك أجمع وزيادة وسير معه سرية، فتسلموا بكجور وأحضروه عند سعد الدولة، فلما رآه أمر بقتله، فقتل، ولقي عاقبة بغيه وكفره. إحسان مولاه.
فلما قتله سعد الدولة سار إلى الرقة فنازلها، وبها سلامة الرشيقي، ومعه أولاد بكجور وأبو الحسن علي بن الحسين المغربي وزير بكجور، فسلموا البلد إليه بأمان وعهود أكدوها وأخذوها عليه لأولاد بكجور وأموالهم، وللوزير المغربي، ولسلامة الرشيقي، ولأموالهم، فلما خرج أولاد بكجور بأموالهم رأى سعد الدولة ما معهم، فاستعظمه واستكثره.
وكان عند القاضي ابن أبي الحصين، فقال سعد الدولة: ما كنت أظن أن بكجور يملك هذا جميعه؛ فقال له القاضي: لم لا تأخذه ؟ فهو لكلأنه مملوك لا يملك شيئاً، ولا حرج عليك ولا حنث. فلما سمع هذا أخذ المال جميعه وقبض عليهم، وهرب الوزير المغربي إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، وكتب أولاد بكجور إلى العزيز يسألونه الشفاعة فيهم، فأرسل إليه يشفع فيهم، ويأمره أن يسيرهم إلى مصر ويتهدده إن لم يفعل. فأهان الرسول وقال له: قل لصاحبك أنا سائر إليك. وسير مقدمته إلى حمص ليلحقهم.
ذكر وفاة سعد الدولة بن حمدانفلما برز سعد الدولة ليسير إلى دمشق لحقه قولنج، فعاد إلى حلب ليتداوى، فزال ما به وعوفي، وعزم على العود إلى معسكره، وحضر عند إحدى سراريه فواقعها فسقط عنها وقد فلج وبطل نصفه، فاستدعى الطبيب، فقال له: أعطني يدك لآخذ محبسك؛ فأعطاه اليسرى، فقال: أعطني اليمين؛ فقال: لا تركت لي اليمين يميناً، يعني نكثه بأولاد بكجور هو الذي أهلكه، وقد ذكر ذلك، وندم عليه حيث لم تنفعه الندامة، وعاش بعد ذلك ثلاثة أيام ومات بعد أن عهد إلى ولده أبي الفضائل، وصى إلى لؤلؤ به وبسائر أهله.
فلما توفي قام أبو الفضائل، وأخذ له لؤلؤ العهد على الأجناد، وتراجعت العساكر إلى حلب.
وكان الوزير أبو الحسن المغربي قد سار من مشهد علي، عليه السلام، إلى العزيز بمصر، وأطمعه في حلب، فسير جيشاً وعليهم منجوتكين أحد أمرائه إلى حلب، فسار إليها في جيش كثيف فحصرها، وبها أبو الفضائل ولؤلؤ، فكتبا إلى بسيل ملك الروم يستنجدانه، وهو يقاتل البلغار، فأرسل بسيل إلى نائبه بأنطاكية يأمره بإنجاد أبي الفضائل، فسار في خمسين ألفاً، حتى نزل على الجسر الجديد بالعاصي، فلما سمع منجوتكين الخبر سار إلى الروم ليلقاهم قبل اجتماعهم بأبي الفضائل، وعبر إليهم العاصي، وأوقعوا بالروم فهزموهم وولوا الأدبار إلى إنطاكية، وكثر القتل فيهم.
وسار منجوتكين إلى إنطاكية، فنهب بلدها وقراها وأحرقها، وأنفذ أبو الفضائل إلى بلد حلب، فنقل ما فيه من الغلال، وأحرق الباقي إضراراً بعساكر مصر، وعاد منجوتكين إلى حلب فحصرها، فأرسل لؤلؤ إلى أبي الحسن المغربي وغيرهم وبذل لهم مالاً ليردوا منجوتكين عنهم، هذه السنة، بعلة تعذر الأقوات، ففعلوا ذلك، وكان منجوتكين قد ضجر من الحرب، فأجابهم إليه وسار إلى دمشق.
ولما بلغ الخبر إلى العزيز غضب وكتب بعود العسكر إلى حلب، وإبعاد المغربي، وأنفذ الأقوات من مصر في البحر إلى طرابلس، ومنها إلى العسكر، فنازل العسكر حلب، وأقاموا عليها ثلاثة عشر شهراً، فقلت الأقوات بحلب.
وعاد إلى مراسلة ملك الروم والاعتضاد به، وقال له: متى أخذت حلب أخذت إنطاكية وعظم عليك الخطب. وكان قد توسط بلاد البلغار، فعاد وجد في السير، وكان الزمان ربيعاً، وعسكر مصر قد أرسل إلى منجوتكين يعرفه الحال، وأتته جواسيسه بمثل ذلك، فأخرب ما كان بناه من سوق وحمام وغير ذلك، وسار كالمنهزم عن حلب، ووصل ملك الروم فنزل على باب حلب، وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ، وعاد إلى حلب، ورحل بسيل إلى الشام، ففتح حمص وشيزر ونهبهما، وسار إلى طرابلس فنازلها، فامتنعت عليه، وأقام عليها نيفاً وأربعين يوماً، فلما أيس منها عاد إلى بلاد الروم.
ولما بلغ الخبر إلى العزيز عظم عليه، ونادى في الناس بالنفير لغزو الروم، وبرز من القاهرة، وحدث به أمراض منعته، وأدركه الموت، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل المنصور، صاحب إفريقية، نائبه في البلاد يوسف، واستعمل بعده على البلاد أبا عبدالله محمد بن أبي العرب.
وفيها توفي القائد جوهر، بعد عزله، وجوهر هذا هو الذي فتح مصر للمعز العلوي.
وفيها قبض بهاء الدولة على وزيره أبي نصر سابور بالأهواز، واستوزر أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف.
وفيها أيضاً قبض بهاء الدولة على أبي نصر خواشاذه وأبي عبدالله بن طاهر، بعد عوده من خوزستان، وكان سب قبضهما أن أبا نصر كان شحيحاً، فلم يواصل ابن المعلم بخدمه وهداياه، فشرع في القبض عليه.
وفيها هرب فولاذ زماندر من عند صمصام الدولة إلى الري، وكان سبب هربه أنه تحكم على صمصام الدولة تحكماً عظيماً أنف منه، فأراد القبض عليه، فعلم به فهرب منه.
وفيها كتب أهل الرحبة إلى بهاء الدولة يطلبون إنفاذ من يسلمون إليه الرحبة، فأنفذ خمارتكين الحفصي إلى الرحبة فتسلمها، وسار منها إلى الرقة، وبها بدر غلام سعد الدولة بن حمدان، فجرت بينهما وقعات، فلم يظفر بها، وبلغه اختلاف ببغداد، فعاد، فخرج عليه بعض العرب، فأخذوه أسيراً، ثم افتدى منهم بمال كثير.
وفيها حلف بهاء الدولة للقادر بالله على الطاعة، والقيام بشروط البيعة، وحلف له القادر بالوفاء والخلوص، وأشهد عليه أنه قلده ما وراء بابه.
وفيها كثرت الفتن بين العامة ببغداد، وزالت هيبة السلطنة، وتكرر الحريق في المحال، واستمر الفساد.
وفيها توفي قاضي القضاة عبيدالله بن أحمد بن معروف أبو محمد، ومولده سنة ست وثلاثمائة، وكان فاضلاً، عفيفاً، نزيهاً، وكان معتزلياً؛ ومحمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن زاذان أبو بكر المعروف بابن المقري الأصبهاني، وله ست وتسعون سنة، وهو راوي مسند أبي يعلى الموصلي عنه.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة
ذكر عود الديلم إلى الموصلكان بهاء الدولة قد أنفذا أبا جعفر الحجاج بن هرمز في عسكر كثير إلى الموصل، فملكها آخر سنة إحدى وثمانين، فاجتمعت عقيل، وأميرهم أبو الذواد محمد بن المسيب، على حربه، فجرى بينهم عدة وقائع ظهر من أبي جعفر فيها بأس شديد، حتى إنه كان يضع له كرسياً بين الصفين ويجلس عليه، فهابه العرب، واستمد من بهاء الدولة عسكراً، فأمده بالوزير أبي القاسم علي بن أحمد، وكان مسيره أول هذه السنة، فلما وصل إلى العسكر كتب بهاء الدولة إلى أبي جعفر بالقبض عليه، فعلم أبو جعفر إنه إن قبض عليه اختلف العسكر، وظفر به العرب، فتراجع في أمره.
وكان سبب ذلك أن ابن المعلم كان عدواً له، فسعى به عند بهاء الدولة، فأمر بقبضه، وكان بهاء الدولة أذناً يسمع ما يقال له ويفعل به، وعلم الوزير الخبر، فشرع في صلح أبي الذواد وأخذ رهائنه والعود إلى بغداد، فأشار عليه أصحابه باللحاق بأبي الذواد، فلم يفعل أنفةً، وحسن عهدٍ، فلما وصل إلى بغداد رأى ابن المعلم قد قبض وقتل وكفي شره.
ولما أتاه خبر قبض ابن المعلم وقتله ظهر عليه الانكسار، فقال له خواصه: ما هذا الهم وقد كفيت شر عدوك ؟ فقال: إن ملكاً قرب رجلاً كما قرب بهاء الدولة ابن المعلم، ثم فعل به هذا، لحقيق بأن تخاف ملابسته.
وكان بهاء الدولة قد أرسل الشريف أبا أحمد الموسوي رسولاً إلى أبي الذواد، فأسره العرب، ثم أطلقوه فورد إلى الموصل وانحدر إلى بغداد.
ذكر تسليم الطائع إلى القادر
وما فعله معهفي هذه السنة، في رجب، سلم بهاء الدولة الطائع لله إلى القادر بالله، فأنزله حجرةً، من خاص حجره، ووكل به من ثقات خدمه من يقوم بخدمته، وأحسن ضيافته، وكان يطلب الزيادة في الخدمة كما كان أيام الخلافة، فيؤمر له بذلك.
حكي عنه أن القادر بالله أرسل إليه طيباً فقال: من هذا يتطيب أبو العباس ؟ يعني القادر، فقالوا: نعم ! فقال: قولوا له عني: في الموضع الفلاني كندوج أستعمله، فليرسل إلي بعضه ويأخذ الباقي لنفسه. ففعل ذلك. وأرسل إليه يوماً القادر بالله عدسية، فقال: ما هذا ؟ فقالوا: عدس وسلق، فقال: أوقد أكل أبو العباس من هذا ؟ نعم؛ قال: له عني: لما أردت أن تأكل عدسية لم اختفيت، فما كانت العدسية تعوزك، ولم تقلدت هذا الأمر ؟ فأمر حينئذ القادر أن يفرد له جارية من طباخاته تطبخ له ما يلتمسه كل يوم؛ فأقام على هذا إلى أن توفي.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض بهاء الدولة على أبي الحسن بن المعلم، وكان قد استولى على الأمور كلها، وخدمه الناس كلهم، حتى الوزراء، فأساء السيرة مع الناس، فشغب الجند في هذا الوقت، وشكوا منه، وطلبوا منه تسليمه إليهم، فراجعهم بهاء الدولة، ووعدهم كف يده عنهم، فلم يقبلوا منه، فقبض عليه وعلى جميع أصحابه، فظن أن الجند يرجعون، فلم يرجعوا، فسلمه إليهم، فسقوه السم مرتين، فلم يعمل فيه شيئاً، فخنقوه ودفنوه.
وفيها، في شوال، تجددت الفتنة بين أهل الكرخ وغيرهم، واشتد الحال، فركب أبو الفتح محمد بن الحسن الحاجب، فقتل وصلب، فسكن البلد.
وفيها غلت الأسعار ببغداد، فبيع رطل الخبز بأربعين درهماً.
وفيها قبض بهاء الدولة على وزيره أبي القاسم علي بن أحمد المذكور، وكان سبب قبضه أن بهاء الدولة اتهمه بمكاتبة الجند في أمر ابن المعلم، واستوزر أبا نصر بن سابور، وأبا منصور بن صالحان، جمع بينهما في الوزارة.
وفيها قبض صمصام الدولة على وزيره أبي القاسم العلاء بن الحسن بشيراز، وكان غالباً على أمره، وبقي محبوساً إلى سنة ثلاث وثمانين، فأخرجه صمصام الدولة واستوزره، وكان يدبر الأمر مدة حبسه أبو القاسم المدلجي.
وفيها نزل ملك الروم بأرمينية، وحصر خلاط، وملازكرد، وأرجيش، فضعفت نفوس الناس عنه، ثم هادنه أبو علي الحسن بن مروان مدة عشر سنين، وعاد ملك الروم.
وفيها، في شوال، ولد الأمير أبو الفضل بن القادر بالله.
وفيها سار بغراخان ايلك، ملك الترك، بعساكره إلى بخارى، فسير الأمير نوح بن منصور جيشاً كثيراً، ولقيهم ايلك وهزمهم، فعادوا إلى بخارى مفلولين، وهو في أثرهم، فخرج نوح بنفسه وسائر عسكره، ولقيه فاقتتلوا قتالاً شديداً وأجلت المعركة عن هزيمة ايلك، فعاد منهزماً إلى بلاساغون، وهي كرسي مملكته.
وفيها توفي أبو عمرو محمد بن العباس بن حسنويه الخزار، ومولده سنة خمس وتسعين ومائتين.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة
ذكر خروج أولاد بختيارفي هذه السنة ظهر أولاد بختيار من محبسهم، واستولوا على القلعة التي كانوا معتقلين بها.
وكان سبب حبسهم أن شرف الدولة أحسن إليهم، بعد والده، وأطلقهم، وأنزلهم بشيراز، وأقطعهم، فلما مات شرف الدولة حبسوا في قلعة ببلاد فارس، فاستمالوا مستحفظها ومن معه من الديلم، فأفرجوا عنهم، وأنفذوا إلى أهل تلك النواحي، وأكثرهم رجالة، فجمعوهم تحت القلعة.
وعرف صمصام الدولة الحال، فسير أبا علي بن أستاذ هرمز في عسكر، فلما قاربهم تفرق من معهم من الرجالة، وتحصن بنو بختيار، وكانوا ستة، ومن معهم من الديلم بالقلعة، وحصرهم أبو علي، وراسل أحد وجوه الديلم وأطمعه في الإحسان، فأصعدهم إلى القلعة سراً، فملكوها، وأخذوا أولاد بختيار أسراء، فأمر صمصام الدولة بقتل اثنين منهم وحبس الباقين، ففعل ذلك بهم.
ذكر ملك صمصام الدولة خوزستانفي هذه السنة ملك صمصام الدولة خوزستان.
وكان سبب نقض الصلح أن بهاء الدولة سير أبا العلاء عبدالله بن الفضل إلى الأهواز، وتقدم إليه بأن يكون مستعداً لقصد بلاد فارس، وأعلمه أنه يسير إليه العساكر متفرقين، فإذا اجتمعوا عنده سار بهم إلى بلاد فارس بغتةً، فلا يشعر صمصام الدولة إلا وهم معه في بلاده.
فسار أبو العلاء، ولم يتهيأ لبهاء الدولة إمداده بالعساكر، وظهر الخبر، فجهز صمصام الدولة عسكره وسيرهم إلى خوزستان، وكتب أبو العلاء إلى بهاء الدولة بالخبر وبطلب إمداده بالعساكر، فسير إليه عسكراً كثيراً، ووصلت عساكر فارس، فلقيهم أبو العلاء، فانهزم هو وأصحابه وأخذ أسيراً وحمل إلى صمصام الدولة، فألبس ثياباً مصبغة وطيف به، وسألت فيه والدة صمصام الدولة، فلم يقتله، واعتقله.
ولما سمع بهاء الدولة بذلك أزعجه وأقلقه، وكانت خزانته قد خلت من الأموال، فأرسل وزيره أبا نصر بن سابور إلى واسط ليحصل ما أمنه، وأعطاه رهوناً من الجواهر والأعلاق النفسية ليقترض عليها من مهذب الدولة، صاحب البطيحة، فلما وصل إلى واسط تقرب منها إلى مهذب الدولة، وترك ما معه من الرهون بحاله، وأرسل بهاء الدولة ورهنها واقترض عليها.
ذكر ملك الترك بخارىفي هذه السنة ملك مدينة بخارى شهاب الدولة هارون بن سليمان ايلك المعروف ببغراخان التركي، وكان له كاشغر وبلاساغون إلى حد الصين.
وكان سبب ذلك أن أبا الحسن بن سيمجور لما مات وولي ابنه أبو علي خراسان بعده، كاتب الأمير الرضي نوح بن منصور يطلب أن يقره على ما كان أبوه يتولاه، فأجيب إلى ذلك، وحملت إليه الخلع، وهو لا يشك أنها له، فلما بلغ الرسول طريق هراة عدل إليها، وبها فائق، فأوصل الخلع والعهد بخراسان إليه، فعلم أبو علي أنهم مكروا به، وأن هذا دليل سوء يريدونه به، فلبس فائق الخلع وسار عن هراة نحو أبي علي فبلغه الخبر، فسار جريدة في نخبة أصحابه، وطوى المنازل حتى سبق خبره، فأوقع بفائق فيما بين بوشنج وهراة، فهزم فائقاً وأصحابه، وقصدوا مرو الروذ.
وكتب أبو علي إلى الأمير نوح يجدد طلب ولاية خراسان، فأجابه إلى ذلك، وجمع له ولاية خراسان جميعها بعد أن كانت هراة لفائق، فعاد أبو علي إلى نيسابور ظافراً وجبى أموال خراسان، فكتب إليه نوح يستنزله عن بعضها ليصرفه في أرزاق جنده، فاعتذر إليه ولم يفعل، وخاف عاقبة المنع، فكتب إلى بغراخان المذكور يدعوه إلى أن يقصد بخارى ويملكها على السامانية، وأطمعه فيهم، واستقر الحال بينهما على أن يملك بغراخان ما وراء النهر كله، ويملك أبو علي خراسان، فطمع بغراخان في البلاد، وتجدد له إليها حركة.
وأما فائق فإنه أقام بمرو الروذ حتى انجبر كسره واجتمع إليه أصحابه وسار نحو بخارى من غير إذن، فارتاب الأمير نوح به، فسير إليه الجيوش وأمرهم بمنعه، فلما لقوه قاتلوه، فانهزم فائق وأصحابه، وعاد على عقبيه، وقصد ترمذ. فكتب الأمير نوح إلى صاحب الجوزجان من قبله، وهو أبو الحرث أحمد بن محمد الفريغوني، وأمره بقصد فائق، فجمع جمعاً كثيراً وسار نحوه، فأوقع بهم فائق فهزمهم وغنم أموالهم.
وكاتب أيضاً بغراخان يطمعه في البلاد، فسار نحو بخارى، وقصد بلاد السامانية، فاستولى عليها شيئاً بعد شيء. فسير إليه نوح جيشاً كثيراً، واستعمل عليهم قائداً كبيراً من قواده اسمه انج، فلقيهم بغراخان، فهزمهم وأسر انج وجماعة من القواد، فلما ظفر بهم قوي طمعه في البلاد، وضعف نوح وأصحابه، وكاتب الأمير نوح أبا علي بن سيمجور يستنصره، ويأمره بالقدوم إليه بالعساكر، فلم يجبه إلى ذلك، ولا لبى دعوته، وقوي طمعه في الاستيلاء على خراسان.
وسار بغراخان نحو بخارى، فلقيه فائق، واختص به، وصار في جملته، ونازلوا بخارى، فاختفى الأمير نوح، وملكها بغراخان ونزلها، وخرج نوح منها مستخفياً فعبر النهر إلى آمل الشط، وأقام بها، ولحق به أصحابه، فاجتمع عنده منهم جمع كثير، وأقاموا هناك.
وتابع نوحٌ كتبه إلى أبي علي ورسله يستنجده ويخضع له، فلم يصغ إلى ذلك. وأما فائق فإنه استأذن بغراخان في قصد بلخ والاستيلاء عليها، فأمره بذلك، فسار نحوها ونزلها.
ذكر عود نوح إلى بخارى
وموت بغراخانلما نزل بغراخان بخارى وأقام بها استوخمها، فلحقه مرض ثقيل، فانتقل عنها نحو بلاد الترك، فلما فارقها ثار أهلها بساقة عسكره ففتكوا بهم وغنموا أموالهم، ووافقهم الأتراك الغزية على النهب والقتل لعسكر بغراخان.
فلما سار بغراخان عن بخارى أدركه أجله فمات، ولما سمع الأمير نوح بمسيره عن بخارى بادر إليها فيمن معه من أصحابه، فدخلها، وعاد إلى دار ملكه وملك آبائه، وفرح أهلها به وتباشروا بقدومه.
وأما بغراخان فإنه لما مات عاد أصحابه إلى بلادهم، وكان ديناً، خيراً، عادلاً، حسن السيرة، محباً للعلماء وأهل الدين، مكرماً لهم، وكان يحب أن يكتب عنه: مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وولي أمر الترك بعده أيلك خان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كثر شغب الديلم على بهاء الدولة، ونهبوا دار الوزير أبي نصر ابن سابور، واختفى منهم، واستعفى ابن صالحان من الأنفراد بالوزارة فأعفي، واستوزر أبا القاسم علي بن أحمد، ثم هرب، وعاد سابور إلى الوزارة بعد أن أصلح الديلم.
وفيها جلس القادر بالله لأهل خراسان، بعد عودهم من الحج، وقال لهم في معنى الخطبة له، وحملوا رسالة وكتباً إلى صاحب خراسان في المعنى.
وفيها عقد النكاح للقادر على بنت بهاء الدولة بصداق مبلغه مائة ألف دينار، وكان العقد بحضرته، والولي النقيب أبو أحمد الحسين بن موسى، والد الرضي، وماتت قبل النقلة.
وفيها كان بالعراق غلاء شديد فبيعت كارة الدقيق بمائتين وستين درهماً، وكر الحنطة بستة آلاف وستمائة درهم غياتية. وفيها بنى أبو نصر سابور بن أردشير ببغداد داراً للعلم، ووقف فيها كتباً كثيرة على المسلمين المنتفعين بها.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن محمد بن سهل الماسرجسي، الفقيه الشافعي، شيخ أبي الطيب الطبري بنيسابور، وأبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي الشاعر.
وأبو طالب عبد السلام بن الحسن المأموني، وهو من أولاد المأمون، وكان فاضلاً حسن الشعر.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وثلاثمائة
ذكر ولاية محمود بن سبكتكين خراسان
وإجلاء أبي علي عنهافي هذه السنة ولى الأمير نوح محمود بن سبكتكين خراسان وكان سبب ذلك أن نوحاً لما عاد إلى بخارى، على ما تقدم ذكره، سقط في يد أبي علي، وندم على ما فرط فيه من ترك معونته عند حاجته إليه.
وأما فائق فإنه لما استقر نوح ببخارى حدث نفسه بالمسير إليه، والاستيلاء عليه، والحكم في دولته، فسار عن بلخ إلى بخارى. فلما علم نوح بذلك سير إليه الجيوش لترده عن ذلك، فلقوه واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم فائق وأصحابه، ولحقوا بأبي علي، ففرح بهم، وقوي جنانه بقربهم، واتفقوا على مكاشفة الأمير نوح بالعصيان، فلما فعلوا ذلك كتب الأمير نوح إلى سبكتكين، وهو حينئذ بغزنة، يعرفه الحال، ويأمره بالمسير إليه لينجده، وولاه خراسان.
وكان سبكتكين في هذه الفتن مشغولاً بالغزو، غير ملتفت إلى ما هم فيه، فلما أتاه كتاب نوح ورسوله أجابه إلى ما أراد، وسار نحو جريدة، واجتمع به، وقررا بينهما ما يفعلانه، وعاد سبكتكين فجمع العساكر وحشد. فلما بلغ أبا علي وفائقاً الخبر جمعا، وراسلا فخر الدولة بن بويه يستنجدانه، ويطلبان منه عسكراً، فأجابهما إلى ذلك، وسير إليهما عسكراً كثيراً، وكان وزيره الصاحب بن عباد هو الذي قرر القاعدة في ذلك.
وسار سبكتكين من غزنة، ومعه ولده محمود، نحو خراسان، وسار نوح فاجتمع هو وسبكتكين، فقصدوا أبا علي وفائقاً، فالتقوا بنواحي هراة، واقتتلوا، فانحاز دارا بن قابوس بن وشمكير من عسكر أبي علي إلى نوح ومعه أصحابه، فانهزم أصحاب أبي علي، وركبهم أصحاب سبكتكين يأسرون، ويقتلون، ويغنمون، وعاد أبو علي وفائق نحو نيسابور، وأقام سبكتكين ونوح بظاهر هراة حتى استراحوا وساروا نحو نيسابور، فلما علم بهم أبو علي سار هو وفائق نحو جرجان، وكتبا إلى فخر الدولة بخبرهما، فأرسل إليهما الهدايا والتحف والأموال، وأنزلهما بجرجان.
واستولى نوح على نيسابور، واستعمل عليها وعلى جيوش خراسان محمود بن سبكتكين، ولقبه سيف الدولة، ولقب أباه سبكتكين ناصر الدولة، فأحسنا السيرة، وعاد نوح إلى بخارى وسبكتكين إلى هراة وأقام محمود بنيسابور.
ذكر عود الأهواز إلى بهاء الدولةفي هذه السنة ملك بهاء الدولة الأهواز.
وكان سببه أنه أنفذ عسكراً إليها، عدتهم سبع مائة رجل، وقدم عليهم طغان التركي، فلما بلغوا السوس رحل عنها أصحاب صمصام الدولة، فدخلها عسكر بهاء الدولة، وانتشروا في أعمال خوزستان، وكان أكثرهم من الترك، فعلت كلمتهم على الديلم، وتوجه صمصام الدولة إلى الأهواز ومعه عساكر الديلم وتميم وأسد. فلما بلغ تستر رحل ليلاً ليكبس الأتراك من عسكر بهاء الدولة، فضل الأدلاء في الطريق، فأصبح على بعدٍ منهم، ورأتهم طلائع الأتراك، فعادوا بالخبر، فحذروا، واجتمعوا، واصطفوا، وجعل مقدمهم، واسمه طغان، كميناً، فلما التقوا واقتتلوا خرج الكمين على الديلم، فكانت الهزيمة، وانهزم صمصام الدولة ومن معه من الديلم، وكانوا ألوفاً كثيرة، واستأمن منهم أكثر من ألفي رجل، وغنم الأتراك من أثقالهم شيئاً كثيراً.
وضرب طغان للمستأمنة خيماً يسكنونها، فلما نزلوا اجتمع الأتراك وتشاوروا وقالوا: هؤلاء أكثر من عدتنا، ونحن نخاف أن يثوروا بنا؛ واستقر رأيهم على قتلهم، فلم يشعر الديلم إلا وقد ألقيت الخيام عليهم، ووقع الأتراك فيهم بالعمد حتى أتوا عليهم فقتلوا كلهم.
وورد الخبر على بهاء الدولة، وهو بواسط، قد اقترض مالاً من مهذب الدولة، فلما سمع ذلك سار إلى الأهواز، وكان طغان والأتراك قد ملكوها قبل وصوله إليها.
وأما صمصام الدولة فإنه لبس السواد وسار إلى شيراز فدخلها، فغيرت والدته ما عليه من السواد، وأقام يتجهز للعود إلى أخيه بهاء الدولة بخوزستان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عقد النكاح لمهذب الدولة على ابنة بهاء الدولة، وللأمير أبي منصور بويه بن بهاء الدولة على ابنة مهذب الدولة، وكان الصداق من كل جانب مائة ألف دينار.
وفيها قبض بهاء الدولة على أبي نصر خواشاذه.
وفيها عاد الحجاج من الثعلبية، ولم يحج من العراق والشام أحد، وسبب عودهم أن الأصيفر، أمير العرب، اعترضهم وقال: إن الدراهم التي أرسلها السلطان عام أول كانت نقرة مطلية، وأريد العوض؛ فطالت المخاطبة والمراسلة وضاق الوقت على الحجاج فرجعوا.
وفيها توفي أبو القاسم النقيب الزينبي، وولي النقابة بعده ابنه أبو الحسن.
وفيها ولي نقابة الطالبيين أبو الحسن النهرسابسي، وعزل عنها أبو أحمد الموسوي، وكان ينوب عنه فيها ابناه المرتضى والرضي.
وفيها توفي عبدالله بن محمد بن نافع بن مكرم أبو العباس البستي الزاهد، وكان من الصالحين، حج من نيسابور ماشياً، وبقي سبعين سنة لا يستند إلى حائط ولا إلى مخدة؛ وعلي بن الحسين بن جموية بن زيد أبو الحسين الصوفي، سمع الحديث، وحدث وصحب أبا الخير الأقطع وغيره، وعلي ابن عيسى بن علي بن عبدالله أبو الحسن النحوي المعروف بالرماني، ومولده سنة ست وتسعين ومائتين، روى عن أبن دريد وغيره، وله تفسير كبير؛ ومحمد بن العباس بن أحمد بن القزاز أبو الحسن، سمع الكثير، وكتب الكثير، وخطه حجة في صحة النقل وجودة الضبط؛ وأبو عبيدالله محمد بن عمران المرزباني الكاتب؛ والمحسن بن علي بن علي بن محمد بن أبي الفهم أبو علي التنوخي القاضي، ومولده سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، وكان فاضلاً.
وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي، الكاتب المشهور، وكان عمره إحدى وتسعين سنة، وكان قد زمن، وضاقت به الأمور، وقلت عليه الأموال.
وفيها اشتد أمر العيارين ببغداد، ووقعت الفتنة بين أهل الكرخ وأهل باب البصرة، واحترق كثير من المحال، ثم اصطلحوا.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وثلاثمائة
ذكر عود أبي علي إلى خراسانلما عاد الأمير نوح إلى بخارى، وسبكتكين إلى هراة، وبقي محمود بنيسابور، طمع أبو علي وفائق في خراسان، فسارا عن جرجان إلى نيسابور في ربيع الأول، فلما بلغ محموداً خبرهما كتب إلى أبيه بذلك، وبرز هو فنزل بظاهر نيسابور وأقام ينتظر المدد، فأعجلاه، فصبر لهما، فقاتلاه، وكان في قلة من الرجال، فانهزم عنهما نحو أبيه، وغنم أصحابهما منه شيئاً كثيراً، وأشار أصحاب أبي علي عليه باتباعه، وإعجاله ووالده عن الجميع والاحتشاد، فلم يفعل، وأقام بنيسابور، وكاتب الأمير نوحاً يستميله، ويستقيل من عثرته وزلته، وكذلك كاتب سبكتكين بمثل ذلك، وأحال بما جرى على فائق، فلم يجيباه إلى ما أراد.
وجمع سبكتكين العساكر، فأتوه على كل صعبٍ وذلولٍ، وسار نحو أبي علي، فالتقوا بطوس في جمادى الآخرة، فاقتتلوا عامة يومهم، وأتاهم محمود بن سبكتكين في عسكر ضخم من ورائهم، فانهزموا وقتل من أصحابهم خلق كثير، ونجا أبو علي وفائق، فقصدا أبيورد، فتبعهم سبكتكين، واستخلف ابنه محموداً بنيسابور، فقصدا مرو ثم آمل الشط، وراسلا الأمير نوحاً يستعطفانه، فأجاب أبا علي إلى ما طلب من قبول عذره إن فارق فائقاً ونزل بالجرجانية، ففعل ذلك، فحذره فائق، وخوفه من مكيدتهم به ومكرهم، فلم يلتفت لأمر يريده الله، عز وجل، ففارق فائقاً وسار نحو الجرجانية فنزل بقرية بقرب خوارزم تسمى هزار أس، فأرسل إليه أبو عبدالله خوارزمشاه من أقام له ضيافة، ووعده أنه يقصده ليجتمع به، فسكن إلى ذلك.
فلما كان الليل أرسل إليه خوارزمشاه جمعاً من عسكره فأحاطوا به وأخذوه أسيراً في رمضان من هذه السنة، فاعتقله في بعض دوره، وطلب أصحابه، فأسر أعيانهم وتفرق الباقون.
وأما فائق فإنه سار إلى ايلك خان بما وراء النهر، فأكرمه وعظمه، ووعده أن يعيده إلى قاعدته، وكتب إلى نوح يشفع في فائق وأن يولى سمرقند، فأجابه إلى ذلك، وأقام بها.
ذكر خلاص أبي علي
وقتل خوارزمشاهلما أسر أبو علي بلغ خبره إلى مأمون بن محمد، والي الجرجانية، فقلق لذلك وعظم عليه، وجمع عساكره وسار نحو خوارزمشاه، وعبر إلى كاث، وهي مدينة خوارزمشاه، فحصروها وقاتلوها، وفتحوها عنوةً، وأسروا أبا عبدالله خورازمشاه، وأحضروا أبا علي ففكوا عنه قيده وأخذوه وعادوا إلى الجرجانية، واستخلف مأمون بخوارزم بعض أصحابه، وصارت في جملة ما بيده، وأحضر خوارزمشاه وقتله بين يدي أبي علي بن سيمجور.
ذكر قبض أبي علي بن سيمجور
وموتهلما حصل أبو علي عند مأمون بن محمد بالجرجانية كتب إلى الأمير نوح يشفع فيه، ويسأل الصفح عنه، فأجيب إلى ذلك، وأمر أبا علي بالمسير إلى بخارى، فسار إليها فيمن بقي معه من أهله وأصحابه، فلما بلغوا بخارى لقيهم الأمراء والعساكر، فلما دخلوا على الأمير نوح أمر بالقبض عليهم.
وبلغ سبكتكين أن ابن عزير، وزير الأمير نوح، يسعى في خلاص أبي علي، فأرسل إليه يطلب أبا علي إليه، فحبسه، فمات في حبسه سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وكان ذلك خاتمة أمره، وآخر حال بيت سيمجور جزاءً لكفران إحسان مولاهم، فتبارك الحي الدائم الباقي الذي لا يزول ملكه.
وكان ابنه أبو الحسن قد لحق بفخر الدولة بن بويه، فأحسن إليه وأكرمه، فسار عنه سراً إلى خراسان لهوىً كان له بها، وظن أن أمره يخفى، فظهر حاله، فأخذ أسيراً وسجن عند والده.
وأما أبو القاسم أخو أبي علي فإنه أقام في خدمة سبكتكين مدة يسيرة، ثم ظهر منه خلاف الطاعة، وقصد نيسابور، فلم يتم له ما أراد، وعاد محمود ابن سبكتكين إليه، فهرب منه وقصد فخر الدولة وبقي عنده، وسيرد باقي أخباره، إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة الصاحب بن عبادفي هذه السنة مات الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد، وزير فخر الدولة بالري، وكان واحد زمانه علماً، وفضلاً، وتدبيراً، وجودة رأي، وكرماً، عالماً بأنواع العلوم، عارفاً بالكتابة وموادها، ورسائله مشهورة مدونة، وجمع من الكتب ما لم يجمعه غيره، حتى إنه كان يحتاج في نقلها إلى أربع مائة جمل.
ولما مات وزر بعده لفخر الدولة أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي الملقب بالكافي.
ولما حضره الموت قال لفخر الدولة: قد خدمتك خدمةً استفرغت فيها وسعي، وسرت سيرةً جلبت لك حسن الذكر، فإن أجريت الأمور على ما كانت عليه نسب ذلك الجميل إليك وتركت أنا، وإن عدلت عنه كنت أنا المشكور ونسبت الطريقة الثانية إليك، وقدح ذلك في دولتك. فكان هذا نصحه له إلى أن مات.
فلما توفي أنفذ فخر الدولة من احتاط على ماله وداره، ونقل جميع ما فيها إليه، فقبح الله خدمة الملوك، هذا فعلهم مع من نصح لهم، فكيف مع غيره ! ونقل الصاحب بعد ذلك إلى أصبهان، وكثير ما بين فعل فخر الدولة مع ابن عباد وبين العزيز بالله العلوي مع وزيره يعقوب بن كلس وقد تقدم.
وكان الصاحب بن عباد قد أحسن إلى القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي، وقدمه، وولاه قضاء الري وأعمالها، فلما توفي قال عبد الجبار: لا أرى الترحم عليه، لأنه مات عن غير توبة ظهرت منه، فنسب عبد الجبار إلى قلة الوفاء.
ثم إن فخر الدولة قبض على عبد الجبار وصادره، فباع في جملة ما باع ألف طيلسان، وألف ثوب صوف رفيع، فلم لا نظر لنفسه، وتاب عن أخذ مثل هذا واذخاره من غير حله ؟ ثم إن فخر الدولة قبض على أصحاب ابن عباد وأبطل كل مسامحة كانت منه، وقرر هو ووزراؤه المصادرات في البلاد، فاجتمع له منها شيء كثير، ثم تمزق بعد وفاته في أقرب مدة، وحصل بالوزر وسوء الذكر.
ذكر إيقاع صمصام الدولة بالأتراكفي هذه السنة أمر صمصام الدولة بقتل من بفارس من الأتراك، فقتل منهم جماعة، وهرب الباقون فعاثوا في البلاد، وانصرفوا إلى كرمان، ثم منها إلى بلاد السند، واستأذنوا ملكها في دخول بلاده، فأذن لهم وخرج إلى تلقيهم ووافق أصحابه على الإيقاع بهم، فلما رآهم جعل أصحابه صفين، فلما حصل الأتراك في وسطهم أطبقوا عليهم وقتلوهم فلم يفلت منهم إلا نفر جرحى وقعوا بين القتلى وهربوا تحت الليل.
ذكر وفاة خواشاذهفي هذه السنة توفي أبو نصر خواشاذه بالبطائح، وكان قد هرب إليها بعد أن قبض، وكاتبه بهاء الدولة، وفخر الدولة، وصمصام الدولة، وبدر بن حسنويه، كل منهم يستدعيه، ويبذل له ما يريده وقال له فخر الدولة: لعلك تسيء الظن بما قدمته في خدمة عضد الدولة، وما كنا لنؤاخذك بطاعة من قدمك ومناصحته، وقد علمت ما عملته مع الصاحب بن عباد، وتركنا ما فعله معنا. فعزم على قصده، فأدركه أجله قبل ذلك، وتوفي، وكان من أعيان قواد عضد الدولة.
ذكر عود عسكر صمصام الدولة إلى الأهوازفي هذه السنة جهز صمصام الدولة عسكره من الديلم وردهم إلى الأهواز مع العلاء بن الحسن، واتفق أن طغان، نائب بهاء الدولة بالأهواز، توفي، وعزم من معه من الأتراك على العود إلى بغداد، وكتب من هناك إلى بهاء الدولة بالخبر، فأقلقه ذلك وأزعجه، فسير أبا كاليجار المرزبان بن شهفيروز إلى الأهواز نائباً عنه وأنفذ أبا محمد الحسن بن مكرم إلى الفتكين، وهو برامهرمز، قد عاد من بين يدي عسكر صمصام الدولة إليها، يأمره بالمقام بموضعه، فلم يفعل، وعاد إلى الأهواز، فكتب إلى أبي محمد بن مكرم بالنظر في الأعمال، وسار بعدهم بهاء الدولة نحو خوزستان، فكاتبه العلاء، وسلك طريق اللين والخداع.
ثم سار على نهر المسرقان إلى أن حصل بخان طوق، ووقعت الحرب بينه وبين أبي محمد بن مكرم والفتكين، وزحف الديلم بين البساتين، حتى دخلوا البلد، وانزاح عنه ابن مكرم والفتكين، وكتبا إلى بهاء الدولة يشيران عليه بالعبور إليها، فتوقف عن ذلك ووعدهما به، وسير إليهما ثمانين غلاماً من الأتراك، فعبروا وحملوا على الديلم من خلفهم، فأفرج لهم الديلم، فلما توسطوا بينهم أطبقوا عليهم فقتلوهم.
فلما عرف بهاء الدولة ذلك ضعفت نفسه، وعزم على العود، ولم يظهر ذلك، فأمر بإسراج الخيل وحمل السلاح، ففعل ذلك، وسار نحو الأهواز يسيراً، ثم عاد إلى البصرة فنزل بظاهرها. فلما عرف ابن مكرم خبر بهاء الدولة عاد إلى عسكر مكرم، وتبعهم العلاء والديلم فأجلوهم عنها، فنزلوا براملان بين عسكر مكرم وتستر، وتكررت الوقائع بين الفريقين مدةً.
وكان بيد الأتراك، أصحاب بهاء الدولة، من تستر إلى رامهرمز، ومع الديلم منها إلى أرجان، وأقاموا ستة أشهر، ثم رجعوا إلى الأهواز، ثم عبر بهم النهر إلى الديلم، واقتتلوا نحو شهرين، ثم رحل الأتراك وتبعهم العلاء، فوجدهم قد سلكوا طريق واسط، فكف عنهم، وأقام بعسكر مكرم.
ذكر حادثة غريبة بالأندلسفي هذه السنة سير المنصور محمد بن أبي عامر، أمير الأندلس لهشام المؤيد، عسكراً إلى بلاد الفرنج للغزاة، فنالوا منهم وغنموا، وأوغلوا في ديارهم، وأسروا غرسية، وهو ملك للفرنج ابن ملك من ملوكهم يقال له شانجة، وكان من أعظم ملوكهم وأمنعهم، وكان من القدر أن شاعراً للمنصور، يقال له أبو العلاء صاعد بن الحسن الربعي، قد قصده من بلاد الموصل، وأقام عنده، وامتدحه قبل هذا التاريخ، فلما كان الآن أهدى أبو العلاء إلى المنصور أيلاً، وكتب معه أبياتاً منها:
يا حرز كلّ مخوّفٍ، وأمان كلّ ... مشرّدٍ، ومعزّ كلّ مذلّل
جدواك إن تخصص به فلأهله، ... وتعمّ بالإحسان كلّ مؤمّل
يقول فيها:
مولاي مؤنس غربتي، متخطّفي ... من ظفر أيّامي، ممنّع معقلي
عبدٌ رفعت بضبعه، وغرسته ... في نعمةٍ أهدى إليك بأيّل
سمّيته غرسيّة، وبعثته ... في حبله ليتاح فيه تفاؤلي
فلئن قبلت، فتلك أسنى نعمةٍ ... أسدى بها ذو نعمةٍ وتطوّل
فسمى هذا الشاعر الأيل غرسية تفاؤلاً بأسر ذلك غرسية، فكان أسره في اليوم الذي أهدى فيه الأيل، فانظر إلى هذا الاتفاق ما أعجبه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ورد الوزير أبو القاسم علي بن أحمد الأبرقوهي من البطيحة إلى بهاء الدولة، بعد عوده من خوزستان، وكان قد التجأ إلى مهذب الدولة، فأرسل بهاء الدولة يطلبه ليستوزره، فحضر عنده، فلم يتم له ذلك، فعاد إلى البطيحة، وكان الفاضل، وزير بهاء الدولة، معه بواسط، فلما علم الحال استأذن في الإصعاد إلى بغداد، فأذن له فأصعد، فعاد بهاء الدولة وطلبه ليرجع إليه، فغالطه ولم يعد.
وفي هذه السنة، في ذي الحجة، توفي أبو حفص عمر بن أحمد بن محمد ابن أيوب المعروف بابن شاهين الواعظ، مولده في صفر سنة سبع وتسعين ومائتين، وكان مكثراً من الحديث ثقةً.
وفيها، في ذي القعدة، توفي الإمام أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي المعروف بالدارقطني الإمام المشهور.
وفيها، في ربيع الأول، توفي محمد بن عبدالله بن سكرة الهاشمي من ولد علي بن المهدي بالله، وكان منحرفاً عن علي بن أبي طالب، عليه السلام، وكان خبيث اللسان يتقى سفهه، ومن جيد شعره:
في وجه إنسانةٍ كلفت بها ... أربعةٌ ما اجتمعن في أحد
الوجه بدرٌ والصدغ غاليةٌ، ... والرّيق خمرٌ، والثّغر من برد
وفيها توفي يوسف بن عمر بن مسروق، أبو الفتح القواس، الزاهد، في ربيع الأول، وله خمس وخمسون سنة.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وثلاثمائة
ذكر وفاة العزيز بالله
وولاية ابنه الحاكم وما كان من الحروب إلى أن استقر أمرهفي هذه السنة توفي العزيز أبو منصور نزال بن المعز أبي تميم معد العلوي، صاحب مصر، لليلتين بقيتا من رمضان، وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر ونصف، بمدينة بلبيس، وكان برز إليها لغزو الروم، فلحقه عدة أمراض منها النقرس والحصا والقولنج، فاتصلت به إلى أن مات.
وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً، ومولده بالمهدية من إفريقية.
وكان أسمر طويلاً، أصهب الشعر، عريض المنكبين، عارفاً بالخيل والجوهر، قيل إنه ولى عيسى بن نسطورس النصراني كتابته، واستناب بالشام يهودياً اسمه منشا، فاعتز بهما النصارى وإليهود، وآذوا المسلمين، فعمد أهل مصر وكتبوا قصة وجعلوها في يد صورة عملوها من قراطيس، فيها: بالذي أعز إليهود بمنشا والنصارى بعيسى بن نسطورس، وأذل المسلمين بك إلا كشفت ظلامتي؛ وأقعدوا تلك الصورة على طريق العزيز، والرقعة بيدها، فلما رآها أمر بأخذها، فلما قرأ ما فيها، ورأى الصورة من قراطيس، علم ما أريد بذلك، فقبض عليهما، وأخذ من عيسى ثلاثمائة ألف دينار، ومن إليهودي شيئاً كثيراً.
وكان يحب العفو ويستعمله، فمن حلمه أنه كان بمصر شاعر اسمه الحسن ابن بشر الدمشقي، وكان كثير الهجاء، فهجا يعقوب بن كلس، وزير العزيز، وكاتب الإنشاء من جهته أبا نصر عبدالله الحسين القيرواني، فقال:
قل لأبي نصرٍ صاحب القصر، ... والمتأتّي لنقض ذا الأمر
انقض عرى الملك للوزير تفز ... منه بحسن الثناء والذّكر
وأعط، وامنع، ولا تخف أحداً، ... فصاحب القصر ليس في القصر
وليس يدري ماذا يراد به، وهو إذا ما درى، فما يدري
فشكاه ابن كلس إلى العزيز، وأنشده الشعر، فقال له: هذا شيء اشتركنا فيه في الهجاء فشاركني في العفو عنه. ثم قال هذا الشاعر أيضاً وعرض بالفضل القائد:
تنصّر، فالتنصّر دين حقٍّ، ... عليه زماننا هذا يدلّ
وقل بثلاثةٍ عزّوا وجلّوا، ... وعطّل ما سواهم فهو عطل
فيعقوب الوزير أبٌ، وهذا ... العزيز ابنٌ، وروح القدس فضل
فشكاه أيضاً إلى العزيز، فامتعض منه إلا أنه قال: اعف عنه؛ فعفا عنه.
ثم دخل الوزير على العزيز، فقال: لم يبق للعفو عن هذا معنىً، وفيه غضٌّ من السياسة، ونقضٌ لهيبة الملك، فإنه قد ذكرك وذكرني وذكر ابن زبارج نديمك، وسبك بقوله:
زبارجيٌّ نديمٌ وكلّسيٌّ وزير، ... نعم على قدو الكلب يصلح الساجور
فغضب العزيز، وأمر بالقبض عليه، فقبض عليه، لوقته، ثم بدا العزيز إطلاقه، فأرسل إليه يستدعيه، وكان للوزير عين في القصر، فأخبره بذلك، فأمر بقتله فقتل.
فلما وصل رسول العزيز في طلبه أراه رأسه مقطوعاً، فعاد إليه فأخبره، فاغتم له.
ولما مات العزيز ولي بعده ابنه أبو علي المنصور، ولقب الحاكم بأمر الله، بعهد من أبيه، فولي وعمره إحدى عشرة سنة وستة أشهر، وأوصى العزيز إلى أرجوان الخادم، وكان يتولى أمر داره، وجعله مدبر دولة ابنه الحاكم، فقام بأمره، وبايع له، وأخذ له البيعة على الناس، وتقدم الحسن ابن عمار، شيخ كتامة وسيدها، وحكم في دولته، واستولى عليها، وتلقب بأمين الدولة، وهو أول من تلقب في دولة العلويين المصريين، فأشار عليه ثقاته بقتل الحاكم، وقالوا: لا حاجة بنا إلى من يتعبدنا؛ فلم يفعل احتقاراً له، واستصغاراً لسنه.
وانبسطت كتامة في البلاد، وحكموا فيها، ومدوا أيديهم إلى أموال الرعية وحريمهم، وأرجوان مقيم مع الحاكم في القصر يحرسه، واتفق معه شكر خادم عضد الدولة، وقد ذكرنا قبض شرف الدولة عليه ومسيره إلى مصر، فلما اتفقا، وصارت كلمتهما واحدة، كتب أرجوان إلى منجوتكين يشكو ما يتم عليه من ابن عمار، فتجهز وسار من دمشق نحو مصر، فوصل الخبر إلى ابن عمار، فأظهر أن منجوتكين قد عصى على الحاكم، وندب العساكر إلى قتاله، وسير إليه جيشاً كثيراً، وجعل عليهم أبا تميم سليمان بن جعفر بن فلاح الكتامي، فساروا إليه، فلقوه بعسقلان، فانهزم منجوتكين وأصحابه، وقتل منهم ألفا رجل، وأسر منجوتكين وحمل إلى مصر، فأبقى عليه ابن عمار، وأطلقه استمالةً للمشارقة بذلك.
واستعمل ابن عمار على الشام أبا تميم الكتامي، واسمه سليمان بن جعفر، فسار إلى طبرية، فاستعمل على دمشق أخاه علياً، فامتنع أهلها عليه، فكاتبهم أبو تميم يتهددهم فخافوا وأذعنوا بالطاعة، واعتذروا من فعل سفهائهم، وخرجوا إلى علي فلم يعبأ بهم وركب ودخل البلد فأحرق وقتل وعاد إلى عسكره.
وقدم عليهم أبو تميم فأحسن إليهم وأمنهم، وأطلق المحبسين، ونظر في أمر الساحل، واستعمل أخاه علياً على طرابلس، وعزل عنها جيش بن الصمصامة الكتامي، فمضى إلى مصر، واجتمع مع أرجوان على الحسن بن عمار، فانتهز أرجوان الفرصة ببعد كتامة عن مصر مع أبي تميم، فوضع المشارقة على الفتك بمن بقي بمصر منهم، وبابن عمار معهم.
فبلغ ذلك ابن عمار، فعمل على الإيقاع بأرجوان وشكر العضدي، فأخبرهما عيون لهما على ابن عمار بذلك، فاحتاطا ودخلا قصر الحاكم باكين، وثارت الفتنة، واجتمعت المشارقة، ففرق فيهم المال، وواقعوا ابن عمار ومن معه، فانهزم واختفى.
=========
===========
مجلد 24.كتاب : الكامل في التاريخ ابن الأثير
فلما ظفر أرجوان أظهر الحاكم، وأجلسه، وجدد له البيعة، وكتب إلى وجوه القواد والناس بدمشق بالإيقاع بأبي تميم، فلم يشعر إلا وقد هجموا عليه ونهبوا خزائنه، فخرج هارباً، وقتلوا من كان عنده من كتامة، وعادت الفتنة بدمشق، واستولى الأحداث.
ثم إن أرجوان أذن للحسن بن عمار في الخروج من استتاره، وأجراه على إقطاعه، وأمره بإغلاق بابه.
وعصى أهل صور، وأمروا عليهم رجلاً ملاحاً يعرف بعلاقة، وعصى أيضاً المفرج بن دغفل بن الجراح، ونزل على الرملة وعاث في البلاد.
واتفق أن الدوقس، صاحب الروم، نزل على حصن أفامية، فأخرج أرجوان جيش بن الصمصامة في عسكر ضخم، فسار حتى نزل بالرملة، فأطاعه وإليها، وظفر فيها بأبي تميم فقبض عليه، وسير عسكراً إلى صور، وعليهم أبو عبدالله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان، فغزاها براً وبحراً. فأرسل علاقة إلى ملك الروم يستنجده، فسير إليه عدة مراكب مشحونة بالرجال، فالتقوا بمراكب المسلمين على صور، فاقتتلوا، وظفر المسلمون، وانهزم الروم، وقتل منهم جمع، فلما انهزموا انخذل أهل صور، وضعفت نفوسهم، فملك البلد أبو عبدالله بن حمدان، ونهبه، وأخذت الأموال، وقتل كثير من جنده، وكان أول فتح كان على يد أرجوان، وأخذ علاقة أسيراً فسيره إلى مصر، فسلخ وصلب بها؛ وأقام بصور، وسار جيش بن الصمصامة لقصد المفرج ابن دغفل، فهرب من بين يديه، وأرسل يطلب العفو فأمنه.
وسار جيش أيضاً إلى عسكر الروم، فلما وصل إلى دمشق تلقاه أهلها مذعنين، فأحسن إلى رؤساء الأحداث، وأطلق المؤن، وأباح دم كل مغربي يتعرض لأهلها، فاطمأنوا إليه.
وسار إلى أفامية، فصاف الروم عندها، فانهزم هو وأصحابه، ما عدا بشارة الإخشيدي، فإن ثبت في خمسمائة فارس. ونزل الروم إلى سواد المسلمين يغنمون ما فيه، والدوقس واقف على رايته، وبين يديه ولده وعدة غلمان، فقصده كردي يعرف بأحمد بن الضحاك، من أصحاب بشارة، ومعه خشت، فظنه الدوقس مستأمناً، فلم يحترز منه، فلما دنا منه حمل عليه وضربه بالخشت فقتله، فصاح المسلمون: قتل عدو الله ! وعادوا ونزل النصر عليهم، فانهزمت الروم وقتل منهم مقتلة عظيمة.
وسار جيش إلى باب إنطاكية يغنم ويسبي ويحرق، وعاد إلى دمشق فنزل بظاهرها، وكان الزمان شتاء، فسأله أهل دمشق ليدخل البلد، فلم يفعل، ونزل ببيت لهيا، وأحسن السيرة في أهل دمشق، واستخص رؤساء الأحداث، واستحجب جماعة منهم، وجعل يبسط الطعام كل يوم لهم ولمن يجيء معهم من أصحابهم، فكان يحضر كل إنسان منهم في جمع من أصحابه وأشياعه، وأمرهم إذا فرغوا من الطعام أن يحضروا إلى حجرة له يغسلون أيديهم فيها، فعبر على ذلك برهة من الزمان، فأمر أصحابه أن رؤساء الأحداث، إذا دخلوا الحجرة لغسل أيديهم، أن يغلقوا باب الحجرة عليهم، ويضعوا السيف في أصحابهم، فلما كان الغد حضروا الطعام، وقام الرؤساء إلى الحجرة، فأغلقت الأبواب عليهم، وقتل من أصحابهم نحو ثلاثة آلاف رجل، ودخل دمشق فطافها، فاستغاث الناس وسألوه العفو، وعفا عنهم، وأحضر أشراف أهلها، وقتل رؤساء الأحداث بين أيديهم، وسير الأشراف إلى مصر، وأخذ أموالهم ونعمهم، ثم مرض بالبواسير وشدة الضربان فمات.
وولي بعده ابنه محمد، وكانت ولايته هذه تسعة أشهر، ثم إن أرجوان بعد هذه الحادثة راسل بسيل ملك الروم، وهادنه عشر سنين، واستقامت الأمور على يد أرجوان. وسير أيضاً جيشاً إلى برقة، وطرابلس الغرب، ففتحها، واستعمل عليها أنساً الصقلبي ونصح الحاكم، وبالغ في ذلك، ولازم خدمته، فثقل مكانه على الحاكم، فقتله سنة تسع وثمانين.
وكان خصياً أبيض، وكان لأرجوان وزير نصراني اسمه فهد بن إبراهيم، فاستوزره الحاكم، ثم إن الحاكم رتب الحسين بن جوهر موضع أرجوان، ولقبه قائد القواد ثم قتل الحسن بن عمار، المقدم ذكره، ثم قتل الحسين بن جوهر، ولم يزل يقيم الوزير بعد الوزير ويقتلهم. ثم جهز يارختكين للمسير إلى حلب، وحصرها، وسير معه العساكر الكثيرة، فسار عنها، فخافه حسان بن المفرج الطائي، فلما رحل من غزة إلى عسقلان كمن له حسان ووالده، وأوقعا به وبمن معه، وأسراه وقتلاه، وقتل من الفريقين قتلى كثيرة، وحصرا الرملة، ونهبا النواحي، وكثر جمعهما، وملكا الرملة وما والاها، فعظم ذلك على الحاكم، وأرسل يعاتبهما، وسبق السيف العذل، فأرسلا إلى الشريف أبي الفتوح الحسن بن جعفر العلوي الحسني، أمير مكة، وخاطباه بأمير المؤمنين، وطلباه إليهما ليبايعا له بالخلافة، فحضر، واستناب بمكة، وخوطب بالخلافة.
ثم إن الحاكم راسل حساناً وأباه، وضمن لهما الإقطاع الكثيرة والعطاء الجزير، واستمالهما، فعدلا عن أبي الفتوح، ورداه إلى مكة، وعادا إلى طاعة الحاكم.
ثم إن الحاكم جهز عسكراً إلى الشام، واستعمل عليهم علي بن جعفر بن فلاح، فلما وصل إلى الرملة أزاح حسان بن الفمرج وعشيرته عن تلك الأرض، وأخذ ما كان له من الحصون بجبل الشراة، واستولى على أمواله وذخائره، وسار إلى دمشق والياً عليها، فوصل إليها في شوال سنة تسعين وثلاثمائة.
وأما حسان فإنه بقي شريداً نحو سنتين، ثم أرسل والده إلى الحاكم فأمنه وأقطعه، فسار حسان إليه بمصر، فأكرمه وأحسن إليه؛ وكان المفرج والد حسان قد توفي مسموماً، وضع الحاكم عليه من سمه، فبموته ضعف أمر حسان على ما ذكرناه.
ذكر استيلاء عسكر صمصام الدولة على البصرةفي هذه السنة سار قائد كبير من قواد صمصام الدولة، اسمه لشكرستان، إلى البصرة، فأجلى عنها نواب بهاء الدولة.
وسبب ذلك أن الأتراك لما عادوا عن العلاء، كما ذكرناه، كان لشكرستان هذا مع العلاء، فأتاهم من الديلم الذين مع بهاء الدولة أربعمائة رجل مستأمنين، فأخذهم لشكرستان، وسار بهم وبمن معه إلى البصرة، فكثر جمعه، فنزلوا قرب البصرة بين البساتين يقاتلون أصحاب بهاء الدولة، ومال الأيهم بعض أهل البصرة، ومقدمهم أبو الحسن بن أبي جعفر العلوي، وكانوا يحملون إليهم الميرة.
وعلم بهاء الدولة بذلك، فأنفذ من يقبض عليهم، فهرب كثير منهم إلى لشكرستان، فقوي بهم، وجمعوا السفن وحملوه فيها، ونزلوا إلى البصرة، فقاتلوا أصحاب بهاء الدولة بها، وأخرجوهم عنها، وملك لشكرستان البصرة، وقتل من أهلها كثيراً، وهرب كثير منهم، وأخذ كثيراً من أموالهم.
فكتب بهاء الدولة إلى مهذب الدولة، صاحب البطيحة، يقول: أنت أحق بالبصرة. فسير إليها جيشاً مع عبدالله بن مرزوق، فأجلى لشكرستان عن البصرة، فقيل: إنه سار عن البصرة بغير حرب، ودخلها ابن مرزوق. وقيل: إنما فارقها بعد أن حارب فيها، وضعف عن المقام بين يديه. وصفت البصرة لمهذب الدولة.
ثم إن لشكرستان عمل على العود إلى البصرة، فهجم عليها في السفن، ونزل أصحابه بسوق الطعام، واقتتلوا، فاستظهر لشكرستان، وكاتب بهاء الدولة يطلب المصالحة، ويبذل الطاعة، ويخطب له بالبصرة، فأجابه مهذب الدولة إلى ذلك، وأخذ ابنه رهينة.
وكان لشكرستان يظهر طاعة صمصام الدولة وبهاء الدولة ومهذب الدولة، وعسف أهل البصرة مدة، فتفرقوا، ثم إنه أحسن إليهم وعدل فيهم، فعادوا.
ذكر ولاية المقلد الموصلفي هذه السنة ملك المقلد بن المسيب مدينة الموصل.
وكان سبب ذلك أن أخاه أبا الذواد توفي هذه السنة، فطمع المقلد في الإمارة، فلم تساعده عقيل على ذلك، وقلدوا أخاه علياً لأنه أكبر منه، فأسرع المقلد واستمال الديلم الذين كانوا مع أبي جعفر الحجاج بالموصل، فمال إليه بعضهم، وكتب إلى بهاء الدولة قد ولاه الموصل، وسأله مساعدته على أبي جعفر لأنه قد منعه عنها، فساروا ونزلوا على الموصل فخرج إليهم كل من استماله المقلد من الديلم، وضعف الحجاج، وطلب منهم الأمان، فأمنوه، وواعدهم يوماً يخرج إليهم فيه.
ثم إنه انحدر في السفن قبل ذلك اليوم، فلم يشعروا به إلا بعد انحداره، فتبعوه، فلم ينالوا منه شيئاً، ونجا بماله منهم، وسار إلى بهاء الدولة، ودخل المقلد البلد، واستقر الأمر بينه وبين أخيه على أن يخطب لهما، ويقدم علي لكبره، ويكون له معه نائب يجبي المال، واشتركا في البلد والولاية، وسار علي إلى البر، وأقام المقلد، وجرى الأمر على ذلك مديدةً، ثم تشاجروا واختصموا وكان ما نذكره إن شاء الله.
وكان المقلد يتولى حماية غربي الفرات من أرض العراق، وكان له ببغداد نائب فيه تهور، فجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة مشاجرة، فكتب إلى المقلد يشكو، فانحدر من الموصل في عساكره، وجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة حرب انهزموا فيها، وكتب إلى بهاء الدولة يعتذر، وطلب إنفاذ من يعقد عليه ضمان القصر وغيره.
وكان بهاء الدولة مشغولاً بمن يقاتله من عسكر أخيه، فاضطر إلى المغالطة، ومد المقلد يده فأخذ الأموال، فبرز نائب بهاء الدولة ببغداد، وهو حينئذ أبو علي بن إسماعيل، وخرج إلى حرب المقلد، فبلغ الخبر إليه، فأنفذ أصحابه ليلاً، فاقتتلوا، وعادوا إلى المقلد، فلما بلغ الخبر إلى بهاء الدولة بمجيء أصحاب المقلد إلى بغداد، أنفذ أبا جعفر الحجاج إلى بغداد، وأمره بمصالحة المقلد والقبض على أبي علي بن إسماعيل، فسار إلى بغداد في آخر ذي الحجة، فلما وصل إليها راسله المقلد في الصلح، فاصطلحا على أن يحمل إلى بهاء الدولة عشرة آلاف دينار، ولا يأخذ من البلاد إلا رسم الحماية، ويخطب لأبي جعفر بعد بهاء الدولة، وأن يخلع على المقلد الخلع السلطانية، ويلقب بحسام الدولة، ويقطع الموصل، والكوفة، والقصر، والجامعين، واستقر الأمر على ذلك؛ وجلس القادر بالله له.
ولم يف المقلد من ذلك بشيء إلا بحمل المال، واستولى على البلاد، ومد يده في المال، وقصده المتصرفون والأماثل، وعظم قدره، وقبض أبو جعفر على أبي علي، ثم هرب أبو علي، نائب بهاء الدولة، واستتر وسار إلى البطيحة مستتراً، ملتجئاً إلى مهذب الدولة.
ذكر وفاة المنصور بن يوسف
وولاية ابنه باديسفي هذه السنة توفي المنصور بن يوسف بلكين أمير إفريقية، أوائل ربيع الأول، خارج صبرة، ودفن بقصره.
وكان ملكاً كريماً، شجاعاً، حازماً، ولم يزل مظفراً منصوراً، حسن السيرة، محباً للعدل والرعية، أوسعهم عدلاً، وأسقط البقايا عن أهل إفريقية، وكانت مالاً جليلاً.
ولما توفي ولي بعده ابنه باديس، ويكنى أبا مناد، فلما استقر في الأمر سار إلى سردانية، وأتاه الناس من كل ناحية للتعزية والتهنئة، وأراد بنو زيري أعمام أبيه أن يخالفوا عليه، فمنعهم أصحاب أبيه وأصحابه.
وكان مولد باديس سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، وأتته الخلع والعهد بالولاية من الحاكم بأمر الله من مصر، فقرئ العهد، وبايع للحاكم هو وجماعة بني عمه والأعيان من القواد.
وفيها ثار على باديس رجل صنهاجيٌ اسمه خليفة بن مبارك، فأخذ وحمل إلى باديس، فأركب حماراً، وجعل خلفه رجل أسود يصفعه، وطيف به، ولم يقتل احتقاراً له وسجن.
وفيها استعمل باديس عمه حماد بن يوسف بلكين على أشير، وأقطعه إياه، وأعطاه من الخيل والسلاح والعدد شيئاً كثيراً، فخرج إليها، وحماد هذا هو جد بني حماد الذين كانوا ملوك إفريقية، والقلعة المنسوبة إليهم مشهورة بإفريقية، ومنهم أخذها عبد المؤمن بن علي.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض بهاء الدولة على الفاضل وزيره، وأخذ ماله، واستوزر بهاء الدولة سابور بن أردشير، فأقام نحو شهرين، وفرق الأموال، ووقع بها للقواد قصداً ليضعف بهاء الدولة، ثم هرب إلى البطيحة، وبقي منصب الوزارة فارغاً، واستوزر أبو العباس بن سرجس.
وفيها استكتب القادر بالله أبا الحسن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان.
وفيها توفي أحمد بن إبراهيم بن محمد بن إسحاق أبو حامد بن أبي إسحاق المزكي، النيسابوري، في شعبان، وكان إماماً، ومولده سنة ثلاث وعشرين.
وفيها توفي علي بن عمر بن محمد بن الحسن أبو إسحاق الحميري، المعروف بالسكري، وبالحربي، وبالكيال، ومولده سنة ست وتسعين ومائتين.
وفيها توفي أبو الأغر دبيس بن عفيف الأسدي بخوزستان؛ وأبو طالب محمد بن علي بن عطية المكي، صاحب قوت القلوب، روي أنه صنف قوت القلوب وكان قوته عروق البردي.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وثلاثمائة
ذكر موت الأمير نوح بن منصور
وولاية ابنه منصورفي هذه السنة توفي الأمير الرضي نوح بن منصور الساماني في رجب، واختل بموته ملك آل سامان، وضعف أمرهم ضعفاً ظاهراً، وطمع فيهم أصحاب الأطراف، فزال ملكهم بعد مدةٍ يسيرة.
ولما توفي قام بالملك بعده ابنه أبو الحرث منصور بن نوح، وبايعه الأمراء والقواد وسائر الناس، وفرق فيهم بقايا الأموال، فاتفقوا على طاعته. وقام بأمر دولته وتدبيرها بكتوزون. ولما بلغ خبر موته إلى ايلك خان سار إلى سمرقند، وانضم إليه فائق الخاصة، فسيره جريدة إلى بخارى، فلما سمع بمسيره الأمير منصور تحير في أمره، وأعجله عن التجهز، فسار عن بخارى، وقطع النهر، ودخل فائق بخارى، وأظهر أنه إنما قصد المقام بخدمة الأمير منصور، رعايةً لحق أسلافه عليه، إذ هو مولاهم، وأرسل إليه مشايخ بخارى ومقدمهم في العود إلى بلده وملكه، وأعطاه من نفسه ما يطمئن إليه من العهود والمواثيق، فعاد إليها ودخلها وولي فائق أمره وحكم في دولته، وولي بكتوزون إمرة الجيوش بخراسان.
وكان محمود بن سبكتكين حينئذ مشغولاً بمحاربة أخيه إسماعيل، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وسار بكوتوزن إلى خراسان فوليها، واستقرت القواعد بها.
ذكر موت سبكتكين وملك ولده إسماعيلوفي هذه السنة توفي ناصر الدولة سبكتكين في شعبان، وكان مقامه ببلخ، وقد ابتنى بها دوراً ومساكن، فمرض، وطال مرضه، وانزاح إلى هواء غزنة، فسار عن بلخ إليها، فمات في الطريق، فنقل ميتاً إلى غزنة ودفن فيها، وكانت مدة ملكه نحو عشرين سنة.
وكان عادلاً، خيراً، كثير الجهاد، حسن الاعتقاد، ذا مروة تامة، وحسن عهد ووفاء، لا جرم بارك الله في بيته، ودام ملكهم مدة طويلة جازت مدة ملك السامانية والسلجوقية وغيرهم.
وكان ابنه محمود أول من لقب بالسلطان، ولم يلقب به أحدٌ قبله.
ولما حضرته الوفاة عهد إلى ولده إسماعيل بالملك بعده، فلما مات بايع الجند لإسماعيل، وحلفوا له، وأطلق لهم الأموال، وكان أصغر من أخيه محمود، فاستضعفه الجند، فاشتطوا في الطلب حتى أفنى الخزائن التي خلفها أبوه.
ذكر استيلاء أخيه محمود بن سبكتكين على الملكلما توفي سبكتكين، وبلغ الخبر إلى ولده يمين الدولة محمود بنيسابور، جلس للعزاء، ثم أرسل إلى أخيه إسماعيل يعزيه بأبيه، ويعرفه أن أباه إنما عهد إليه لبعده عنه، ويذكره ما يتعين من تقديم الكبير، ويطلب منه الوفاق، وإنفاذ ما يخصه تركة أبيه. فلم يفعل، وترددت الرسل بينهما فلم تستقر القاعدة. فسار محمود عن نيسابور إلى هراة عازماً على قصد أخيه بغزنة، واجتمع بعمه بغراجق بهراة، فساعده على أخيه إسماعيل، وسار نحو بست، وبها أخوه نصر، فتبعه وأعانه وسار معه إلى غزنة.
وبلغ الخبر إلى إسماعيل، وهو ببلخ، فسار عنها مجداً، فسبق أخاه محموداً إليها؛ وكان الأمراء الذين مع إسماعيل كاتبوا أخاه محموداً يستدعونه، ووعدوه الميل إليه، فجد في المسير، والتقى هو وإسماعيل بظاهر غزنة، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم إسماعيل وصعد إلى قلعة غزنة فاعتصم بها، فحصره أخوه محمود واستنزله بأمان. فلما نزل إليه أكرمه، وأحسن إليه، وأعلى منزلته، وشركه في ملكه وعاد إلى بلخ واستقامت الممالك له.
وكانت مدة ملك إسماعيل سبعة أشهر، وهو فاضل، حسن المعرفة، له نظم ونثر، وخطب في بعض الجمعات، فكان يقول بعض الخطبة للخليفة: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَني مِنْ تَأوِيلِ الأحَادِيثِ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أنْتَ وَلِيِّي في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، تَوَفَّنيِ مُسْلِماً وَأَلْحِقْنيِ بِالصَّالحِيِنَ) يوسف: 101.
ذكر وفاة فخر الدولة بن بويه
وملك ابنه مجد الدولةفي هذه السنة توفي فخر الدولة أبو الحسن علي بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه بقلعة طبرق، في شعبان.
وكان سبب ذلك أنه أكل لحماً مشوياً، وأكل بعده عنباً، فأخذه المغص، ثم اشتد مرضه فمات منه. فلما مات كانت مفاتيح الخزائن بالري عند أم ولده مجد الدولة، فطلبوا له كفناً فلم يجدوه، وتعذر النزول إلى البلد لشدة شغب الديلم، فاشتروا له من قيم الجامع ثوباً كفنوه فيه، وزاد شغب الجند فلم يمكنهم دفنه فبقي حتى أنتن ثم دفنوه.
وحين توفي قام بملكه بعده ولده مجد الدولة أبو طالب رستم، وعمره أربع سنين، أجلسه الأمراء في الملك، وجعلوا أخاه شمس الدولة بهمذان وقرميسين إلى حدود العراق. وكان المرجع إلى والدة أبي طالب في تدبير الملك، وعن رأيها يصدرون، وبين يديها، في مباشرة الأعمال، أبو طاهر صاحب فخر الدولة، وأبو العباس الضبي الكافي.
ذكر وفاة مأمون بن محمد
وولاية ابنه عليوفيها توفي مأمون بن محمد، صاحب خوارزم والجرجانية، فلما توفي اجتمع أصحابه على ولده علي وبايعوه، واستقر له ما كان لأبيه، وراسل يمين الدولة محمود بن سبكتكين، وخطب إليه أخته، فزوجه، واتفقت كلمتهما وصارا يداً واحدةً إلى أن مات علي وقام بعده أخوه أبو العباس مأمون بن مأمون، واستقر في الملك، فأرسل إلى يمين الدولة يخطب أخته أيضاً، فأجابه إلى ذلك، وزوجه، فداما أيضاً على الاتفاق والاتحاد مدة.
وسيرد من أخباره معه سنة سبع وأربعمائة إن شاء الله تعالى ما تقف عليه.
ذكر وفاة العلاء بن الحسن
وما كان بعدهفي هذه السنة توفي أبو القاسم العلاء بن الحسن نائب صمصام الدولة بخوزستان، وكان موته بعسكر مكرم، وكان شهماً، شجاعاً، حسن التدبير، فأنفذ صمصام الدولة أبا علي بن أستاذ هرمز، ومعه المال، ففرقه في الديلم، وسار إلى جنديسابور فدفع أصحاب بهاء الدولة عنها، وجرت له معهم وقائع كثيرة كان الظفر فيها له، وأزاح الأتراك عن خوزستان، وعادوا إلى واسط، وخلت لأبي علي البلاد، ورتب العمال، وجبى الأموال، وكاتب أتراك بهاء الدولة واستمالهم، فأتاه بعضهم فأحسن إليهم، واستمر حال أبي علي في أعمال خوزستان.
ثم إن أبا محمد بن مكرم والأتراك عادوا من واسط، واستعد أبو علي للحرب، وجرى بينهم وقائع. ولم يكن للأتراك قوة على الديلم، فعزموا على العود إلى واسط ثانياً، فاتفق مسير بهاء الدولة من البصرة إلى القنطرة البيضاء، وكان ما نذكره إن شاء الله.
ذكر القبض على علي بن المسيب
وما كان بعد ذلكفي هذه السنة قبض المقلد على أخيه علي.
وكان سبب ذلك ما ذكرناه من الاختلاف الواقع بين أصحابهما بالموصل، واشتغل المقلد بما ذكرناه بالعراق، فلما خلا وجهه وعاد إلى الموصل عزم على الانتقام من أصحاب أخيه، ثم خافه، فأعمل الحيلة في قبض أخيه، فأحضر عسكره من الديلم والأكراد وأعلمهم أنه يريد قصد دقوقا، وحلفهم على الطاعة، وكانت داره ملاصقة دار أخيه، فنقب في الحائط ودخل إليه وهو سكران، فأخذه وأدخله الخزانة، وقبض عليه، وأرسل إلى زوجته يأمرها بأخذ ولديه قرواش وبدران واللحاق بتكريت، قبل أن يسمع أخوه الحسن الخبر، ففعلت ذلك، وخلصت، وكانت في الحلة التي له على أربعة فراسخ من تكريت.
وسمع الحسن الخبر، فبادر إلى الحلة ليقبض أولاد أخيه، فلم يجدهم؛ وأقام المقلد بالموصل يستدعي رؤساء العرب ويخلع عليهم، فاجتمع عنده زهاء ألفي فارس، وسار الحسن في حلل أخيه، ومعه أولاد أخيه علي وحرمه، ويستنفرهم على المقلد، فاجتمع معهم نحو عشرة آلاف، وراسل المقلد يؤذنه بالحرب، فسار عن الموصل، وبقي بينهم منزلٌ واحدٌ، ونزل بإزاء العلث، فحضره وجوه العرب، واختلفوا عليه، فمنهم من أشار بالحرب ومنهم رافع بن محمد بن مقن؛ ومنهم من أشار بالكف عن القتال، وصلة الرحم، ومنهم غريب بن محمد بن مقن، وتنازع هو وأخوه.
فبينما هم في ذلك قيل لمقلد: إن أختك رهيلة بنت المسيب تريد لقاءك وقد جاءتك؛ فركب وخرج إليها، فلم تزل معه حتى أطلق أخاه علياً، ورد إليه ماله ومثله معه، وأنزله في خيم ضربها له. فسر الناس بذلك، وتحالفا، وعاد علي إلى حلته.
وعاد المقلد إلى الموصل، وتجهز للمسير إلى أبي الحسن علي بن مزيد الأسدي لأنه تعصب لأخيه علي، وقصد ولاية المقلد بالأذى فسار إليه.
ولما خرج عليٌ من محبسه اجتمع العرب إليه، وأشاروا عليه بقصد أخيه المقلد، فسار إلى الموصل، وبها أصحاب المقلد، فامتنعوا عليه، فافتتحها، فسمع المقلد بذلك، فعاد إليه، واجتاز في طريقه بحلة أخيه الحسن، فخرج إليه، ورأى كثرة عسكره، فخاف على أخيه علي منه، فأشار عليه بالوقوف ليصلح الأمر، وسار إلى أخيه علي وقال له: إن الأعور، يعني المقلد، قد أتاك بحده وحديده وأنت غافل؛ وأمره بإفساد عسكر المقلد، فكتب إليهم، فظفر المقلد بالكتب فأخذها وسار مجداً إلى الموصل، فخرج إليه أخواه علي والحسن وصالحاه، ودخل الموصل وهما معه.
ثم خاف علي فهرب من الموصل ليلاً، وتبعه الحسن، وترددت الرسل بينهم، فاصطلحوا على أن يدخل أحدهما البلد في غيبة الآخر، وبقوا كذلك إلى سنة تسع وثمانين.
ومات علي سنة تسعين وقام الحسن مقامه، فقصده المقلد ومعه بنو خفاجة، فهرب الحسن إلى العراق، وتبعه المقلد فلم يدركه فعاد.
ولما استقر أمر المقلد، بعد أخيه علي، سار إلى بلد علي بن مزيد الأسدي فدخله ثانية، والتجأ ابن مزيد إلى مهذب الدولة، فتوسط ما بينه وبين المقلد، وأصلح الأمر معه، وسار المقلد إلى دقوقا فملكها.
ذكر ملك جبرئيل دقوقافي هذه السنة ملك جبرئيل بن محمد دقوقا. وجبرئيل هذا كان من الرجالة الفرس ببغداد، وخد مهذب الدولة بالبطيحة، فهم بالغزو، وجمع جمعاً كثيراً، واشترى السلاح وسار فاجتاز في طريقه بدقوقا، فوجد المقلد بن المسيب يحاصرها، فاستغاث أهلها بجبريل فحماهم ومنع عنهم.
وكان بدقوقا رجلان نصرانيان قد تمكنا في البلد، وحكما فيه، واستعبدا أهله، فاجتمع جماعة من المسلمين إلى جبرئيل وقالوا له: إنك تريد الغزو، ولست تدري أتبلغ غرضاً أم لا، وعندنا من هذين النصرانيين من قد تعبدنا، وحكم علينا، فلو أقمت عندنا، وكفيتنا أمرهما، ساعدناك على ذلك. فأقام وقبض عليهما، وأخذ مالهما، وقوي أمره، فملك البلد في شهر ربيع الأول، وثبت قدمه، وأحسن معاملة أهل البلد، وعدل فيهم، وبقي مدة على اختلاف الأحوال.
ثم ملكها المقلد، وملكها بعده محمد بن عناز، ثم أخذها بعده قرواش، ثم انتقلت إلى فخر الدولة أبي غالب، فعاد جبرئيل هذا حينئذ إلى دقوقا، واجتمع مع أمير من الأكراد يقال له موصك بن جكويه، ودفعا عمال فخر الدولة عنها وأخذاها، فقصدها بدران بن المقلد وغلبهما وأخذها منهما.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خرج أبو الحسن علي بن مزيد على طاعة بهاء الدولة، فسير إليه عسكراً، فهرب من بين أيديهم إلى مكان لا يقدرون على الوصول إليه فيه، ثم أرسل بهاء الدولة وأصلح حاله معه وعاد إلى طاعته.
وفيها توفي أبو الوفاء محمد بن المهندسي الحاسب.
وفيها، في المحرم، توفي عبيدالله بن محمد بن حمران أبو عبدالله العكبري المعروف بابن بطة الحنبلي، وكان مولده في شوال سنة أربع وثلاثمائة، وكان زاهداً، عابداً، عالماً، ضعيفاً في الرواية.
وفيها، في ذي القعدة، توفي أبو الحسين محمد بن أحمد بن إسماعيل المعروف بابن سمعون الواعظ، الزاهد، له كرامات، وكان مولده سنة ثلاثمائة.
وفيها، في تاسع ذي الحجة، توفي الحسن بن عبدالله بن سعيد أبو أحمد العسكري، الراوية، العلامة، صاحب التصانيف الكثيرة في الأدب، واللغة، والأمثال، وغيرها.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة
ذكر عود أبي القاسم السيمجوري إلى نيسابورقد ذكرنا مسير أبي القاسم بن سيمجور أخي أبي علي إلى جرجان ومقامه بها. فلما مات فخر الدولة أقام عنده ولده مجد الدولة، واجتمع عنده جماعة كثيرة من أصحاب أخيه. وكان قد أرسل إلى شمس المعالي يستدعيه من نيسابور ليسلمها إليه، فسار إليه حتى وافى جرجان، فلما بلغها رأى أبا القاسم قد سار عنها، فعاد شمس المعالي إلى نيسابور.
فكتب فائق من بخارى إلى أبي القاسم يغريه ببكتوزون، ويأمره بقصد خراسان، وإخراج بكتوزون عنها لعدواة بينهما. فسار أبو القاسم عن جرجان نحو نيسابور، وسر سرية إلى أسفرايين، وبها عسكر لبكتوزون، فقاتلوهم وأجلوهم عن أسفرايين، واستولى أصحاب أي القاسم عليها، وسار أبو القاسم إلى نيسابور، فالتقى هو وبكتوزون بظاهرها في ربيع الأول، واقتتلوا واشتد القتال بينهم فانهزم أبو القاسم وقتل من أصحابه وأسر خلق كثير.
وسار أبو القاسم إلى قهستان وأقام بها حتى اجتمع إليه أصحابه، وسار إلى بوشنج واحتوى عليها، وتصرف فيها، فسار إليه بكتوزون، وترددت الرسل بينهما، حتى اصطلحا وتصاهرا، وعاد بكتوزون إلى نيسابور.
ذكر استيلاء محمود بن سبكتكين على نيسابور وعوده عنهالما فرغ محمود من أمر أخيه، وملك غزنة، وعاد إلى بلخ رأى بكتوزون قد ولي خراسان، على ما ذكرناه، فأرسل إلى الأمير منصور بن نوح يذكر طاعته والمحاماة عن دولته، ويطلب خراسان، فأعاد الجواب يعتذر عن خراسان ويأمره بأخذ ترمذ وبلخ وما وراءها من أعمال بست وهراة، فلم يقنع بذلك، وأعاد الطلب، فلم يجبه إلى ذلك، فلما تيقن المنع سار إلى نيسابور، وبها بكتوزون، فلما بلغه خبر مسيره نحوه رحل عنها، فدخلها محمود وملكها. فلما سمع الأمير منصور بن نوح سار عن بخارى نحو نيسابور، فلما علم محمود بذلك سار عن نيسابور إلى مرو الروذ، ونزل عند قنطرة راعول ينتظر ما يكون منهم.
ذكر عود قابوس إلى جرجانفي هذه السنة عاد شمس المعالي قابوس بن وشمكير إلى جرجان وملكها؛ ولما ملك فخر الدولة بن بويه جرجان والري أراد أن يسلم جرجان إلى قابوس، فرده عن ذلك الصاحب بن عباد، وعظمها في عينه، فأعرض عن الذي أراده، ونسي ما كان بينهما من الصحبة بخراسان، وأنه بسببه خرجت البلاد عن يد قابوس، والملك عقيم.
وقد ذكرنا كيف أخذت منه، ومقامه بخراسان، وإنفاذ ملوك السامانية الجيوش في نصرته مرة بعد أخرى، فلم يقدر الله تعالى عود ملك إليه.
ولما ولي سبكتكين خراسان اجتمع به ووعده أن يسير معه الجيوش ليرده إلى مملكته، فمضى إلى بلخ ومرض ومات.
فلما كان هذه السنة، بعد موت فخر الدولة، سير شمس المعالي قابوس الأصبهبذ شهريار بن شروين إلى جبل شهريار، وعليه رستم بن المرزبان، خال مجد الدولة بن فخر الدولة، فاقتتلا، فانهزم رستم، واستولى الأصبهبذ على الجبل، وخطب لشمس المعالي، وكان باتي بن سعيد بناحية الاستندارية، وله ميل إلى شمس المعالي، فسار إلى آمل، وبها عسكر لمجد الدولة، فطردهم عنها واستولى عليها، وخطب لقابوس، وكتب إليه بذلك.
ثم إن أهل جرجان كتبوا إلى قابوس يستدعونه، فسار إليهم من نيسابور، وسار الأصبهبذ وباتي بن سعيد إلى جرجان، وبها عسكر لمجد الدولة، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم عسكر مجد الدولة إلى جرجان، فلما بلغوها صادفوا مقدمة قابوس قد بلغتها، فأيقنوا بالهلاك، وانهزموا من أصحاب قابوس هزيمة ثانية، وكانت قرحاً على قرح، ودخل شمس المعالي جرجان في شعبان من هذه السنة.
وبلغ المنهزمون الري، فجهزت العساكر من الري نحو جرجان، فساروا وحصروها، فغلت الأسعار بالبلد، وضاقت الأمور بالعسكر أيضاً، وتوالت عليهم الأمطار والرياح، فاضطروا إلى الرحيل، فتبعهم شمس المعالي فلحقهم وواقعهم فاقتتلوا، وانهزم عسكر الري وأسر من أعيانهم جماعة كثيرة، وقتل أكثر منهم، فأطلق شمس المعالي الأسرى، واستولى على تلك الأعمال ما بين جرجان وأستراباذ.
ثم إن الأصبهبذ حدث نفسه بالاستقلال، والتفرد عن قابوس، واغتر بما اجتمع عنده من الأموال والذخائر، فسارت إليه العساكر من الري، وعليها المرزبان، خال مجد الدولة، فهزموا الأصبهبذ وأسروه، ونادوا بشعار شمس المعالي لوحشة كانت عند المرزبان من مجد الدولة، وكتب إلى شمس المعالي بذلك، وانضافت مملكة الجبل جميعها إلى ممالك جرجان وطبرستان، فولاها شمس المعالي ولده منوجهر، ففتح الرويان وسالوس، وراسل قابوس يمين الدولة محموداً، وهاداه، وصالحه، واتفقا على ذلك.
ذكر مسير بهاء الدولة إلى واسطفي هذه السنة عاد أبو علي بن إسماعيل إلى طاعة بهاء الدولة، وهو بواسط، فوزر له، ودبر أمره، وأشار عليه بالمسير إلى أبي محمد بن مكرم ومن معه من الجند ومساعدتهم، ففعل ذلك، وسار على كرهٍ وضيقٍ، فنزل بالقنطرة البيضاء، وثبت أبو علي بن أستاذ هرمز وعسكره، وجرى لهم معه وقائع كثيرة.
وضاق الأمر ببهاء الدولة، وتعذرت عليه الأقوات، فاستمد بدر بن حسنويه، فأنفذ إليه شيئاً قام ببعض ما يريده، وأشرف بهاء الدولة على الخطر، وسعى أعداء أبي علي بن إسماعيل به حتى كاد يبطش به، فتجدد من أمر ابني بختيار وقتل صمصام الدولة ما يأتي ذكره، وأتاه الفرج من حيث لم يحتسب، وصلح أمر أبي علي عنده، واجتمعت الكلمة عليه، وسيأتي شرح ذلك، إن شاء الله تعالى.
ذكر قتل صمصام الدولةفي هذه السنة، في ذي الحجة، قتل صمصام الدولة بن عضد الدولة.
وسبب ذلك أن جماعة كثيرة من الديلم استوحشوا من صمصام الدولة لأنه أمر بعرضهم، وإسقاط من ليس بصحيح النسب، فأسقط منهم مقدار ألف رجل، فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون.
واتفق أن أبا القاسم وأبا نصر ابني عز الدولة بختيار كانا مقبوضين، فخدعا الموكلين بهما في القلعة، فأفرجوا عنهما، فجمعا لفيفاً من الأكراد، واتصل خبرهما بالذين أسقطوا من الديلم، فأتوهم، وقصدوا إلى أرجان، فاجتمعت عليها العساكر، وتحير صمصام الدولة، ولم يكن عنده من يدبره.
وكان أبو جعفر أستاذ هرمز مقيماً بفسا، فأشار عليه بعض من عنده بتفريق ما عنده من المال في الرجال، والمسير إلى صمصام الدولة، ، وأخذه إلى عسكره بالأهواز، وخوفه إن لم يفعل ذلك. فشح بالمال، فثار به الجند ونهبوا داره وهربوا، فاختفى، فأخذ وأتي به إلى ابني بختيار، فحبس، ثم احتال فنجا.
وأما صمصام الدولة فإنه أشار عليه أصحابه بالصعود إلى القلعة التي على باب شيراز والامتناع بها إلى أن يأتي عسكره ومن يمنعه، فأراد الصعود إليها، فلم يمكنه المستحفظ بها، وكان معه ثلاثمائة رجل، فقالوا له: الرأي أننا نأخذك ووالدتك، ونسير إلى أبي علي بن أستاذ هرمز؛ وأشار بعضهم بقصد الأكراد وأخذهم والتقوي بهم، ففعل ذلك، وخرج معهم بخزائنه وأمواله، فنهبوه، وأرادوا أخذه فهرب وسار إلى الدودمان، على مرحلتين من شيراز.
وعرف أبو نصر بن بختيار الخبر، فبادر إلى شيراز، ووثب رئيس الدودمان، واسمه طاهر، بصمصام الدولة فأخذه، وأتاه أبو نصر بن بختيار وأخذه منه فقتله في ذي الحجة، فلما حمل رأسه إليه قال: هذه سنة سنها أبوك، يعني ما كان من قتل عضد الدولة بختيار.
وكان عمر صمصام الدولة خمساً وثلاثين سنة وسبعة أشهر، ومدة إمارته بفارس تسع سنين وثمانية أيام، وكان كريماً حليماً. وأما والدته فسلمت إلى بعض قواد الديلم، فقتلها وبنى عليها دكة في داره، فلما ملك بهاء الدولة فارس أخرجها ودفنها في تربة بني بويه.
ذكر هرب ابن الوثابفي هذه السنة هرب أبو عبدالله بن جعفر المعروف بابن الوثاب من الاعتقال في دار الخلافة.
وكان هذا الرجل يقرب بالنسب من الطائع، فلما خلع الطائع هرب هذا وصار عند مهذب الدولة، فأرسل القادر بالله في أمره، فأخرجه، فسار إلى المدائن، وأتى خبره إلى القادر فأخذه وحبسه، فهرب هذه السنة، ومضى إلى كيلان، وادعى أنه هو الطائع لله، وذكر من أمور الخلافة ما كان يعرفه، وزوجه محمد بن العباس، مقدم كيلان، وشد منه، وأقام له الدعوة، وأطاعه أهل نواحٍ أخر، وأدوا إليه العشر على عادتهم.
وورد من هؤلاء القوم جماعة يحجون، فأحضرهم القادر وكشف لهم حاله، وكتب على أيديهم كتباً في المعنى، فلم يقدح ذلك فيه. وكان أهل كيلان يرجعون إلى القاضي أبي القاسم بن كج، فكوتب من بغداد في المعنى، فكشف لهم الأمر، فأخرجوا أبا عبدالله عنهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عظم أمر بدر بن حسنويه، وعلا شأنه، ولقب، من ديوان الخليفة، ناصر الدين والدولة، وكان كثير الصدقات بالحرمين، ويكثر الخرج على العرب بطريق مكة ليكفوا عن أذى الحجاج، ومنع أصحابه من الفساد وقطع الطريق، فعظم محله وسار ذكره.
وفيها نظر أبو علي بن أبي الريان في الوزارة بواسط.
وفيها مات أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف الجكار.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وثلاثمائة
ذكر القبض على منصور بن نوح
وملك أخيه عبد الملكفي هذه السنة قبض على الأمير منصور بن نوح بن منصور الساماني، صاحب بخارى وما وراء النهر، وملك أخوه عبد الملك.
وسبب قبضه ما ذكرناه من قصد محمود بن سبكتكين بكتوزون بخراسان، وعوده عن نيسابور إلى مرو الروذ، فلما نزلها سار بكتوزون إلى الأمير منصور، وهو بسرخس، فاجتمع به فلم ير من إكرامه وبره ما كان يؤمله، فشكا ذلك إلى فائق، فقابله فائق بأضعاف شكواه، فاتفقا على خلعه من الملك، وإقامة أخيه مقامه، وأجابهما إلى ذلك جماعة من أعيان العسكر، فاستحضره بكتوزون بعلة الاجتماع لتدبير ما هم بصدده من أمر محمود، فلما اجتمعوا به قبضوا عليه، وأمر بكتوزون من سلمه فأعماه، ولم يراقب الله ولا إحسان مواليه، وأقاموا أخاه عبد الملك مقامه في الملك، وهو صبي صغير.
وكانت مدة ولاية منصور سنةً وسبعة أشهر. وماج الناس بعضهم في بعض، وأرسل محمود إلى فائق وبكتوزون يلومهما، ويقبح فعلهما، وقويت نفسه على لقائهما، وطمع في الاستقلال بالملك، فسار نحوهما عازماً على القتال.
ذكر استيلاء يمين الدولة محمود بن سبكتكين على خراسانلما قبض الأمير منصور سار محمود نحو فائق وبكتوزون، ومعهما عبد الملك ابن نوح، فلما سمعوا بمسيره ساروا إليه، فالتقوا بمرو آخر جمادى الأولى، واقتتلوا أشد قتالٍ رآه الناس إلى الليل، فانهزم بكتوزون وفائق ومن معهما.
فأما عبد الملك وفائق فإنهما لحقا ببخارى، وقصد بكتوزون نيسابور، وقصد أبو القاسم بن سيمجور قهستان، فرأى محمود أن يقصد بكتوزون وأبا القاسم، ويعجلهما عن الاجتماع والاحتشاد، فسار إلى طوس، فهرب منه بكتوزون إلى نواحي جرجان، فأرسل محمود خلفه أكبر قواده وأمرائه وهو أرسلان الجاذب في عسكر جرار، فاتبعه حتى ألحقه بجرجان، وعاد فاستخلفه محمود على طوس، وسار إلى هراة.
فلما علم بكتوزون بمسير محمود عن نيسابور عاد إليها فملكها، فقصده محمود، فأجفل من بين يديه إجفال الظليم، واجتاز بمرو فنهبها، وسار عنها إلى بخارى، واستقر ملك محمود بخراسان، فأزال عنها اسم السامانية، وخطب فيها للقادر بالله، وكان إلى هذا الوقت لا يخطب له فيها، إنما كان يخطب للطائع لله، واستقل بملكها منفرداً، وتلك سنة الله تعالى يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء.
وولى محمود قيادة جيوش خراسان أخاه نصراً، وجعله بنيسابور على ما كان يليه آل سيمجور للسامانية، وسار هو إلى بلخ، مستقر والده، فاتخذها دار ملكٍ، واتفق أصحاب الأطراف بخراسان على طاعته كآل فريغون، أصحاب الجوزجان، ونحن نذكرهم إن شاء الله تعالى، وكالشار الشاه، صاحب غرشستان، ونحن نذكر ها هنا أخبار هذا الشار، فاعلم أن هذا اللقب، وهو الشار، لقب كل من يملك بلاد غرشستان، ككسرى للفرس، وقيصر للروم، والنجاشي للحبشة، وكان الشار أبو نصر قد اعتزل الملك وسلمه إلى ولده الشاه، وفيه لوثة وهوج، واشتغل والده أبو نصر بالعلوم ومجالسة العلماء.
ولما عصى أبو علي بن سيمجور على الأمير نوح أرسل إلى غرشستان من حصرها، وأجلى عنها الشاه الشار ووالده أبا نصر، فقصدا حصناً منيعاً في آخر ولايتهما، فتحصنا به إلى أن جاء سبكتكين إلى نصرة الأمير نوح، فنزلا إليه وأعاناه على أبي علي وعادا إلى ملكهما. فلما ملك الآن يمين الدولة محمود خراسان أطاعاه وخطبا له.
ثم إن يمين الدولة، بعد هذا، أراد الغزوة إلى الهند، فجمع لها وتجهز، وكتب إلى الشاه الشار يستدعيه ليشهد معه غزوته، فامتنع وعصى، فلما فرغ من غزوته سير إليه الجيوش ليملكوا بلاده، فلما دخلوا البلاد طلب والده أبو نصر الأمان، فأجيب إلى ذلك، وحمل إلى يمين الدولة فأكرمه، واعتذر أبو نصر بعقوق ولده، وخلافه عليه، فأمره بالمقام بهراة متوسعاً عليه إلى أن مات سنة اثنتين وأربعمائة.
وأما ولده الشاه فإنه قصد ذلك الحصن الذي احتمى به على أبي علي، فأقام به ومعه أمواله وأصحابه، فحصره عسكر يمين الدولة في حصنه، ونصبوا عليه المجانيق، وألحوا عليه بالقتال ليلاً ونهاراً، فانهدمت أسوار حصنه، وتسلق العسكر إليه، فلما أيقن بالعطب طلب الأمان، والعسكر يقاتله، فلم يزل كذلك حتى أخذ أسيراً، وحمل إلى يمين الدولة، فضرب تأديباً له، ثم أودع السجن إلى أن مات، وكان موته قبل موت والده.
ورأيت عدة مجلدات من كتاب التهذيب للأزهري في اللغة بخطه، وعليه ما هذه نسخته: يقول محمد بن أحمد بن الأزهري قرأ علي الشار أبو نصر هذا الجزء من أوله إلى آخره، وكتبه بيده صح. فهذا يدل على اشتغاله وعلمه بالعربية، فإن من يصحب مثل الأزهري، ويقرأ كتابه التهذيب، يكون فاضلاً.
ذكر انقراض دولة السامانية
وملك الترك ما وراء النهرفي هذه السنة انقرضت دولة آل سامان على يد محمود بن سبكتكين، وايلك الخان التركي، واسمه أبو نصر أحمد بن علي، ولقبه شمس الدولة.
فأما محمود فإنه ملك خراسان، كما ذكرناه، وبقي بيد عبد الملك بن نوح ما وراء النهر، فلما انهزم من محمود قصد بخارى واجتمع بها هو وفائق وبكتوزون وغيرهما من الأمراء والأكابر، فقويت نفوسهم، وشرعوا في جمع العساكر، وعزموا على العود إلى خراسان، فاتفق أن مات فائق، وكان موته في شعبان من هذه السنة، فلما مات ضعفت نفوسهم، ووهنت قوتهم، فإنه كان هو المشار إليه من بينهم، وكان خصياً من موالي نوح بن نصر.
وبلغ خبرهم إلى ايلك الخان، فسار في جمع الأتراك إلى بخارى، وأظهر لعبد الملك المودة والموالاة، والحمية له، فظنوه صادقاً، ولم يحترسوا منه، وخرج إليه بكتوزون وغيره من الأمراء والقواد، فلما اجتمعوا قبض عليهم، وسار حتى دخل بخارى يوم الثلاثاء عاشر ذي القعدة من هذه السنة، فلم يدر عبد الملك ما يصنع لقلة عدده، فاختفى ونزل ايلك الخان دار الإمارة، وبث الطلب والعيون على عبد الملك، حتى ظفر به، فأودعه بافكند فمات بها، وكان آخر ملوك السامانية، وانقضت دولتهم على يده كأن لم تغن بالأمس، كدأب الدولة قبلها، إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار. وحبس معه أخوه أبو الحرث منصور بن نوح الذي كان في الملك قبله، وأخواه أبو إبراهيم، إسماعيل، وأبو يعقوب ابنا نوح، وعماه أبو زكرياء وأبو سليمان، وغيرهم من آل سامان، وأفرد كل واحد منهم في حجرة.
وكانت دولتهم قد انتشرت وطبقت كثيراً من الأرض من حدود حلوان إلى بلاد الترك، بما وراء النهر، وكانت من أحسن الدولة سيرةً وعدلاً، وعبد الملك هذا هو عبد الملك بن نوح بن منصور بن نوح بن نصر بن أحمد بن إسماعيل كلهم ملكوا، وكان منهم من ليس مذكورا في هذا النسب؛ وعبد الملك بن نوح بن نصر ملك قبل أخيه منصور بن نوح المذكور، وكان منهم أيضاً منصور بن نوح بن منصور أخو عبد الملك هذا الأخير زال الملك في ولايته ولي قبله.
ذكر ملك بهاء الدولة فارس وخوزستانفي هذه السنة دخل الديلم الذين مع أبي علي بن أستاذ هرمز بالأهواز في طاعة بهاء الدولة.
وكان سبب ذلك أن ابني بختيار لما قتلا صمصام الدولة، كما تقدم، وملكا بلاد فارس، كتاب إلى أبي علي بن أستاذ هرمز بالخبر، ويذكران تعويلهما عليه، واعتضادهما به، ويأمرانه بأخذ اليمين لهما على من معه من الديلم، والمقام بمكانه، والجد بمحاربة بهاء الدولة. فخافهما أبو علي لما كان أسلفه إليهما من قبل أخويهما وأسرهما، فجمع الديلم الذين معه وأخبرهم الحال، واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا بطاعة ابني بختيار ومقاتلة بهاء الدولة، فلم يوافقهم على ذلك، ورأى أن يراسل بهاء الدولة ويستميله ويحلفه لهم، فقالوا: إنا نخاف الأتراك، وقد عرفت ما بيننا وبينهم؛ فسكت عنهم وتفرقوا.
وراسله بهاء الدولة يستميله، ويبذل له وللديلم الأمان والإحسان، وترددت الرسل، وقال بهاء الدولة: إن ثأري وثأركم عند من قتل أخي، فلا عذر لكم في التخلف عن الأخذ بثأره؛ واستمال الديلم فأجابوه إلى الدخول في طاعته، وأنفذوا جماعة من أعيانهم إلى بهاء الدولة فحلفوه واستوثقوا منه، وكبتوا إلى أصحابهم المقيمين بالسوس بصورة الحال.
وركب بهاء الدولة من الغد إلى باب السوس، رجاء أن يخرج من فيه إلى طاعته، فخرجوا إليه في السلاح، وقاتلوه قتالاً شديداً لم يقاتلوا مثله، فضاق صدره، فقيل له إن هذه عادة الديلم أن يشتد قتالهم عند الصلح، لئلا يظن بهم، ثم كفوا عن القتال وأرسلوا من يحلفه لهم، ونزلوا إلى خدمته، واختلط العسكران، وساروا إلى الأهواز، فقرر أبو علي بن إسماعيل أمورها، وقسم الإقطاعات بين الأتراك والديلم، ثم ساروا إلى رامهرمز فاستولوا عليها وعلى أرجان وغيرها من بلاد خوزستان.
وسار أبو علي بن إسماعيل إلى شيراز، فنزل بظاهرها، فخرج إليه ابنا بختيار في أصحابهما، فحاربوه، فلما اشتدت الحرب مال بعض من معهما إليه، ودخل بعض أصحابه البلد، ونادوا بشعار بهاء الدولة، وكان النقيب أبو أحمد الموسوي بشيراز قد وردها رسولاً من بهاء الدولة إلى صمصام الدولة، فلما قتل صمصام الدولة كان بشيراز، فلما سمع النداء بشعار بهاء الدولة ظن أن الفتح قد تم، فقصد الجامع، وكان يوم الجمعة، وأقام الخطبة لبهاء الدولة.
ثم عاد ابنا بختيار، واجتمع إليهما أصحابهما، فخاف النقيب، فاختفى، وحمل في سلةٍ إلى أبي علي بن إسماعيل؛ ثم إن أصحاب ابني بختيار قصدوا أبا علي وأطاعوه، فاستولى على شيراز، وهرب ابنا بختيار، فأما أبو نصر فإنه لحق ببلاد الديلم، وأما الثاني، وهو أبو القاسم، فلحق ببدر بن حسنويه، ثم قصد البطيحة.
ولما ملك أبو علي شيراز كتب إلى بهاء الدولة بالفتح، فسار إليها ونزلها، فلما استقر بها أمر بنهب قرية الدودمان وإحراقها، وقتل كل من كان بها من أهلهم فاستأصلهم، وأخرج أخاه صمصام الدولة وجد أكفانه، وحمل إلى التربة بشيراز فدفن بها، وسير عسكراً مع أبي الفتح أستاذ هرمز إلى كرمان فملكها وأقام بها نائباً عن بهاء الدولة. إلى ها هنا آخر ما في ذيل الوزير أي شجاع، رحمه الله.
ذكر مسير باديس إلى زناتةفي هذه السنة، منتصف صفر، أمر باديس بن المنصور، صاحب إفريقية، نائبه محمد بن أبي العرب بالتجهز والاستكثار من العساكر والعدد، والمسير إلى زناتة.
وسبب ذلك أن عمه يطوفت كتب إليه يعلمه أن زيري بن عطية الملقب بالقرطاس، وقد تقدم ذكره، نزل عليه بتاهرت محارباً، فأمر محمداً بالتجهز إليه، فسار في عساكر كثيرة حتى وصل إلى أشير، وبها حماد بن يوسف عم باديس، وكان قد أقطعه إياها باديس، فرحل حماد معه، فوصل إلى تاهرت، واجتمعا بيطوفت، وبينهم وبين زيري بن عطية مرحلتان، فزحفوا إليه، فكانت بينهما حروب عظيمة.
وكان أكثر عسكر حماد يكرهونه لقلة عطائه، فلما اشتد القتال انهزموا، فتبعهم جميع العسكر، فأراد محمد بن أبي العرب أن يرد الناس، فلم يقدر على ذلك، وتمت الهزيمة، وملك زيري بن عطية مالهم وعددهم ورجعت العساكر إلى أشير.
وبلغ خبر الهزيمة إلى باديس، فرحل، فلما قارب طبنة بعث في طلب فلفل بن سعيد، فخاف، فأرسل يعتذر إليه، وطلب عهداً بإقطاع مدينة طبنة، فكتب له، وسار باديس، فلما أبعد قصد فلفل مدينة طبنة، وغلب على ما حولها، وقص باغاية فحصرها، وباديس سائر إلى أشير. فلما سمع زيري ابن عطية بأنه قد قرب منه رحل إلى تاهرت، فقصده باديس، فسار زيري إلى العرب. فلما سمع باديس برحيله استعمل عمه يطوفت على أشير، وأعطاه أموالاً وعدداً، وعاد إلى أشير، فبلغه ما فعل فلفل بن سعيد، فأرسل إليه العساكر، وبقي يطوفت ومعه أعمامه وأولاد أعمامه، فلما أبعد عنهم باديس عصوا، وخالفوا عليه، منهم ماكسن، وزاوي وغيرهما، وقبضوا على يطوفت، وأخذوا جميع ما معه من المال، فهرب من أيديهم وعاد إلى باديس.
وأما فلفل بن سعيد فإنه لما وصل إليه العسكر المسير إلى قتاله لقيهم وقاتلهم وهزمهم، وقتل فيهم، وسار يطلب القيروان. فسار عند ذلك باديس إلى باغاية، فلقيه أهلها، فعرفوه ما قاسوه من قتال فلفل، وأنه حصرهم خمسة وأربعين يوماً، فشكرهم، ووعدهم الإحسان، وسار يطلب فلفلاً، فوصل إلى مرمجنة، وسار فلفل إليه في جمع كثير من البربر وزناتة، ومعه كل من في نفسه حقد على باديس وأهل بيته، فالتقوا بوادي اغلان، وكان بينهم حرب عظيمة لم يسمع بمثلها، وطال القتال بينهم، وصبر الفريقان، ثم أنزل الله تعالى نصره على باديس وصنهاجة، وانهزم البربر وزناتة هزيمة قبيحة، وانهزم فلفل فأبعد في الهزيمة، وقتل من زويلة تسعة آلاف قتيل سوى من قتل من البربر، وعاد باديس إلى قصره، وفرح أهل القيروان لأنهم خافوا أن يأتيهم فلفل.
ثم إن عمومة باديس اتصلوا بفلفل، وصاروا معه على باديس، فلما سمع باديس بذلك سار إليهم، فلما وصل قصر الإفريقي وصله أن عمومته فارقوا فلفلاً، ولم يبق معه سوى ماكسن بن زيري، وذلك أول سنة تسعين وثلاثمائة.
ذكر ملك الحاكم طرابلس الغرب
وعودها إلى باديس
كان لباديس نائب بطرابلس الغرب، فكاتب الحاكم بأمر الله بمصر، وطلب أن يسلم إليه طرابلس ويلتحق به، فأرسل إليه الحاكم يأنس الصقلي، وكان خصيصاً بالحاكم، وهو المتولي لبلاد برقة، فوصل يأنس وتسلم طرابلس وأقام بها، وذلك سنة تسعين.
فأرسل باديس إلى يأنس يسأله عن سبب وصوله إلى طرابلس، وقال له: إن كان الحاكم استعملك عليها فأرسل العهد لأقف عليه. فقال يأنس: إنما أرسلني معيناً ونجدةً إن احتيج إي، ومثلي لا يطلب منه عهد بولايةً لمحلي من دولة الحاكم. فسير إليه جيشاً، فلقيهم يأنس خارج طرابلس، فقتل في المعركة، وانهزم أصحابه ودخلوا طرابلس فتحصنوا بها.
وكان قد قتل منهم في المعركة كثير، ونزل عيهم الجيش وحصرهم، وأرسلوا إلى الحاكم يستمدونه، فجهز جيشاً عليهم يحيى بن علي الأندلسي، وسيرهم إلى طرابلس، وأطلق لهم مالاً على برقة، فلم يجد يحيى فيها مالاً، فاختلت حاله، فسار إلى فلفل، وكان قد دخل إلى طرابلس واستولى عليها، فأقام معه فيها، واستوطنها من ذلك الوقت. وسنذكر باقي خبرهم سنة ثلاث وتسعين.
وفي سنة إحدى وتسعين سار ماكسن بن زيري، عم أبي باديس، إلى أشير، وبها ابن أخيه حماد بن يوسف بلكين، فكان بينهما حرب شديدة قتل فيها ماكسن وأولاده محسن، وباديس، وحباسة، وتوفي زيري بن عطية بعد قتل ماكسن بتسعة أيام.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، عاشر ربيع الأول، انقض كوكب عظيم ضحوة نهار.
وفيها عمل أهل باب البصرة يوم السادس والعشرين من ذي الحجة زينة عظيمة وفرحاً كثيراً، وكذلك عملوا ثامن عشر المحرم مثل ما يعمل الشيعة في عاشوراء، وسبب ذلك أن الشيعة بالكرخ كانوا ينصبون القباب، وتعلق الثياب للزينة، واليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وهو يوم الغدير، وكانوا يعملون يوم عاشوراء في المأتم، والنوح، وإظهار الحزن ما هو مشهور، فعمل أهل باب البصرة في مقابل ذلك، بعد يوم الغدير بثمانية أيام، مثلهم وقالوا: هو يوم دخل النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، رضي الله عنه، والغار؛ وعملوا بعد عاشوراء بثمانية أيام مثل ما يعملون يوم عاشوراء، وقالوا: هو يوم قتل مصعب بن الزبير.
وتوفي هذه السنة أحمد بن محمد بن عيسى أبو محمد السرخسي المقريء الفقيه الشافعي، وهو من أصحاب أبي إسحاق المروزي، وله رواية للحديث أيضاً، وكان شيخ خراسان في زمانه، وقرأ القرآن على ابن مجاهد، والأدب على ابن الأنباري، ومات وله ست وتسعون سنة؛ وعبدالله بن محمد بن إسحاق ابن سليمان أبو القاسم البزاز، المعروف بابن حبابة، وكان شيخ الحنابلة في زمانه.
ثم دخلت سنة تسعين وثلاثمائة
ذكر خروج إسماعيل بن نوح
وما جرى له بخراسانفي هذه السنة خرج أبو إبراهيم إسماعيل بن نوح من محبسه، وكان قد حبسه ايلك الخان لما ملك بخارى مع جماعة من أهله.
وسبب خلاصه أنه كانت تأتيه جارية تخدمه، وتتعرف أحواله، فلبس ما ان عليها وخرج، فظنه الموكلون الجارية، فلما خرج استخفى عند عجوز من أهل بخارى، فلما سكن الطلب عنه سار من بخارى إلى خوارزم، وتلقب المنتصر، وجامع إليه بقايا القواد السامانية والأجناد، فكثف جمعه، وسير قائداً من أصحابه في عسكر إلى بخارى، فبيت من بها من أصحاب ايلك الخان، فهزمهم وقتل منهم، وكبس جماعة من أعيانهم، مثل جعفر تكين وغيره، وتبع المنهزمين نحو ايلك الخان إلى حدود سمرقند، فلقي هناك عسكراً جراراً جعلهم ايلك الخان يحفظون سمرقند، فانضاف إليهم المنهزمون، ولقوا عسكر المنتصر، فانهزم أيضاً عسكر ايلك الخان، وتبعهم عسكر المنتصر، فغنموا أثقالهم فصلحت أحوالهم بها، وعادوا إلى بخارى، فاستبشر أهلها بعود السامانية.
ثم إن ايلك جمع الترك وقصد بخارى، فانحاز من بها من السامانية وعبروا النهر إلى آمل الشط، فضاقت عليهم، فساروا هم والمنتصر نحو أبيورد فملكها، وجبوا أموالها،وساروا نحو نيسابور، وبها منصور بن سبكتكين، نائباً عن أخيه محمود، فالتقوا قرب نيسابور في ربيع الآخر، فاقتتلوا، فانهزم منصور وأصحابه، وقصدوا هراة، وملك المنتصر نيسابور، وكثر جمعه.
وبلغ يمين الدولة الخبر، فسار مجداً نحو نيسابور، فلما قاربها سار عنها المنتصر إلى أسفرايين، فلما أزعجه الطلب سار نحو شمس المعالي قابوس ابن وشمكير وملتجئاً إيه ومتكثراً به، فأكرمه مورده، وحمل إليه شيئاً كثيراً، وأشار على المنتصر بقصد الري إذ كانت ليس بها من يذب عنها، لاشتغال أصحابها باختلافهم، ووعده بأن ينجده بعسكر جرار مع أولاده، فقبل مشورته وسار نحو الري، فنازلها، فضعف من بها عن مقاومته، إلا أنهم حفظوا البلد منه، ودسوا إلى أعيان عسكره كأبي القاسم بن سيمجور وغيره، وبذلوا لهم الأموال ليردوه عنهم، ففعلوا ذلك، وصغروا أمر الري عنده وحسنوا له العود إلى خراسان. فسار نحو الدامغان، وعاد عنه عسكر قابوس.
ووصل المنتصر إلى نيسابور في آخر شوال سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، فجبى له الأموال بها، فأرسل إليه يمين الدولة جيشاً فلقوه، فانهزم المنتصر وسار نحو أبيورد، وقصد جرجان، فرده شمس المعالي عنها، فقصد سرخس وجبى أموالها وسكنها. فسار إليه منصور بن سبكتكين من نيسابور، فالتقوا بظاهر سرخس واقتتلوا، فانهزم المنتصر وأصحابه، وأسر أبو القاسم علي ابن محمد بن سيمجور وجماعة من أعيان عسكره، وحملوا إلى المنصور، فسيرهم إلى غزنة، وذلك في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين.
وسار المنتصر تائهاً حتى وافى الأتراك الغزية ولهم ميل إلى آل سامان، فحركتهم الحمية، واجتمعوا معه، وسار بهم نحو ايلك الخان، وكان ذلك في شوال سنة ثلاث وتسعين، فلقيهم ايلك بنواحي سمرقند، فهزموه واستولوا على أمواله وسواده، وأسروا جماعة من قواده وعادوا إلى أوطانهم، واجتمعوا على إطلاق الأسرى تقرباً إلى ايلك الخان بذلك. فعلم المنتصر، فاختار من أصحابه جماعة يثق بهم، وسار بهم، فعبر النهر، ونزل بآمل الشط، فلم يقبله مكان، وكلما قصد مكاناً رده أهله خوفاً من معرته، فعاد وعبر النهر إلى بخارى، وطلب واليها لايلك الخان، فلقيه واقتتلوا، فانهزم المنتصر إلى دبوسية وجمع بها، ثم عاودهم فهزمهم، وخرج إليه خلق كثير من فتيان سمرقند، وصاروا في جملته، وحمل له أهلها المال والآلات والثياب والدواب وغير ذلك.
فلما سمع ايلك الخان بحاله جمع الأتراك وسار إليه في قضه وقضيضه، والتقوا بنواحي سمرقند، واشتدت الحرب بينهم، فانهزم ايلك الخان، وكان ذلك في شعبان سنة أربع وتسعين، وغنموا أمواله ودوابه. وعاد ايلك الخان إلى بلاد الترك، فجمع وحشد وعاد إلى المنتصر، فوافق عوده تراجع الغزية الذين كانوا مع المنتصر إلى أوطانهم، وقد زحف جمعه، فاقتتلوا بنواحي أسروشنة، فانهزم المنتصر، وأكثر الترك في أصحابه القتل.
وسار المنتصر منهزماً، حتى عبر النهر، وسار إلى الجوزجان فنهب أموالها، وسار يطلب مرو، فسير يمين الدولة العساكر، ففارق مكانه وسار وهم في أثره، حتى أتى بسطام، فأرسل إليه قابوس عسكراً أزعجه عنها، فلما ضاقت عليه المذاهب عاد إلى ما وراء النهر، فعبر أصحابه وقد ضجروا وسئموا من السهر والتعب والخوف، ففارقه كثير منهم إلى بعض أصحاب ايلك الخان، فأعلموهم بمكانه، فلم يشعر المنتصر إلا وقد أحاطت به الخيل من كل جانب، فطاردهم ساعة ثم ولاهم الدبر وسار فنزل بحلة من العرب في طاعة يمين الدولة، وكان يمين الدولة قد أوصاهم بطلبه، فلما رأوه أمهلوه حتى أظلم الليل، ثم وثبوا عليه فأخذوه وقتلوه، وكان ذلك خاتمه أمره؛ وإنما أوردت الحادثة هذه السنة لترد متتابعة، فلو تفرقت في السنين لم تعلم على هذه الصورة لقلتها.
ذكر محاصرة يمين الدولة سجستانفي هذه السنة سار يمين الدولة إلى سجستان، وصاحبها خلف بن أحمد، فحصره بها.
وكان سبب ذلك أن يمين الدولة لما اشتغل بالحروب التي ذكرناها سير خلف بن أحمد ابنه طاهراً إلى قهسنان فملكها، ثم سار منها إلى بوشنج فملكها، وكانت هي وهراة لبغراجق، عم يمين الدولة، فلما فرغ يمين الدولة من تلك الحروب استأذنه عمه في إخراج طاهر بن خلف من ولايته، فأذن له في ذلك، فسار إليه، فلقيه طاهر بنواحي بوشنج، فاقتتلوا، فانهزم طاهر ولج بغراجق في طلبه، فعطف عليه طاهر فقتله ونزل إليه وأخذ رأسه.
فلما سمع يمين الدولة بقتل عمه عظم عليه، وكبر لديه، وجمع عساكره وسار نحو خلف بن أحمد، فتحصن منه خلف بحصن أصبهبذ، وهو حصن يناطح النجوم علواً وارتفاعاً، فحصره فيه وضيق عليه، فذل وخضع، وبذل أموالاً جليلة لينفس عن خناقه، فأجابه يمين الدولة إلى ذلك، وأخذ رهنه على المال.
ذكر قتل ابن بختيار بكرمان
واستيلاء بهاء الدولة عليهافي هذه السنة، في جمادى الآخرة، قتل الأمير أبو نصر بن بختيار، الذي كان قد استولى على بلاد فارس.
وسبب قتله أنه لما انهزم من عسكر بهاء الدولة بشيراز سار إلى بلاد الديلم، وكاتب الديلم بفارس وكرمان من هناك يستميلهم، وكاتبوه واستدعوه، فسار إلى بلاد فارس، واجتمع عليه جمع كثير من الزط، والديلم، والأتراك، وتردد في تلك النواحي. .
ثم سار إلى كرمان، فلم يقبله الديلم الذين بها، وكان المقدم عليهم أبو جعفر بن أستاذ هرمز، فجمع وقصد أبا جعفر، فالتقيا، فانهزم أبو جعفر إلى السيرجان، ومضى ابن بختيار إلى جيرفت فملكها، وملك أكثر كرمان، فعظم الأمر على بهاء الدولة، فسير إليه الموفق علي بن إسماعيل في جيش كثير، وسار مجداً حتى أطل على جيرفت، فاستأمن إليه من بها من أصحاب ابن بختيار ودخلها. فأنكر عليه من معه من القواد سرعة سيره، وخوفوه عاقبة ذلك، فلم يصغ إليهم، وسأل عن حال ابن بختيار، فأخبر أنه على ثمانية فراسخ من جيرفت، فاختار ثلاثمائة رجل من شجعان أصحابه وسار بهم، وترك الباقين مع السواد بجيرفت.
فلما بلغ ذلك المكان لم يجده ودل عليه فلم يزل يتبعه من منزل، حتى لحقه بدارزين، فسار ليلاً، وقدر وصوله إليه عند الصبح فأدركه. فركب ابن بختيار واقتتلوا قتالاً شديداً، وسار الموفق في نفر من غلمانه، فأتى ابن بختيار من ورائه، فانهزم ابن بختيار وأصحابه، ووضع فيهم السيف، فقتل منهم الخلق الكثير. فقدر بابن بختيار بعض أصحابه، وضربه بلت فألقاه وعاد إلى الموفق ليخبره بقتله، فأرسل معه من ينظر إليه، فرآه وقد قتله غيره، وحمل رأسه إلى الموفق.
وأكثر الموفق القتل في أصحاب ابن بختيار، واستولى على بلاد كرمان، واستعمل عليها أبا موسى سياهجيل، وعاد إلى بهاء الدولة، فخرج بنفسه ولقيه، وأكرمه وعظمه ثم قبض عليه بعد أيام.
ومن أعجب ما يذكر أن الموفق أخبره منجم أنه يقتل ابن بختيار يوم الاثنين، فلما كان قبل الاثنين بخمسة أيام قال للمنجم: قد بقي خمسة أيام وليس لنا علم به؛ فقال له المنجم: إن لم تقتله فاقتلني عوضه، وإلا فأحسن إلي. فلما كان يوم الاثنين أدركه وقتله، وأحسن إلى المنجم إحساناً كثيراً.
ذكر القبض على الموفق أبي علي بن إسماعيلقد ذكرنا مسيره إلى قتال ابن بختيار، وقتله ابن بختيار، فلما عاد أكرمه بهاء الدولة ولقيه بنفسه، فاستعفى الموفق من الخدمة، فلم يعفه بهاء الدولة، فألح كل واحد منهما، فأشار أبو محمد بن مكرم على الموفق بترك ذلك، فلم يقبل، فقبض عليه بهاء الدولة وأخذ أمواله، وكتب إلى وزيره سابور ببغداد بالقبض على أنساب الموفق، فعرفهم ذلك سراً، فاحتالوا لنفوسهم وهربوا، واستعمل بهاء الدولة أبا محمد بن مكرم على عمان، ثم إن بهاء الدولة قتل الموفق سنة أربع وتسعين وثلاثمائة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة استعمل بهاء الدولة أبا علي الحسن هرمز على خوزستان، وكانت قد فسدت أحوالها بولاية أبي جعفر الحجاج لها، ومصادرته لأهلها، فعمرها أبو علي، ولقبه بهاء الدولة عميد الجيوش، وحمل إلى بهاء الدولة منها أموالاً جليلة مع حسن سيرةٍ في أهلها وعدل.
وفيها ظهر في سجستان معدن الذهب، فكانوا يحفرون التراب ويخرجون منه الذهب الأحمر.
وفيها توفي الشريف أبو الحسن محمد بن عمر العلوي، ودفن بالكرخ، وعمره خمس وسبعون سنة، وهو مشهور بكثرة المال والعقار؛ والقاضي أبو الحسن ابن قاضي القضاة أبي محمد بن معروف؛ والقاضي أبو الفرج المعافى بن زكرياء المعروف بابن طرار الجريري، بفتح الجيم، منسوب إلى محمد بن جرير الطبري لأنه كان يتفقه على مذهبه، وكان عالماً بفنون العلوم، كثير الرواية والتصنيف فيها.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة
ذكر قتل المقلد وولاية ابنه قرواشفي هذه السنة قتل حسام الدولة المقلد بن المسيب العقيلي غيلةً، قتله مماليك له ترك.
وكان سبب قتله أن هؤلاء الغلمان كانوا قد هربوا منه، فتبعهم وظفر بهم، وقتل منهم وقطع، وأعاد الباقين، فخافوه على نفوسهم، فاغتنم بعضهم غفلته وقتله بالأنبار، وكان قد عظم أمره، وراسل وجوه العساكر ببغداد، وأراد التغلب على الملك، فأتاه الله من حيث لا يشعر.
ولما قتل كان ولده الأكبر قرواش غائباً، وكانت أمواله وخزائنه بالأنبار، فخاف نائبه عبدالله بن إبراهيم بن شهرويه بادرة الجند، فراسل أبا منصور بن قراد اللديد، وكان بالسندية، فاستدعاه إليه وقال له: أنا أجعل بينك وبين قرواش عهداًن وأزوجه ابنتك وأقاسمك على ما خلفه أبوه، ونساعده على عمه الحسن إن قصده وطمع فيه. فأجابه إلى ذلك وحمى الخزائن والبلد.
وأرسل عبدالله إلى قرواش يحثه على الوصول، فوصل وقاسمه على المال، وأقام قراد عنده.
ثم إن الحسن بن المسيب جمع مشايخ عقيل، وشكا قرواشاً إليهم وما صنع مع قراد، فقالوا له: خوفه منك حمله على ذلك؛ فبذل من نفسه الموافقة له، والوقوف عند رضاه، وسفر المشايخ بينهما فاصطلحا، واتفقا على أن يسير الحسن إلى قرواش شبه المحارب، ويخرج هو واقراد لقتاله، فإذا لقي بعضهم عادوا جميعاً على قراد فأخذوه، فسار الحسن وخرج قرواش وقراد لقتاله.
فلما تراءى الجمعان جاء بعض أصحاب قراد إليه فأعلمه الحال، فهرب على فرس له، وتبعه قرواش والحسن فلم يدركاه، وعاد قرواش إلى بيت قراد فأخذ ما فيه من الأموال التي أخذها من قرواش، وهي بحالها، وسار قرواش إلى الكوفة، فأوقع بخفاجة عندها وقعة عظيمة، فساروا بعدها إلى الشام، فأقاموا هناك حتى أحضرهم أبو جعفر الحجاج، على ما نذكره إن شاء الله.
ذكر البيعة لولي العهدفي هذه السنة، في ربيع الأول، أمر القادر بالله بالبيعة لولده أبي الفضل بولاية العهد، وأحضر حجاج خراسان وأعلمهم ذلك، ولقبه الغالب بالله.
وكان سبب البيعة له أن أبا عبدالله بن عثمان الواثقي، من ولد الواثق بالله أمير المؤمنين، كان من أهل نصيبين، فقصد بغداد، ثم سار عنها إلى خراسان، وعبر النهر إلى هارون بن ايلك بغرا خاقان، وصحبه الفقيه أبو الفضل التميمي، وأظهر أنه رسول من الخليفة إلى هارون يأمره بالبيعة لهذا الواثقي، فإنه ولي عهدٍ، فأجابه خاقان إلى ذلك، وبايع له وخطب له ببلاده وأنفق عليه. فبلغ ذلك القادر بالله، فعظم عليه، وراسل خاقان في معناه، فلم يصغ إلى رسالته.
فلما توفي هارون خاقان، وولي بعده أحمد قراخاقان، كاتبه الخليفة في معناه، فأمر بإبعاده، فحينئذ بايع الخليفة لولده بولاية العهد.
وأما الواثقي فإنه خرج من عنده أحمد قراخاقان وقصد بغداد فعرف بها وطلب، فهرب منها إلى البصرة، ثم إلى فارس وكرمان، ثم إلى بلاد الترك، فلم يتم له ما أراد، وراسل الخليفة الملوك يطلبه، فضاقت عليه الأرض، وسار إلى خوارزم وأقام بها، ثم فارقها، فأخذه يمين الدولة محمود بن سبكتكين فحبسه في قلعة إلى أن توفي بها.
ذكر استيلاء طاهر بن خلف على كرمان وعوده عنهافي هذه السنة سار طاهر بن خلف بن أحمد، صاحب سجستان، إلى كرمان طالباً ملكها.
وكان سبب مسيره إليها أنه كان قد خرج عن طاعة أبيه، وجرى بينهما حروب كان الظفر فيها لأبيه، ففارق سجستان وسار إلى كرمان، وبها عسكر بهاء الدولة، وهي له على ما ذكرناه، فاجتمع من بها من العساكر إلى المقدم عليهم ومتولي أمر البلد، وهو أبو موسى سياهجيل، فقالوا له: إن هذا الرجل قد وصل، وهو ضعيف، والرأي أن تبادره قبل أن يقوى أمره ويكثر جمعه، فلم يفعل واستهان به، فكثر جمع طاهر، وصعد إلى الجبال، وبها قوم من العصاة على السلطان، فاحتمى بهم وقوي، فنزل إلى جيرفت فملكها وملك غيرها، وقوي طمعه في الباقي.
فقصده أبو موسى والديلم، فهزمهم، وأخذ بعض ما بقي بأيديهم، فكاتبوا بهاء الدولة، فسير إليهم جيشاً عليهم أبو جعفر بن أستاذ هرمز، فسار إلى كرمان، وقصد بم، وبها طاهر، فجرى بين طلائع العسكرين حرب، وعاد طاهر إلى سجستان، وفارق كرمان، فلما بلغ سجستان أطلق المأسورين، ودعاهم إلى قتال أبيه معه، وحلف لهم أنهم إذا نصروه وقاتلوا معه أطلقهم، ففعلوا ذلك، وقاتل أباه، فهزمه وملك طاهر البلاد، ودخل أبوه إلى حصن له منيع فاحتمى به.
وأحب الناس طاهراً لحسن سيرته، وسوء سيرة والده، وأطلق طاهر الديلم، ثم إن أباه راسل أصحابه ليفسدهم عليه، فلم يفعلوا، فعدل إلى مخادعته، وراسله يظهر له الندم على ما كان منه، ويستميله بأنه ليس له ولد غيره، وأنه يخاف أن يموت فيملك بلاده غير ولده. ثم استدعاه إليه جريدة ليجتمع به ويعرفه أحواله، فتواعدا تحت قلعة خلف، فأتاه ابنه جريدة، ونزل هو إليه كذلك، وكان قد كمن بالقرب منه كمينا، فلما لقيه اعتنقه، وبكى خلف، وصاح في بكائه، فخرج الكمين وأسروا طاهراً فقتله أبوه بيده، وغسله ودفنه، ولم يكن له ولد غيره.
فلما قتل طمع الناس في خلف، لأنهم كانوا يخافون ابنه لشهامته، وقصده حينئذ محمود بن سبكتكين، فملك بلاده على ما نذكره؛ وأما العتبي فذكر في سبب فتحها غير هذا، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ثار الأتراك ببغداد بنائب السلطان، وهو أبو نصر سابور، فهرب منهم، ووقعت الفتنة بين الأتراك والعامة من أهل الكرخ، وقتل بينهم قتلى كثيرة، ثم إن السنة من أهل بغداد ساعدوا الأتراك على أهل الكرخ، فضعفوا عن الجميع، فسعى الأشراف في إصلاح الحال فسكنت الفتنة.
وفيها ولد الأمير أبو جعفر عبدالله بن القادر، وهو القائم بأمر الله.
وفيها، في ربيع الأول، توفي أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى، وكان فاضلاً عالماً بعلوم الإسلام وبالمنطق، وكان يجلس للتحديث، وروى الناس عنه.
وفيها توفي القاضي أبو الحسن الجزري، وكان على مذهب داود الظاهري، وكان يصحب عضد الدولة قديماً.
وفيها توفي أبو عبدالله الحسين بن الحجاج الشاعر بطريق النيل، وحمل إلى بغداد، وديوانه مشهور.
وفيها توفي بكران بن أبي الفوارس خال الملك جلال الدولة بواسط.
وفيها توفي جعفر بن الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات المعروف بابن حنزابة، الوزير، ومولده سنة ثمان وثلاثمائة، وكان سار إلى مصر فولي وزارة كافور وروي حديثاً كثيراً.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة
ذكر وقعة ليمين الدولة بالهندفي هذه السنة أوقع يمين الدولة محمود بن سبكتكين بجيبال ملك الهند وقعة عظيمة.
وسبب ذلك أنه لما اشتغل بأمر خراسان وملكها، وفرغ منها ومن قتال خلف بن أحمد، وخلا وجهه من ذلك، أحب أن يغزو الهند غزوةً تكون كفارة لما كان منه من قتال المسلمين، فثنى عنانه نحو تلك البلاد، فنزل على مدينة برشور، فأتاه عدو الله جيبال ملك الهند في عساكر كثيرة، فاختار يمين الدولة من عساكره والمطوعة خمسة عشر ألفاً، وسار نحوه، فالتقوا في المحرم من هذه السنة، فاقتتلوا، وصبر الفريقان.
فلما انتصف النهار انهزم الهند، وقتل فيهم مقتلة عظيمة، وأسر جيبال ومعه جماعة كثيرة من أهله وعشيرته، وغنم المسلمون منهم أموالاً جليلة، وجواهر نفيسة، وأخذ من عنق عدو الله جيبال قلادة من الجوهر العديم النظير قومت بمائتي ألف دينار، وأصيب أمثالها في أعناق مقدمي الأسرى، وغنموا خمس مائة ألف رأس من العبيد، وفتح من بلاد الهند بلاداً كثيرة، فلما فرغ من غزواته أحب أن يطلق جيبال ليراه الهنود في شعار الذل، فأطلقه بمالٍ قرره عليه، فأدى المال.
ومن عادة الهند أنهم من حصل منهم في أيدي المسلمين أسيراً لم ينعقد له بعدها رئاسة، فلما رأى جيبال حاله بعد خلاصه حلق رأسه، ثم ألقى نفسه في النار، فاحترق بنار الدنيا قبل نار الآخرة.
ذكر غزوة أخرى إلى الهند أيضاً
فلما فرغ يمين الدولة من أمر جيبال رأى أن يغزو غزوة أخرى، فسار نحو ويهند، فأقام عليها محاصراً لها، حتى فتحها قهراً، وبلغه أن جماعة من الهند قد اجتمعوا بشعاب تلك الجبال عازمين على الفساد والعناد، فسير إليهم طائفة من عسكره، فأوقعوا بهم، وأكثروا القتل فيهم، ولم ينج منهم إلا الشريد الفريد، وعاد إلى غزنة سالماً ظافراً.
ذكر الحرب بين قرواش وعسكر بهاء الدولةفي هذه السنة سير قرواش بن المقلد جمعاً من عقيل إلى المدائن فحصروها، فسير إليهم أبو جعفر نائب بهاء الدولة جيشاً فأزالوهم عنها، فاجتمعت عقيل وأبو الحسن ابن مزيد في بني أسد، وقويت شوكتهم فخرج الحجاج إليهم، واستنجد خفاجة، وأحضرهم من الشام، فاجتمعوا معه، واقتتلوا بنواحي باكرم في رمضان، فانهزمت الديلم والأتراك، وأسر منهم خلق كثير، واستبيح عسكرهم.
فجمع أبو جعفر من عنده من العسكر وخرج إلى بني عقيل وابن مزيد، فالتقوا بنواحي الكوفة، واشتد القتال بينهم، فانهزمت عقيل وابن مزيدن وقتل من أصحابهم خلق كثير، وأسر مثلهم، وسار إلى حلل ابن مزيد فأوقع بمن فيها فانهزموا أيضاً، فنهبت الحلل والبيوت والأموال، ورأوا فيها من العين والمصاغ والثياب ما لا يقدر قدره.
ولما سار أبو جعفر عن بغداد اختلت الأحوال بها، وعاد أمر العيارين فظهر، واشتد الفساد، وقتلت النفوس، ونهبت الأموال، وأحرقت المساكن، فبلغ ذلك بهاء الدولة، فسير إلى العراق لحفظه أبا علي بن أبي جعفر المعروف بأستاذ هرمز، ولقبه عميد الجيوش، وأرسل إلى أبي جعفر الحجاج، وطيب قلبه، ووصل أبو علي إلى بغداد، فأقام السياسة، ومنع المفسدين، فسكنت الفتنة وأمن الناس.
وفيها توفي محمد بن محمد بن جعفر أبو بكر الفقيه الشافعي المعروف بابن الدقاق، صاحب الأصول.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة
ذكر ملك يمين الدولة سجستانفي هذه السنة ملك يمين الدولة محمود بن سبكتكين سجستان، وانتزعها من يد خلف بن أحمد.
قال العتبي: وكان سبب أخذها أن يمين الدولة لما رحل عن خلف بعد أن صالحه، كما تقدم ذكره سنة تسعين، عهد خلف إلى ولده طاهر، وسلم إيه مملكته، وانعكف هو على العبادة والعلم، وكان عالماً، فاضلاً، محباً للعلماء، وكان قصده أن يوهم يمين الدولة أنه ترك الملك وأقبل على طلب الآخرة ليقطع طمعه عن بلاده.
فلما استقر طاهر في الملك عق أباه وأهمل أمره، فلاطفه أبوه ورفق به، ثم إنه تمارض في حصنه المذكور، واستدعى ولده ليوصي إليه، فحضر عنده غير محتاطٍ، ونسي إساءته، فلما صار عنده قبض عليه وسجنه، وبقي في السجن إلى أن مات فيه، وأظهر عنه أنه قتل نفسه.
ولما سمع عسكر خلف وصاحب جيشه بذلك تغيرت نياتهم في طاعته، وكرهوه، وامتنعوا عليه في مدينته، وأظهروا طاعة يمين الدولة، وخطبوا له، وأرسلوا إليه يطلبون من يتسلم المدينة، ففعل وملكها، واحتوى عليها في هذه السنة، وعزم على قصد خلف وأخذ ما بيده والاستراحة من مكره. فسار إليه، وهو في حصن الطاق، وله سبعة أسوار محكمة، يحيط بها خندق عميق، عريض، لا يخاض إلا من طريق على جسر يرفع عند الخوف، فنازله وضايقه فلم يصل إليه، فأمر بطم الخندق ليمكن العبور إليه، فقطعت الأخشاب وطم بها وبالتراب في يوم واحد مكاناً يعبرون فيه ويقاتلون منه.
وزحف الناس ومعهم الفيول، واشتدت الحرب، وعظم الأمر، وتقدم أعظم الفيول إلى باب السور فاقتلعه بنابيه وألقاه، وملكه أصحاب يمين الدولة، وتأخر أصحاب خلف إلى السور الثاني، فلم يزل أصحاب يمين الدولة يدفعونهم عن سور سور، فلما رأى خلف اشتداد الحرب، وأن أسواره تملك عليه، وأن أصحابه قد عجزوا، وأن الفيلة تحطم الناس طار قلبه خوفاً وفرقاً، فأرسل يطلب الأمان، فأجابه يمين الدولة إلى ما طلب وكف عنه، فلما حضره عنده أكرمه واحترمه، وأمر بالمقام في أي البلاد شاء، فاختار أرض الجوزجان، فسير إليها في هيئة حسنة، فأقام بها نحو أربع سنين.
ونقل إلى يمين الدولة عنه أنه يراسل ايلك الخان يغريه بقصد يمين الدولة، فنقله إلى جردين، واحتاط عليه هناك، إلى أن أدركه أجله في رجب سنة تسع وتسعين، فسلم يمين الدولة جميع ما خلفه إلى ولده أبي حفص. وكان خلف مشهوراً بطلب العلم وجمع العلماء، وله كتاب صنفه في تفسير القرآن من أكبر الكتب.
ذكر الحرب بين عميد الجيوش أبي علي وبين أبي جعفر الحجاجفي هذه السنة كانت الحرب بين أبي علي بن أبي جعفر أستاذ هرمز، وبين أبي جعفر الحجاج.
وسبب ذلك أن أبا جعفر كان نائباً عن بهاء الدولة بالعراق، فجمع وغزا، واستناب بعده عميد الجيوش أبا علي، فأقام أبو جعفر بنواحي الكوفة، ولم يستقر بينه وبين أبي علي صلح.
وكان أبو جعفر قد جمع جمعاً من الديلم والأتراك وخفاجة فجمع أبو علي أيضاً جمعاً كثيراً وسار إليه، والتقوا بنواحي النعمانية، فاقتتلوا قتالاً عظيماً، وأرسل أبو علي بعض عسكره، فأتوا أبا جعفر من ورائه، فانهزم أبو جعفر ومضى منهزماً.
فلما أمن أبو علي سار من العراق، بعد الهزيمة، إلى خوزستان، وبلغ السوس، وأتاه الخبر أن أبا جعفر قد عاد إلى الكوفة، فرجع إلى العراق، وجرى بينه وبين أبي جعفر منازعات ومراجعات إلى أن آل الأمر إلى الحرب فاستنجد كل واحدٍ منهم بني عقيل وبني خفاجة وبني أسد، فبينما هم كذلك أرسل بهاء الدولة إلى عميد الجيوش أبي علي يستدعيه، فسار إيه إلى خوزستان لأجل أبي العباس بن واصل، صاحب البطيحة.
ذكر عصيان سجستان وفتحها ثانيةلما ملك يمين الدولة سجستان عاد عنها واستخلف عليها أميراً كبيراً من أصحابه، يعرف بقنجى الحاجب، فأحسن السيرة في أهلها.
ثم إن طوائف من أهل العيث والفساد قدموا عليهم رجلاً يجمعهم، وخالفوا على السلطان، فسار إليهم يمين الدولة، وحصرهم في حصن أرك، ونشبت الحرب في ذي الحجة من هذه السنة، فظهر عليهم، وظفر بهم، وملك حصنهم، وأكثر القتل فيهم، وانهزم بعضهم فسير في آثارهم من يطلبهم، فأدركوهم، فأكثروا القتل فيهم حتى خلت سجستان منهم وصفت له واستقر ملكها عليه، فأقطعها أخاه نصراً مضافةً إلى نيسابور.
ذكر وفاة الطائع للهفي هذه السنة، في شوال منها، توفي الطائع لله المخلوع ابن المطيع لله، وحضر الأشراف والقضاة وغيرهم دار الخلافة للصلاة عليه والتعزية، وصلى عليه القادر بالله، وكبر عليه خمساً، وتكلمت العامة في ذلك فقيل: إن هذا مما يفعل بالخلفاء؛ وشيع جنازته ابن حاجب النعمان، ورثاه الشريف الرضي فقال:
ما بعد يومك ما يسلو به السالي، ... ومثل يومك لم يخطر على بالي
وهي طويلة.
ذكر وفاة المنصور بن أبي عامرفي هذه السنة توفي أبو عامر محمد بن أبي عامر المعافري، الملقب بالمنصور، أمير الأندلس مع المؤيد هشام بن الحاكم، وقد تقدم ذكره عند ذكر المؤيد، وكان أصله من الجزيرة الخضراء من بيت مشهور بها، وقدم قرطبة طالباً للعلم، وكانت له همة، فتعلق بوالدة المؤيد في حياة أبيه المستنصر.
فلما ولي هشام كان صغيراًن فتكفل المنصور لوالدته القيام بأمره، وإخماد الفتن الثائرة عليه، وإقرار الملك عليه، فولته أمره؛ وكان شهماً، شجاعاً، قوي النفس، حسن التدبير، فاستمال العساكر وأحسن إليهم، فقوي أمره، وتلقب بالمنصور، وتابع الغزوات إلى الفرنج وغيرهم، وسكنت البلاد معه، فلم يضطرب منها شيء.
وكان عالماً، محباً للعلماء، يكثر مجالستهم ويناظرهم، وقد أكثر العلماء ذكر مناقبه، وصنفوا لها تصانيف كثيرة، ولما مرض كان متوجها إلى الغزو، فلم يرجع، ودخل بلاد العدو فنال منهم وعاد وهو مثقل، فتوفي بمدينة سالم، وكان قد جمع الغبار الذي وقع على درعه في غزواته شيئاً صالحاً، فأمر أن يجعل في كفنه تبركاً به.
وكان حسن الاعتقاد والسيرة، عادلاً، وكانت أيام أعياداً لنضارتها، وأمن الناس فيها، رحمة الله. وله شعر جيد، وكانت أمه تميمية، ولما مات ولي بعده ابنه المظفر أبو مروان عبد الملك، فجرى مجرى أبيه.
ذكر محاصرة فلفل مدينة قابسفي هذه السنة سار يحيى بن علي الأندلسي وفلفل من طرابلس إلى مدينة قابس في عسكر كثير، فحصروها، ثم رجعوا إلى طرابلس. ولما رأى يحيى بن عي ما هو عيه من قلة المال، واختلال حاله وسوء مجاورة فلفل وأصحابه له، رجع إلى مصر إلى الحاكم، بعد أن أخذ فلفل وأصحابه خيولهم، وما اختاروه من عددهم بين الشراء والغصب، فأراد الحاكم قتله ثم عفا عنه.
وأقام فلفل بطرابلس إلى سنة أربعمائة، فمرض وتوفي، وولي أخوه ورو، فأطاعته زناتة، واستقام أمره، فرحل باديس إلى طرابلس إلى سنة أربعمائة، فمرض وتوفي، وولي أخوه ورو، فأطاعته زناتة، واستقام أمره، فرحل باديس إلى طرابلس لحرب زناتة، فلما بلغهم رحيله فارقوها وملكها باديس، ففر أهلها، وأرسل ورو أخو فلفل إلى باديس يطلب أن يكون هو ومن معه من زناتة في أمانه، ويدخلون في طاعته، ويجعلهم عمالاً كسائر عماله، فأمنهم وأحسن إليهم، وأعطاهم نفزاوة وقسطيلة على أن يرحلوا من أعمال طرابلس، ففعلوا ذلك.
ثم إن خزرون بن سعيد أخا ورو جاء إلى باديس، ودخل في طاعته، وفارق أخاه، فأكرمه باديس، وأحسن إليه؛ ثم إن أخاه خالف على باديس، وسار إلى طرابلس فحصرها، وسار إليه خزرون ليمنعه عن حصارها، وكان ذلك سنة ثلاث وأربعمائة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة، في رمضان، طلع كوكب كبير له ذؤابة؛ وفي ذي القعدة انقض كوكب كبير أيضاً كضوء القمر عند تمامة، وانمحق نوره وبقي جرمه يتموج.
وفيها اشتدت الفتنة ببغداد، وانتشر العيارون والمفسدون، فبعث بهاء الدولة عميد الجيوش أبا علي بن أستاذ هرمز إلى العراق ليدبر أمره، فوصل إلى بغداد، فزينت له، وقمع المفسدين، ومنع السنة والشيعة من إظهار مذاهبهم، ونفى، بعد ذلك، ابن المعلم فقيه الإمامية، فاستقام البلد.
وفيها، في ذي الحجة، ولد الأمير أبو علي الحسن بن بهاء الدولة، وهو الذي ملك الأمر، وتلقب بمشرف الدولة.
وفيها هرب الوزير أبو العباس الضبي، وزير مجد الدولة بن فخر الدولة ابن بويه، من الري إلى بدر بن حسنويه، فأكرمه، وقام بالوزارة بعده الخطير أبو علي.
وفيها ولى الحاكم بأمر الله على دمشق، وقيادة العساكر الشامية، أبا محمد الأسود، واسمه تمضولت، فقدم إليها، ونزل في قصر الإمارة، فأقام والياً عليها سنةً وشهرين؛ ومن أعماله فيها أنه أطاف إنساناً مغربياً، وشهره، ونادى عليه: هذا جزاء من يحب أبا بكر وعمر ! ثم أخرجه عنها.
وفيا توفي عثمان بن جني النحوي، مصنف اللمع وغيرها، ببغداد، وله شعر بارز؛ والقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني بالري، وكان إماماً فاضلاً، ذا فنون كثيرة؛ والوليد بن بكر بن مخلد الأندلسي الفقيه المالكي، وهو محدث مشهور.
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن عبدالله السلامي الشاعر البغدادي، ومن شعره يصف الدرع، وهي هذه الأبيات:
يا ربّ سابغةٍ حبتني نعمةً ... كأفاتها بالسّوء غير مفنّد
أضحت تصون عن المنايا مهجتي ... وظللت أبذلها لكلّ مهنّد
وله من أحسن المديح في عضد الدولة:
وليت، وعزمي والظلام وصارمي ... ثلاثة أشباحٍ كما اجتمع النّسر
وبشّرت آمالي بملكٍ هو الورى، ... ودارٍ هي الدنيا، ويومٍ هو الدهر
وقدم الموصل، فاجتمع بالخالديين من الشعراء منهم أبو الفرج الببغاء، وأبو الحسين التلعفري، فامتحنوه، وكان صبياً، فبرز عند الامتحان.
وفيها توفي محمد بن العباس الخوارزمي الأديب الشاعر، وكان فاضلاً، وتوفي بنيسابور.
وفيها توفي محمد بن عبد الرحمن بن زكرياء أبو طاهر المخلص المحدث المشهور، وأول سماعه سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وثلاثمائة
ذكر استيلاء أبي العباس على البطيحةفي هذه السنة، في شعبان، غلب أبو العباس بن واصل على البطيحة، وأخرج منها مهذب الدولة.
وكان ابتداء حال أبي العباس أنه كان ينوب عن طاهر بن زيرك الحاجب في الجهبذة، وارتفع معه، ثم أشفق منه ففارقه وسار إلى شيراز، واتصل بخدمة فولاذ، وتقدم عنده، فلما قبض على فولاذ عاد أبو العباس إلى الأهواز بحال سيئة، فخدم فيها.
ثم أصعد إلى بغداد، فضاق الأمر عليه، فخرج منها، وخدم أبا محمد ابن مكرم، ثم انتقل إلى خدمة مهذب الدولة بالبطيحة، فجرد معه عسكراً، وسيره إلى حرب لشكرستان حين استولى على البصرة، ومضى إلى سيراف وأخذ ما بها لأبي محمد بن مكرم من سفن ومال، وأتى أسافل دجلة، فغلب عليها، وخلع طاعة مهذب الدولة.
فأرسل غليه مهذب الدولة مائة سميرية فيها مقاتلة، فغرق بعضها، وأخذ أبو العباس ما بقي منها، وعدل إلى الأبلة، فهزم أبا سعد بن ماكولا، وهو يصحب لشكرستان، فانهزم أيضاً لشكرستان من بين يديه، واستولى ابن واصل على البصرة، ونزل دار الإمارة، وأمن الديلم والأجناد.
وقصد لشكرستان مهذب الدولة، فأعاده إلى قتال أبي العباس في جيش، فلقيه أبو العباس وقاتله، فانهزم لشكرستان وقتل كثير من رجاله، واستولى أبو العباس على ثقله وأمواله، وأصعد إلى البطيحة، وأرسل إلى مهذب الدولة يقول له: قد هزمت جندك، ودخلت بلدك، فخذ لنفسك؛ فسار مهذب الدولة إلى بشامني، وصار عند أبي شجاع فارس بن مردان وابنه صدقة، فغدرا به وأخذا أمواله، فاضطرا إلى الهرب، وسار إلى واسط فوصلها على أقبح صورة، فخرج إليه أهلها فلقوه وأصعدت زوجته ابنة الملك بهاء الدولة إلى بغداد وأصعد مهذب الدولة إليها فلم يمكن من الوصول إليها.
وأما ابن واصل فإنه استولى على أموال مهذب الدولة وبلاده، وكانت عظيمة، ووكل بدار زوجته ابنة بهاء الدولة من يحرسها، ثم جمع كل ما فيها وأسله إلى أبيها، واضطرب عليه أهل البطائح واختلفوا، فسير سبع مائة فارس إلى الجازرة لإصلاحها، فقاتلهم أهلها، فظفروا بالعسكر، وقتلوا فيهم كثيراً.
وانتشر الأمر على أبي العباس بن واصل، فعاد إلى البصرة خوفاً أن ينتشر الأمر عليه بها، وترك البطائح شاغرة ليس فيها أحد يحفظها.
ولما سمع بهاء الدولة بحال أبي العباس وقوته خافه على البلاد، فسار من فارس إلى الأهواز لتلافي أمره، وأحضر عنده عميد الجيوش من بغداد، وجهز معه عسكراً كثيفاً وسيرهم إلى أبي العباس فأتى إلى واسط وعمل ما يحتاج إليه من سفن وغيرها، وسار إلى البطائح، وفرق جنده في البلاد لتقرير قواعدها.
وسمع أبو العباس بمسيره إليه، فأصعد إليه من البصرة، وأرسل يقول له: ما أحوجك تتكلف الانحدار، وقد أتيتك فخذ لنفسك.
ووصل إلى عميد الجيوش وهو على تلك الحال من تفرق العسكر عنه، فلقيه فيمن معه بالصليق، فانهزم عميد الجيوش، ووقع من معه بعضهم على بعضٍ، ولقي عميد الجيوش شدة إلى أن وصل إلى واسط، وذهب ثقله وخيامه وخزائنه، فأخبره خازنه أنه قد دفن في الخيمة ثلاثين ألف دينار وخمسين ألف درهم، فأنفذ من أحضرها، فقوي بها. ونذكر باقي خبر البطائح سنة خمس وتسعين.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قلد بهاء الدولة النقيب أبا أحمد الموسوي، والد الشريف الرضي، نقابة العلويين بالعراق، وقضاء القضاة، والحج، والمظالم، وكتب عهده بذلك، من شيراز، ولقب الطاهر ذا المناقب، فامتنع الخليفة من تقليده قضاء القضاة، وأمضى ما سواه.
وفيها خرج الأصيفر المنتفقي على الحاج، وحصرهم بالبطانية، وعزم على أخذهم، وكان فيهم أبو الحسن الرفاء، وأبو عبدالله الدجاجي، وكانا يقرآن القرآن بأصواتٍ لم يسمع مثلها، فحضرا عند الأصيفر وقرآ القرآن فترك الحجاج وعاد، وقال لهما: قد تركت لكما ألف ألف دينار.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وثلاثمائة
ذكر عود مهذب الدولة إلى البطيحةقد ذكرنا انهزام عميد الجيوش من أبي العباس بن واصل، فلما انهزم أقام بواسط، وجمع العساكر عازماً على العود إلى البطائح، وكان أبو العباس قد ترك بها نائباً له، فلم يتمكن من المقام بها، ففارقها إلى صاحبه، فأرسل عميد الجيوش إليها نائباً من أهل البطائح، فعسف الناس، وأخذ الأموال، ولم يلتفت إلى عميد الجيوش، فأرسل إلى بغداد وأحضر مهذب الدولة، وسلموا إليه جميع الولايات، واستقر عليه بهاء الدولة كل سنة خمسين ألف دينار، ولم يعترض عليه ابن واصل، فاشتغل عنه بالتجهيز إلى خوزستان، وحفر نهراً إلى جانب النهر العضدي، بين البصرة والأهواز، وكثر ماؤه، وكان قد اجتمع عنده جمع كثير من الديلم وأنواع الأجناد.
ولما كثر ماله وذخائره، وما استولى عليه من البطيحة، قوي طمعه في الملك، وسار هو وعسكره إلى الأهواز في ذي القعدة، فجهز إليه بهاء الدولة جيشاً في الماء، فالتقوا بنهر السدرة، فاقتتلوا، وخاتلهم أبو العباس، وسار إلى الأهواز وتبعه من كان قد لقيه من العسكر، فالتقوا بظاهر الأهواز، وانضاف إلى عسكر بهاء الدولة العساكر التي بالأهواز، فاستظهر أبو العباس عليهم.
ورحل بهاء الدولة إلى قنطرة أربق، عازماً على المسير إلى فارس، ودخل أبو العباس إلى دار المملكة وأخذ ما فيها من الأمتعة والأثاث المتخلف عن بهاء الدولة، إلا أنه لم يمكنه المقام لأن بهاء الدولة كان قد جهز عسكراً ليسير في البحر إلى البصرة، فخاف أبو العباس من ذلك، وراسل بهاء الدولة، وصالحه، وزاد في إقطاعه، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وعاد إلى البصرة، وحمل معه كل ما أخذه من دار بهاء الدولة ودور الأكابر والقواد والتجار.
ذكر غزوة بهاطيةفي هذه السنة غزا يمين الدولة بهاطية من أعمال الهند، وهي وراء المولتان، ، وصاحبها يعرف ببحيرا، وهي مدينة حصينة، عالية السور، يحيط بها خندق عميق، فامتنع صاحبها بها، ثم إنه خرج إلى ظاهرها، فقاتل المسلمين ثلاثة أيام ثم انهزم في الرابع، وطلب المدينة ليدخلها، فسبقهم المسلمون إلى باب البلد فملكوه عليهم، وأخذتهم السيوف من بين أيديهم ومن خلفهم، فقتل المقاتلة وسبيت الذرية وأخذت الأموال.
وأما بحيرا فإنه لما عاين الهلاك أخذ جماعة من ثقاته وسار إلى رؤوس تلك الجبال، فسير إليه يمين الدولة سرية، فلم يشعر بهم بحيرا إلا وقد أحاطوا به، وحكموا السيوف في أصحابه، فلما أيقن بالعطب أخذ خنجراً معه فقتل به نفسه، وأقام يمين الدولة ببهاطية حتى أصلح أمرها، ورتب قواعدها، وعاد عنها إلى غزنة، واستخلف بها من يعلم من أسلم من أهلها ما يجب عليهم تعلمه، ولقي في عوده شدة شديدة من الأمطار وكثرتها، وزيادة الأنهار، فغرق منه ومن عسكره شيء عظيم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كان بإفريقية غلاء شديد بحيث تعطلت المخابز والحمامات، وهلك الناس، وذهبت الأموال من الأغنياء، وكثر الوباء، فكان يموت كل يوم ما بين خمسمائة إلى سبعمائة.
وفيها وصل قرواش وأبو جعفر الحجاج إلى الكوفة، فقبضا على أبي علي عمر بن محمد بن عمر العلوي، وأخذ منه قرواش مائة ألف دينار، وحمله معه إلى الأنبار.
وفيها توفي إسحاق بن محمد بن حمدان بن محمد بن نوح أبو إبراهيم المهلبي.
وفيها توفي محمد بن علي بن الحسين بن الحسن بن أبي إسماعيل العلوي الهمذاني، الفقيه الشافعي، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ست وتسعين وثلاثمائة
ذكر غزوة المولتانفي هذه السنة غزا السلطان يمين الدولة المولتان.
وكان سبب ذلك أن واليها أبا الفتوح نقل عنه خبث اعتقاده، ونسب إلى الإلحاد، وأنه قد دعا أهل ولايته إلى ما هو عليه، فأجابوه. فرأى يمين الدولة أن يجاهده ويستنزله عما هو عليه، فسار نحوه، فرأى الأنهار التي في طريقه كثيرة الزيادة، عظيمة المد، وخاصة سيحون، فإنه منع جانبه من العبور، فأرسل إلى أندبال يطلب إليه أن يأذن له في العبور، ببلاده إلى المولتان، فلم يجبه إلى ذلك، فابتدأ به قبل المولتان، وقال: نجمع بين غزوتين، لأنه لا غزو إلا التعقيب؛ فدخل بلاده، وجاسها، وأكثر القتل فيها، والنهب لأموال أهلها، والإحراق لأبنيتها، ففر أندبال من بين يديه وهو في أثره كالشهاب في أثر الشيطان، من مضيق إلى مضيق، إلى أن وصل إلى قشمير.
ولما سمع أبو الفتوح بخبر إقباله إليه علم عجزه عن الوقوف بين يديه والعصيان عليه، فنقل أمواله إلى سرنديب، وأخلى المولتان، فوصل يمين الدولة إليها ونازلها، فإذا أهلها في ضلالهم يعمهون، فحصرهم، وضيق عليهم، وتابع القتال حتى افتتحها عنوةً، وألزم أهلها عشرين ألف درهم عقوبةً لعصيانهم.
ذكر عزوة كواكيرثم سار عنها إلى قلعة كواكير، وكان صاحبها يعرف ببيدا، وكان بها ستمائة صنم، فافتتحها وأحرق الأصنام، فهرب صاحبها إلى قلعته المعروفة بكالنجار، فسار خلفه إليها، وهو حصن كبير يسع خمسمائة ألف إنسان، وفيه خمسمائة فيل، وعشرون ألف دابة، وفي الحصن ما يكفي الجميع مدة. فلما قاربها يمين الدولة وبقي بينهما سبعة فراسخ رأى من الغياض المانعة من سلوك الطريق ما لا حد عليه، فأمر بقطعها، ورأى في الطريق وادياً عظيم العمق، بعيد القعر، فأمر أن يطم منه مقدار ما يسع عشرين فارساً، فطموه بالجلود المملوءة تراباً، ووصل إلى القلعة فحصرها ثلاثة وأربعين يوماً، وراسله صاحبها في الصلح فلم يجبه.
ثم بلغه عن خراسان اختلاف بسبب قصد ايلك الخان لها، فصالح ملك الهند على خمسمائة فيل، وثلاثة آلاف من فضة، ولبس خلعه يمين الدولة بعد أن استعفى من شد المنطقة، فإنه اشتد عليه، فلم يجبه يمين الدولة إلى ذلك، فشد المنطقة، وقطع إصبعه الخنصر وأنفذها إلى يمين الدولة توثقةً فيما يعتقدونه، وعاد يمين الدولة إلى خراسان لإصلاح ما اختلف فيها، وكان عازماً على الوغول في بلاد الهند.
ذكر عبور عسكر ايلك الخان إلى خراسانكان يمين الدولة لما استقر له ملك خراسان، وملك ايلك الخان ما وراء النهر، قد راسله ووافقه وتزوج ابنته، وانعقدت بينهما مصاهرة ومصالحة، فلم تزل السعاة حتى أفسدوا ذات بينهما، وكتم ايلك الخان ما في نفسه، فلما سار يمين الدولة إلى المولتان اغتنم ايلك الخان خلو خراسان، فسير سباشي تكين، صاحب جيشه في هذه السنة، إلى خراسان في معظم جنده، وسير أخاه جعفر تكين إلى بلخ في عدة من الأمراء.
وكان يمين الدولة قد جعل بهراة أميراً من أكابر أمرائه يقال له: أرسلان الجاذب، فأمره إذا ظهر عليه مخالف أن ينحاز إلى غزنة. فلما عبر سباشي تكين إلى خراسان سار أرسلان إلى غزنة، وملك سباشي هراة وأقام بها، وأرسل إلى نيسابور من استولى عليها.
واتصلت الأخبار بيمين الدولة، وهو بالهند، فرجع إلى غزنة لا يلوي على دار، ولا يركن إلى قرار، فلما بلغها فرق في عساكره الأموال، وقواهم، وأصلح ما أراد إصلاحه، واستمد الأتراك الخلجية، فجاءه منه خلق كثير، وسار بهم نحو بلخ، وبها جعفر تكين أخو ايلك الخان، فعبر إلى ترمذ، ونزل يمين الدولة ببلخ، وسير العساكر إلى سباشي تكين بهراة، فلما قاربوه سار نحو مرو ليعبر النهر، فلقيه التركمان الغزية، فقاتلوه فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة.
ثم سار نحو أبيورد لتعذر العبور عليه، فتبعه عسكر يمين الدولة، كلما رحل نزلوا، حتى ساقه الخوف من الطلب إلى جرجان فأخرج عنها، ثم عاد إلى خراسان، فعارضه يمين الدولة، فمنعه عن مقصده، وأسر أخو سباشي تكين وجماعة من قواده، ونجا هو في خف من أصحابه، فعبر النهر.
وكان ايلك الخان قد عبر أخاه جعفر تكين إلى بلخ ليلفت يمين الدولة عن طلب سباشي، فلم يرجع، وجعل دأبه إخراج سباشي من خراسان، فلما أخرجه عنها عاد إلى بلخ، فانهزم من كان بها مع جعفر تكين، وسلمت خراسان ليمين الدولة.
ذكر الحرب بين عسكر بهاء الدولة والأكرادفي هذه السنة سير عميد الجيوش عسكراً إلى البندنيجين، وجعل المقدم عليهم قائداً كبيراً من الديلم، فلما وصلوا إليها سار إليهم جمع كثير من الأكراد، فاقتتلوا، فانهزم الديلم، وغنم الأكراد رحلهم ودوابهم، وجرد المقدم عليهم من ثيابه، فأخذ قميصاً من رجل سوادي، وعاد راجلاً حافياً، ولم يكن مقامهم غير أيام قليلة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قلد الشريف الرضي نقالة الطالبيين بالعراق، ولقب بالرضي ذي الحسبين، ولقب أخوه المرتضى ذا المجدين، فعل ذلك بهاء الدولة.
وفيها توفي أبو أحمد عبد الرحيم بن علي بن المرزبان الأصبهاني، قاضي خراسان، وكان إليه أمر البيمارستان ببغداد.
وفيها، مستهل شعبان، طلع كوكب كبير يشب الزهرة عن يسرة قبلة العراق، له شعاع على الأرض كشعاع القمر، وبقي إلى منتصف ذي القعدة وغاب.
وفيها توفي أبو سعد إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي الإمام، الفقيه الشافعي، بجرجان في ربيع الآخر، ومحمد بن إسحاق بن محمد ابن يحيى بن مندة أبو عبدالله الحافظ الأصبهاني المشهور، له التصانيف المعروفة.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وثلاثمائة
ذكر هزيمة ايلك الخانلما أخرج يمين الدولة عساكر ايلك الخان من خراسان، راسل ايلك الخان قدر خان بن بغراخان ملك الختل لقرابة بينهما، وذكر له حاله، واستعان به، واستنصره، واستنفر الترك من أقاصي بلادها، وسار نحو خراسان، واجتمع هو وايلك الخان، فعبرا النهر.
وبلغ الخبر يمين الدولة، وهو بطخارستان، فسار وسبقهما إلى بلخ، واستعد للحرب، وجمع الترك الغزية، والخلج، والهند، والأفغانية، والغزنوية، وخرج عن بلخ، فعسكر على فرسخين بمكان فسيح يصلح للحرب، وتقدم ايلك الخان، وقدرخان في عساكرهما، فنزلوا بإزائه، واقتتلوا يومهم ذلك إلى الليل.
فلما كان الغد برز بعضهم إلى بعض واقتتلوا، واعتزل يمين الدولة إلى نشز مرتفع ينظر إلى الحرب، ونزل عن دابته وعفر وجهه على الصعيد تواضعاً لله تعالى، وسأله النصر والظفر، ثم نزل وحمل في فيلته على قلب ايلك الخان، فأزاله عن مكانه، ووقعت الهزيمة فيهم، وتبعهم أصحاب يمين الدولة يقتلون، ويأسرون، ويغنمون إلى أن عبروا بهم النهر، وأكثر الشعراء تهنئة يمين لدولة بهذا الفتح.
ذكر غزوه إلى الهندفلما فرغ يمين لدولة من الترك سار نحو الهند للغزاة.
وسبب ذلك أن بعض أولاد ملوك الهند، يعرف بنواسه شاه وكان قد أسلم على يده، واستخلفه على بعض ما افتتحه من بلادهم.
فلما كان الآن بلغه أنه ارتد عن الإسلام، ومالأ أهل الكفر والطغيان، فسار إليه مجداً، فحين قاربه فر الهندي من بين يديه، واستعاد يمين الدولة تلك الولاية، وأعادها إلى حكم الإسلام، واستخلف عليها بعض أصحابه، وعاد إلى غزنة.
ذكر حصر أبي جعفر الحجاج بغداد
في هذه السنة جمع أبو جعفر الحجاج جمعاً كثيراً، وأمده بدر بن حسنويه بجيش كثير، فسار بالجميع وحصر بغداد.
وسبب ذلك أن أبا جعفر كان نازلاً على قلج حامي طريق خراسان، وكان قلج مبايناً لعميد الجيوش، فاجتمعا لذلك. فتوفي قلج هذه السنة، فجعل عميد الجيوش على حماية الطريق أبا الفتح بن عناز، وكان عدواً لبدر بن حسنويه، فحقد ذلك بدر، فاستدعى أبا جعفر الحجاج، وجمع له جمعاً كثيراً، منهم الأمير هندي بن سعدي، وأبو عيسى شاذي بن محمد، وورام بن محمد، وغيرهم، وسيرهم إلى بغداد.
وكان الأمير أبو الحسن علي بن مزيد الأسدي قد عاد من عند بهاء الدولة بخوزستان مغضباً، فاجتمع معهم، فزادت عدتهم على عشرة آلاف فارس.
وكان عميد الجيوش عند بهاء الدولة لقتال أبي العباس بن واصل، فسار أبو جعفر ومن اجتمع معه إلى بغداد، ونزلوا على فرسخ منها، وأقاموا شهراً، وببغداد جمعٌ من الأتراك، ومعهم أبو الفتح بن عناز، فحفظوا البلد، فبينما هم كذلك أتاهم خبر انهزام أبي العباس، وقوة بهاء الدولة، ففت ذلك في أعضاد أبي جعفر ومن معه، فتفرقوا، فعاد ابن مزيد إلى بلده، وسار أبو جعفر وأبو عيسى إلى حلوان، وراسل أبو جعفر في إصلاح حاله مع بهاء الدولة، فأجابه إلى ذلك، فحضر عنده بتستر، فلم يلتفت إليه لئلا يستوحش عميد الجيوش.
ذكر قصد بدر ولاية رافع بن مقنكان أبو الفتح بن عناز التجأ إلى رافع بن محمد بن مقن، ونزل عليه، حين أخذ بدر بن حسنويه منه حلوان وقرميسين، فأرسل بدر إلى رافع يذكر مودة أبيه، وحقوقه عليه، ويعتب عليه حيث آوى خصمه، ويطلب إليه أن يبعده ليدوم له على العهد والود القديم. فلم يفعل رافع ذلك، فأرسل بدر جيشاً إلى أعمال رافع بالجانب الشرقي من دجلة فنهبها، وقصدوا داره بالمطيرة فنهبوها، وأحرقوها، وساروا إلى قلعة البردان، وهي لرافع أيضاً، ففتحوها قهراً، وأحرقوا ما كان بها من الغلات، وطموا بئرها، فسار أبو الفتح إلى عميد الجيوش ببغداد، فخلع عليه وأكرمه ووعده نصره.
ذكر قتل أبي العباس بن واصلفي هذه السنة قتل أبو العباس بن واصل، صاحب البصرة، وقد تقدم ذكر ابتداء حاله، وارتفاعه، واستيلائه على البطيحة، وما أخذه من الأموال، وما هزم من جيوش السلطان، وغير ذلك مما هو مذكور في مواضعه.
فلما عظم أمره سار بهاء الدولة من فارس إلى الأهواز ليحفظ خوزستان منه، وكان في البطائح مقابل عميد الجيوش، فلما فرغ منه سار إلى الأهواز، وبها بهاء الدولة، فملكها على ما ذكرناه وعاد منها على صلح مع بهاء الدولة إلى البصرة، وقد ذكرناه أيضاً.
ثم تجدد ما أوجب عوده إلى الأهواز، فعاد إليها في جيشه، وبهاء الدولة مقيم بها، فلما قاربها رحل بهاء الدولة عنها لقلة عسكره، وتفرقهم: بعضهم بفارس، وبعضهم بالعراق، وقطع قنطرة أربق، وبقي النهر يحجز بين الفريقين، فاستولى أبو العباس على الأهواز، وأتاه مدد من بدر بن حسنويه ثلاثة آلاف فارس، فقوي بهم.
وعزم بهاء الدولة على العود إلى فارس، فمنعه أصحابه، فأصلح أبو العباس القنطرة، وجرى بين العسكرين قتال شديد دام إلى السحر، ثم عبر أبو العباس على القنطرة بعد أن أصلحها، والتقى العسكران واشتد القتال، فانهزم أبو العباس، وقتل من أصحابه كثير، وعاد إلى البصرة مهزوماً منتصف رمضان سنة ست وتسعين وثلاثمائة. فلما عاد منهزماً جهز بهاء الدولة إليه العساكر مع وزيره أبي غالب، فسار إليه، ونزل عليه محاصراً له، وجرى بين العسكرين القتال، وضاق الأمر على الوزير، وقل المال عنده، واستمد بهاء الدولة فلم يمده.
ثم إن أبا لعباس جمع سفنه وعساكره، وأصعد إلى عسكر الوزير، وهجم عليه، فانهزم الوزير، وكاد يتم على الهزيكة، فاستوقفه بعض الديلم وثبته، وحملوا على أبي العباس فانهزم هو وأصحابه، وأخذ الوزير سفنه، فاستأمن إليه كثير من أصحابه.
ومضى، أبو العباس منهزماً، وركب مع حسان بن ثمان الخفاجي هارباً إلى الكوفة، ودخل الوزير البصرة، وكتب إلى بهاء الدولة بالفتح.
ثم إن أبا العباس سار من الكوفة، وقطع دجلة، ومضى عازماً على اللحاق ببدر بن حسنويه، فبلغ خانقين، وبها جعفر بن العوام في طاعة بدر، فأنزله وأكرمه، وأشار عليه بالمسير في وقته، وحذره الطلب، فاعتل بالتعب، وطلب الاستراحة، ونام، وبلغ خبره إلى أبي الفتح بن عناز وهو في طاعا بهاء الدولة، وكان قريباً منهم، فسار إليهم بخانقين، وهو بها، فحصره وأخذه وسار به إلى بغداد، فسيره عميد الجيوش إلى بهاء الدولة، فلقيهم في الطريق قاصدٌ من بهاء الدولة يأمره بقتله، فقتل وحمل رأسه إلى بهاء الدولة، وطيف به بخوزستان وفارس، وكان بواسط عاشر صفر.
ذكر مسير عميد الجيوش إلى حرب بدر
وصلحه معهكان في نفس بهاء الدولة على بدر بن حسنويه حقدٌ لما اعتمده في بلاده لاشتغاله عنه بأبي العباس بن واصل، فلما قتل أبو العباس أمر بهاء الدولة عميد الجيوش بالمسير إلى بلاده، وأعطاه مالاً أنفقه في الجند، فجمع عسكراً وسار يريد بلاده، فنزل جنديسابور. فأرسل إليه بدر: إنك لم تقدر على أن تأخذ ما تغلب عليه بنو عقيل من أعمالكم، وبينهم وبين بغداد فرسخ، حتى صالحتهم، فكيف تقدر على أخذ بلادي وحصوني مني، ومعي من الأموال ما ليس معك مثلها ؟ وأنا معك بين أمرين إن حاربتك، فالحرب سجال، ولا نعلم لمن العاقبة، فإن انهزمت أنا لم ينفعك ذلك لأنني أ؛تمي بقلاعي ومعاقلي، وأنفق أموالي، وإذا عجزت فأنا رجلٌ صحراوي، صاحب عمد، أبعد ثم أقرب، وإن انهزمت أنت لم تجتمع، وتلقى من صاحبك العتب؛ والرأي أن أحمل إليك مالاً ترضي به صاحبك، ونصطلح. فأجابه إلى ذلك، وصالحه، وأخذ منه ما كان أخرجه على تجهيز الجيش وعاد عنه.
ذكر الحرب بين قرواش وأبي علي بن ثمال الخفاجيفي المحرم جرت وقعة بين معتمد الدولة أبي المنيع قرواش بن المقلد العقيلي، وبين أبي علي بن ثمال الخفاجي، وكان سببها أن قرواشاً جمع جمعاً كثيراً وسار إلى الكوفة، وأبو علي غائب عنها، فدخلها ونزل بها، وعرف أبو علي الخبر، فسار إليه، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم قرواش وعاد إلى الأنبار مفلولاً؛ وملك أبو علي الكوفة، وأخذ أصحاب قرواش فصادرهم.
ذكر خروج أبي ركوة على الحاكم بمصرفي هذه السنة ظفر الحاكم بأبي ركوة، ونحن نذكر ها هنا خبره أجمع.
كان أبو ركوة اسمه الوليد، وإنما كني أبا ركوة لركوةٍ كان يحملها في أسفاره، سنة الصوفية، وهو من ولد هشام بن عبد الملك بن مروان، ويقرب في النسب من المؤيد هشام بن الحاكم الأموي، صاحب الأندلس، وإن المنصور ابن أبي عامر لما استولى على المؤيد هشام بن الحاكم الأموي، صاحب الأندلس، وإن المنصور ابن أبي عامر لما استولى على المؤيد وأخفاه عن الناس، تتبع أهله ومن يصلح منهم للملك، فطلبه، فقتل البعض وهرب البعض.
وكان أبو ركوة ممن هرب، وعمره حينئذ قد زاد على العشرين سنة، وقصد مصر، وكتب الحديث، ثم سار إلى مكة واليمن، وعاد إلى مصر ودعا بها إلى القائم، فأجابه بنو قرة وغيرهم.
وسبب استجابتهم أن الحاكم بأمر الله كان قد أسرف في مصر في قتل القواد، وحبسهم، وأخذ أموالهم، وسائر القبائل معه في ضنكٍ وضيقٍ، ويودون خروج الملك عن يده؛ وكان الحاكم في الوقت الذي دعا أبو ركوة بني قرة قد آذاهم، وحبس منهم جماعة من أعيانهم، وقتل بعضهم، فلما دعاهم أبو ركوة انقادوا له.
وكان بين بني قرة وبين زناته حروب ودماء، فاتفقوا على الصلح، ومنع أنفسهم من الحاكم، فقصد بني قرة، وفتح يعلم الصبيان الخط، وتظاهر بالدين والنسك، وآمهم في صلواتهم، فشرع في دعوتهم إلى ما يريد، فأجابوه وبايعوه، واتفقوا عليه، وعرفهم حينئذ نفسه، وذكر لهم أن عندهم في الكتب أنه يملك مصر وغيرها، ووعدهم ومناهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً. فاجتمعت بنو قرة وزناتة على بيعته، وخاطبوه بالإمامة، وكانوا بنواحي برقة. فلما سمع الوالي ببرقة خبره كتب إلى الحاكم ينهيه إليه، ويستأذنه في قصدهم وإصلاحهم، فأمره بالكف عنهم وأطراحهم.
ثم إن أبا ركوة جمعهم وسار إلى برقة، واستقر بينهم أن يكون الثلث من الغنائم له، والثلثان لبني قرة وزناتة، فلما قاربها خرج إليه واليها، فالتقوا، فانهزم عسكر الحاكم، وملك أبو ركوة برقة، وقوي هو ومن معه بما أخذوا من الأموال والسلاح وغيره، ونادى بالكف عن الرعية والنهب، وأظهر العدل وأمر بالمعروف.
فلما وصل المنهزمون إلى الحاكم عظم عليه الأمر، وأهمته نفسه وملكه، وعاود الإحسان إلى الناس، والكف عن أذاهم، وندب عسكراً نحو خمسة آلاف فارس وسيرهم، وقدم عليهم قائداً يعرف بينال الطويل، وسيره، فبلغ ذات الحمام، وبينها وبين برقة مفازة فيها منزلان، لا يلقى السالك الماء إلا في آبار عميقة بصعوبة وشدة. فسير أبو ركوة قائداً في ألف فارس، وأمرهم بالمسير إلى ينال ومن معه ومطاردتهم قبل الوصول إلى المنزلين المذكورين، وأمرهم، إذا عادوا، أن يغوروا الآبار، ففعلوا ذلك وعادوا، فحينئذ سار أبو ركوة في عساكره ولقيهم وقد خرجوا من المفازة على ضعفٍ وعطش، فقاتلهم، فاشتد القتال، فحمل ينال على عسكر أبي ركوة، فقتل منهم خلقاً كثيراً، وأبو ركوة واقف لم يحمل هو ولا عسكره، فاستأمن إليه جماعة كثيرة من كتامة لما نالهم من الأذى والقتل من الحاكم، وأخذوا الأمان لمن بقي من أصحابهم، ولحقهم الباقون، فحمل حينئذ بهم على عساكر الحاكم، فانهزمت وأسر ينال وقتل، وأسر أكثر عسكره، وقتل منهم خلق كثير، وعاد إلى برقة وقد امتلأت أيديهم من الغنائم.
وانتشر ذكره، وعظمت هيبته، وأقام ببرقة، وترددت سراياه إلى الصعيد وأرض مصر، وقام الحاكم من ذلك وقعد، وسقط في يده، وندم على ما فرط، وفرح جند مصر وأعيانها، وعلم الحاكم ذلك، فاشتد قلقه، وأظهر الاعتذار عن الذي فعله.
وكتب الناس إلى أبي ركوة يستدعونه، وممن كتب إليه الحسين بن جوهر المعروف بقائد القواد، فسار حينئذ عن برقة إلى الصعيد، وعلم الحاكم، فاشتد خوفه، وبلغ الأمر به كل مبلغ، وجمع عساكره واستشارهم، وكتب إلى الشام يستدعي العساكر، فجاءته، وفرق الأموال، والدواب، والسلاح، وسيرهم وهم اثنا عشر ألف رجل بين فارس وراجل، سوى العرب، واستعمل عليهم الفضل بن عبدالله. فلما قاربوا أبا ركوة لقيهم في عساكره، ورام مناجزة المصريين، والفضل يحاجزه، ويدافع، ويراسل أصحاب أبي ركوة يستميلهم ويبذل لهم الرغائب، فأجابه قائد كبير من بني قرة يعرف بالماضي، وكان يطالعه بأخبار القوم وما هم عازمون، فيدبر الفضل أمره على حسب ما يعلمه منه..
وضاقت الميرة على العساكر، فاضطر الفضل إلى اللقاء، فالتقوا واقتتلوا بكوم شريك، فقتل بين الفريقين قتلى كثيرة، ورأى الفضل من جمع أبي ركوة ما هاله، وخاف المناجزة فعاد إلى عسكره.
وراسل بنو قرة العرب الذين في عسكر الحاكم يستدعونهم إليهم ويذكرونهم أعمال الحاكم بهم، فأجابوهم، واستقر الأمر أن يكون الشام للعرب ويصير لأبي ركوة معه مصر، وتواعدوا ليلة يسير فيها أبو ركوة إلى الفضل، فإذا وصل إليه انهزمت العرب، ولا يبقى دون مصر مانع. فكتب الماضي إلى الفضل بذلك، فلما كان ليلة الميعاد جمع الفضل رؤساء العرب ليفطروا عنده، وأظهر أنه صائم، وطاولهم الحديث، وتركهم في خيمة واعتزلهم، ووصى أصحابه بالحذر، ورام العرب العود إلى خيامهم، فعللهم وطاولهم، ثم أحضر الطعام وأحضرهم، فأكلوا وتحدثوا.
وسير الفضل سرية إلى طريق أبي ركوة، فلقوا العسكر الوارد من عنده، فاقتتلوا، ووصل الخبر إلى العسكر وارتج، وأراد العرب الركوب، فمنعهم، وأرسل إلى أصحابهم من العرب فأمرهم بالركوب والقتال، ولم يكن عندهم علم بما فعل رؤساؤهم، فركبوا واشتد القتال، ورأى بنو قرة الأمر على خلاف ما قرروه.
ثم ركب الفضل ومعه رؤساء العرب، وقد فاتهم ما عزموا عليه، فباشروا الحرب وغاصوا فيها، وورد أبو ركوة مدداً لأصحابه، فلما رآه الفضل رد أصحابه وعاد إلى المدافعة.
وجهز الحاكم عسكراً آخر، أربعة آلاف فارس، وعبروا إلى الجيزة، فسمع أبو ركوة بهم، فسار مجداً في عسكره ليوافقهم عند مصر، وضبط الطرق لئلا يسمع الفضل، ولم يكن الماضي يكاتبه، فساروا، وأرسل إليه من الطريق يعرفه الخبر، وقطع أبو ركوة مسيره خمس ليالٍ في ليلتين، وكبسوا عسكر الحاكم بالجيزة، وقتلوا نحو ألف فارس، وخاف أهل مصر، ولم يبرز الحاكم من قصره، وأمر الحاكم من عنده من العساكر بالعبور إلى الجيزة، ورجع أبو ركوة فنزل عند الهرمين، ثم انصرف من يومه، وكتب الحاكم إلى الفضل كتاباً ظاهراً يقول فيه: إن أبا ركوة انهزم من عساكرنا، ليقرأه على القواد وكتب إليه سراً يعلمه الحال. فأظهر الفضل البشارة بانهزام أبي ركوة تسكيناً للناس.
ثم سار أبو ركوة إلى موضع يعرف بالسبخة، كثير الأشجار، وتبعه الفضل، وكمن أبو ركوة بين الأشجار، وطارد عسكر الفضل، ورجع عسكره القهقري ليستجروا عسكر الفضل ويخرج الكمين عليهم، فلما رأى الكمناء رجوع عسكر أبي ركوة ظنوها الهزيمة لا شك فيها، فولوا يتبعونهم، وركبهم أصحاب الفضل، وعلوهم بالسيوف فقتل منهم ألوف كثيرة، وانهزم أبو ركوة ومعه بنو قرة وساروا إلى حللهم، فلما بلغوها ثبطهم الماضي عنه، فقالوا له: قد قاتلنا معك، ولم يبق فينا قتال، فخذ لنفسك وانج؛ فسار إلى بلد النوبة، فلما بلغ إلى حصن يعرف بحصن الجبل للنوبة أظهر أنه رسول من الحاكم إلى ملكهم، فقال له صاحب الحصن: الملك عليل، ولا بد من استخراج أمره في مسيرك إليه.
وبلغ الفضل الخبر، فأرسل إلى صاحب القلعة بالخبر على حقيقته، فوكل به من يحفظه، وأرسل إلى الملك بالحال، وكان ملك النوبة قد توفي وملك ولده، فأمر بأن يسلم إلى نائب الحاكم، فتسلمه رسول الفضل وسار به، فلقيه الفضل وأكرمه وأنزله في مضاربه، وحمله إلى مصر فأشهر بها، وطيف به.
وكتب أبو ركوة إلى الحاكم رقعة يقول فيها: يا مولانا الذنوب عظيمة، وأعظم منها عفوك، والدماء حرام ما لم يحللها سخطك، وقد أحسنت وأسأت وما ظلمت إلا نفسي، وسوء عملي أوبقني، وأقول:
فررت فلم يغن الفرار، ومن يكن ... مع الله لم يعجزه في الأرض هارب
ووالله ما كان الفرار لحاجةٍ، ... سوى فزع الموت الذي أنا شارب
وقد قادني جرمي إليك برمّتي، ... كما خرّ ميتٌ في رحا الموت سارب
وأجمع كلّ الناس أنّك قاتلي، ... فيما ربّ ظنّ ربّه فيك كاذب
وما هو إلاّ الانتقام، وينتهي، ... وأخذك منه واجباً لك واجب
ولما طيف به ألبس طرطوراً، وجعل خلفه قرد يصفعه، كان معلماً بذلك، ثم حمل إلى ظاهر القاهرة ليقتل ويصلب، فتوفي قبل وصوله، فقطع رأسه وصلب، وبالغ الحاكم في إكرام الفضل إلى حد أنه عاده في مرضةٍ مرضها دفعتين، فاستعظم الناس ذلك، ثم إنه عمل في قتل الفضل لما عوفي فقتله.
ذكر القبض على مجد الدولة وعوده إلى ملكهفي هذه السنة قبضت والدة مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه، صاحب الري وبلد الجبل، عليه.
وكان سبب ذلك أن الحكم كان إليها في جميع، أعمال ابنها، فلما وزر له الخطير أبو علي بن علي بن القاسم استمال الأمراء، ووضعهم عليها، والشكوى عليها، وخوف ابنها منها، فصار كالمحجور عليه. فخرجت من الري إلى القلعة فوضع عليها من يحفظها، فعملت الحيلة حتى هربت إلى بدر بن حسنويه، واستعانت به في ردها إلى الري.
وجاءها ولدها شمس الدولة، وعساكر همذان، وسار معها بدر إلى الري فحصروها، وجرى بين الفرقين قتال كثير مدةً، ثم استظهر بدر، ودخل البلد، وأسر مجد الدولة، فقيدته والدته وسجنته بالقلعة، وأجلست أخاه شمس الدولة في الملك وصار الأمر إليها.
وعاد بدر إلى بلده، وبقي شمس الدولة في الملك نحو سنة، فرأت والدته منه تنكراً وتغيراً، وأن أخاه مجد الدولة ألين عريكةً، وأسلم جانباً، فأعادته إلى الملك، وسار شمس الدولة إلى همذان، وكره بدر هذه الحالة إلا أنه اشتغل بولده هلال عن الحركة فيها، وصارت هي تدبر الأمر، وتسمع رسائل الملوك، وتعطي الأجوبة.
وأرسل شمس الدولة إلى بدر يستمده، فسير إليه جنداً، فأخذهم وسار بهم إلى قم، فحصروها، فمنعها أهلها. ثم إن العساكر دخلوا طرفاً منها واشتغلوا بالنهب، فأكب عليهم العامة وقتلوا منهم نحو سبعمائة رجل، وانهزم الباقون إلى معسكرهم، ثم قبض هلال بن بدر على أبيه، فتفرق ذلك الجمع كله.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة اشتد الغلاء بالعراق، فضج العامة، وشغب الجند وكانت فتنة.
وفيها توفي عبد الصمد الزاهد، ودفن عند قبر أحمد، وكان غاية في الزهد والورع.
وفيها هب على الحجاج ريح سوداء بالثعلبية أظلمت لها الأرض، ولم ير الناس بعضهم بعضاً، وأصابهم عطش شديد، ومنعهم ابن الجراح الطائي من المسير ليأخذ منهم مالاً، فضاق الوقت عليهم، فعادوا ولم يحجوا.
وفيها مات علي بن أحمد أبو الحسن الفقيه المالكي، المعروف بابن القصار.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة
ذكر غزوة بهيم نفر
لما فرغ يمين الدولة من الغزوة المتقدمة وعاد إلى غزنة، واستراح هو وعسكره، استعد لغزوة أخرى، فسار في ربيع الآخر من هذه السنة، فانتهى إلى شاطئ نهر هندمند، فلاقاه هناك ابرهمن بال بن اندبال في جيوش الهند، فاقتتلوا ملياً، وكادت الهند تظفر بالمسلمين، ثم إن الله تعالى نصر عليهم، فظفر بهم المسلمون، فانهزموا على أعقابهم، وأخذهم المسلمون بالسيف.
وتبع يمين الدولة أثر ابرهمن بال، حتى بلغ قلعة بهيم نغر، وهي على جبل عالٍ كان الهند قد جعلوها خزانةً لصنمهم الأعظم، فينقلون إليهال أنواع الذخائر، قرناً بعد قرن، وأعلاق الجواهر، وهم يعتقدون ذلك ديناً وعبادة، فاجتمع فيها على طول الأزمان ما لم يسمع بمثله، فنازلهم يمين الدولة وحصرهم وقاتلهم.
فلما رأى الهنود كثرة جمعه، وحرصهم على القتال، وزحفهم إليهم مرة بعد أخرى، خافوا وجبنوا، وطلبوا الأمان، وفتحوا باب الحصن، وملك المسلمون القلعة، وصعد يمين الدولة إليها في خواص أصحابه وثقاته، فأخذ منها من الجواهر ما لا يحد، ومن الدراهم تسعين ألف ألف درهم شاهية، ومن الأواني الذهبيات والفضيات سبعمائة ألف وأربعمائة من، وكان فيها بيت مملوء من فضة طوله ثلاثون ذراعاً، وعرضه خمسة عشر ذراعاً، إلى غير ذلك من الأمتعة.
وعاد إلى غزنة بهذه الغنائم، ففرش تلك الجواهر في صحن داره، وكان قد اجتمع عنده رسل الملوك، فأدخلهم إليه، فرأوا ما لم يسمعوا بمثله.
ذكر حال أبي جعفر بن كاكويههو أبو جعفر بن دشمنزيار، وإنما قيل كاكويه لأنه كان ابن خال والدة مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه، وكاكويه هو الخال بالفارسية، وكانت والدة مجد الدولة قد استعملته على أصبهان، فلما فارقت ولدها فسد حاله، فقصد الملك بهاء الدولة وأقام عنده مدة، ثم عادت والدة مجد الدولة إلى ابنها بالري، فهرب أبو جعفر وسار إليها، فأعادته إلى أصبهان، واستقر فيها قدمه، وعظم شأنه، وسيأتي من أخباره ما يعلم به صحة ذلك، إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، وقع ثلج كثير ببغداد وواسط والكوفة، والبطائح إلى عبادان، وكانت ببغداد نحو ذراع، وبقي في الطرق نحو عشرين يوماً.
وفيها وقعت الفتنة ببغداد في رجب، وكان أولها أن بعض الهاشميين من باب البصرة أتى ابن المعلم فقيه الشيعة في مسجده بالكرخ، فآذاه، ونال منه، فثار به أصحاب ابن المعلم، واستنفر بعضهم بعضاً، وقصدوا أبا حامد الأسفراييني وابن الأكفاني فسبوهما وطلبوا الفقهاء ليوقعوا بهم، فهربوا، وانتقل أبو حامد الأسفراييني إلى دار القطن، وعظمت الفتنة، ثم إن السلطان أخذ جماعةً وسجنهم، فسكنوا، وعاد أبو حامد إلى مسجده، وأخرج ابن المعلم من بغداد، فشفع فيه علي بن مزيد فأعيد.
وفيها وقع الغلاء بمصر واشتد، وعظم الأمر، وعدمت الأقوات، ثم تعقبه وباء كثير أفنى كثيراً من أهلها.
وفيها زلزلت الدينور زلزلةً شديدةً خربت المساكن، وهلك خلق كثير من أهلها؛ وكان الذين دفنوا ستة عشر ألفاً سوى من بقي تحت الهدم ولم يشاهد.
وفيها أمر الحاكم بأمر الله، صاحب مصر، بهدم بيعة قمامة، وهي بالبيت المقدس، وتسميها العامة القيامة، وفيها الموضع الذي دفن فيه المسيح، عليه السلام، فيما يزعمه النصارى، وإليها يحجون من أقطار الأرض، وأمر بهدم البيع في جميع مملكته، فهدمت، وأمر اليهود والنصارى إما أن يسلموا؛ أو يسيروا إلى بلاد الروم ويلبسوا الغيار، فأسلم كثير منهم، ثم أمر بعمارة البيع، ومن اختار العود إلى دينه عاد، فارتد كثير من النصارى.
وفيها توفي أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي، وزير مجد الدولة، ببروجرد، وكان سبب مجيئه إليها أن أم مجد الدولة بن بويه اتهمته أنه سم أخاه فمات، فلما توفي أخوه طلبت منه مائتي دينار لتنفقها في مأتمه، فلم يعطها، فأخرجته، فقصد بروجرد، وهي من أعمال بدر بن حسنويه، فبذل بعد ذلك مائتي ألف دينار ليعود إلى عمله، فلم يقبل منه، فأقام بها إلى أن توفي، وأوصى أن يدفن بمشهد الحسين، عليه السلام، فقيل للشريف أبي أحمد، والد الشريف الرضي، أن يبيعه بخمس مائة دينار موضع قبره، فقال: من يريد جوار جدي لا يباع؛ وأمر أن يعمل له قبر وسير معه من أصحابه خمسين رجلاً، فدفنه بالمشهد.
وتوفي بعده بيسير ابنه أبو القاسم سعد؛ وأبو عبدالله الجرجاني الحنفي بعد أن فلج؛ وأبو الفرج عبد الواحد بن نصر المعروف بالببغاء الشاعر، وديوانه مشهور؛ والقاضي أبو عبدالله الضبي بالبصرة؛ والبديع أبو الفضل أحمد ابن الحسين الهمذاني، صاحب المقامات المشهورة، وله شعر حسن، وقرأ الأدب على أبي الحسين بن فارس مصنف المجمل.
وتوفي أبو بكر أحمد بن علي بن لالٍ الفقيه الشافعي الهمذاني بنواحي عكا بالشام، كان انتقل إلى هناك.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وثلاثمائة
ذكر ابتداء حال صالح بن مرداسلما قتل عيسى بن خلاط أبا علي بن ثمال بالرحبة وملكها، أقام فيها مدةً، ثم قصده بدران بن المقلد العقيلي، فأخذ الرحبة منه وبقيت لبدران. فأمر الحاكم بأمر الله نائبه بدمشق لؤلؤاً البشاري بالمسير إليها، فقصد الرقة أولاً وملكها، ثم سار إلى الرحبة وملكها ثم عاد إلى دمشق.
وكان بالرحبة رجل من أهلها يعرف بابن محكان، فملك البلد، واحتاج إلى من يجعله ظهره، ويستعين به على من يطمع فيه، فكاتب صالح بن مرداس الكلابي، فقدم عليه وأقام عنده مدةً، ثم إن صالحاً تغير عن ذلك، فسار إلى ابن محكان وقاتله على البلد، وقطع الأشجار، ثم تصالحا، وتزوج ابنة ابن محكان، ودخل صالح البلد إلا أنه كان أكثر مقامه بالحلة.
ثم إن ابن محكان راسل أهل عانة فأطاعوه، ونقل أهله وماله إليهم، وأخذ رهائنهم، ثم خرجوا عن طاعته، وأخذوا ماله واستعادوا رهائنهم وردوا أولاده، فاجتمع ابن محكان وصالح على قصد عانة، فسارا إليها، فوضع صالح على ابن محكان من يقتله، فقتل غيلةً، وسار صالح إلى الرحبة فملكها، وأخذ أموال ابن محكان وأحسن إلى الرعية، واستمر على ذلك، إلا أن الدعوة للمصريين.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قتل أبو علي بن ثمال الخفاجي، وكان الحاكم بأمر الله، صاحب مصر، قد ولاه الرحبة، فسار إليها، فخرج إليه عيسى بن خلاط العقيلي فقتله وملك الرحبة، ثم ملكها بعده غيره، فصار أمرها إلى صالح بن مرداس الكلابي صاحب حلب.
وفيها صرف أبو عمر بن عبد الواحد الهاشمي عن قضاء البصرة، وكان قد علا إسناده في رواية السنن لأبي داود السجستاني، ومن طريقه سمعناه، وولي القضاء بعده أبو الحسن بن أبي الشوارب، فقال العصفري الشاعر:
عندي حديثٌ طريفٌ ... بمثله يتغنّى
من فاضيين يعزّى ... هذا وهذا يهنّا
فذا يقول اكرهونا ... وذا يقول استرحنا
ويكذبان ونهذي ... فمن يصدّق منّا ؟
وفيها توفي أبو داود بن سيامرد بن باجعفر، ودفن عند قبر النذور بنهر المعلى، وقبته مشهورة؛ وأبو محمد النامي الفقيه الشافعي، وهو القائل:
يا ذا الذي قاسمني في البلى، ... فاختار أن يسكنه أوّلا
ما وطّنت نفسي، ولكنّها ... تسري إليكم منزلاً، منزلا
ثم دخلت سنة أربع مائة
ذكر وقعة نارين بالهندفي هذه السنة تجهز يمين الدولة إلى الهند عازماً على غزوها، فسار إليها واخترقها واستباحها ونكس أصنامها. فلما رأى ملك الهند أنه لا قوة له به راسله في الصلح والهدنة على مال يؤديه، وخمسين فيلاً، وأن يكون له في خدمته ألفا فارس لا يزالون. فقبض منه ما بذله وعاد عنه إلى عزنة.
ذكر الخلف بين بدر بن حسنويه وابنه هلالفي هذه السنة كانت حرب بين بدر بن حسنويه الكردي وبين ابنه هلال.
وكان سبب الوحشة بينهما أن أم هلال كانت من الشاذنجان، فاعتزلها أبوه عند ولاته، فنشأ هلال مبعداً منه لا يميل إليه،وكانت نعمة بدر لابنه الآخر أبي عيسى.
فلما كان في عض الأيام خرج هلال مع أبيه متصيداً، فرأيا سبعاً، وكان بدر إذا رأى سبعاً قتله بيده، فتقدم هلال إلى الأسد بغير إذن أبيه فقتله، فاغتاظ أبوه وقال: كأنك قد فتحت فتحاً، وأي فرقٍ بين السبع والكلب ؟ ورأى إبعاده عنه لشدته، فأقطعه الصامغان، وسهل ذلك على هلال لينفرد بنفسه عن أبيه، فأول ما فعله أنه أساء مجاورة ابن الماضي، صاحب شهرزور، وكان موافقا لأبيه بدر، فنهى بدر ابنه هلالاً عن معارضته، فلم يسمع قوله، وأرسل إلى ابن الماضي يتهدده، فأعاد بدر مراسلة ابنه في معناه، وتهدده إن تعرض بشي هو له، فكان جواب نهيه أنه جمع عسكره وحصر شهرزور ففتحها، وقتل ابن الماضي وأهله، وأخذ أموالهم. فورد على بدر من ذلك ما أزعجه وأقلقه، وأظهر السخط على هلال.
وشرع هلال يفسد جند أبيه ويستميلهم ويبذل لهم، فكثر أصحاب هلال لإحسانه إليهم وبذله المال لهم، وأعرض الناس عن بدر لإمساكه المال، فسار كل واحد منهما إلى صاحبه، فالتقيا على باب الدينور، فلما تراءى الجمعان انحازت الأكراد إلى هلال، فأخذ بدر أسيراً وحمل إلى ابنه، فأشير على هلال بقتله، وقالوا: لا يجوز أن تستبقيه بعدما أوحشته؛ فقال: ما بلغ من عقوقي له أن أقتله؛ وحضر عند أبيه وقال له: أنت الأمير، وأنا مدبر جيشك. فخادعه أبوه بأن قال له: لا يسمعن هذا منك أحدٌ فيكون هلاكنا جميعاً، وهذه القلعة لك، والعلامة في تسليمها كذا وكذا، واحفظ المال الذي بها، فإنك الأمير ما دام الناس يظنون بقاءه، وأريد أن تفرد لي قلعة أتفرغ فيها للعبادة. ففعل ذلك، وأعطاه جملة من المال.
فلما استقر بدر بالقلعة عمرها وحصنها، وراسل أبا الفتح بن عناز، وأبا عيسى شاذي بن محمد، وهو بأساداباذ، يقول لكل واحدٍ منهما ليقصد أعمال هلال ويشعثها. فسار أبو الفتح إلى قرميسين فملكها، وسار أبو عيسى إلى سابور خواست، فنهب حلل هلال، ومضى إلى نهاوند، وبها أبو بكر بن رافع، فاتبعه هلال إليها، ووضع السيف في الديلم فقتل منهم أربع مائة نفس، منهم تسعون أميراً، وأسلم ابن رافع أبا عيسى إلى هلال، فعفا عنه، ولم يؤاخذه على فعله، وأخذه معه.
وأرسل بدر إلى الملك بهاء الدولة يستنجده، فجهز فخر الملك أبا غالب في جيش وسيره إلى بدر، فسار حتى وصل إلى سابور خواست، فقال هلال لأبي عيسى شاذي: قد جاءت عساكر بهاء الدولة، فما الرأي ؟ قال: الرأي أن تتوقف عن لقائهم، وتبذل لبهاء الدولة الطاعة، وترضيه بالمال، فإن لم يجيبوك فضيق عليهم، وانصرف بين أيديهم، فإنهم لا يستطيعون المطاولة، ولا تظن هذا العسكر كمن لقيته بباب نهاوند، فإن أولئك ذللهم أبوك على ممر السنين.
فقال: غششتني ولم تنصحني، وأردت بالمطاولة أن يقوى أبي وأضعف أنا؛ وقتله، وسار ليكبس العسكر ليلاً. فلما وصل إليهم وقع الصوت، فركب فخر الملك في العساكر، وجعل عند أثقالهم من يحميها، وتقدم إلى قتال هلال، فلما رأى هلال صعوبة الأمر ندم، وعلم أن أبا عيسى بن شاذي نصحه، فندم على قتله، ثم أرسل إلى فخر الملك يقول له: إنني ما جئت لقتال وحرب، إنما جئت لأكون قريباً منك، وأنزل على حكمك، فترد العسكر عن الحرب، فإنني أدخل في الطاعة.
فمال فخر الملك إلى هذا القول، وأرسل الرسول إلى بدر ليخبره بما جاء به. فلما رأى بدر الرسول سبه وطرده، وأرسل إلى فخر الملك يقول له: إن هذا مكر من هلال، لما رأى ضعفه، والرأي أن لا تنفس خناقه. فلما سمع فخر الملك الجواب قويت نفسه، وكان يتهم بدراً بالميل إلى ابنه، وتقدم إلى الجيش بالحرب، فقاتلوا، فلم يكن بأسرع من أن أتي بهلال أسيراً، فقبل الأرض، وطلب أن لا يسلمه إلى أبيه، فأجابه إلى ذلك، وطلب علامته بتسليم القلعة، فأعطاهم العلامة، فامتنعت أمه ومن بالقلعة من التسليم، وطلبوا الأمان، فأمنهم فخر الملك، وصعد القلعة ومعه أصحابه، ثم نزل منها وسلمها إلى بدر، وأخذ ما فيها من الأموال وغيرها، وكانت عظيمة، قيل: كان بها أربعون ألف بدرة دراهم، وأربع مائة بدرة ذهباً، سوى الجواهر النفيسة، والثياب، والسلاح وغير ذلك. وأكثر الشعراء ذكر هذا، فممن قال مهيار:
فظنّوك تعبا بحمل العراق، ... كأن لم يروك حملت الجبالا
ولو لم تكن في العلوّ السماء ... لما كان غنمك منها هلالا
سريت إليه، فكنت السرار ... له، ولبدر أبيه كمالا
وهي كثيرة.
ذكر عود المؤيد إلى إمارة الأندلس
وما كان منهقد ذكرنا سبب خلعه وحبسه، فلما كان هذه السنة أعيد إلى خلافته، واسمه هشام بن الحاكم بن عبد الرحمن الناصر، وكان عوده تاسع ذي الحجة، وكان الحكم في دولته هذه إلى واضح العامري، وأدخل أهل قرطبة إليه، فوعدهم ومناهم، وكتب إلى البربر الذين مع سليمان بن الحاكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، ودعاهم إلى طاعته، والوفاء ببيعته، فلم يجيبوه إلى ذلك، فأمر أجناده وأهل قرطبة بالحذر والاحتياط، فأحبه الناس.
ثم نقل إليه أن نفراً من الأمويين بقرطبة قد كاتبوا سليمان، وواعدوه ليكون بقرطبة في السابع والعشرين من ذي الحجة ليسلموا إليه البلد، فأخذهم وحبسهم، فلما كان الميعاد قدم البربر إلى قرطبة، فركب الجند وأهل قرطبة وخرجوا إليهم مع المؤيد، فعاد البربر وتبعتهم عساكره، فلم يلحقوهم، وترددت الرسل بينهم فلم يتفقوا على شيء.
ثم إن سليمان والبربر راسلوا ملك الفرنج يستمدونه، وبذلوا له تسليم حصون كان المنصور بن أبي عامر قد فتحها منهم، فأرسل ملك الفرنج إلى المؤيد يعرفه الحال، ويطلب منه تسليم هذه الحصون لئلا يمد سليمان بالعساكر. فاستشار أهل قرطبة في ذلك، فأشاروا بتسليمها إليه خوفاً من أن ينجدوا سليمان، واستقر الصلح في المحرم سنة إحدى وأربعمائة. فلما أيس البربر من إنجاد الفرنج رحلوا، فنزلوا قريباً من قرطبة في صفر سنة إحدى وأربعمائة، وجعلت خيلهم تغير يميناً وشمالاً، وخربوا البلاد.
وعمل المؤيد وواضح العامري سوراً وخندقاً على قرطبة أمام السور الكبير، ثم نزل سليمان قرطبة خمسة وأربعين يوماً فلم يملكها، فانتقل إلى الزهراء وحصرها، وقاتل من بها ثلاثة أيام. ثم إن بعض الموكلين بحفظها سلم إليه الباب الذي هو موكل بحفظه، فصعد البربر السور وقاتلوا من عليه حتى أزالوهم، وملكوا البلد عنوةً، وقتل أكثر من به من الجند، وصعد أهله الجبل، واجتمع الناس بالجامع، فأخذهم البربر وذبحوهم، حتى النساء والصبيان، وألقوا النار في الجامع والقصر والديار، فاحترق أكثر ذلك ونهبت الأموال.
ثم إن واضحاً كاتب سليمان يعرفه أنه يريد الانتقال عن قرطبة سراً، ويشير عليه بمنازلتها بعد مسيره عنها، ونمى الخبر إلى المؤيد، فقبض عليه وقتله، واشتد الأمر بقرطبة، وعظم الخطب، وقلت الأقوات، وكثر الموت، وكانت الأقوات عند البربر أقل منها بالبلد، لأنهم كانوا قد خربوا البلاد، وجلا أهل قرطبة، وقتل المؤيد كل من مال إلى سليمان.
ثم إن البربر وسليمان لازموا الحصار والقتال لأهل قرطبة، وضيقوا عليهم، وفي مدة هذا الحصار ظهر بطليطلة عبيدالله بن محمد بن عبد الجبار، وبايعه أهلها، فسير إليهم المؤيد جيشاً، فحصروهم، فعادوا إلى الطاعة، وأخذ عبيدالله أسيراً، وقتل في شعبان سنة إحدى وأربعمائة.
ثم إن أهل قرطبة قاتلوا في بعض الأيام البربر فقتل منهم خلق كثير، وغرق في النهر مثلهم، فرحلوا عنها، وساروا إلى إشبيلية فحصروها، فأرسل المؤيد إليها جيشاً فحماها، ومنع البربر عنها، وراسل سليمان نائب المؤيد بسرقسطة وغيرها يدعوهم إليه، فأجابوه وأطاعوه، فسار البربر وسليمان عن إشبيلية إلى قلعة رباح، فملكوها، وغنموا ما فيها، واتخذوها داراً، ثم عادوا إلى قرطبة فحصروها، وقد خرج كثير من أهلها وعساكرها من الجوع والخوف، واشتد القتال عليها، وملكها سليمان عنوة وقهراً، وقتلوا من وجدوا في الطرق، ونهبوا البلد وأحرقوه، فلم تحص القتلى لكثرتهم.
ونزل البربر في الدور التي لم تحرق، فنال أهل قرطبة من ذلك ما لم يسمع بمثله، وأخرج المؤيد من القصر وحمل إلى سليمان، ودخل سليمان قرطبة منتصف شوال سنة ثلاث وأربعمائة وبويع له بها.
ثم إن المؤيد جرى له مع سليمان أقاصيص طويلة؛ ثم خرج إلى شرق الأندلس من عنده. وكان ممن قتل في هذا الحصر أبو الوليد بن الفرضي مظلوماً، رحمه الله.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أرسل الحاكم بأمر الله من مصر إلى المدينة، ففتح بيت جعفر الصادق، وأخرج منه مصحف وسيف وكساء وقعب وسرير.
وفيها نقص الماء بدجلة حتى أصلحت ما بين أوانا وقريب بغداد، حتى جرت السفن فيها.
وفيها مرض أبو محمد بن سهلان، فاشتد مرضه، فنذر إن عوفي بنى سوراً على مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، فعوفي، فأمر ببناء سور عليه، فبني في هذه السنة، تولي بناءه أبو إسحاق الأرجاني.
وفيها ولد عدنان ابن الشريف الرضي.
وفيها توفي النقيب أبو أحمد الموسوي، والد الرضي، بعد أن أضر ووقف بعض أملاكه على البر، وصلى عليه ابنه الأكبر المرتضى، ودفن بداره، ثم نقل إلى مشهد الحسين، عليه السلام، وكان مولده سنة أربع وثلاثمائة.
وفيها توفي أيضاً أبو جعفر الحجاج بن هرمز بالأهواز؛ وعمدة الدولة أبو إسحاق بن معز الدولة بن بويه بمصر.
وفيها مرض الخليفة القادر بالله، واشتد مرضه، فأرجف عليه، فجلس للناس وبيده القضيب، فدخل إليه أبو حامد الأسفراييني، فقال لابن حاجب النعمان: اسأل أمير المؤمنين أن يقرأ شيئاً من القرآن ليسمع الناس قراءته؛ فقرأ: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اْلمُنَافِقُونَ والَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والمُرْجِفُونَ في المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّك بِهِمْ) الآيات الثلاث الأحزاب: 60.
وفيها توفي أبو العباس النامي الشاعر؛ وأبو الفتح علي بن محمد البستي الكاتب الشاعر، صاحب الطريقة المشهورة في التجنيس، فمن شعره:
يا أيّها السائل عن مذهبي ... ليقتدي فيه بمنهاجي
منهاجي العدل. وقمع الهوى، ... فهل لمنهاجي من هاجي
ثم دخلت سنة إحدى وأربعمائة
ذكر غزوة يمين الدولة بلاد الغوربلاد الغور تجاور غزنة، وكان الغور يقطعون الطريق، ويخيفون السبيل، وبلادهم جبال وعرة، ومضايق غلقة، وكانوا يحتمون بها، ويعتصمون بصعوبة مسلكها، فلما كثر ذلك منهم أنف يمين الدولة محمود بن سبكتكين أن يكون مثل أولئك المفسدين جيرانه، وهم على هذه الحال من الفساد والكفر، فجمع العساكر وسار إليهم وعلى مقدمته التونتاش الحاجب، صاحب هراة، وأرسلان الجاذب صاحب طوس، وهما أكبر أمرائه، فسارا فيمن معهما حتى انتهوا إلى مضيق قد شحن بالمقاتلة، فتناوشوا الحرب، وصبر الفريقان.
فسمع يمين الدولة الحال، فجد في السير إليهم، وملك عليهم مسالكهم، فتفرقوا، وساروا إلى عظيم الغورية المعروف بابن سوري، فانتهوا إلى مدينته التي تدعى اهنكران، فبرز من المدينة في عشرة آلاف مقاتل، فقاتلهم المسلمون إلى أن انتصف النهار، فرأوا أشجع الناس وأقواهم على القتال، فأمر يمين الدولة أن يولوهم الأدبار على سبيل الاستدراج، ففعلوا. فلما رأى الغورية ذلك ظنوه هزيمة، فاتبعوهم حتى أبعدوا عن مدينتهم، فحينئذ عطف المسلمون عليهم ووضعوا السيوف فيهم فأبادوهم قتلاً وأسراً، وكان في الأسرى كبيرهم وزعيمهم ابن سوري، ودخل المسلمون المدينة وملكوها، وغنموا ما فيها، وفتحوا تلك القلاع والحصون التي لهم جميعها، فلما عاين ابن سوري ما فعل المسلمون بهم شرب سماً كان معه، فمات وخسر الدنيا والآخرة، (ذَلِكَ هُوَ الخُسْرانُ المُبِينُ).
وأظهر يمين الدولة في تلك الأعمال شعار الإسلام، وجعل عندهم من يعلمهم شرائعه وعاد؛ ثم سار إلى طائفة أخرى من الكفار، فقطع عليهم مفازة من رمل، ولحق عساكره عطش شديد وكادوا يهلكون، فلطف الله، سبحانه وتعالى، بهم وأرسل عليهم مطراً سقاهم، وسهل عليهم السير في الرمل، فوصل إلى الكفار، وهم جمع عظيم، ومعهم ستمائة فيل، فقاتلهم أشد قتال صبر فيه بعضهم لبعض، ثم إن الله نصر المسلمين، وهزم الكفار، وأخذ غنائمهم، وعاد سالماً مظفراً منصوراً.
ذكر الحرب بين ايلك الخان وبين أخيهوفي هذه السنة سار ايلك الخان في جيوش قاصداً قتال أخيه طغان خان، فلما بلغ يوزكند سقط من الثلج ما منعهم من سلوك الطرق، فعاد إلى سمرقند.
وكان سبب قصده أن أخاه أرسل إلى يمين الدولة يعتذر، ويتنصل من قصد أخيه ايلك الخان بلاد خراسان، ويقول: إنني ما رضيت ذلك منه؛ ويلزم أخاه وحده الذنب، وتبرأ هو منه، فلما علم أخوه ايلك الخان ذلك ساءه وحمله على قصده.
ذكر الخطبة للمصريين العلويين بالكوفة والموصل
في هذه السنة أيضاً خطب قرواش بن المقلد أمير بني عقيل للحاكم بأمر الله العلوي، صاحب مصر، بأعماله كلها، وهي: الموصل، والأنبار، والمدائن، والكوفة وغيرها، وكان ابتداء الخطبة بالموصل: الحمد لله الذي انجلت بنوره غمرات العصب. وانهدت بقدرته أركان النصب. وأطلع بنوره شمس الحق من العرب.
فأرسل القادر بالله، أمير المؤمنين، القاضي أبا بكر بن الباقلاني إلى بهاء الدولة يعرفه ذلك، وأن العلويين والعباسيين انتقلوا من الكوفة إلى بغداد، فأكرم بهاء الدولة القاضي أبا بكر، وكتب إلى عميد الجيوش يأمره بالمسير إلى حرب قرواش، وأطلق له مائة ألف دينار ينفقها في العسكر، وخلع على القاضي أبي بكر، وولاه قضاء عمان والسواحل. وسار عميد الجيوش إلى حرب قرواش فأرسل يعتذر وقطع خطبة العلويين وأعاد خطبة القادر بالله.
ذكر الحرب بين بني مزيد وبني دبيسكان أبو الغنائم محمد بن مزيد مقيماً عند بني دبيس في جزيرتهم، بنواحي خوزستان، لمصاهرة بينهم، فقتل أبو الغنائم أحد وجوههم، ولحق بأخيه أبي الحسن علي بن مزيد، فتبعوه فلم يدركوه، وانحدر إليهم سند الدولة أبو الحسن بن مزيد في ألفي فارس، واستنجد عميد الجيوش، فانحدر إليه عجلاً في زبزبة في ثلاثين ديلمياً، وسار ابن مزيد إليهم فلقيهم، واقتتلوا فقتل أبو الغنائم، وانهزم أبو الحسن بن مزيد، فوصل الخبر بهزيمته إلى عميد الجيوش وهو منحدر فعاد.
ذكر وفاة عميد الجيوش
وولاية فخر الملك العراقفي هذه السنة توفي عميد الجيوش أبو علي بن أستاذ هرمز ببغداد، وكانت ولايته ثماني سنين وأربعة أشهر وسبعة عشر يوماً، وكان عمره تسعاً وأربعين سنة، وتولى تجهيزه ودفنه الشريف الرضي، دفنه بمقابر قريش، ورثاه الرضي وغيره.
وكان أبوه، أبو جعفر استاذ هرمز، من حجاب عضد الدولة، وجعل عضد الدولة عميد الجيوش في خدمة ابنه صمصام الدولة، فلما قتل اتصل بخدمة بهاء الدولة. فلما استولى الخراب على بغداد، وظهر العيارون، وانحلت الأمور بها، أرسله إليها، فأصلح الأمور، وقمع المفسدين وقتلهم. فلما مات استعمل بهاء الدولة مكانه بالعراق فخر الملك أبا غالب، فأصعد إلى بغداد، فلقيه الكتاب والقواد وأعيان الناس، وزينوا له البلاد، ووصل بغداد في ذي الحجة، ومدحه مهيار وغيره من الشعراء.
ومن محاسن أعمال عميد الجيوش أنه حمل إليه مال كثير قد خلفه بعض التجار المصريين، وقيل له: ليس للميت وارث، فقال: لا يدخل خزانة السلطان ما ليس لها، يترك إلى أن يصح خبره. فلما كان بعد مدة جاء أخ للميت بكتاب من مصر بأنه مستحق للتركة، فقصد باب عميد الجيوش ليوصل الكتاب، فرآه يصلي على روشن داره فظنه بعض الحجاب، فأوصل الكتاب إليه فقضى حاجته، فلما علم التاجر أن الذي أخذ الكتاب كان عميد الجيوش عظم الأمر عنده، فأظهر ذلك، فاستحسنه الناس، ولما وصل التاجر إلى مصر أظهر الدعاء له، فضج الناس بالدعاء له والثناء عليه، فبلغه الخبر فسره ذلك.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة اشتد الغلاء بخراسان جميعها، وعدم القوت حتى أكل الناس بعضهم بعضاً، فكان الإنسان يصيح: الخبز الخبز ! ويموت، ثم تبعه وباءٌ عظيم حتى عجز الناس عن دفن الموتى.
وفيها مات أبو الفتح محمد بن عناز بحلوان، وكانت إمارته عشرين سنة، وقام بعده ابنه أبو الشوك فسيرت إليه العساكر من بغداد لقتاله، ولقيهم أبو الشوك وقاتلهم قتالاً شديداً، وانهزم أبو الشوك إلى حلوان، وأقام بها إلى أن أصلح حاله مع الوزير أبي غالب لما قدم العراق.
وفيها توفي أبو عبدالله محمد بن مقن بن مقلد بن جعفر بن عمرة بن المهيا العقيلي، وفي مقلد يجتمع آل المسيب وآل مقن، وكان عمره مائة وعشر سنين، وكان بخيلاً شديد البخل، وشهد مع القرامطة أخذ الحجر الأسود.
وفيها توفي الأمير أبو نصر أحمد بن أبي الحارث محمد بن فريغون، صاحب الجوزجان، وكان صهر يمين الدولة على أخته، وكان هو وأبوه قبله يحبان العلماء ويحسنان إليهم.
وفيها انقض كوكب كبير لم ير أكبر منه.
وفيها زادت دجلة إحدى وعشرين ذراعاً، وغرق كثير من بغداد والعراق، وتفجرت البثوق؛ ولم يحج هذه السنة من العراق أحدٌ.
وفيها توفي إبراهيم بن محمد بن عبيد أبو مسعود الدمشقي الحافظ، سافر الكثير في طلب الحديث، وله عناية بصحيحي البخاري ومسلم؛ وتوفي أيضاً خلف بن محمد بن علي بن حمدون أبو محمد الواسطي، كان فاضلاً، وله اطراف الصحيحين أيضاً.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعمائة
ذكر ملك يمين الدولة قصدارفي هذه السنة استولى يمين الدولة على قصدار، وملكها.
وسبب ذلك أن ملكها كان قد صالحه على قطيعة يؤديها إليه، ثم قطعها اغتراراً بحصانة بلده، وكثرة المضايق في الطريق، واحتمى بايلك الخان، وكان يمين الدولة يريد قصدها، فيتقي ناحية ايلك الخان. فلما فسد ذات بينهما صمم العزم وقصدها وتجهز، وأظهر أنه يريد هراة، فسار من غزنة في جمادى الأولى، فلما استقل على الطريق سار نحو قصدار، فسبق خبره، وقطع تلك المضايق والجبل، فلم يشعر صاحبها إلا وعسكر يمين الدولة قد أحاط به ليلاً، فطلب الأمان فأجابه وأخذ منه المال الذي كان قد اجتمع عنده، وأقره على ولايته وعاد.
ذكر أسر صالح بن مرداس
وملكه حلب وملك أولادهفي هذه السنة كانت وقعة بين أبي نصر بن لؤلؤ، صاحب حلب، وبين صالح بن مرداس، وكان ابن لؤلؤ من موالي سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان، فقوي على ولد سعد الدولة وأخذ البلد منه، وخطب للحاكم صاحب مصر، ولقبه الحاكم مرتضى الدولة.
ثم فسد ما بينه وبين الحاكم، فطمع فيه ابن مرداس، وبنو كلاب، وكانوا يطالبونه بالصلات والخلع. ثم إنهم اجتمعوا هذه السنة في خمسمائة فارس، ودخلوا مدينة حلب، فأمر ابن لؤلؤ بإغلاق الأبواب والقبض عليهم، فقبض على مائة وعشرين رجلاً، منهم صالح بن مرداس، وحبسهم، وقتل مائتين وأطلق من لم يفكر به.
وكان صالح قد تزوج بابنة عم له يسمى جابراً، وكانت جميلة، فوصفت لابن لؤلؤ، فخطبها إلى إخوتها، وكانوا في حبسه، فذكروا له أن صالحاً قد تزوجها، فلم يقبل منهم، وتزوجها، ثم أطلقهم، وبقي صالح بن مرداس في الحبس، فتوصل حتى صعد من السور وألقى نفسه من أعلى القلعة إلى تلها، واختفى في مسيل ماء.
ووقع الخبر بهربه، فأرسل ابن لؤلؤ الخيل في طلبه، فعادوا ولم يظفروا به. فلما سكن عنه الطلب سار بقيده ولبنة حديد في رجليه، حتى وصل قريبة تعرف بالياسرية، فرأى ناساً من العرب فعرفوه وحملوه إلى أهله بمرج دابق، فجمع ألفي فارس فقصد حلب وحاصرها اثنين وثلاثين يوماً، فخرج إليه ابن لؤلؤ فقاتله، فهزمهم صالح وأسر ابن لؤلؤ، وقيده بقيده الذي كان في رجله ولبنته. وكان لابن لؤلؤ أخٌ فنجا وحفظ مدينة حلب.
ثم إن ابن لؤلؤ بذل لابن مرداس مالاً على أن يطلقه، فلما استقر الحال بينهما أخذ رهائنه وأطلقه، فقالت أم صالح لابنها: قد أعطاك الله ما لا كنت تؤمله، فإن رأيت أن تتم صنيعك بإطلاق الرهائن فهو المصلحة، فإنه إن أراد الغدر بك لا يمنعه من عندك؛ فأطلقهم، فلما دخلوا البلد حمل ابن لؤلؤ إليه أكثر مما استقر، وكان قد تقرر عليه مائتا ألف دينار، ومائة ثوب، وإطلاق كل أسير عنده من بني كلاب. فلما انفصل الحال ورحل صالح أراد ابن لؤلؤ قبض غلامه فتح، وكان دزدار القلعة، لأنه اتهمه بالممالأة على الهزيمة، وكان خلاف ظنه، فأطلع على ذلك غلاماً له اسمه سرور، وأراد أن يجعله مكان فتح، فأعلم سرور بعض أصدقائه ويعرف بابن غانم.
وسبب إعلامه أنه حضر عنده، وكان يخاف ابن لؤلؤ لكثرة ماله، فشكا إلى سرور ذلك، فقال له: سيكون أمر تأمن معه؛ فسأله، فكتمه، فلم يزل يخدعه حتى أعلمه الخبر.
وكان بين ابن غانم وبين فتح مودة، فصعد إليه بالقلعة متنكراً، فأعلمه الخبر، وأشار عليه بمكاتبة الحاكم صاحب مصر، وأمر ابن لؤلؤ أخاه أبا الجيش بالصعود إلى القلعة بحجة افتقاد الخزائن، فإذا صار فيها قبض على فتح، وأرسل إلى فتح يعلمه أنه يريد افتقاد الخزائن، ويأمره بفتح الأبواب. فقال فتح: إنني قد شربت اليوم دواء، وأسأل تأخير الصعود في هذا اليوم، فإنني لا أثق في فتح الأبواب لغيري؛ وقال للرسول: إذا لقيته فاردده. فلما علم ابن لؤلؤ الحال أرسل والدته إلى فتح ليعلم سبب ذلك، فلما صعدت إليه أكرمها، وأظهر لها الطاعة، فعادت وأشارت على أبنها بترك محاقته ففعل، وأرسل إليه يطلب جوهراً كان له بالقلعة، فغالطه فتح ولم يرسله فسكت على مضض لعلمه أن المحاقة لا تفيد لحصانة القلعة، وأشارت والدة ابن لؤلؤ عليه بأن يتمارض، ويظهر شدة المرض، ويستدعي الفتح لينزل إليه ليجعله وصياً، فإذا حضر قبضه. ففعل ذلك، فلم ينزل الفتح، واعتذر، وكاتب الحاكم، وأظهر طاعته، وخطب له، وأظهر العصيان على أستاذه، وأخذ من الحاكم صيدا، وبيروت، وكل ما في حلب من الأموال. وخرج ابن لؤلؤ من حلب إلى إنطاكية، وبها الروم، فأقام عندهم.
وكان صالح بن مرداس قد مالأ الفتح على ذلك، فلما عاد عن حلب استصحب معه والدة ابن لؤلؤ ونساءه، وتركهن بمنبج، وتسلم حلب نواب الحاكم، وتنقلت بأيديهم حتى صارت بيد إنسان من الحمدانية يعرف بعزيز الملك، فقدمه الحاكم واصطنعه وولاه حلب، فلما قتل الحاكم وولي الظاهر عصى عليه، فوضعت ست الملك أخت الحاكم فراشاً على قتله فقتله.
وكان للمصريين بالشام نائب يعرف بأنوشتكين البربري، وبيده دمشق، والرملة، وعسقلان، وغيرها، فاجتمع حسان أمير بني طي، وصالح بن مرداس أمير بني كلاب، وسنان بن عليان، وتحالفوا، واتفقوا على أن يكون من حلب إلى عانة لصالح، ومن الرملة إلى مصر لحسان، ودمشق لسنان، فسار حسان إلى الرملة فحصرها، وبها أنوشتكين، فسار عنها إلى عسقلان، واستولى عليها حسان ونهبها وقتل أهلها، وذلك سنة أربع عشرة وأربعمائة، أيام الظاهر لإعزاز دين الله خليفة مصر.
وقصد صالح حلب، وبها إنسان يعرف بابن ثعبان يتولى أمرها للمصريين، وبالقلعة خادم يعرف بموصوف، فأما أهل البلد فسلموه إلى صالح لإحسانه إليهم، ولسوء سيرة المصريين معهم، وصعد ابن ثعبان إلى القلعة، فحصره صالح بالقلعة، فغار الماء الذي بها، فلم يبق لهم ما يشربون، فسلم الجند القلعة إليه، وذلك سنة أربع عشرة، وملك من بعلبك إلى عانة، وأقام بحلب ست سنين.
فلما كان سنة عشرين وأربعمائة جهز الظاهر صاحب مصر جيشاً، وسيرهم إلى الشام لقتال صالح وحسان، وكان مقدم العسكر أنوشتكين البربري، فاجتمع صالح وحسان على قتاله، فاقتتلوا بالأقحوانة على الأردن، عند طبرية، فقتل صالح وولده الأصغر، وأنفذ رأساهما إلى مصر، ونجا ولده أبو كامل نصر بن صالح، فجاء إلى حلب وملكها، وكان لقبه شبل الدولة.
فلما علمت الروم بإنطاكية الحال، تجهزوا إلى حلب في عالم كثير، فخرج أهلها فحاربوهم فهزموهم، ونهبوا أموالهم، وعادوا إلى إنطاكية، وبقي شبل الدولة مالكاً لحلب إلى سنة تسع وعشرين وأربعمائة، فأرسل إليه الدزبري العساكر المصرية، وصاحب مصر حينئذ المستنصر بالله، فلقيهم عند حماة، فقتل في شعبان وملك الدزبري حلب في رمضان سنة تسع وعشرين، وملك الشام جميعه، وعظم أمره، وكثر ماله، وأرسل يستدعي الجند الأتراك من البلاد، فبلغ المصريين عنه أنه عازم على العصيان، فتقدموا إلى أهل دمشق بالخروج عن طاعته، ففعلوا، فسار عنها نحو حلب في ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وتوفي بعد ذلك بشهر واحد.
وكان أبو علوان ثمال بن صالح بن مرداس الملقب بمعز الدولة بالرحبة، فلما بلغه موت الدزبري جاء إلى حلب فملكها تسليماً من أهلها، وحاصر امرأة الدزبري وأصحابه بالقلعة أحد عشر شهراً، وملكها في صفر سنة أربع وثلاثين فبقي فيها إلى سنة أربعين. فأنفذ المصريون إلى محاربته أبا عبدالله بن ناصر الدولة بن حمدان، فخرج أهل حلب إلى حربه، فهزمهم، واختنق منهم بالباب جماعة، ثم إنه رحل عن حلب وعاد إلى مصر، وأصابهم سيل ذهب بكثير من دوابهم وأثقالهم. فأنفذ المصريون إلى قتال معز الدولة خادماً يعرف برفق فخرج إليه في أهل حلب، فقاتلوه، فانهزم المصريون، وأسر رفق، ومات عندهم، وكان أسره سنة إحدى وأربعين في ربيع الأول.
ثم إن معز الدولة بعد ذلك أرسل الهدايا إلى المصريين، وأصلح أمره معهم، ونزل لهم عن حلب فأنفذوا إليها أبا علي الحسن بن علي بن ملهم، ولقبوه مكين الدولة، فتسلمها من ثمال في ذي القعدة سنة تسع وأربعين، وسار ثمال إلى مصر في ذي الحجة وسار أخوه أبو ذؤابة عطية بن صالح إلى الرحبة، وأقام ابن ملهم بحلب فجرى بين بعض السودان وأحداث حلب حرب.
وسمع ابن ملهم أن بعض أهل حلب قد كاتب محمود بن شبل الدولة نصر ابن صالح يستدعونه ليسلموا البلد إليه، فقبض على جماعة منهم، وكان منهم رجل يعرف بكامل بن نباتة، فخاف، فجلس يبكي، وكان يقول لكل من سأله عن بكائه: إن أصحابنا الذين أخذوا قد قتلوا، وأخاف على الباقين. فاجتمع أهل البلد، واشتدوا، وراسلوا محموداً، وهو عنهم مسيرة يومٍ، يستدعونه، وحصروا ابن ملهم، وجاء محمود وحصره معهم في جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين.
ووصلت الأخبار إلى مصر، فسيروا ناصر الدولة أبا علي بن ناصر الدولة ابن حمدان في عسكرٍ، بعد اثنين وثلاثين يوماً من دخول محمود حلب، فلما قارب البلد خرج محمود عن حلب إلى البرية، واختفى الأحداث جميعهم، وكان عطية بن صالح نازلاً بقرب البلد، وقد كره فعل محمود ابن أخيه، فقبض ابن ملهم على مائة وخمسين من الأحداث، ونهب وسط البلد، وأخذ أموال الناس.
وأما ناصر الدولة فلم يمكن أصحابه من دخول البلد ونهبه، وسار في طلب محمود، فالتقيا بالغنيدق في رجب، فانهزم أصحاب ابن حمدان، وثبت هو فجرح وحمل إلى محمود أسيراً، فأخذه وسار إلى حلب فملكها، وملك القلعة في شعبان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وأطلق ابن حمدان، فسار هو وابن ملهم إلى مصر، فجهز المصريون معز الدولة ثمال بن صالح إلى ابن أخيه، فحصره في حلب في ذي الحجة من السنة، فاستنجد محمود خاله منيع بن شبيب بن وثاب النميري، صاحب حران، فجاء إليه، فلما بلغ ثمالاً مجيئه سار عن حلب إلى البرية في المحرم سنة ثلاث وخمسين، وعاد منيع إلى حران، فعاد ثمال إلى حلب، وخرج إليه محمود ابن أخيه، فاقتتلوا، وقاتل محمود قتالاً شديداً، ثم انهزم محمود فمضى إلى أخواله بني نمير بحران، وتسلم ثمال حلب في ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين، وخرج إلى الروم، فغزاهم ثم توفي بحلب في ذي القعدة سنة أربع وخمسين، وكان كريماً، حليماً، وأوصى بحلب لأخيه عطية بن صالح فملكها.
ونزل به قوم من التركمان مع ابن خان التركماني، فقوي بهم، فأشار أصحابه بقتلهم، فأمر أهل البلد بذلك، فقتلوا منهم جماعة، ونجا الباقون، فقصدوا محموداً بحران، واجتمعوا معه على حصار حلب، فحصرها وملكها في رمضان سنة أربع وخمسين.
وقصد عمه عطية الرقة فملكها، ولم يزل بها حتى أخذها منه شرف الدولة مسلم بن قريش سنة ثلاث وستين، وسار عطية إلى بلد الروم، فمات بالقسطنطينية سنة خمس وستين.
وأرسل محمود التركمان مع أميرهم ابن خان إلى ارتاح، فحصرها وأخذها من الروم سنة ستين، وسار محمود إلى طرابلس، فحصرها، وأخذ من أهلها مالاً وعاد، وأرسله محمود في رسالة إلى السلطان ألب أرسلان، ومات محمود في حلب سنة ثمان وستين في ذي الحجة، ووصى بها بعده لابنه مشيب، فلم ينفذ أصحابه وصيته لصغره، وسلموا البلد إلى ولده الأكبر، واسمه نصر، وجده لأمه الملك العزيز ابن الملك جلال الدولة ابن بويه وتزوجها عند دخولهم مصر لما ملك طغرلبك العراق.
وكان نصر يدمن شرب الخمر، فحمله السكر على أن خرج إلى التركمان الذين ملكوا أباه البلد، وهم بالحاضر، يوم الفطر، فلقوه، وقبلوا الأرض بين يديه، فسبهم وأراد قتلهم، فرماه أحدهم بنشابة فقتله، وملك أخوه سابق، وهو الذي كان أبوه أوصى له بحلب، فلما صعد القلعة استدعى أحمد شاه مقدم التركمان، وخلع عليه، وأحسن إليه، وبقي فيها إلى سنة اثنتين وسبعين، فقصده تتش بن ألب أرسلان، فحصره بحلب أربعة أشهر ونصفاً، ثم رحل عنه، ونازله شرف الدولة، فأخذ البلد منه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى؛ فهذه جميع أخبار بني مرداس أتيت بها متتابعة لئلا تجهل إذا تفرقت.
ذكر قتل جماعة من خفاجةلما فتح الملك فخر الدولة دير العاقول أتاه سلطان، وعلوان، ورجب، أولاد ثمال الخفاجي، ومعهم أعيان عشائرهم، وضمنوا حماية سقي الفرات، ودفع عقيل عنها، وساروا معه إلى بغداد، فأكرمهم وخلع عليهم، وأمرهم بالمسير مع ذي السعادتين الحسن بن منصور إلى الأنبار، فساروا، فلما صاروا بنواحي الأنبار أفسدوا وعاثوا، فقبض ذو السعادتين على نفر منهم، ثم أطلقهم واستحلفهم على الطاعة، والكف عن الأذى، فأشار كاتب نصرانيٌ من أهل دقوقا على سلطان بن ثمال بالقبض على ذي السعادتين، وأن يظهر أن عقيلاً قد أغاروا، فإذا خرج عسكر ذي السعادتين انفرد به فأخذه. فوصل إلى ذي السعادتين الخبر.
ثم إن سلطاناً أرسل إليه يقول له إن عقيلاً قد قاربوا الأنبار، ويطلب منه إنفاذ العسكر، فقال ذو السعادتين: أنا أركب وآخذ العساكر؛ ثم دافعه إلى أن فات وقت السير، فانتقض على سلطان ما دبره، فأرسل يقول: قد أخذت جماعة من عقيل؛ ثم إن ذا السعادتين صنع طعاماً كثيراً، وحضر عنده سلطان وكاتبه النصراني وجماعة من أعيان خفاجة، فأمر أصحابه بقتل كثير منهم، وقبض على سلطان وكاتبه وجماعته، ونهب بيوتهم وما فيها، وحبس سلطاناً ومن معه ببغداد، حتى شفع فيهم أبو الحسن بن مزيد، وبذل مالاً عنهم فأطلقوا. وذكر ابن نباتة وغيره هذه الحادثة.
ذكر القدح في نسب العلويين المصريينفي هذه السنة كتب ببغداد محضر يتضمن القدح في نسب العلويين خلفاء مصر، وكتب فيه المرتضى وأخوه الرضي وابن البطحاوي العلوي، وابن الأزرق الموسوي، والزكي أبو يعلى عمر بن محمد، ومن القضاة والعلماء ابن الأكفاني وابن الخرزي، وأبو العباس الأبيوردي، وأبو حامد الأسفراييني، والكشفلي، والقدوري، والصيمري، وأبو عبدالله بن البيضاوي، وأبو الفضل النسوي، وأبو عبدالله بن النعمان فقيه الشيعة، وغيرهم، وقد ذكرنا الاختلاف فيهم عند ابتداء دولتهم سنة ست وتسعين ومائتين.
ذكر أخذ بني خفاجة الحجاجفي هذه السنة سارت خفاجة إلى واقصة، ونزحوا ماء البرمكي والريان وألقوا فيهما الحنظل؛ ووصل الحجاج من مكة إلى العقبة، فلقيهم خفاجة ومنعوهم الماء، ثم قاتلوهم فلم يكن فيهم امتناع، فأكثروا القتل، وأخذوا الأموال، ولم يسلم من الحاج إلا اليسير، فبلغ الخبر فخر الملك الوزير ببغداد، فسير العساكر في أثرهم، وكتب إلى أبي الحسن علي بن مزيد يأمره بطلب العرب، والأخذ منهم بثأر الحاج، والانتقام، فسار خلفهم فلحقهم وقد قاربوا البصرة، فأوقعوا بهم، فقتل منهم وأسر جمعاً كثيراً، وأخذ من أموال الحاج ما رآه، وكان الباقي قد أخذه العرب وتفرقوا، وأرسل الأسرى وما استرده من أمتعة الحاج إلى الوزير، فحسن موقعه منه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي أبو الحسن بن اللبان الفرضي في ربيع الأول؛ وتوفي في شهر رمضان عثمان بن عيسى أبو عمرو الباقلاني العابد، وكان مجاب الدعوة، رحمة الله عليه.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعمائة
ذكر قتل قابوسفي هذه السنة قتل شمس المعالي قابوس بن وشمكير.
وكان سبب قتله أنه كان مع كثرة فضائله ومناقبه، عظيم السياسة، شديد الأخذ، قليل العفو، يقتل على الذنب اليسير، فضجر أصحابه منه، واستطالوا أيامه، واتفقوا على خلعه والقبض عليه.
وكان حينئذ غائباً عن جرجان، فخفي عليه الأمر، فلم يشعر ذات ليلة إلا وقد أحاط العسكر بباب القلعة التي كان بها، وانتهبوا أمواله، ودوابه، وأرادوا استنزاله من الحصن، فقاتلهم هو ومن معه من خواصه وأصحابه، فعادوا ولم يظفروا به، ودخلوا جرجان واستولوا عليها، وعصوا عليه بها، وبعثوا إلى ابنه منوجهر، وهو بطبرستان، يعرفونه الحال، ويستدعونه ليولوه أمرهم، فأسرع السير نحوهم خوفاً من خروج الأمر عنه، فالتقوا، واتفقوا على طاعته إن هو خلع أباه، فأجابهم إلى ذلك على كرهٍ.
وكان أبوه شمس المعالي قد سار نحو بسطام عند حدوث هذه الفتنة لينظر فيما تسفر عنه، فأخذوا منوجهر معهم، عازمين على قصد والده وإزعاجه من مكانه، فسار معهم مضطراً، فلما وصل إلى أبيه أذن له وحده دون غيره، فدخل عليه وعنده جمع من أصحابه المحامين عنه، فلما دخل عليه تشاكيا ما هما فيه، وعرض عليه منوجهر أن يكون بين يديه في قتال أولئك القوم ودفعهم وإن ذهبت نفسه. فرأى شمس المعالي ضد ذلك، وسهل عليه حيث صار الملك إلى ولده، فسلم إليه خاتم الملك، ووصاه بما يفعله، واتفقا على أن ينتقل هو إلى قلعة جناشك يتفرغ للعبادة إلى أن يأتيه اليقين وينفرد منوجهر بتدبير الملك.
وسار إلى القلعة المذكورة مع من اختاره لخدمته، وسار منوجهر إلى جرجان، وتولى الملك وضبطه ودارى أولئك الأجناد، وهم نافرون، خائفون من شمس المعالي ما دام حياً، فما زالوا يحتالون ويجيلون الرأي حتى دخلوا إلى منوجهر وخوفوه من أبيه مثل ما جرى لهلال بن بدر مع أبيه، وقالوا له: مهما كان والدك في الحياة لا نأمن نحن ولا أنت؛ واستأذنوه في قتله، فلم يرد عليهم جواباً، فمضوا إليه إلى الدار التي هو فيها، وقد دخل إلى الطهارة متخففاً، فأخذوا ما عنده من كسوة، وكان الزمان شتاء، وكان يستغيث: أعطوني ولو جل دابة ! فلم يفعلوا فمات من شدة البرد؛ وجلس ولده للعزاء، ولقب القادر بالله منوجهر فلك المعالي.
ثم إن منوجهر راسل يمين الدولة، ودخل في طاعته، وخطب له على منابر بلاده، وخطب إليه أن يزوجه بعض بناته، ففعل، فقوي جنانه، وشرع في التدبير على أولئك الذين قتلوا أباه، فأبادهم بالقتل والتشريد.
وكان قابوس غزير الأدب، وافر العلم، له رسائل وشعر حسن، وكان عالماً بالنجوم وغيرها من العلوم، فمن شعره:
قل للذي بصروف الدهر عيّرنا ... هل عاند الدهر إلا من له خطر
أما ترى البحر يطفو فوقه جيفٌ ... وتستقرّ بأقصى قعره الدّرر
فإن تكن نشبت أيدي الخطوب بنا ... ومسّنا من توالي صرفها ضرر
ففي السماء نجومٌ غير ذي عدد ... وليس يكسف إلاّ الشمس والقمر
ذكر موت ايلك الخان
وولاية أخيه طغان خانفي هذه السنة توفي ايلك الخان وهو يتجهز للعود إلى خراسان، ليأخذ بثأره من يمين الدولة، وكاتب قدرخان وطغان خان ليساعداه على ذلك.
فلما توفي ولي بعده أخوه طغان، فراسل يمين الدولة وصالحه، وقال له: المصلحة للإسلام والمسلمين أن تشتغل أنت بغزو الهند، وأشتغل أنا بغزو الترك، وأن يترك بعضنا بعضاً؛ فوافق ذلك هواه، فأجابه إليه، وزال الخلاف، واشتغلا بغزو الكفار.
وكان ايلك الخان خيراً، عادلاً، حسن السيرة، محباً للدين وأهله، معظماً للعلم وأهله، محسناً إليهم.
ذكر وفاة بهاء الدولة وملك سلطان الدولةفي هذه السنة، خامس جمادى الآخرة، توفي بهاء الدولة أبو نصر بن عضد الدولة بن بويه، وهو الملك حينئذ بالعراق، وكان مرضه تتابع الصرع مثل مرض أبيه، وكان موته بأرجان، وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، فدفن عند أبيه عضد الدولة، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة وتسعة أشهر ونصفاً، وملكه أربعاً وعشرين سنة.
ولما توفي ولي الملك بعده ابنه سلطان الدولة أبو شجاع، وسار من أرجان إلى شيراز، وولى أخاه جلال الدولة أبا طاهر بن بهاء الدولة البصرة، وأخاه أبا الفوارس كرمان.
ذكر ولاية سليمان الأندلس الدولة الثانيةفي هذه السنة ملك سليمان بن الحاكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر الأموي، ولقب المستعين، وهذه غير ولايته، منتصف شوال، على ما ذكرناه سنة أربعمائة، وبايعه الناس وخرج أهل قرطبة إليه يسلمون عليه، فأنشد متمثلاً:
إذا ما رأوني طالعاً من ثنيّةٍ ... يقولون من هذا، وقد عرفوني
يقولون لي أهلاً وسهلاً ومرحباً ... ولو ظفروا بي ساعةً قتلوني
وكان سليمان أديباً شاعراً بليغاً، وأريق في أيامه دماء كثيرة لا تحد، وقد تقدم ذكر ذلك سنة أربعمائة، وكان البربر هم الحاكمين في دولته لا يقدر على خلافهم، لأنهم كانوا عامة جنده، وهم الذين قاموا معه حتى ملكوه، وقد تقدم ذكر ذلك.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خلع سلطان الدولة على أبي الحسن علي بن مزيد الأسدي، وهو أول من تقدم من أهل بيته.
وفيها تقلد الرضي الموسوي، صاحب الديوان المشهور، نقابة العلويين ببغداد، وخلع عليه سواد، وهو أول طالبي خلع عليه السواد.
وفيها توفي أبو بكر الخوارزمي واسمه محمد بن موسى، الفقيه الحنفي؛ وأبو الحارث محمد بن محمد بن عمر العلوي، نقيب الكوفة، وكان يسير الحاج عشر سنين؛ وأبو عبدالله الحسن بن حامد بن علي بن مروان، الفقيه الحنبلي، وله تصانيف في الفقه؛ والقاضي أبو بكر محمد بن الطيب المتكلم الأشعري:، وكان مالكي المذهب، رثاه بعضهم فقال:
انظر إلى جبلٍ تمشي الرجال به، ... وانظر إلى القبر ما يحوي من الصّلف
وانظر إلى صارم الإسلام منغمداً، ... وانظر إلى درّة الإسلام في الصّدف
وفيها قتل أبو الوليد عبدالله بن محمد، المعروف بابن الفرضي الأندلسي: بقرطبة، قتله البربر.
ثم دخلت سنة أربع وأربعمائة
ذكر فتح يمين الدولة ناردينفي هذه السنة سار يمين الدولة إلى الهند في جمع عظيم وحشد كثير، وقصد واسطة البلاد من الهند، فسار شهرين، حتى قارب مقصده، ورتب أصحابه وعساكره، فسمع عظيم الهند به، فجمع من عنده من قواده وأصحابه، وبرز إلى جبل هناك، صعب المرتقى، ضيق المسلك، فاحتمى به، وطاول المسلمين، وكتب إلى الهنود يستدعيهم من كل ناحية، فاجتمع عليه منهم كل من يحمل سلاحاً، فلما تكاملت عدته نزل من الجبل، وتصاف هو والمسلمون، واشتد القتال وعظم الأمر.
ثم إن الله تعالى منح المسلمين أكتافهم فهزموهم، وأكثروا القتل فيهم، وغنموا ما معهم من مالٍ، وفيل، وسلاح، وغير ذلك.
ووجد في بيت بد عظيم حجراً منقوراً دلت كتابته على أنه مبني منذ أربعين ألف سنة، فعجب الناس لقلة عقولهم.
فلما فرغ من غزوته عاد إلى غزنة، وأرسل إلى القادر بالله يطلب منه منشوراً، وعهداً بخراسان وما بيده من الممالك، فكتب له ذلك، ولقب نظام الدين.
ذكر ما فعله خفاجة دفعة أخرىفي هذه السنة جاء سلطان بن ثمال، واستشفع بأبي الحسن بن مزيد إلى فخر الملك ليرضى عنه، فأجابه إلى ذلك، فأخذ عليه العهود بلزوم ما يحمد أمره، فلما خرج وصلت الأخبار بأنهم نهبوا سواد الكوفة، وقتلوا طائفة من الجند، وأتى أهل الكوفة مستغيثين، فسير فخر الملك إليهم عسكراً، وكتب إلى ابن مزيد وغيره بمحاربتهم، فسار إليهم، وأوقع بهم بنهر الرمان، وأسر محمد بن ثمال وجماعة معه، ونجا سلطان وأدخل الأسرى إلى بغداد مشهرين وحبسوا.
وهب على المنهزمين من بنى خفاجة ريح شديدة حارة، فقتلت منهم نحو خمسمائة رجل، وأفلت منهم جماعة ممن كانوا أسروا من الحجاج، وكانوا يرعون إبلهم وغنمهم، فعادوا إلى بغداد، فوجد بعضهم نساءهم قد تزوجن وولدن، واقتسمت تركاتهم.
ذكر استيلاء طاهر بن هلال على شهرزورقد ذكرنا حال شهرزور، وأن بدر بن حسنويه سلمها إلى عميد الجيوش، فجعل فيها نوابه. فلما كان الآن سار طاهر بن هلال بن بدر إلى شهرزور، وقاتل من بها من عسكر فخر الملك، وأخذها منهم في رجب. فلما سمع الوزير الخبر أرسل إلى طاهر يعاتبه، ويأمره بإطلاق من أسر من أصحابه، ففعل، ولم تزل شهرزور بيد طاهر إلى أن قتله أبو الشوك، وأخذها منه، وجعلها لأخيه مهلهل.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سار أبو الحسن علي بن مزيد الأسدي إلى أبي الشوك على عزم محاربته، فاصطلحا من غير حرب، وتزوج ابنه أبو الأغر دبيس بن علي بأخت أبي الشوك.
وفيها توفي القاضي أبو الحسن علي بن سعيد الإصطخري، وهو شيخ من شيوخ المعتزلة ومشهوريهم، وكان عمره قد زاد على ثمانين سنة، وله تصانيف في الرد على الباطنية.
ثم دخلت سنة خمس وأربعمائة
ذكر غزوة تانيشر
قد ذكر ليمين الدولة أن بناحية تانيشر فيلة من جنس فيلة الصيلمان الموصوفة في الحرب، وأن صاحبها غالٍ في الكفر والطغيان، والعناد للمسلمين، فعزم على غزوه في عقر داره، وأن يذيقه شربة من كأس قتاله، فسار في الجنود والعساكر والمتطوعة، فلقي في طريقه أودية بعيدة القعر، وعرة المسالك، وقفاراً فسيحة الأقطار والأطراف، بعيدة الأكناف، والماء بها قليل، فلقوا شدة، وقاسوا مشقة إلى أن قطعوها.
فلما قاربوا مقصدهم لقوا نهراً شديد الجرية، صعب المخاضة، وقد وقف صاحب تلك البلاد على طرفه، يمنع من عبوره، ومعه عساكره، وفيلته التي كان يدل بها. فأمر يمين الدولة شجعان عسكره بعبور النهر، وإشغال الكافر بالقتال ليتمكن باقي العسكر من العبور، ففعلوا ذلك، وقاتلوا الهنود، وشغلوهم عن حفظ النهر، حتى عبر سائر العسكر في المخاضات، وقاتلوهم من جميع جهاتهم إلى آخر النهار، فانهزم الهند، وظفر المسلمون، وغنموا ما معهم من أموال وفيلة، وعادوا إلى غزنة موفرين ظافرين.
ذكر قتل بدر بن حسنويه وإطلاق ابنه هلال وقتلهفي هذه السنة قتل بدر بن حسنويه أمير الجبل.
وكان سبب قتله أنه سار إلى الحسين بن مسعود الكردي ليملك عليه بلاده، فحصره بحصن كوسحد، فضجر أصحاب بدر منه لهجوم الشتاء، فعزموا على قتله، فأتاه بعض خواصه وعرفه ذلك، فقال: فمن هم الكلاب حتى يفعلوا ذلك ! وأبعدهم، فعاد إليه، فلم يأذن له، فقال من وراء الخركاة: الذي أعلمتك قد قوي العزم عليه؛ فلم يلتفت إليه.
وخرج فجلس على تل، فثاروا به، فقتله طائفة منهم تسمى الجورقان، ونهبوا عسكره، وتركوه وساروا. فنزل الحسين بن مسعود، فرآه ملقىً على الأرض، فأمر بتجهيزه وحمله إلى مشهد علي، عليه السلام، ليدفن فيه، ففعل ذلك.
وكان عادلاً، كثير الصدقة والمعروف، كبير النفس، عظيم الهمة. ولما قتل هرب الجورقان إلى شمس الدولة أبي طاهر بن فخر الدولة بن بويه، فدخلوا في طاعته.
وكان طاهر بن هلال بن بدر هارباً من جده بنواحي شهرزور، فلما عرف بقتله بادر يطلب ملكه، فوقع بينه وبين شمس الدولة حرب، فأسر طاهر وحبس وأخذ ما كان قد جمعه بعد أن ملك نائباً من أبيه هلال، وكان عظيماً، وحمله إلى همذان، وسار اللرية والشاذنجان إلى أبي الشوك، فدخلوا في طاعته.
وحين قتل كان ابنه هلال محبوساً عند الملك سلطان الدولة، كما ذكرنا، فلما قتل بدر استولى شمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه على بعض بلاده، فلما علم سلطان الدولة بذلك أطلق هلالاً وجهزه وسيره ومعه العساكر ليستعيد ما ملكه شمس الدولة من بلاده. فسار إلى شمس الدولة، فالتقيا في ذي القعدة، واقتتل العسكران، فانهزم أصحاب هلال، وأسر هو، فقتل أيضاً، وعادت العساكر التي كانت معه إلى بغداد على أسوإ حال.
وكان ممن أسر معه أبو المظفر أنوشتكين الأعرابي، وكان في مملكة بدر سابور خواست، والدينور، وبروجرد، ونهاوند، وأسداباذ، وقطعة من أعمال الأهواز، وما بين ذلك من القلاع والولايات.
ذكر الحرب بين علي بن مزيد وبين بني دبيسفي هذه السنة، في المحرم، كانت الحرب بين أبي الحسن علي بن مزيد الأسدي وبين مضر، ونبهان، وحسان، وطراد بني دبيس.
وسببها أنهم كانوا قد قتلوا أبا الغنائم بن مزيد أخا أبي الحسن في حرب بينهم، وقد تقدم ذكرها، وحالت الأيام بينه وبين الأخذ بثأره، فلما كان الآن تجهز لقصدهم، وجمع العرب، والشاذنجان، والجوانية، وغيرهما من الأكراد وسار إليهم، فلما قرب منهم خرجت زوجته ابنة دبيس وقصدت أخاها مضر بن دبيس ليلاً، وقالت له: قد أتاكم ابن مزيد فيما لا قبل لكم به، وهو يقنع منكم بإبعاد نبهان قاتل أخيه، فأبعدوه، وقد تفرقت هذه العساكر. فأجابها أخوها مضر إلى ذلك، وامتنع أخوه حسان.
فلما سمع ابن مزيد بما فعلته زوجته أنكره، وأراد طلاقها، فقالت له: خفت أن أكون في هذه الحرب بين فقد أخٍ حميم، أو زوج كريم، ففعلت ما فعلت رجاء الصلاح؛ فزال ما عنده منها، وتقدم إليهم، وتقدموا إليه بالحلل والبيوت، فالتقوا واقتتلوا، واشتد القتال لما بين الفريقين من الدخول، فظفر ابن مزيد بهم، وهزمهم وقتل حسان ونبهان ابني دبيس، واستولى على البيوت والأموال، ولحق من سلم من الهزيمة بالحويزة.
ولما ظفر بهم رأى عندهم مكاتبات فخر الملك يأمرهم بالجد في أمره، ويعدهم النصرة، فعاتبه على ذلك، وحصل بينهما نفرة، ودعت فخر الملك الضرورة إلى تقليد ابن مزيد الجزيرة الدبيسية، واستثنى مواضع منها: الطيب وقرقوب وغيرهما، وبقي أبو الحسن هناك إلى جمادى الأولى.
ثم إن مضر بن دبيس جمع جمعاً، وكبس أبا الحسن ليلاً، فهرب في نفر يسير، واستولى مضر على حلله وأمواله، وكل ماله، ولحق أبو الحسن ببلد النيل منهزماً.
ذكر ملك شمس الدولة الري
وعوده عنهالما ملك شمس الدولة بن فخر الدولة ولاية بدر بن حسنويه وأخذ ما في قلاعه من الأموال عظم شأنه، واتسع ملكه، فسار إلى الري، وبها أخوه مجد الدولة، فرحل عن الري ومعه والدته إلى دنباوند، وخرجت عساكر الري إلى شمس الدولة مذعنة بالطاعة، ودخل الري وملكها، وخرج منها يطلب أخاه ووالدته، فشغب الجند عليه، وزاد خطبهم، وطالبوه مطالبات اتسع الخرق بها، فعاد إلى همذان وأرسل إلى أخيه ووالدته يأمرهما بالعود إلى الري، فعادا.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في شعبان، توفي أبو الحسن أحمد بن علي البتي، الكاتب الشاعر، ومن شعره في تكةً:
لم لا أتيه ومضجعي ... بين الرّوادف والخصور
وإذا نسجت، فإنّني ... بين الترائب والنّحور
ولقد نشأت صغيرةً ... فأكفّ ربّات الخدور
وله نوادر كثيرة منها أنه شرب قفاعاً في دار فخر الملك، فلم يستطبه، فجلس مفكراً، فقال له الفقاعي: في أي شيء تفكر ؟ فقال: في دقة صنعتك، كيف أمكنك الخراء في هذه الكيزان الضيقة كلها.
وفي رمضان منها قتل القاضي أبو القاسم يوسف بن أحمد بن كج الفقيه، وكان من أئمة أصحاب الشافعي، وكان قاضي الدينور، قتله طائفة من عامتها خوفاً منه . .
وتوفي أبو نصر عمر بن عبد العزيز بن نباتة السعدي الشاعر؛ والقاضي أبو محمد بن الأكفاني، قاضي بغداد، وولي بعده قضاء القضاة أبو الحسن بن أبي الشوارب البصري.
وتوفي أبو أحمد عبد السلام بن الحسن البصري الأديب؛ وأبو القاسم هبة الله بن عيسى، كاتب مهذب الدولة بالبطيحة، وهو من الكتاب المفلقين، ومكاتباته مشهورة؛ وكان ممدحاً، وممن مدحه ابن الحجاج.
وتوفي أيضاً عبدالله بن محمد بن محمد بن عبدالله بن إدريس أبو سعيد الإدريسي، الاستراباذي، الحافظ، نزيل سمرقند، وهو مصنف تاريخ سمرقند.
وتوفي أيضاً الحاكم أبو عبدالله محمد بن عبدالله النيسابوري، صاحب التصانيف الحسنة المشهورة؛ وأبو الحسن بن عياض، وكان يلقب الناصر، وكان يتولى الأهواز، وقام ولده بنكير مقامه؛ وأبو عي الحسين بن الحسين بن حمكان الهمذاني، الفقيه الشافعي، وكان إماماً عالماً.
ثم دخلت سنة ست وأربعمائة
ذكر الفتنة بين باديس وعمه حمادفي هذه السنة ظهر الاختلاف بين الأمير باديس، صاحب إفريقية، وعمه حماد، حتى آل الأمر بينهما إلى الحرب التي لا بقيا بعدها.
وسبب ذلك أن باديس أبلغ عن عمه حماد قوارص وأموراً أنكرها، فاغضى عليها، حتى كثر ذلك عليه، ! وكان لباديس ولد اسمه المنصور أراد أن يقدمه ويجعله ولي عهده، فأرسل إلى عمه حماد يقول له بأن يسلم بعض ما بيده من الأعمال التي أقطعه إلى نائب ابنه المنصور، وهي مدينة تيجس، وقصر الإفريقي وقسطنطينة، وسير إلى تسليم ذلك هاشم بن جعفر، وهو من كبار قوادهم، وسير معه عمه إبراهيم ليمنع أخاه حماداً من أمر إن أراده. فسار إلى أن قاربا حماداً، ففارق إبراهيم هاشماً، وتقدم إلى أخيه حماد، فلما وصل إليه حسن له الخلاف على باديس، ووافقه على ذلك، وخلعا الطاعة، وأظهرا العصيان، وجمعا الجموع الكثيرة، فكانوا ثلاثين ألف مقاتل.
فبلغ ذلك باديس، فجمع عساكره وسار إليهما، ورحل حماد وأخوه إبراهيم إلى هاشم بن جعفر والعسكر الذين معه، وهو بقلعة شقنبارية، فكان بينهم حرب انهزم فيها: ابن جعفر ولجأ إلى باجة، وغنم حماد ماله وعدده، فرحل باديس إلى مكان يسمى قبر الشهيد، فأتاه جمع كثير من عسكر عمه حماد، ووصلت كتب حماد وإبراهيم إلى باديس أنهما ما فارقا الجماعة، ولا خرجا عن الطاعة، فكذبهما ما ظهر من أفعالهما من سفك الدماء، وقتل الأطفال، وإحراق الزروع والمساكن، وسبي النساء.
ووصل حماد إلى باجة فطلب أهلها منه الأمان، فأمنهم، واطمأنوا إلى عهده، فدخلها يقتل وينهب ويحرق ويأخذ الأموال.
وتقدم باديس إليه بعساكره، فلما كان في صفر سنة ست وأربعمائة، وصل حماد إلى مدينة أشير، وهي له، وفيها نائبه، واسمه خلف الحميري، فمنعه خلف من دخولها، وصار في طاعة باديس، فسقط في يد حماد، فإنها هي كانت معولة لحصانتها وقوتها.
ووصل باديس إلى مدينة المسيلة، ولقيه أهلها، وفرحوا به، وسير جيشاً إلى المدينة التي أحدثها حماد، فخربوها إلا أنهم لم يأخذوا مال أحمد، وهرب إلى باديس جماعة كثيرة من جند القلعة التي له، وفيها أخوه إبراهيم، فأخذ إبراهيم أبناءهم، وذبحهم على صدور أمهاتهم، فقيل إنه ذبح بيده منهم ستين طفلاً، فلما فرغ من الأطفال قتل الأمهات.
وتقارب باديس وحماد، والتقوا مستهل جمادى الأولى، واقتتلوا أشد قتال وأعظمه، ووطن أصحاب باديس أنفسهم على الصبر أو الموت لما كان حماد يفعله لمن يظفر به، واختلط الناس بعضهم ببعض، وكثر القتل، ثم انهزم حماد وعسكره لا يلوي على شيء، وغنم عسكر باديس أثقاله وأمواله، وفي جملة ما غنم منه عشرة آلاف درقة مختارة لمط، ولولا اشتغال العسكر بالنهب لأخذ حماد أسيراً.
وسار حتى وصل إلى قلعته تاسع جمادى الأولى، وجاء إلى مدينة دكمة، فتجنى على أهلها، فوضع السيف فيهم، فقتل ثلاثمائة رجل. فخرج إليه فقيه منها وقال له: يا حماد إذا لقيت الجيوش انهزمت، وإذا قاومتك الجموع فررت، وإنما قدرتك وسلطانك على أسير لا قدرة له عليك؛ فقتله وحمل جميع ما في المدينة من طعام وملح وذخيرة إلى القلعة التي له.
وسار باديس خلفه، وعزم على المقام بناحيته، وأمر بالبناء، وبذل الأموال لرجاله، فاشتد ذلك على حماد، وأنكر رجاله، وضعفت نفسه، وتفرق عنه أصحابه.
ثم مات ورو بن سعيد الزناتي المتغلب على ناحية طرابلس، واختلفت كلمة زناتة، فمالت فرقة مع أخيه خزرون، وفرقة مع ابن ورو، فاشتد ذلك أيضاً على حماد، وكان يطمع أن زناتة تغلب على بعض البلاد، فيضطر باديس إلى الحركة إليهم.
ذكر وفاة باديس وولاية ابنه المعزلما كان يوم الثلاثاء، سلخ ذي القعدة سنة ست وأربعمائة، أمر باديس بعرض العساكر، فرأى ما سره، وركب آخر النهار، ونزل معه جماعة من أصحابه، ففارقوه إلى خيامهم، فلما كان نصف الليل توفي.
وخرج الخادم في الوقت إلى حبيب بن أبي سعيد، وباديس بن أبي حمامة، وأيوب بن يطوفت، وهم أكبر قواده، فأعلمهم بوفاته.
وكان بين حبيب وباديس بن حمادة عداوة، فخرج حبيب مسرعاً إلى باديس وخرج باديس إليه أيضاً، فالتقيا في الطريق، فقال كل واحد منهما لصاحبه: قد عرفت الذي بيننا، والأولى أن نتفق على إصلاح هذا الخلل، فإذا انقضى رجعنا إلى المنافسة. فاجتمعا مع أيوب وقالوا: إن العدو قريب منا، وصاحبنا بعيد عنا، ومتى لم نقدم رأساً نرجع إليه في أمورنا لم نأمن العدو، ونحن نعلم ميل صنهاجة إلى المعز، وغيرهم إلى كرامت بن المنصور أخي باديس، فاجتمعوا على تولية كرامت ظاهراً، فإذا وصلوا إلى موضع الأمن، ولوا المعز بن باديس، وينقطع الشر.
فأحضروا كرامت وبايعوه، وولوه في الحال، وأصبحوا وليس عند أحد من العسكر خبر من ذلك، وعزموا أن يقولوا للناس بكرة إن باديس قد شرب دواء، فلما أصبحوا أغلق أهل مدينة المحمدية. أبوابها، وكأنما نودي فيهم بموت باديس، فشاع الخبر، وخاف الناس خوفاً عظيماً، واضطربوا لموته، وأظهروا ولاية كرامت، فلما رأى ذلك عبيد باديس ومن معهم أنكروه، فخلا حبيب بأكابرهم، وعرفهم الحال فسكنوا.
ومضى كرامت إلى مدينة أشير ليجمع صنهاجة، وتلكاتة، وغيرهم وأعطوهم من الخزائن مائة ألف دينار.
وأما المعز فإنه كان عمره ثماني سنين وستة أشهر وأياماً تقريباً، لأن مولده كان في جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، ولما وصل إليه الخبر بموت أبيه أجلسه من عنده للعزاء، ثم ركب في الموكب، وبايعه الناس، فكان يركب كل يوم، ويطعم الناس كل يوم بين يديه.
وأما العساكر فإنهم رحلوا من مدينة المحمدية إلى المعز، وجعلوا باديس في تابوت بين يدي العسكر، والطبول، والبنود على رأسه، والعساكر تتبعه ميمنة وميسرة، وكان وصولهم إلى المنصورية رابع المحرم سنة سبع وأربعمائة، ووصلوا إلى المهدية، والمعز بها، ثمان المحرم، فركب المعز، ووقف حبيب يعلمه بهم، ويذكر له أسماءهم، ويعرفه بقوادهم وأكابرهم، فرحل المعز من المهدية، فوصل إلى المنصورية منتصف المحرم.
وهذا المعز أول من حمل الناس بإفريقية على مذهب مالك، وكان الأغلب عليهم مذهب أبي حنيفة.
وأما كرامت فإنه لما وصل إلى مدينة أشير اجتمع عليه قبائل صنهاجة وغيرهم، فأتاه حماد في ألف وخمسمائة فارس، فتقدم إليه كرامت بسبعة آلاف مقاتل، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً، فرجع بعض أصحاب كرامت إلى بيت المال فانتهبوه وهربوا، فتمت الهزيمة عليه وعلى أصحابه، ووصل إلى مدينة أشير فأشار عليه قاضيها وأعيان أهلها بالمقام، ومنع حماد عنها، ففعل، ونازلهم حماد، وطلب كرامت ليجتمع به، فخرج إليه، فأعطاه مالاً، وأذن له في المسير إلى المعز، وقتل حماد من أهل أشير كثيراً حيث أشاروا على كرامت بحفظ البلد ومنع حماد منه؛ ووصل كرامت إلى المعز في المحرم هذه السنة، فأكرمه وأحسن إليه.
وفي آخر ذي الحجة سير الحاكم الخلع من مصر إلى المعز، ولقبه شرف الدولة، ولم يذكر ما كان منه إلى الشيعة من القتل والإحراق، وسار المعز إلى حماد لثمان بقين من صفر سنة ثمان وأربعمائة بالعساكر لمنعه عن البلاد، فإنه كان يحاصر باغاية وغيرها، فلما قاربه رحل عن باغاية، والتقوا آخر ربيع الأول، فاقتتلوا، فما كان إلا ساعة حتى انهزم حماد وأصحابه، ووضع أصحاب المعز فيهم السيف، وغنموا ما لهم من عدد ومال وغير ذلك، فنادى المعز: من أتى برأس فله أربعة دنانير؛ فأتي بشيء كثير، وأسر إبراهيم أخو حماد، ونجا حماد وقد أصابته جراحة، وتفرق عنه أصحابه، ورجع المعز، وورد رسول من حماد إليه يعتذر، ويقر بالخطأ ويسأل العفو، فأجابه المعز: إن كنت على ما قلته فأرسل ولدك القائد إلينا.
واستعمل المعز على جميع العرب المجاورة لإبراهيم عمه كرامت، فعاد جواب حماد أنه إذا وصله كتاب أخيه إبراهيم بالعلامات التي بينهم، أنه قد أخذ له عهد المعز، بعث ولده القائد، أو حضر هو بنفسه. فحضر إبراهيم وأخذ العهود على المعز وأرسل إليه يعرفه ذلك ويشكر المعز على إحسانه إليه، ووصل المعز إلى قصره آخر جمادى الأولى، ولما وصل أطلق عمه إبراهيم، وخلع عليه، وأعطاه الأموال والدواب وجميع ما يحتاج إليه، فلما سمع حماد ذلك أرسل ولده القائد إلى المعز، وكان وصوله للنصف من شعبان، فأكرمه وأعطاه شيئاً كثيراً، وأقطعه المسيلة وطبنة وغيرهما، وعاد إلى أبيه في شهر رمضان، ورضي الصلح، وحلف عليه، واستقرت الأمور بينهما، وتصاهرا، وزوج المعز أخته بعبدالله بن حماد، فازدادوا اتفاقاً وأمناً.
وكان بإفريقية والغرب غلاء بسبب الجراد، واختلاف الملوك، ولما استقر الصلح والاتفاق سير المعز الجيوش إلى القبائل من البربر وغيرهم، فإن الحروب بينهم كانت، بسبب الاختلاف، كثيرة، والدماء مسفوكة، فلما رأوا عساكر السلطان رجعوا إلى السكون وترك الحرب، ومن أبى قوتل، فقتل المفسدون، وأصلح ما بين القبائل.
ووصل من جزيرة الأندلس زاوي بن زيري بن مناد، عم أبي المعز، وأهله وولده وحشمه، وكان قد أقام بالأندلس مدة طويلة، وقد ذكرنا سبب دخوله الأندلس، وملك بالأندلس غرناطة وقاسى حروباً كثيرة، ووصل معه من الأموال والعدد والجواهر شيء كثير لا يحد، فأكرمهم المعز، وحمل لهم شيئاً عظيماً، وإقامات زائدة وأقاموا عنده.
كان ينبغي أن يكتب وفاة باديس وما بعده سنة سبع وأربعمائة، وإنما أتبعنا بعض أخبارهم بعضاً.
ذكر غزوة محمود إلى الهندفي هذه السنة غزا محمود بن سبكتكين الهند على عادته، فضل أدلاؤه الطريق، ووقع هو وعسكره في مياه فاضت من البحر، فغرق كثير ممن معه، وخاض الماء بنفسه أياماً حتى تخلص وعاد إلى خراسان.
ذكر قتل فخر الملك ووزارة ابن سهلان
وفيها قبض سلطان الدولة على نائبه بالعراق ووزيره فخر الملك أبي غالب، وقتل سلخ ربيع الأول، وكان عمره اثنتين وخمسين سنة وأحد عشر شهراً، وكان نظره بالعراق خمس سنين وأربعة شهور واثني عشر يوماً، وكان كافياً، حسن الولاية والآثار، ووجد له ألف ألف دينار عيناً سوى ما نهب، وسوى الأعراض، وكان قبضه بالأهواز، ولما مات نقل إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، فدفن هناك.
قيل: كان ابن علمكار، وهو من كبار قوادهم، قد قتل إنساناً ببغداد، فكانت زوجته تكتب إلى فخر الملك أبي غالب تتظلم منه ولا يلتفت إليها، فلقيته يوماً وقالت له: تلك الرقاع التي كنت أكتبها إليك صرت أكتبها إلى الله تعالى. فلم يمض على ذلك غير قليل حتى قبض هو وابن علمكار، فقال له فخر الملك: قد برز جواب رقاع تلك المرأة. ولما قبض فخر الملك استوزر سلطان الدولة أبا محمد الحسن بن سهلان، فلقب عميد أصحابه الجيوش، وكان مولده برامهرمز في شعبان سنة إحدى وستين وثلاثمائة.
ذكر قتل طاهر بن هلال بن بدرفي هذه السنة أطلق شمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه طاهر بن هلال بن بدر، واستحلفه على الطاعة له، واجتمع معه طوائف فقوي بهم، وحارب أبا الشوك فهزمه، وقتل سعدي أخو أبي الشوك، ثم انهزم أبو الشوك منه مرةً ثانيةً، ومضى منهزماً إلى حلوان، وبذل له أبو الحسن بن مزيد الأسدي المعاونة، فلم يكن فيه معاودة الحرب.
وأقام طاهر بالنهروان، وصالح أبا الشوك، وتزوج أخته، فلما أمنه طاهر وثب عليه أبو الشوك فقتله بثأر أخيه سعدي، وحمله أصحابه فدفنوه بمشهد باب التبن.
ذكر عدة حوادثفيها توفي الشريف الرضي محمد بن الحسين بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر أبو الحسن، صاحب الديوان المشهور، وشهد جنازته الناس كافة، ولم يشهدها أخوه لأنه لم يستطع أن ينظر إلى جنازته، فأقام بالمشهد إلى أن أعاده الوزير فخر الملك إلى داره، ورثاه كثير من الشعراء منهم أخوه المرتضى، فقال:
يا للرجال لفجعةٍ جذمت يدي، ... ووددتها ذهبت لعيّ براسي
ما زلت آبى وردها، حتّى أتت، ... فحسوتها في بعض ما أنا حاسي
ومطلتها زمناً، فلمّا صمّمت ... لم يثنها مطلي، وطول مكاسي
لا تنكروا من فيض دمعي عبرةً، ... فالدمع خير مساعدٍ ومؤاس
واهاً لعمرك من قصيرٍ طاهرٍ، ... ولربّ عمرٍ طال بالأرجاس
وفيها توفي أبو طالب أحمد بن بكر العبدي النحوي، مصنف شرح الإيضاح؛ وأبو أحمد عبد السلام بن أبي مسلم الفرضي؛ والإمام أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد الأسفراييني إمام أصحاب الشافعي، وكان يحضر دراسته أربعمائة متفقه، وكان يدرس بمسجد عبدالله بن المبارك بقطيعة الفقهاء، وكان عمره إحدى وستين سنة وأشهراً.
وفيها توفي أبو جعفر أستاذ هرمز بن الحسن، والد عميد الجيوش، بشيراز، وكان عمره مائة وخمس سنين؛ وفيها توفي شهاب الدولة أبو درع رافع ابن محمد بن مقرن، وله شعر حسن،
وما زلت أبكي في الديار تأسّفاً ... لبين خليلٍ، أو فراق حبيب
فلما عرفت الرّبع لا شكّ أنّه ... هو الرّبع فاضت مقلتي بغروب
وجرّبت دهري ناسياً، فوجدته ... أخا غيرٍ لا تنقضي وخطوب
وعاشرت أبناء الزمان، فلم أجد ... من الناس خداناً حافظاً لمغيب
ولم يبق منهم حافظٌ لذمامه، ... ولا ناصرٌ يرعى جوار قريب
وفيها توفي الشار أبو نصر، الذي كان صاحب غرشستان من خراسان، في قبض يمين الدولة، وقد ذكرنا سبب ذلك.
وفيها، في صفر، قلد الشريف المرتضى أبو القاسم أخو الرضي نقابة العلويين، والحج، والمظالم، بعد موت أخيه الرضي.
وفيها وقعت فتنة ببغداد بين أهل الكرخ وبين أهل باب الشعير، ونهبوا القلائين، فأنكر فخر الملك على أهل الكرخ، ومنعوا من النوح يوم عاشوراء، ومن تعليق المسوح.
وفيها وقع بالبصرة وما جاورها وباء شديد في بلاد العراق وكثير من البلاد.
وفيها، في حزيران، جاء مطر شديد في بلاد العراق وكثير من البلاد.
ثم دخلت سنة سبع وأربعمائة
ذكر قتل خوارزمشاه
وملك يمين الدولة خوارزم وتسليمها إلى التونتاش
في هذه السنة قتل خوارزمشاه أبو العباس مأمون بن مأمون وملك يمين الدولة خوارزم.
وسبب ذلك أن أبا العباس كان قد ملك خوارزم والجرجانية، كما ذكرناه، وخطب إلى يمين الدولة، فزوجه أخته. ثم إن يمين الدولة أرسل إليه يطلب أن يخطب له على منابر بلاده، فأجابه إلى ذلك، وأحضر أمراء دولته واستشارهم في ذلك، فأظهروا الامتناع، ونهوه عنه، وتهددوه بالقتل إن فعله فعاد الرسول وحكى ليمين الدولة ما شاهده.
ثم إن الأمراء خافوه حيث ردوا أمره، فقتلوه غيلة، ولم يعلم قاتله، وأجلسوا مكانه أحد أولاده، وعملوا أن يمين الدولة يسوءه ذلك، وربما طالبهم بثأره، فتعاهدوا على مقاتلته ومقارعته.
واتصل الخبر بيمين الدولة، فجمع العساكر وسار نحوهم، فلما قاربهم جمعهم صاحب جيشهم، ويعرف بالبتكين البخاري وأمرهم بالخروج إلى لقاء مقدمة يمين الدولة والإيقاع بمن فيها من الأجناد، فساروا معه وقاتلوا مقدمة يمين الدولة، واشتد القتال بينهم.
واتصل الخبر بيمين الدولة، فتقدم نحوهم في سائر جيوشه. فلحقهم وهم في الحرب، فثبت الخوارزمية إلى أن انتصف النهار، وأحسنوا القتال، ثم إنهم انهزموا، وركبهم أصحاب يمين الدولة يقتلون ويأسرون، ولم يسلم إلا القليل.
ثم إن البتكين ركب سفينة لينجو فيها، فجرى بينه وبين من معه منافرة، فقاموا عليه وأوثقوه، وردوا السفينة إلى ناحية يمين الدولة، وسلموه إليه، فأخذه وسائر القواد المأسورين معه، وصلبهم عند قبر أبي العباس خوارزمشاه، وأخذ الباقين من الأسرى فسيرهم إلى غزنة فوجاً بعد فوج، فلما اجتمعوا بها أفرج عنهم، وأجرى لهم الأرزاق، وسيرهم إلى أطراف بلاده من أرض الهند يحمونها من الأعداء، ويحفظونها من أهل الفساد، وأخذ خوارزم واستناب بها حاجبه التونتاش.
ذكر غزوة قشمير وقنوج وغيرهمافي هذه السنة غزا يمين الدولة بلاد الهند، بعد فراغه من خوارزم، فسار منها إلى غزنة ومنها إلى الهند عازماً على غزو قشمير، إذ كان قد استولى على بلاد الهند ما بينه وبين قشمير؛ وأتاه من المتطوعة نحو عشرين ألف مقاتل من ما وراء النهر، وغيره من البلاد، وسار إليها من غزنة ثلاثة أشهر سيراً دائماً، وعبر نهر سيحون، وجيلوم، وهما نهران عميقان شديدا الجرية، فوطئ أرض الهند، وأتاه رسل ملوكها بالطاعة وبذل الإتاوة.
فلما بلغ درب قشمير أتاه صاحبها وأسلم على يده، وسار بين يديه إلى مقصده، فبلغ ماء جون في العشرين من رجب، وفتح ما حولها من الولايات الفسيحة والحصون المنيعة، حتى بلغ حصن هودت، وهو آخر ملوك الهند، فنظر هودب من أعلى حصنه، فرأى من العساكر ما هاله ورعبه، وعلم أنه لا ينجيه إلا الإسلام، فخرج في نحو عشرة آلاف ينادون بكلمة الإخلاص، طلباً للخلاص، فقبله يمين الدولة، وسار عنه إلى قلعة كلجند، وهو من أعيان الهند وشياطينهم، وكان على طريقه غياض ملتفة لا يقدر السالك على قطعها إلا بمشقة، فسير كلجند عساكره وفيوله إلى أطراف تلك الغياض يمنعون من سلوكها، فترك يمين الدولة عليهم من يقاتلهم، وسلك طريقاً مختصرةً إلى الحصن، فلم يشعروا به إلا وهو معهم، فقاتلهم قتالاً شديداً، فلم يطيقوا الصبر على حد السيوف، فانهزموا، وأخذهم السيف من خلفهم، ولقوا نهراً عميقاً بين أيديهم، فاقتحموه، فغرق أكثرهم وكان القتلى والغرقى قريباً من خمسين ألفاً، وعمد كلجند إلى زوجته فقتلها ثم قتل نفسه بعدها، وغنم المسلمون أمواله وملكوا حصونه.
ثم سار نحو بيت متعبد لهم، وهو مهرة الهند، وهو من أحصن الأبنية على نهر، ولهم به من الأصنام كثير، منها خمسة أصنام من الذهب الأحمر المرصع بالجواهر، وكان فيها من الذهب ستمائة ألف وتسعون ألفاً وثلاثمائة مثقال، وكان بها من الأصنام المصوغة من النقرة نحو مائتي صنم، فأخذ يمين الدولة ذلك جميعه، وأحرق الباقي، وسار نحو قنوج، وصاحبها راجيال، فوصل إليها في شعبان، فرأى صاحبها قد فارقها، وعبر الماء المسمى كنك، وهو ماء شريف عندهم يرون أنه من الجنة، وأن من غرق نفسه فيه طهر من الآثام، فأخذها يمين الدولة، وأخذ قلاعها وأعمالها، وهي سبع على الماء المذكور، وفيها قريب من عشرة آلاف بيت صنم، يذكرون أنها عملت من مائتي ألف سنة إلى ثلاثمائة ألف كذباً منهم وزوراً، ولما فتحها أباحها عسكره.
ثم سار إلى قلعة البراهمة، فقاتلوه وثبتوا، فلما عضهم السلاح علموا أنهم لا طاقة لهم، فاستسلموا للسيف فقتلوا، ولم ينج منهم إلا الشريد.
ثم سار نحو قلعة آسي، وصاحبها جند بال، فلما قاربها هرب جند بال، وأخذ يمين الدولة حصنه وما فيه، ثم سار إلى قلعة شروة، وصاحبها جندرآي، فلما قاربه نقل ماله وفيوله نحو جبال هناك منيعة يحتمي بها، وعمي خبره فلم يدر أين هو، فنازل يمين الدولة حصنه فافتتحه وغنم ما فيه، وسار في طلب جندرآي جريدة، وقد بلغه خبره، فلحق به في آخر شعبان، فقاتله، فقتل أكثر جند جندرآي، وأسر كثيراً منهم، وغنم ما معه من مالٍ وفيل، وهرب جندرآي في نفر من أصحابه فنجا.
وكان السبي في هذه الغزوة كثيراً حتى إن أحدهم كان يباع بأقل من عشرة دراهم، ثم عاد إلى غزنة ظافراً؛ ولما عاد من هذه الغزوة أمر ببناء جامع غزنة، فبني بناء لم يسمع بمثله، ووسع فيه، وكان جامعها القديم صغيراً، وأنفق ما غنمه في هذه الغزاة في بنائه.
ذكر حال ابن فولاذفي هذه السنة عظمت شوكة ابن فولاذ وكبر شأنه.
وكان ابتداء أمره أنه كان وضيعاً، فنجم في دولة بني بويه، وعلا صيته، وارتفع قدره، واجتمع إليه الرجال، فلما كانالآن طلب من مجد الدولة ووالدته أن يقطعاه قزوين لتكون له ولمن معه من الرجال، فلم يفعلا، واعتذرا إليه، فقصد أطراف ولاية الري، وأظهر العصيان، وجعل يفسد ويغير، ويقطع السبيل، وملك ما يليه من القرى، فعجزا عنه، فاستعانا بأصبهبذ المقيم بفريم، فأتاهما في رجال الجيل، وجرى بينهم وبين ابن فولاذ عدة حروب، وجرح ابن فولاذ، وولى منهزماً حتى بلغ الدامغان، فأقام حتى عاد أصحابه إليه ورجع أصبهبذ إلى بلاده.
وكتب ابن فولاذ إلى منوجهر بن قابوس يطلب أن ينفذ له عسكراً ليملك البلاد، ويقيم له الخطبة فيها، ويحمل إليه المال، فأنفذ له ألفي رجل، فسار بهم حتى نزل بظاهر الري، وأعاد الإغارة، ومنع الميرة عنها، فضاقت الأقوات بها، فاضطر مجد الدولة ووالدته إلى مداراته، وإعطائه ما يلتمسه، فاستقر بينهم أن يسلما إليه مدينة أصبهان، فسار إليها وأعاد عسكر منوجهر إليه، وزال الفساد، وعاد إلى طاعة مجد الدولة.
ذكر ابتداء الدولة العلوية بالأندلس
وقتل سليمانوفي هذه السنة ولي الأندلس علي بن حمود بن أبى العيش بن ميمون بن أحمد بن عي بن عبدالله بن عمر بن إدريس بن إدريس بن عبدالله بن الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، وقيل في نسبه غير ذلك مع اتفاق على صحة نسبه إلى أمير المؤمنين علي، عيه السلام.
وكان سبب ذلك أن الفتى خيران العامري لم يكن راضياً بولاية سليمان بن الحاكم الأموي لأنه كان من أصحاب المؤيد على ما ذكرناه قبل، فلما ملك سليمان قرطبة انهزم خيران في جماعة كثيرة من الفتيان العامريين، فتبعهم البربر وواقعهم، فاشتد القتال بينهم، وجرح خيران عدة جراحات، وترك على أنه ميت، فلما فارقوه قام يمشي، فأخذه رجل من البربر إلى داره بقرطبة وعالجه فبرأ، وأعطاه مالاً، وخرج منها سراً إلى شرق الأندلس، فكثر جمعه، وقويت نفسه، وقاتل من هناك من البربر، وملك المرية، واجتمع إليه الأجناد، وأزال البربر عن البلاد المجاورة له، فغلظ أمره وعظم شأنه.
وكان علي بن حمود بمدينة سبتة، بينه وبين الأندلس عدوة المجاز مالكاً لها، وكان أخوه القاسم بن حمود بالجزيرة الخضراء مستولياً عليها، وبينهما المجاز، وسبب ملكهما أنهما كانا من جملة أصحاب سليمان بن الحاكم، فقودهما على المغاربة، ثم ولاهما هذه البلاد، وكان خيران يميل إلى دولة المؤيد، ويرغب فيها، ويخطب له على منابر بلاده التي استولى عليها لأنه كان يظن حياته حيث فقد من القصر، فحدث لعلي بن حمود طمع في ملك الأندلس لما رأى من الاختلاف، فكتب إلى خيران يذكر له أن المؤيد كان كتب له بولاية العهد والأخذ بثأره إن هو قتل، فدعا لعلي بن حمود بولاية العهد.
وكان خيران يكاتب الناس، ويأمرهم بالخروج على سليمان. فوافقه جماعة منهم عامر بن فتوح وزير المؤيد، وهو بمالقة، وكاتبوا علي بن حمود، وهو بسبتة، ليعبر إليهم ليقوموا معه ويسيروا إلى قرطبة، فعبر إلى مالقة في سنة خمس وأربعمائة، فخرج عنها عامر بن فتوح، وسلمها إليه، ودعا له بولاية العهد وسار خيران ومن أجابه إليه، فاجتمعوا بالمنكب، وهي ما بين المرية ومالقة، سنة ست وأربعمائة، وقرروا ما يفعلونه، وعادوا يتجهزون لقصد قرطبة، فتجهزوا وجمعوا من وافقهم، وساروا إلى قرطبة وبايعوا علياً على طاعة المؤيد الأموي.
فلما بلغوا غرناطة وافقهم أميرها، وسار معهم إلى قرطبة، فخرج سليمان والبربر إليهم، فالتقوا واقتتلوا على عشرة فراسخ من قرطبة، ونشب القتال بينهم، فانهزم سليمان والبربر، وقتل منهم خلق كثير، وأخذ سليمان أسيراً، فحمل إلى علي بن حمد ومعه أخوه وأبوه الحاكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، ودخل علي بن حمود قرطبة في المحرم سنة سبع ودخل خيران وغيره إلى القصر طمعاً في أن يجدوا المؤيد حياً، فلم يجدوه، ورأوا شخصاً مدفوناً فنبشوه، وجمعوا له الناس، وأحضروا بعض فتيانه الذين رباهم وعرضوه عليه، ففتشه، وفتش أسنانه لأنه كان له سن سوداء كان يعرفها ذلك الفتى، فأجمع هو وغيره على أنه المؤيد خوفاً على أنفسهم من علي، فأخبروا خيران أنه المؤيد، وكان ذلك الفتى يعلم أن المؤيد حي، فأخذ علي بن حمود سليمان وقتله سابع المحرم سنة سبع، وقتل أباه وأخاه.
ولما حضر أبوه بين يدي علي بن حمود قال له: يا شيخ قتلتم المؤيد؛ فقال: والله ما قتلناه، وإنه لحي؛ فحينئذ أسرع في قتله، وكان شيخاً صالحاً منقبضاً لم يتدنس بشيء من أحوال ابنه. واستولى علي بن حمود على قرطبة، ودعا الناس إلى بيعته، فبويع، واجتمع له الملك، ولقب المتوكل على الله.
ثم إن خيران أظهر الخلاف عليه لأشياء منها أنه كان طامعاً أن يجد المؤيد فلم يجده، ومنها أنه نقل إليه أن علياً يريد قتله فخرج عن قرطبة وأظهر الخلاف عليه.
ذكر ظهور عبد الرحمن الأمويلما خالف خيران علياً أرسل يسأل عن بني أمية، فدل على عبد الرحمن ابن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر الأموي، وكان قد خرج من قرطبة مستخفياً، ونزل بجيان، وكان أصلح من بقي من بني أمية، فبايعه خيران وغيره، ولقبوه المرتضى، وراسل خيران منذر بن يحيى التجيبي أمير سرقسطة والثغر الأعلى، وراسل أهل شاطبة، وبلنسية، وطرطوشة، والبنت، فأجابوا كلهم إلى بيعته، والخلاف على علي بن حمود، فاتفق عليه أكثر الأندلس، واجتمعوا بموضع يعرف بالرياحين في الأضحى سنة ثمان وأربعمائة، ومعهم الفقهاء والشيوخ، وجعلوا الخلافة شورى، وأصفقوا على بيعته، وساروا معه إلى صنهاجة والنزول على غرناطة.
وأقبل المرتضى على أهل بلنسية، وشاطبة، وأظهر الجفاء لمنذر بن يحيى التجيبي، ولخيران، ولم يقبل عليهما، فندما على ما كان منهما، وسار حتى وصل إلى غرناطة، فوصل إليها، ونزل عليها، وقاتلوها أياماً قتالاً شديداً، فغلبهم أهل غرناطة، وأميرهم زاوي بن زيري الصنهاجي، وانهزم المرتضى وعسكره، واتبعتهم صنهاجة يقتلون ويأسرون، وقتل المرتضى في هذه الهزيمة وعمره أربعون سنة، وهو أصغر من أخيه هشام، وسار أخوه هشام إلى البنت، وأقام بها إلى أن خوطب بالخلافة، ولم يزل علي بن حمود بعد هذه الهزيمة يقصد بلاد خيران والعامريين مرة بعد أخرى.
ذكر قتل علي بن حمود العلويفلما كان في ذي القعدة سنة ثمان وأربعمائة تجهز علي بن حمود للمسير إلى جيان لقتال من بها من عسكر خيران، فلما كان الثامن والعشرون منه برزت العساكر إلى ظاهر قرطبة بالبنود والطبول ووقفوا ينتظرون خروجه، فدخل الحمام ومعه غلمانه، فقتلوه، فلما طال على الناس انتظاره بحثوا عن أمره، فدخلوا عليه، فرأوه مقتولاً، فعاد العسكر إلى البلد.
وكان لقبه المتوكل على الله، وقيل الناس لدين الله، وكان أسمر، أعين أكحل، خفيف الجسم، طويل القامة، حازماً، عازماً، عادلاً، حسن السيرة، وكان قد عزم على أن يعيد إلى أهل قرطبة أموالهم التي أخذها البربر، فلم تطل أيامه، وكان يحب المدح، ويجزر العطاء عليه.
ثم ولي بعده أخوه القاسم، وهو أكبر من علي بعدة أعوام، وكان عمر علي ثمانياً وأربعين سنة؛ بنوه يحيى، وإدريس، وأمه قرشية، وكنيته أبو الحسن، وكانت ولايته سنة وتسعة أشهر.
ذكر ولاية القاسم بن حمود العلوي بقرطبةقد ذكرنا قتل أخيه علي بن حمود سنة سبع وأربعمائة، فلما قتل بايع الناس أخاه القاسم، ولقب المأمون، فلما ولي، واستقر ملكه، كاتب العامريين واستمالهم، وأقطع زهيراً جيان، وقلعة رباح، وبياسة، وكاتب خيران واستعطفه، فلجأ إليه واجتمع به، ثم عاد عنه إلى المرية. وبقي القاسم مالكاً لقرطبة وغيرها إلى سنة اثنتي عشرة وأربعمائة.
وكان وادعاً، ليناً، يحب العافية، فأمن الناس معه، وكان يتشيع إلا أنه لم يظهر شيئاً من ذلك، فسار عن قرطبة إلى إشبيلية، فخالفه يحيى ابن أخيه فيها
ذكر دولة يحيى بن علي بن حمود
وما كان منه ومن عمهلما سار القاسم بن حمود عن قرطبة إلى إشبيلية سار ابن أخيه يحيى بن علي من مالقة إلى قرطبة، فدخلها بغير مانع، فلما تكن بقرطبة دعا الناس إلى بيعته، فأجابوه، فكانت البيعة مستهل جمادى الأولى من سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، ولقب بالمعتلي، وبقي بقرطبة يدعى له بالخلافة، وعمه القاسم بإشبيلية يدعى له بالخلافة إلى ذي القعدة سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. فسار يحيى عن قرطبة إلى مالقة.
ووصل الخبر إلى عمه، فركب وجد في السير ليلاً ونهاراً إلى أن وصل إلى قرطبة فدخلها ثامن عشر ذي القعدة سنة ثلاثة عشرة، وكان، مدة مقامه بإشبيلية، قد استمال العساكر من البربر وقوي بهم، وبقي القاسم بقرطبة شهوراً، ثم اضطرب أمره بها، وسار ابن أخيه يحيى بن علي إلى الجزيرة الخضراء، وغلب عليها، وبها أهل عمه وماله، وغلب أخوه إدريس بن علي، صاحب سبتة، على طنجة، وهي كانت عدة القاسم التي يلجأ إليها إن رأى ما يخاف بالأندلس، فلما ملك ابنا أخيه بلاده طمع فيه الناس، وتسلط البربر على قرطبة فأخذوا أموالهم، فاجتمع أهلها وبرزوا إلى قتاله عاشر جمادى الأولى سنة أربع عشرة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم سكنت الحرب، وأمن بعضهم بعضاً إلى منتصف جمادى الأولى من السنة، والقاسم بالقصر يظهر التودد لأهل قرطبة، وأنه معهم، وباطنه مع البربر.
فلما كان يوم الجمعة منتصف جمادى الآخرة صلى الناس الجمعة، فلما فرغوا تنادوا: السلاح! السلاح! فاجتمعوا ولبسوا السلاح، وحفظوا البلدا ودخلوا قصر الإمارة، فخرج عنها القاسم، واجتمع معه البربر، وقاتلوا أهل البلد وضيقوا عليهم، وكانوا أكثر من أهله، فبقوا كذلك نيفاً وخمسين يوماً والقتال متصل، فخاف أهل قرطبة، وسألوا البربر في أن يفتحوا لهم الطريق ويؤمنوهم على أنفسهم وأهليهم، فأبوا إلا أن يقتلوهم، فصبروا حينئذ على القتال، وخرجوا من البلد ثاني عشر شعبان، وقاتلوهم قتال مستقتل، فنصرهم الله على البربر، (وَمَنْ بُغِيَ عَلَيْه لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ)، وانهزم البربر هزيمة عظيمة، ولحق كل طائفة منهم ببلد فاستولوا عليه.
وأما القاسم بن حمود فإنه سار إلى إشبيلية، وكتب إلى أهلها في إخلاء ألف دار ليسكنها البربر، فعظم ذلك عليهم، وكان بها ابنا محمد والحسن، فثار بهما أهلها، فأخرجوهما عنهم ومن معهما، وضبطوا البلد، وقدموا على أنفسهم ثلاثة من شيوخهم وكبرائهم وهم: القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل ابن عباد اللخمي، ومحمد بن يريم الالهاني، ومحمد بن محمد بن الحسن الزبيدي، وكانوا يدبرون أمر البلد والناس.
ثم اجتمع ابن يريم والزبيدي، وسألوا ابن عباد أن ينفرد بتدبير أمورهم، فامتنع وألحوا عليه، فلما خاف على البلد بامتناعه أجابهم إلى ذلك، وانفرد بالتدبير وحفظ البلد.
فلما رأى القاسم ذلك سار في تلك البلاد، ثم إنه نزل بشريش، فزحف إليه يحيى ابن أخيه علي، ومعه جمع من البربر، فحصروه ثم أخذوه أسيراً، فحبسه يحيى، فبقي في حبسه إلى أن توفي يحيى، وملك أخوه إدريس، فلما ملك قتله، وقيل: بل مات حتف أنفه، وحمل إلى ابنه محمد، وهو بالجزيرة الخضراء، فدفنه.
وكانت مدة ولاية القاسم بقرطبة مذ تسمى بالخلافة إلى أن أسره ابن أخيه، ستة أعوام، وبقي محبوساً ست عشرة سنة إلى أن قتل سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وكان له ثمانون سنة، وله من الولد محمد والحسن، أمهما أميرة بنت الحسن بن القاسم المعروف بقتون بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس ابن إدريس بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، وكان أسمر، أعين، أكحل، مصفر اللون، طويلاً، خفيف العارضين.
ذكر عود بني أمية إلى قرطبة
وولاية المستظهرلما انهزم البربر والقاسم بن علي من أهل قرطبة، على ما ذكرناه، اتفق رأي أهل قرطبة على رد بني أمية، فاختاروا عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر الأموي، فبايعوه بالخلافة ثالث عشر رمضان من سنة أربع عشرة وأربعمائة، وعمره حينئذ اثنتان وعشرون سنة، وتلقب بالمستظهر بالله، فكانت ولايته شهراً واحداً وسبعة عشر يوماً وقتل.
وكان سبب قتله أنه أخذ جماعة من أعيان قرطبة فسجنهم ليميلهم إلى سليمان بن المرتضى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، وأخذ أموالهم، فسعوا عليه من اسجن، وألبوا الناس، فأجابهم صاحب الشرطة وغيره، واجتمعوا وقصدوا السجن فأخرجوا من فيه.
وكان ممن وافقهم على ذلك أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن الأموي في جماعة كثيرة، فظفروا بالمستظهر، فقتلوه في ذي القعدة، ولم يعقب، وكنيته أبو المطرف، وأمه أم ولد، وكان أبيض أشقر، أعين، شئن الكفين، رحب الصدر، وكان أديباً، خطيباً، بليغاً، رقيق الطبع، له شعر جيد. وكان وزيره أبا محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، وكان سليمان ابن المرتضى قد مات قبل قتله بعشرة أيام.
ذكر ولاية محمد بن عبد الرحمنلما قتل المستظهر بايع الناس بقرطبة محمد بن عبد الرحمن بن عبيدالله ابن الناصر، وكنيته أبو عبد الرحمن الأموي، في ذي القعدة سنة أربع عشرة وأربعمائة، وخطبوا له بالخلافة، ولقبوه المستكفي بالله، وكان همه لا يعدو فرجه وبطنه، وليس له هم ولا فكر في سواهما، وبقي بها ستة عشر شهراً وأياماً، وثار عليه أهل قرطبة في ربيع الأول سنة ست عشرة وأربعمائة، فخلعوه وخرج عن قرطبة ومعه جماعة من أصحابه، حتى صار إلى أعمال مدينة سالم، فضجر منه بعض أصحابه، فشوى له دجاجة، وعمل فيها شيئاً من البيش، فأكلها فمات في ربيع الآخر من هذه السنة.
وكان في غاية التخلف، وله أخبار يقبح ذكرها، وكان ربعةً، أشقر، أزرق، مدور الوجه، ضخم الجسم، وكان عمره نحو خمسين سنة. ولما توفي أعاد أهل قرطبة دعوة المعتلي بالله يحيى بن علي بن حمود العلوي بها.
ذكر عود يحيى العلوي إلى قرطبة وقتلهلما مات أبو عبد الرحمن الأموي، وصح عند أهل قرطبة خبر موته، سعى معهم بعض أهلها ليحيى بن علي بن حمود العلوي ليعيدوه إلى الخلافة، وكان بمالقة يخطب لنفسه بالخلافة، فكتبوا إليه وخاطبوه بالخلافة، وخطبوا له في رمضان سنة ست عشرة وأربعمائة، فأجابهم إلى ذلك، وأرسل إليهم عبد الرحمن بن عطاف اليفرني والياً عليهم، ولم يحضر هو باختياره، فبقي عبد الرحمن فيها إلى محرم سنة سبع عشرة، فسار إليه مجاهد وخيران العامريان، في ربيع الأول منها، في جيش كثير، فلما قاربوا قرطبة ثار أهلها بعبد الرحمن فأخرجوه، وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة، ونجا الباقون.
وأقام خيران ومجاهد بها نحو شهر، ثم اختلفا، فخاف كل واحد منهما صاحبه، فعاد خيران عن قرطبة لسبع بقين من ربيع الآخر من السنة إلى المرية، وبقي بها إلى سنة ثماني عشرة وتوفي، وقيل سنة تسع عشرة، وصارت المرية بعده لصاحبه زهير العامري، فخالف حبوس بن ماكسن الصنهاجي البربري وأخوه على طاعة يحيى بن علي العلوي، وبقي مجاهد مدةً ثم سار إلى دانية، وقطعت خطبة يحيى منها، وأعيدت خطبة الأمويين، على ما نذكره فيما بعد إن شاء الله، وبقي يتردد عليها بالعساكر، واتفق البربر على طاعته، وسلموا إليه ما بأيديهم من الحصون والمدن، فقوي وعظم شأنه وبقي كذلك مدة.
ثم سار إلى قرمونة فأقام بها محاصراً لإشبيلية طامعاً في أخذها، فأتاه الخبر يوماً أن خيلاً لأهل إشبيلية قد أخرجها القاضي أبو القاسم بن عباد إلى نواحي قرمونة، فركب إليهم ولقيهم وقد كمنوا له، فلم يكن بأسرع من أن قتل، وذلك في المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وخلف من الولد الحسن وإدريس لأمي ولد، وكان أسمر، أعين، أكحل، طويل الظهر، قصير الساقين، وقوراً، هيناً، ليناً، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، وأمه بربرية.
ذكر اخبار أولاد يحيى وأولاد أخيه
وغيرهم وقتل ابن عمارنذكر ها هنا ما كان من أخبار أولاده، وأولاد أخيه، وغيرهم من العلويين، متتابعاً، لئلا ينقطع الكلام، وليأخذ بعضه ببعض.
لما قتل يحيى بن علي رجع أبو جعفر أحمد بن أبي موسى المعروف بابن بقية، ونجا الخادم الصقلبي، وهما مدبرا دولة العلويين، فأتيا مالقة، وهي دار مملكتهم، فخاطبا أخاه إدريس بن علي، وكان له سبتة وطنجة، وطلباه فأتى إلى مالقة، وبايعاه بالخلافة على أن يجعل حسن بن يحيى المقتول مكانه بسبتة، فأجابهما إلى ذلك، فبايعاه، وسار حسن بن يحيى ونجا إلى سبتة وطنجة، وتلقب إدريس بالمتأيد بالله، فبقي كذلك إلى سنة ثلاثين، أو إحدى وثلاثين وأربعمائة.
فسير القاضي أبو القاسم بن عباد ولده إسماعيل في عسكر ليتغلب على تلك البلاد، فأخذ قرمونة، وأخذ أيضاً اشبونة، واستجة، فأرسل صاحبها إلى إدريس، وإلى باديس بن حبوس، صاحب صنهاجة، فأتاه صاحب صنهاجة بنفسه، وأمده إدريس بعسكر يقوده ابن بقية مدبر دولته، فلم يجسروا على إسماعيل بن عباد، فعادوا عنه، فسار إسماعيل مجداً ليأخذ على صنهاجة الطريق، فأدركهم وقد فارقهم عسكر إدريس قبل ذلك بساعة، فأرسلت صنهاجة من ردهم فعادوا، وقاتلوا إسماعيل بن عباد، فلم يلبث أصحابه أن انهزموا وأسلموه، فقتل وحمل رأسه إلى إدريس.
وكان إدريس قد أيقن بالهلاك، وانتقل عن مالقة إلى جبل يحتمي به وهو مريض، فلما أتاه الرأس عاش بعده يومين، ومات وترك من الولد يحيى، ومحمداً، وحسناً، وكان يحيى بن علي المقتول قد حبس ابني عمه محمداً والحسن ابني القاسم بن حمود بالجزيرة، فلما مات إدريس أخرجهما الموكل بهما، ودعا الناس إليهما، فبايعهما السودان خاصة قبل الناس لميل أبيهما إليهم، فملك محمد الجزيرة، ولم يتسم بالخلافة.
وأما الحسن بن القاسم فإنه تنسك وترك الدنيا وحج. وكان ابن بقية قد أقام يحيى بن إدريس بعد موت والده بمالقة، فسار إليها نجا الصقلبي من سبتة هو والحسن بن يحيى، فهرب ابن بقية، ودخلها الحسن ونجا، فاستمالا ابن بقية حتى حضر، فقتله الحسن، وقتل ابن عمه يحيى بن إدريس، وبايعه الناس بالخلافة، ولقب بالمستنصر بالله، ورجع نجا إلى سبتة، وترك مع الحسن المستنصر نائباً له يعرف بالشطيفي، فبقي حسن كذلك نحواً من سنتين، ثم مات سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، فقيل إن زوجته ابنة عمه إدريس سمته أسفاً على أخيها يحيى، فلما مات المستنصر اعتقل الشطيفي إدريس بن يحيى، وسار نجا من ستبة إلى مالقة، وعزم على محو أمر العلويين، وأن يضبط البلاد لنفسه، وأظهر البربر على ذلك، فعظم عندهم، فقتلوه، وقتلوا الشطيفي وأخرجوا إدريس بن يحيى، وبايعوه بالخلافة، وتسمى بالعالي، وكان كثير الصدقة يتصدق كل جماعة بخمس مائة دينار، ورد كيل مطرود عن وطنه، وأعاد عليهم أملاكهم.
وكان متأدباً، حسن اللقاء، له شعر جيد إلا أنه كان يصحب الأموال، ولا يحجب نساءه عنهم، وكل من طلب منهم حصناً من بلاده أعطاه، فأخذ منه صنهاجة عدة حصون، وطلبوا وزيره ومدبر أمره صاحب أبيه موسى بن عفان ليقتلوه، فسلمه إليهم فقتلوه. وكان قد اعتقل ابني عمه محمداً والحسن ابني إدريس بن علي في حصن ايرش، فلما رأى ثقته بايرش اضطراب آرائه خالف عليه وبايع ابن عمه محمد بن إدريس بن علي، وثار بإدريس ابن يحيى من عنده من السودان، وطلبوا محمداً فجاء إليهم فسلم إليه إدريس الأمر، وبايع له سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، فاعتقله محمد، وتلقب بالمهدي، وولى أخاه الحسن عهده، ولقبه السامي.
وظهرت من المهدي شجاعة وجرأة، فهابه البربر وخافوه، فراسلوا الموكل بإدريس بن يحيى، فأجابهم إلى إخراجه، وأخرجه وبايع له، وخطب له بسبتة وطنجة بالخلافة، وبقي إلى أن توفي سنة ست وأربعين.
ثم إن المهدي رأى من أخيه السامي ما أنكره، فنفاه عنه، فسار إلى العدوة إلى جبال غمارة، وأهلها ينقادون للعلويين ويعظمونهم، فبايعوه. ثم إن البربر خاطبوا محمد بن القاسم بالجزيرة، واجتمعوا إليه وبايعوه بالخلافة، وتسمى بالمهدي أيضاً، فصار الأمر في غاية الأخلوقة والفضيحة، أربعة كلهم يسمى أمير المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخاً، فرجعت البرابر عنه، وعاد إلى الجزيرة، فمات بعد أيام، فولي الجزيرة ابنه القاسم، ولم يتسم بالخلافة، وبقي محمد بن إدريس بمالقة إلى أن مات سنة خمس وأربعين، وكان إدريس بن يحيى المعروف بالعالي عند بني يفرن بتاكرنا، فلما توفي محمد بن إدريس بن علي قصد إدريس بن يحيى مالقة فملكها، ثم انتقلت إلى صنهاجة.
ذكر ولاية هشام الأموي قرطبةلما قطعت دعوة يحيى بن علي العلوي عن قرطبة سنة سبع عشرة وأربعمائة، على ما ذكرناه قبل، أجمع أهلها على خلع العلويين لميلهم إلى البربر، وإعادة الخلافة بالأندلس إلى بني أمية، وكان رأسهم في ذلك أبا الحزم جهور بن محمد ابن جهور، فراسلوا أهل الثغور والمتغلبين هناك في هذا، فاتفقوا معهم، فبايعوا أبا بكر هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر الأموي، وكان مقيماً بالبنت مذ قتل أخوه المرتضى، فبايعوه في ربيع الأول سنة ثماني عشرة، وتلقب بالمعتدبالله، وكان أسن من المرتضى، ونهض إلى الثغور فتردد فيها، وجرى له هناك فتن واضطراب شديد من الرؤساء إلى أن اتفق أمرهم على أن يسير إلى قرطبة دار الملك فسار إليها ودخلها ثامن ذي الحجة سنة عشرين وبقي بها حتى خلع ثاني ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين.
وكان سبب خلعه أن وزيره أبا عاصم سعيداً القزاز لم يكن له قديم رئاسة، وكان يخالف الوزراء المتقدمين، ويتسبب إلى أخذ أموال التجار وغيرهم، وكان يصل البربر، ويحسن إليهم ويقربهم، فنفر عنه أهل قرطبة، فوضعوا عليه من قتله، فلما قتلوه استوحشوا من هشام فخلعوه بسببه. فلما خلع هشام قام أمية بن عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر، وتسور القصور مع جماعة من الأحداث، ودعا إلى نفسه، فبايعه من سواد الناس كثير، فقال له بعض أهل قرطبة: نخشى عليك أن تقتل في هذه الفتنة، فإن السعادة قد ولت عنكم؛ فقال: بايعوني اليوم واقتلوني غداً. فأنفذ أهل قرطبة وأعيانهم إليه وإلى المعتد بالله يأمرونهما بالخروج عن قرطبة، فودع المعتد أهله وخرج إلى حصن محمد بن الشور بجبل قرطبة، فبقي معه إلى أن غدر أهل الحصن بمحمد ابن الشور فقتلوه وأخرجوا المعتد إلى حصن آخر حبسوه فيه، فاحتال في الخروج منه ليلاً وسار إلى سليمان بن هود الجذامي، فأكرمه وبقي عنده إلى أن مات في صفر سنة ثمان وعشرين، ودفن بناحية لاردة، وهو آخر ملوك بني أمية بالأندلس.
وأما أمية فإنه اختفى بقرطبة، فنادى أهل قرطبة بالأسواق والأرباض أن لا يبقى أحد من بني أمية بها، ولا يتركهم عنده أحد، فخرج أمية فيمن خرج، وانقطع خبره مدةً، ثم أراد العود إليها، فعاد طمعاً في أن يسكنها، فأرسل إليه شيوخ قرطبة من منعه عنها، وقيل قتل وغيب، وذلك في جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين، ثم انحل عقد الجماعة وانتشر وافترقت البلاد، على ما نذكره.
ذكر تفرق ممالك الأندلسثم إن الأندلس اقتسمه أصحاب الأطراف والرؤساء، فتغلب كل إنسان على شيء منه، فصاروا مثل ملوك الطوائف، وكان ذلك أضر شيء على المسلمين فطمع بسببه العدو الكافر، خذله الله، فيهم، ولم يكن لهم اجتمع إلى أن ملكه أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، على ما نذكره إن شاء الله.
فأما قرطبة فاستولى عليها أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور، المقدم ذكره، وكان من وزراء الدولة العامرية، قديم الرئاسة، موصوفاً بالدهاء والعقل، ولم يدخل في شيء من الفتن قبل هذا بل كان يتصاون عنها. فلما خلا له الجو، وأمكنته الفرصة، وثب عليها فتولى أمرها وقام بحمايتها، ولم يتنقل إلى رتبة الإمارة ظاهراً، بل دبرها تدبيراً لم يسبق إليه، وأظهر أنه حامٍ للبلد إلى أن يجيء من يستحقه، ويتفق عليه الناس، فيسلمه إليه. ورتب البوابين والحشم على أبواب قصور الإمارة، ولم يتحول هو عن داره إليها، وجعل ما يرتفع من الأموال السلطانية بأيدي رجالٍ رتبهم لذلك، وهو المشرف عليهم، وصير أهل الأسواق جنداً، وجعل أرزاقهم ربح أموال تكون بأيديهم ديناً عليهم، فيكون الربح لهم، ورأس المال باقياً عليهم، وكان يتعهدهم في الأوقات المتفرقة لينظر كيف حفظهم لها، وفرق السلاح عليهم، فكان أحدهم لا يفارقه سلاحه حتى يعجل حضوره إن احتاج إليه.
وكان جهور يشهد الجنائز، ويعود المرضى، ويحضر الأفراح على طريقة الصالحين، وهو مع ذلك يدبر الأمر تدبير الملوك، وكان مأمون الجانب، وأمن الناس في أيامه، وبقي كذلك إلى أن مات في صفر سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وقام بأمرها بعده ابنه أبو الوليد محمد بن جهور على هذا التدبير إلى أن مات، فغلب عليها الأمير الملقب بالمأمون، صاحب طليطلة، فدبرها إلى أن مات بها.
وأما إشبيلية فاستولى عليها القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي، وهو من ولد النعمان بن المنذر، وقد ذكرنا سبب ذلك في دولة يحيى بن علي بن حمود قبل هذا. وفي هذا الوقت ظهر أمر المؤيد هشام ابن الحاكم، وكان قد اختفى وانقطع خبره، وكان ظهوره بمالقة، ثم سار منها إلى المرية، فخافه صاحبها زهير العامري فأخرجه منها، فقصد قلعة رباح، فأطاعه أهلها، فسار إليهم صاحبه إسماعيل بن ذي النون وحاربهم، فضعفوا عن مقاومته، فأخرجوه، فاستدعاه القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد إليه بإشبيلية، وأذاع أمره، وقام بنصره، وكان رؤساء الأندلس في طاعته، فأجابه إلى ذلك صاحب بلنسية ونواحيها، وصاحب قرطبة، وصاحب دانية والجزائر، وصاحب طرطوشة، وأقروا بخلافته، وخطبوا له، وجددت بيعته بقرطبة في المحرم سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
ثم إن ابن عباد سير جيشاً إلى زهير العامري لأنه لم يخطب للمؤيد، فاستنجد زهير حبوس بن ماكسن الصنهاجي صاحب غرناطة، فسار إليه بجيشه، فعادت عساكر ابن عباد، ولم يكن بين العسكرين قتال، وأقام زهير في بياسة، وعاد حبوس إلى مالقة، فمات في رمضان من هذه السنة، وولي بعده ابنه باديس، واجتمع هو وزهير ليتفقا كما كان زهير وحبوس، فلم تستقر بينهما قاعدة، واقتتلا، فقتل زهير وجمع كثير من أصحابه أواخر سنة تسع وعشرين.
ثم في سنة إحدى وثلاثين التقى عسكر ابن عباد وعليهم ابنه إسماعيل مع باديس بن حبوس، وعسكر إدريس العلوي، على ما ذكرناه عند أخبار العلويين فيما تقدم، إلا أنهم اقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل إسماعيل، ثم مات بعده أبوه القاضي أبو القاسم سنة ثلاث وثلاثين، وولي بعده ابنه أبو عمرو عباد بن محمد،ولقب بالمعتضد بالله، فضبط ما ولي، وأظهر موت المؤيد.
هذا قول ابن أبي الفياض في المؤيد، وقال غيره إن المؤيد لم يظهر خبره منذ عدو من قرطبة عند دخول علي بن حمود إليها، وقتله سليمان، وإنما كان هذا من تمويهات ابن عباد وحيله ومكره، وأعجب من اختفاء حال المؤيد، ثم تصديق الناس ابن عباد فيما أخبر به من حياته، أن إنساناً حضرياً ظهر بعد موت المؤيد بعشرين سنة وادعى أنه المؤيد، فبويع بالخلافة، وخطب له على منابر جميع بلاد الأندلس في أوقات متفرقة، وسفكت الدماء بسببه، واجتمعت العساكر في أمره.
ولما أظهر ابن عباد موت هشام المؤيد، واستقل بأمر إشبيلية وما انضاف إليها، بقي كذلك إن أن مات من ذبحة لحقته لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنة إحدى وستين وأربعمائة، وولي بعده ابنه أبو القاسم محمد بن عباد ابن القاضي أبي القاسم، ولقب بالمعتمد على الله، فاتسع ملكه، وشمخ سلطانه، وملك كثيراً من الأندلس، وملك قرطبة أيضاً، وولى عليها ابنه الظافر بالله، فبلغ خبر ملكه لها إلى يحيى بن ذي النون، صاحب طليطلة، فحسده عليها، فضمن له جرير بن عكاشة أن يجعل ملكها له، وسار إلى قرطبة وأقام بها يسعى في ذلك وهو ينتهز الفرصة.
فاتفق أن في بعض الليالي جاء مطر عظيم ومعه ريح شديدة ورعد وبرق، فثار جرير فيمن معه، ووصل إلى قصر الإمارة، فلم يجد من يمانعه، فدخل صاحب الباب إلى الظافر وأعلمه، فخرج بمن معه من العبيد والحرس، وكان صغير السن، وحمل عليهم، ودفعهم عن الباب، ثم إنه عثر في بعض كراته فسقط، فوثب بعض من يقاتله وقتله، ولم يبلغ الخبر إلى الأجناد وأهل البلد إلا والقصر قد ملك، وتلاحق بجرير أصحابه وأشياعه، وترك الظافر ملقىً على الأرض عرياناً، فمر عليه بعض أهل قرطبة، فأبصره على تلك الحال، فنزع رداءه وألقاه عليه، وكان أبوه إذا ذكره يتمثل:
ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... على أنّه قد سلّ عن ماجدٍ محض
ولم يزل المعتمد يسعى في أخذها، حتى عاد ملكها، وترك ولده المأمون فيها، فأقام بها حتى أخذها جيش أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وقتل فيها بعد حروب كثيرة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى سنة أربع وثمانين. وأخذت إشبيلية من أبيه المعتمد في السنة المذكورة، وبقي محبوساً في اغمات إلى أن مات بها، رحمه الله، وكان هو وأولاده جميعهم الرشيد، والمأمون، والراضي، والمعتمد، وأبوه، وجده علماء فضلاء شعراء.
وأما بطليوس فقام بها سابور الفتى العامري، وتلقب بالمنصور، ثم انتقلت بعده إلى أبي بكر محمد بن عبدالله بن سلمة، المعروف بابن الأفطس، أصلحه من بربر مكناسة، لكنه ولد أبوه بالأندلس، ونشأوا بها، وتخلقوا تخلق أهلها، وانتسبوا إلى تجيب، وشاكلهم الملك، فلما توفي صارت بعده إلى ابنه أبي محمد عمر بن محمد واتسع ملكه إلى أقصى المغرب، وقتل صبراً مع ولدين له عند تغلب أمير المسلمين على الأندلس.
وأما طليطلة فقام بأمرها ابن يعيش، فلم تطل مدته، وصارت رئاسته إلى إسماعيل بن عبد الرحمن بن عامر بن مطرف بن ذي النون، ولقبه الظافر بحول الله، وأصله من البربر وولد بالأندلس، وتأدب بآداب أهلها، وكان مولد إسماعيل سنة تسعين وثلاثمائة، وتوفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وكان عالماً بالأدب، وله شعر جيد، وصنف كتاباً في الآداب والأخبار.
وولي بعده ابنه يحيى فاشتغل بالخلاعة والمجون، وأكثر مهاداة الفرنج ومصانعتهم ليتلذذ باللعب، وامتدت يده إلى أموال الرعية، ولم تزل الفرنج تأخذ حصونه شيئاً بعد شيء، حتى أخذت طليطلة في سنة سبع وسبعين وأربعمائة، وصار هو ببلنسية، وأقام بها إلى أن قتله القاضي ابن جحاف الأحنف، وفيه يقول الرئيس أبو عبد الرحمن محمد بن طاهر:
أيّها الأحنف مهلاً ... فلقد جئت عويصا
إذ قتلت الملك يحيى، ... وتقمّصت القميصا
ربّ يومٍ فيه تجري ... إن تجد فيه محيصا
وأما سرقسطة والثغر الأعلى فكان بيد منذر بن يحيى التجيبي، ثم توفي وولي بعده ابنه يحيى، ثم صارت بعده لسليمان بن أحمد بن محمد بن هود الجذامي وكان يلقب بالمستعين بالله، وكان من قواد منذر على مدينة لاردة، وله وقعة مشهورة بالفرنج بطليطلة سنة أربع وثلاثين وأربعمائة.
ثم توفي وولي بعده ابنه المقتدر بالله، وولي بعده ابنه يوسف بن أحمد المؤتمن، ثم ولي بعده ابنه أحمد المستعين بالله على لقب جده، ثم ولي بعده ابنه عبد الملك عماد الدولة، ثم ولي بعده ابنه المستنصر بالله، وعليه انقرضت دولتهم على رأس الخمس مائة، فصارت بلادهم جميعاً لابن تاشفين.
ورأيت بعض أولادهم بدمشق سنة تسعين وخمسمائة، وهو فقير جداً، وهو قيم الربوة، فسبحان من لا يزول، ولا تغيره الدهور.
وأما طرطوشة فوليها لبيب الفتى العامري.
وأما بلنسية فكان بها المنصور أبو الحسن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن محمد بن المنصور بن أبي عامر المعافري. ثم انضاف إليه المرية وما كان إليها، وبعده ابنه محمد، ودام فيها إلى أن غدر به صهره المأمون بن إسماعيل بن ذي النون، وأخذ منه رئاسة بلنسية في ذي الحجة سنة سبع وخمسين وأربعمائة، فانتزح إلى المرية، وأقام بها إلى أن خلع، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما السهلة فملكها عبود بن رزين، وأصله بربري، ومولده بالأندلس، فلما هلك ولي بعده ابنه عبد الملك، وكان أديباً شاعراً، ثم ولي بعده ابنه عز الدولة، ومنه ملكها الملثمون.
وأما دانية والجزائر فكانت بيد الموفق أبي الحسن مجاهد العامري؛ وسار إليه من قرطبة الفقيه أبو محمد عبدالله المعيطي ومعه خلق كثير، فأقامه مجاهد شبه خليفة يصدر عنه رأيه، وبايعه في جمادى الآخرة سنة خمس وأربعمائة، فأقام المعيطي بدانية مع مجاهد ومن انضم إليه نحو خمسة أشهر، ثم سار هو ومجاهد في البحر إلى الجزائر التي في البحر، وهي ميورقة بالياء، ومنورقة بالنون، ويابسة.
ثم بعث المعيطي بعد ذلك مجاهداً إلى سردانية في مائة وعشرين مركباً بين كبير وصغير ومعه ألف فارس، ففتحها في ربيع الأول سنة ست وأربعين وأربعمائة، وقتل بها خلقاً كثيراً من النصارى، وسبى مثلهم، فسار إليه الفرنج والروم من البر في آخر هذه السنة، فأخرجوه منها، ورجع إلى الأندلس والمعيطي قد توفي، فغاص مجاهد في تلك الفتن إلى أن توفي، وولي بعده ابنه علي بن مجاهد، وكانا جميعاً من أهل العلم والمحبة لأهله والإحسان إليهم، وجلباهم من أقاصي البلاد وأدانيها، ثم مات ابنه عليٌ فولي بعده ابنه أبو عامر، ولم يكن مثل أبيه وجده. ثم إن دانية وسائر بلاد بني مجاهد صارت إلى المقتدر بالله أحمد بن سليمان بن هود في شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وأربعمائة.
وأما مرسية فوليها بنو طاهر، واستقامت رئاستها لأبي عبد الرحمن منهم، المدعو بالرئيس، ودامت رئاسته إلى أن أخذها منه المعتمد بن عباد على يد وزيره أبي بكر بن عمار المهري، فلما ملكها عصى على المعتمد فيها، فوجه إليه عسكراً مقدمهم أبو محمد عبد الرحمن بن رشيق القشيري، فحصروه وضيقوا عليه حتى هرب منها، فلما دخلها القشيري عصى فيها أيضاً على المعتمد، إلى أن دخل في طاعة الملثمين، وبقي أبو عبد الرحمن بن طاهر بمدينة بلنسية إلى أن مات بها سنة سبع وخمسمائة، ودفن بمرسية، وقد نيف على تسعين سنة.
وأما المرية فملكها خيران العامري، وتوفي كما ذكرنا، ووليها بعده زهير العامري، واتسع ملكه إلى شاطبة، إلى ما يجاور عمل طليطلة، ودام إلى أن قتل، كما تقدم، وصارت مملكته إلى المنصور أبي الحسن عبد العزيز ابن عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر، فولي بعده ابنه محمد، فلما توفي عبد العزيز ببلنسية أقام ابنه محمد بالمرية، وهو يدبر بلنسية، فانتهز الفرصة فيها المأمون يحيى بن ذي النون وأخذها منه، وبقي بالمرية إلى أن أخذها منه صهره ذو الوزارتين أبو الأحوص المعتصم معن بن صمادح التجيبي، ودانت له لورقة، وبياسة، وجيان، وغيرها إلى أن توفي سنة ثلاث وأربعين، وولي بعده ابنه أبو يحيى محمد بن معن وهو ابن أربع عشرة سنة، فكفله عوه أبو عتبة بن محمد إلى أن توفي سنة ست وأربعين، فبقي أبو يحيى مستضعفاً لصغره، وأخذت بلاده البعيدة عنه، ولم يبق له غير المرية وما يجاورها.
فلما كبر أخذ نفسه بالعلوم، ومكارم الأخلاق، فامتد صيته، واشتهر ذكره، وعظم سلطانه، والتحق بأكابر الملوك، ودام بها إلى أن نازله جيش الملثمين، فمرض في أثناء ذلك، وكان القتال تحت قصره، فسمع يوماً صياحاً وجلبة، فقال: نغص علينا كل شيء حتى الموت ! وتوفي في مرضه ذلك لثمان بقين من ربيع الأول سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ودخل أولاده وأهله البحر في مركب إلى بجاية، قاعدة مملكة بني حماد من إفريقية، وملك الملثمون المرية وما معها.
وأما مالقة فملكها بنو علي بن حمود، فلم تزل في مملكة العلويين يخطب لهم فيها إلى أن أخذها منهم إدريس بن حبوس صاحب غرناطة سنة سبع وأربعين، وانقضى أمر العلويين بالأندلس.
وأما غرناطة فملكها حبوس بن ماكسن الصنهاجي، ثم مات سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وولي بعده ابنه باديس، فلما توفي ولي بعده ابن أخيه عبد الله بن بلكين، وبقي إلى أن ملكها منه الملثمون في رجب سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وانقرضت دول جميعهم، وصارت الأندلس جميعها للملثمين، وملكهم أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، واتصلت مملكته من المغرب الأقصى إلى آخر بلاد المسلمين بالأندلس؛ نعود إلى سنة سبع وأربعمائة.
ذكر الحرب بين سلطان الدولة وأخيه أبي الفوارسقد ذكرنا أن الملك سلطان الدولة لما ملك بعد أبيه بهاء الدولة ولى أخاه أبا الفوارس بن بهاء الدولة كرمان، فلما وليها اجتمع إليه الديلم، وحسنوا له محاربة أخيه وأخذ البلاد منه، فتجهز وتوجه إلى شيراز، فلم يشعر سلطان الدولة حتى دخل أبو الفوارس إلى شيراز، فجمع عساكره وسار إليه فحاربه، فانهزم أبو الفوارس، وعاد إلى كرمان، فتبعه إليها، فخرج منها هارباً إلى خراسان، وقصد يمين الدولة محمود بن سبكتكين، وهو ببست فأكرمه وعظمه، وحمل إليه شيئاً كثيراً، وأجلسه فوق دارا بن قابوس بن وشمكير، فقال دارا: نحن أعظم محلاً منهم لأن أباه وأعمامه خدموا آبائي؛ فقال محمود: لكنهم أخذوا الملك بالسيف؛ أراد بهذا نصرة نفسه حيث أخذ خراسان من السامانية، ووعد محمود أن ينصره.
ثم إن أبا الفوارس باع جوهرتين كانتا على جبهة فرسه بعشرة آلاف دينار، فاشتراهما محمود وحملهما إليه، فقال له: من غلطكم تتركون هذا على جبهة الفرس، وقيمتهما ستون ألف دينار. ثم إن محموداً سير جيشاً مع أبي الفوارس إلى كرمان، مقدمهم أبو سعد الطائي، وهو من أعين قواده، فسار إلى كرمان فملكها، وقصد بلاد فارس وقد فارقها سلطان الدولة إلى بغداد، فدخل شيراز.
فلما سمع سلطان الدولة عاد إلى فارس، فالتقوا هناك واقتتلوا، فانهزم أبو الفوارس، وقتل كثير من أصحابه، وعاد بأسوإ حالٍ، وملك سلطان الدولة بلاد فارس، وهرب أبو الفوارس سنة ثمان وأربعمائة إلى كرمان، فسير سلطان الدولة الجيوش في أثره، فأخذوا كرمان منه، فلحق بشمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه، صاحب همذان، ولم يمكنه العود إلى يمين لدولة، لأنه أساء السيرة مع أبي سعد الطائي.
ثم فارق شمس الدولة، ولحق بمهذب الدولة، صاحب البطيحة، فأكرمه وأنزله داره، وأنفذ إليه أخوه جلال الدولة من البصرة مالاً وثياباً، وعرض عليه الانحدار إليه فلم يفعله، وترددت الرسل بينه وبين سلطان الدولة، فأعاد إليه كرمان، وسيرت إليه الخلع والتقليد بذلك، وحملت إليه الأموال، فعاد إليها.
ذكر قتل الشيعة بإفريقيةفي هذه السنة، في المحرم، قتلت الشيعة بجميع بلاد إفريقية.
وكان سبب ذلك أن المعز بن باديس ركب ومشى في القيروان والناس يسلمون عليه ويدعون له، فاجتاز بجماعة، فسأل عنهم، فقيل: هؤلاء رافضة يسبون أبا بكر وعمر؛ فقال: رضي الله عن أبي بكر وعمر ! فانصرفت العامة من فورها إلى درب المقلى من القيروان، وهو حومة تجتمع به الشيعة، فقتلوا منهم، وكان ذلك شهوة العسكر وأتباعهم، طمعاً في النهب، وانبسطت أيدي العامة في الشيعة، وأغراهم عامل القيروان وحرضهم.
وسبب ذلك أنه كان قد أصلح أمور البلد، فبلغه أن المعز بن باديس يريد عزله، فأراد فساده، فقتل من الشيعة خلق كثير، وأحرقوا بالنار، ونهبت ديارهم، وقتلوا في جميع إفريقية، واجتمع جماعة منهم إلى قصر المنصور قريب القيروان، فتحصنوا به، فحصرهم العامة وضيقوا عليهم، فاشتد عليهم الجوع، فأقبلوا يخرجون والناس يقتلونهم حتى قتلوا عن آخرهم، ولجأ من كان منهم بالمهدية إلى الجامع فقتلوا كلهم.
وكانت الشيعة تسمى بالمغرب المشارقة نسبة إلى أبي عبدالله الشيعي، وكان من المشرق، وأكثر الشعراء ذكر هذه الحادثة، فمن فرحٍ مسرورٍ ومن باكٍ حزينٍ.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، احترقت قبة مشهد الحسين والأروقة، وكان سببه أنهم أشعلوا شمعتين كبيرتين، فسقطتا في الليل على التازير فاحترق وتعدت النار؛ وفيه أيضاً احترق نهر طابق، ودار القطن، وكثير من باب البصرة، واحترق جامع سر من رأى.
وفيها تشعث الركن اليماني من البيت الحرام، وسقط حائط بين يدي حجرة النبي، صلى الله عليه وسلم، ووقعت القبة الكبيرة على الصخرة بالبيت المقدس.
وفيها كانت فتنة كبيرة بين السنة والشيعة بواسط، فانتصر السنة وهرب وجوه الشيعة والعلويين إلى علي بن مزيد فاستنصروه.
وفيها، في رجب، مات محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل أبو الحسين الضبي القاضي المعروف بابن المحاملي، وكان من أعيان الفقهاء الشافعية وكبار المحدثين؛ مولده سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة؛ ومحمد بن الحسين بن محمد ابن الهيثم أبو عمر البسطامي، الواعظ، الفقيه، الشافعي، ولي قضاء نيسابور.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعمائة
ذكر خروج الترك من الصين
وموت طغان خانفي هذه السنة خرج الترك من الصين في عدد كثير يزيدون على ثلاثمائة ألف خركاة من أجناس الترك، منهم الخطابية الذين ملكوا ما وراء النهر، وسيرد خبر ملكهم إن شاء الله تعالى.
وكان سبب خروجهم أن طغان خان لما ملك تركستان مرض مرضاً شديداً، وطال به المرض، فطمعوا في البلاد لذلك فساروا إليها وملكوا بعضها وغنموا وسبوا وبقي بينهم وبين بلاساغون ثمانية أيام، فلما بلغه الخبر كان بها مريضاً، فسأل الله تعالى أن يعافيه لينتقم من الكفرة، ويحمي البلاد منهم، ثم يفعل به بعد ذلك ما أراد، فاستجاب الله له وشفاه، فجمع العساكر، وكتب إلى سائر بلاد الإسلام يستنفر الناس، فاجتمع إليه من المتطوعة مائة ألف وعشرون ألفاً، فلما بلغ الترك خبر عافيته وجمعه العساكر وكثرة من معه عادوا إلى بلادهم، فسار خلفهم نحو ثلاثة أشهر حتى أدركهم وهم آمنون لبعد المسافة، فكبسهم وقتل منهم زيادة على مائتي ألف رجل، وأسر نحو مائة ألف، وغنم من الدواب والخركاهات وغير ذلك من الأواني الذهبية والفضية ومعمول الصين ما لا عهد لأحدٍ بمثله، وعاد إلى بلاساغون، فلما بلغها عاوده مرضه فمات منه.
وكان عادلاً، خيراً، ديناً، يحب العلم وأهله، ويميل إلى أهل الدين، ويصلهم ويقربهم، وما أشبه قصته بقصة سعد بن معاذ الأنصاري، وقد تقدمت في غزوة الخندق، وقيل: كانت هذه الحادثة مع أحمد بن علي قراخان، أخي طغان خان، وإنها كانت سنة ثلاث وأربعمائة.
ذكر ملك أخيه أرسلان خانلما مات طغان خان ملك بعده أخوه أبو المظفر أرسلان خان، ولقبه شرف الدولة، فخالف عليه قدر خان يوسف بن بغراخان هارون بن سليمان الذي ملك بخارى، وقد تقدم ذكره، وكان ينوب عن طغان خان بسمرقند، فكاتب يمين الدولة يستنجده على أرسلان خان، فعقد على جيحون جسراً من السفن، وضبطه بالسلاسل، فعبر عليه، ولم يكن يعرف هناك قبل هذا، وأعانه على أرسلان خان.
ثم إن يمين الدولة خافه، فعاد إلى بلاده، فاصطلح قدر خان وأرسلان خان على قصد بلاد يمني الدولة واقتسامها، وسار إلى بلخ.
وبلغ الخبر إلى يمين الدولة، فقصدهما، واقتتلوا، وصبر الفريقان، ثم انهزم الترك وعبروا جيحون، فكان من غرق منهم أكثر ممن نجا.
وورد رسول متولي خوارزم إلى يمين الدولة يهنئه بالفتح عقيب الوقعة، فقال له: من أين علمتم ؟ فقال: من كثرة القلانس التي جاءت على الماء؛ وعبر يمين الدولة، فشكا أهل تلك البلاد إلى قدر خان ما يلقون من عسكر يمين الدولة، فقال: قد قرب الأمر بيننا وبين عدونا، فإن ظفرنا منعنا عنكم، وإن ظفر عدونا فقد استرحتم منا. ثم اجتمع هو وقدر خان، وأكلا طعاماً. وكان قدر خان عادلاً حسن السيرة، كثير الجهاد، فمن فتوحه ختن، وهي بلاد بين الصين وتركستان وهي كثيرة العلماء والفضلاء، وبقي كذلك إلى سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة فتوفي فيها، وكان يديم لصلاة في الجماعة.
ولما توفي خلف ثلاثة بنين منهم: أبو شجاع أرسلان خان، وكان له كاشغر، وختن، وبلاساغون، وخطب له على منابرها، وكان لقبه شرف الدولة، ولم يشرب الخمر قط، وكان ديناً، مكرماً للعلماء وأهل الدين، فقصدوه من كل ناحية، فوصلهم وأحسن إليهم، وخلف أيضاً بغراخان ابن قدر خان، وكان له طراز واسبيجاب فقدم أخوه أرسلان وأخذ مملكته، فتحاربا، فانهزم أرسلان خان وأخذ أسيراً، فأودعوه الحبس، وملك بلاده.
ثم إن بغراخان عهد بالملك لولده الأكبر، واسمه حسين جغري تكين، وجعله ولي عهده، وكان لبغراخان امرأة له منها ولد صغير، فغاظها ذلك، فعمدت إليه وسمته فمات هو وعدة من أهله، وخنقت أخاه أرسلان خان ابن قدر خان، وكان ذلك سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، وقتلت وجوه أصحابه، وملكت ابنه، واسمه إبراهيم، وسيرته في جيش إلى مدينة تعرف ببرسخان، وصاحبها يعرف بينالتكين، فظفر به ينالتكين وقتله، وانهزم عسكره إلى أمه، واختلف أولاد بغراخان، فقصدهم طفغاج خان صاحب سمرقند.
ذكر ملك طفغاج خان وولدهوكان طفغاج خان أبو المظفر إبراهيم بن نصر ايلك يلقب عماد الدولة، وكان بيده سمرقند وفرغانة، وكان أبوه زاهداً متعبداً، وهو الذي ملك سمرقند، فلما مات ورثه ابنه طفغاج، وملك بعده، وكان طفغاج متديناً لا يأخذ مالاً حتى يستفتي الفقهاء، فورد عليه أبو شجاع العلوي الواعظ، وكان زاهداً، فوعظه وقال له: إنك لا تصلح للملك. فأغلق طفغاج بابه، وعزم على ترك الملك، فاجتمع عليه أهل البلد وقالوا: قد أخطأ هذا، والقيام بأمورنا متعين عليه. فعند ذلك فتح بابه، ومات سنة ستين وأربعمائة.
وكان السلطان ألب أرسلان قد قصد بلاده ونبها أيام عمه طغرلبك، فلم يقابل الشر بمثله، وأرسل رسولاً إلى القائم بأمر الله سنة ثلاث وخمسين يهنئه، بعوده إلى مستقره، ويسأل التقدم إلى ألب أرسلان بالكف عن بلاده، فأجيب إلى ذلك، وأرسل إليه الخلع والألقاب، ثم فلج سنة ستين.
وكان في حياته قد جعل الملك في ولده شمس الملك، فقصده أخوه طغان خان ابن طفغاج، وحصره بسمرقند، فاجتمع أهلها إلى شمس الملك، وقالوا له: قد خرب أخوك ضياعنا وأفسدها، ولو كان غيره لساعدناك، ولكنه أخوك فلا ندخل بينكما؛ فوعدهم المناجزة، وخرج من البلد نصف الليل في خمسمائة غلام معدين، وكبس أخاه، وهو غير محتاطٍ، فظفر به، فهزمه، وكان هذا وأبوهما حي.
ثم قصده هارون بغراخان بن يوسف قدر خان، وطغرل قراخان، وكان طفغاج قد استولى على ممالكهما، وقاربا سمرقند، فلم يظفرا بشمس الملك، فصالحاه وعادا فصارت الأعمال المتاخمة لجيحون لمشس الملك، وأعمال الخاهر في أيديهما، والحد بينهما خجندة.
وكان السلطان ألب أرسلان قد تزوج ابنة قدر خان، وكانت قبله عند مسعود ابن محمود بن سبكتكين، وتزوج شمس الملك ابنة ألب أرسلان، وزوج بنت عمه عيسى خان من السلطان ملكشاه، وهي خاتون الجلالية أم الملك محمود الذي ولي السلطنة بعد أبيه، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
ثم اختلف ألب أرسلان وشمس الملك، وسنذكره سنة خمس وستين عند قتل ألب أرسلان؛ ثم مات شمس الملك، فولي بعده أخوه خضر خان، ثم مات، فولي ابنه أحمد خان، وهو الذي قبض عليه ملكشاه، ثم أطلقه وأعاده إلى ولايته سنة خمس وثمانين، وسنذكره هناك إن شاء الله تعالى.
ثم إن جنده ثاروا به فقتلوه وملك بعده محمود خان، وكان جده من ملوكهم، وكان أصم، فقصده طغان خان بن قراخان، صاحب طراز، فقتله واستولى على الملك، واستناب بسمرقند أبا المعالي محمد بن زيد العلوي البغدادي، فولي ثلاث سنين، ثم عصى عليه، فحاصره طغان خان، وأخذه وقتله، وقتل خلقاً كثيراً معه.
ثم خرج طغان خان إلى ترمذ يريد خراسان، فلقيه السلطان سنجر وطفر به وقتله وصارت أعمال ما وراء النهر له، فاستناب بها محمد خان بن كمشتكين ابن إبراهيم بن طفغاج خان، فأخذها منه عمر خان، وملك سمرقند، ثم هرب من جنده وقصد خوارزم فظفر به السلطان سنجر فقتله وولي سمرقند محمد خان وولي بخارى محمد تكين بن طغانتكين.
ذكر كاشغر وتركستانوأما كاشغر، وهي مدينة تركستان، فإنها كانت لأرسلان خان بن يوسف قدر خان، كما ذكرنا، ثم صارت بعد لمحمود بغراخان، صاحب طراز والشاش، خمسة عشر شهراً، ثم مات فولي بعده طغرل خان بن يوسف قدر خان، فاستولى على الملك، وملك بلاساغون، وكان ملكه ست عشرة سنة ثم توفي.
وملك ابنه طغرلتكين، وأقام شهرين، ثم أتهى هارون بغراخان أخو يوسف طغرلخان بن طفغاج بغراخان، وعبر كاشغر، وقبض على هارون، وأطاعه عسكره، وملك كاشغر، وختن، وما يتصل بهما إلى بلاساغون، وأقام مالكاً تسعاً وعشرين سنة، وتوفي سنة ست وتسعين وأربعمائة، فولي ابنه أحمد ابن أرسلان خان، وأرسل رسولاً إلى الخليفة المستظهر بالله يطلب منه الخلع والألقاب، فأرسل إليه ما طلب، ولقبه نور الدولة.
ذكر وفاة مهذب الدولة
وحال البطيحة بعدهفي هذه السنة، في جمادى الأولى، توفي مهذب الدولة أبو الحسن علي ابن نصر، ومولده سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، وهو الذي نزل عليه القادر بالله.
وكان سبب موته أنه افتصد، فانتفخ ساعده، ومرض منه، واشتد مرضه. فلما كان قبل وفاته بثلاثة أيام تحدث الجند بإقامة ولده أبي الحسين أحمد مقامه، فبلغ ابن أخت مهذب الدولة، وهو أبو محمد عبدالله بن يني، فاستدعى الديلم والأتراك، ورغبهم ووعدهم، واستحلفهم لنفسه، وقرر معهم القبض على أبي الحسين بن مهذب الدولة وتسليمه إليه، فمضوا إليه ليلاً وقالوا له: أنت ولد الأمير، ووارث الأمر من بعده، فلو قمت معنا إلى دار الإمارة ليظهر أمرك وتجتمع الكلمة عليك لكان حسناً.
فخرج من داره معهم، فلما فارقها قبضوا عيه وحملوه إلى أبي محمد، فسمعت والدته، فدخلت إلى مهذب الدولة قبل موته بيوم فأعلمته الخبر، فقال: أي شيء أقدر أعمل وأنا على هذه الحال ؟ وتوفي من الغد، وولي الأمر أبو محمد، وتسلم الأموال والبلد، وأمر بضرب أبي الحسين بن مهذب الدولة، فضرب ضرباً شديداً توفي منه بعد ثلاثة أيام من موت أبيه.
وبقي أبو محمد أميراً إلى منتصف شعبان، وتوفي بالذبحة، وكان قد قال قبل موته: رأيت مهذب الدولة في المنام وقد مسك حلقي ليخنقني، ويقول: قتلت ابني أحمد، وقابلت نعمتي عليك بذاك. فمات بعد أيام، فكان ملكه أقل من ثلاثة أشهر.
فلما توفي اتفق الجماعة على تأمير أبي عبدالله الحسين بن بكر الشرابي، وكان من خواص مهذب الدولة فصار أمير البطيحة، وبذل للملك سلطان الدولة بذولاً، فأقره عليها، وبقي إلى سنة عشر وأربعمائة، فسير إليه سلطان الدولة صدقة بن فارس المازياري، فملك البطيحة، وأسر أبا عبدالله الشرابي، فبقي عنده أسيراً إلى أن توفي صدقة وخلص، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة علي بن مزيد
وإمارة ابنه دبيسفي هذه السنة، في ذي القعدة، توفي أبو الحسن علي بن مزيد الأسدي، وقام بعده ابنه نور الدولة أبو الأغر دبيس، وكان أبوه قد جعله ولي عهده في حياته، وخلع عليه سلطان الدولة، وأذن في ولايته، فلما توفي والده اختلفت العشيرة على دبيس، فطلب أخوه المقلد بن أبي الحسن علي الإمارة، وسار إلى بغداد، وبذل للأتراك بذولاً كثيرة ليعاضدوه، فسار معه منهم جمع كثير، وكبسوا دبيساً بالنعمانية ونهبوا حلته، فانهزم إلى نواحي واسط، وعاد الأتراك إلى بغداد، وقام الأثير الخادم بأمر دبيس، حتى ثبت قدمه، ومضى المقلد أخوه إلى بني عقيل، ونذكر باقي أخباره موضعها إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ضعف أمر الديلم ببغداد، وطمع فيهم العامة، فانحدروا إلى واسط، فخرج إليهم عامتها وأتراكها، فقاتلوهم، فدفع الديلم عن أنفسهم، وقتلوا من أتراك واسط وعامتها خالقاً كثيرة، وعظم أمر العيارين ببغداد، فأفسدوا ونهبوا الأموال.
وفيها توفي الحاجب أبو طاهر سباشي المشطب وكان كثير المعروف؛ وأبو الحسن الهماني، وكان متولي البصرة وغيرها، وهو الذي مدحه مهيار بقوله:
أستنجدُ الصَّبْرَ فيكم، وهو مغلوب
وفيها قدم سلطان الدولة بغداد، وضرب الطبل في أوقات الصلوات الخمس، ولم تجربه عادة إنما كان عضد الدولة يفعل ذلك في أوقات ثلاث صلوات.
وفيها هرب ابن سهلان من سلطان الدولة إلى هيت وأقام عند قرواش، وولى سلطان الدولة موضعه أبا القاسم جعفر بن أبي الفرج بن فسانجس، ومولده ببغداد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة.
وفيها كانت ببغداد فتنة بين أهل الكرخ من الشيعة وبين غيرهم من السنة اشتدت.
وفيها استناب القادر بالله المعتزلة والشيعة وغيرهما من أرباب المقالات المخالفة لما يعتقده من مذاهبهم، ونهى من المناظرة في شيء منها، ومن فعل ذلك نكل به وعوقب.
ثم دخلت سنة تسع وأربعمائة
ذكر ولاية ابن سهلان العراقفي هذه السنة عرض سلطان الدولة على الرخجي ولاية العراق، فقال: ولاية العراق تحتاج إلى من فيه عسف وخرق، وليس غير ابن سهلان، وأنا أخلفه ها هنا. فولاه سلطان الدولة العراق في المحرم، فسار من عند سلطان الدولة، فلما كان ببعض الطريق ترك ثقله، والكتاب، وأصحابه، وسار جريدة في خمسمائة فارس مع طراد بن دبيس الأسدي، يطلب مهارش ومضراً ابني دبيس، وكان مضر قد قبض قديماً عليه بأمر فخر الملك، فكان يبغضه لذلك، وأراد أن يأخذ جزيرة بني أسد فيه ويسلمها إلى طراد.
فلما علم مضر ومهارش قصده لهما سارا عن المذار، فتبعهما، والحر شديد، فكاد يهلك هو ومن معه عطشاً، فكان من لطف الله به أن بني أسد اشتغلوا بجمع أموالهم وإبعادها، وبقي الحسن بن دبيس فقاتل قتالاً شديداً، وقتل جماعة من الديلم والأتراك، ثم انهزموا ونهب ابن سهلان أموالهم، وصان حرمهم ونساءهم، فلما نزل في خيمته قال: الآن ولدتني أمي؛ وبذل الأمان لمهارش ومضر وأهلهما، وأشرك بينهم وبين طراد في الجزيرة ورحل.
وأنكر على سلطان الدولة فعله ذلك، ووصل إلى واسط والفتن بها قائمة، فأصلحها، وقتل جماعة من أهلها.
وورد عليه الخبر باشتداد الفتن ببغداد، فسار إليها، فدخلها أواخر شهر ربيع الآخر، فهرب منه العيارون، ونفي جماعة من العباسيين وغيرهم، ونفي أبا عبدالله بن النعمان فقيه الشيعة، وأنزل الديلم أطراف الكرخ وباب البصرة، ولم يكن قبل ذلك، ففعلوا من الفساد ما لم يشاهد مثله.
فمن ذلك أن رجلاً من المستورين أغلق بابه عليه خوفاً منهم، فلما كان أول يوم من شهر رمضان خرج لحاجته، فرآهم على حال عظيم من شرب الخمر والفساد، فأراد الرجوع إلى بيته، فأكرهوه على الدخول معهم إلى دارٍ نزلوها، وألزموه بشرب الخمر فامتنع، فصبوها في فيه قهراً، وقالوا له: قم إلى هذه المرأة فافعل بها، فامتنع فألزموه، فدخل معها إلى بيت في الدار، وأعطاها دراهم، وقال: هذا أول يوم في رمضان، والمعصية فيه تتضاعف، وأحب أن تخبريهم أنني قد فعلت. فقالت: لا كرامة ولا عزازة، أنت تصون دينك عن الزناء وأنا أريد أن أصون أمانتي في هذا الشهر عن الكذب ! فصارت هذه الحكاية سائرة في بغداد.
ثم إن أبا محمد بن سهلان أفسد الأتراك والعامة، فانحدر الأتراك إلى واسط، فلقوا بها سلطان الدولة، فشكوا إليه، فسكنهم ووعدهم الإصعاد إلى بغداد وإصلاح الحال.
واستحضر سلطان الدولة ابن سهلان، فخافه ومضى إلى بني خفاجة، ثم أصعد إلى الموصل فأقام بها مدة، ثم انحدر إلى الأنبار ومنها إلى البطيحة. فأرسل سلطان الدولة إلى البطيحة رسولاً يطلبه من الشرابي، فلم يسلمه، فسير إليها عسكراً، فانهزم الشرابي، وانحدر ابن سهلان إلى البصرة، فاتصل بالملك جلال الدولة، وكان الرخجي قد خرج مع ابن سهلان إلى الموصل، ففارقه بها، وأصلح حاله مع سلطان الدولة وعاد إليه.
ذكر غزوة يمين الدولة إلى الهندفي هذه السنة سار يمين الدولة إلى الهند غازياً، واحتشد وجمع، واستعد وأعد أكثر مما تقدم.
وسبب هذا الاهتمام أنه لما فتح قنوج، وهرب صاحبها منه، ويلقب رآي قنوج، ومعنى رآي هو لقب الملك كقيصر وكسرى، فلما عاد إلى غزنة أرسل بيدا اللعين، وهو أعظم ملوك الهند مملكةً، وأكثرهم جيشاً، وتسمى مملكته كجوراهة، رسلاً إلى رآي قنوج، واسمه راجيال، يوبخه على انهزامه، وإسلام بلاده للمسلمين، وطال الكلام بينهما، وآل أمرهما إلى الاختلاف.
وتأهب كل واحد منهما لصاحبه، وسار إليه، فالتقوا واقتتلوا، فقتل راجيال، وأتى القتل على أكثر جنوده، فازداد بيدا بما اتفق له شراً وعتواً، وبعد صيتٍ في الهند، وعلواً، وقصده بعض ملوك الهند الذي ملك يمين الدولة بلاده، وهزمه وأبا أجناده، وصار في جملته وخدمه والتجأ إليه، فوعده بإعادة ملكه إليه، وحفظ ضالته عليه، واعتذر بهجوم الشتاء وتتابع الأنداء. فنمت هذه الأخبار إلى يمين الدولة فأزعجته، وتجهز للغزو، وقصد بيدا، وأخذ ملكه منه، وسار عن غزنة، وابتدأ في طريقه بالأفغانية، وهم كفار يسكنون الجبال، ويفسدون في الأرض، ويقطعون الطريق بين غزنة وبينه، فقصد بلادهم، وسلك مضايقها، وفتح مغالقها، وخرب عامرها، وغنم أموالهم، وأكثر القتل فيهم والأسر، وغنم المسلمون من أموالهم الكثير.
ثم استقل على المسير، وبلغ إلى مكان لم يبلغه فيما تقدم من غزواته، وعبر نهر كنك، ولم يعبره قبلها، فلما جازه رأى قفلاً قد بلغت عدة أحمالهم ألف عدد، فغنمها، وهي من العود، والأمتعة الفائقة، وجد به السير، فأتاه في الطريق خبر ملك من ملوك الهند يقال له تروجنبال قد سار من بين يديه ملتجئاً إلى بيدا ليحتمي به عليه، فطوى المراحل، فلحق تروجنبال ومن معه، رابع عشر شعبان، وبينه وبين الهنود نهر عميق، فعبر إليهم بعض أصحابه وشغلهم بالقتال، ثم عبر هو وباقي العسكر إليهم، فاقتتلوا عامة نهارهم وانهزم تروجنبال ومن معه، وكثر فيه القتل والأسر، وأسلموا أموالهم وأهليهم، فغنمها المسلمون، وأخذوا منهم الكثير من الجواهر وأخذ ما يزيد على مائتي فيل، وسار المسلمون يتصون آثارهم، وانهزم ملكهم جريحاً، وتحير في أمره، وأرسل إلى يمين الدولة يطلب الأمان فلم يؤمنه، ولم يقنع منه إلا الإسلام، وقتل من عساكره ما لا يحصى.
وسار تروجنبال ليلحق ببيدا، فانفرد به بعض الهنود فقتله. فلما رأى ملوك الهند ذلك تابعوا رسلهم إلى يمين الدولة يبذلون له الطاعة والإتاوة. وسار يمين الدولة بعد الوقعة إلى مدينة باري، وهي من أحصن القلاع والبلاد وأقوها، فرآها من سكانها خالية، وعلى عروشها خاوية، فأمر بهدمها وتخريبها وعشر قلاع معها متناهية الحصانة، وقتل من أهلها خلقاً كثيراً، وسار يطلب بيدا الملك، فلحقه وقد نزل إلى جانب نهر، وأجرى الماء من بين يديه فصار وحلاً، وترك عن يمينه وشماله طريقاً يبساً يقاتل منه إذا أراد القتال، وكان عدة من معه ستة وخمسين ألف فارس، ومائة ألف وأربعة وثمانين ألف راجل، وسبع مائة وستة وأربعين فيلاً، فأرسل يمين الدولة طائفة من عسكره للقتال، فأخرج إليهم بيدا مثلهم، ولم يزل كل عسكر يمد أصحابه، حتى كثر الجمعان، واشتد الضرب والطعان، فأدركهم الليل وحجز بينهم.
فلما كان الغد بكر يمين الدولة إليهم، فرأى الديار منهم بلاقع، وركب كل فرقة منهم طريقاً مخالفاً لطريق الأخرى. ووجد خزائن الأموال والسلاح بحالها، فغنموا الجميع، واقتفى آثار المنهزمين، فلحقوهم في الغياض والآجام، وأكثروا فيهم القتل والأسر، ونجا بيدا فريداً وحيداً، وعاد يمين الدولة إلى غزنة منصوراً.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض سلطان الدولة على وزيره ابن فسانجس وإخوته، وولى وزارته ذا السعادتين أبا غالب الحسن بن منصور، ومولده بسيراف سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة.
وفيها توفي الغالب بالله ولي عهد أبيه القادر بالله في شهر رمضان؛ وتوفي أيضاً أبو أحمد عبدالله بن محمد بن أبي علان، قاضي الأهواز، ومولده سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وله تصانيف حسنة، وكان معتزلياً.
وفي هذه السنة مات عبد الغني بن سعيد بن بشر بن مروان الحافظ المصري، صاحب المؤتلف والمختلف، ومولده سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة.
وتوفي رجاء بن عيسى بن محمد أبو العباس الأنصناوي، وأنصنا من قرى مصر، وهو من الفقهاء المالكية وسمع الحديث الكثير.
ثم دخلت سنة عشر وأربعمائةفي هذه السنة قبض الملك جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة على وزيره أبي سعد عبد الواحد بن علي بن ماكولا، وكان ابن عمه أبو جعفر محمد بن مسعود كاتباً فاضلاً، وكان يعرض الديلم لعضد الدولة، ولأبي سعد شعر منه:
وإن لقائي للشّجاع لهيّن، ... ولكنّ حمل الضّيم منه شديد
إذا كان قلب القرن ينبو عن الوغى ... فإنّ جناني جلمدٌ وحديد
وفيها توفي وثاب بن سابق النميري، صاحب حران؛ وأبو الحسن بن أسد الكاتب؛ وأبو بكر محمد بن عبد السلام الهاشمي القاضب بالبصرة؛ وأبو الفضل عبد الواحد بن عبد العزيز التميمي، الفقيه الحنبلي البغدادي، عم أبي محمد.
قال أبو الفضل: سمعت أبا الحسن بن القصاب الصوفي قال: دخلت أنا وجماعة إلى البيمارستان ببغداد، فرأينا شاباً مجنوناً شديد الهوس، فولعنا به، فرد بفصاحةٍ، وقال: انظروا إلى شعور مطررة. وأجساد معطرة. . . وقد جعلوا اللهو صناعة. واللعب بضاعة. وجانبوا العلم رأساً. فقتل: أتعرف شيئاً من العلم فنسألك ؟ قال: نعم إن عندي علماً جماً، فاسألوني. فقال بعضنا: من الكريم في الحقيقة ؟ قال: من رزق أمثالكم، وأنتم لا تساوون ثومة. فأضحكنا. فقال آخر: من أقل الناس شكراً ؟ فقال: من عوفي من بلية ثم رآها في غيره فترك الاعتبار، فإن الشكر عليها واجب. فأبكانا بعد أن أضحكنا. فقلنا: ما الظرف ؟ قال: خلاف ما أنتم عليه. ثم قال: اللهم إن لم ترد عقلي، فرد يدي لأصفع كل واحد منهم صفعة ! فتركناه وانصرفنا.
وفيها مات الأصيفر المنتفقي الذي كان يؤذي الحاج في طريقهم؛ وأبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه الحافظ الأصبهاني؛ وعبد الصمد بن بابك أبو القاسم الشاعر، قدم على الصاحب بن عباد فقال: أنت ابن بابك ؟ فقال: أنا ابن باك؛ فاستحسن قوله.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وأربعمائة
ذكر قتل الحاكم وولاية ابنه الظاهرفي هذه السنة، ليلة الاثنين لثلاث بقين من شوال، فقد الحاكم بأمر الله أبو علي المنصور بن العزيز بالله نزار بن المعز العلوي، صاحب مصر بها، ولم يعرف له خبر.
وكان سبب فقده أنه خرج يطوف ليلة على رسمه، وأصبح عند قبر الفقاعي، وتوجه إلى شرقي حلوان ومعه ركابيان، فأعاد أحدهما مع جماعة من العرب إلى بيت المال، وأمر لهم بجائزة، ثم عاد الركابي الآخر، وذكر أنه خلفه عند العين والمقصبة.
وبقي الناس على رسمهم يخرجون كل يوم يلتمسون رجوعه إلى سلخ شوال، فلما كان ثالث ذي القعدة خرج مظفر الصقلبي، صاحب المظلة، وغيره من خواص الحاكم، ومعهم القاضي، فبلغوا عسفان، ودخلوا في الجبل، فبصروا بالحمار الذي كان عليه راكباً، وقد ضربت يداه بسيف فأثر فيهما، وعليه سرجه ولجامه، فاتبعوا الأثر، فانتهوا به إلى البركة التي شرقي حلوان، فرأوا ثيابه، وهي سبع قطع صوف، وهي مزررة بحالها لم تحل، وفيها أثر السكاكين، فعادوا ولم يشكوا في قتله.
وقيل: كان سبب قتله أن أهل مصر كانوا يكرهونه لما يظهر منه من سوء أفعاله، فكانوا يكتبون إليه الرقاع فيها سبة، وسب أسلافه، والدعاء عليه، حتى إنهم عملوا من قراطيس صورة امرأة وبيدها رقعة، فلما رآها ظن أنها امرأة تشتكي، فأمر بأخذ الرقعة منها، فقرأها، وفيها كل لعن وشتيمة قبيحة، وذكر حرمه بما يكره، فأمر بطلب المرأة، فقيل إنها من قراطيس، فأمر بإحراق مصر ونهبها، ففعلوا ذلكم، وقاتل أهلها أشد قتال، وانضاف إليهم في اليوم الثالث الأتراك والمشارقة، فقويت شوكتهم وأرسلوا إلى الحاكم يسألونه الصفح ويعتذرون، فلم يقبل، فصاروا إلى التهديد، فلما رأى قوتهم أمر بالكف عنهم، وقد أحرق بعض مصر ونهب بعضها، وتتبع المصريون من أخذ نساءهم وأبناءهم، فابتاعوا ذلك بعد أن فضحوهن فازداد غيظهم منه وحنقهم عليه.
ثم إنه أوحش أخته، وأرسل إليها مراسلات قبيحة يقول فيها: بلغني أن الرجال يدخلون إليك؛ وتهددها بالقتل، فأرسلت إلى قائد كبير من قواد الحاكم يقال له ابن دواس، وكان أيضاً يخاف الحاكم، تقول له: إنني أريد أن ألقاك؛ فحضرت عنده وقالت له: قد جئت إليك في أمر تحفظ فيه نفسك ونفسي، وأنت تعلم ما يعتقده أخي فيك، وأنه متى تمكن منك لا يبقي عليك، وأنا كذلك، وقد انضاف إلى هذا ما تظاهر به مما يكرهه المسلمون، ولا يصبرون عليه، وأخاف أن يثوروا به فيهلك هو ونحن معه، وتنقلع هذه، الدولة. فأجابها إلى ما تريد، فقالت: إنه يصعد إلى هذا الجبل غداً، وليس معه غلام إلا الركابي وصبي، وينفرد بنفسه، فتقيم رجلين تثق بهما يقتلانه، ويقتلان الصبي، وتقيم ولده بعده، وتكون أنت مدبر الدولة، وأزيد في إقطاعك مائة ألف دينار.
فأقام رجلين، وأعطتهما هي ألف دينار، ومضيا إلى الجبل، وركب الحاكم على عادته، وسار منفرداً إليه، فقتلاه، وكان عمره ستاً وثلاثين سنة وتسعة أشهر، وولايته خمساً وعشرين سنة وعشرين يوماً، وكان جواداً بالمال، سفاكاً للدماء، قتل عدداً كثيراً من أماثل دولته وغيرهم، فكانت سيرته عجيبة.
منها: أنه أمر في صدر خلافته بسبب الصحابة، رضي الله عنهم، وأن تكتب على حيطان الجوامع والأسواق، وكتب إلى سائر عماله بذلك، وكان ذلك سنة خمس وتسعين وثلاثمائة.
ثم أمر بعد ذلك بمدة بالكف عن السب، وتأديب من يسبهم، أو يذكرهم بسوء، ثم أمر في سنة تسع وتسعين بترك صلاة التراويح، فاجتمع الناس بالجامع العتيق، وصلى بهم إمام جميع رمضان، فأخذه وقتله، ولم يصل أحد التراويح إلى سنة ثمان وأربعمائة، فرجع عن ذلك، وأمر بإقامتها على العادة.
وبنى الجامع براشدة، وأخرج إلى الجوامع والمساجد من الآلأت، والمصاحف، والستور، والحصر ما لم ير الناس مثله، وحل أهل الذمة على الإسلام، أو السمير إلى مأمنهم أو لبس الغيار، فأسلم كثير منهم، ثم كان الرجل منهم، بعد ذلك، يلقاه فيقول له: إنني أريد العود إلى ديني؛ فيأذن له.
ومنع النساء من الخروج من بيوتهن، وقتل من خرج منهن، فشكت إليه من لا قيم لها يقوم بأمرها، فأمر الناس أن يحملوا كل ما يباع في الأسواق إلى الدروب ويبيعوه على النساء، وأمر من يبيع أن يكون معه شبه المغرفة بساعد طويل يمده إلى المرأة، وهي من وراء الباب، وفيه ما تشتريه، فإذا رضيت وضعت الثمن في المغرفة وأخذت ما فيها لئلا يراها، فنال الناس من ذلك شدة عظيمة.
ولما فقد الحاكم ولي الأمر بعده ابنه أبو الحسن علي، ولقب الظاهر لإعزاز دين الله، وأخذت له البيعة، ورد النظر في الأمور جميعها إلى الوزير أبي القاسم علي بن أحمد الجرجرائي.
؟؟؟؟
ذكر ملك مشرف الدولة العراقفي هذه السنة، في ذي الحجة، عظم أمر أبي علي مشرف الدولة بن بهاء الدولة، وخوطب بأمير الأمراء، ثم ملك العراق، وأزال عنه أخاه سلطان الدولة.
وكان سببه أن الجند شغبوا على سلطان الدولة، ومنعوه من الحركة، وأراد ترتيب أخيه مشرف الدولة في الملك، فأشير على سلطان الدولة بالقبض عليه، فلم يمكنه ذلك، وأراد سلطان الدولة الانحدار إلى واسط، فقال الجند: إما أن تجعل عندنا ولدك أو أخاك مشرف الدولة. فراسل أخاه بذلك، فامتنع، ثم أجاب بعد معاودةٍ، ثم إنهما اتفقا، واجتمعا ببغداد، واستقر بينهما أنهما لا يستخدمان ابن سهلان، وفارق سلطان الدولة بغداد، وقصد الأهواز واستخلف أخاه مشرف الدولة على العراق.
فلما انحدر سلطان الدولة ووصل إلى تستر استوزر ابن سهلان، فاستوحش مشرف الدولة، فأنفذ سلطان الدولة وزيره ابن سهلان ليخرج أخاه مشرف الدولة من العراق، فجمع مشرف الدولة عسكراً كثيراً منهم أتراك واسط، وأبو الأغر دبيس بن علي بن مزيد، ولقي ابن سهلان عند واسط، فانهزم ابن سهلان وتحصن بواسط، وحاصره مشرف الدولة وضيق عليه، فغلت الأسعار حتى بلغ الكر من الطعام ألف دينار قاسانية، وأكل الناس الدواب حتى الكلاب، فلما رأى ابن سهلان إدبار أموره سلم البلد، واستحلف مشرف الدولة وخرج إليه، وخوطب حينئذ مشرف الدولة بشاهنشاه، وكان ذلك في آخر ذي الحجة، ومضت الديلم الذين كانوا بواسط في خدمته، وساروا معه، فحلف لهم وأقطعهم، واتفق هو وأخوه جلال الدولة أبو طاهر. فلما سمع سلطان الدولة ذلك سار عن الأهواز إلى أرجان، وقطعت خطبته من العراق، وخطب لأخيه ببغداد آخر المحرم سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، وقبض على ابن سهلان وكحل.
ولما سمع سلطان الدولة بذلك ضعفت نفسه، وسار إلى الأهواز في أربعمائة فارس، فقلت عليهم الميرة، فنهبوا السواد في طريقهم، فاجتمع الأتراك الذين بالأهواز، وقاتلوا أصحاب سلطان الدولة، ونادوا بشعار مشرف الدولة، وساروا منها، فقطعوا الطريق على قافلة وأخذوها وانصرفوا.
ذكر ولاية الظاهر لإعزاز دين الله
لما قتل الحاكم، على ما ذكرناه، بقي الجند خمسة أيام، ثم اجتمعوا إلى أخته، واسمها ست الملك، وقالوا: قد تأخر مولانا، ولم تجر عادته بذلك. فقالت: قد جاءتني رقعته بأنه يأتي بعد غدٍ. فتفرقوا، وبعثت بالأموال إلى القواد على يد ابن دواس، فلما كان اليوم السابع ألبست أبا الحسن علياً ابن أخيها الحاكم أفخر الملابس، وكان الجند قد حضروا للميعاد، فلم يرعهم إلا وقد أخرج أبو الحسن، وهو صبيٌ، والوزير بين يديه، فصاح: يا عبيد الدولة، مولاتنا تقول لكم: هذا مولاكم أمير المؤمنين فسلموا عليه ! فقبل ابن دواس الأرض، والقواد الذين أرسلت إليهم الأموال، ودعوا له، فتبعهم الباقون ومشوا معه، ولم يزل راكباً إلى الظهر، فنزل، ودعا الناس من الغد فبايعوا له، ولقب الظاهر لإعزاز دين الله، وكتبت الكتب إلى البلاد بمصر والشام بأخذ البيعة له.
وجمعت أخت الحاكم الناس، ووعدتهم، وأحسنت إليهم، ورتبت الأمور ترتيباً حسناً، وجعلت الأمر بيد ابن دواس، وقالت له: إننا نريد أن نرد جميع أحوال المملكة إليك، ونزيد في إقطاعك، ونشرفك بالخلع، فاختر يوماً يكون ذلك. فقبل الأرض ودعا، وظهر الخبر به بين الناس، ثم أحضرته، وأحضرت القواد معه، وأغلقت أبواب القصر، وأرسلت إليه خادماً وقالت له: قل للقواد إن هذا قتل سيدكم، واضربه بالسف؛ ففعل ذلك وقتله، فلم يختلف رجلان، وباشرت الأمور بنفسها، وقامت هيبتها عند الناس، واستقامت الأمور، وعاشت بعد الحاكم أربع سنين وماتت.
ذكر الفتنة بين الأتراك والأكراد بهمذانفي هذه السنة زاد شغب الأتراك بهمذان على صاحبهم شمس الدولة بن فخر الدولة، وكان قد تقدم ذلك منهم غير مرة، وهو يحلم عنهم بل يعجز، فقوي طمعهم، فزادوا في التوثب والشغب، وأرادوا إخراج القواد القوهية من عنده، فلم يجبهم إلى ذلك، فعزموا على الإيقاع بهم بغير أمره، فاعتزل الأكراد مع وزيره تاج الملك أبي نصر بن بهرام إلى قلعة برجين، فسار الأتراك إليهم فحصروهم، ولم يلتفتوا إلى شمس الدولة، فكتب الوزير إلى أبي جعفر بن كاكويه، صاحب أصبهان، يستنجده، وعين له ليلة يكون قدوم العساكر إليه فيها بغتةً، ليخرج هو أيضاً تلك الليلة ليكبسوا الأتراك. ففعل أبو جعفر ذلك، وسير ألفي فارس، وضبطوا الطرق لئلا يسبقهم الخبر، وكبسوا الأتراك سحراً على غفلة، ونزل الوزير والقوهية من القلعة، فوضعوا فيهم السيف، فأكثروا القتل، وأخذوا المال، ومن سلم من الأتراك نجا فقيراً.
وفعل شمس الدولة بمن عنده في همذان كذلك، وأخرجهم، فمضى ثلاثمائة منهم إلى كرمان، وخدموا أبا الفوارس بن بهاء الدولة صاحبها.
ذكر القبض على أبي القاسم المغربي وابن فهدفي هذه السنة قبض معتمد الدولة قرواش بن المقلد على وزيره أبي القاسم المغربي، وعلى أبي القاسم سليمان بن فهد بالموصل، وكان ابن فهد يكتب في حداثته بين يدي الصابي، وخدم المقلد بن المسيب، وأصعد إلى الموصل، واقتنى بها ضياعاً، ونظر فيها لقرواش، فظلم أهلها وصادرهم، ثم سخط قرواش عليهما فحبسهما، وطولب سليمان بالمال، فادعى الفقر فقتل.
وأما المغربي فإنه خدع قرواشاً، ووعده بمال له في الكوفة وبغداد، فأمر بحمله وترك. وفي قرواش وابن فهد يقول الشاعر، وهو ابن الزمكدم:
وليلٍ كوجه البرقعيديّ ظلمةً، ... وبرد أغانيه، وطول قرونه
سريت، ونومي فيه نومٌ مشرّدٌ، ... كعقل سليمان بن فهدٍ ودينه
على أولقٍ فيه التفاتٌ كأنّه ... أبو جابرٍ في خطبه وجنونه
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنّه ... سنا وجه قرواشٍ وضوء جبينه
وهذه الأبيات قد أجمع أهل البيان على أنها غاية في الجودة لم يقل خير منها في معناها.
ذكر الحرب بين قرواش
وغريب بن مقنفي هذه السنة، في ربيع الأول اجتمع غريب بن مقن، ونور الدولة دبيس ابن علي بن مزيد الأسدي، وأتاهم عسكر من بغداد فقاتلوا قرواشاً، ومعه رافع بن الحسين، عند كرخ سر من رأى، فانهزم قرواش ومن معه، وأسر في المعركة، ونهبت خزائنه وأثقاله، واستجار رافع بغريب، وفتحوا تكريت عنوةً، وعاد عسكر بغداد إليها بعد عشرة أيام.
ثم إن قرواشاً خلص، وقصد سلطان بن الحسين بن ثمال، أمير خفاجة، فسار إليهم جماعة من الأتراك، فعاد قرواش وانهزم ثانياً هو وسلطان، وكانت الوقعة بينهم غربي الفرات. ولما انهزم قرواش مد نواب السلطان أيديهم إلى أعماله، فأرسل يسأل الصفح عنه، ويبذل الطاعة.
ذكر عدة حوادثفيها أغارت زناتة بإفريقية على دواب المعز بن باديس، صاحب البلاد، ليأخذوها، فخرج إليهم عامل مدينة قابس فقاتلهم فهزمهم.
وفيها، في ربيع الآخر، نشأت سحابة بإفريقية أيضاً شديدة البرق والرعد، فأمطرت حجارة كثيرة ما رأى الناس أكبر منها، فهلك كل من أصابه شيء منها.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن عمر العنبري الشاعر، وديوانه مشهور، ومن قوله:
ذنبي إلى الدهر أني لم أمدّ يدي ... في الراغبين، ولم أطلب ولم أسل
وأنّني كلّما نابت نوائبه ... ألفيتني بالرّزايا غير محتفل
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وأربعمائة
ذكر الخطبة لمشرف الدولة ببغداد
وقتل وزيره أبي غالبفي هذه السنة، في المحرم قطعت خطبة سلطان الدولة من العراق، وخطب لمشرف الدولة، فطلب الديلم من مشرف الدولة أن ينحدروا إلى بيوتهم بخوزستان، فأذن لهم، وأمر وزيره أبا غالب بالانحدار معهم، فقال له: إني إن فعلت خاطرت بنفسي، ولكن أبذلها في خدمتك.
ثم انحدر في العساكر، فلما وصل إلى الأهواز نادى الديلم بشعار سلطان الدولة، وهجموا على أبي غالب فقتلوه، فسار الأتراك الذين كانوا معه إلى طراد ابن دبيس الأسدي بالجزيرة التي لنبي دبيس، ولم يقدروا أن يدفعوا عنه، فكانت وزارته ثمانية عشر شهراً وثلاثة أيام، وعمره ستين سنة وخمسة أشهر، فأخذ ولده أبو العباس، وصودر على ثلاثين ألف دينار. فلما بلغ سلطان الدولة قتله اطمأن، وقويت نفسه، وكان قد خافه، وأنفذ ابنه أبا كاليجار إلى الأهواز فملكها.
ذكر وفاة صدقة صاحب البطيحةفي هذه السنة مرض صدقة صاحب البطيحة، فقصدها أبو الهيجاء محمد بن عمران بن شاهين، في صفر، وكان أبو الهيجاء بعد موت أبيه قد تمزق في البلاد تارةً بمصر، وتارةً عند بدر بن حسنويه، وتارةً بينهما، فلما ولي الوزير أبو غالب أنفق عليه لأدب كان فيه، فكاتبه بعض أهل البطيحة ليسلموا إليه، فسار إليهم، فسمع به صدقة قبل موته بيومين، فسير إليه جيشاً، فقاتلوه، فانهزم أبو الهيجاء وأخذ أسيراً، فأراد استبقاءه فمنعه سابور ابن المرزبان بن مروان، وقتله بيده.
ثم توفي صدقة، بعد قتله، في صفر، فاجتمع أهل البطيحة على ولاية سابور بن المرزبان، فوليهم، وكتب إلى مشرف الدولة يطلب أن يقرر عليه ما كان على صدقة من الحلم، ويستعمل على البطيحة، فأجابه إلى ذلك، وزاد في القرار عليه، واستقر في الأمر.
ثم إن أبا نصر شيرزاد بن الحسن بن مروان زاد في المقاطعة، فلم يدخل سابور في الزيادة، فولي أبو نصر البطيحة، وسار إليها، وفارقها سابور إلى الجزيرة بني دبيس، واستقر أبو نصر في الولاية، وأمنت به الطرق.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي علي بن هلال المعروف بابن البواب، الكاتب المشهور، وإليه انتهى الخط، ودفن بجوار أحمد بن حنبل، وكان يقص بجامع بغداد، ورثاه المرتضى، وقيل كان موته سنة ثلاث عشرة وأربعمائة.
وفيها حج الناس من العراق، وكان قد انقطع سنة عشر وسنة إحدى عشرة، فلما كان هذه السنة قصد جماعة من أعيان خراسان السلطان محمود بن سبكتكين وقالوا له: أنت أعظم ملوك الإسلام، وأثرك في الجهاد مشهور، والحج قد انقطع كما ترى، والتشاغل به واجبٌ، وقد كان بدر بن حسنويه، وفي أصحابك كثير أعظم منه، يسير الحاج بتدبيره، وما له عشرون، فاجعل لهذا الأمر حظاً من اهتمامك.
فتقدم إلى أبي محمد الناصحي قاضي قضاة بلاده بأن يسير بالحاج، وأعطاه ثلاثين ألف دينار يعطيها للعرب سوى النفقة في الصدقات، ونادى في خراسان بالتأهب للحج، فاجتمع خلق عظيم، وساروا، وحج بهم أبو لحسن الأقساسي، فلما بلغوا فيد حصرهم العرب، فبذل لهم الناصحي خمسة آلاف دينار، فلم يقنعوا، وصمموا العزم على أخذ الحاج، وكان مقدمهم رجل يقال له حمار بن عدي، بضم العين، من بني نبهان، فركب فرسه، وعليه درعه وسلاحه، وجال جولة يرهب بها، وكان من سمرقند شاب يوصف بجودة الرمي، فرماه بسهم فقتله، وتفرق أصحابه، وسلم الحاج فحجوا، وعادوا سالمين.
وفيها قلد أبو جعفر السمناني الحسبة، والمواريث، ببغداد، والموتى.
وتوفي هذه السنة أبو سعد أحمد بن محمد بن أحمد بن عبدالله الماليني الصوفي بمصر، في شوال، وهو من المكثرين في الحديث؛ ومحمد بن أحمد بن محمد بن رزق البزاز، المعروف بابن زرقويه، شيخ الخطيب أبي بكر، ومولده سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، وكان فقيهاً شافعياً؛ وأبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي الصوفي، النيسابوري، صاحب طبقات الصوفية؛ وأبو علي الحسن بن علي الدقاق النيسابوري الصوفي، شيخ أبي القاسم القشيري؛ وأبو الفتح بن أبي الفوارس.
المجلد السادس
بسم الله الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وأربعمائة
ذكر الصلح بين سلطان الدولة ومشرف الدولةفي هذه السنة اصطلح سلطان الدولة وأخوه مشرف الدولة وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وكان الصلح بسعي من أبي محمد بن مكرم، ومؤيد الملك الرخجي، وزير مشرف الدولة، على أن يكون العراق جميعه لمشرف الدولة، وفارس وكرمان لسلطان الدولة.
ذكر مقتل المعز وزيره وصاحب جيشهفي هذه السنة قتل المعز بن باديس، صاحب إفريقية، وزيره وصاحب جيشه أبا عبد الله محمد بن الحسن.
وسبب ذلك أنه أقام سبع سنين لم يحمل إلى المعز من الأموال شيئاً بل يجبيها ويرفعها عنده، وطمع طمعاً عظيماً، لا يصبر على مثله، بكثرة أتباعه، ولأن أخاه عبد الله بطرابلس الغرب مجاور لزناتة، وهم أعداء دولته، فصار المعز لا يكاتب ملكاً، ولا يراسله، إلا ويكتب أبو عبد الله معه عن نفسه، فعظم ذلك على المعز وقتله.
يحكى عن أبي عبد الله أنه قال: سهرت ليلة أفكر في شيء أحدثه في الناس وأخرجه عليهم من الخدم التي التزمتها، فنمت فرأيت عبد الله بن محمد الكاتب، وكان وزيراً لباديس، والد هذا المعز، وكان عظيم القدر والمحل، وهو يقول لي: اتق الله، أبا عبد الله، في الناس كافة، وفي نفسك خاصة، فقد أسهرت عينيك، وأبرمت حافظيك، وقد بدا لي منك ما خفي عليك، وعن قليل ترد على ما وردنا، وتقدم على ما قدمنا. فاكتب عني ما أقول، فإنني لا أقول إلا حقاً. فأملى علي هذه الأبيات:
وليت، وقد رأيت مصير قوم ... هم كانوا السماء وكنت أرضا
سموا درج العلى حتى اطمأنوا ... وهد بهم، فعاد الرفع خفضا
وأعظم أسوة لك بي لأني ... ملكت ولم أعش طولاً وعرضا
فلا تغتر بالدنيا وأقصر ... فإن أوان أمرك قد تقضى
قال: فانتبهت مرعوباً، ورسخت الأبيات في حفظي، فلم يبق بعد هذا المنام غير شهرين حتى قتل.
ولما وصل خبر قتله إلى أخيه عبد الله بطرابلس بعث إلى زناتة فعاهدهم، وأدخلهم مدينة طرابلس، فقتلوا من كان فيها من صنهاجة وسائر الجيش، وأخذوا المدينة.
فلما سمع المعز ذلك أخذ أولاد عبد الله ونفراً من أهلهم فحبسهم، ثم قتلهم بعد أيام، لأن نساء المقتولين بطرابلس استغثن إلى المعز في قتلهم فقتلهم.
ذكر عدة حوادثوفيها كان بإفريقية غلاء شديد، ومجاعة عظيمة لم يكن مثلها في تعذر الأقوات، إلا أنه لم يمت فيها أحد بسبب الجوع، ولم يجد الناس كبير مشقة.
وفيها، في شهر رمضان، استوزر مشرف الدولة أبا الحسين بن الحسن الرخجي، ولقب مؤيد الملك، وامتدحه مهيار وغيره من الشعراء وبني مارستانا بواسط، وأكثر فيه من الأدوية والأشربة، ورتب له الخزان والأطباء، ووقف عليه الوقوف الكثيرة، وكان يعرض عليه الوزارة فيأباها، فلما قتل أبو غالب ألزمه بها مشرف الدولة فلم يقدر على الامتناع.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن عيسى السكري شاعر السنة، ومولده ببغداد في صفر سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وكان قد قرأ الكلام على القاضي أبي بكر بن الباقلاني، وإنما سمي شاعر السنة لأنه أكثر مدح الصحابة، ومناقضات شعراء الشيعة.
وفيها توفي أبو علي عمر بن محمد بن عمر العلوي، وأخذ السلطان ماله جميعه.
وفيها توفي أبو عبد الله بن المعلم، فقيه الإمامية، ورثاه المرتضى.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وأربعمائة
ذكر استيلاء علاء الدولة على همذانفي هذه السنة استولى أبو جعفر بن كاكويه على همذان وملكها وكذلك غيرها مما يقاربها.
وسبب ذلك أن فرهاذ بن مرداويج الديلمي، مقطع بروجرد، قصده سماء الدولة أبو الحسن بن شمس الدولة بن بويه، صاحب همذان، وحصره فالتجأ فرهاذ إلى علاء الدولة، فحماه ومنع عنه، وسارا جميعاً إلى همذان فحصراها وقطعا الميرة عنها، فخرج إليهما من بها من العسكر، فاقتتلوا فرحل علاء الدولة إلى جرباذقان، فهلك من عسكره ثلاثمائة رجل من شدة البرد.
فسار إليه تاج الملك القوهي، مقدم عسكر همذان، فحصره بها، فصانع علاء الدولة الأكراد الذين مع تاج الملك، فرحلوا عنه، فخلص من الحصار، وشرع بالتجهز ليعاود حصار همذان، فأكثر من الجموع، وسار إليها، فلقيه سماء الدولة في عساكره ومعه تاج الملك، فاقتتلوا، فانهزم عسكر همذان، ومضى تاج الملك إلى قلعة فاحتمى بها، وتقدم علاء الدولة إلى سماء الدولة، فترجل له وخدمه، وأخذه وأنزله في خيمته، وحمل إليه المال وما يحتاج إليه، وسار وهو معه إلى القلعة التي بها تاج الملك، فحصره وقطع الماء عن القلعة، فطلب تاج الملك الأمان فأمنه، فنزل إليه، ودخل معه همذان.
ولما ملك علاء الدولة همذان سار إلى الدينور فملكها، ثم إلى سابور خواست فملكها أيضاً، وجمع تلك الأعمال، وقبض على أمراء الديلم الذين بهمذان، وسجنهم بقلعة عند أصبهان، وأخذ أموالهم وأقطاعهم، وأبعد كل من فيه شر من الديلم، وترك عنده من يعلم أنه لا شر فيه، وأكثر القتل، فقامت هيبته، وخافه الناس، وضبط المملكة. وقصد حسام الدولة أبا الشوك، فأرسل إليه مشرف الدولة يشفع فيه، فعاد عنه.
ذكر وزارة أبي القاسم المغربي لمشرف الدولةفي هذه السنة قبض مشرف الدولة على وزيره مؤيد الملك الرخجي في شهر رمضان، وكانت وزارته سنتين وثلاثة أيام.
وكان سبب عزله أن الأثير الخادم تغير عليه لأنه صادر ابن شعيا اليهودي على مائة ألف دينار، وكان متعلقاً على الأثير، فسعى وعزله، واستوزر بعده أبا القاسم الحسين بن علي بن الحسين المغربي ومولده بمصر سنة سبعين وثلاثمائة، وكان أبوه من أصحاب سيف الدولة بن حمدان، فسار إلى مصر، فتولى بها، فقتله الحاكم، فهرب ولده أبو القاسم إلى الشام، وقصد حسان بن المفرج بن الجراح الطائي، وحمله على مخالفة الحاكم والخروج عن طاعته، ففعل ذلك، وحسن له أن يبايع أبا الفتوح الحسن بن جعفر العلوي، أمير مكة، فأجابه إليه، واستقدمه إلى الرملة، وخوطب بأمير المؤمنين.
فأنفذ الحاكم إلى حسان مالاً جليلاً، وأفسد معه حال أبي الفتوح، فأعاده حسان إلى وادي القرى، وسار أبو الفتوح منه إلى مكة. ثم قصد أبو القاسم العراق، واتصل بفخر الملك، فاتهمه القادر بالله لأنه من مصر، فأبعده فخر الملك، فقصد قرواشاً بالموصل، فكتب له، ثم عاد عنه، وتنقلت به الحال إلى أن وزر بعد مؤيد الملك الرخجي.
وكان خبيثاً، محتالاً، حسوداً، إذا دخل عليه ذو فضيلة سأله عن غيرها ليظهر للناس جهله.
وفيها، في المحرم، قدم مشرف الدولة إلى بغداد، ولقيه القادر بالله في الطيار، وعليه السواد، ولم يلق قبله أحداً من ملوك بني بويه.
وفيها قتل أبو محمد بن سهلان، قتله نبكير بن عياض عند إيذج.
ذكر الفتنة بمكة
في هذه السنة كان يوم النفر الأول يوم الجمعة، فقام رجل من مصر، بإحدى يديه سيف مسلول، وفي الأخرى دبوس، بعدما فرغ الإمام من الصلاة، فقصد ذلك الرجل الحجر الأسود كأنه يستلمه، فضرب الحجر ثلاث ضربات بالدبوس، وقال: إلى متى يعبد الحجر الأسود ومحمد وعلي؟ فليمنعني مانع من هذا، فإني أريد أن أهدم البيت. فخاف أكثر الحاضرين وتراجعوا عنه، وكاد يفلت، فثار به رجل فضربه بخنجر فقتله، وقطعه الناس وأحرقوه، وقتل ممن اتهم بمصاحبته جماعة وأحرقوا، وثارت الفتنة، وكان الظاهر من القتلى أكثر من عشرين رجلاً غير من اختفى منهم.
وألح الناس، ذلك اليوم، على المغاربة والمصريين بالنهب والسلب، وعلى غيرهم في طريق منى إلى البلد. فلما كان الغد ماج الناس واضطربوا، وأخذوا أربعة من أصحاب ذلك الرجل، فقالوا: نحن مائة رجل، فضربت أعناق هؤلاء الأربعة، وتقشر بعض وجه الحجر من الضربات، فأخذ ذلك الفتات وعجن بلك وأعيد إلى موضعه.
ذكر فتح قلعة من الهندفي هذه السنة أوغل يمين الدولة محمود بن سبكتكين في بلاد الهند، فغنم وقتل، حتى وصل إلى قلعة على رأس جبل منيع، ليس له مصعد إلا من موضع واحد، وهي كبيرة تسع خلقاً، وبها خمسمائة فيل، وفي رأس الجبل من الغلات، والمياه، وجميع ما يحتاج الناس إليه، فحصرهم يمين الدولة، وأدام الحصار، وضيق عليهم، واستمر القتال، فقتل منهم كثير.
فلما رأوا ما حل بهم أذعنوا له، وطلبوا الأمان، فأمنهم وأقر ملكهم فيها على خراج يأخذه منه، وأهدى له هدايا كثيرة، منها طائر على هيئة القمري من خاصيته إذا أحضر الطعام وفيه سم دمعت عينا هذا الطائر وجرى منهما ماء وتحجر، فإذا حك وجعل على الجراحات الواسعة ألحمها.
ذكر عدة حوادثفيها توفي القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي الرازي، صاحب التصانيف المشهورة في الكلام وغيره، وكان موته بمدينة الري، وقد جاوز تسعين سنة، وأبو عبد الله الكشفلي، الفقيه الشافعي، وأبو جعفر محمد بن أحمد الفقيه الحنفي النسفي، وكان زاهداً مصنفاً، وهلال بن محمد بن جعفر أبو الفتح الحفار، ومولده سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وكان عالماً بالحديث، عالي الإسناد.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وأربعمائة
ذكر الخلف بين مشرف الدولة والأتراك
وعزل الوزير المغربيفي هذه السنة تأكدت الوحشة بين الأثير عنبر الخادم، ومعه الوزير ابن المغربي، وبين الأتراك، فاستأذن الأثير والوزير ابن المغربي الملك مشرف الدولة في الانتزاح إلى بلد يأمنان فيه على أنفسهما، فقال: أنا أسير معكما. فساروا جميعاً ومعهم جماعة من مقدمي الديلم إلى السندية، وبها قرواش، فأنزلهم، ثم ساروا كلهم إلى أوانا.
فلما علم الأتراك ذلك عظم عليهم، وانزعجوا منه، وأرسلوا المرتضى وأبا الحسن الزينبي وجماعة من قواد الأتراك يعتذرون، ويقولون: نحن العبيد، فكتب إليهم أبو القاسم المغربي: إنني تأملت ما لكم من الجامكيات، فإذا هي ستمائة ألف دينار، وعملت دخل بغداد، فإذا هو أربعمائة ألف دينار، فإن أسقطتم مائة ألف دينار تحملت بالباقي، فقالوا: نحن نسقطها، فاستشعر منهم أبو القاسم المغربي، فهرب إلى قرواش، فكانت وزارته عشرة أشهر وخمسة أيام، فلما أبعد خرج الأتراك فسألوا الملك والأثير الانحدار معهم، فأجابهم إلى ذلك وانحدروا جميعهم.
ذكر الفتنة بالكوفة ووزارة أبي القاسم المغربي لابن مروانفي هذه السنة وقعت فتنة بالكوفة بين العلويين والعباسيين.
وسببها أن المختار أبا علي بن عبيد الله العلوي وقعت بينه وبين الزكي أبي علي النهرسابسي، وبين أبي الحسن علي بن أبي طالب بن عمر مباينة، فاعتضد المختار بالعباسيين، فساروا إلى بغداد، وشكوا ما يفعل بهم النهرسابسي، فتقدم الخليفة القادر بالله بالإصلاح بينهم مراعاة لأبي القاسم الوزير المغربي لأن النهرسابسي كان صديقه، وابن أبي طالب كان صهره، فعادوا، واستعان كل فريق بخفاجة، فأعان كل فريق من الكوفيين طائفة من خفاجة، فجرى بينهم قتال، فظهر العلويون، وقتل من العباسيين ستة نفر، وأحرقت دورهم ونهبت، فعادوا إلى بغداد، ومنعوا من الخطبة يوم الجمعة، وثاروا، وقتلوا ابن أبي العباس العلوي وقالوا: إن أخاه كان في جملة الفتكة بالكوفة.
فبرز أمر الخليفة إلى المرتضى يأمره بصرف ابن أبي طالب عن نقابة الكوفة، وردها إلى المختار، فأنكر الوزير المغربي ما يجري على صهره ابن أبي طالب من العزل، وكان عند قرواش بسر من رأى، فاعترض أرحاء كانت للخليفة بدرزيجان، فأرسل الخليفة القاضي أبا جعفر السمناني في رسالة إلى قرواش يأمره بإبعاد المغربي عنه، ففعل، فسار المغربي إلى ابن مروان بديار بكر، وغضب الخليفة على النهرسابسي، وبقي تحت السخط إلى سنة ثماني عشرة وأربعمائة، فشفع فيه الأتراك وغيرهم، فرضي عنه، وحلفه على الطاعة، فحلف.
ذكر وفاة سلطان الدولة وملك ولده أبي كاليجار وقتل ابن مكرمفي هذه السنة، ف