الجمعة، 20 مايو 2022

مجلد 7 و8.كتاب : الكامل في التاريخ ابن الأثير

مجلد 7 و8.كتاب : الكامل في التاريخ ابن الأثير
ذكر فتح تكريت والموصلوفي هذه السنة فتحت تكريت في جمادى. وسبب ذلك أن الأنطاق سار من الموصل إلى تكريت وخندق عليه ليحمي أرضه ومعه الروم وإياد وتغلب والنمر والشهارجة، فبلغ ذلك سعداً فكتب إلى عمر، فكتب إليه عمر: أن سرح إليه عبد الله بن المعتم واستعمل على مقدمته ربغي بن الأفكل، وعلى ميمنته الحارث بن حسان الذهلي وعلى ميسرته فرات بن حيان العجلي وعلى ساقته هانىء بن قيس وعلى الخيل عرفجة بن هرثمة. فسار عبد الله إلى تكريت ونزل على الأنطاق فحصره ومن معه أربعين يوماً، فتزاحفوا أربعة وعشرين زحفاً، وكانوا أهون شوكة من أهل جلولاء، وأرسل عبد الله بن المعتم إلى العرب الذين مع الأنطاق يدعوهم إلى نصرته، وكانوا لا يخفون عليه شيئاً. ولما رأت الروم المسلمين ظاهرين عليهم تركوا أمراءهم ونقلوا متاعهم إلى السفن، فأرسلت تغلب وإياد والنمر إلى عبد الله بن المعتم بالخبر وسألوه الأمان وأعلموه أنهم معه، فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين فأسلموا. فأجابوه وأسلموا. فأرسل إليهم عبد الله: إذا سمعتم تكبيرنا فاعلموا أنا أخذنا أبواب الخندق فخذوا الأبواب التي تلي دجلة وكبروا واقتلوا من قدرتم عليه.
ونهد عبد الله والمسلمون وكبروا وكبرت تغلب وإياد والنمر وأخذوا الأبواب، فظن الروم أن المسلمين قد أتوهم من خلفهم مما يلي دجلة، فقصدوا الأبواب التي عليها المسلمون، فأخذتهم سيوف المسلمين وسيوف الربعيين الذين أسلموا تلك الليلة، فلم يفلت من أهل الخندق إلا من أسلم من تغلب وإياد والنمر. وأرسل عبد الله بن المعتم ربعي بن الأفكل إلى الحصنين، وهما نينوى والموصل، تسمى نينوى الحصن الشرقي وتسمى الموصل الحصن الغربي، وقال: اسبق الخبر وسر ما دون القيل واحيي الليل، وسرح معه تغلب وإياد والنمر. فقدمهم ابن الأفكل إلى الحصنين، فسبقوا الخبر وأظهروا الظفر والغنيمة وبشروهم ووقفوا بالأبواب، وأقبل ابن الأفكل فاقتحم عليهم الحصنين وكلبوا أبوابهما، فنادوا بالإجابة إلى الصلح وصاروا ذمة. وقسموا الغنيمة فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف درهم، وسهم الراجل ألف درهم، وبعثوا بالأخماس مع فرات بن حيان وبالفتح مع الحارث بن حسان إلى عمر؛ وولى حرب الموصل ربعي ابن الأفكل، والخراج عرفجة بن هرثمة.
وقيل: إن عمر بن الخطاب استعمل عتبة بن فرقد على قصد الموصل، وفتحها سنة عشرين، فأتاها فقاتله أهل نينوى، فأخذ حصنها، وهو الشرقي، عنوةً، وعبر دجلة، فصالحه أهل الحصن الغربي، وهو الموصل، على الجزية، ثم فتح المرج وبانهذار وباعذرا وحبتون وداسن وجميع معاقل الأكراد وقردى وبازبدى وجميع أعمال الموصل فصارت للمسلمين.
وقيل: إن عياض بن غنم لما فتح بلداً، على ما نذكره، أتى الموصل ففتح أحد الحصنين وبعث عتبة بن فرقد إلى الحصن الآخر ففتحه على الجزية والخراج، والله أعلم.
المعتم بضم الميم، وسكون العين المهملة، وآخره ميم مشددة.
ذكر فتح ماسبذانولما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن بلغ سعداً أن آذين بن الهرمذان قد جمع جمعاً وخرج بهم إلى السهل، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر ابعث إليهم ضرار بن الخطاب في جند واجعل على مقدمته ابن الهذيل الأسدي وعلى مجنبتيه عبد الله بن وهب الراسي والمضارب بن فلان العجلي فأرسل إليهم ضرار بن الخطاب في جيش، فالتقوا بسهل ماسبذان فاقتتلوا، فأسرع المسلمون في المشركين، وأخذ ضرار آذين أسيراً فضرب رقبته. ثم خرج في الطلب حتى انتهى إلى السيروان، فأخذ ماسبذان عنوةً، فهرب أهلها في الجبال، فدعاهم فاستجابوا له، وأقام بها حتى تحول سعد إلى الكوفة، فأرسل إليه فنزل الكوفة واستخلف على ما سبذان ابن الهذيل الأسدي، فكانت أحد فروج الكوفة.
وقيل: إن فتحها كان بعد وقعة نهاوند.
ذكر فتح قرقيسيا
ولما رجع هاشم بن عتبة من جلولاء إلى المدائن وقد اجتمعت جموع أهل الجزيرة فأمدوا هرقل على أهل حمص وبعثوا جنداً إلى أهل هيت كتب بذلك سعد إلى عمر، فكتب إليه عمر أن ابعث إليهم عمر بن مالك في جند... وعلى جنبتيه ربعي بن عامر ومالك بن حبيب، أرسل سعد عمر ابن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف في جند وجعل على مقدمته الحارث ابن يزيد العامري، فخرج عمر بن مالك في جنده نحو هيت فنازل من بها وقد خندقوا عليهم، فلما رأى عمر بن مالك اعتصامهم بخندقهم ترك الأخبية على حالها وخلف عليهم الحارث بن يزيد يحاصرهم وخرج في نصف الناس فجاء قرقيسيا على غرة فأخذها عنوةً، فأجابوا إلى الجزية، وكتب إلى الحارث ابن يزيد: إن هم استجابوا فخل عنهم فليخرجوا وإلا فخندق على خندقهم خندقاً بأبوابه مما يليك حتى أرى رأيي. فراسلهم الحارث، فأجابوا إلى العود إلى بلادهم، فتركهم وسار الحارث إلى عمر بن مالك.
وفيها غرب عمر بن الخطاب أبا محجن الثقفي إلى ناصع. وفيها تزوج ابن عمر صفية بنت أبي عبيد أخت المختار. وفيها حمى عمر الربذة لخيل المسلمين. وفيها ماتت مارية أم إبراهيم ابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصلى عليها عمر ودفنها بالبقيع في المحرم. وفيها كتب عمر التاريخ بمشورة علي بن أبي طالب.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، واستخلف على المدينة زيد ابن ثابت. وكان عماله على البلاد الذين كانوا في السنة قبلها، وكان على حرب الموصل ربعي بن الأفكل، وعلى خراجها عرفجة بن هرثمة، وقيل: كان على الحرب والخراج بها عتبة بن فرقد، وقيل: كان ذلك كله إلى عبد الله بن المعتم. وعلى الجزيرة عياض بن غنم.
ثم دخلت سنة سبع عشرة
ذكر بناء الكوفة والبصرةفي هذه السنة اختطت الكوفة وتحول سعد إليها من المدائن.
وكان سبب ذلك أن سعداً ارسل وفداً إلى عمر بهذه الفتوح المذكورة، فلما رآهم عمر سألهم عن تغير ألوانهم وحالهم، فقالوا: وخومة البلاد غيرتنا. فأمرهم عمر أن يرتادوا منزلاً ينزله الناس، وكان قد حضر مع الوفد نفر من بني تغلب ليعاقدوا عمر على قومهم، فقال لهم عمر: أعاقدهم على أن من أسلم منكم كان له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن أبى فعليه الجزية. فقالوا: إذن يهربون ويصيرون عجماً، وبذلوا له الصدقة، فأبى، فجعلوا جزيتهم مثل صدقة المسلم، فأجابهم على أن لا ينصروا وليداً، فهاجر هؤلاء التغلبيون ومن أطاعهم من النمر وإياد إلى سعد بالمدائن ونزلوا بالمدائن ونزلوا معه بعد بالكوفة.
وقيل: بل كتب حذيفة إلى عمر: إن العرب قد رقت بطونها وجفت أعضادها وتغيرت ألوانها. وكان مع سعد فكتب عمر إلى سعد: أخبرني ما الذي غير ألوان العرب ولحومهم؟ فكتب إليه سعد: إن الذي غيرهم وخومة البلاد، وإن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان. فكتب إليه عمر: أن ابعث سلمان وحذيفة رائدين فليرتادا منزلاً برياً بحرياً ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر. فأرسلهما سعد، فخرج سلمان حتى يأتي الأنبار فسار في غربي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة، وسار حذيفة في شرقي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة، وكل رمل وحصباء وخصاص خلال ذلك، فأعجبتهما البقعة فنزلا فصليا ودعوا الله تعالى أن يجعلها منزل الثبات. فلما رجعا إلى سعد بالخبر وقدم كتاب عمر إليه أيضاً كتب سعد إلى القعقاع بن عمرو وعبد الله بن المعتم أن يستخلفا على جندهما ويحضرا عنده، ففعلا. فارتحل سعد من المدائن حتى نزل الكوفة في المحرم سنة سبع عشرة؛ وكان بين نزول الكوفة ووقعة القادسية سنة وشهران، وكان فيما بين قيام عمر واختطاط الكوفة ثلاث سنين وثمانية أشهر؛ ولما نزلها سعد كتب إلى عمر: (إني نزلت بالكوفة منزلاً فيما بين الحيرة والفرات برياً وبحرياً ينبت الحلفاء والنصي، وخيرت المسلمين بينها وبين المدائن فمن أعجبه المقام بالمدائن تركته فيها كالمسلحة. ولما استقروا بها عرفوا أنفسهم ورجع إليهم ما كانوا فقدوا من قوتهم، واستأذن أهل الكوفة في بنيان القصب، واستأذن فيه أهل البصرة أيضاً، واستقر منزلهم فيها في الشهر الذي نزل أهل الكوفة بعد ثلاث نزلات قبلها.
فكتب إليهم: إن العسكر أشد لحربكم وأذكر لكم، وما أحب أن أخالفكم.
فابتنى أهل المصرين بالقصب، ثم إن الحريق وقع في الكوفة والبصرة، وكانت الكوفة أشد حريقاً في شوال، فبعث سعد نفراً منهم إلى عمر يستأذنونه في البنيان باللبن، فقدموا عليه بخبر الحريق واستئذانه أيضاً، فقال: افعلوا ولا يزيدن أحدكم على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة. فرجع القوم إلى الكوفة بذلك، وكتب عمر إلى عتبة وأهل البصرة بمثل ذلك.
وكان على تنزيل أهل الكوفة أبو هياج بن مالك، وعلى تنزيل أهل البصرة عاصم ابن دلف أبو الجرباء، وقدر المناهج أربعين ذراعاً، وما بين ذلك عشرين ذراعاً، والأزقة سبع أذرع، والقطائع ستين ذراعاً إلى الذي لبني ضبة، وأول شيء خط فيهما وبني مسجداهما، وقام في وسطهما رجل شديد النزع، فرمى في كل جهة بسهم وأمر أن يبنى ما وراء ذلك، وبنى ظلة في مقدمة مسجد الكوفة على أساطين رخام من بناء الأكاسرة في الحيرة، وجعلوا على الصحن خندقاً لئلا يقتحمه أحد ببنيان، وبنوا لسعد داراً بحياله، وهي قصر الكوفة اليوم، بناه روزبه من آجر بنيان الأكاسرة بالحيرة، وجعل الأسواق على شبه المساجد من سبق إلى مقعدٍ فهو له حتى يقوم منه إلى بيته أو يفرغ من بيعه.
وبلغ عمر أن سعداً قال وقد سمع أصوات الناس من الأسواق: سكنوا عني الصويت؛ وأن الناس يسمونه قصر سعدٍ، فبعث محمد بن مسلمة إلى الكوفة وأمره أن يحرق باب القصر ثم يرجع، ففعل، فبلغ سعداً ذلك فقال: هذا رسول أرسل لهذا، فاستدعاه سعد، فأبى أن يدخل إليه، فخرج إليه سعد وعرض عليه نفقة، فلم يأخذ وأبلغه كتاب عمر إليه: (وبلغني أنك اتخذت قصراً جعلته حصناً، ويسمى قصر سعد، بينك وبين الناس باب، فليس بقصرك ولكنه قصر الخبال، انزل منه منزلاً مما يلي بيوت الأموال وأغلقه ولا نجعل على القصر باباً يمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت. فحلف له سعد ما قال الذي قالوا، فرجع محمد فأبلغ عمر قول سعدٍ، فصدقه.
وكانت ثغور الكوفة أربعة: حلوان وعليها القعقاع، وماسبذان وعليها ضرار ابن الخطاب، وفرقيسيا وعليها عمر بن مالك، أو عمرو بن عتبة بن نوفل، والموصل وعليها عبد الله بن المعتم، وكان بخا خلفاؤهم إذا غابوا عنها؛ وولي سعد الكوفة بعد ما اختطت ثلاث سنين ونصفاً سوى ما كان بالمدائن قبلها.
ذكر خبر حمص حين قصد هرقل من بها من المسلمينوفي هذه السنة قصد الروم أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من المسلمين بحمص، وكان المهيج للروم أهل الجزيرة، فإنهم أرسلوا إلى ملكهم وبعثوه على إرسال الجنود إلى الشام ووعدوا من أنفسهم المعاونة، ففعل ذلك. فلما سمع المسلمون باجتماعهم ضم أبو عبيدة إليه مسالحهم وعسكر بفناء مدينة حمص، وأقبل خالد من قنسرين إليهم، فاستشارهم أبو عبيدة في المناجزة أو التحصين إلى مجيء الغياث، فأشار خالد بالمناجزة، وأشار سائرهم بالتحصين ومكاتبة عمر، فأطاعهم وكتب إلى عمر بذلك، وكان عمر قد اتخذ في كل مصر خيولاً على قدره من فضول أموال المسلمين عدة لكون إن كان، فكان بالكوفة من ذلك أربعة آلاف فرس، وكان القيم عليها سلمان بن ربيعة الباهلي ونفر من أهل الكوفة، وفي كل مصر من الأمصار الثمانية على قدره، فإن تأتهم آتية ركبها الناس وساروا إلى أن يتجهز الناس.
فلما سمع عمر الخبر كتب إلى سعد: أن اندب الناس مع القعقاع بن عمرو وسرحهم من يومهم الذي يأتيك فيه كتابي إلى حمص، فإن أبا عبيدة قد أحيط به. وكتب إليه أيضاً: سرح سهيل بن عدي إلى الرقة فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص، وأمره أن يسرح عبد الله بن عتبان إلى نصيبين، ثم ليقصد حران والرهاء، وأن يسرح الوليد بن عقبة على عزب الجزيرة من ربيعة وتنوخ، وأن يسرح عياض بن غنم، فإن كان قتال فأمرهم إلى عياض.
فمضى القعقاع في أربعة آلاف من يومهم إلى حمص، وخرج عياض ابن غنم وأمراء الجزيرة وأخذوا طريق الجزيرة، وتوجه كل أمير إلى الكورة التي أمر عليها، وخرج عمر من المدينة فأتى الجابية لأبي عبيدة مغيثاً يريد حمص.
ولما بلغ أهل الجزيرة الذين أعانوا الروم على أهل حمص، وهم معهم، خبر الجنود الإسلامية تفرقوا إلى بلادهم وفارقوا الروم، فلما فارقوهم استشار أبو عبيدة خالداً في الخروج إلى الروم، فأشار به، فخرج إليهم فقاتلهم، ففتح الله عليه، وقدم القعقاع بن عمرو بعد الوقعة بثلاثة أيام، فكتبوا إلى عمر بالفتح وبقدوم المدد عليهم والحكم في ذلك، فكتب إليهم: أن اشركوهم فإنهم نفروا إليكم وانفرق لهم عدوكم، وقال: جزى الله أهل الكوفة خيراً، يكفون حوزتهم ويمدون أهل الأمصار. فلما فرغوا رجعوا.
ذكر فتح الجزيرة وأرمينيةوفي هذه السنة فتحت الجزيرة.
قد ذكرنا إرسال سعد العساكر إلى الجزيرة، فخرج عياض بن غنم ومن معه فأرسل سهيل بن عدي إلى الرقة وقد ارفض أهل الجزيرة عن حمص إلى كورهم حين سمعوا بأهل الكوفة، فنزل عليهم فأقام يحاصرهم حتى صالحوه، فبعثوا في ذلك إلى عياض وهو في منزل وسط بين الجزيرة، فقبل منهم وصالحهم، وصاروا ذمةً، وخرج عبد الله بن عبد الله بن عتبان على الموصل إلى نصيبين، فلقوه بالصلح وصنعوا كصنع أهل الرقة، فكتبوا إلى عياض فقبل منهم وعقد لهم. وخرج الوليد بن عقبة فقدم على عرب الجزيرة، فنهض معه مسلمهم وكافرهم إلا إياد بن نزار فإنهم دخلوا أرض الروم، فكتب الوليد بذلك إلى عمر.
ولما أخذوا الرقة ونصيبين ضم عياض إليه سهيلاً وعبد الله وسار بالناس إلى حران، فلما وصل أجابه أهلها إلى الجزية فقبل منهم. ثم إن عياضاً سرح سهيلاً وعبد الله إلى الرهاء فأجابوهما إلى الجزية وأجروا كل ما أخذوه من الجزيرة عنوةً مجرى الذمة، فكانت الجزيرة أسهل البلدان فتحاً. ورجع سهيل وعبد الله إلى الكوفة. وكتب أبو عبيدة إلى عمر بعد انصرافه من الجابية يسأله أن يضم إليه عياض بن غنم إذا أخذ خالداً إلى المدينة، فصرفه إليه، فاستعمل حبيب بن مسلمة على عجم الجزيرة وحربها، والوليد بن عقبة على عربها.
فلما قدم كتاب الوليد على عمر بمن دخل الروم من العرب كتب عمر إلى ملك الروم: بلغني أن حياً من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك، فوالله لتخرجنه إلينا أو لنخرجن النصارى إليك. فأخرجهم ملك الروم، فخرج منهم أربعة آلاف وتفرق بقيتهم في ما يلي الشام والجزيرة من بلاد الروم، فكل إيادي في أرض العرب من أولئك الأربعة آلاف. وأبى الوليد ابن عقبة أن يقبل من تغلب إلا الإسلام، فكتب فيهم إلى عمر، فكتب إليه عمر: إنما ذلك بجزيرة العرب لا يقبل منهم فيها إلا الإسلام، فدعهم على أن لا ينصروا وليداً ولا يمنعوا أحداً منهم من الإسلام. وكان في تغلب عز وامتناع، فهم بهم الوليد فخاف عمر أن يسطو عليهم فعزله وأمر عليهم فرات بن حيان وهند بن عمرو الجملي.
وقال ابن إسحاق: إن فتح الجزيرة كان سنة تسع عشرة، وقال: إن عمر كتب إلى سعد بن أبي وقاص: إذا فتح الله على المسلمين الشام والعراق فابعث جنداً إلى الجزيرة وأمر عليه خالد بن عرفطة أو هاشم بن عتبة أو عياض بن غنم. قال سعد: ما أخر أمير المؤمنين عياضاً إلا لأن له فيه هوىً أن أوليه وأنا موليه؛ فبعثه وبعث معه جيشاً فيه أبو موسى الأشعري وابنه عمر بن سعد وهو غلام حدث السن ليس له من الأمر شيء، فسار عياض ونزل بجنده على الرهاء، فصالحه أهله مصالحة حران على الجزية، وبعث أبا موسى إلى نصيبين فافتتحها، وسار عياض بنفسه إلى دارا فافتتحها، ووجه عثمان بن أبي العاص إلى أرمينية الرابعة فقاتل أهلها، فاستشهد صفوان ابن المعطل، وصالح أهلها عثمان على الجزية. ثم كان فتح قيسارية من فلسطين وهرب هرقل.
فعلى هذا القول تكون الجزيرة من فتوح العراق، والأكثر على أنها من فتوح أهل الشام، فإن أبا عبيدة سير عياض بن غنم إلى الجزيرة.
وقيل: إن أبا عبيدة لما توفي استخلف عياضاً فورد عليه كتاب عمر بولايته حمص وقنسرين والجزيرة، فسار إلى الجزيرة سنة ثماني عشرة يوم الخميس للنصف من شعبان في خمسة آلاف وعلى ميمنته سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي، وعلى ميسرته صفوان بن المعطل، وعلى مقدمته هبيرة بن مسروق، فانتهت طليعة عياض إلى الرقة فأغاروا على الفلاحين وحصروا المدينة، وبث عياض السرايا فأتوه بالأسرى والأطعمة، وكان حصرها ستة أيام، فطلب أهلها الصلح، فصالحهم على أنفسهم وذراريهم وأموالهم ومدينتهم، وقال عياض: الأرض لنا قد وطئناها وملكناها، فأقرها في أيديهم على الخراج ووضع الجزية. ثم سار إلى حران فجعل عليها عسكراً يحصرها عليهم صفوان بن المعطل وحبيب بن مسلمة وسار هو إلى الرهاء، فقاتله أهلها ثم انهزموا وحصرهم المسلمون في مدينتهم، فطلب أهلها الصلح فصالحهم، وعاد إلى حران فوجد صفوان وحبيباً قد غلبا على حصون وقرى من أعمال حران فصالحه أهلها على مثل صلح الرهاء.
وكان عياض يغزو ويعود إلى الرهاء، وفتح سميساط وأتى سروج ورأس كيفاء والأرض البيضاء فصالحه أهلها على صلح الرهاء. ثم إن أهل سميساط غدروا، فرجع إليهم عياض فحاصرهم حتى فتحها، ثم أتى قريات على الفرات، وهي جسر منبج وما يليها، ففتحها وسار إلى رأس عين، وهي عين الوردة، فامتنعت عليه وتركها وسار إلى تل موزن، ففتحها على صلح الرهاء سنة تسع عشرة، وسار إلى آمد فحصرها، فقاتله أهلها ثم صالحوه على صلح الرهاء، وفتح ميافارقين على مثل ذلك، وحصن كفرتوثا، فسار إلى نصيبين فقاتله أهلها ثم صالحوه على مثل صلح الرهاء، وفتح طور عبدين وحصن ماردين، ودارا على مثل ذلك، وفتح قردى وبازبدى على مثل صلح نصيبين وقصد الموصل ففتح أحد الحصنين، وقيل: لم يصل إليها، وأتاه بطريق الزوزان فصالحه، ثم سار إلى أرزن ففتحها، ودخل الدرب فأجازه إلى بدليس وبلغ خلاط فصالحه بطريقهما، وانتهى إلى العين الحامضة من أرمينية، ثم عاد إلى الرقة ومضى إلى حمص وقد كان عمر ولاه إياها فمات سنة عشرين.
واستعمل عمر سعيد بن عامر بن حذيم، فلم يلبث إلا قليلاً حتى مات، فاستعمل عمير بن سعد الأنصاري، ففتح رأس عين بعد قتال شديد.
وقيل: إن عياضاً أرسل عمير بن سعد إلى رأس عين ففتحها بعد أن اشتد قتاله عليها. وقيل: إن عمر أرسل أبا موسى الأشعري إلى رأس عين بعد وفاة عياض. وقيل: إن خالد بن الوليد حضر فتح الجزيرة مع عياض ودخل حماماً بآمد فاطلى بشيء فيه خمر فعزله عمر. وقيل: إن خالداً لم يسر تحت لواء أحد غير أبي عبيدة. والله أعلم.
ولما فتح عياض سميساط بعث حبيب بن مسلمة إلى ملطية ففتحها عنوةً، ثم نقض أهلها الصلح، فلما ولي معاوية الشام والجزيرة وجه إليها حبيب ابن مسلمة أيضاً ففتحها عنوةً ورتب فيها جنداً من المسلمين مع عاملها.
ذكر عزل خالد بن الوليدفي هذه السنة، وهي سنة سبع عشرة، عزل خالد بن الوليد عما كان عليه من التقدم على الجيوش والسرايا.
وسبب ذلك أنه كان أدرب هو وعياض بن غنم فأصابا أموالاً عظيمة، وكانا توجها من الجابية مرجع عمر إلى المدينة، وعلى حمص أبو عبيدة وخالد تحت يده على قنسرين، وعلى دمشق يزيد، وعلى الأردن معاوية، وعلى فلسطين علقمة بن مجزز، وعلى الساحل عبد الله بن قيس، فبلغ الناس ما أصاب خالد فانتجعه رجال، وكان منهم الأشعث بن قيس، فأجازه بعشرة آلاف.
ودخل خالد الحمام فتدلك بغسل فيه خمر، فكتب إليه عمر: بلغني أنك تدلكت بخمر، وإن الله قد حرم ظاهر الخمر وباطنه ومسه فلا تمسوها أجسادكم. فكتب إليه خالد: إنا قتلناها فعادت غسولاً غير خمر. فكتب إليه عمر: إن آل المغيرة ابتلوا بالجفاء فلا أماتكم الله عليه.
فلما فرق خالد في الذين انتجعوه الأموال سمع بذلك عمر بن الخطاب، وكان لا يخفى عليه شيء من عمله، فدعا عمر البريد فكتب معه إلى أبي عبيدة أن يقيم خالداً ويعقله بعمامته وينزع عنه قلنسوته حتى يعلمكم من أين أجاز الأشعث، أمن ماله أم من مال إصابة أصابها، فإن زعم أنه فرقه من إصابة أصابها فقد أقر بخيانة، وإن زعم أنه من ماله فقد أسرف، واعزله على كل حال واضمم إليك عمله. فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه، ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر، فقام البريد فسأل خالداً من أين أجاز الأشعث، فلم يجبه، وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئاً، فقام بلال فقال: إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا، ونزع عمامته، فلم يمنعه سمعاً وطاعة، ووضع قلنسوته، ثم أقامه فعقله بعمامته وقال: من أين أجزت الأشعث، من مالك أجزت أم من إصابة أصبتها؟ فقال: بل من مالي؛ فأطلقه وأعاد قلنسوته ثم عممه بيده ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا ونفخم ونخدم موالينا.
قال: وأقام خالد متحيراً لا يدري أمعزول أم غير معزول، ولا يعلمه أبو عبيدة بذلك تكرمة وتفخمة. فلما تأخر قدومه على عمر ظن الذي كان، فكتب إلى خالد بالإقبال إليه، فرجع إلى قنسرين فخطب الناس وودعهم ورجع إلى حمص فخطبهم ثم سار إلى المدينة، فلما قدم على عمر شكاه وقال: قد شكوتك إلى المسلمين، فبالله إنك في أمري لغير مجملٍ. فقال له عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان، ما زاد على ستين ألفاً فلك، فقوم عمر ماله فزاد عشرين ألفاً فجعلها في بيت المال ثم قال: يا خالد والله إنك علي لكريم وإنك إلي لحبيب ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء. وكتب إلى الأمصار: إني لم أعزل خالداً عن سخطة ولا خيانة ولكن الناس فخموه وفتنوا به فخفت أن يوكلوا إليه، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع وأن لا يكونوا بعرض فتنة. وعوضه عما أخذ منه.
ذكر بناء المسجد الحرام والتوسعة فيهوفيها، أعني سنة سبع عشرة، اعتمر عمر بن الخطاب وبنى المسجد الحرام ووسع فيه، وأقام بمكة عشرين ليلة، وهدم على قوم أبوا أن يبيعوا، ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها، وكانت عمرته في رجب، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت، وأمر بتجديد أنصاب الحرم، فأمر بذلك مخرمة بن نوفل والأزهر بن عبد عوف وحويطب بن عبد العزى وسعيد ابن يربوع، واستأذنه أهل المياه في أن يبنوا منازل بين مكة والمدينة، فأذن لهم وشرط عليهم أن ابن السبيل أحق بالظل والماء.
وفيها تزوج عمر أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وهي ابنة فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودخل بها في ذي القعدة.
ذكر غزوة فارس من البحرينقيل: كان عمر يقول لما أخذت الأهواز وما يليها: وددت أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا نصل إليهم منه ولا يصلون إلينا.
وقد كان العلاء بن الحضرمي على البحرين أيام أبي بكر فعزله عمر وجعل موضعه قدامة بن مظعون، ثم عزل قدامة وأعاد العلاء يناوىء سعد بن أبي وقاص، ففاز العلاء في قتال أهل الردة بالفضل، فلما ظفر سعد بأهل القادسية وأزاح الأكاسرة جاء بأعظم مما فعله العلاء، فأراد العلاء أن يصنع في الفرس شيئاً ولم ينظر في الطاعة والمعصية، وقد كان عمر نهاه عن الغزو في البحر ونهى غيره أيضاً اتباعاً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وخوف الغرر. فندب العلاء الناس إلى فارس فأجابوه، وفرقهم، أجناداً، على أحدها الجارود بن المعلى، وعلى الآخر سوار بن همام، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى، وخليد على جميع الناس، وحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن، فعبرت الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا إلى إصطخر وبإزائهم أهل فارس وعليهم الهربذ، فجالت الفرس بين المسلمين وبين سفنهم، فقام خليد في الناس فخطبهم ثم قال: (أما بعد فإن القوم لم يدعوكم إلى حربهم وإنما جئتم لمحاربتهم والسفن والأرض لمن غلب، ف (استعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرةً إلا على الخاشعين) البقرة:النبي، صلى الله عليه وسلمقال: (. فأجابوه إلى ذلك ثم صلوا الظهر ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالاً شديداً بمكان يدعى طاووس فقتل سوار والجارود.
وكان خليد قد أمر أصحابه أن يقاتلوا رجالةً ففعلوا من أهل فارس مقتلة عظيمة، ثم خرجوا يريدون البصرة ولم يجدوا في البحر سبيلاً، وأخذت الفرس منهم طرقهم فعسكروا وامتنعوا.
ولما بلغ عمر صنيع العلاء أرسل إلى عتبة بن غزوان يأمره بإنفاذ جند كثيف إلى المسلمين بفارس قبل أن يهلكوا، وقال: (فإني قد ألقي في روعي كذا وكذا) نحو الذي كان، وأمر العلاء بأثقل الأشياء عليه، تأمير سعد عليه.
فشخص العلاء إلى سعد بمن معه، وأرسل عتبة جيشاً كثيفاً في اثني عشر ألف مقاتل فيهم عاصم بن عمرو وعرفجة بن هرثمة والأحنف بن قيس وغيرهم، فخرجوا على البغال يجنبون الخيل وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم أحد بني عامر بن لؤي، فسار بالناس وساحل بهم لا يعرض له أحد حتى التقى أبو سبرة وخليد بحيث أخذ عليهم الطريق عقيب وقعة طاووس، وإنما كان ولي قتالهم أهل إصطخر وحدهم ومن شذ من غيرهم، وكان أهل إصطخر حيث أخذوا الطريق على المسلمين، فجمعوا أهل فارس عليهم فجاؤوا من كل جهة فالتقوا هم وأبو سبرة بعد طاووس وقد توافت إلى المسلمين أمدادهم، وعلى المشركين شهرك، فاقتتلوا ففتح الله على المسلمين وقتل المشركين وأصاب المسلمون منهم ما شاؤوا، وهي الغزوة التي شرفت فيها نابتة البصرة، وكانوا أفضل نوابت الأمصار، ثم انكفأوا بما أصابوا، وكان عتبة كتب إليهم بالحث وقلة العرجة، فرجعوا إلى البصرة سالمين.
ولما أحرز عتبة الأهواز وأوطأ فارس استأذن عمر في الحج فأذن له، فلما قضى حجة استعفاه فأبى أن يعفيه وعزم عليه ليرجعن إلى عمله، فدعا الله ثم انصرف، فمات في بطن نخلة فدفن، وبلغ عمر موته فمر به زائراً لقبره وقال: أنا قتلتك لولا أنه أجل معلوم وكتاب مرقوم. وأثنى عليه خيراً ولم يختط فيمن اختط من المهاجرين، وإنما ورث ولده منزلهم من فاختة بنت غزوان، وكانت تحت عثمان بن عفان، وكان حباب مولاه قد لزم شيمته فلم يختط، ومات عتبة بن غزوان على رأس ثلاث سنين من مفارقة سعد بالمدائن، وذلك بعد أن استنفذ الجند الذين بفارس ونزولهم البصرة، واستخلف على الناس أبا سبرة ابن أبي رهم بالبصرة، فأقره عمر بقية السنة، ثم استعمل المغيرة بن شعبة عليها، فلم ينتقض عليه أحد ولم يحدث شيئاً إلا ما كان بينه وبين أبي بكر. ثم استعمل أبا موسى على البصرة، ثم صرف إلى الكوفة، ثم استعمل عمر ابن سراقة، ثم صرف ابن سراقة إلى الكوفة من البصرة، وصرف أبو موسى من الكوفة إلى البصرة، فعمل عليها ثانية. وقد تقدم ذكر ولاية عتبة بن غزوان البصرة والاختلاف فيها سنة أربع عشرة.
ذكر عزل المغيرة عن البصرة
وولاية أبي موسىفي هذه السنة عزل عمر المغيرة بن شعبة عن البصرة واستعمل عليها أبا موسى وأمره أن يشخص إليه المغيرة بن شعبة في ربيع الأول؛ قاله الواقدي.
وكان سبب عزله أنه كان بين أبي بكرة والمغيرة بن شعبة منافرة، وكانا متجاورين بينهما طريق، وكانا في مشربتين في كل واحدة منهما كوة مقابلة الأخرى، فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته، فهبت الريح ففتحت باب الكوة، فقام أبو بكرة ليسده فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب كوة مشربته وهو بين رجلي امرأة، فقال للنفر: قوموا فانظروا. فقاموا فنظروا، وهم أبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد بن أبيه، وهو أخو أبي بكرة لأمه، وشبل بن معبد البجلي، فقال لهم: اشهدوا، قالوا: ومن هذه؟ قال: أم جميل بن الأفقم، وكانت من بني عامر بن صعصعة، وكانت تغشي المغيرة والأمراء والأشراف، وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها، فلما قامت عرفوها. فلما خرج المغيرة إلى الصلاة منعه أبو بكرة وكتب إلى عمر بذلك، فبعث عمر أبا موسى أميراً على البصرة وأمره بلزوم السنة، فقال: أعني بعدة من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإنهم في هذه الأمة كالملح لا يصلح الطعام إلا به. قال له: خذ من أحببت. فأخذ معه تسعة وعشرين رجلاً، منهم: أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر، وخرج معهم فقدم البصرة فدفع الكتاب بإمارته إلى المغيرة، وهو أوجز كتاب وأبلغه: (أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى أميراً، فسلم إليه ما في يدك والعجل). فأهدى إليه المغيرة وليدة تسمى عقيلة.
ورحل المغيرة ومعه أبو بكرة والشهود، فقدموا على عمر، فقال له المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني أمستقبلهم أم مستدبرهم، وكيف رأوا المرأة أو عرفوها، فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر، أو مستدبري فبأي شيء استحلوا النظر إلي في منزلي على امرأتي؟ والله أتيت إلا امرأتي! وكانت تشبهها. فشهد أبو بكرة أنه رآه على أم جميل يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة وأنه رآهما مستدبرين، وشهد شبل ونافع مثل ذلك. وأما زياد فإنه قال: رأيته جالساً بين رجلي امرأة فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان واستين مكشوفتين وسمعت حفزاً شديداً. قال: هل رأيت كالميل في المكحلة؟ قال: لا. قال: هل تعرف المرأة؟ قال: لا ولكن أشبهها. قال: فتنح. وأمر بالثلاثة فجلدوا الحد. فقال المغيرة: اشفني من الأعبد. قال: اسكت أسكت الله نأمتك، أما والله لو تمت لرجمتك بأحجارك!
ذكر الخبر عن فتح الأهواز ومناذر ونهر تيرىوفي هذه السنة فتحت الأهواز ومناذر ونهر تيرى، وقيل: كانت سنة عشرين.
وكان السبب في هذا الفتح أنه لما انهزم الهرمان يوم القادسية، وهو أحد البيوتات السبعة في أهل فارس، وكانت أمته منهم مهرجانقذق وكور الأهواز، فلما انهزم قصد خوزستان فملكها وقاتل بها من أرادهم، فكان الهرمزان يغير على أهل ميسان ودستميسان من مناذر ونهر تيرى. فاستمد عتبة بن غزوان سعداً فأمده بنعيم بن مقرن ونعيم بن مسعود وأمرهما أن يأتيا أعلى ميسان ودستميسان حتى يكونا بينهم وبين نهر تيرى، ووجه عتبة ابن غزوان سلمى بن القين وحرملة بن مريطة، وكانا من المهاجرين مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهما من بني العدوية من بني حنظلة، فنزلا على حدود ميسان ودستميسان بينهم وبين مناذر، ودعوا بني العم، فخرج إليهم غالب الوائلي وكليب بن وائل الكليبي فتركا نعيماً ونعيماً وأتيا سلمى وحرملة وقالا: أنتما من العشيرة وليس لكما منزل، فإذا كان يوم كذا وكذا فانهدا للهرمزان، فإن أحدنا يثور بمناذر والآخر بنهر تيرى فنقتل المقاتلة ثم يكون وجهنا إليكم، فليس دون الهرمزان شيء إن شاء الله. ورجعا وقد استجابا واستجاب قومهما بنو العم بن مالك، وكانوا ينزلون خوزستان قبل الإسلام، فأهل البلاد يأمنونهم. فلما كان تلك الليلة ليلة الموعد بين سلمى وحرملة وغالب وكليب، وكان الهرمزان يومئذٍ بين نهر تيرى وبين دلث وخرج سلمى وحرملة صبيحتهما في تعبئة وأنهضا نعيماً ومن معه فالتقوا هم والهرمزان بين دلث ونهر تيرى، وسلمى بن القين على أهل البصرة، ونعيم بن مقرن على أهل الكوفة، فاقتتلوا.
فبينا هم على ذلك أقبل مدد من قبل غالب وكليب، وأتى الهرمزان الخبر بأن مناذر ونهر تيرى قد أخذا، فكسر ذلك قلب الهرمزان ومن معه وهزمه الله وإياهم، فقتل المسلمون منهم ما شاؤوا وأصابوا ما شاؤوا واتبعوهم حتى وقفوا على شاطىء دجيل وأخذوا ما دونه وعسكروا بحيال سوق الأهواز، وعبر الهرمزان جسر سوق الأهواز وأقام بها، وصار دجيل بين الهرمزان والمسلمين. فلما رأى الهرمزان ما لا طاقة له به طلب الصلح، فاستأمروا عتبة، فأجاب إلى ذلك على الأهواز كلها ومهرجانقذق ما خلا نهر ترى ومناذر وما غلبوا عليه من سوق الأهواز فإنه لا يرد عليهم، وجعل سلمى على مناذر مسلحةً وأمرها إلى غالب، وحرملة على نهر تيرى وأمرها إلى كليب، فكانا على مسالح البصرة. وهاجرت طوائف من بني العم فنزلوا البصرة.
ووفد عتبة وفداً إلى عمر، منهم: سلمى وجماعة من أهل البصرة، فأمرهم عمر أن يرفعوا حوائجهم، فكلمهم قال: أما العامة فأنت صاحبها، وطلبوا لأنفسهم، إلا ما كان من الأحنف بن قيس فإنه قال: يا أمير المؤمنين إنك كما ذكروا، ولقد يعزب عنك ما يحق علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح العامة، وإنما ينظر الوالي فيما غاب عنه بأعين أهل الخبر ويسمع بآذانهم، فإن إخواننا من أهل الكوفة نزلوا في مثل حدقة البعير الغاسقة من العيون العذاب والجنان الخصاب فتأتيهم ثمارهم ولم يحصدوا، وإنا معشر أهل البصرة نزلنا سبخة هشاشة وعقة نشاشة، طرفٌ لها في الفلاة وطرف لها في البحر الأجاج، يجري إليها ما جرى في مثل مريء النعامة، دارنا فعمة، وطبقتنا مضيقة، وعددنا كثير، وأشرافنا قليل، وأهل البلاء فينا كثير، درهمنا كبير، وقفيزنا صغير، وقد وسع الله علينا وزادنا في أرضنا، فوسع علينا يا أمير المؤمنين وزدنا طبقة تطوف علينا ونعيش بها. فلما سمع عمر قوله أحسن إليهم وأقطعهم مما كان فيئاً لأهل كسرى وزادهم، ثم قال: هذا الفتى سيد أهل البصرة. وكتب إلى عتبة فيه بأن يسمع منه ويرجع إلى رأيه، وردهم إلى بلدهم.
وبينا الناس على ذلك من ذمتهم مع الهرمزان وقع بين الهرمزان وغالب وكليب في حدود الأرضين اختلاف، فحضر سلمى وحرملة لينظرا فيما بينهم فوجدا غالباً وكليباً محقين والهرمزان مبطلاً فحالا بينهما وبينه، فكفرا الهرمزان ومنع ما قبله واستعان بالأكراد وكف جنده، وكتب سلمى ومن معه إلى عتبة بذلك، فكتب عتبة إلى عمر، فكتب إليه عمر يأمره بقصده، وأمد المسلمين بحرقوص بن زهير السعدي، كانت له صحبة من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأمره على القتال وعلى غلب عليه. وسار الهرمزان ومن معه وسار المسلمون إلى جسر سوق الأهواز وأرسلوا إليه: إما أن تعبر إلينا أو نعبر إليكم. فقال: اعبروا إلينا. فعبروا فوق الجسر فاقتتلوا مما يلي سوق الأهواز، فانهزم الهرمزان وسار إلى رامهرمز، وفتح حرقوص سوق الأهواز ونزل بها واتسعت له بلادها إلى تستر، ووضع الجزية، وكتب بالفتح إلى عمر وأرسل إليه الأخماس.
ذكر صلح الهرمزان
وأهل تستر مع المسلمينوفي هذه السنة فتحت تستر، وقيل: سنة ست عشرة، وقيل: سنة تسع عشرة.
قيل: ولما انهزم الهرمزان يوم سوق الأهواز وافتتحها المسلمون بعث حرقوص جزء بن معاوية في أثره بأمر عمر إلى سوق الأهواز، فما زال يقتلهم حتى انتهى إلى قرية الشعر وأعجزه الهرمزان، فمال جزء إلى دورق، وهي مدينة سرق، فأخذها صافيةً ودعا من هرب إلى الجزية، فأجابوه، وكتب إلى عمر وعتبة بذلك، فكتب عمر إلى حرقوص وإليه بالمقام فيما غلبا عليه حتى يأمرهما بأمره، فعمر جزء البلاد وشق الأنهار وأحيا الموات. وراسلهم الهرمزان يطلب الصلح، فأجاب عمر إلى ذلك وأن يكون ما أخذه المسلمون بأيديهم، ثم اصطلحوا على ذلك، وأقام الهرمزان والمسلمون يمنعونه إذا قصده الأكراد ويجيء إليهم. ونزل حرقوص جبل الأهواز، وكان يشق على الناس الاختلاف إليه، فبلغ ذلك عمر فكتب إليه يأمره بنزول السهل وأن لا يشق على مسلم ولا معاهد ولا تدركك فترة ولا عجلة فتكدر دنياك وتذهب آخرتك. وبقي حرقوص إلى يوم صفين، وصار حرورياً وشهد النهروان مع الخوارج.
ذكر فتح رامهرمز وتستر
وأسر الهرمزانقيل: كان فتح رامهرمز وتستر والسوس في سنة سبع عشرة، وقيل: سنة تسع عشرة، وقيل: سنة عشرين.
وكان سبب فتحها أن يزدجرد لم يزل وهو بمرو يثير أهل فارس أسفاً على ما خرج من ملكهم، فتحركوا وتكاتبوا هم وأهل الأهواز وتعاقدوا على النصرة، فجاءت الأخبار حرقوص بن زهير وجزءاً وسلمى وحرملة، فكتبوا إلى عمر بالخبر، فكتب عمر إلى سعد وهو بالكوفة: أن ابعث إلى الأهواز جنداً كثيفاً مع النعمان بن مقرن وعجل فلينزلوا بإزاء الهرمزان ويتحققوا أمره. وكتب إلى أبي موسى: أن ابعث إلى الأهواز جنداً كثيفاً وأمر عليهم سهل ابن عدي أخا سهيل وابعث معه البراء بن مالك ومجزأة بن ثور وعرفجة بن هرثمة وغيرهم، وعلى أهل الكوفة والبصرة جميعاً أبو سبرة بن أبي رهم.
فخرج النعمان بن مقرن في أهل الكوفة فسار إلى الأهواز على البغال يجنبون الخيل، فخلف حرقوصاً وسلمى وحرملة وسار نحو الهرمزان وهو برامهرمز. فلما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشدة ورجا أن يقتطعه ومعه أهل فارس، فالتقى النعمان والهرمزان بأربك فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم إن الله، عز وجل، هزم الهرمزان فترك رامهرمز ولحق بتستر، وسار النعمان إلى رامهرمز ونزلها وصعد إلى إيذج، فصالحه تيرويه على إيذج ورجع إلى رامهرمز فأقام بها. ووصل أهل البصرة فنزلوا سوق الأهواز وهم يريدون رامهرمز، فأتاهم خبر الوقعة وهم بسوق الأهواز، وأتاهم الخبر أن الهرمزان قد لحق بتستر، فساروا نحوه وسار النعمان أيضاً وسار حرقوص وسلمى وحرملة وجزء فاجتمعوا على تستر وبها الهرمزان وجنوده من أهل فارس والجبال والأهواز في الخنادق، وأمدهم عمر بأبي موسى وجعله على أهل البصرة، وعلى الجميع أبو سبر، فحاصروهم أشهراً وأكثروا فيهم القتل، وقتل البراء بن مالك، وهو أخو أنس بن مالك، في ذلك الحصار إلى الفتح مائةً مبارزةً سوى من قتل في غير ذلك، وقتل مثله مجزأة بن ثور وكعب بن ثور وعدة من أهل البصرة وأهل الكوفة، وزاحفهم المشركون أيام تستر ثمانين زحفاً يكون لهم مرة ومرة عليهم. فلما كان في آخر زحفٍ منها واشتد القتال قال المسلمون: يا براء أقسم على ربك ليهزمنهم لنا. قال: اللهم اهزمهم لنا واستشهدنين وكان مجاب الدعوة، فهزموهم حتى أدخلوهم خنادقهم ثم اقتحموها عليهم ثم دخلوا مدينتهم وأحاط بها المسلمون.
فبينما هم على ذلك وقد ضاقت المدينة بهم وطالت حربهم خرج رجل إلى النعمان يستأمنه على أن يدله على مدخل يدخلون منه، ورمى في ناحية أبي موسى بسهم: إن آمنتموني دللتكم على مكان تأتون المدينة منه. فآمنوه في نشابة. فرمى إليهم بأخرى وقال: انهدوا من قبل مخرج الماء فإنكم تقتحمونها. فندب الناس إليه فانتدب له عامر بن عبد قيس وبشرٌ كثير ونهدوا لذلك المكان ليلاً، وقد ندب النعمان أصحابه ليسيروا مع الرجل الذي يدلهم على المدخل إلى المدينة، فانتدب له بشرٌ كثير، فالتقوا هم وأهل البصرة على ذلك المخرج، فدخلوا في السرب والناس من خارج. فلما دخلوا المدينة كبروا فيها وكبر المسلمون من خارج وفتحت الأبواب فاجتلدوا فيها فأناموا كل مقاتل، وقصد الهرمزان القلعة فتحصن وأطاف به الذين دخلوا، فنزل إليهم على حكم عمر، فأوثقوه واقتسموا ما أفاء الله عليهم، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف، وسهم الراجل ألفاً. وجاء صاحب الرمية والرجل الذي خرج بنفسه فآمنوهما ومن أغلق معهما.
وقتل من المسلمين تلك الليلة بشرٌ كثير، وممن قتل الهرمزان بنفسه مجزأة بن ثور والبراء بن مالك. وخرج أبو سبرة بنفسه في أثر المنهزمين إلى السوس ونزل عليها ومعه النعمان بن مقرن وأبو موسى، وكتبوا إلى عمر فكتب إلى أبي موسى بردة إلى البصرة، وهي المرة الثالثة، فانصرف إليها على السوس.
وسار زر بن عبد الله بن كليب الفقيمي إلى جند يسابور فنزل عليها، وهو من الصحابة، وأمر عمر على جند البصرة المقترب، وهو الأسود بن ربيعة أحد بني ربيعة بن مالك، وهو صحابي أيضاً، وكانا مهاجرين، وكان الأسود قد وفد على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: جئت لأقترب إلى الله بصحبتك، فسماه المقترب.
وأرسل أبو سبرة وفداً إلى عمر بن الخطاب فيهم أنس بن مالك والأحنف ابن قيس ومعهم الهرمزان، فقدموا به المدينة وألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب وتاجه، وكان مكللاً بالياقوت، وحليته ليراه عمر والمسلمون، فطلبوا عمر فلم يجدوه، فسألوا عنه فقيل: جلس في المسجد لوفد من الكوفة، فوجدوه في المسجد متوسداً برنسه، وكان قد لبسه للوفد، فلما قاموا عنه توسده ونام، فجلسوا دونه وهو نائم والدرة في يده، فقال الهرمزان: أين عمر؟ قالوا: هو ذا. فقال: أين حرسه وحجابه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب. قال: فينبغي أن يكون نبياً. قالوا: بل يعمل بعمل الأنبياء.
فاستيقظ عمر بجلبة الناس فاستوى جالساً ثم نظر إلى الهرمزان، فقال: الهرمزان؟ قالوا: نعم. فقال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وغيره أشباهه! فأمر بنزع ما عليه، فنزعوه وألبسوه ثوباً صفيقاً، فقال له عمر: يا هرمزان، كيف رأيت عاقبة الغدر وعاقبة أمر الله؟ فقال: يا عمر، إنا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلى بيننا وبينكم فغلبناكم، فلما كان الآن معكم غلبتمونا فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا. ثم قال له: ما حجتك وما عذرك في انتفاضك مرة بعد أخرى؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك. قال: لا تخف ذلك، واستسقى ماء فأتي به في قدح غليظ، فقال: لو مت عطشاً لم أستطع أن أشرب في مثل هذا! فأتي به في إناء يرضاه، فقال: إني أخاف أن أقتل وأن أشرب. فقال عمر: لابأس عليك حتى تشربه، فأكفأه، فقال عمر: أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش. فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به. فقال عمر له: إني قاتلك. فقال: قد آمنتني. فقال: كذبت. قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين، قد آمنته. قال عمر: يا أنس، أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور والبراء بن مالك! والله لتأتين بمخرج أو لأعاقبنك. قال: قلت له: لابأس عليك حتى تخبرني ولابأس عليك حتى تشربه. وقال له من حوله مثل ذلك. فأقبل على الهرمزان وقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا أن تسلم. فأسلم، ففرض له في ألفين وأنزله المدينة؛ وكان المترجم بينهما المغيرة بن شعبة، وكان يفقه شيئاً من الفارسية، إلى أن جاء المترجم.
وقال عمر للوفد: لعل المسلمين يؤذون أهل الذمة فلهذا ينتقضون بكم؟ قالوا: ما نعلم إلا وفاء. قال: فكيف هذا؟ فلم يشفه أحد منهم، إلا أن الأحنف قال له: يا أمير المؤمنين إنك نهيتنا عن الانسياح في البلاد وإن ملك فارس بين أظهرهم ولا يزالون يقاتلوننا ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان متفقان حتى يخرج أحدهما صاحبه، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئاً بعد شيء إلا بانبعاثهم وغدرهم، وأن ملكهم هو الذي يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا بالانسياح فنسيح في بلادهم ونزيل ملكهم، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس. فقال: صدقتني والله! ونظر في حوائجهم وسرحهم. وأتى عمر الكتاب باجتماع أهل نهاوند فأذن في الانسياح في بلاد الفرس.
وقتل محمد بن جعفر بن أبي طالب شهيداً على تستر في قول بعضهم.
أربك بفتح الهمزة، وسكون الراء، وضم الباء الموحدة، وفي آخره كاف: موضع عند الأهواز.
ذكر فتح السوسقيل: ولما نزل أبو سبر على السوس وبها شهريار أخو الهرمزان أحاط المسلمون بها وناوشوهم القتال مرات، كل ذلك يصيب أهل السوس في المسلمين، فأشرف عليهم الرهبان والقسيسون فقالوا: يا معشر العرب إن مما عهد إلينا علماؤنا أنه لا يفتح السوس إلا الدجال أو قوم فيهم الدجال، فإن كان فيكم فستفتحونها.
وسار أبو موسى إلى البصرة من السوس وصار مكانه على أهل البصرة بالسوس المقترب بن ربيعة، واجتمع الأعاجم بنهاوند، والنعمان على أهل الكوفة محاصراً أهل السوس مع أبي سبرة، وزر محاصراً أهل جند يسابور. فجاء كتاب عمر بصرف النعمان إلى أهل نهاوند من وجهه ذلك، فناوشهم القتال قبل مسيره، فصاح أهلها بالمسلمين وناوشوهم وغاظوهم، وكان صافي بن صياد مع المسلمين في خيل النعمان، فأتى صافي باب السوس فدقه برجله فقال: انفتح بظار! وهو غضبان، فتقطعت السلاسل وتكسرت الأغلاق وتفتحت الأبواب ودخل المسلمون وألقى المشركون بأيديهم ونادوا: الصلح الصلح. فأجابهم إلى ذلك المسلمون بعدما دخلوها عنوةً، واقتسموا ما أصابوا.
ثم افترقوا فسار النعمان حتى أتى نهاوند، وسار المقترب حتى نزل على جنديسابور مع زر.
وقيل لأبي سبرة: هذا جسد دانيال في هذه المدينة. قال: وما علي بذلك! فأقره في أيديهم.
وكان دانيال قد لزم نواحي فارس بعد بخت نصر. فلما حضرته الوفاة ولم ير أحداً على الإسلام أكرم كتاب الله عمن لم يجبه فقال لابنه: أئت ساحل البحر فاقذف بهذا الكتاب فيه، فأخذه الغلام وغاب عنه وعاد وقال له: قد فعلت. قال: ما صنع البحر؟ قال: ما صنع شيئاً. فغضب وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به! فخرج من عنده وفعل فعلته الأولى. فقال: كيف رأيت البحر صنع؟ قال: ماج واصطفق. فغضب أشد من الأول وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به. فعاد إلى البحر وألقاه فيه، فانفلق البحر عن الأرض وانفجرت له الأرض عن مثل التنور، فهوى فيها ثم انطبقت عليه واختلط الماء، فلما رجع إليه وأخبره بما رأى: الآن صدقت. ومات دانيال بالسوس، وكان هناك يستسقى بجسده، فاستأذنوا عمر فيه فأمر بدفنه.
وقيل في أمر السوس: إن يزدجرد سار بعد وقعة جلولاء فنزل إصطخر ومعه سياه في سبعين من عظماء الفرس فوجهه إلى السوس والهرمزان إلى تستر، فنزل سياه الكلتانية، وبلغ أهل السوس أمر جلولاء ونزلو يزدجرد إصطخر، فسألوا أبا موسى الصلح، وكان محاصراً لهم، فصالحهم وسار إلى رامهرمز، ثم سار إلى تستر، ونزل سياه بين رامهرمز وتستر ودعا من معه من عظماء الفرس وقال لهم: قد علمتم أنا كنا نتحدث أن هؤلاء القوم أهل الشقاء والبؤس سيغلبون على هذه المملكة وتروث دوابهم في إيوانات إصطخر ويشدون خيولهم في شجرها، وقد غلبوا على ما رأيتم، فانظروا لأنفسكم. قالوا: رأينا رأيك. قال: أرى أن تدخلوا في دينهم. ووجهوا شيرويه في عشرة من الأساورة إلى أبي موسى، فشرط عليهم أن يقاتلوا معه العجم ولا يقاتلوا العرب، وإن قاتلهم أحد من العرب منعهم منهم، وينزلوا حيث شاؤوا، ويلحقوا بأشرف العطاء، ويعقد لهم ذلك عمر على أن يسلموا، فأعطاهم عمر ما سألوا، فأسلموا وشهدوا مع المسلمين حصار تستر. ومضى سياه إلى حصن قد حاصره المسلمون في زي العجم، فألقى نفسه إلى جانب الحصن ونضح ثيابه بالدم، فرآه أهل الحصن صريعاً فظنوه رجلاً منهم ففتحوا باب الحصن ليدخلوه إليهم، فوثب وقاتلهم حتى خلوا عن الحصن وهربوا، فملكه وحده. وقيل: إن هذا الفعل كان منه بتستر.
ذكر مصالحة جنديسابوروفي هذه السنة سار المسلمون عن السوس فنزلوا بجنديسابور، وزر بن عبد الله محاصرهم، فأقاموا عليها يقاتلونهم، فرمي إلى من بها من عسكر المسلمين بالأمان، فلم يفجأ المسلمين إلا وقد فتحت أبوابها وأخرجوا أسواقهم وخرج أهلها، فسألهم المسلمون، فقالوا: رميتم بالأمان فقبلناه وأقررنا بالجزية على أن تمنعونا. فقالوا: ما فعلنا فقالوا: ما كذبنا! وسأل المسلمون فإذا عبد يدعى مكثفاً كان أصله منها فعل هذا، فقالوا: هو عبد. فقال أهلها: لا نعرف العبد من الحر، وقد قبلنا الجزية وما بدلنا، فإن شئتم فاغدروا. فكتبوا إلى عمر فأجاز أمانهم، فآمنوهم وانصرفوا عنهم.
ذكر مسير المسلمين إلى كرمان وغيرهاقيل: في سنة سبع عشرة أذن عمر للمسلمين في الانسياح في بلاد فارس، وانتهى في ذلك إلى رأي الأحنف بن قيس وعرف فضله وصدقه، فأمر أبا موسى أن يسير من البصرة إلى منقطع ذمة البصرة فيكون هناك حتى يأتيه أمره، وبعث بألوية من ولى مع سهيل بن عدي، فدفع لواء خراسان إلى الأحنف بن قيس، ولواء أردشير خره وسابور إلى مجاشع بن مسعود السلمي، ولواء إصطخر إلى عثمان بن أبي العاص الثقفي، ولواء فساودارابجرد إلى سارية بن زنيم الكناني، ولواء كرمان إلى سهيل بن عدي، ولواء سبجستان إلى عاصم بن عمرو، وكان من الصحابة، ولواء مكران إلى الحكم بن عمير التغلبي، فخرجوا ولم يتهيأ مسيرهم إلى سنة ثماني عشرة، وأمدهم عمر بنفر من أهل الكوفة، فأمد سهيل بن عدي بعبد الله بن عتبان، وأمد الأحنف بعلقمة بن النضر وبعبد الله بن أبي عقيل وبربعي بن عامر وبابن أم غزال، وأمد عاصم بن عمرو بعبد الله بن عمير الأشجعي، وأمد الحكم بن عمير بشهاب بن المخارق في جموع.
وقيل: كان ذلك سنة إحدى وعشرين، وقيل: سنة اثنتين وعشرين، وسنذكر كيفية فتحها هناك وذكر أسبابها إن شاء الله تعالى.
وكان على مكة هذه السنة عتاب بن أسيد في قول، وعلى اليمن يعلى ابن منية، وعلى اليمامة والبحرين عثمان بن أبي العاص، وعلى عمان حذيفة ابن محصن، وعلى الشام من ذكر قبل، وعلى الكوفة وأرضها سعد بن أبي وقاص، وعلى قضائها أبو قرة، وعلى البصرة وأرضها أبو موسى، وعلى القضاء أبو مريم الحنفي، وقد ذكر من كان على الجزيرة والموصل قبل.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب.
ثم دخلت سنة ثماني عشرة
ذكر القحط وعام الرمادةفي سنة ثماني عشرة أصاب الناس مجاعة شديدة وجدب وقحط، وهو عام الرمادة، وكانت الريح تسفي تراباً كالرماد فسمي عام الرمادة، واشتد الجوع حتى جعلت الوحش تأوي إلى الإنس، وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافيها من قيحها. وفيه أيضاً كان طاعون عمواس، وفيه ورد كتاب أبي عبيدة على عمر يذكر فيه أن نفراً من المسلمين أصابوا الشراب، منهم: ضرار وأبو جندل، فسألناهم فتابوا، وقال له: ادعهم على رؤوس الناس وسلهم أحلالٌ الخمر أم حرام، فإن قالوا: حرام، فاجلدهم ثمانين ثمانين، وإن قالوا: حلال، فاضرب أعناقهم. فسألهم فقالوا: بل حرامٌ، فجلدهم، وندموا على لجاجتهم، وقال: ليحدثن فيكم يا أهل الشام حدث، فحدث عام الرمادة وأقسم عمر أن لا يذوق سمناً ولا لبناً ولا لحماً حتى يحيا الناس. فقدمت السوق عكة سمن ووطب من لبن، فاشتراها غلام لعمر بأربعين درهماً ثم أتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين قد أبر الله يمينك وعظم أجرك، قدم السوق وطب من لبن وعكة من سمن ابتعتهما بأربعين درهماً. فقال عمر: أغليت بهما فتصدق بهما فإني أكره أن آكل إسرافاً. وقال: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يصبني ما أصابهم! وكتب عمر إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها ويستمدهم، فكان أول من قدم عليه أبو عبيدة بن الجراح بأربعة آلاف راحلة من طعام، فولاه قسمتها فيمن حول المدينة، فقسمها وانصرف إلى عمله، وتتابع الناس واستغنى أهل الحجاز، وأصلح عمرو بن العاص بحر القلزم وأرسل فيه الطعام إلى المدينة، فصار الطعام بالمدينة كسعر مصر، ولم ير أهل المدينة بعد الرمادة مثلها حتى حبس عنهم البحر مع مقتل عثمان، فذلوا وتقاصروا، وكان الناس بذلك وعمر كالمحصور عن أهل الأمصار.
فقال أهل بيت من مزينة لصاحبهم، وهو بلال بن الحارث: قد هلكنا فاذبح لنا شاة. قال: ليس فيهن شيء. فلم يزالوا به حتى ذبح فسلخ عن عظم أحمر، فنادى: يا محمداه! فأري في المنام أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أتاه فقال: (أبشر بالحياة، إيت عمر فأقرئه مني السلام وقل له إني عهدتك وأنت وفي العهد شديد العقد، فالكيس الكيس يا عمر)! فجاء حتى أتى باب عمر فقال لغلامه: استأذن لرسول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأتى عمر فأخبره، ففزع وقال: رأيت به مساً؟ قال: لا، فأدخله وأخبره الخبر، فخرج فنادى في الناس وصعد المنبر فقال: نشدتكم الله الذي هداكم هل رأيتم مني شيئاً تكرهون؟ قالوا: اللهم لا، ولم ذاك؟ فأخبرهم، ففطنوا ولم يفطن عمر، فقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء فاستسق بنا. فنادى في الناس، وخرج معه العباس ماشياً فخطب وأوجز وصلى ثم جثا لركبتيه وقال: (اللهم عجزت عنا أنصارنا وعجز عنا حولنا وقوتنا وعجزت عنا أنفسنا ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم فاسقنا وأحي العباد والبلاد! وأخذ بيد العباس بن عبد المطلب عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإن دموع العباس لتتحادر على لحيته فقال: (اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك، صلى الله عليه وسلم، وبقية آبائه وكبر رجاله فإنك تقول وقولك الحق: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة) فحفظتهما بصلاح آبائهما، فاحفظ اللهم نبيك، صلى الله عليه وسلم، في عمه، فقد دلونا به إليك مستشفعين مستغفرين). ثم أقبل على الناس فقال: (استغفروا ربكم إنه كان غفاراً) نوح: !رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وكان العباس قد طال عمره وعيناه تذرفان ولحيته تجول على صدره وهو يقول: (اللهم أنت الراعي فلا تهمل الضالة ولا تدع الكسير بدار مضيعةٍ، فقد صرخ الصغير ورق الكبير وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى، اللهم فأغنهم بغناك قبل أن يقطنوا فيهلكوا فإنه لا ييأس إلا القوم الكافرون). فنشأت طريرة من سحاب، فقال الناس: ترون ترون! ثم التأمت ومشت فيها ريح ثم هدأت ودرت، فوالله ما تروحوا حتى اعتنقوا الجدار وقلصوا المآزر، فطفق الناس بالعباس يمسحون أركانه ويقولون: (هنيئاً لك ساقي الحرمين)! فقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
بعمي سقى الله الحجاز وأهله ... عشية يستسقي بشيبته عمر
توجه بالعباس في الجدب راغباً ... إليه فما إن رام حتى أتى المطر
ومنا رسول الله فينا تراثه ... فهل فوق هذا للمفاخر مفتخر
ذكر طاعون عمواسفي هذه السنة كان طاعون عمواس بالشام، فمات فيه أبو عبيدة بن الجراح، وهو أمير الناس، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، والحارث ابن هشام، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل، وعامر بن غيلان الثقفي، مات وأبوه حي، وتفانى الناس منه.
قال طارق بن شهاب: أتينا أبا موسى في داره بالكوفة نتحدث عنده فقال: لا عليكم أن تحفوا فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم، ولا عليكم أن تنزهوا من هذه القرية فتخرجوا في فسح بلادكم ونزهها حتى يرفع هذا الوباء، وسأخبركم بما يكره ويتقى، من ذلك أن يظن من خرج أنه لو أقام مات، ويظن من أقام فأصابه لو خرج لم يصبه، فإذا لم يظن المسلم هذا فلا عليه أن يخرج؛ إني كنت مع أبي عبيدة بالشام عام طاعون عمواس، فلما اشتعل الوجع وبلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه: (أن سلام عيك، أما بعد فقد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك فيها، فعزمت عليك إذا أنت نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتى تقبل إلي). فعرف أبو عبيدة ما أراد فكتب إليه: (يا أمير المؤمنين، قد عرفت حاجتك إلي وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبةً عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم أمره وقضاءه، فحللني من عزيمتك). فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، أمات أبو عبيدة؟ فقال: لا، وكأن قد.
وكتب إليه عمر ليرفعن بالمسلمين من تلك الأرض، فدعا أبا موسى فقال له: ارتد للمسلمين منزلاً. قال: فرجعت إلى منزلي لأرتحل فوجدت صاحبتي قد أصيبت. فرجعت إليه فقلت له: والله لقد كان في أهلي حدثٌ. فقال: لعل صاحبتك أصيبت؟ قلت: نعم. قال: فأمر ببعيره فرحل له. فلما وضع رجله في غرزه طعن، فقال: والله لقد أصبت! ثم سار بالناس حتى نزل الجابية، وكان أبو عبيدة قد قام في الناس خطيباً فقال: (يا أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة سأل الله أن يقسم له منه حظه) فطعن فمات. واستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيباً بعده فقال: (أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذاً يسأل الله أن يقسم لآل معاذ حظهم). فطعن ابنه عبد الرحمن فمات، ثم قام فدعا به لنفسه فطعن في راحته فلقد كان يقبلها ثم يقول: (ما أحب أن لي بما فيك شيئاً من الدنيا). فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فخرج بالناس إلى الجبال، ورفعه الله عنهم، فلم يكره عمر ذلك من عمرو.
وقد قيل: إن عمر بن الخطاب قدم الشام، فلما كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد فيهم أبو عبيدة ابن الجراح، فأخبروه بالوباء وشدته، وكان معه المهاجرون والأنصار، خرج غازياً، فجمع المهاجرين الأولين والأنصار فاستشارهم، فاختلفوا عليه، فمنهم القائل: خرجت لوجه الله فلا يصدك عنه هذا، ومنهم القائل: إنه بلاء وفناء فلا نرى أن تقدم عليه. فقال لهم: قوموا، ثم أحضر مهاجرة الفتح من قريش فاستشارهم فلم يختلفوا عليه وأشاروا بالعود، فنادى عمر في الناس: (إني مصبح على ظهر). فقال أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال: (نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت وادياً له عدوتان إحداهما مخصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟) فسمع بهم عبد الرحمن بن عوف فقال: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع ببلد وأنتم به فلا تخرجوا فراراً منه). فانصرف عمر بالناس إلى المدينة.
وهذه الرواية أصح، فإن البخاري ومسلماً أخرجاها في صحيحيهما، ولأن أبا موسى كان هذه السنة بالبصرة ولم يكن بالشام، لكن هكذا ذكره وإنما أوردناه لننبه عليه.
عمواس بفتح العين المهملة والميم والواو، وبعد الألف سين مهملة. وسرع بفتح السين المهملة، وسكون الراء المهملة، وآخره غين معجمة.
ومعنى قوله: دعوة نبيكم، حين جاءه جبرائيل فقال: (فناء أمتك بالطعن أو الطاعون). فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (فبالطاعون).
ولما هلك يزيد بن أبي سفيان استعمل عمر أخاه معاوية بن أبي سفيان على دمشق وخراجها، واستعمل شرحبيل بن حسنة على جند الأردن وخراجها. وأصاب الناس من الموت ما لم يروا مثله قط، وطمع له العدو في المسلمين لطول مكثه، مكث شهوراً، وأصاب الناس بالبصرة مثله، وكان عدة من مات في طاعون عمواس خمسة وعشرين ألفاً.
ذكر قدوم عمر إلى الشام بعد الطاعونلما هلك الناس في الطاعون كتب أمراء الأجناد إلى عمر بما في أيديهم من المواريث، فجمع الناس واستشارهم وقال لهم: قد بدا لي أن أطوف على المسلمين في بلدانهم لأنظر في آثارهم، فأشيروا علي، وفي القوم كعب الأحبار، وفي تلك السنة أسلم، فقال كعب: يا أمير المؤمنين، بأيها تريد أن تبدأ؟ قال: بالعراق. قال: فلا تفعل فإن الشر عشرة أجزاء، تسعة منها بالمشرق وجزء بالمغرب، والخير عشرة أجزاء، تسعة بالمغرب وجزء بالمشرق، وبها قرن الشيطان وكل داء عضال. فقال علي: يا أمير المؤمنين، إن الكوفة للهجرة بعد الهجرة، وإنها لقبة الإسلام، ليأتينها يوم لا يبقى مسلم إلا وحن إليها لينتصرن بأهلها كما انتصر بالحجارة من قوم لوط. فقال عمر: (إن مواريث أهل عمواس قد ضاعت، أبدأ بالشام فأقسم المواريث وأقيم لهم ما في نفسي ثم أرجع فأتقلب في البلاد وأبدي إليهم أمري).
فسار عن المدينة واستخلف عليها علي بن أبي طالب واتخذ أيلة طريقاً، فلما دنا منها ركب بعيره وعلى رحله فرو مقلوب وأعطى غلامه مركبه، فلما تلقاه الناس قالوا: أين أمير المؤمنين؟ قال: أمامكم، يعني نفسه، فساروا أمامهم، وانتهى هو إلى أيلة فنزلها، وقيل للمتلقين: قد دخل أمير المؤمنين إليها ونزلها، فرجعوا إليه. وأعطى عمر الأسقف بها قميصه، وقد تخرق ظهره، ليغسله ويرقعه، ففعل، وأخذه ولبسه، وخاط له الأسقف قميصاً غيره فلم يأخذه. فلما قدم الشام قسم الأرزاق، وسمى الشواتي والصوائف، وسد فروج الشام ومسالحها، وأخذ يدورها، واستعمل عبد الله بن قيس على السواحل من كل كورة، واستعمل معاوية، وعزل شرحبيل بن حسنة وقام يعذره في الناس وقال: (إني لم أعزله عن سخطة ولكني أريد رجلاً أقوى من رجل). واستعمل عمرو بن عتبة على الأهراء. وقسم مواريث أهل عمواس، فورث بعض الورثة من بعض، وأخرجها إلى الأحياء من ورثة كل منهم. وخرج الحارث بن هشام في سبعين من أهل بيته فلم يرجع منهم إلا أربعة. ورجع عمر إلى المدينة في ذي القعدة.
ولما كان بالشام وحضرت الصلاة قال له الناس: لو أمرت بلالاً فأذن، فأمره فأذن، فما بقي أحد أدرك النبي، صلى الله عليه وسلم، وبلال يؤذن إلا وبكى حتى بل لحيته، وعمر أشدهم بكاء، وبكى من لم يدركه ببكائهم ولذكرهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي: إن الرهاء وحران والرقة فتحت هذه السنة على يد عياض ابن غنم، وإن عين الوردة، وهي رأس عين، فتحت فيها على يد عمير ابن سعد، وقد تقدم شرح فتحها.
في هذه السنة في ذي الحجة حول عمر المقام إلى موضعه اليوم، وكأن ملصقاً بالبيت. وفيها استقضى عمر شريح بن الحارث الكندي على الكوفة، وعلى البصرة كعب بن سور الأزدي. وكانت الولاة على الأمصار الولاة الذين كانوا عليها في السنة قبلها. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب.
ثم دخلت سنة تسع عشرةقال بعضهم: إن فتح جلولاء والمدائن كان في هذه السنة على يد سعد، وكذلك فتح الجزيرة، وقد تقدم ذكر فتح الجميع والخلاف فيه. وقيل: فيها كان فتح قيسارية على يد معاوية، وقيل: سنة عشرين، وقد تقدم أيضاً ذكر ذلك سنة ست عشرة.
وفي هذه السنة سالت حرة ليلى، وهي قريب المدينة، ناراً، فأمر عمر بالصدقة، فتصدق الناس فانطفأت.
وحج بالناس هذه السنة عمر. وكان عماله فيها من تقدم ذكرهم. وفيها قتل صفوان بن المعطل السلمي، وقيل: بل مات سنة ستين آخر خلافة معاوية. وفيها مات أبي بن كعب، وقيل: بل مات سنة عشرين، وقيل: اثنتين وعشرين، وقيل: اثنتين وثلاثين، والله أعلم.
ثم دخلت سنة عشرين
ذكر فتح مصرقيل: في هذه السنة فتحت مصر في قول بعضهم على يد عمرو بن العاص والإسكندرية أيضاً، وقيل: فتحت الإسكندرية سنة خمس وعشرين، وقيل: فتحت مصر سنة ست عشرة في ربيع الأول، وبالجملة فينبغي أن يكون فتحها قبل عام الرمادة لأن عمرو بن العاص حمل الطعام في بحر القلزم من مصر إلى المدينة، والله أعلم، وقيل غير ذلك.
وأما فتحها فإنه لما فتح عمر بيت المقدس وأقام به أياماً وأمضى عمرو ابن العاص إلى مصر وأتبعه الزبير بن العوام مدداً له فأخذ المسلمون باب اليون وساروا إلى مصر فلقيهم هناك أبو مريم، جاثليق مصر، ومعه الأسقف بعثه المقوقس لمنع بلادهم، فلما نزل بهم عمرو قاتلوه، فأرسل إليهم: لا تعجلونا حتى نعذر إليكم وترون رأيكم بعد، وليبرز إلي أبو مريم وأبو مريام، فكفوا، وخرجا إليه، فدعاهما إلى الإسلام أو الجزية، وأخبرهما بوصية النبي، صلى الله عليه وسلم، بأهل مصر بسبب هاجر أم إسماعيل، عليه السلام، فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء، آمنا حتى نرجع إليك. فقال عمرو: مثلي لا يخدع ولكني أؤجلكما ثلاثاً لتنظرا. فقالا: زدنا، فزادهما يوماً، فرجعا إلى المقوقس فهم. فأبى أرطبون أن يجيبهما وأمر بمناهدتهم، فقال لأهل مصر: أما نحن فسنجهد أن ندفع عنكم. فلم يفجأ عمراً إلا البيات وهو على عدة، فلقوه فقتل أرطبون وكثير ممن معه وانهزم الباقون، وسار عمرو والزبير إلى عين الشمس وبها جمعهم، وبعث إلى فرما أبرهة بن الصباح، وبعث عوف بن مالك إلى الإسكندرية، فنزل عليها. قيل: وكان الإسكندر وفرما أخوين، ونزل عمرو بعين الشمس، فقال أهل مصر لملكهم: ما تريد إلى قتال قوم هزموا كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم! فلا تعرض لهم ولا تعرضنا لهم - وذلك في اليوم الرابع - فأبى وناهدوهم وقاتلوهم.
فلما التقى المسلمون والمقوقس بعين الشمس واقتتلوا جال المسلمون، فذمرهم عمرو، فقال له رجل من اليمن: إنا لم نخلق من حديد. فقال له عمرو: اسكت، إنما أنت كلب. قال: فأنت أمير الكلاب. فنادى عمرو بأصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فأجابوه، فقال: تقدموا فبكم ينصر الله المسلمين، فتقدموا وفيهم أبو بردة وأبو برزة وتبعهم الناس، وفتح الله على المسلمين وظفروا وهزموا المشركين، فارتقى الزبير بن العوام سورها، فلما أحسوا فتحوا الباب لعمرو وخرجوا إليه مصالحين، فقبل منهم، ونزل الزبير عليهم عنوةً حتى خرج على عمرو من الباب معهم، فاعتقدوا صلحاً بعد ما أشرفوا على الهلكة، فأجروا ما أخذوا عنوةً مجرى الصلح فصاروا ذمة، وأجروا من دخل في صلحهم من الروم والنوبة مجرى أهل مصر، ومن اختار الذهاب فهو آمنٌ حتى يبلغ مأمنه.
واجتمعت خيول المسلمين بمصر وبنوا الفسطاط ونزلوه، وجاء أبو مريم وأبو مريام إلى عمرو وطلبا منه السبايا التي أصيبت بعد المعركة، فطردهما، فقالا: كل شيء أصبتموه منذ فارقناكم إلى أن رجعنا إليكم ففي ذمة. فقال عمرو لهما: أتغيرون علينا وتكونون في ذمة؟ قالا: نعم. فقسم عمرو ابنالعاص السبي على الناس وتفرق في بلدان العرب. وبعث بالأخماس إلى عمر بن الخطاب ومعها وفد، فأخبروا عمر بن الخطاب بحالهم كله وبما قال أبو مريم، فرد عمر عليهم سبي من لم يقاتلهم في تلك الأيام الأربعة وترك سبي من قاتلهم فردوهم.
وحضرت القبط باب عمرو، وبلغ عمراً أنهم يقولون: ما أرث العرب وأهون عليهم أنفسهم! ما رأينا مثلنا دان لهم. فخاف أن يطمعهم ذلك فأمر بجزر فطبخت ودعا أمراء الأجناد فأعلموا أصحابهم فحضروا عنده وأكلوا أكلاً عربياً، انتشلوا وحسوا وهم في العباء بغير سلاح، فازداد طمعهم، وأمر المسلمين أن يحضروا الغد في ثياب أهل مصر وأحذيتهم، ففعلوا، وأذن لأهل مصر فرأوا شيئاً غير ما رأوا بالأمس، وقام عليهم القوام بألوان مصر فأكلوا أكل أهل مصر، فارتاب القبط، وبعث أيضاً إلى المسلمين: تسلحوا للعرض غداً، وغدا على العرض، وأذن لهم فعرضهم عليهم وقال لهم: علمت حالم حين رأيتم اقتصاد العرب فخشيت أن تهلكوا فأحببت أن أريكم حالهم في أرضهم كيف كانت، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فقد رأيتم ظفرهم بكم وذلك عيشهم وقد كلبوا على بلادكم بما نالوا في اليوم الثاني، فأردت أن تعلموا أن ما رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني وراجعٌ إلى عيش اليوم الأول.
فتفرقوا وهم يقولون: لقد رمتكم العرب برجلهم. وبلغ عمر ذلك فقال: (والله إن حربه للينة ما لها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره).
ثم إن عمراً سار إلى الإسكندرية، وكان من بين الإسكندرية والفسطاط من الروم والقبط قد تجمعوا له وقالوا: نغزوه قبل أن يغزونا ويروم الإسكندرية. فالتقوا واقتتلوا، فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، وسار حتى بلغ الإسكندرية، فوجد أهلها معدين لقتاله. فأرسل المقوقس إلى عمرو يسأله الهدنة إلى مدة، فلم يجبه إلى ذلك وقال: لقد لقينا ملككم الأكبر هرقل فكان منه ما بلغكم. فقال المقوقس لأصحابه: صدق فنحن أولى بالإذعان. فأغلظوا له في القول وامتنعوا، فقاتلهم المسلمون وحصروهم ثلاثة أشهر، وفتحها عمرو عنوةً وغنم ما فيها وجعلهم ذمةً.
وقيل: إن المقوقس صالح عمراً على اثني عشر ألف دينار على أن يخرج من الإسكندرية من أراد الخروج ويقيم من أراد القيام وعلى أن يفرض على كل حالم من القبط دينارين، وجعل فيها عمرو جنداً.
ولما فتحت مصر غزوا النوبة فرجع المسلمون بالجراحات وذهاب الحدق لجودة رميهم، فسموهم رماة الحدق.
فلما ولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر أيام عثمان صالحهم على هدية عدة رؤوس في كل سنة يؤدونهم إلى المسلمين، ويهدي إليهم المسلمون كل سنة طعاماً مسمى وكسوة، وأمضى ذلك الصلح عثمان ومن بعده من ولاة الأمور.
وقيل: إن المسلمين لما انتهوا إلى بلهيب وقد بلغت سباياهم إلى اليمن أرسل صاحبهم إلى عمرو: إنني كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلي منكم: فارس والروم، فإن أحببت الجزية على أن ترد ما سبيتم من أرضي فعلت. فكتب عمرو إلى عمر يستأذنه في ذلك، ورفعوا الحرب إلى أن يرد كتاب عمر. فورد الجواب من عمر: لعمري جزية قائمة أحب إلينا من غنيمة تقسم ثم كأنها لم تكن، وأما السبي فإن أعطاك ملكهم الجزية على أن تخيروا من في أيديكم منهم بين الإسلام ودين قومه فمن اختار الإسلام فهو من المسلمين ومن اختار دين قومه فضع عليه الجزية، وأما من تفرق في البلدان فإنا لا نقدر على ردهم. فعرض عمرو ذلك على صاحب الإسكندرية، فأجاب إليه، فجموا السبي واجتمعت النصارى وخيروهم واحداً واحداً، فمن اختار المسلمين كبروا، ومن اختار النصارى نخروا وصار عليه جزية حتى فرغوا.
وكان من السبي أبو مريم عبد الله بن عبد الرحمن، فاختار الإسلام وصار عريف زبيد. وكان ملوك بني أمية يقولون: إن مصر دخلت عنوةً وأهلها عبيدنا نزيد عليهم كيف شئنا. ولم يكن كذلك.
ذكر عدة حوداث
وفي هذه السنة، أعني سنة عشرين، غزا أبو بحرية عبد الله بن قيس أرض الروم، وهو أول من دخلها فيما قيل، وقيل: أول من دخلها ميسرة بن مسروق العبسي فسبى وغنم. وقيل: فيها عزل عمر قدامة بن مظعون من البحرين وحده في شرب الخمر واستعمل أبا بكرة على البحرين واليمامة. وفيها تزوج عمر فاطمة بنت الوليد أم عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وفيها عزل عمر سعد بن أبي وقاص عن الكوفة لشكايتهم إياه وقالوا: لا يحسن يصلي. وفيها قسم عمر خيبر بين المسلمين وأجلى اليهود عنها وقسم وادي القرى. وفيها أجلى يهود نجران إلى الكوفة. وفيها بعث عمر علقمة بن مجزز المدلجي إلى الحبشة، وكانت تطرقت بلاد الإسلام فأصيب المسلمون، فجعل عمر على نفسه أن لا يحمل في البحر أحداً أبداً، يعني للغزو، وقيل سنة إحدى وثلاثين.
مجزز بجيم وزايين الأولى مكسورة مشددة.
وفيها مات أسيد بن حضير في شعبان؛ أسيد تصغير أسد. وحضير بالحاء المهملة المضمومة، والضاد المفتوحة، والراء. وفيها مات هرقل وملك قسطنطين. وفيها ماتت زينب بنت جحش ونزل في قبرها أسامة بن زيد وابن أخيها محمد بن عبد الله بن جحش.
وحج بالناس عمر. وكان عماله على الأمصار من كان قبل هذه السنة إلا من ذكرت أنه عزله. وكان قضاته فيها القضاة في السنة قبلها.
وفيها مات عياض بن غنم، وهو الذي فتح الجزيرة، وهو أول من أجاز الدرب إلى الروم. وفيها مات بلال بن رباح مؤذن النبي، صلى الله عليه وسلم، بدمشق، وقيل بحلب. وفيها مات أنيس بن مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وله ولأبيه ولجده صحبة، وقتل أبوه في غزوة الرجيع. وفيها مات سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي، شهد فتح خيبر، وكان فاضلاً، وكان على حمص حتى مات، وقيل: مات سنة تسع عشرة، وقيل: سنة إحدى وعشرين وعمره أربعون سنة. وفيها مات أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. وفيها ماتت صفية بنت عبد المطلب عمة النبي، صلى الله عليه وسلم. وفيها قتل المظهر بن رافع الأنصاري، قدم من الشام ومعه من علوج الشام، فلما كان بخيبر أمرهم قومٌ من اليهود فقتلوهم، فأجلاهم عمر.
المظهر بضم الميم، وفتح الظاء المعجمة، وتشديد الهاء، وآخره راء مهملة.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين
ذكر وقعة نهاوندقيل: فيها كانت وقعة نهاوند، وقيل: كانت سنة ثماني عشرة، وقيل سنة تسع عشرة.
وكان الذي هيج أمر نهاوند أن المسلمين ما خلصوا جند العلاء من بلاد فارس وفتحوا الأهواز كاتبت الفرس ملكهم وهو بمرو فحركوه، وكاتب الملوك بين الباب والسند وخراسان وحلوان، فتحركوا وتكاتبوا واجتمعوا إلى نهاوند، ولما وصلها أوائلهم بلغ سعداً الخبر، فكت إلى عمر، وثار بسعدٍ قومٌ سعوا به وألبوا عليه، ولم يشغلهم ما نزل بالناس؛ وكان ممن تحرك في أمره الجراح بن سنان الأسدي في نفر. فقال لهم عمر إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم في هذا الأمر وقد استعد لكم من استعد: والله ما يمنعني ما نزل بكم من النظر فيما لديكم. فبعث عمر محمد بن مسلمة والناس في الاستعداد للفرس، وكان محمد صاحب العمال يقتص آثار من شكا زمان عمر، فطاف بسعدٍ على أهل الكوفة يسأل عنه، فما سأل عنه جماعةً إلا أثنوا عليه خيراً سوى من مالأ الجراح الأسدي، فإنهم سكتوا ولم يقولوا سوءاً ولا يسوغ لهم ويتعمدون ترك الثناء، حتى انتهى إلى بني عبس فسألهم، فقال أسامة بن قتادة: اللهم إنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، ولا يغزو في السرية. فقال سعد: اللهم إن كان قالها رياءً وكذباً وسمعة فأعم بصره، وأكثر عياله، وعرضه لمضلات الفتن. فعمي، واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بالمرأة فيأتيها حتى يحبسها، فإذا عثر عليه قال: دعوة سعد الرجل المبارك. ثم دعا سعد على أولئك النفر فقال: اللهم إن كانوا خرجوا أشراً وبطراً ورياء فاجهد بلادهم. فجهدوا، وقطع الجراح بالسيوف يوم بادر الحسن بن علي، رضي الله عنه، ليغتاله بساباط، وشدخ قبيصة بالحجارة، وقتل أربد بالوجء ونعال السيوف.
وقال سعد: إني أول رجلٍ أهراق دماً من المشركين، ولقد جمع لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبويه وما جمعهما لأحدٍ قبلي، ولقد رأيتني خمس الإسلام، وبنو أسد تزعم أني لا أحسن أصلي وأن الصيد يلهيني.
وخرج محمد بسعد وبهم معه إلى المدينة فقدموا على عمر فأخبروه الخبر فقال: كيف تصلي يا سعد؟ قال: أطيل الأوليين وأحذف الأخريين. فقال: هكذا الظن بك يا أبا إسحاق ولولا الاحتياط لكان سبيلهم بيناً. وقال: من خليفتك يا سعد على الكوفة؟ فقال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان. فأقره. فكان سبب نهاوند وبعثها زمن سعد.
وأما الوقعة فهي زمن عبد الله، فنفرت الأعاجم بكتاب يزدجرد فاجتمعوا بنهاوند على الفيرزان في خمسين ألفاً ومائة ألف مقاتل، وكان سعد كتب إلى عمر بالخبر ثم شافهه به لما قدم عليه وقال له: إن أهل الكوفة يستأذنونك في الانسياح وأن يبدؤوهم بالشدة ليكون أهيب لهم على عدوهم.
فجمع عمر الناس واستشارهم، وقال لهم: هذا يوم له ما بعده، وقد هممت أن أسير فيمن قبلي ومن قدرت عليه فأنزل منزلاً وسطاً بين هذين المصرين ثم أستنفرهم وأكون لهم ردءاً حتى يفتح الله عليهم ويقضي ما أحب، فإن فتح الله عليهم صبيتهم في بلدانهم.
فقال طلحة بن عبيد الله: يا أمير المؤمنين قد أحكمتك الأمور، وعجمتك البلابل، واحتنكتك التجارب، وأنت وشأنك ورأيك، لا ننبو في يديك ولا نكل عليك، إليه هذا الأمر، فمرنا نطع وادعنا نجب واحملنا نركب وقدنا ننقد، فإنك ولي هذا الأمر، وقد بلوت وجربت واحتربت فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيارهم. ثم جلس.
فعاد عمر، فقام عثمان فقال: أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام فيسيروا من شامهم، وإلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم، ثم تسير أنت بأهل الحرمين إلى الكوفة والبصرة فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين، فإنك إذا سرت قل عندك ما قد تكاثر من عدد القوم وكنت أعز عزاً وأكثر. يا أمير المؤمنين، إنك لا تستبقي بعد نفسك من العرب باقية، ولا تمتع من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ منها بحريز. إن هذا يوم له ما بعده من الأيام، فاشهده برأيك وأعوانك ولا تغب عنه. وجلس.
فعاد عمر فقام إليه علي بن أبي طالب فقال: أما بعد يا أمير المؤمنين فإنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والغيالات، أقرر هؤلاء في أمصارهم واكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا ثلاث فرق: فرقة في حرمهم وذراريهم، وفرقة في أهل عهدهم حتى لا ينتقضوا، ولتسر فرقةٌ إلى إخوانهم بالكوفة مدداً لهم؛ إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً قالوا: هذا أمير المؤمنين أمير العرب وأصلها، فكان ذلك أشد لكلبهم عليك. وأما ما ذكرت من مسير القوم فإن الله هو أكره لمسيرهم منك وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ولكن بالنصر.
فقال عمر: هذا هو الرأي، كنت أحب أن أتابع عليه، فأشيروا علي برجل أوليه ذلك الثغر.
وقيل: إن طلحة وعثمان وغيرهما اشاروا عليه بالمقام. والله أعلم.
فلما قال عمر: أشيروا علي برجل أوليه ذلك الثغر وليكن عراقياً، قالوا: أنت أعلم بجندك وقد وفدوا عليك ورأيتهم وكلمتهم. فقال: والله لأولين أمرهم رجلاً يكون أول الأسنة إذا لقيها غداً. فقيل: من هو؟ فقال: هو النعمان بن مقرن المزني. فقالوا: هو لها.
وكان النعمان يومئذ معه جمعٌ من أهل الكوفة قد اقتحموا جنديسابور والسوس. فكتب إليه عمر يأمره بالمسير إلى ماه لتجتمع الجيوش عليه، فإذا اجتمعوا إليه سار بهم إلى الفيرزان ومن معه. وقيل بل كان النعمان بكسكر. فكتب إلى عمر يسأله أن يعزله ويبعثه إلى جيش من المسلمين. فكتب إليه عمر يأمره بنهاوند، فسار.
فكتب عمر إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان ليستنفر الناس مع النعمان كذا وكاذ ويجتمعوا عليه بماه. فندب الناس، فكان أسرعهم إلى ذلك الروادف ليبلوا في الدين وليدركوا حظاً.
فخرج الناس منها وعليهم حذيفة بن اليمان ومعه نعيم بن مقرن حتى قدموا على النعمان، وتقدم عمر إلى الجند الذين كانوا بالأهواز ليشغلوا فارساً عن المسلمين وعليهم المقترب الأسود بن ربيعة وحرملة بن مريطة ووزر بن كليب، فأقاموا بتخوم أصبهان وفارس وقطعوا أمداد فارس عن أهل نهاوند، واجتمع الناس على النعمان وفيهم حذيفة بن اليمان وابن عمر وجرير بن عبد الله البجلي والمغيرة ابن شعبة وغيرهم، فأرسل النعمان طليحة بن خويلد وعمرو بن معد يكرب وعمرو ابن ثني، وهو ابن أبي سلمى، ليأتوه بخبرهم. وخرجوا وساروا يوماً إلى الليل، فرجع إليه عمرو بن ثني، فقالوا: ما رجعك؟ فقال: لم أكن في أرض العجم، وقتلت أرضٌ جاهلها وقتل أرضاً عالمها. ومضى طليحة وعمرو ابن معد يكرب. فلما كان آخر الليل رجع عمرو، فقالوا: ما رجعك؟ قال: سرنا يوماً وليلةً ولم نر شيئاً وخفت أن يؤخذ علينا الطريق فرجعت. ومضى طليحة ولم يحفل بهما حتى انتهى إلى نهاوند. وبين موضع المسلمين الذي هم به ونهاوند بضعة وعشرون فرسخاً. فقال الناس: ارتد طليحة الثانية. فعلم كلام القوم ورجع. فلما رأوه كبروا. فقال: ما شأنكم؟ فأعلموه بالذي خافوا عليه. فقال: والله لو لم يكن دين إلا العربي ما كنت لأجزر العجم الطماطم هذه العرب العاربة. فأعلم النعمان أنه ليس بينهم وبين نهاوند شيء يكرهه ولا أحد.
فرحل النعمان وعبى أصحابه، وهم ثلاثون ألفاً، فجعل على مقدمته نعيم ابن مقرن وعلى مجنبتيه حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن، وعلى المجردة القعقاع بن عمرو، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود. وقد توافت إليه أمداد المدينة فيهم المغيرة بن شعبة، فانتهوا إلى إسبيذهان والفرس وقوف على تعبيتهم، وأميرهم الفيرزان وعلى مجنبتيه الزردق وبهمن جاذويه الذي جعل مكان ذي الحاجب. وقد توافى إليهم الأمداد بنهاوند كل من غاب عن القادسية ليسوا بدونهم، فلما رآهم النعمان كبر وكبر معه الناس فتزلزلت الأعاجم وحطت العرب الأثقال وضرب فسطاط النعمان، فابتدر أشراف الكوفة فضربوه، منهم: حذيفة بن اليمان، وعقبة بن عامر، والمغيرة بن شعبة، وبشير ابن الخصاصية، وحنظلة الكاتب، وجرير بن عبد الله البجلي، والأشعث ابن قيس، وسعيد بن قيس الهمداني، ووائل بن حجر وغيرهم. فلم ير بناء فسطاط بالعراق كهؤلاء.
وأنشب النعمان القتال بعد حط الأثقال، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس والحرب بينهم سجالٌ وإنهم انجحروا في خنادقهم يوم الجمعة، وحصرهم المسلمون وأقاموا عليهم ما شاء الله، والفرس بالخيار لا يخرجون إلا إذا أرادوا الخروج، فخاف المسلمون أن يطول أمرهم، حتى إذا كان ذات يوم في جمعة من الجمع تجمع أهل الرأي من المسلمين وقالوا: نراهم علينا بالخيار. وأتوا النعمان في ذلك فوافوه وهو يروي في الذي رووا فيه فأخبروه، فبعث إلى من بقي من أهل النجدات والرأي فأحضرهم، فتكلم النعمان فقال: (قد ترون المشركين واعتصامهم بخنادقهم ومدنهم وأنهم لا يخرجون إلينا إلا إذا شاؤوا ولا يقدر المسلمون على إخراجهم، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق، فما الرأي الذي به نستخرجهم إلى المناجزة وترك التطويل؟).
فتكلم عمرو بن ثني، وكان أكبر الناس، وكانوا يتكلمون على الأسنان، فقال: التحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم فدعهم وقاتل من أتاك منهم. فردوا عليه رأيه.
وتكلم عمرو بن معد يكرب فقال: ناهدهم وكابرهم ولا تخفهم، فردوا جميعاً عليه رأيه وقالوا: إنما يناطح بنا الجدران وهي أعوان علينا.
وقال طليحة: أرى أن نبعث خيلاً لينشبوا القتال فإذا اختلطوا بهم رجعوا إلينا استطراداً فإنا لم نستطرد لهم في طول ما قاتلناهم، فإذا رأوا ذلك طمعوا وخرجوا فقاتلناهم حتى يقضي الله فيهم وفينا ما أحب.
فأمر النعمان القعقاع بن عمرو، وكان على المجردة، فأنشب القتال، فأخرجهم من خنادقهم كأنهم جبال حديد قد تواثقوا أن لا يفروا، وقد قرن بعضهم بعضاً كل سبعة في قران وألقوا حسك الحديد خلفهم لئلا ينهزموا. فلما خرجوا نكص ثم نكص واغتنمها الأعاجم ففعلوا كما ظن طليحة وقالوا: هي هي، فلم يبق أحد إلا من يقوم على الأبواب وركبوهم. ولحق القعقاع بالناس، وانقطع الفرس عن حصنهم بعض الانقطاع والمسلمون على تعبية في يوم جمعة صدر النهار، وقد عهد النعمان إلى الناس عهده وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوا حتى يأذن لهم، ففعلوا واستتروا بالحجف من الرمي، واقبل المشركون عليهم يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراح.
وشكا بعض الناس وقالوا للنعمان: ألا ترى ما نحن فيه فما تنتظر بهم؟ ائذن للناس في قتالهم. فقال: رويداً رويداً. وانتظر النعمان بالقتال أحب الساعات كانت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يلقى العدو فيها وذلك عند الزوال، فلما كان قريباً من تلك الساعة ركب فرسه وسار في الناس ووقف على كل راية يذكرهم ويحرضهم ويمنيهم الظفر، وقال لم: إني مكبر ثلاثاً فإذا كبرت الثالثة فإني حامل فاحملوا، وإن قتلت فالأمير بعدي حذيفة، فإن قتل ففلان، حتى عد سبعة آخرهم المغيرة. ثم قال: اللهم أعزز دينك، وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك.
وقيل: بل قال: اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عز الإسلام واقبضني شهيداً. فبكى الناس. ورجع إلى موقفه فكبر ثلاثاً والناس سامعون مطيعون مستعدون للقتال، وحمل النعمان والناس معه وانقضت رايته انقضاض العقاب والنعمان معلم ببياض القباء والقلنسوة، فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يسمع السامعون بوقعة كانت أشد منها، وما كان يسمع إلا وقع الحديد، وصبر لهم المسلمون صبراً عظيماً، وانهزم الأعاجم وقتل منهم ما بين الزوال والإعتام ما طبق أرض المعركة دماً يزلق الناس والدواب.
فلما أقر الله عين النعمان بالفتح استجاب له فقتل شهيداً، زلق به فرسه فصرع. وقيل: بل رمي بسهم في خاصرته فقتله، فسجاه أخوه نعيم بثوب، وأخذ الراية قبل أن تقع وناولها حذيفة، فأخذها وتقدم إلى موضع النعمان وترك نعيماً مكانه. وقال لهم المغيرة: اكتموا مصاب أميركم حتى ننتظر ما يصنع الله فينا وفيهم لئلا يهن الناس. فاقتتلوا. فلما أظلم الليل عليهم انهزم المشركون وذهبوا ولزمهم المسلمون وعمي عليهم قصدهم فتركوه وأخذوا نحو اللهب الذي كانوا دونه بأسبيذهان فوقعوا فيه، فكان الواحد منهم يقع فيقع عليه ستة بعضهم على بعضهم في قياد واحد فيقتلون جميعاً، وجعل يعقرهم حسك الحديد، فمات منهم في اللهب مائة ألف أو يزيدون سوى من قتل في المعركة.
وقيل: قتل في اللهب ثمانون ألفاً وفي المعركة ثلاثون ألفاً سوى من قتل في الطلب، ولم يفلت إلا الشريد، ونجا الفيرزان من بين الصرعى فهرب نحو همذان، فاتبعه نعيم بن مقرن، وقدم القعقاع قدامه فأدركه بثنية همذان، وهي إذ ذاك مشحونة من بغال وحمير موقرة عسلاً، فحبسه الدواب على أجله. فلما لم يجد طريقاً نزل عن دابته وصعد في الجبل، فتبعه القعقاع راجلاً فأدركه فقتله المسلمون على الثنية وقالوا: إن لله جنوداً من عسل. واستاقوا العسل وما معه من الأحمال. وسميت الثنية ثنية العسل.
ودخل المشركون همذان والمسلمون في آثارهم فنزلوا عليها وأخذوا ما حولها. فلما رأى ذلك خسروشنوم استأمنهم، ولما تم الظفر للمسلمين جعلوا يسألون عن أميرهم النعمان بن مقرن، فقال لهم أخوه معقل: هذا أميركم قد أقر الله عينه بالفتح وختم له بالشهادة فاتبعوا حذيفة.
ودخل المسلمون نهاوند يوم الوقعة بعد الهزيمة واحتووا ما فيها من الأمتعة وغيرها وما حولها من الأسلاب والأثاث وجمعوا إلى صاحب الأقباض السائب ابن الأقرع. وانتظر من بنهاوند ما يأتيهم من إخوانهم الذين على همذان مع القعقاع ونعيم، فأتاهم الهربذ صاحب بيت النار على أمان، فأبلغ حذيفة، فقال: أتؤمنني ومن شئت على أن أخرج لك ذخيرةً لكسرى تركت عندي لنوائب الزمان؟ قال: نعم. فأحضر جوهراً نفيساً في سفطين، فأرسلهما مع الأخماس إلى عمر. وكان حذيفة قد نفل منها وأرسل الباقي مع السائب ابن الأقرع الثقفي، وكان كاتباً حاسباً، أرسله عمر إليهم وقال له: إن فتح الله عليكم فاقسم على المسلمين فيئهم وخذ الخمس، وإن هلك هذا الجيش فاذهب فبطن الأرض خيرٌ من ظهرها.
قال السائب: فلما فتح الله على المسلمين وأحضر الفارسي السفطين اللذين أودعهما عنده النخير جان فإذا فيهما اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، فلما فرغت من القسمة احتملتهما معي وقدمت على عمر، وكان قد قدر الوقعة فبات يتململ ويخرج ويتوقع الأخبار، فبينما رجل من المسلمين قد خرج في بعض حوائجه فرجع إلى المدينة ليلاً، فمر به راكب فسأله: من أين أقبل؟ فقال: من نهاوند، وأخبره بالفتح وقتل النعمان، فلما أصبح الرجل تحدث بهذا بعد ثلاث من الوقعة، فبلغ الخبر عمر فسأله فأخبره، فقال ذلك بريد الجن.
ثم قدم البريد بعد ذلك فأخبره بما يسره ولم يخبره بقتل النعمان: قال السائب: فخرج عمر من الغد يتوقع الأخبار. قال: فأتيته فقال: ما وراءك؟ فقلت: خيراً يا أمير المؤمنين. فتح الله عليك وأعظم الفتح، واستشهد النعمان بن مقرن. فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم بكى فنشج حتى بانت فروع كتفيه فوق كتده. قال: فلما رأيت ذلك وما لقي قلت: يا أمير المؤمنين ما أصيب بعده رجل يعرف وجهه. فقال: أولئك المستضعفون من المسلمين ولكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم، وما يصنع أولئك بمعرفة عمر! ثم أخبرته بالسفطين فقال: أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما والحق بجندك. قال: ففعلت وخرجت سريعاً إلى الكوفة.
وبات عمر، فلما أصبح بعث في أثري رسولاً فما أدركني حتى دخلت الكوفة فأنخت بعيري وأناخ بعيره على عرقوبي بعيري فقال: الحق بأمير المؤمنين، فقد بعثني في طلبك فلم أقدر عليك إلا الآن. قال: فركبت معه فقدمت على عمر، فلما رآني قال: إلي وما لي وللسائب! قلت: ولماذا؟ قال: ويحك والله ما هو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها فباتت الملائكة تستحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان ناراً فيقولون: لنكوينك بهما، فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين. فخذهما عني فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم. قال: فخرجت بهما فوضعتهما في مسجد الكوفة، فابتاعهما مني عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف درهم، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف، فما زال أكثر أهل الكوفة مالاً ثم قسم ثمنهما بين الغانمين فنال كل فارس أربعة آلاف درهم من ثمن السفطين. وكان سهم الفارس بنهاوند ستة آلاف وسهم الراجل ألفين. وقد نفل حذيفة من الأخماس من شاء من أهل البلاء يوم نهاوند وكان المسلمون ثلاثين ألفاً.
ولما قدم سبي نهاوند المدينة جعل أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة لا يلقى منهم صغيراً إلا مسح رأسه وبكى وقال له: أكل عمر كبدي! وكان من نهاوند فأسرته الروم وأسره المسلمون من الروم فنسب إلى حيث سبي.
وكان المسلمون يسمون فتح نهاوند فتح الفتوح لأنه لم يكن للفرس بعده اجتماع. وملك المسلمون بلادهم.
ذكر فتح الدينور والصميرة وغيرهمالما انصرف أبو موسى من نهاوند، وكان قد جاء مدداً على بعث أهل البصرة، فمر بالدينور فأقام عليها خمسة أيام وصالحه أهلها على الجزية ومضى فصالحه أهل سيروان على مثل صلحهم، وبعث السائب بن الأقرع الثقفي إلى الصميرة مدينة مهرجان قذق ففتحها صلحاً، وقيل: إنه وجه السائب من الأهواز ففتح ولاية مهرجان قذق.
ذكر فتح همذان والماهين وغيرهما
لما انهزم المشركون دخل من سلم منهم همذان وحاصرهم نعيم بن مقرن والقعقاع بن عمرو. فلما رأى ذلك خسروشنوم استأمنهم وقبل منهم الجزية على أن يضمن منهم همذان وسدستبى وألا يؤتى المسلمون منهم، فأجابوه إلى ذلك وآمنوه ومن معه من الفرس، وأقبل كل من كان هرب، وبلغ الخبر الماهين بفتح همذان وملكها ونزول نعيم والقعقاع بها، فاقتدوا بخسروشنوم فراسلوا حذيفة فأجابهم إلى ما طلبوا وأجمعوا على القبول وأجمعوا على إتيان حذيفة؛ فخدعهم دينار وهو أحد أولئك الملوك، وكان أشرفهم قارن، وقال: لا تقلوهم في جمالكم، ففعلوا، وخالفهم فأتاهم في الديباج والحلي فأعطاهم حاجتهم، واحتمل المسلمون ما أرادوا وعاقدوه عليهم، ولم يجد الآخرون بداً من متابعته والدخول في أمره، فقيل ماه دينار لذلك. وكان النعمان بن مقرن قد عاقد بهراذان على مثل ذلك فنسب إلى بهراذان، وكان قد وكل النسير بن ثور بقلعة قد لجأ إليها قوم فجاهدهم فافتتحها فنسبت إلى النسير وهو تصغير نسر.
قيل: دخل دينار الكوفة أيام معاوية فقال: يا أهل الكوفة إنكم أول ما مررتم بنا كنتم خيار الناس فبقيتم كذلك زمن عمر وعثمان، ثم تغيرتم وفشت فيكم خصالٌ أربع: بخل، وخب، وغدر، وضيق، ولم يكن فيكم واحدة منهن، وقد رمقتكم فرأيت ذلك في مولديكم فعلمت من أين أتيتم، فإذا الخب من قبل النبط، والبخل من قبل فارس، والغدر من قبل خراسان، والضيق من قبل الأهواز.
ذكر دخول المسلمين بلاد الأعاجموفيها أمر عمر المسلمين بالانسياح في بلاد العجم وطلب الفرس أين كانوا، وقيل: كان ذلك سنة ثماني عشرة، وقد تقدم ذكره. وسبب ذلك ما كان من يزدجرد وبعثه الجنود مرة بعد أخرى، فوجه الأمراء من أهل البصرة وأهل الكوفة بعد فتح نهاوند، وكان بين عمل سعد وعمل عمار أميران، أحدهما عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وفي زمانه كانت وقعة نهاوند، والآخر زياد بن حنظلة حليف بني عبد بن قصي، وفي زمانه أمر بالانسياح وعزل عبد الله وبعث في وجه آخر، وولي زياد، وكان من المهاجرين، فعمل قليلاً وألح في الاستعفاء فأعفاه عمر وولى عمار بن ياسر وكتب معه إلى أهل الكوفة: إني بعثت عماراً أميراً وجعلت معه ابن مسعود معلماً. وكان ابن مسعود بحمص فسيره عمر إلى الكوفة، وأمد أهل البصرة بعبد الله بن عبد الله، وأمد أهل الكوفة بأبي موسى. وكان أهل همذان قد كفروا بعد الصلح، فبعث عمر لواءً إلى نعيم بن مقرن وأمره بقصد همذان، فإذا فتحها سار إلى ما وراء ذلك إلى خراسان، وبعث عتبة بن فرقد وبكير بن عبد الله إلى أذربيجان، يدخل أحدهما من حلوان والآخر من الموصل، وبعث عبد الله بن عبد الله إلى أصبهان، وأمر عمر سراقة على البصرة.
ذكر فتح أصبهانوفيها بعث عمر إليها عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وكان شجاعاً من أشراف الصحابة ومن وجوه الأنصار حليف لبني الحبلى، وأمده بأبي موسى، وجعل على مجنبتيه عبد الله بن ورقاء الرياحي وعصمة بن عبد الله، فساروا إلى نهاوند، ورجع حذيفة إلى عمله على ما سقت دجلة وما وراءها، وسار عبد الله فيمن كان معه ومن تبعه من جند النعمان بنهاوند، نحو أصبهان، وعلى جندها الاستندار، وعلى مقدمته شهربراز بن جاذويه، شيخ كبير، في جمع عظيم، فالتقى المسلمون ومقدمة المشركين برستاق لأصبهان، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ودعا الشيخ إلى البراز، فبرز له عبد الله بن ورقاء الرياحي فقتله، وانهزم أهل أصبهان. فسمي ذلك الرستاق رستاق الشيخ إلى اليوم، وصالحهم الاستندار على رستاق الشيخ، وهو أول رستاق أخذ من أصبهان.
ثم سار عبد الله إلى مدينة جي وهي مدينة أصبهان، فانتهى إليها والملك بأصبهان الفاذوسفان، فنزل بالناس على جي وحاصرها وقاتلها، ثم صالحه الفاذوسفان على أصبهان وأن على من أقام الجزية وأقام على ماله وأن يجزى من أخذت أرضه عنوة مجراهم ومن أبى وذهب كان لكم أرضه، وقدم أبو موسى على عبد الله من ناحية الأهواز وقد صالح، فخرج القوم من جي ودخلوا في الذمة إلا ثلاثين رجلاً من أهل أصبهان لحقوا بكرمان. ودخل عبد الله وأبو موسى جياً، وكتب بذلك إلى عمر. فقدم كتاب عمر إلى عبد الله: أن سر حتى تقدم على سهيل بن عدي فتكون معه على قتال من بكرمان، فسار واستخلف على أصبهان السائب بن الأقرع، ولحق بسهيل قبل أن يصل إلى كرمان.
قيل: وقد روي عن معقل بن يسار أن الأمير كان على الجند الذين فتحوا أصبهان النعمان بن مقرن، وأن عمر أرسله من المدينة إلى أصبهان وكتب إلى أهل الكوفة أن يمدوه، فسار إلى أصبهان وبها ملكها ذو الحاجبين، فأرسل إليه المغيرة بن شعبة وعاد من عنده فقاتلهم وقتل النعمان ووقع ذو الحاجبين عن دابته فانشقت بطنه وانهزم أصحابه. قال معقل: فأتيت النعمان وهو صريع فجعلت عليه علماً. فلما انهزم المشركون أتيته، ومعي إداوة فيها ماء، فغسلت عن وجهه التراب فقال: ما فعل الناس؟ فقلت: فتح الله عليهم. قال: الحمد لله! ومات.
هكذا في هذه الرواية، والصحيح أن النعمان قتل بنهاوند وافتتح أبو موسى قم وقاشان.
ذكر ولاية المغيرة بن شعبة على الكوفةوفيها ولى عمر عمار بن ياسر على الكوفة، وابن مسعود على بيت المال وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض. فشكا أهل الكوفة عماراً، فاستعفى عمار عمر بن الخطاب، فولى عمر جبير بن مطعم الكوفة، وقال له: لا تذكره لأحد. فسمع المغيرة بن شعبة أن عمر خلا بجبير، فأرسل امرأته إلى امرأة جبير بن مطعم لتعرض عليها طعام السفر، ففعلت، فقالت: نعم ما حييتني به. فلما علم المغيرة جاء إلى عمر فقال له: بارك الله لك فيمن وليت! وأخبره الخبر فعزله وولى المغيرة بن شعبة الكوفة، فلم يزل عليها حتى مات عمر. وقيل: إن عماراً عزل سنة اثنتين وعشرين وولي بعده أبو موسى. وسيرد ذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثقيل: وفيها بعث عمرو بن العاص عقبة بن نافع الفهري فافتتح زويلة صلحاً، وما بين برقة وزويلة سلم للمسلمين. وقيل: سنة عشرين.
كان الأمراء في هذه السنة: عمير بن سعد على دمشق وحوران وحمص وقنسرين والجزيرة؛ ومعاوية على البلقاء والأردن وفلسطين والسواحل وأنطاكية وقلقية ومعرة مصرين، وعند ذلك صالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة على قلقية وأنطاكية ومعرة مصرين.
وفيها ولد الحسن البصري وعامر الشعبي.
وحج بالناس عمر بن الخطاب، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت. وكان عامله على مكة والطائف واليمن واليمامة ومصر والبصرة من كان قبل ذلك، وكان على الكوفة عمار بن ياسر، وشريح على القضاء.
وفيها بعث عثمان بن أبي العاص بعثاً إلى ساحل فارس فحاربوهم ومعهم الجارود العبدي، فقتل الجارود بعقبة تعرف بعقبة الجارود، وقيل: بل قتل بنهاوند مع النعمان.
وفيها مات حممة، وهو من الصحابة، بأصبهان بعد فتحها، والعلاء بن الحضرمي وهو على البحرين، فاستعمل عمر مكانه أبا هريرة. وفيها مات خالد ابن الوليد بحمص وأوصى إلى عمر بن الخطاب، وقيل: مات سنة ثلاث وعشرين، وقيل: مات بالمدينة. والأول أصح.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرينفي هذه السنة افتتحت أذربيجان، وقيل: سنة ثماني عشرة بعد فتح همذان والري وجرجان، فنبدأ بذكر فتح هذه البلاد ثم نذكر أذربيجان بعدها.
ذكر فتح همذان ثانياً
قد تقدم مسير نعيم بن مقرن إلى همذان وفتحها على يده ويد القعقاع بن عمرو، فلما رجعا عنها كفر أهلها مع خسروشنوم، فلما قدم عهد نعيم من عند عمر ودع حذيفة وسار يريد همذان وعاد حذيفة إلى الكوفة، فخرج نعيم ابن مقرن على تعبية إلى همذان فاستولى على بلادها جميعاً وحاصرها، فلما رأى أهلها ذلك سألوا الصلح ففعل وقبل منهم الجزية. وقد قيل: إن فتحها كان سنة أربع وعشرين بعد مقتل عمر بستة أشهر. فبينما نعيم بهمذان في اثني عشر ألفاً من الجند كاتب الديلم وأهل الري وأذربيجان، إذ خرج موتاً في الديلم حتى نزل بواج روذ، وأقبل الزينبي أبو الفرخان في أهل الري، وأقبل أسفنديار أخو رستم في أهل أذربيجان، فاجتمعوا وتحصن منهم أمراء المسالح وبعثوا إلى نعيم بالخبر، فاستخلف يزيد بن قيس الهمذاني وخرج إليهم، فاقتتلوا بواج روذ قتالاً شديداً، وكانت وقعة عظيمة تعدل بنهاوند، فانهزم الفرس هزيمة قبيحة وقتل منهم مقتلة كبيرة لا يحصون، فأرسلوا إلى عمر مبشراً، فأمر عمر نعيماً بقصد الري وقتال من بها والمقام بها بعد فتحها.
وقيل: إن المغيرة بن شعبة، وهو عامل على الكوفة، أرسل جرير بن عبد الله إلى همذان، فقاتله أهلها وأصيبت عينه بسهم، فقال: احتسبها عند الله الذي زين بها وجهي ونور لي ما شاء ثم سلبنيها في سبيله. ثم فتحها على مثل صلح نهاوند وغلب على أرضها قسراً. وقيل: كان فتحها على يد المغيرة بنفسه، وكان جرير على مقدمته. وقيل: فتحها قرظة بن كعب الأنصاري.
ذكر فتح قزوين وزنجانلما سير المغيرة جريراً إلى همذان ففتحها سير البراء بن عازب في جيش إلى قزوين وأمره أن يسير إليها فإن فتحها الله على يده غزا الديلم منها، وإنما كان مغزاهم قبل من دستبى. فسار البراء حتى أتى أبهر، وهو حصن، فقاتلوه ثم طلبوا الأمان فآمنهم وصالحهم، ثم غزا قزوين، فلما بلغ أهلها الخبر أرسلوا إلى الديلم يطلبونن النصرة فوعدوهم، ووصل المسلمون إليهم فخرجوا لقتالهم والديلم وقوفٌ على الجبل لا يمدون يداً، فلما رأى أهل قزوين ذلك طلبوا الصلح على صلح أبهر؛ وقال بعض المسلمين:
قد علم الديلم إذ تحارب ... حين أتى في جيشه ابن عازب
بأن ظن المشركين كاذب ... فكم قطعنا في دجى الغياهب
من جبلٍ وعرٍ ومن سباسب
وغزا البراء الديلم حتى أدوا إليه الإتاوة، وغزا جيلان والببر والطيلسان، وفتح زنجان عنوةً. ولما ولي الوليد بن عقبة الكوفة غزا الديلم وأذربيجان وجيلان وموقان والببر والطيلسان ثم انصرف.
ذكر فتح الريثم انصرف نعيم من واج روذ حتى قدم الري وخرج الزينبي أبو الفرخان من الري فلقي نعيماً طالباً الصلح ومسالماً له ومخالفاً لملك الري، وهو سياوخش ابن مهران بن بهرام جوبين، فاستمد سياوخش أهل دنباوند وطبرستان وقومس وجرجان فأمدوه خوفاً من المسلمين، فالتقوا مع المسلمين في سفح جبل الري إلى جنب مدينتها، فاقتتلوا به، وكان الزينبي قال لنعيم: إن القوم كثير وأنت في قلة فباعث معي خيلاً أدخل بهم مدينتهم من مدخل لا يشعرون به، وناهدهم أنت فإنهم إذا خرجنا عليهم لم يثبتوا لك. فبعث معه نعيم خيلاً من الليل عليهم ابن أخيه المنذر بن عمرو، فأدخلهم الزينبي المدينة ولا يشعر القوم وبيتهم نعيم بياتاً فشغلهم عن مدينتهم، فاقتتلوا وصبروا له حتى سمعوا التكبير من ورائهم فانهزموا فقتلوا مقتلة عدوا بالقصب فيها، وأفاء الله على المسلمين بالري نحواً مما في المدائن وصالحه الزينبي على الري، ومرزبة عليهم نعيمٌ، فلم يزل شرف الري في أهل الزينبي، وأخرب نعيم مدينتهم، وهي التي يقال لها العتيقة، وأمر الزينبي فبنى مدينة الري الحدثي. وكتب نعيم إلى عمر بالفتح وأنفذ الأخماس، وكان البشير المضارب العجلي، وراسله المصمغان في الصلح على شيء يفتدي به منه على دنباوند، فأجابه إلى ذلك.
وقد قيل: إن فتح الري كان على يد قرظة بن كعب، وقيل: كان فتحها سنة إحدى وعشرين. وقيل غير ذلك. والله أعلم.
ذكر فتح قومس وجرجان وطبرستانلما أرسل نعيم إلى عمر بالبشارة وأخماس الري كتب إليه عمر يأمره بإرسال أخيه سويد بن مقرن ومعه هند بن عمرو الجملي وغيره إلى قومس، فسار سويد نحو قومس، فلم يقم له أحد، فأخذها سلماً وعسكر بها، وكاتبه الذين لجأوا إلى طبرستان منهم والذين أخذوا المفاوز، فأجابهم إلى الصلح والجزية وكتب لهم بذلك. ثم سار سويد إلى جرجان فعكسر بها ببسطام وكتب إلى ملك جرجان، وهو زرنان صول، وكاتبه زرنان صول وصالحه على جرجان على الجزية وكافية حرب جرجان وأن يعينه سويد إن غلب، فأجابه سويد إلى ذلك، وتلقاه زرنان صول قبل دخوله جرجان فدخل معه وعسكر بها حتى جبى الخراج وسمى فروجها فسدها بترك دهستان، ورفع الجزية عمن قام بمنعها وأخذها من الباقين.
وقيل: كان فتحها سنة ثماني عشرة. وقيل: سنة ثلاثين زمن عثمان.
قيل: وأرسل الأصبهبذ صاحب طبرستان سويداً في الصلح على أن يتوادعا ويجعل له شيئاً على غير نصر ولا معونة على أحد، فقبل ذلك منه وكتب له كتاباً.
ذكر فتح طرابلس الغرب وبرقة
في هذه السنة سار عمرو بن العاص من مصر إلى برقة فصالحه أهلها على الجزية وأن يبيعوا من أبنائهم من أرادوا بيعه. فلما فرغ من برقة سار إلى طرابلس الغرب فحاصرها شهراً فلم يظفر بها، وكان قد نزل شرقيها، فخرج رجل من بني مدلج يتصد في سبعة نفر وسلكوا غرب المدينة، فلما رجعوا اشتد عليهم الحر فأخذوا على جانب البحر، ولم يكن السور متصلاً بالبحر، وكانت سفن الروم في مرساها مقابل بيوتهم، فرأى المدلجي وأصحابه مسلكاً بين البحر والبلد فدخلوا منه وكبروا، فلم يكن للروم ملجأ إلا سفنهم لأنهم ظنوا أن المسلمين قد دخلوا البلد، ونظر عمرو ومن معه فرأى السيوف في المدينة وسمعوا الصياح، فأقبل بجيشه حتى دخل عليهم البلد، فلم يفلت الروم إلا بما خف معهم في مراكبهم.
وكان أهل حصن سبرة قد تحصنوا لما نزل عمرو على طرابلس، فلما امتنعوا عليه بطرابلس أمنوا واطمأنوا، فلما فتحت طرابلس جند عمرو عسكراً كثيفاً وسيره إلى سبرة، فصبحوها وقد فتح أهلها الباب وأخرجوا مواشيهم لتسرح لأنهم لم يكن بلغهم خبر طرابلس، فوقع المسلمون عليهم ودخلوا البلد مكابرةً وغنموا ما فيه وعادوا إلى عمرو. ثم سار عمرو بن العاص إلى برقة وبها لواتة، وهم من البربر.
وكان سبب مسير البربر إليها وإلى غيرها من الغرب أنهم كانوا بنواحي فلسطين من الشام وكان ملكهم جالوت، فلما قتل سارت البرابر وطلبوا الغرب حتى إذا انتهوا إلى لوبية ومراقية، وهما كورتان من كور مصر الغربية، تفرقوا فسارت زناتة ومغيلة، وهما قبيلتان من البربر، إلى الغرب فسكنوا الجبال، وسكنت لواتة أرض برقة، وتعرف قديماً بأنطابلس، وانتشروا فيها حتى بلغوا السوس، ونزلت هوارة مدينة لبدة، ونزلت نفوسة إلى مدينة سبرة وجلا من كان بها من الروم لذلك، وقام الأفارق، وهم خدم الروم، على صلح يؤدونه إلى من غلب على بلادهم. وسار عمرو بن العاص، كما ذكرنا، فصالحه أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدونها جزيةً وشرطوا أن يبيعوا من أرادوا من أولادهم في جزيتهم.
ذكر فتح أذربيجانقال: فلما افتتح نعيم الري بعث سماك بن خرشة الأنصاري - وليس بأبي دجانة - ممداً لبكير بن عبد الله بأذربيجان، أمره عمر بذلك، فسار سماك نحو بكير، وكان بكير حيث بعث إليها سار حتى إذا طلع بجبال جرميذان طلع عليهم اسفنديار بن فرخزاذ مهزوماً من واجٍ روذ، فكان أول قتال لقيه بأذربيجان، فاقتتلوا، فهزم الفرس وأخذ بكير اسفنديار أسيراً. فقال له اسفنديار: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ قال: بل الصلح. قال: أمسكني عندك فإن أهل أذربيجان إن لم أصالح عليهم أو أجىء إليهم لم يقوموا لك وجلوا إلى الجبال التي حولها، ومن كان على التحصن تحصن إلى يوم ما. فأمسكه عنده، وصارت البلاد إليه إلا ما كان من حصن. وقدم عليه سماك بن خرشة ممداً واسفنديار في إساره وقد افتتح ما يليه، وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه.
وكتب بكير إلى عمر يستأذنه في التقدم، فأذن له أن يتقدم نحو الباب، وأن يستخلف على ما افتتحه، فاستخلف عليه عتبة بن فرقد، فأقر عتبة سماك بن خرشة على عمل بكير الذي كان افتتحه، وجمع عمر أذربيجان كلها لعتبة بن فرقد.
وكان بهرام بن فرخزاذ قصد طريق عتبة وأقام به في عسكره حتى قدم عليه عتبة، فاقتتلوا، فانهزم بهرام، فلما بلغ خبره اسفنديار وهو في الأسر عند بكير قال: الآن تم الصلح وطفئت الحرب. فصالحه وأجاب إلى ذلك أهل أذربيجان كلهم، وعادت أذربيجان سلماً. وكتب بذلك بكير وعتبة إلى عمر وبعثا بما خمسا. ولما جمع عمر لعتبة عمل بكير كتب لأهل أذربيجان كتاباً بالصلح.
وفيها قدم عتبة على عمر بالخبيص الذي كان أهدي له.
وكان عمر يأخذ عماله بموافاة الموسم كل سنة يمنعهم بذلك عن الظلم.
ذكر فتح الباب
في هذه السنة كان فتح الباب، وكان عمر رد أبا موسى إلى البصرة وبعث سراقة بن عمرو، وكان يدعى ذا النور، إلى الباب، وجعل على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة، وكان أيضاً يدعى ذا النور، وجعل على إحدى مجنبتيه حذيفة بن أسيد الغفاري، وعلى الأخرى بكير بن عبد الله الليثي، وكان بكير سبقه إلى الباب. وجعل على المقاسم سلمان بن ربيعة الباهلي. فسار سراقة، فلما خرج من أذربيجان قدم بكير إلى الباب، وكان عمر قد أمد سراقة بحبيب بن مسلمة من الجزيرة وجعل مكانه زياد بن حنظلة. ولما أطل عبد الرحمن بن ربيعة على الباب، والملك بها يومئذ شهريار، وهو من ولد شهريار الذي أفسد بني إسرائيل وأغزى الشام بهم، فكاتبه شهريار واستأمنه على أن يأتيه، ففعل، فأتاه فقال: إني بإزاء عدو كلب وأمم مختلفة ليست لهم أحساب ولا ينبغي لذي الحسب والعقل أن يعينهم على ذي الحسب ولست من البقبج ولا الأرمن في شيء، وإنكم قد غلبتم على بلادي وأمتي فأنا منكم ويدي مع أيديكم وجزيتي إليكم والنصر لكم والقيام بما تحبون فلا تسوموننا الجزية فتوهنونا بعدوكم.
قال: فسيره عبد الرحمن إلى سراقة، فلقيه بمثل ذلك، فقبل منه سراقة ذلك، وقال: لابد من الجزية ممن يقيم ولا يحارب العدو. فأجابه إلى ذلك. وكتب سراقة في ذلك إلى عمر فأجازه عمرو واستحسنه.
ذكر فتح موقانلما فرغ سراقة من الباب أرسل بكير بن عبد الله وحبيب بن مسلمة وحذيفة ابن أسيد وسلمان بن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية، فوجه بكيراً إلى موقان، وحبيباً إلى تفليس، وحذيفة إلى جبال اللان، وسلمان إلى الوجه الآخر. وكتب سراقة بالفتح إلى عمر وبإرسال هؤلاء النفر إلى الجهات المذكورة، فأتى عمر أمرٌ لم يظن أن يستتم له بغير مؤونة لأنه فرج عظيم وجند عظيم، فلما استوسقوا واستحلوا الإسلام وعدله مات سراقة، واستخلف عبد الرحمن بن ربيعة. ولم يفتتح أحد من أولئك القواد إلا بكير فإنه فض أهل موقان ثم تراجعوا على الجزية عن كل حالم دينار.
وكان فتحها سنة إحدى وعشرين. ولما بلغ عمر موت سراقة واستخلافه عبد الرحمن بن ربيعة أقر عبد الرحمن على فرج الباب وأمره بغزو الترك.
أسيد في هذه التراجم بفتح الهمزة وكسر السين. والنور في الموضعين بالراء.
ذكر غزو التركلما أمر عمر عبد الرحمن بن ربيعة بغزو الترك خرج بالناس حتى قطع الباب. فقال له شهريار: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد غزو بلنجر والترك. قال: إنا لنرضى منهم أن يدعونا من دون الباب. قال عبد الرحمن: لكنا لا نرضى حتى نغزوهم في ديارهم، وبالله إن معنا أقواماً لو يأذن لهم أميرنا في الإمعان لبلغت بهم الروم. قال: وما هم؟ قال: اقوام صحبوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودخلوا في هذا الأمر بنية، ولا يزال هذا الأمر لهم دائماً ولا يزال النصر معهم حتى يغيرهم من يغلبهم وحتى يلفتوا عن حالهم. فغزا بلنجر غزاة في زمن عمر فقالوا: ما اجترأ علينا إلا ومعه الملائكة تمنعهم من الموت، فهربوا منه وتحصنوا، فرجع بالغنيمة والظفر، وقد بلغت خيله البيضاء على رأس مائتي فرسخ من بلنجر، وعادوا ولم يقتل منهم أحد.
ثم غزاهم أيام عثمان بن عفان غزوات فظفر كما كان يظفر، حتى تبدل أهل الكوفة لاستعمال عثمان من كان ارتد استصلاحاً لهم فزادهم فساداً، فغزا عبد الرحمن بن ربيعة بعد ذلك فتذامرت الترك واجتمعوا في الغياض فرمى رجلٌ منهم رجلاً من المسلمين على غرة فقتله وهرب عنه أصحابه، فخرجوا عليه عند ذلك فاقتتلوا واشتد قتالهم ونادى منادٍ من الجو: صبراً عبد الرحمن وموعدكم الجنة! فقاتل عبد الرحمن حتى قتل وانكشف أصحابه وأخذ الراية سلمان بن ربيعة أخوه فقاتل بها، ونادى منادٍ من الجو: صبراً آل سلمان! فقال سلمان: أو ترى جزعاً؟ وخرج سلمان بالناس معه أبو هريرة الدوسي على جيلان فقطعوها إلى جرجان، ولم يمنعهم ذلك من إنجاء جسد عبد الرحمن، فهم يستسقون به إلى الآن.
ذكر تعديل الفتوح بين أهل الكوفة والبصرةفي هذه السنة عدل عمر فتوح أهل الكوفة والبصرة بينهم.
وسبب ذلك أن عمر بن سراقة كتب إلى عمر بن الخطاب يذكر له كرة أهل البصرة وعجز خراجهم عنهم، وسأله أن يزيدهم أحد الماهين أو ماسبذان، وبلغ أهل الكوفة ذلك وقالوا لعمار بن ياسر، وكان على الكوفة أميراً سنة وبعض أخرى: اكتب إلى عمر أن رامهرمز وإيذج لنا دونهم لم يعينونا عليهما ولم يلحقونا حتى افتتحناهما، فلم يفعل عمار، فقال له عطارد: أيها العبد الأجدع فعلام تدع فيئنا؟ فقال: لقد سببت أحب أذني إليذ فأبغضوه لذلك. واختصم أهل الكوفة وأهل البصرة، وادعى أهل البصرة قرى افتتحها أبو موسى دون أصبهان أيام أمد به عمر بن الخطاب أهل الكوفة. فقال لهم أهل الكوفة: أتيتمونا مدداً وقد افتتحنا البلاد فأنشبناكم في المغانم، والذمة ذمتنا والأرض أرضنا. فقال عمر: صدقوا. فقال أهل الأيام والقادسية ممن سكن البصرة: فلتعطونا نصيبنا مما نحن شركاؤهم فيه من سوادهم وحواشيهم. فأعطاهم عمر مائة دينار برضا أهل الكوفة أخذها من شهد الأيام والقادسية.
ولما ولي معاوية، وكان هو الذي جند قنسرين من أتاه من أهل العراقين أيام علي، وإنما كان قنسرين رستاقاً من رساتيق حمص، فأخذ لهم معاوية حين ولي بنصيبهم ومن فتوح العراق وأذربيجان والموصل والباب لأنه من فتوح أهل الكوفة. وكان أهل الجزيرة والموصل يومئذ ناقلة، انتقل إليها كل من نزل بهجرته من أهل البلدين أيام علي، فأعطاهم معاوية من ذلك نصيباً.
وكفر أهل أرمينية أيام معاوية، وقد أمر حبيب بن مسلمة على الباب، وحبيب يومئذ بجرزان، وكات أهل تفليس وتلك الجبال من جرزان فاستجابوا له.
ذكر عزل عمار بن ياسر عن الكوفة
وولاية أبي موسى والمغيرة بن شعبةوفيها عمل عمر بن الخطاب عمار بن ياسر عن الكوفة واستعمل أبا موسى. وسبب ذلك أن أهل الكوفة شكوه وقالوا له: إنه لا يحتمل ما هو فيه وإنه ليس بأمين، ونزا به أهل الكوفة. فدعاه عمر، فخرج معه وفدٌ يريد أنهم معه، فكانوا أشد عليه ممن تخلف عنه، وقالوا: إنه غير كافٍ وعالم بالسياسة ولا يدري على ما استعملته. وكان منهم سعد بن مسعود الثقفي، عم المختار، وجرير بن عبد الله، فسعيا به، فعزله عمر. وقال عمر لعمار: أساءك العزل؟ قال: ما سرني حين استعملت ولقد ساءني حين عزلت. فقال له: قد علمت ما أنت بصاحب عمل ولكني تأولت: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين) القصص: 5.
ثم أقبل عمر على أهل الكوفة فقال: من تريدون؟ قالوا: أبا موسى. فأمره عليهم بعد عمار. فأقام عليهم سنة فباع غلامه العلف، فشكاه الوليد ابن عبد شمس وجماعة معه وقالوا: إن غلامه يتجر في جسرنا، فعزله عنهم وصرفه إلى البصرة. وصرف عمر ابن سراقة إلى الجزيرة.
وخلا عمر في ناحية المسجد فنام، فأتاه المغيرة بن شعبة فحرسه حتى استيقظ، فقال: ما فعلت هذا يا أمير المؤمنين إلا من عظيم. فقال: وأي شيء أعظم من مائة ألف لا يرضون عن أمير ولا يرضى عنهم أمير؟ وأحيطت الكوفة حين اختطت على مائة ألف مقاتل. وأتاه أصحابه فقالوا: ما شأنك؟ فقال: إن أهل الكوفة قد عضلوني. واستشارهم فيمن يوليه. وقال: ما تقولون في تولية رجل ضعيف مسلم أو رجل قوي مسدد؟ فقال المغيرة: أما الضعيف المسلم فإن إسلامه لنفسه وضعفه عليك، وأما القوي المسدد فإن سداده لنفسه وقوته للمسلمين. فولى المغيرة الكوفة، فبقي عليها حتى مات عمر، وذلك نحو سنتين وزيادة. وقال له حين بعثه: يا مغيرة ليأمنك الأبرار وليخفك الفجار. ثم أراد عمر أن يبعث سعداً على عمل المغيرة فقتل عمر قبل ذلك فأوصى به.
ذكر فتح خراسانوفي هذه السنة غزا الأحنف بن قيس خراسان، في قول بعضهم. وقيل: سنة ثماني عشرة.
وسبب ذلك أن يزدجرد لما سار إلى الري بعد هزيمة أهل جلولاء وانتهى إليها وعليها أبان جاذويه وثب عليه فأخذه. فقال يزدجرد: يا أبان تغدرني! قال: لا ولكن قد تركت ملكك فصار في يد غيرك فأحببت أن أكتتب على ما كان لي من شيء. وأخذ خاتم يزدجرد واكتتب الصكاك وسجل السلاجت بكل ما أعجبه ثم ختم عليها ورد الخاتم، ثم أتى بعد سعداً فرد عليه كل شيء في كتابه.
وسار يزدجرد من الري إلى أصبهان، ثم منها إلى كرمان والنار معه، ثم قصد خراسان فأتى مرو فنزلها وبنى للنار بيتاً واطمأن وأمن من أن يؤتى، ودان له من بقي من الأعاجم. وكاتب الهرمزان وأثار أهل فارس، فنكثوا، وأثار أهل الجبال والفيرزان، فنكثوا، فأذن عمر للمسلمين فدخلوا بلاد الفرس، فسار الأحنف إلى خراسان فدخلها من الطبسين فافتتح هراة عنوةً واستخلف عليها صحار بن فلان العبدي، ثم سار نحو مرو الشاهجان فأرسل إلى نيسابور مطرف ابن عبد الله بن الشخير وإلى سرخس الحرث بن حسان، فلما دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد إلى مرو الروذ حتى نزلها، ونزل الأحنف مرو الشاهجان، وكتب يزدجرد، وهو بمر الروذ، إلى خاقان وغلى ملك الصغد وإلى ملك الصين يستمدهم. وخرج الأحنف من مرو الشاهجان واستخلف عليها حارثة بن النعمان الباهلي بعد ما لحقت به أمداد أهل الكوفة، وسار نحو مرو الروذ.
فلما سمع يزدجرد سار عنها إلى بلخ ونزل الأحنف مرو الروذ. وقدم أهل الكوفة إلى يزدجرد واتبعهم الأحنف، فالتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ، فانهزم يزدجرد وعبر النهر ولحق الأحنف بأهل الكوفة، وقد فتح الله عليهم؛ فبلخ من فتوحهم.
وتتابع أهل خراسان من هرب وشذ على الصلح فيما بين نيسابور إلى طخارستان، وعاد الأحنف إلى مرو الروذ فنزلها، واستخلف على طخارستان ربعي بن عامر، وكتب الأحنف إلى عمر بالفتح فقال عمر: وددت أن بيننا وبينها بحراً من نار. فقال علي: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأن أهلها سينفضون منها ثلاث مرات فيجتاحون في الثالثة، فكان ذلك بأهلها أحب إلي من أن يكون بالمسلمين.
وكتب عمر إلى الأحنف أن يقتصر على ما دون النهر ولا يجوزه.
ولما عبر يزدجرد النهر مهزوماً أنجده خاقان في الترك وأهل فرغانة والصغد، فرجع يزدجرد وخاقان إلى خراسان فنزلا بلخ، ورجع أهل الكوفة إلى الأحنف بمرو الروذ، ونزل المشركون عليه بمرو أيضاً.
وكان الأحنف لما بلغه خبر عبور يزدجرد وخاقان النهر إليه خرج ليلاً يتسمع هل يسمع برأي ينتفع به، فمر برجلين ينقيان علفاً وأحدهما يقول لصاحبه: لو أسندنا الأمير إلى هذا الجبل فكان النهر بيننا وبين عدونا خندقاً وكان الجبل في ظهورنا فلا يأتونا من خلفنا وكان قتالنا من وجه واحد رجوت أن ينصرنا الله. فرجع، فلما أصبح جمع الناس ورحل بهم إلى سفح الجبل، وكان معه من أهل البصرة عشرة آلاف ومن أهل الكوفة نحو منهم، وأقبلت الترك ومن معها فنزلت وجعلوا يغادرونهم القتال ويراوحونهم وفي الليل يتنحون عنهم.
فخرج الأحنف ليلةً طليعةً لأصحابه حتى إذا كان قريباً من عسكر خاقان وقف، فلما كان وجه الصبح خرج فارس من الترك بطوقه فضرب بطبله ثم وقف من العسكر موقفاً يقفه مثله، فحمل عليه الأحنف فتقاتلا فطعنه الأحنف فقتله وأخذ طوق التركي ووقف، فخرج آخر من الترك ففعل فعل صاحبه، فحمل عليه الأحنف فتقاتلا فطعنه فقتله وأخذ طوقه ووقف، ثم خرج الثالث من الترك ففعل فعل الرجلين، فحمل عليه الأحنف فقتله، ثم انصرف الأحنف إلى عسكره.
وكانت عادة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم أكفاء كلهم يضرب بطبله ثم يخرجون بعد خروج الثالث. فلما خرجوا تلك الليلة بعد الثالث فأتوا على فرسانهم مقتلين تشاءم خاقان وتطير فقال: قد طال مقامنا وقد أصيب فرساننا، ما لنا في قتال هؤلاء القوم خير؛ فرجعوا. وارتفع النهار للمسلمين ولم يروا منهم أحداً، وأتاهم الخبر بانصراف خاقان والترك إلى بلخ، وقد كان يزدجرد ترك خاقان مقابل المسلمين بمرو الروذ وانصرف إلى مرو الشاهجان، فتحصن حارثة بن النعمان ومن معه، فحصرهم واستخرج خزائنه من موضعها وخاقان مقيم ببلخ. فقال المسلمون للأحنف: ما ترى في اتباعهم؟ فقال: أقيموا بمكانكم ودعوهم.
فلما جمع يزدجرد خزائنه، وكانت كبيرة عظيمة، وأراد أن يلحق بخاقان قال له أهل فارس: أي شيء تريد أن تصنع؟ قال: أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين. قالوا له: إن هذا رأي سوء، ارجعبنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم فإنهم أوفياء وهم أهل دين، وإن عدواً يلينا في بلادنا أحب إلينا مملكة من عدو يلينا في بلاده ولا دين لهم ولا ندري ما وفاؤهم. فأبى عليهم. فقالوا: دع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يلينا لا تخرجها من بلادنا. فأبى، فاعتزلوه وقاتلوه فهزموه وأخذوا الخزائن واستولوا عليها وانهزم منهم ولحق بخاقان وعبر النهر من بلخ إلى فرغانة، وأقام يزدجرد ببلد الترك، فلم يزل مقيماً زمن عمر كله إلى أن كفر أهل خراسان زمن عثمان وكان يكاتبهم ويكاتبونه. وسيرد ذكر ذلك في موضعه.
ثم أقبل أهل فارس بعد رحيل يزدجرد على الأحنف فصالحوه ودفعوا إليه تلك الخزائن والأموال وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم على أفضل ما كانوا عليه زمن الأكاسرة، واغتبطوا بملك المسلمين. وأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهمه يوم القادسية. وسار الأحنف إلى بلخ فنزلها بعد عبور خاقان النهر منها ونزل أهل الكوفة في كورها الأربع. ثم رجع إلى مرو الروذ فنزلها وكتب بفتح خاقان ويزدجرد إلى عمر.
ولما عبر خاقان ويزدجرد النهر لقيا رسول يزدجرد الذي أرسله إلى ملك الصين فأخبرهما أن ملك الصين قال له: صف لي هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم فإني أراك تذكر قلةً منهم وكثرة منكم ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل منكم مع كثرتكم إلا بخير عندهم وشر فيكم. فقلت: سلني عما أحببت. فقال: أيوفون بالعهد؟ قلت: نعم. قال: وما يقولون لكم قبل القتال. قال قلت: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إما دينهم، فإن أجبنا أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أو المنابذة.؟ قال: فكيف طاعتهم أمراءهم؟ قلت: أطوع قوم وأرشدهم. قال: فما يحلون وما يحرمون؟ فأخبرته. قال: هل يحلون ما حرم عليهم أو يحرمون ما حلل لهم؟ قلت: لا. قال: فإن هؤلاء القوم لا يزالون على ظفر حتى يحلوا حرامهم أو يحرموا حلالهم. ثم قال: أخبرني عن لباسهم؟ فأخبرته، وعن مطاياهم؟ فقلت: الخيل العراب، ووصفتها له. فقال: نعمت الحصون! ووصفت له الإبل وبروكها وقيامها بحملها. فقال: هذه صفة دواب طوال الأعناق. وكتب معه إلى يزدجرد: إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجند أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علي، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك لو يحاولون الجبال لهدوها ولو خلا لهم سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف، فسالمهم وارض منهم بالمساكنة ولا تهيجهم ما لم يهيجوك. فأقام يزدجرد بفرغانة ومعه آل كسرى بعهد من خاقان.
ولما وصل خبر الفتح إلى عمر بن الخطاب جمع الناس، وخطبهم وقرأ عليهم كتاب الفتح وحمد الله في خطبته على إنجاز وعده ثم قال: ألا وإن ملك المجوسية قد هلك فليسوا يملكون من بلادهم شبراً يضر بمسلم. ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، فلا تبدلوا فيستبدل الله بكم غيركم، فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم.
وقيل: إن فتح خراسان كان زمن عثمان، وسيرد هناك.
ذكر فتح شهرزور والصامغانلما استعمل عمر عزرة بن قيس على حلوان حاول فتح شهرزور، فلم يقدر عليها، فغزاها عتبة بن فرقد ففتحها بعد قتال على مثل صلح حلوان، فكانت العقارب تصيب الرجل من المسلمين فيموت. وصالح أهل الصامغان وداراباذ على الجزية والخراج على أن لا يقتلوا ولا يسبوا ولا يمنعوا طريقاً يسلكونه، وقتل خلقاً كثيراً من الأكراد. وكتب إلى عمر: إن فتحوحي قد بلغت أذربيجان. فولاه إياها وولى هرثمة بن عرفجة الموصل. ولم تزل شهرزور وأعمالها مضمومة إلى الموصل حتى أفردت عنها آخر خلافة الرشيد.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا معاوية بلاد الروم ودخلها في عشرة آلاف فارس من المسلمين.
وفيها ولد يزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب؛ وكان عماله على الأمصار فيها عمالة في السنة قبلها إلا الكوفة، فإن عامله كان عليها المغيرة بن شعبة، وإلا البصرة فإن عامله عليها صار أبا موسى الأشعري.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرينقال بعضهم: كانفتح إصطخر سنة ثلاث وعشرين. وقيل: كان فتحها بعد توج الآخرة.
ذكر الخبر عن فتح توجلما خرج أهل البصرة الذين توجهوا إلى فارس أمراء عليها وكان معهم سارية ابن زنيم الكناني فساروا وأهل فارس مجتمعن بتوج فلم يقصدهم المسلمون بل توجه كل أمير إلى الجهة التي أمر بها. وبلغ ذلك أهل فارس، فافترقوا إلى بلدانهم كما افترق المسلمون، فكانت تلك هزيمتهم وتشتت أمورهم. فقصد مجاشع بن مسعود لسابور وأردشير خرة، فالتقى هو والفرس بتوج فاقتتلوا ما شاء الله، ثم انهزم الفرس وقتلهم المسلمون كيف شاؤوا كل قتلة وغنموا ما في عسكرهم وحصروا توج فافتتحوها وقتلوا منهم خلقاً كثيراً وغنموا ما فيها، وهذه توج الآخرة، والأولى هي التي استقدمتها جنود العلاء بن الحضرمي أيام طاووس. ثم دعوا إلى الجزية فرجعوا وأقروا بها. وأرسل مجاشع بن مسعود السلمي بالبشارة والأخماس إلى عمر بن الخطاب.
ذكر فتح إصطخر وجور وغيرهماوقصد عثمان بن أبي العاص الثقفي لإصطخر فالتقى هو وأهل إصطخر بجور فاقتتلوا وانهزم الفرس وفتح المسلمون جور ثم إصطخر وقتلوا ما شاء الله، ثم فر منهم من فر، فدعاهم عثمان إلى الجزية والذمة، فأجابه الهربذ إليها، فتراجعوا، وكان عثمان قد جمع الغنائم لما هزمهم فبعث بخمسها إلى عمر وقسم الباقي في الناس.
وفتح عثمان كازرون والنوبندجان وغلب على أرضها؛ وفتح هو وأبو موسى مدينة شيراز وأرجان، وفتحا سينيز على الجزية والخراج. وقصد عثمان أيضاً جنابا ففتحها، ولقيه جمع الفرس بناحية جهرم فهزمهم وفتحها.
ثم إن شهرك خلع في آخر خلافة عمر وأول خلافة عثمان. فوجه إليه عثمان بن أبي العاص ثانيةً وأتته الأمداد من البصرة وأميرهم عبيد الله بن معمر وشبل بن معبد، فالتقوا بأرض فارس. فقال شهرك لابنه وهما في المعركة، وبينهما وبين قرية لهما تدعى ريشهر ثلاثة فراسخ: يا بني أين يكون غداؤنا ههنا أم بريشهر؟ قال له: يا أبه، إن تركونا فلا يكون غداؤنا ههنا ولا بريشهر ولا نكونن إلا في المنزل، ولكن والله ما أراهم يتركوننا. فلما فرغا من كلامهما حتى أنشب المسلمون الحرب فاقتتلوا قتالاً شديداً وقتل شهرك وابنه وخلق عظيم. والذي قتل شهرك الحكم بن أبي العاص أخو عثمان. وقيل: قتله سوار بن همام العبدي حمل عليه فطعنه فقتله. وحمل ابن شهرك على سوار فقتله.
وقيل: إن إصطخر كانت سنة ثمان وعشرين، وكانت فارس الآخرة سنة تسع وعشرين.
وقيل: إن عثمان بن أبي العاص أرسل أخاه الحكم من البحرين في ألفين إلى فارس ففتح جزيرة بركاوان في طريقه ثم سار إلى توج، وكان كسرى أرسل شهرك فالتقوا مع شهرك، وكان الجارود وأبو صفرة على مجنبتي المسلمين، وأبو صفرة هذا هو والد المهلب، فحمل الفرس على المسلمين فهزموهم. فقال الجارود: أيها الأمير ذهب الجند. فقال: سترى أمرك. قال: فما لبثوا حتى رجعت خيلٌ لهم ليس عليها فرسانها والمسلمون يتبعونهم يقتلونهم، فنثرت الرؤوس بين يدي ومعي بعض ملوكهم يقال المكعبر فارق كسرى ولحق بي فرأى المكعبر رأساً ضخماً فقال: أيها الأمير هذا رأس الازدهاق، يعني شهرك. وحوصر الفرس بمدينة سابور، فصالح عليها ملكها أرزنبان، فاستعان به الحكم على قتال أهل إصطخر. ومات عمر. وبعث عثمان بن عفان عبيد الله بن معمر مكانه، فبلغ عبيد الله أن أرزنبان يريد الغدر به، فقال له: أحب أن تتخذ لأصحابي طعاماً وتذبح لهم بقرة وتجعل عظامها في الجفنة التي تليني فإني أحب أن أتمشش العظام، ففعل وجعل يأخذ العظم الذي لا يكسر إلا بالفؤوس فيكسره بيده ويأخذ مخه، وكان من أشد الناس، فقام أرزنبان فأخذ برجله وقال: هذا مقام العائذ بك! فأعطاه عهداً. وأصاب عبيد الله منجنيق فأوصاهم وقال: إنكم ستفتحون هذه المدينة إن شاء الله فاقتلوهم بي ساعة فيها، ففعلوا، فقتلوا منهم بشراً كثيراً، ومات عبيد الله بن معمر. وقيل: إن قتله كان سنة تسع وعشرين.
ذكر فتح فسا ودارابجرد
وقصد سارية بن زنيم الدئلي فسا ودار ابجرد حتى انتهى إلى عسكرهم فنزل عليهم وحاصرهم ما شاء الله، ثم إنهم استمدوا وتجمعوا وتجمعت إليهم أكراد فارس، فدهم المسلمين أمر عظيم، وجمعٌ كثير، وأتاهم الفرس من كل جانب، فرأى عمر فيما يرى النائم تلك الليلة معركتهم وعددهم في ساعة من النهار، فنادى من الغد: الصلاة جامعة! حتى إذا كان في الساعة التي رأى فيها ما رأى خرج إليهم، وكان ابن زنيم والمسلمون بصحراء إن أقاموا فيها أحيط بهم، وإن استندوا إلى جبل من خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد. فقام فقال: يا أيها الناس، إني رأيت هذين الجمعين، وأخبر بحالهما. وصاح عمر وهو يخطب: يا سارية بن زنيم، الجبل الجبل! ثم أقبل عليهم وقال: إن لله جنوداً، ولعل بعضها أن يبلغهم. فسمع سارية ومن معه الصوت فلجؤوا إلى الجبل، ثم قاتلوهم، فهزمهم الله وأصاب المسلمون مغانمهم، وأصابوا في الغنائم سفطاً فيه جوهر، فاستوهبه منهم سارية وبعث به وبالفتح مع رجل إلى عمر. فقدم على عمر وهو يطعم الطعام، فأمره فجلس وأكل، فلما انصرف عمر اتبعه الرسول، فظن عمر أنه لم يشبع، فأمره فدخل بيته، فلما جلس أتي عمر بغدائه خبز وزيت وملح جريش فأكلا. فلما فرغا قال الرجل: أنا رسول سارية يا أمير المؤمنين. قال: مرحباً وأهلاً. ثم أدناه حتى مست ركبته ركبته، وسأله عن المسلمين، فأخبره بقصة الدرج، فنظر إليه وصاح به: لا ولا كرامة حتى يقدم على ذلك الجند فيقسمه بينهم. فطرده، فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد أنضيت جملي واستقرضت في جائزتي فأعطني ما أتبلغ به. فما زال به حتى أبدله بعيراً من إبل الصدقة وجعل بعيره في إبل الصدقة ورجع الرسول مغضوباً عليه محروماً. وسأل أهل المدينة الرسول هل سمعوا شيئاً يوم الوقعة؟ قال: نعم سمعنا: يا سارية، الجبل الجبل، وقد كدنا نهلك فلجأنا إليه ففتح الله علينا.
ذكر فتح كرمانثم قصد سهيل بن عدي كرمان، ولحقه أيضاً عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وعلى مقدمة سهيل بن عدي النسير بن عمرو العجلي وحشد لهم أهل كرمان واستعانوا عليهم بالقفص، فاقتتلوا في أداني أرضهم، ففض الله تعالى المشركين وأخذ المسلمون عليهم الطريق. وقتل النسير ابن عمرو العجلي مرزبانها، فدخل النسير من قبل طريق القرى اليوم إلى جيرفت، وعبد الله بن عبد الله من مفازة سير، فأصابوا ما أرادوا من بعير أو شاء، فقوموا الإبل والغنم فتحاصوها بالأثمان لعظم البخت على العراب، وكرهوا أن يزيدوا، وكتبوا إلى عمر بذلك، فأجابهم: إذا رأيتم أن في البخت فضلاً فزيدوا.
وقيل: إن الذي فتح كرمان عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي في خلافة عمر، ثم أتى الطبسين من كرمان، ثم قدم على عمر فقال: أقطعني الطبسين، فأراد أن يفعل، فقيل: إنهما رستاقان عظيمان، فامتنع عمر من ذلك.
ذكر فتح سجستانوقصد عاصم بن عمرو سجستان، ولحقه عبد الله بن عمير، فاستقبلهم أهلها، فالتقوا هم وأهل سجستان في أداني أرضهم، فهزمهم المسلمون، ثم اتبعوهم حتى حصروهم بزرنج ومخروا أرض سجستان ماه، ثم إنهم طلبوا الصلح على زرنج وما احتازوا من الأرضين فأعطوا، وكانوا قد اشترطوا في صلحهم أن فدافدها حمىً، فكان المسلمون يتجنبونها خشية أن يصيبوا منها شيئاً فيخفروا، وأقيم أهل سجستان على الخراج، وكانت سجستان أعظم من خراسان وأبعد فروجاً، يقاتلون القندهار والترك وأمماً كثيرة، فلم يزل كذلك حتى كان زمن معاوية، فهرب الشاه من أخيه رتبيل إلى بلد فيها يدعى آمل، ودان لسلم بن زياد، وهو يومئذ على سجستان، ففرح بذلك وعقد لهم وأنزلهم البلاد وكتب إلى معاوية بذلك يري أنه فتح عليه. فقال معاوية: إن ابن أخي ليفرح بأمرٍ إنه ليحزنني وينبغي له أن يحزنه. قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: إن آمل بلدة بينها وبين زرنج صعوبة وتضايق، وهؤلاء قوم غدر، فإذا اضطرب الحبل غداً فأهون ما يجيء منهم أنهم يغلبون على بلاد آمل بأسرها. وأقرهم على عهد سلم بن زياد. فلما وقعت الفتنة بعد معاوية كفر الشاه وغلب على آمل واعتصم منه رتبيل بمكانه، ولم يرضه ذلك حين تشاغل عنه الناس حتى طمع في زرنج فغزاها وحصر من بها حتى أتتهم الأمداد من البصرة، وصار رتبيل والذين معه عصبة، وكانت تلك البلاد مذللة إلى أن مات معاوية.
وقيل في فتح سجستان غير هذا، وسيرد ذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر فتح مكرانوقصد الحكم بن عمرو التغلبي مكران حتى انتهى إليها، ولحق به شهاب ابن المخارق وسهيل بن عدي وعبد الله بن عبد الله بن عتبان، فانتهوا إلى دوين النهر، وأهل مكران على شاطئه، فاستمد ملكهم ملك السند، فأمده بجيش كثيف، فالتقوا مع المسلمين فانهزموا وقتل منهم في المعركة مقتلة عظيمة واتبعهم المسلمون يقتلونهم أياماً حتى انتهوا إلى النهر، ورجع المسلمون إلى مكران فأقاموا بها. وكتب الحكم إلى عمر بالفتح وبعث إليه بالأخماس مع صحار العبدي. فلما قدم المدينة سأله عمر عن مكران، فقال: يا أمير المؤمنين، هي أرض سهلها جبل، وماؤها وشلٌ، وتمرها دقلٌ، وعدوها بطل؛ وخيرها قليلٌ، وشرها طويلٌ، والكثير فيها قليلٌ، والقليل فيها ضائع، وما وراءها شر منها، فقال: أسجاع أنت أم مخبر؟ لا والله لا يغزوها جيش لي أبداً. وكتب إلى سهيل والحكم بن عمرو: أن لا يجوزن مكران أحد من جنودكما. وأمرهما ببيع الفيلة التي غنمها المسلمون ببلاده الإسلام وقسم أثمانها على الغانمين، مكران بضم الميم وسكون الكاف.
ذكر خبر بيروذ من الأهوازولما فصلت الخيول إلى الكور، اجتمع ببيروذ جمعٌ عظيمٌ من الأكراد وغيرهم. وكان عمر قد عهد إلى أبي موسى أن يسير إلى أقصى ذمة البصرة حتى لا يؤتى المسلمون من خلفهم، وخشي أن يهلك بعض جنوده أو يخلفوا في أعقابهم، فاجتمع الأكراد ببروذ، وأبطأ أبو موسى حتى تجمعوا، ثم سار فنزل بهم ببيروذ، فالتقوا في رمضان بين نهر تيري ومناذر، فقام المهاجر بن زياد وقد تحنط واستقتل، وعزم أبو موسى على الناس فأفطروا، وتقدم المهاجر فقاتل قتالاً شديداً حتى قتل. ووهن الله المشركين حتى تحصنوا في قلة وذلة، واشتد جزع الربيع بن زياد على أخيه المهاجر وعظم عليه فقده، فرق له أبو موسى فاستخلفه عليهم في جند، وخرج أبو موسى حتى بلغ أصبهان واجتمع بها بالمسلمين الذين يحاصرون جياً، فلما فتحت رجع أبو موسى إلى البصرة، وفتح الربيع بن زياد الحارثي بيروذ من نهر تيري وغنم ما معهم.
ووفد أبو موسى وفداً معهم الأخماس، فطلب ضبة بن محصن العنزي أن يكون في الوفد فلم يجبه أبو موسى، وكان أبو موسى قد اختار من سبي بيروذ ستين غلاماً، فانطلق ضبة إلى عمر شاكياً، وكتب أبو موسى إلى عمر يخبره، فلما قدم ضبة على عمر سلم عليه. فقال: من أنت؟ فأخبره. فقال: لا مرحباً ولا أهلاً! فقال: أما المرحب فمن الله، وأما الأهل فلا أهل. ثم سأله عمر عن حاله فقال: إن أبا موسى انتقى ستين غلاماً من أبناء الدهاقين لنفسه وله جارية تغدى جفنةً وتعشى جفنةً تدعى عقيلة، وله قفيزان وله خاتمان، وفوض إلى زياد بن أبي سفيان أمور البصرة، وأجاز الحطيئة بألف.
فاستدعى عمر أبا موسى. فلما قدم عليه حجبه أياماً ثم استدعاه فسأل عمر ضبة عما قال فقال: أخذ ستين غلاماً لنفسه. فقال أبو موسى: دللت عليهم وكان لهم فداء ففديتهم وقسمته بين المسلمين. فقال ضبة: ما كذب ولا كذبت. فقال: له قفيزان. فقال أبو موسى: قفيزٌ لأهلي أقوتهم به وقفيز للمسلمين في أيديهم يأخذون به أرزاقهم. فقال ضبة: ما كذب ولا كذبت. فلما ذكر عقيلة سكت أبو موسى ولم يعتذر. فعلم أن ضبة قد صدقه، قال: وولى زياداً. قال: رأيت له رأياً ونبلاً فأسندت إليه عملي. قال: وأجاز الحطيئة بالف. قال: سددت فمه بمالي أن يشتمني. فرده عمر وأمره أن يرسل إليه زياداً وعقيلة، ففعل. فلما قدم عليه زياد سأله عن حاله وعطائه والفرائض والسنن والقرآن، فرآه فقيهاً، فرده وأمر أمراء البصرة أن يسيروا برأيه، وحبس عقيلة بالمدينة.
وقال عمر: ألا إن ضبة غضب على أبي موسى وفارقه مراغماً أن فاته أمر من أمور الدنيا فصدق عليه وكذب، فأفسد كذبه صدقه، فإياكم والكذب فإنه يهدي إلى النار.
بيروذ: بفتح الباء الموحدة، وسكون الياء تحتها نقطتان، وضم الراء، وسكون الواو، وآخره ذال معجمة.
ذكر خبر سلمة بن قيس الأشجعي والأكراد
كان عمر إذا اجتمع إليه جيش من المسلمين أمر عليهم أميراً من أهل العلم والفقه، فاجتمع إليه جيش من المسلمين، فبعث عليهم سلمة بن قيس الأشجعي. فقال: سر باسم الله، قاتل في سبيل الله من كفر بالله، فإذا لقيتم عدوكم فادعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وأقاموا بدارهم فعليهم الزكاة وليس لهم من الفيء نصيب، وإن ساروا معكم فلهم مثل الذي لكم وعليهم مثل الذي عليكم، وإن أبوا فادعوهم إلى الجزية، فإن أجابوا فاقبلوا منهم وإن أبوا فقاتلوهم، وإن تحصنوا منكم وسألوكم أن ينزلوا على حكم الله ورسوله أو ذمة الله ورسوله فلا تجيبوهم، فإنكم لا تدرون أتصيبون حكم الله ورسوله وذمتهما أم لا؛ ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً، ولا تمثلوا.
قال: فساروا حتى لقوا عدواً من الأكراد المشركين فدعوهم إلى الإسلام أو الجزية، فلم يجيبوا، فقاتلوهم فهزموهم وقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية فقسمه بينهم، ورأى سلمة جوهراً في سفط فاسترضى عنه المسلمين وبعث به إلى عمر. فقدم الرسول بالبشارة وبالسقط على عمر، فسأله عن أمور الناس وهو يخبره، حتى أخبره بالسفط، فغضب غضباً شديداً وأمر به فوجىء به في عنقه، ثم إنه قال: إن تفرق الناس قبل أن تقدم عليهم ويقسمه سلمة فيهم لأسوءنك. فسار حتى قدم على سلمة فباعه وقسمه في الناس. وكان الفص يباع بخمسة دراهم وقيمته عشرون ألفاً.
وحج بالناس هذه السنة عمر بن الخطاب وحج معه أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، وهي آخر حجة حجها، وفيها قتل عمر، رضي الله عنه.
ذكر الخبر عن مقتل عمر
رضي الله عنهقال المسور بن مخرمة: خرج عمر بن الخطاب يطوف يوماً في السوق، فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، وكان نصرانياً، فقال: يا أمير المؤمنين، أعدني على المغيرة بن شعبة فإن علي خراجاً كثيراً. قال: وكم خراجك؟ قال: درهمان كل يوم. قال: وأيشٍ صناعتك؟ قال: نجار، نقاش، حداد. قال: فما أرى خراجك كثيراً على ما تصنع من الأعمال، وقد بلغني أنك تقول: لو أردت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت! قال: نعم. قال: فاعمل لي رحى. قال: لئن سلمت لأعملن لك رحىً يتحدث بها من بالمشرق والمغرب! ثم انصرف عنه. فقال عمر: لقد أوعدني العبد الآن.
ثم انصرف عمر إلى منزله، فلما كان الغد جاءه كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين، اعهد فإنك ميت في ثلاث ليال. قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب التوراة. قال عمر: الله! إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا ولكني أجد حليتك وصفتك وأنك قد فني أجلك. قال: وعمر لا يحس وجعاً! فلما كان الغد جاءه كعب فقال: بقي يومان. فلما كان الغد جاءه كعبٌ فقال: مضى يومان وبقي يوم. فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة وكان يوكل بالصفوف رجالاً فإذا استوت كبر، ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته وهي التي قتلته، وقتل معه كليب بن أبي البكير الليثي وكان خلفه، وقتل جماعة غيره.
فلما وجد عمر حر السلاح سقط وأمر عبد الرحمن بن عوف فصلى بالناس، وعمر طريح، فاحتمل فأدخل بيته، ودعا عبد الرحمن فقال له: إني أريد أن أعهد إليك. قال: أتشير علي بذلك؟ قال: لا. قال: والله، لا أدخل فيه أبداً. قال: فهبني صمتاً حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راضٍ. ثم دعا علياً وعثمان والزبير وسعداً فقال: انتظروا أخاكم طلحة ثلاثاً فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم؛ أنشدك الله يا علي إن وليت من أمور الناس شيئاً ألا تحمل بني هاشم على رقاب الناس، أنشدك الله يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئاً ألا تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، أنشدك الله يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئاً ألا تحمل أقاربك على رقاب الناس، قوموا فتشاوروا ثم اقضوا أمركم وليصل بالناس صهيب..
ثم دعا أبا طلحة الأنصاري، فقال: قم على بابهم فلا تدع أحداً يدخل إليهم.
وأوصي الخليفة من بعدي بالأنصار الذي تبوأوا الدار والإيمان أن يحسن إلى محسنهم ويعفو عن مسيئهم، وأوصي الخليفة بالعرب، فإنهم مادة الإسلام، أن يؤخذ من صدقاتهم حقها فتوضع في فقرائهم، وأوصي الخليفة بذمة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يوفي لهم بعهدهم، اللهم هل بلغت؟ لقد تركت الخليفة من بعدي على أنقى من الراحة؛ يا عبد الله بن عمر، اخرج فانظر من قتلني.
قال: يا أمير المؤمنين، قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة. قال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل سجد لله سجدةً واحدةً! يا عبد الله بن عمر، اذهب إلى عائشة فسلها أن تأذن لي أن أدفن مع النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر. يا عبد الله، إن اختلف القوم فكن مع الأكثر، فإنن تشاوروا فكن مع الحزب الذي فيه عبد الرحمن بن عوف، يا عبد الله، ائذن للناس. فجعل يدخل عليه المهاجرون والأنصار فيسلمون عليه ويقول لهم: أهذا عن ملإٍ منكم؟ فيقولون: معاذ الله! قال: ودخل كعب الأحبار مع الناس فلما رآه عمر قال:
توعدني كعبٌ ثلاثاً أعدها ... ولا شك أن القول ما قال لي كعب
وما بي حذار الموت، إني لميتٌ ... ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب
ودخل عليه علي يعوده فقعد عند رأسه، وجاء ابن عباس فأثنى عليه، فقال له عمر: أنت لي بهذا يا ابن عباس؟ فأومأ إليه علي أن قل نعم. فقال ابن عباس: نعم. فقال عمر: لا تغرني أنت وأصحابك. ثم قال: يا عبد الله، خذ رأسي عن الوسادة فضعه في التراب لعل الله، جل ذكره، ينظر إلي فيرحمني، والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع.
ودعي له طبيب من بني الحرث بن كعب فسقاه نبيذاً فخرج غير متغير، فسقاه لبناً فخرج كذلك أيضاً، فقال له: اعهد يا أمير المؤمنين. قال: قد فرغت.
ولما احتضر ورأسه في حجر ولده عبد الله قال:
ظلومٌ لنفسي غير أني مسلمٌ ... أصلي الصلاة كلها وأصوم
ولم يذكر الله تعالى ويديم الشهادة إلى ان توفي ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين. وقيل: طعن يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة ودفن يوم الأحد هلال محرم سنة أربع وعشرين.
وكانت ولايته عشر سنين وستة أشهر وثمانية أيام، وبويع عثمان لثلاث مضين من المحرم. وقيل: كانت وفاته لأربع بقين من ذي الحجة وبويع عثمان لليلة بقيت من ذي الحجة استقبل بخلافته هلال محرم سنة أربع وعشرين. وكانت خلافة عمر على هذا القول عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام. وصلى عليه صهيب، وحمل إلى بيت عائشة، ودفن عند النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، ونزل في قبره عثمان وعلي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وعبد الله بن عمر.
ذكر نسب عمر وصفته وعمرهفأما نسبه فهو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، وكنيته أبو حفص، وأمه حنتمة بنت هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي ابنت عم أبي جهل، وقد زعم من لا معرفة له أنها أخت أبي جهل، وليس بشيء.
وسماه النبي، صلى الله عليه وسلم، الفاروق، وقيل: بل سماه أهل الكتاب.
وأما صفته فكان طويلاً آدم أصلع أعسر يسراً، يعني يعمل بيديه، وكان لطوله كأنه راكبٌ، وقيل: كان أبيض أبهق، يعني شديد البياض، تعلوه حمرة، طوالاً أصلع أشيب، وكان يصفر لحيته ويرجل رأسه بالحناء. وكان مولده قبل الفجار بأربع سنين، وكان عمره خمساً وخمسين سنة، وقيل: ابن ستين سنة، وقيل: ابن ثلاث وستين سنة وأشهر، وهو الصحيح، وقيل: ابن إحدى وستين سنة.
رياح بكسر الراء وبالياء تحتها نقطتان.
ذكر أسماء ولده ونسائه
تزوج عمر في الجاهلية زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح فولدت له عبد الله وعبد الرحمن الأكبر وحفصة. وتزوج مليكة بنت جرول الخزاعي في الجاهلية، فولدت له عبيد الله بن عمر، ففارقها في الهدنة، فخلف عليها أبو جهم بن حذيفة، وقتل عبيد الله بصفين مع معاوية، وقيل: كانت أمه أم زيد الأصغر أم كلثوم بنت جرول الخزاعي، وكان الإسلام فرق بينها وبين عمر. وتزوج قريبة بنت أبي أمية المخزومي في الجاهلية، ففارقها في الهدنة أيضاً، فتزوجها بعده عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق، فكانا سلفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأن قريبة أخت أم سلمة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم. وتزوج أم حكيم بنت الحرث بن هشام المخزومي في الإسلام، فولدت له فاطمة فطلقها، وقيل لم يطلقها. وتزوج جميلة أخت عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأوسي الأنصاري في الإسلام، فولدت له عاصماً فطلقها، ثم تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وأمها فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأصدقها أربعين ألفاً، فولدت له رقية وزيداً. وتزوج لهية امرأة من اليمن، فولدت له عبد الرحمن الأوسط، وقيل الأصغر، وقيل: كانت أم ولد، وكانت عنده فكيهة أم ولد فولدت له زينب، وهي أصغر ولد عمر. وتزوج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت قبله عند عبد الله بن أبي بكر الصديق، فقتل عنها، فلما مات عمر تزوجها الزبير بن العوام، فقتل عنها أيضاً، فخطبها علي، فقالت: لا أفعل، إني أضن بك عن القتل فإنك بقية الناس. فتركها.
وخطب أم كثلوم ابنة أبي بكر الصديق إلى عائشة، فقالت أم كثلوم: لا حاجة لي فيه، إنه خشن العيش شديدٌ على النساء. فأرسلت عائشة إلى عمرو ابن العاص فقال: أنا أكفيك. فأتى عمر فقال: بلغني خبرٌ أعيذك بالله منه. قال: ما هو؟ قال: خطبت أم كلثوم بنت أبي بكر. قال: نعم، أفرغبت بي عنها أم رغبت بها عني؟ قال: ولا واحدة، ولكنها حدثةٌ نشأت تحت كنف أمير المؤمنين في لين ورفق، وفيك غلظة، ونحن نهابك وما نقدر أن نردك عن خلق من أخلاقك، فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك. وقال: فكيف بعائشة وقد كلمتها؟ قال: أنا لك بها وأدلك على خير منها، أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب تعلق منها بسبب من رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وخطب أم أبان بنت عتبة بن ربيعة فكرهته وقالت: يغلق بابه، ويمنع خيره، ويدخل عابساً ويخرج عابساً.
ذكر بعض سيرته رضي الله عنهقال عمر: إنما مثل العرب مثل جمل أنفٍ اتبع قائده فلينظر قائده حيث يقوده، فأما أنا فورب الكعبة لأحملنهم على الطريق! قال نافع العيشي: دخلت حير الصدقة مع عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، قال: فجلس عثمان في الظل يكتب وقام علي على رأسه يملي عليه ما يقول عمر، وعمر قائم في الشمس في يوم شديد الحر عليه بردان أسودان اتزر بأحدهما ولف الآخر على رأسه يعد إبل الصدقة يكتب ألوانها وأسنانها. فقال علي لعثمان: في كتاب الله: (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) القصص: ثم أشار علي بيده إلى عمر وقال: هذا القوي الأمين.
وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: رأيت عمر أخذ بتبنة من الأرض فقال: يا ليتني هذه التبنة، يا ليتني لم أك شيئاً، يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت نسياً منسياً. وقال الحسن: قال عمر: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولاً فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني أما عمالهم فلا يرفعونها إلي، وأما هم فلا يصلون إلي، فأسير إلى الشام فأقيم شهرين، وبالجزيرة شهرين، وبمصر شهرين، وبالبحرين شهرين، وبالكوفة شهرين، وبالبصرة شهرين، والله لنعم الحول هذا! وقيل لعمر: إن ههنا رجلاً من الأنبار له بصر بالديوان لو اتخذته كاتباً. فقال: لقد اتخذت إذن بطانةً من دون المؤمنين.
قيل: خطب عمر الناس فقال: والذي بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم، بالحق لو أن جملاً هلك ضياعاً بشط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه.
وقال أبو فراس: خطب عمر الناس فقال: أيها الناس، إني والله ما أرسل إليكم عمالاً ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم وإنما أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه. فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيتك إن كان رجل من أمراء المسلمين على رعية فأدب بعض رعيته إن لتقصه منه؟ قال: إي والذي نفس عمر بيده إذن لأقصنه منه، وكيف لا أقصه منه وقد رأيت النبي، صلى الله عليه وسلم، يقص من نفسه! ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تحمدوهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم.
قال بكر بن عبد الله: جاء عمر بن الخطاب إلى باب عبد الرحمن بن عوف وهو يصلي في بيته ليلاً، فقال له عبد الرحمن: ما جاء بك في هذه الساعة؟ قال: رفعةٌ نزلت في ناحية السوق خشيت عليهم سراق المدينة، فانطلق فلنحرسهم. فأتيا السوق فقعدا على نشز من الأرض يتحدثان، فرفع لهما مصباحٌ فقال عمر: ألم أنه عن المصابيح بعد النوم؟ فانطلقا فإذا قوم على شراب لهم. قال: انطلق فقد عرفته. فلما أصبح أرسل إليه قال يا فلان كنت وأصحابك البارحة على شراب! قال: وما أعلمك يا أمير المؤمنين؟ قال: شيء شهدته. قال: أو لم ينهك الله عن التجسس؟ فتجاوز عنه.
وإنما نهى عمر عن المصابيح لأن الفأرة تأخذ الفتيلة فترمي بها في سقف البيت فتحرقه، وكانت السقوف من جريد، وقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نهى عن ذلك قبله.
وقال أسلم: وخرج عمر إلى حرة واقم وأنا معه، حتى إذا كنا بصرار إذا نار تسعر. فقال: انطلق بنا إليهم. فهرولنا حتى دنونا منهم فإذا بامرأة معها صبيان لها وقدر منصوبة على نار وصبيانها يتضاغون. فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء. وكره أن يقول: يا أصحاب النار. قالت: وعليك السلام. قال: أدنو؟ قالت: ادن بخير أو دع. فدنا فقال: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد. قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: من الجوع. قال: وأي شيء في هذه القدر؟ قالت: ما لي ما أسكتهم حتى يناموا فأنا أعللهم وأوهمهم أني أصلح لهم شيئاً حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر! قال: أي رحمك الله، ما يدري بكم عمر؟ قالت: يتولى أمرنا ويغفل عنا. فأقبل علي وقال: انطلق بنا. فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق فأخرج عدلاً فيه كبة شحم فقال: احمله على ظهري. قال أسلم: فقلت: أنا أحمله عنك، مرتين أو ثلاث فقال آخر ذلك: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة لا أم لك! فحملته عليه، فانطلق وانطلقت معه نهرول حتى انتهينا إليها، فألقى ذلك عندها وأخرج من الدقيق شيئاً فجعل يقول لها: ذري علي وأنا أحرك لك، وجعل ينفخ تحت القدر، وكان ذا لحية عظيمة، فجعلت أنظر إلى الدخان من خلل لحيته حتى أنضج ثم أنزل القدر، فأتته بصحفة فأفرغها فيها ثم قال: أطعميهم وأنا أسطح لك، فلم يزل حتى شبعوا، ثم خلى عندها فضل ذلك، وقام وقمت معه، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً، أنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين! فيقول: قولي خيراً فإنك إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك، إن شاء الله! ثم تنحى ناحيةً ثم استقبلا وربض لا يكلمني حتى رأى الصبية يضحكون ويصطرعون ثم ناموا وهدأوا، فقام وهو يحمد الله، فقال: يا أسلم، الجوع أسهرهم وأبكاهم فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيت منهم.
صرار بكسر الصاد المهملة ورائين.
قال سالم بن عبد الله بن عمر: كان عمر إذا نهى الناس عن شيء جمع أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجد أحداً منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة. قال سلام بن مسكين: وكان عمر إذا احتاج أتى صاحب بيت المال فاستقرضه، فربما أعسر فيأتيه صاحب بيت المال يتقاضاه فيلزمه فيحتال له عمر، وربما خرج عطاؤه فقضاه.
قال: وهو أول من دعي بأمير المؤمنين وذلك أنه لما ولي قالوا له: يا خليفة خليفة رسول الله. فقال عمر: هذا أمر يطول، كلما جاء خليفة قالوا يا خليفة خليفة خليفة رسول الله، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم، فسمي أمير المؤمنين.
وهو أول من كتب التاريخ، وقد تقدم.
وهو أول من اتخذ بيت مال، وأول من عس الليل، وأول من عاقب على الهجاء، وأول من نهى عن بيع أمهات الأولاد، وأول من جمع الناس في صلاة الجنازة على أربع تكبيرات، وكانوا قبل ذلك يصلون أربعاً وخمساً وستاً. قال الواقدي: وهو أول من جمع الناس على إمام يصلي بهم التراويح في شهر رمضان وكتب به إلى البلدان وأمرهم به، وهو أول من حمل الدرة وضرب بها، وأول من دون في الإسلام الدواوين وكتب الناس على قبائلهم وفرض لهم العطاء.
قال زاذان: قال عمر لسلمان: أملك أنا أم خليفة؟ قال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر ووضعته في غير حقه فأنت ملك غير خليفة. فبكى عمر.
وقال أبو هريرة: يرحم الله ابن حنتمة! لقد رأيته عام الرمادة وإنه ليحمل على ظهره جرابين وعكة زيت في يده وإنه ليتعقب هو وأسلم، فلما رآني قال: من أين يا أبا هريرة؟ قلت: قريباً، فأخذت أعقبه فحملناه حتى انتهينا إلى صرار فإذا نحو من عشرين بيتاً من محارب، فقال لهم: ما أقدمكم؟ قالوا: الجهد، وأخرجوا لنا جلد الميتة مشوياً كانوا يأكلونه ورمة العظام مسحوقة كانوا يستفونها، فرأيت عمر طرح رداءه ثم اتزر فما زال يطبخ حتى أشبعهم، ثم أرسل أسلم إلى المدينة فجاءنا بأبعرة فحملهم عليها حتى أنزلهم الجنانة ثم كساهم، وكان يختلف إليهم وإلى غيرهم حتى رفع الله ذلك.
قال أبو خيثمة: رأت الشفاء بنت عبد الله فتياناً يقصدون في المشي ويتكلمون رويداً، فقالت: ما هذا؟ قالوا: نساك، فقالت: كان والله عمر إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وهو والله ناسك حقاً.
قال الحسن: خطب عمر الناس وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة منها أدم. قال أبو عثمان النهدي: رأيت عمر يرمي الجمرة وعليه إزار مرقع بقطعة جراب، وقال عليٌّ: رأيت عمر يطوف بالكعبة وعليه إزار فيه إحدى وعشرون رقعة فيها من أدم.
وقال الحسن: كان عمر يمر بالآية من ورده فيسقط حتى يعاد كما يعاد المريض، وقيل: إنه سمع قارئاً يقرأ والطور، فلما انتهى إلى قوله تعالى: (إن عذاب ربك لواقعٌ ما له من دافعٍ) الطور: 7، سقط ثم تحامل إلى منزله فمرض شهراً من ذلك. قال الشعبي: كان عمر يطوف في الأسواق ويقرأ القرآن ويقضي بين الناس حيث أدركه الخصوم.
قال موسى بن عقبة: أتى رهط إلى عمر فقالوا له: كثر العيال واشتدت المؤونة فزدنا في عطائنا. قال: فعلتموها، جمعتم بين الضرائر واتخذتم الخدم من مال الله، لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقاً وغرباً فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم فإن استقام اتبعوه وإن جنف قتلوه. فقال طلحة: وما عليك لو قلت: وإن تعوج عزلوه؟ قال: لا، القتل أنكل لمن بعده، احذروا فتى ابن قريش وابن كريمها الذي لا ينام إلا على الرضا ويضحك عند الغضب وهو يتناول من فوقه ومن تحته.
قال مجالد: ذكر رجل عند عمر فقيل: يا أمير المؤمنين، فاضل لا يعرف من الشر شيئاً. قال: ذاك أوقع له فيه. قال صالح بن كيسان: قال المغيرة بن شعبة: لما دفن عمر أتيت علياً وأنا أحب أن أسمع منه في عمر شيئاً، فخرج ينفض رأسه ولحيته وقد اغتسل وهو ملتحف بثوب لا يشك أن الأمر يصير إليه، فقال: يرحم الله ابن الخطاب، لقد صدقت ابنة أبي حنتمة، ذهب بخيرها ونجا من شرها، أما والله ما قالت ولكن قولت. وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو في عمر:
فجعني فيروز لا در دره ... بأبيض تالٍ للكتاب منيب
رؤوفٍ على الأدنى غليظٍ على العدا ... أخي ثقةٍ في النائبات نجيب
متى ما يقل لا يكذب القول فعله ... سريعٍ إلى الخيرات غير قطوب
وقالت أيضاً:
عين جودي بعبرةٍ ونحيب ... لا تملي على الإمام النجيب
فجعتني المنون بالفارس المع ... لم يوم الهياج والتلبيب
عصمة الناس والمعين على الده ... ر وغيثٍ المنتاب والمحروب
قل لأهل الثراء والبؤس موتوا ... قد سقته المنون كأس شعوب
قال ابن المسيب: وحج عمر فلما كان بضجنان قال: لا إله إلا الله العظيم العلي المعطي ما شاء من شاء، كنت أرعى إبل الخطاب في هذا الوادي في مدرعة صوفٍ، وكان فظاً يتعبني إذا عملت ويضربني إذا قصرت، وقد أمسيت وليس بيني وبين الله أحد، ثم تمثل:
لا شيء فيما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودي المال والولد
لم تغن عن هرمزٍ يوماً خزائنه ... والخلد قد حاولت عادٌ فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح به ... والإنس والجن فيما بينها يرد
أين الملوك التي كانت نوافلها ... من كل أوبٍ إليها راكبٌ يفد
حوضاً هنالك موروداً بلا كذبٍ ... لابد من ورده يوماً كما وردوا
قال أسلم: إن هند بنت عتبة استقرضت عمر من بيت المال أربعة آلاف تتجر فيها وتضمنها، فأقرضها، فخرجت فيها إلى بلاد كلب فاشترت وباعت، فبلغها أن أبا سفيان وابنه عمراً أتيا معاوية، فعدلت إليه، وكان أبو سفيان قد طلقها، فقال لها معاوية: ما أقدمك أي أمه؟ قالت: النظر إليك أي بني، إنه عمر، وإنما يعمل لله وقد أتاك أبوك فخشيت أن تخرج إليه من كل شيء وأهل ذلك هو ولا يعلم الناس من أين أعطيته فيؤنبوك ويؤنبك عمر فلا يستقيلها أبداً. فبعث إلى أبيه وإلى أخيه بمائة دينار وكساهما وحملهما، فتسخطها عمرو، فقال أبو سفيان: لا تسخطها فإن هذا عطاء لم تغب عنه هند؛ ورجعوا جميعاً، فقال أبو سفيان لهند: أربحت؟ قالت: الله أعلم. فلما أتت المدينة وباعت شكت الوضيعة، فقال لها عمر: لو كان مالي لتركته لك، ولكنه مال المسلمين. وقال لأبي سفيان: بكم أجازك معاوية؟ قال: بمائة دينار.
قال ابن عباس: بينما عمر بن الخطاب وأصحابه يتذاكرون الشعر فقال بعضهم: فلان أشعر، وقال بعضهم: بل فلان أشعر، قال: فأقبلت فقال عمر: قد جاءكم أعلم الناس بها، من أشعر الشعراء؟ قال: قلت: زهير بن أبي سلمى. فقال: هلم من شعره ما نستدل به على ما ذكرت. فقلت: امتدح قوماً من غطفان فقال:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرمٍ ... قومٌ لأولهم يوماً إذا قعدوا
قومٌ أبوهم سنانٌ حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
جنٌّ إذا فزعوا إنسٌ إذا أمنوا ... ممردون بهاليلٌ إذا جهدوا
محسدون على ما كان من نعمٍ ... لا ينزع الله منهم ما له حسدوا
فقال عمر: أحسن والله وما أعلم أحداً أولى بهذا الشعر من هذا الحي من بني هاشم لفضل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقرابتهم منه. فقلت: وفقت يا أمير المؤمنين ولم تزل موفقاً! فقال: يا ابن عباس، أتدري ما منع قومكم منهم بعد محمد، صلى الله عليه وسلم؟ فكرهت أن أجيبه فقلت: إن لم أكن أدري فإن أمير المؤمنين يدريني! فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحاً بجحاً، فاختارت قريشٌ لأنفسها فأصابت ووفقت. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب تكلمت. قال: تكلم. قلت: أما قولك يا أمير المؤمنين: اختارت قريشٌ لأنفسها فأصابت ووفقت، فلو أن قريشاً اختارت لأنفسها حين اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود. وأما قولك: إنهم أبوا أن تكون لنا النبوة والخلافة، فإن الله، عز وجل، وصف قوماً بالكراهة فقال: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) محمد: (. فقال عمر: هيهات والله يا ابن عباس، قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أقرك عليها فتزيل منزلتك مني. فقلت: ما هي يا أمير المؤمنين؟ فإن كانت حقاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كنت باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه. فقال عمر: بلغني أنك تقول: إنما صرفوها عنك حسداً وبغياً وظلماً. فقلت: أما قولك يا أمير المؤمنين: ظلماً، فقد تبين للجاهل والحليم، وأما قولك: حسداً، فإن آدم حسد ونحن ولده المحسدون. فقال عمر: هيهات هيهات! أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسداً لا يزول. فقلت: مهلاً يا أمير المؤمنين، لا تصف قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً بالحسد والغش، فإن قلب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من قلوب بني هاشم. فقال عمر: إليك عني يا ابن عباس. فقلت: أفعل. فلما ذهبت لأقوم استحيا مني فقال: يا ابن عباس، مكانك! فوالله إني لراعٍ لحقك محب لما سرك. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن لي عليك حقاً وعلى كل مسلم، فمن حفظه فحظه أصاب، ومن أضاعه فحظه أخطأ. ثم قام فمضى.
ذكر قصة الشورىقال عمر بن ميمون الأودي: إن عمر بن الخطاب لما طعن قيل له: يا أمير المؤمنين لو استخلفت. فقال: لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: (إنه أمين هذه الأمة). ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: (إن سالماً شديد الحب لله تعالى). فقال له رجل: أدلك على عبد الله بن عمر. فقال: قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا! ويحك! كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته؟ لا أرب لنا في أموركم، فما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيراً فقد أصبنا منه، وإن كان شراً فقد صرف عنا، بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ويسأل عن أمر أمة محمد، أما لقد جهدت نفسي وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافاً لا وزر ولا أجر إني لسعيد، وأنظر فإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، ولن يضيع الله دينه.
فخرجوا ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو عهدت عهداً. فقال: قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فأولي رجلاً أمركم هو أحراكم أن يحملكم على الحق، وأشار إلى علي، فرهقتني غشية فرأيت رجلاً دخل جنة فجعل يقطف كل غضة ويانعة فيضمه إليه ويصيره تحته، فعلمت أن الله غالبٌ على أمره، ومتوف عمر فما أردت أن أتحملها حياً وميتاً، عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إنهم من أهل الجنة، وهم علي وعثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله، فليختاروا منهم رجلاً، فإذا ولوا والياً فأحسنوا موازرته وأعينوه.
فخرجوا فقال العباس لعلي: لا تدخل معهم. قال: إني أكره الخلاف. قال: إذن ترى ما تكره. فلما أصبح عمر دعا علياً وعثمان وسعداً وعبد الرحمن والزبير فقال لهم: إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو عنكم راضٍ، وإني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم ولكني أخاف فيما بينكم فيختلف الناس، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنا فتشاوروا فيها واختاروا رجلاً منكم. ووضع رأسه وقد نزفه الدم.
فدخلوا فتناجوا حتى ارتفعت أصواتهم، فقال عبد الله بن عمر: سبحان الله! إن أمير المؤمنين لم يمت بعد. فسمعه عمر فانتبه وقال: ألا أعرضوا عن هذا فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام وليصل بالناس صهيب ولا يأتين اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيراً ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فأمضوا أمركم، ومن ولي بطلحة؟ فقال سعد ابن أبي وقاص: أنا لك به ولا يخالف إن شاء الله تعالى. فقال عمر: أرجو أن لا يخالف إن شاء الله، وما أظن يلي إلا أحد هذين الرجلين: علي أو عثمان، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي علي ففيه دعابة، وأحرى به أن يحملهم على طريق الحق، وإن تولوا سعداً فأهله هو وإلا فليستعن به الوالي، فإني لم أعزله عن ضعف ولا خيانة، ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف، فاسمعوا منه وأطيعوا.
وقال لأبي طلحة الأنصاري: يا أبا طلحة، إن الله طالما أعز بكم الإسلام فاختر خمسين رجلاً من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلاً منهم.
وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلاً منهم.
وقال لصهيب: صل بالناس ثلاثة أيام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم، فإن اجتمع خمسة وأبى واحدٌ فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعةٌ وأبى اثنان فاضرب رأسيهما، وإن رضي ثلاثة رجلاً وثلاثة رجلاً فحكموا عبد الله بن عمر، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله ابن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع فيه الناس.
فخرجوا فقال علي لقوم معه من بني هاشم: أن أطيع فيكم قومكم لم تؤمروا أبداً، وتلقاه عمه العباس فقال: عدلت عنا! فقال: وما علمك؟ قال: قرن بني عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلاً ورجلان رجلاً فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن، فسعد لا يخالف ابن عمه، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون فيوليها أحدهما الآخر، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني. فقال له العباس: لم أرفعك في شيء إلا رجعت إلي مستأخراً لما أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيت، فأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى أن لا تدخل معهم فأبيت، احفظ عني واحدة: كلما عرض عليك القوم فقل: لا، إلا أن يولوك، واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم به لنا غيرنا، وأيم الله لا يناله إلا بشر لا ينفع معه خير! فقال علي: أما لئن بقي عثمان لأذكرنه ما أتى، ولئن مات ليتداولنها بينهم، ولئن فعلوا لتجدني حيث يكرهون، ثم تمثل:
حلفت برب الراقصات عشية ... غدون خفافاً فابتدرن المحصبا
ليختلين رهط ابن يعمر قارناً ... نجيعاً بنو الشداخ ورداً مصلبا
والتفت فرأى أبا طلحة فكره مكانه، فقال أبو طلحة: لن تراع أبا الحسن.
فلما مات عمر وأخرجت جنازته صلى عليه صهيب، فلما دفن عمر جمع المقداد أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة، وقيل: في بيت المال وقيل: في حجرة عائشة بإذنها، وطلحة غائب، وأمروا أبا طلحة أن يحجبهم، وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب، فحصبهما سعد وأقامهما وقال: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا في أهل الشورى! فتنافس القوم في الأمر وكثر فيهم الكلام، فقال أبو طلحة: أنا كنت لأن تدفعوها أخوف مني لأن تنافسوها، والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمر، ثم أجلس في بيتي فأنظر ما تصنعون! فقال عبد الرحمن: أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم؟ فلم يجبه أحدٌ. فقال: فأنا أنخلع منها. فقال عثمان: أنا أول من رضي. فقال القوم: قد رضينا. وعلي ساكت. فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: أعطني موثقاً لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى ولا تخص ذا رحم ولا تألو الأمة نصحاً. فقال: أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدل وغير وأن ترضوا من اخترت لكم، وعلي ميثاق الله أن لا أخص ذا رحم لرحمه ولا آلو المسلمين، فأخذ منهم ميثاقاً وأعطاهم مثله، فقال لعي: تقول إني أحق من حضر بهذا الأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد، ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق به؟ قال: عثمان. وخلا بعثمان فقال: تقول شيخ من بني عبد مناف، وصهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وابن عمه، ولي سابقة وفضل، فأين يصرف هذا الأمر عني؟ ولكن لو لم تحضر أي هؤلاء الرهط تراه أحق به؟ قال: علي.
ولقي علي سعداً فقال له: (اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) النساء: ، أسألك برحم ابني هذا من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبرحم عمي حمزة منك ألا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيراً علي ودار عبد الرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس يشاورهم، حتى إذا كان الليلة التي صبيحتها تستكمل الأجل أتى منزل المسور بن مخرمة فأيقظه وقال له: لم أذق في هذه الليلة كبير غمض، انطلق فادع الزبير وسعداً. فدعاهما. فبدأ بالزبير فقال له: خل بني عبد مناف وهذا الأمر. قال: نصيبي لعلي. وقال لسعد: اجعل نصيبك لي. فقال: إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان فعليٌّ أحب إلي؛ أيها الرجل بايع لنفسك وأرحنا وارفع رؤوسنا. فقال له: قد خلعت نفسي على أن أختار، ولو لم أفعل لم أردها. إني رأيت روضة خضراء كثيرة العشب، فدخل فحلٌ ما رأيت أكرم منه فمر كأنه سهم لم يلتفت إلى شيء منها حتى قطعها لم يعرج، ودخل بعيرٌ يتلوه فاتبع أثره حتى خرج منها، ثم دخل فحلٌ عبقري يجر خطامه ومضى قصد الأولين، ثم دخل بعيرٌ رابع فرتع في الروضة، ولا والله لا أكون الرابع ولا يقوم مقام أبي بكر وعمر بعدهما أحد فيرضى الناس عنه.
قال: وأرسل المسور فاستدعى علياً فناجاه طويلاً وهو لا يشك أنه صاحب الأمر، ثم نهض، ثم أرسل إلى عثمان فتناجيا حتى فرق بينهما الصبح.
قال عمرو بن ميمون: قال لي عبد الله بن عمر: من أخبرك أنه يعلم ما كلم به عبد الرحمن بن عوف علياً وعثمان فقد قال بغير علم فوقع قضاء ربك على عثمان. فلما صلوا الصبح جمع الرهط وبعث إلى من حضره من المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار وإلى أمراء الأجناد فاجتمعوا حتى التج المسجد بأهله فقال: أيها الناس، إن الناس قد أجمعوا أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم، فأشيروا علي. فقال عمار: إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع علياً. فقال المقداد بن الأسود: صدق عمار، إن بايعت علياً قلنا: سمعنا وأطعنا. قال ابن أبي سرح: إن أردت أن لا تختلف قريشٌ فبايع عثمان. فقال عبد الله بن أبي ربيعة: صدقت إن بايعت عثمان قلنا: سمعنا وأطعنا. فتبسم عمارٌ ابن أبي سرح وقال: متى كنت تنصح المسلمين؟ فتكلم بنو هاشم وبنو أمية فقال عمار: أيها الناس، إن الله أكرمنا بنيه وأعزنا بدينه فأنى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم؟ فقال رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يا ابن سمية وما أنت وتأمير قريش لأنفسها! فقال سعد بن أبي وقاص: يا عبد الرحمن، افرغ قبل أن يفتتن الناس. فقال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً؛ ودعا علياً وقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعلمن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده. قال: أرجو أن أفعل فأعمل بمبلغ علمي وطاقتي؛ ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، فقال: نعم نعمل. فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان فقال: اللهم اسمع واشهد اللهم أني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان، فبايعه.
فقال علي: ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا، (فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون) يوسف: ، والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك، والله كل يوم في شأن! فقال عبد الرحمن: يا علي، لا تجعل على نفسك حجة وسبيلاً. فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله.
فقال المقداد: يا عبد الرحمن، أما والله لقد تركته وإنه من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون. فقال: يا مقداد، والله لقد اجتهدت للمسلمين. قال: إن كنت أردت الله فأثابك الله ثواب المحسنين. فقال المقداد: ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم، إني لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلاً ما أقول ولا أعلم أن رجلاً أقضى بالعدل ولا أعلم منه، أما والله لو أجد أعواناً عليه! فقال عبد الرحمن: يا مقداد اتق الله فإني خائفٌ عليك الفتنة. فقال رجل للمقداد: رحمك الله، من أهل هذا البيت ومن هذا الرجل؟ قال: أهل البيت بنو عبد المطلب، والرجل علي بن أبي طالب. فقال علي: إن الناس ينظرون إلى قريش وقريش تنظر بينها فتقول: إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبداً، وما كانت في غيرهم تداولتموها بينكم.
وقدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه لعثمان فقيل له: بايعوا لعثمان. فقال: كل قريش راضٍ به؟ قالوا: نعم. فأتى عثمان، فقال له عثمان: أنت على رأس أمرك وإن أبيت رددتها. قال: أتردها؟ قال: نعم. قال: أكل الناس بايعوك؟ قال: نعم. قال: قد رضيت لا أرغب عما أجمعوا عليه. وبايعه.
وقال المغيرة بن شعبة لعبد الرحمن: يا أبا محمد قد أصبت أن بايعت عثمان. وقال لعثمان: ولو بايع عبد الرحمن غيرك ما رضينا. فقال عبد الرحمن: كذبت يا أعور، لو بايعت غيره لبايعته ولقلت هذه المقالة. قال: وكان المسور يقول: ما رأيت أحداً بذ قوماً فيما دخلوا فيه بمث ما بذهم عبد الرحمن.
قلت قوله: إن عبد الرحمن صهر عثمان، يعني أن عبد الرحمن تزوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أخت عثمان لأمه خلف عليها عقبة بعد عثمان.
وقد ذكر أبو جعفر رواية أخرى في الشورى عن المسور بن مخرمة وهي تمام حديث مقتل عمر، وقد تقدم، والذي ذكره ههنا قريب من الذي تقدم آنفاً، غير أنه قال: لما دفن عمر جمعهم عبد الرحمن وخطبهم وأمرهم بالاجتماع وترك التفرق، فتكلم عثمان فقال: الحمد لله الذي اتخذ محمداً نبياً وبعثه رسولاً وصدقه وعده ووهب له نصره على كل من بعد نسباً أو قرب رحماً، صلى الله عليه وسلم، جعلنا الله له تابعين، وبأمره مهتدين! فهو لنا نور ونحن بأمره نقوم عند تفرق الأهواء ومجادلة الأعداء، جعلنا الله بفضله أئمة، وبطاعته أمراء، لا يخرج أمرنا منا، ولا يدخل علينا غيرنا، إلا من سفه الحق ونكل عن القصد، وأحر بها يا ابن عوف أن تترك، وأجدر بها أن تكون إن خولف أمرك وترك دعاؤك، فأنا أول مجيب لك وداعٍ إليك وكفيل بما أقول زعيم؛ وأستغفر الله لي ولكم.
ثم تكلم الزبير بعده فقال: أما بعد فإن داعي الله لا يجهل، ومجيبه لا يخذل عند تفرق الأهواء ولي الأعناق، ولن يقصر عما قلت غلا غوى، ولن يترك ما دعوت إليه إلا شقي، ولولا حدود لله فرضت، وفرائض لله حدت، تراح على أهلها وتحيا ولا تموت، لكان الموت من الإمارة نجاة، والفرار من الولاية عصمة، ولكن لله علينا إجابة الدعوة وإظهار السنة لئلا نموت موتة عميةً، ولا نعمى عمى الجاهلية، فأنا مجيئك إلى ما دعوت، ومعينك على ما أمرت، ولا حولا ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله لي ولكم.
ثم تكلم سعدٌ فقال بعد حمد الله: وبمحمد، صلى الله عليه وسلم، أنارت الطرق واستقامت السبل وظهر كل حق ومات كل باطل، إياكم أيها النفر وقول الزور وأمنية أهل الغرور، وقد سلبت الأماني قوماً قبلكم ورثوا ما ورثتم ونالوا ما نلتم فاتخذهم الله عدواً ولعنهم لعناً كبيراً. قال الله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل) إلى قوله: (لبئس ما كانوا يفعلون) المائدة: ، إني نكبت قرني وأخذت سهمي الفالج وأخذت لطلحة بن عبيد الله ما ارتضيت لنفسي، فأنا به كفيل وبما أعطيت عنه زعيم والأمر إليك يا ابن عوف بجهد النفس وقصد النصح، وعلى الله قصد السبيل، وإليه الرجوع، وأستغفر الله لي ولكم، وأعوذ بالله من مخالفتكم.
ثم تكلم علي بن أبي طالب فقال: الحمد لله الذي بعث محمداً منا نبياً، وبعثه إلينا رسولاً، فنحن بيت النبوة، ومعدن الحكمة، وأمان أهل الأرض، ونجاة لمن طلب، لنا حق إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل ولو طال السرى، لو عهد إلينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عهداً لأنفذنا عهده، ولو قال لنا قولاً لجادلنا عليه حتى نموت، لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق وصلة رحم، لا حول ولا قوة إلا بالله، اسمعوا كلامي وعوا منطقي، عسى أن تروا هذا الأمر بعد هذا المجتمع تنتضى فيه السيوف، وتخان فيه العهود، حتى تكونوا جماعة، ويكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة وشيعة لأهل الجهالة، ثم قال:
فإن تك جاسمٌ هلكت فإني ... بما فعلت بنو عبد بن ضخم
مطيعٌ في الهواجر كل غيٍّ ... بصيرٌ بالنوى من كل نجم
فقال عبد الرحمن: أيكم يطيب نفساً أن يخرج نفسه من هذا الأمر؟ وذكر قريباً مما تقدم.
ثم جلس عثمان في جانب المسجد بعد بيعته، ودعا عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وكان قتل قاتل أبيه أبا لؤلؤة، وقتل جفينة رجلاً نصرانياً من أهل الحيرة كان ظهيراً لسعد بن مالك، وقتل الهرمزان، فلما ضربه بالسيف قال: لا إله إلا الله! فلما قتل هؤلاء أخذه سعد بن أبي وقاص وحبسه في داره وأخذ سيفه وأحضره عند عثمان، وكان عبيد الله يقول: والله لأقتلن رجالاً ممن شرك في دم أبي، يعرض بالمهاجرين والأنصار، وإنما قتل هؤلاء النفر لأن عبد الرحمن بن أبي بكر قال غداة قتل عمر: رأيت عشية أمس الهرمزان وأبا لؤلؤة، وجفينة وهم يتناجون، فلما رأوني ثاروا وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه، وهو الخنجر الذي ضرب به عمر، فقتلهم عبيد الله. فلما أحضره عثمان قال؛ أشيروا علي في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق! فقال علي: أرى أن تقتله. فقال بعض المهاجرين: قتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم! فقال عمرو بن العاص: إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث ولك على المسلمين سلطان. فقال عثمان: أنا وليه وقد جعلتها دية وأحتملها في مالي. وكان زياد بن لبيد البياضي الأنصاري إذا رأى عبيد الله يقول:
ألا يا عبيد الله ما لك مهربٌ ... ولا ملجأٌ من إبن أروى ولا خفر
أصبت دماً والله في غير حله ... حراماً وقتل الهرمزان له خطر
على غير شيء غير أن قال قائلٌ ... أتتهمون الهرمزان على عمر
فقال سفيه، والحوادث جمةٌ ... نعم إتهمه قد أشار وقد أمر
وكان سلاح العبد في جوف بيته ... يقلبها والأمر بالأمر يعتبر
فشكا عبيد الله إلى عثمان زياد بن لبيد، فنهى عثمان زياداً، فقال في عثمان:
أبا عمرٍو عبيد الله رهنٌ ... فلا تشكك بقتل الهرمزان
فإنك إن عفوت الجرم عنه ... وأسباب الخطا فرسا رهان
أتعفو إذ عفوت بغير حقٍّ ... فما لك بالذي تحكي يدان
فدعا عثمان زياداً فنهاه وشذبه.
وقيل في فداء عبيد الله غير ذلك، قال الغماذيان بن الهرمزان: كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض، فمن فيروز أبو لؤلؤة بالهرمزان ومعه خنجر له رأسان فتناوله منه وقال: ما تصنع به؟ قال: أسن به. فرآه رجل، فلما أصيب عمر قال: رأيت الهرمزان دفعه إلى فيروز، فأقبل عبيد الله فقتله، فلما ولي عثمان أمكنني منه فخرجت به وما في الأرض أحدٌ إلا معي إلا أنهم يطلبون إلي فيه، فقلت لهم: ألي قتله؟ قالوا: نعم، وسبوا عبيد الله، قلت لهم: أفلكم منعةٌ؟ قالوا: لا، وسبوه، فتركته لله ولهم، فحملوني، فوالله ما بلغت المنزل إلا على رؤوس الناس.
والأول أصح في إطلاق عبيد الله لأن علياً لما ولي الخلافة أراد قتله فهرب منه إلى معاوية بالشام، ولو كان إطلاقه بأمر ولي الدم لم يتعرض له علي.
ذكر عدة حوادثكان العمال فيها على مكة نافع بن عبد الحرث الخزاعي، وعلى الطائف سفيان بن عبد الله الثقفي، وعلى صنعاء يعلى بن منية، وعلى الجند عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة، وعلى البصرة أبو موسى الأشعري، وعلى مصر عمرو بن العاص، وعلى حمص عمير بن سعد، وعلى دمشق معاوية، وعلى البحرين وما والاها عثمان بن أبي العاص الثقفي.
وفيها غزا معاوية الصائفة حتى بلغ عمودية ومعه عبادة بن الصامت وأبو أيوب الأنصاري وأبو ذر وشداد بن أوس.
وفيها فتح معاوية عسقلان على صلح، وكان على قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة كعب بن سور، وقيل: إن أبا بكر وعمر لم يكن لهما قاض.
وفي هذه السنة توفي قتادة بن النعمان الأنصاري، وهو الذي رد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عينه، وصلى عليه عمر بن الخطاب، وهو بدري، وقيل: توفي سنة أربع وعشرين. وفي خلافة عمر توفي الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري، وهو بدري، وربيعة بن الحرث بن عبد المطلب، وهو أسن من العباس، وعمير بن عوف مولى سهيل بن عمرو، وهو بدري، وعمير بن وهب بن خلف الجمحي، شهد أحداً، وعتبة بن معسود أخو عبد الله بن مسعود، وهو من مهاجرة الحبشة شهد أحداً، وعدي بن أبي الزغباء الجهني، وهو عين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم بدر وشهد غيرها أيضاً.
وفيها مات عويم بن ساعدة الأنصاري، وهو عقبيٌّ بدري، وقيل: إنه من بلي وله حلف في الأنصار. وفيها مات سهيل بن رافع الأنصاري، شهد بدراً، ومسعود بن أوس بن زيد الأنصاري، وقيل: بل عاش بعد ذلك وشهد صفين مع علي. وفيها توفي واقد بن عبد الله التميمي حليف الخطاب، وهو أول من قاتل في سبيل الله في الإسلام، وقتل عمرو بن الحضرمي، وكان إسلامه قبل دول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دار الأرقم. وفيها مات أبو جندل بن سهيل بن عمرو، وأخوه عبد الله، وكان عبد الله بدرياً، ولم يشهدها أبو جندل لأن أباه سجنه بمكة ومنعه من الهجرة إلى يوم الحديبية، وقد تقدم كيف خلص. وفيها مات أبو خالد الحرث بن قيس بن خالد، وكان أصابه جرح باليمامة فاندمل ثم انتقض عليه فمات منه، وهو عقبي بدري. وفيها مات أبو خراش الهذلي الشاعر، وخبر موته مشهور. وفيها توفي غيلان ابن سلمة الثقفي، وهو الذي أسلم وتحته عشر نسوة. وفيها في آخرها مات الصعب بن جثامة بن قيس الليثي.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين
ذكر بيعة عثمان بن عفان بالخلافة
في المحرم منها لثلاث مضين منه بويع عثمان بن عفان، وقيل غير ذلك على ما تقدم، وكان هذا العام يسمى عام الرعاف لكثرته فيه بالناس. واجتمع أهل الشورى عليه، وقد دخل وقت العصر، فأذن مؤذن صهيب واجتمعوا بين الأذان والإقامة، فخرج فصلى بالناس وزادهم مائة مائة، ووفد أهل الأمصار، وهو أول من صنع ذلك، وقصد المنبر وهو أشدهم كآبة، فخطب الناس ووعظهم وأقبلوا يبايعونه.
ذكر عزل المغيرة عن الكوفة
وولاية سعد بن أبي وقاصوفيها عزل عثمان المغيرة بن شعبة عن الكوفة واستعمل سعد بن أبي وقاص عليها بوصية عمر فإنه قال: أوصي الخليفة بعدي أن يستعمل سعداً فإني لم أعزله عن سوء ولا خيانة، فكان أول عامل بعثه عثمان، فعمل عليها سعدٌ سنة وبعض أرى، وقيل: بل أقر عثمان عمال عمر جميعهم سنة لأن عمر أوصى بذلك، ثم عزل المغيرة بعد سنة واستعمل سعداً؛ فعلى هذا القول تكون إمارة سعد سنة وخمس وعشرين.
وحج بالنس في هذه السنة عثمان، وقيل: عبد الرحمن بن عوف بأمر عثمان. وقد تقدم ذكر الفتوح التي ذكر بعض العلماء أنها كانت زمن عثمان وذكرت الخلاف هنالك. وفي هذه السنة مات عبد الرحمن بن كعب الأنصاري، وهو بدري، وهو أحد البكائين في غزوة تبوك، وسراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وقيل: مات بعد ذلك، وهو الذي أدرك النبي، صلى الله عليه وسلم، في هجرته.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين
ذكر خلاف أهل الإسكندريةفي هذه السنة خالف أهل الإسكندرية ونقضوا صلحهم.
وكان سبب ذلك أن الروم عظم عليهم فتح المسلمين الإسكندرية وظنوا إنهم لا يمكنهم المقام ببلادهم بعد خروج الإسكندرية عن ملكهم، فكاتبوا من كان فيها من الروم ودعوهم إلى نقض الصلح، فأجابوهم إلى ذلك. فسار إليهم من القسطنطينية جيش كثير وعليهم منويل الخصي، فأرسوا بها، واتفق معهم من بها من الروم، ولم يوافقهم المقوقس بل ثبت على صلحه. فلما بلغ الخبر إلى عمرو بن العاص سارى إليهم وسار الروم إليه فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الروم وتبعهم المسلمون إلى أن أدخلوهم الإسكندرية وقتلوا منهم في البلد مقتلةً عظيمة، منهم منويل الخصي. وكان الروم لما خرجوا من الإسكندرية قد أخذوا أموال أهل تلك القرى من وافقهم ومن خالفهم. فلما ظفر بهم المسلمون جاء أهل القرى الذين خالفوهم فقالوا لعمرو بنالعاص: إن الروم أخذوا دوابنا وأموالنا ولم نخالف نحن عليكم وكنا على الطاعة. فرد عليهم ما عرفوا من أموالهم بعد إقامة البينة. وهدم عمرو سور الإسكندرية وتركها بغير سور.
وفيها بلغ سعد بن أبي وقاص على أهل الري عزمٌ على نقض الهدنة والغدر، فأرسل إليهم وأصلحهم وغزا الديلم ثم انصرف.
ذكر عزل سعد عن الكوفة
وولاية الوليد بن عقبةفي هذه السنة عزل عثمان بن عفان سعد بن أبي وقاص عن الكوفة في قول بعضهم، واستعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وأسم أبي معيط أبان بن أبي عمرو، واسمه ذكوان بن أمية بن عبد شمس، وهو أخو عثمان لأمه، أمهما أروى بنت كريز، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب.
وسبب ذلك أن سعداً اقترض من عبد الله بن مسعود من بيت المال قرضاً، فلما تقاضاه ابن مسعود لم يتيسر له قضاؤه فارتفع بينهما الكلام، فقال له سعد: ما أراك إلا ستلقى شراً، هل أنت إلا ابن مسعود عبدٌ من هذيل؟ فقال: أجل والله إني لابن مسعود وإنك لابن حمينة. وكان هاشم بن عتبة بن أبي وقاص حاضراً فقال: إنكما لصاحبا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ينظر إليكما. فرفع سعدٌ يده ليدعو على ابن مسعود، وكان فيه حدة، فقال: اللهم رب السموات والأرض. فقال ابن مسعود: ويلك قل خيراً ولا تلعن. فقال سعد عند ذلك: أما والله لولا اتقاء الله لدعوت عليك دعوة لا تخطئك. فولى عبد سريعاً حتى خرج، ثم استعان عبد الله بأناس على استخراج المال، واستعان سعد بأناس على إنظاره، فافترقوا وبعضهم يلوم بعضاً، يلوم هؤلاء سعداً وهؤلاء عبد الله، فكان أول ما نزغ به بين أهل الكوفة، وأول مصر نزغ الشيطان بين أهل الكوفة. وبلغ الخير عثمان فغضب عليهما فعزل سعد وأقر عبد الله، واستعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط مكان سعد، وكان على عرب الجزيرة عاملاً لعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان بعده، فقدم الكوفة والياً عليها، وأقام عليها خمس سنين، وهو من أحب الناس إلى أهلها. فلما قدم قال له سعد: أكست بعدنا أم حمقنا بعدك؟ فقال: لا تجزعن يا أبا إسحق، كل ذلك لم يكن وإنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون. فقال سعد: أراكم جعلتموها ملكاً! وقال له ابن مسعود: ما أدري أصلحت بعدنا أم فسد الناس!
ذكر صلح أهل أرمينية وأذربيجانلما استعمل عثمان الوليد على الكوفة عزل عتبة بن فرقد على أذربيجان، فنقضوا، فغزاهم الوليد سنة خمس وعشرين، وعلى مقدمته عبد الله بن شبيل الأحمسي، فأغار على أهل موقان والببر والطيلسان ففتح وغنم وسبى، فطلب أهل كور أذربيجان الصلح، فصالحهم على صلح حذيفة، وهو ثمانمائة ألف درهم، وقبض المال. ثم بث سراياه، وبعث سلمان بن ربيعة الباهلي إلى أهل أرمينية في اثني عشر ألفاً، فسار في أرمينية يقتل ويسبي ويغنم، ثم انصرف وقد ملأ يديه حتى أتى الوليد، فعاد الوليد وقد ظفر وغنم وجعل طريقه على الموصل، ثم أتى الحديثة فنزلها، فأتاه بها كتاب عثمان فيه أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلي يخبرني أن الروم قد أجلبت على المسلمين في جموع كثيرة، وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهل الكوفة، فابعث إليهم رجلاً له نجدةٌ وبأس في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف من المكان الذي يأتيك كتابي فيه والسلام.
فقام الوليد في الناس وأعلمهم الحال وندبهم مع سلمان بن ربيعة الباهلي، فانتدب معه ثمانةي آلاف، فمضوا حتى دخلوا مع أهل الشام إلى أرض الروم، فشنوا الغارات على أرض الروم فأصاب الناس ما شاؤوا وافتتحوا حصوناً كثيرة.
وقيل: إن الذي أمد حبيب بن مسلمة بسلمان بن ربيعة كان سعيد بن العاص، وكان سبب ذلك أن عثمان كتب إلى معاوية يأمره أن يغزي حبيب بن مسلمة في أهل الشام أرمينية، فوجهه إليها، فأتى قاليقلا فحصرها وضيق على من بها، فطلبوا الأمان على الجلاء أو الجزية، فجلا كثير منهم فلحقوا ببلاد الروم، وأقام حبيب بها فيمن معه أشهراً.
وإنما سميت قاليقلا لأن امرأة بطريق أرميناقس كان اسمها قالي بنت هذه المدينة فسمتها قالي قله، تعني إحسان قالي، فعربتها العرب فقالت: قاليقلا.
ثم بلغه أن بطريق أرميناقس، وهي البلاد التي هي الآن بيد أولاد السلطان قلج أرسلان، وهي ملطية وسيواس واقصرا وقونية وما والاها من البلاد وإلى خليج القسطنطينية، واسمه الموريان، قد توجه نحوه في ثمانين ألفاً من الروم. فكتب حبيب إلى معاوية يخبره، فكتب معاوية إلى عثمان، فأرسل عثمان إلى سعيد بن العاص يأمره بإمداد حبيب، فأمده بسلمان في ستة آلاف، وأجمع حبيب على تبييت الروم، فسمعته امرأته أم عبد الله بنت يزيد الكلبية فقالت: أين موعدك؟ فقال: سرادق الموريان. ثم بيتهم فقتل من وقف له، ثم أتى السرادق فوجد امرأته قد سبقته إليه، فكانت أول امرأة من العرب ضرب عليها حجاب سرادق. ومات عنها حبيب فخلف عليها الضحاك بن قيس، فهي أم ولده.
ولما انهزمت الروم عاد حبيب إلى قاليقلا، ثم سار منها فنزل مربالا، فأتاه بطريق خلاط بكتاب عياض بن غنم بأمانه، فأجراه عليه، وحمل إليه البطريق ما عليه من المال، ونزل حبيب خلاط، ثم سار منها فلقيه صاحب مكس بناحية من نواحي البسفرجان، فقاطعه على بلاده، ثم سار منها إلى أزدشاط، وهي القرية التي يكون بها القرمز الذي يصبغ به، فنزل على نهر دبيل وسرح الخيول إليها فحصرها، فتحصن أهلها، فنصب عليهم منجنيقاً، فطلبوا الأمان، فأجابهم إليه وبث السرايا، فبلغت خيله ذات اللجم؛ وإنما سميت ذات اللجم لأن المسلمين أخذوا لجم خيولهم فكبسهم الروم قبل أن يلجموها ثم ألجموها وقاتلوهم فظفروا بهم؛ ووجه سريةً إلى سراج طير وبغروند، فصالحه بطريقها على إتاوة. وقدم عليه بطريق البسفرجان فصالحه على جميع بلاده.
وأتى السيسجان فحاربه أهلها، فهزمهم وغلب على حصونهم وسار إلى جرزان، فأتاه رسول بطريقها يطلب الصلح فصالحه. وسار إلى تفليس فصالحه أهلها، وهي من جرزان، وفتح عدة حصون ومدن تجاورها صلحاً. وسارى سلمان بن ربيعة الباهلي إلى أران ففتح البيلقان صلحاً على أن آمنهم على دمائهم وأموالهم وحيطان مدينتهم، واشترط عليهم الجزية والخراج.
ثم أتى سلمان مدينة برذعة فعسكر على الثرثور، نهر بينه وبينها نحو فرسخ، فقاتله أهلها أياماً، وشن الغارات في قراها، فصالحوه على مثل صلح البيلقان ودخلها؛ ووجه خيله ففتحت رساتيق الولاية، ودعا أكراد البلاشجان إلى الإسلام فقاتلوه فظفر بهم فأقر بعضهم على الجزية وأدى بعضهم الصدقة، وهم قليل؛ ووجه سرية إلى شمكور ففتحوها، وهي مدينة قديمة، ولم تزل معمورة حتى أخربها السناوردية، وهم قوم تجمعوا لما انصرف يزيد بن أسيد عن أرمينية فعظم أمرهم، فعمرها بغا سنة أربعين ومائتين وسماها المتوكلية نسبة إلى المتوكل.
وسار سلمان إلى مجمع أرس والكر ففتح قبلة، وصالحه صاحب سكر وغيرها على الإتاوة، وصالحه ملك شروان وسائر ملوك الجبال وأهل مسقط والشابران ومدينة الباب ثم امتنعت بعده.
ذكر غزوة معاوية الروموفيها غزا معاوية الروم فبلغ عمورية فوجد الحصون التي بين أنطاكية وطرسوس خالية فجعل عندها جماعةً كثيرة من أهل الشام والجزيرة حتى انصرف من غزاته، ثم أغزى بعد ذلك يزيد بن الحر العبسي الصائفة وأمره ففعل مثل ذلك، ولما خرج هدم الحصون إلى أنطاكية.
ذكر غزوة إفريقيةفي هذه السنة سير عمرو بن العاص عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى أطراف إفريقية غازياً بأمر عثمان، وكان عبد الله من جند مصر، فلما سار إليها أمده عمرو بالجنود فغنم هو وجنده، فلما عاد عبد الله إلى عثمان يستأذنه في غزو إفريقية، فأذن له في ذلك.
ذكر عدة حوادثوفيها أرسل عثمان عبد الله بن عامر إلى كابل، وهي عمالة سجستان، فبلغها في قولٍ، فكانت أعظم من خراسان، حتى مات معاوية وامتنع أهلها.
وفيها ولد يزيد بن معاوية. وفيها كانت غزوة سابور الأولى، وقيل: سنة ست وعشرين، وقد تقدم ذلك. وحج بالناس عثمان.
ثم دخلت سنة ست وعشرين
ذكر الزيادة في الحرمفي هذه السنة أمر عثمان بتجديد أنصاب الحرم. وفيها زاد عثمان في المسجد الحرام ووسعه وابتاع من قوم فأبى آخرون فهدم عليهم ووضع الأثمان في بيت المال. فصاحوا بعثمان، فأمر بهم فحبسوا، وقال لهم! قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به. فكلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فأطلقهم.
أسيد بفتح الهمزة وكسر السين.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين
ذكر ولاية عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر وفتح إفريقيةفي هذه السنة عزل عمرو بن العاص عن خراج مصر، واستعمل عليه عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان أخا عثمان من الرضاعة، فتباغيا، فكتب عبد الله إلى عثمان يقول: إن عمراً كسر على الخراج. وكتب عمرو يقول: إن عبد الله قد كسر على مكيدة الحرب. فعزل عثمان عمراً واستقدمه، واستعمل بدله عبد الله على حرب مصر وخراجها، فقدم عمرو مغضباً، فدخل على عثمان وعليه جبة محشوة قطناً. فقال له: ما حشو جبتك؟ قال مرو. قال: قد علمت أن حشوها عمرو ولم أرد هذا، إنما سألت أقطنٌ هو أم غيره؟.
وكان عبد الله من جند مصر، وكان قد أمره عثمان بغزو إفريقية سنة خمس وعشرين، وقال له عثمان: إن فتح الله عليك فلك من الفيء خمس الخمس نفلاً. وأمر عبد الله بن نافع بن عبد القيس وعبد الله بن نافع بن الحرث على جند وسرحهما إلى الأندلس، وأمرهما بالاجتماع مع عبد الله بن سعد على صاحب إفريقية، ثم يقيم عبد الله في عمله ويسيران إلى عملهما. فخرجوا حتى قطعوا أرض مصر ووطئوا أرض إفريقية، وكانوا في جيش كثير عدتهم عشرة آلاف من شجعان المسلمين، فصالحهم أهلها على مال يؤدونه ولم يقدموا على دخول إفريقية والتوغل فيها لكثرة أهلها.
ثم إن عبد الله بن سعد لما ولي أرسل إلى عثمان في غزو إفريقية والاستكثار من الجموع عليها وفتحها، فاستشار عثمان من عنده من الصحابة، فأشار أكثرهم بذلك، فجهز إليه العساكر من المدينة وفيهم جماعة من أعيان الصحابة، منهم عبد الله بن عباس وغيره، فسار بهم عبد الله بن سعد إلى أفريقية. فلما وصلوا إلى برقة لقيهم عقبة بن نافع فيمن معه من المسلمين، وكانوا بها، وساروا إلى طرابلس الغرب فنهبوا من عندها من الروم. وسار نحو إفريقية وبث السرايا في كل ناحية، وكان ملكهم اسمه جرجير، وملكه من طرابلس إلى طنجة، وكان هرقل ملك الروم قد ولاه إفريقية فهو يحمل إليه الخراج كل سنة. فلما بلغه خبر المسلمين تجهز وجمع العساكر وأهل البلاد فبلغ عسكره مائة ألف وعشرين ألف فارس، والتقى هو والمسلمون بمكان بينه وبين مدينة سبيطلة يوم وليلة، وهذه المدينة كانت ذلك الوقت دار الملك، فأقاموا هناك يقتتلون كل يوم، وراسله عبد الله بن سعد يدعوه إلى الإسلام أو الجزية، فامتنع منهما وتكبر عن قبول أحدهما.
وانقطع خبر المسلمين عن عثمان، فسير عبد الله بن الزبير في جماعة إليهم ليأتيه بأخبارهم، فسار مجداً ووصل إليهم وأقام معهم، ولما وصل كثر الصياح والتكبير في المسلمين، فسأل جرجير عن الخبر فقيل قد أتاهم عسكر، ففت ذلك في عضده. ورأى عبد الله بن الزبير قتال المسلمين كل يوم من بكرة إلى الظهر فإذا أذن بالظهر عاد كل فريق إلى خيامه، وشهد القتال من الغد فلم ير ابن أبي سرح معهم، فسأل عنه، فقيل إنه سمع منادي جرجير يقول: من قتل عبد الله بن سعد فله مائة ألف دينار وأزوجه ابنتي، وهو يخاف، فحضر عنده وقال له: تأمر منادياً ينادي: من أتاني برأس جرجير نفلته مائة ألف وزوجته ابنته واستعملته على بلاده. ففعل ذلك، فصار جرجير يخاف أشد من عبد الله.
ثم إن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن سعد: إن أمرنا يطول مع هؤلاء وهم في أمداد متصلة وبلاد هي لهم ونحن منقطعون عن المسلمين وبلادهم، وقد رأيت أن نترك غداً جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهبين ونقاتل نحن الروم في باقي العسكر إلى أن يضجروا ويملوا، فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون ركب من كان في الخيام من المسلمين ولم يهشدوا القتال وهم مستريحون، ونقصدهم على غرة فلعل الله ينصرنا عليهم، فأحضر جماعة من أعيان الصحابة واستشارهم فوافقوه على ذلك.
فلما كان الغد فعل عبد الله ما اتفقوا عليه وأقام جميع شجعان المسلمين في خيامهم وخيولهم عندهم مسرجة، ومضى الباقون فقاتلوا الروم إلى الظهر قتالاً شديداً. فلما أذن بالظهر هم الروم بالانصراف على العادة فلم يمكنهم ابن الزبير وألح عليهم بالقتال حتى أتعبهم ثم عاد عنهم هو والمسلمون، فكل من الطائفتين ألقى سلاحه ووقع تعباً، فعند ذلك أخذ عبد الله بن الزبير من كان مستريحاً من شجعان المسلمين وقصد الروم فلم يشعروا بهم حتى خالطوهم وحملوا حملة رجل واحد وكبروا فلم يتمكن الروم من لبس سلاحهم حتى غشيهم المسلمون وقتل جرجير، قتله ابن الزبير، وانهزم الروم وقتل منهم مقتلة عظيمة وأخذت ابنة الملك جرجير سبية. ونازل عبد الله بن سعد المدينة، فحصرها حتى فتحها ورأى فيها من الأموال ما لم يكن في غيرها، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار وسهم الراجل ألف دينار.
ولما فتح عبد الله مدينة سبيطلة بث جيوشه في البلاد فبلغت قفصة، فسبوا وغنموا، وسير عسكراً إلى حصن الأجم، وقد احتمى به أهل تلك البلاد، فحصره وفتحه بالأمان فصالحه أهل إفريقيى على ألفي ألف وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، ونفل عبد الله بن الزبير ابنة الملك وأرسله إلى عثمان بالبشارة بفتح إفريقية؛ وقيل: إن إبنة الملك وقعت لرجل من الأنصار فأركبها بعيراً وارتجز بها يقول:
يا ابنة جرجيرٍ تمشي عقبتك ... إن عليك بالحجاز ربتك
لتحملن من قباء قربتك
ثم إن عبد الله بن سعد عاد من إفريقية إلى مصر، وان مقامه بإفريقية سنة وثلاثة أشهر، ولم يفقد من المسلمين إلا ثلاثة نفر، قتل منهم أبو ذؤيب الهذلي الشاعر فدفن هناك، وحمل خمس إفريقية إلى المدينة فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار فوضعها عنه عثمان، وكان هذا مما أخذ عليه.
وهذا أحسن ما قيل في خمس إفريقية، فإن بعض الناس يقول: أعطى عثمان خمس أفريقية عبد الله بن سعد، وبعضهم يقول: أعطاه مروان بن الحكم. وظهر بهذا أنه أعطى عبد الله خمس الغزوة الأولى وأعطى مروان خمس الغزوة الثانية التي افتتحت فيها جميع إفريقية، والله أعلم.
ذكر انتقاض إفريقية وفتحها ثانيةكان هرقل ملك القسطنطينية يؤدي إليه كل ملك من ملوك النصارى الخراج، فهم من مصر وإفريقية والأندلس وغير ذلك، فلما صالح أهل إفريقية عبد الله بنى سعد أرسل هرقل إلى أهلها بطريقاً له وأمره أن يأخذ منهم مثل ما أخذ المسلمون، فنزل البطريق في قرطاجنة وجمع أهل إفريقية وأخبرهم بما أمره الملك، فأبوا عليه، وقالوا: نحن نؤدي ما كان يؤخذ منا، وقد كان ينبغي له أن يسامحنا لما ناله المسلمون منا. وكان قد قام بأمر إفريقية بعد قتل جرجير رجل رجل آخر من الروم، فطرده البطريق بعد فتن كثيرة، فسار إلى الشام وبه معاوية وقد استقر له الأمر بعد قتل علي، فوصف له إفريقية وطلب أن يرسل معه جيشاً، فسير معه معاوية بن أبي سفيان معاوية بن حديج السكوني. فلما وصلوا إلى الإسكندرية هلك الرومي ومضى ابن حديج فوصل إلى إفريقية وهي نار تضطرم وكان معه عسكر عظيم فنزل عند قمونية، وأرسل البطريق إليه ثلاثين ألف مقاتل. فلما سمع بهم معاوية سير إليهم وجيشاً من المسلمين، فقاتلوهم، فانهزمت الروم وحصر حصن جلولاء فلم يقدر عليه فانهدم سور الحصن فملكه المسلمون وغنموا ما فيه، وبث السرايا، فسكن الناس وأطاعوا، وعاد إلى مصر.
حديج بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وآخره جيم.
ثم لم يزل أهل إفريقية من أطوع أهل البلدان وأسمعهم إلى زمان هشام بن عبد الملك حتى دب إليهم دعاة أهل العراق واستثاروهم فشقوا العصا، وفرقوا بينهم إلى اليوم، وكانوا يقولون: لا نخالف الأئمة بما تجني العمال. فقالوا لهم: إنما يعمل هؤلاء بأمر أولئك. فقالوا: حتى نخبرهم، فخرج ميسرة في بضعة وعشرين رجلاً فقدموا على هشام فلم يؤذن لهم، فدخلوا على الأبرش فقالوا: أبلغ أمير المؤمنين أن أميرنا يغزو بنا وبجنده فإذا غنمنا نفلهم، ويقول: هذا أخلص لجهادنا، وإذا حاصرنا مدينةً قدمنا وأخرهم، ويقول: هذا ازدياد في الأجر، ومثلنا كفى إخوانه؛ ثم إنهم عمدوا إلى ماشيتنا فجعلوا يبقرون بطونها عن سخالها يطلبون الفراء البيض لأمير المؤمنين فيقتلون ألف شاة في جلد، فاحتملنا ذلك، ثم إنهم سامونا أن يأخذونا كل جميلة من بناتنا، فقلنا: لم نجد هذا في كتاب ولا سنة ونحن مسلمون، فأحببنا أن نعلم أعن رأي أمير المؤمنين هذا أم لا؟ فطال عليهم المقام ونفدت نفقاتهم، فكتبوا أسماءهم ودفعوها إلى وزرائه وقالوا: إن سأل عنا أمير المؤمنين فأخبروه. ثم رجعوا إلى إفريقية فخرجوا على عامل هشام فقتلوه واستولوا على إفريقية، وبلغ الخبر هشاماً فسأل عن النفر فعرف أسماءهم فإذا هم الذين صنعوا ذلك.
ذكر غزوة الأندلسلما افتتحت إفريقية أمر عثمان عبد الله بن نافع بن الحصين وعبد الله بن نافع ابن عبد القيس أن يسيرا إلى الأندلس، فأتياها من قبل البحر، وكتب عثمان إلى من انتدب معهما: أما بعد فإن القسطنطينية إنما تفتح من قبل الأندلس.
فخرجوا ومعهم البربر، ففتح الله على المسلمين وزاد في سلطان المسلمين مثل إفريقية. ولما عزل عثمان عبد الله بن سعد عن إفريقية ترك في عمله عبد الله بن نافع بن عبد القيس فكان عليها، ورجع عبد الله إلى مصر، وبعث عبد الله إلى عثمان مالاً قد حشد فيه، فدخل عمرو على عثمان فقال له: يا عمرو هل تعلم أن تلك اللقاح درت بعدك؟ قال عمرو: إن فصالها قد هلكت.
ذكر عدة حوادثحج بالناس هذه السنة عثمان. وفيها كان فتح إصطخر الثاني على يد عثمان ابن أبي العاص. وفيها غزا معاوية بن أبي سفيان قنسرين. وفيها مات أبو ذؤيب الهذلي الشاعر بمصر منصرفاً من إفريقية، وقيل: بل مات بطريق مكة في البادية، وقيل: مات ببلاد الروم، وكلهم قالوا: مات في خلافة عثمان. وفيها مات أبو رمثة البلوي بإفريقية، له صحبة. وفيها ماتت حفصة بنت عمر ابن الخطاب زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، وقيل: ماتت سنة إحدى وأربعين، وقيل: سنة خمس وأربعين.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين
ذكر فتح قبرسقيل: في سنة ثمان وعشرين كان فتح قبرس على يد معاوية، وقيل: سنة تسع وعشرين، وقيل: سنة ثلاث وثلاثين، وقيل: إنما غزاها معاوية هذه السنة غزا معه جماعة من الصحابة فيهم أبو ذر وعبادة بن الصامت ومعه زوجته أم حرام، وأبو الدرداء وشداد بن أوس، وكان معاوية قد لج على عمر في غزو البحر وقرب الروم من حمص، وقال: إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم. فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه. فكتب إليه عمرو بن العاص: إني رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلقٌ صغير، ليس إلا السماء والماء، إن ركد خرق القلوب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق. فلما قرأه كتب إلى معاوية: والذي بعث محمداًن صلى الله عليه وسلم، بالحق لا أحمل فيه مسلماً أبداً، وقد بلغني أن بحر الشام يشرف على أطول شيء من الأرض فيستأذن الله في كل يوم وليلة في أني يغرق الأرض، فكيف أحمل الجنود على هذا الكافر! وبالله لمسلم أحب إلي مما حوت الروم. وإياك أن تعرض إلي، فقد علمت ما لقي العلاء مني.
قال: وترك ملك الروم الغزو وكاتب عمر وقاربه. وبعثت أم كلثوم، بنت علي بن أبي طالب، زوج عمر بن الخطاب، إلى امرأة ملك الروم بطيب وشيء يصلح للنساء مع البريد، فأبلغه إليها، فأهدت امرأة الملك إليها هدية، منها عقد فاخر. فلما رجع البريد أخذ عمر ما معه ونادى: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، وأعلمهم الخبر، فقال القائلون: هو لها بالذي كان لها، وليست امرأة الملك بذمة فتصانعك. وقال آخرون: قد كنا نهدى لنستثيب. فقال عمر: لكن الرسول رسول المسلمين والبريد بريدهم، والمسلمون عظموها في صدرها فأمر بردها إلى بيت المال وأعطاها بقدر نفقتها.
فلما كان زمن عثمان كتب إليه معاوية يستأذنه في غزو البحر مراراً، فأجابه عثمان بأخرة إلى ذلك وقال له: لا تنتخب الناس ولا تقرع بينهم، خيرهم فمن اختار الغزو طائعاً فاحمله وأعنه. ففعل، واستعمل عبد الله بن قيس الجاسي حليف بني فزارة، وسار المسلمون من الشام إلى قبرس، وسار إليها عبد الله بن سعد من مصر فاجتمعوا عليها، فصالحهم أهلها على جزية سبعة آلاف دينار كل سنة يؤدونها إلى الروم مثلها، لا يمنعهم المسلمون عن ذلك وليس على المسلمين منعهم ممن أرادهم ممن وراءهم، وعليهم أن يؤذنوا المسلمين بمسير عدوهم من الروم إليهم ويكون طريق المسلمين إلى العدو عليهم.
قال جبير بن نفير: ولما فتحت قبرس ونهب منها السبي نظرت إلى أبي الدرداء يبكي فقلت: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله وأذل فيه الكفر وأهله؟ قال: فضرب منكبي بيده وقال: ثكلتك أمك يا جبير ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره بينما هي أمة ظاهرة قاهرة للناس لهم الملك إذا تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى فسلط عليهم السباء، وإذا سلط السباء على قوم فليس له فيهم حاجة.
وفي هذه الغزاة ماتت أم حرام بنت ملحان الأنصارية، ألقتها بغلتها بجزية قبرس فاندقت عنقها فماتت، تصديقاً للنبي، صلى الله عليه وسلم، حيث أخبرها أنها في أول من يغزو في البحر، وبقي عبد الله بن قيس الجاسي على البحر فغزا على خمسين غزاة من بين شاتية وصائفة في البر والبحر، لم يغرق أحد ولم ينكب، فكان يدعو الله أن يعافيه في جنده، فأجابه، فلما أراد الله أن يصيبه في جسده خرج في قارب طليعةً، فانتهى إلى المرفإ من أرض الروم وعليه مساكن يسألون، فتصدق عليهم، فرجعت امرأةٌ منهم إلى قريتها فقالت للرجال: هذا عبد الله بن قيس في المرفإ؛ فثاروا إليه فهجموا عليه فقتلوه بعد أن قاتلهم فأصيب وحده ونجا الملاح حتى أتى أصحابه فأعلمهم فجاؤوا حتى أرسوا بالمرفإ، والخليفة عليهم سفيان بن عوف الأزدي، فخرج إليهم فقاتلهم فضجر فجعل يشتم أصحابه. فقالت جارية عبد الله: ما هكذا كان يقول حين يقاتل! فقال سفيان: فكيف كان يقول؟ قالت: (الغمرات ثم ينجلينا). فلزمها بقولها، وأصيب في المسلمين يومئذ. وقيل لتلك المرأة بعد: بأي شيء عرفته؟ قالت: كان كالتاجر فلما سألته أعطاني كالملك فعرفته بهذا.
وفي هذه السنة غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم.
وفيها تزوج عثمان نائلة بنت الفرافصة، وكانت نصرانيةً فأسلمت قبل أن يدخل بها. وفيها بنى عثمان ازوراء، وحج بالناس عثمان هذه السنة.
حرام بالحاء المهملة والراء. والجاسي بالجيم والسين المهملة. والفرافصة بفتح الفاء إلا الفرافصة بن الأحوص الكلبي الذي من ولده نائلة زوج عثمان.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين
ذكر عزل أبي موسى عن البصرة
واستعمال ابن عامر عليهاقيل: في هذه السنة عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة، واستعمل عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وهو ابن خال عثمان، وقيل: كان ذلك لثلاث سنين مضت من خلافة عثمان.
وكان سبب عزله أن أهل إيذج والأكراد كفروا في السنة الثالثة من خلافة عثمان، فنادى أبو موسى في الناس وحضهم على الجهاد، وذكر من فضل الجهاد ماشياً، فحمل نفر على دوابهم وأجمعوا على أن يخرجوا رجالة. وقال آخرون: لا نعجل بشيء حتى ننظر ما يصنع، فإن أشبه قوله فعله فعلنا كما يفعل.
فلما خرج أخرج ثقله من قصره على أربعين بغلاً، فتعلقوا بعنانة وقالوا: احملنا على بعض هذه الفضول وارغب في المشي كما رغبتنا. فضرب القوم بسوطه، فتركوا دابته، فمضى. وأتوا عثمان فاستعفوه منه وقالوا: ما كل ما نعلم نحب أن تسألنا عنه، فأبدلنا به. فقال: من تحبون؟ فقال غيلان ابن خرشة: في كل أحد عوض من هذا العبد الذي قد أكل أرضنا! أما منكم خسيس فترفعوه؟ أما منكم فقير فتجبروه؟ يا معشر قريش، حتى متى يأكل هذا الشيخ الأشعري هذه البلاد؟ فانتبه لها عثمان فعزل أبا موسى وولى عبد الله ابن عامر بن كريز. فلما سمع أبو موسى قال: يأتيكم غلام خراج ولاج، كريم الجدات والخالات والعمات، يجمع له الجندان. وكان عمر ابن عامر خمساً وعشرين سنة، وجمع له جند أبي موسى وجند عثمان بن أبي العاص الثقفي من عمان والبحرين، واستعمل على خراسان عمير بن عثمان بن سعد؛ وعلى سجستان عبد الله بن عمير الليثي، وهو من ثعلبة، فأثخن فيها إلى كابل، وأثخن عمير في خراسان حتى بلغ فرغانة لم يدع دونها كورة إلا أصلحها؛ وبعث إلى مكران عبيد الله بن معمر فأثخن فيها حتى بلغ النهار؛ وبعث على كرمان عبد الرحمن بن عبيس؛ وبعث إلى الأهواز وفارس نفراً وضم سواد البصرة إلى الحصين بن أبي الحرثم ثم عزل عبد الله بن عمير واستعمل عبد الله بن عامر فأقره عليها سنة ثم عزله؛ واستعمل عاصم بن عمرو وعزل عبد الرحمن بن عبيس؛ وأعاد عدي بن سهيل بن عدي وصرف عبيد الله بن معمر إلى فارس واستعمل مكانه عمير بن عثمان؛ واستعمل على خراسان أمير بن أحمر اليشكري؛ واستعمل على سجستان سنة أربع عمران بن الفضيل البرجمي. ومات عاصم بن عمرو بكرمان.
عبيس بضم العين المهملة وفتح الباء الموحدة ثم الياء المثناة من تحتها وآخره سين مهملة. وأمير بضم الهمزة وفتح الميم وآخره راء. وكريز بن ربيعة بضم الكاف وفتح الراء.
ذكر انتقاض أهل فارس
ثم إن أهل فارس انتفضوا ونكثوا بعبيد الله بن معمر، فسار إليهم، فالتقوا على باب إصطخر، فقتل عبيد الله وانهز المسلمون، وبلغ الخبر عبد الله بن عامر، فاستنفر أهل البصرة وسار بالناس إلى فارس وعلى مقدمته عثمان بن أبي العاص فالتقوا بإصطخر، وكان على ميمنته أبو برزة نضلة بن عبد الله الأسلمي، وعلى ميسرته معقل بن يسار، وعلى الخيل عمران ابن الحصين، ولكلهم صحبة، واشتد القتال، فانهزم الفرس وقتل منهم مقتلة عظيمة وفتحت إصطخر عنوة، وأتى دارابجرد وقد غدر أهلها ففتحها، وسار إلى مدينة جور، وهي أردشير خرة، فانتقضت إصطخر فلم يرجع وتمم السير إلى جور وحاصرها، وكان هرم بن حيان محاصراً لها، وكان المسلمون يحاصرونها وينصرفون عنها فيأتون إصطخر ويغزون نواحي كانت تنتقض عليهم، فلما نزل ابن عامر عليها فتحها.
وكان سبب فتحها أن بعض المسلمين قام يصلي ذات ليلة وإلى جانبه جراب له فيه خبز ولحم، فجاء كلب فجره وعدا به حتى دخل المدينة من مدخل لها خفي، فلزم المسلمون ذلك المدخل حتى دخلوها منه وفتحوها عنوة.
فلما فرغ منها ابن عامر عاد إلى إصطخر ففتحها عنوة بعد أن حاصرها واشتد القتال عليها، ورميت بالمجانيق، وقتل بها خلقاً كثيراً من الأعاجم وأفنى أكثر أهل البيوتات ووجوه الأساورة، وكانوا قد لجأوا إليها. وقيل: إن أهل إصطخر لما نكثوا عاد إليها ابن عامر قبل وصوله إلى جور فملكها عنوةً وعاد إلى جور فأتى دارابجرد فملكها، وكانت منقضة أيضاً، ووطىء أهل فارس وطأة لم يزالوا منها في ذل، وكتب إلى عثمان بالخبر، فكتب إليه أن يستعمل على بلاد فارس هرم بن حيان اليشكري وهرم بن حيان العبدي والخريت بن راشد والمنجاب بن راشد والترجمان الهجيمي، وأمره أن يفرق كور خراسان على جماعة فيجعل الأحنف على المروين، وحبيب بن قرة اليربوعي على بلخ، وخالد بن عبد الله بن زهير على هراة، وأمير بن أحمر على طوس، وقيس بن هبيرة السلمي على نيسابور، وبه تخرج عبد الله بن خازم، وهو ابن عمه، ثم جمعها عثمان قبل موته لقيس، واستعمل أمير بن أحمر على سجستان، ثم جعل عليها عبد الرحمن بن سمرة، وهو من آل حبيب بن عبد شمس، فمات عثمان وهو عليها، ومات وعمران على مكران، وعمير بن عثمان بن سعد على فارس، وابن كندير القشيري على كرمان.
ثم وفد قيس بن هبيرة عبد الله بن خازم إلى ابن عامر في زمن عثمان، وكان ابن عامر يكرمه، فقال لابن عامر: اكتب لي على خراسان عهداً إن خرج عنها قيس. ففعل، فرجع إلى خراسان، فلما قتل عثمان وجاش العدو قال ابن خازم لقيس: الرأي أن تخلفني وتمضي حتى تنظر فيما ينظرون فيه، ففعل، فأخرج ابن خازم بعده عهداً بخلافته وثبت على خراسان إلى أن قام علي بن أبي طالب وغضب قيس من صنيع ابن خازم.
الخريت بكسر الخاء المعجمة والراء المشددة وسكون الياء تحتها نقطتان وآخره تاء فوقها نقطتان.
ذكر الزيادة في مسجد النبي
صلى الله عليه وسلمفي هذه السنة زاد عثمان في مسجد النبي، صلى الله عليه وسلم، في ربيع الأول، وكان ينقل الجص من بطن نخل، وبناه بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة فيها رصاص وسقفه ساجاً، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه على ما كانت أيام عمر ستة أبواب.
ذكر إتمام عثمان الصلاة بجمعٍ
وأول ما تكلم الناس فيه
حج بالناس هذه السنة عثمان، وضرب فسطاطه بمنىً، وكان أول فسطاط ضربه عثمان بمنىً، وأتم الصلاة بها وبعرفة، فكان أول ما تكلم به الناس في عثمان ظاهراً حين أتم الصلاة بمنى، فعاب ذلك غير واحد من الصحابة، وقال له علي: ما حدث أمر ولا قدم عهد، ولقد عهدت النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر يصلون ركعتين وأنت صدراً من خلافتك، فما أدري ما ترجع إليه. فقال: رأي رأيته. وبلغ الخبر عبد الرحمن بن عوف وكان معه، فجاءه وقال له: ألم تصل في هذا المكان مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر ركعتين وصليتها أنت ركعتين؟ قال: بلى ولكني أخبرت أن بعض من حج من اليمن وجفاة الناس قالوا: إن الصلاة للمقيم ركعتان، واحتجوا بصلاتي، وقد اتخذت بمكة أهلاً ولي بالطائف مال. فقال عبد الرحمن: في هذا عذر، أما قولك: اتخذت بها أهلاً، فإن زوجك بالمدينة تخرج بها إذا شئت وإنما تسكن بسكناك، وأما مالك بالطائف فبينك وبينه مسيرة ثلاث ليال، وأما قولك عن حاج اليمن وغيرهم، فقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ينزل عليه الوحي والإسلام قليل، ثم أبو بكر وعمر، فصلوا ركعتين وقد ضرب الإسلام بجرانه. فقال عثمان: هذا رأي رأيته.
فخرج عبد الرحمن فلقي ابن مسعود فقال: أبا محمد، غير ما تعلم. قال: فما أصنع؟ قال: اعمل بما ترى وتعلم. فقال ابن مسعود: الخلاف شر وقد صليت بأصحابي أربعاً. فقال عبد الرحمن: قد صليت بأصحابي ركعتين وأما الآن فسوف أصلي أربعاً.
وقيل: كمان ذلك سنة ثلاثين.
ثم دخلت سنة ثلاثين
ذكر عزل الوليد عن الكوفة وولاية سعيدفي هذه السنة عزل عثمان الوليد بن عقبة عن الكوفة وولاها سعيد بن العاص، وقد تقدم سبب ولاية الوليد على الكوفة في السنة الثانية من خلافة عثمان وأنه كان محبوباً إلى الناس، فبقي كذلك خمس سنين وليس لداره باب، ثم إن شباباً من أهل الكوفة نقبوا على ابن الحيسمان الخزاعي وكاثروه، فنذر بهم وخرج عليهم بالسيف وصرخ، فأشرف عليهم أبو شريح الخزاعي، وكان قد انتقل من المدينة إلى الكوفة للقرب من الجهاد، فصاح بهم أبو شريح فلم يلتفتوا وقتلوا ابن الحيسمان، وأخذهم الناس وفيهم زهير بن جندب الأزدي ومورع بن أبي مورع الأسدي، وشبيل بن أبي الأزدي وغيرهم، فشهد عليهم أبو شريح وابنه، فكتب فيهم الوليد إلى عثمان، فكتب عثمان بقتلهم، فقتلهم على باب القصر، ولهذا السبب أخذ في القسامة بقول ولي المقتول عن ملإٍ من الناس ليفطم الناس عن القتل وكان أبو زبيد الشاعر في الجاهلية والإسلام في بني تغلب، وكانوا أخواله، فظلموه ديناً له، فاخذ له الوليد حقه إذ كان عاملاً عليهم، فشكر أبو زبيد ذلك له وانقطع إليه وغشيه بالمدينة والكوفة، وكان نصرانياً، فأسلم عند الوليد وحسن إسلامه، فبينما هو عنده أتى آتٍ أبا زينب وأبا مورع وجندباً، وكانوا يحفرون للوليد منذ قتل أبناءهم ويضعون له العيون، فقال لهم: إن الوليد وأبا زبيد يشربان الخمر، فثاروا وأخذوا معهم نفراً من أهل الكوفة فاقتحموا عليه فلم يروا، فأقبلوا يتلاومون وسبهم الناس، وكتم الوليد ذلك عن عثمان.
وجاء جندبٌ ورهط معه إلى ابن مسعود فقالوا له: إن الوليد يعتكف على الخمر، وأذاعوا ذلك. فقال ابن مسعود: من استتر عنا لم نتبع عورته. فعاتبه الوليد على قوله حتى تغاضبا. ثم أتي الوليد بساحر، فأرسل إلى ابن مسعود يسأله عن حده، واعترف الساحر عند ابن مسعود، وكان يخيل إلى الناس أنه يدخل في دبر الحمار ويخرج من فيه، فأمره ابن مسعود بقتله. فلما أراد الوليد قتله أقبل الناس ومعهم جندبٌ فضرب الساحر فقتله، فحبسه الوليد وكتب إلى عثمان فيه، وأمره بإطلاقه وتأديبه، فغضب لجندب أصحابه وخرجوا إلى عثمان يستعفون من الوليد، فردهم خائبين. فلما رجعوا أتاهم كل موتور فاجتمعوا معهم على رأيهم، ودخل أبو زينب وأبو مورع وغيرهما على الوليد فتحدثوا عنده، فنام فأخذا خاتمه وسارا إلى المدينة، واستيقظ الوليد فلم ير خاتمه، فسأل نساءه عن ذلك، فأخبرنه أن آخر من بقي عنده رجلان صفتهما كذا وكذا. فاتهمهما وقال: هما أبو زينب وأبو مورع، وأرسل يطلبهما، فلم يوجدا.
فقدما على عثمان ومعهما غيرهما وأخبراه أنه شرب الخمر، فأرسل إلى الوليد، فقدم المدينة، ودعا بهما عثمان فقال: أتشهدان أنكما رأيتماه يشرب؟ فقالا: لا. قال: فكيف؟ قالا اعتصرناها من لحيته وهو يقيء الخمر. فأمر سعيد بن العاص فجلده، فأورث ذلك عداوة بين أهليهما، فكان على الوليد خميصة فأمر علي بن أبي طالب بنزعها لما جلد.
هكذا في هذه الرواية، والصحيح أن الذي جلده عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لأن علياً أمر ابنه الحسن أن يجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها! فأمر عبد الله بن جعفر فجلده أربعين. فقال علي: أمسك، جلد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر أربعين وجلد عثمان ثمانين وكلٌّ سنة وهذا أحب إلي.
وقيل: إن الوليد سكر وصلى الصبح بأهل الكوفة أربعاً ثم التفت إليهم وقال: أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود: ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم، وشهدوا عليه عند عثمان، فأمر علياً بجلده، فأمر علي عبد الله بن جعفر فجلده، وقال الحطيئة:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
نادى وقد تمت صلاتهم: ... أأزيدكم سكراً وما يدري
فأبوا أبا وهب ولو أذنوا ... لقرنت بين الشفع والوتر
كفوا عنانك إذ جريت ولو ... تركوا عنانك ولم تزل تجري
فلما علم عثمان من الوليد شرب الخمر عزله وولى سعيد بن العاص بن أمية، وكان سعيد قد ربي في حجر عمر فلما فتح الشام قدمه، فأقام مع معاوية، فذكر عمر يوماً قريشاً، فسأل عنه، فأخبر أنه بالشام، فاستقدمه، فقدم عليه، فقال له: قد بلغني عنك بلاء وصلاح فازدد يزدك الله خيراً. وقال له: هل لك من زوجة؟ قال: لا. وجاء عمر بنات سفيان بن عويف ومعهن أمهن، فقالت أمهن: هلك رجالنا وإذا هلك الرجال ضاع النساء، فضعهن في أكفائهن. فزوج سعيداً إحداهن، وزوج عبد الرحمن بن عوف أخرى والوليد بن عقبة الثالثة. وأتاه بنات مسعود بن نعيم النهشلي فقلن له: قد هلك رجالنا وبقي الصبيان، فضعنا في أكفائنا؛ فزوج سعيداً إحداهن، وجبير بن مطعم الأخرى. وكان عمومته ذوي بلاء في الإسلام وسابقة، فلم يمت عمر حتى كان سعيد من رجال قريش. فلما استعمله عثمان سار حتى أتى الكوفة أميراً ورجع معه الأشتر وأبو خشة الغفاري وجندب بن عبد الله وجثامة بن صعب بن جثامة، وكانوا ممن شخص مع الوليد يعينونه فصاروا عليه، فقال بعض شعراء الكوفة:
فررت من الوليد إلى سعيدٍ ... كأهل الحجر إذ جزعوا فباروا
يلينا من قريشٍ كل عامٍ ... أميرٌ محدثٌ أو مستشار
لنا نارٌ نخوفها فنخشى ... وليس لهم، فلا يخشون، نار
فلما وصل سعيدٌ الكوفة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: والله لقد بعثت إليكم وإني لكارهٌ، ولكني لم أجد بداً إذا أمرت أن أتمر، ألا إن الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها، ووالله لأضربن وجهها حتى أقمعها أو تعييني، وإني لرائد نفسي اليوم.
ثم نزل وسأل عن أهل الكوفة فعرف حال أهلها، فكتب إلى عثمان أن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم وغلب أهل الشرف منهم والبيوتات والسابقة، والغالب على تلك البلاد روادف قدمت، وأعرابٌ لحقت، حتى لا ينظر إلى ذي شرف وبلاء من نابتتها ولا نازلتها.
فكتب إليه عثمان: أما بعد ففضل أهل السابقة والقدمة ومن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها من غيرهم تبعاً لهم إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوا القيام به وقام به هؤلاء، واحفظ لكلٍ منزلته، وأعطهم جميعاً بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل.
فأرسل سعيد إلى أهل الأيام والقادسية فقال: أنتم وجوه الناس، والوجه ينبىء عن الجسد، فأبلغونا حاجة ذي الحاجة وخلة ذي الخلة. وأدخل معهم من يحتمل من اللواحق والروادف. وجعل القراء في سمره، فكأنما كانت الكومة يبساً شملته نار فانقطع إلى ذلك الضرب ضربهم ففشت القالة في أهل الكوفة، فكتب سعيد إلى عثمان بذلك، فجمع الناس وأخبرهم بما كتب إليه. فقالوا له: أصبت، لا تطمعهم فيما ليسوا له بأهل، فإنه إذا نهض في الأمور من ليس بأهل لها لم يحتملها وأفسدها. فقال عثمان: يا أهل المدينة استعدوا واستمسكوا فقد دبت إليكم الفتن، وإني والله لأتخلصن لكم الذي لكم حتى أنقله إليكم إن رأيتم حتى يأتي من شهد من أهل العراق الفتوح سهمه فيقيم معه في بلاده. فقالوا: كيف تنقل إلينا سهمنا من الأرضين؟ فقال: يبيعها من شاء بما كان له بالحجاز واليمن وغيرهما من البلاد. ففرحوا وفتح الله لهم أمراً لم يكن في حسابهم، وفعلوا ذلك واشتراه رجال من كل قبيلة وجاز لهم عن تراضٍ منهم ومن الناس وإقرار بالحقوق.
ذكر غزو سعيد بن العاص طبرستانفي هذه السنة غزا سعيد بن العاص طبرستان، فإنها لم يغزها أحد إلى هذه السنة. وقد تقدم في أيام عمر الخلاف في ذلك، وأن اصبهبذها صالح سويد ابن مقرن أيام عمر على مال بذله. وأما على هذا القول فإن سعيداً غزاها من الكوفة سنة ثلاثين ومعه الحسن والحسين وابن عباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وحذيفة بن اليمان وابن الزبير وناس من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وخرج ابن عامر من البصرة يريد خراسان فسبق سعيداً ونزل نيسابور، ونزل سعيد قومس، وهي صلح، صالحهم حذيفة بعد نهاوند فأتى جرجان فصالحوه على مائتي ألف، ثم أتى طميسة، وهي كلها من طبرستان متاخمة جرجان، على البحر، فقاتله أهلها، فصلى صلاة الخوف، أعلمه حذيفة كيفيتها، وهم يقتتلون. وضرب سعيد يومئذ رجلاً بالسيف على حبل عاتقه فخرج السيف من تحت مرفقه، وحاصرهم، فسألوا الأمان، فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلاً واحداً، ففتحوا الحصن فقتلوا جميعاً إلا رجلاً واحداً؛ وحوى ما في الحصن، فأصاب رجل من بني نهد سفطاً عليه قفل، فظن أن فيه جوهراً، وبلغ سعيداً فبعث إلى النهدي فأتاه بالسفط، فكسروا قفله فوجدوا فيه سفطاً، ففتحوه فوجدوا خرقة سوداء مدرجة فنشروها فوجدوا خرقة حمراء فنشروها، فإذا خرقة صفراء وفيها أيران كميت وورد. فقال شاعر يهجو بني نهد:
آب الكرام بالسبايا غنيمة ... وآب بنو نهدٍ بأيرين في سفط
كميتٍ ووردٍ وافرين كلاهما ... فظنوهما غنماً فناهيك من غلط
وفتح سيعدٌ نامية، وليست بمدينة، هي صحارى.
ومات مع سعيد محمد بن الحكم بن أبي عقيل جد يوسف بن عمر. ثم رجع سعيد، فمدحه كعب بن جعيل فقال:
فنعم الفتى إذ حال جيلان دونه ... وإذ هبطوا من دستبى ثم أبهرا
في أبيات. ولما صالح سعيد أهل جرجان كانوا يجبون أحياناً مائة ألف، وأحياناً مائتي ألف، وأحياناً ثلثمائة ألف، ويقولون: هذا صلح صلحنا، وربما منعوه، ثم امتنعوا وكفروا، فانقطع طريق خراسان من ناحية قومس إلا على خوف شديد منهم. كان الطريق إلى خراسان من فارس إلى كرمان إلى خراسان، وأول من صير الطريق من قومس قتيبة بن مسلم حين ولي خراسان. وقدمها يزيد بن المهلب فصالح صولا، وفتح البحيرة ودهستان، وصالح أهل جرجان على صلح سعيد.
ذكر غزو حذيفة الباب وأمر المصاحف
وفيها صرف حذيفة عن غزو الري إلى غزو الباب مدداً لعبد الرحمن بن ربيعة، وخرج معه سعيد بن العاص، فبلغ معه أذربيجان، وكانوا يجعلون الناس ردءاً، فأقام حتى عاد حذيفة ثم رجعا. فلما عاد حذيفة قال لسعيد بن العاص: لقد رأيت في سفرتي هذه أمراً، لئن ترك الناس ليختلفن في القرآن ثم لا يقومون عليه أبداً. قال: وما ذاك؟ قال: رأيت أناساً من أهل حمص يزعمون أن قراءتهم خير من قراءة غيرهم وأنهم أخذوا القرآن عن المقداد، ورأيت أهل دمشق يقولون: إن قراءتهم خير من قراءة غيرهم، ورأيت أهل الكوفة يقولون مثل ذلك وإنهم قرأوا على ابن مسعود، وأهل البصرة يقولون مثل ذلك وإنهم قرأوا على أبي موسى ويسمون مصحفه لباب القلوب. فلما وصلوا إلى الكوفة أخبر حذيفة الناس بذلك وحذرهم ما يخاف، فوافقه أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكثير من التابعين. وقال له أصحاب ابن مسعود: ما تنكر؟ ألسنا نقرأه على قراءة ابن مسعود؟ فغضب حذيفة ومن وافقه، وقالوا: إنما أنتم أعراب فاسكتوا فإنكم على خطإ. وقال حذيفة: والله لئن عشت لآتين أمير المؤمنين، ولأشيرن عليه أن يحول بين الناس وبين ذلك. فأغلظ له ابن مسعود، فغضب سعيد وقام وتفرق الناس، وغضب حذيفة وسار إلى عثمان فاخبره بالذي رأى، وقال: أنا النذير العريان فأدركوا الأمة. فجمع عثمان الصحابة وأخبرهم الخبر، فأعظموه ورأوا جميعاً ما رأى حذيفة.
فأرسل عثمان إلى حفصة بنت عمر: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها. وكانت هذه الصحف هي التي كتبت في أيام أبي بكر، فإن القتل لما كثر في الصحابة يوم اليمامة قال عمر لأبي بكر: إن القتل قد كثر واستحر بقراء القرآن يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء فيذهب من القرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فأمر أبو بكر زيد بن ثابت فجمعه من الرقاع والعسب وصدور الرجال، فكانت الصحف عند أبي بكر ثم عند عمر، فلما توفي عمر أخذتها حفصة فكانت عندها.
فأرسل عثمان إليها أخذها منها وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان: إذا اختلفتم فاكتبوها بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم؛ ففعلوا. فلما نسخوا الصحف ردها عثمان إلى حفصة وارسل إلى كل أفق بمصحف وحرق ما سوى ذلك وأمر أن يعتمدوا عليها ويدعوا ما سوى ذلك. فكل الناس عرف فضل هذا الفعل إلا ما كان من أهل الكوفة، فإن المصحف لما قدم عليهم فرح به أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وإن أصحاب عبد الله ومن وافقهم امتنعوا من ذلك وعابوا الناس، فقام فيهم ابن مسعود وقال: ولا كل ذلك فإنكم والله قد سبقتم سبقاً بيناً فاربعوا على ظلعكم. ولما قدم عليٌّ الكوفة قام إليه رجل فعاب عثمان بجمع الناس على المصحف، فصاح به وقال: اسكت فعن ملإٍ منا فعل ذلك، فلو وليت منه ما ولي عثمان لسلكت سبيله.
ذكر سقوط خاتم النبي
صلى الله عليه وسلم في بئر أريسوفيها وقع خاتم النبي، صلى الله عليه وسلم، من يد عثمان في بئر أريس، وهي على ميلين من المدينة، وكانت قليلة الماء، فما أدرك قعرها بعد.
وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اتخذه لما أراد أن يكاتب الأعاجم يدعوهم إلى الله تعالى، فقيل له: إنهم لا يقبلون كتاباً إلا مختوماً، فأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يعمل له خاتم من حديد، فلما عمل جعله في إصبعه، فأتاه جبرائيل فنهاه عنه، فنبذه، وأمر فعمل له خاتم من نحاس وجعله في إصبعه. فقال له جبرائيل، انبذه، فنبذه، وأمررسول الله، صلى الله عليه وسلم بخاتم من فضةٍ فصنع له فجعله في إصبعه، فأمره جبرائيل أن يقره، فأقره. وكان نقشه ثلاثة أسطر: (محمد) سطر، و (رسول) سطر، و (الله) سطر؛ فتختم به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى توفي، ثم تختم به أبو بكر حتى توفي، ثم عمر حتى توفي، ثم تختم به عثمان ست سنين. فحفروا بئراً بالمدينة شرباً للمسلمين، فقعد على رأس البئر فجعل يعبث بالخاتم ويديره باصبعه فسقط من يده في البئر، فطلبوه فيها ونزحوا مافيها من الماء فلم يقدروا عليه، فجعل فيه مالاً عظيماً لمن جاء به، واغتم لذلك غماً شديداً. فلما يئس منه صنع خاتماً آخر على مثاله ونقشه فبقي في إصبعه حتى هلك، فلما قتل ذهب الخاتم فلم يدر من أخذه.
ذكر تسيير أبي ذر إلى الربذة
وفي هذه السنة كان ما ذكر في أمر أبي ذر وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة، وقد ذكر في سبب ذلك أمور كثيرة، من سب معاوية إياه وتهديده بالقتل وحمله إلى المدينة من الشام بغير واء ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع، لا يصح النقل به، ولو صح لكان ينبغي أن يعتذر عن عثمان، فإن للإمام أن يؤدب رعيته، وغير ذلك من الأعذار، لا أن يجعل ذلك سبباً للطعن عليه، كرهت ذكرها.
وأما العاذرون فإنهم قالوا: لما ورد ابن السوداء إلى الشام لقي أبا ذر فقال: يا أبا ذر ألا تعجب من معاوية يقول: المال مال الله! ألا إن كل شيء لله، كأنه يريد أن يحتجنه دون الناس ويمحو اسم المسلمين. فأتاه أبو ذر فقال: ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله الساعة؟ قال: يرحمك الله يا أبا ذر! ألسنا عباد الله والمال ماله؟ قال: فلا تقله. قال: سأقول مال المسلمين. وأتى ابن السوداء أبا الدرداء فقال له مثل ذلك. فقال: أظنك والله يهودياً! فأتى عبادة بن الصامت فتعلق به عبادة وأتى به معاوية فقال: هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر.
وكان أبو ذر يذهب إلى أن المسلم لا ينبغي له أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته أو شيء ينفقه في سبيل الله أو يعده لكريم، ويأخذ بظاهر القرآن: (الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذابٍ أليم) التوبة: . فكان يقوم بالشام ويقول: يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء، وشكا الأغنياء ما يلقون منهم. فأرسل معاوية إليه بألف دينار في جنح الليل فأنفقها. فلما صلى معاوية الصبح دعا رسوله الذي أرسله إليه فقال: اذهب إلى أبي ذر فقل له: أنقذ جسدي من عذاب معاوية فإنه أرسلني إلى غيرك وإني أخطأت بك. ففعل ذلك. فقال له أبو ذر: يا بني قل له: والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار ولكن أخرنا ثلاثة أيام حتى نجمعها. فلما رأى معاوية أن فعله يصدق قوله كتب إلى عثمان: إن أبا ذر قد ضيق علي، وقد كان كذا وكذا، للذي يقوله الفقراء. فكتب إليه عثمان: إن الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها ولم يبق إلا أن تثب فلا تنكإ القرح وجهز أبا ذر إلي وابعث معه دليلاً وكفكف الناس ونفسك ما استطعت. وبعث إليه بأبي ذر.
فلما قدم المدينة ورأى المجالس في أصل جبل سلع قال: بشر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار. ودخل على عثمان فقال له: ما لأهل الشام يشكون ذرب لسانك؟ فأخبره. فقال: يا أبا ذر علي أن أقضي ما علي وأن أدعو الرعية إلى الاجتهاد والاقتصاد وما علي أن أجبرهم على الزهد. فقال أبو ذر: لا ترضوا من الأغنياء حتى يبذلوا المعروف ويحسنوا إلى الجيران والإخوان ويصلوا القرابات. فقال كعب الأحبار، وكان حاضراً: من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه. فضربه أبو ذر فشجه، وقال له: يا ابن اليهودية ما أنت وما ههنا؟ فاستوهب عثمان كعباً شجته، فوهبه. فقال أبو ذر لعثمان: تأذن لي في الخروج من المدينة؛ فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعاً. فأذن له، فنزل الربذة وبنى بها مسجداً، وأقطعه عثمان صرمةً من الإبل وأعطاه مملوكين وأجرى عليه كل يوم عطاء، وكذلك على رافع بن خديج، وكان قد خرج أيضاً عن المدينة لشيء سمعه.
وكان أبو ذر يتعاهد المدينة مخافة أن يعود أعرابياً، وأخرج معاوية إليه أهله، فخرجوا ومعهم جراب مثقلٌ يد الرجل، فقال: انظروا إلى هذا الذي يزهد في الدنيا ما عنده؟ فقالت امرأته: والله ما هو دينار ولا درهم ولكنها فلوس كان إذا خرج عطاؤه ابتاع منه فلوساً لحوائجنا. ولما نزل الربذة أقيمت الصلاة وعليها رجل يلي الصدقة، فقال: تقدم يا أبا ذر. فقال: لا، تقدم أنت، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لي: اسمع وأطع وإن كان عليك عبد مجدع، فأنت عبد ولست بأجدع؛ وكان من رقيق الصدقة اسمه مجاشع.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة زاد عثمان النادء الثالث يوم الجمعة على الزوراء. وفيها مات حاطب بن أبي بلتعة اللخمي وهو من أهل بدر.
حاطب بالحاء المهملة. وبلتعة بالباء الموحدة ثم التاء المثناة من فوق بوزن مقرعة.
وفيها مات عمرو بن أبي سرح الفهري وكان بدرياً. وفيها مات مسعود ابن الربيع، وقيل: ابن ربيعة بن عمرو القاري، من القارة، أسلم قبل دخول النبي، صلى الله عليه وسلم، دار الأرقم، وشهد بدراً، وكان عمره قد جاوز الستين. وفيها مات عبد الله بن كعب بن عمرو الأنصاري، شهد بدراً، وكان على غنائم النبي، صلى الله عليه وسلم، فيها وفي غيرها. وفيها مات عبد الله بن مظعون أخو عثمان وكان بدرياً؛ وجبار بن صخر، وهو بدري أيضاً.
جبار بالجيم وآخره راء.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين
ذكر غزوة الصواريقيل: وفي هذه السنة كانت غزوة الصواري، وقيل: كانت سنة أربع وثلاثين، وقيل: في سنة إحدى وثلاثين كانت غزوة الأساورة، وقيل: كانتا معاً سنة إحدى وثلاثين، وكان على المسلمين معاوية، وكان قد جمع الشام له أيام عثمان.
وسبب جمعه له أن أبا عبيدة بن الجراح لما حضر استخلف على عمله عياض بن غنم، وكان خاله وابن عمه، وكان جواداً مشهوراً، وقيل: استخلف معاذ بن جبل، على ما تقدم، فمات عياض واستخلف عمر بعده سعيد بن حذيم الجمحي، ومات سعيد وأمر عمر مكانه عمير بن سعد الأنصاري، ومات عمر وعمير على حمص وقنسرين، ومات يزيد بن أبي سفيان فجعل عمر مكانه أخاه معاوية ونعاه لأبي سفيان فقال: من جعلت على عمله يا أمير المؤمنين؟ فقال: معاوية. فقال: وصلتك رحم، فاجتمعت لمعاوية الأردن ودمشق، ومرض عمير بن سعد فاستعفى عثمان واستأذنه في الرجوع إلى أهله، فأذن له، وضم عثمان حمص وقنسرين إلى معاوية، ومات عبد الرحمن بن علقمة، وكان على فلسطين، فضم عثمان عمله إلى معاوية فاجتمع الشام لمعاوية لسنتين من إمارة عثمان، فهذا كان سبب اجتماع الشام له.
وأما سبب هذه الغزوة فإن المسلمين لما أصابوا من أهل إفريقية وقتلوهم وسبوهم، خرج قسطنطين بن هرقل في جمع له لم تجمع الروم مثله مذ كان الإسلام، فخرجوا في خمسمائة مركب أو ستمائة، وخرج المسلمون وعلى أهل الشام معاوية بن أبي سفيان، وعلى البحر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكانت الريح على المسلمين لما شاهدوا الروم، فأرسى المسلمون والروم وسكنت الريح، فقال المسلمون: الأمان بيننا وبينكم؛ فباتوا ليلتهم والمسلمون يقرأون القرآن ويصلون ويدعون، والرومى يضربون بالنواقيس، وقربوا من الغد سفنهم وقرب المسلمون سفنهم فربطوا بعضها مع بعض واقتتلوا بالسيوف والخناجر، وقتل من المسلمين بشرٌ كثير، وقتل من الروم ما لا يحصى، وصبروا يومئذٍ صبراً لم يصبروا في موطن قط مثله، ثم أنزل الله نصره على المسلمين، فانهزم قسطنطين جريحاً ولم ينج من الروم إلا الشريد. وأقام عبد الله بن سعد بذات الصواري بعد الهزيمة أياماً ورجع. فكان أول ما تكلم به محمد بن أبي حذيفة ومحمد بن أبي بكر في أمر عثمان في هذه الغزوة وأظهرا عيبه وما غير وما خالف به أبا بكر وعمر، ويقولان استعمل عبد الله بن سعد رجلاً كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أباح دمه، ونزل القرآن بكفره، وأخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قوماً أدخلهم، ونزع أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واستعمل سعيد بن العاص وابن عامر. فبلغ ذلك عبد الله بن سعد فقال: لا تركبا معنا، فركبا في مركب ما معهما إلا القبط، فلقوا العدو، فكانا أقل المسلمين نكايةً وقتالاً، فقيل لهما في ذلك، فقالا: كيف نقاتل مع عبد الله ابن سعد؟ استعمله عثمان وعثمان فعل كذا وكذا. فأرسل إليهما عبد الله ينهاهما ويتهددهما، ففسد الناس بقولهما، وتكلموا ما لم يكونوا ينطقون به.
وأما قسطنطين فإنه سار في مركبه إلى صقلية، فسأله أهلها عن حاله، فأخبرهم. فقالوا: أهلكت النصرانية وأفنيت رجالها! لو أتانا العرب لم يكن عندنا من يمنعهم. ثم أدخلوه الحمام وقتلوه وتركوا من كان معه في المركب وأذنوا له في المسير إلى القسطنطينية.
وقيل: في هذه السنة فتحت أرمينية على يد حبيب بن مسلمة، وقد تقدم ذكر ذلك.
ذكر مقتل يزدجرد بن شهريار
في هذه السنة هرب يزدجرد من فارس إلى خراسان في قول بعضهم، وقد تقدم الخلاف فيه، وكان ابن عامر قد خرج من البصرة حين وليها إلى فارس فافتتحها، وهرب يزدجرد من جور، وهي أدرشير خره، في سنة ثلاثين، فوجه ابنن عامر في أثره مجاشع بن مسعود، وقيل: هرم بن حيان العبدي، وقيل: هرم بن حيان اليشكري، فاتبعه إلى كرمان، فهرب يزدجرد إلى خراسان. وأصاب مجاشع بن مسعود ومن معه الثلج والدمق واشتد البرد، وكان الثلج قيد رمح، فهلك الجند وسلم مجاشع ورجل معه جارية فشق بطن بعير فأدخلها فيه وهرب. فلما كان الغد جاء فوجدها حية فحملها. فسمي ذلك القصر قصر مجاشع لأن جيشه هلكوا فيه، وهو على خمسة فراسخ أو ستة من السرجان من أعمال كرمان.
هذا على قول من يقول: إن هرب يزدجرد من فارس كان هذه السنة.
وأما سبب قتله، على ما تقدم من ذكره من فتح فارس وخراسان، فقد اختلف الناس في سبب قتله، فقيل: إنه هرب من كرمان في جماعة إلى مرو ومعه خرزاد أخو رستم، فرجع عنه إلى العراق ووصى به ماهويه مرزبان مرو، فسأله يزدجرد مالاً فمنعه، فخافه أهل مرو على أنفسهم فأرسلوا إلى الترك يستنصرونهم عليه، فأتوه فبيتوه فقتلوا أصحابه، فهرب يزدجرد ماشياً إلى شط المرغاب فأوى إلى بيت رجل ينقر الأرحاء، فلما نام قتله، وقيل: بل بيته أهل مرو ولم يستنصروا بالترك فقتلوا أصحابه وهرب منهم فقتله النقار، وتبعوا أثره إلى بيت الذي ينقر الأرحاء فأخذوه وضربوه فأقر بقتله فقتلوه وأهله.
وكان يزدجرد قد وطىء امرأة بها فولدت له غلاماً ذاهب الشق، ولدته بعد قتله فسمي المخدج، فولد له أولاد بخراسان، فوجد قتيبة بن مسلم حين افتتح الصغد وغيرها جاريتين من ولد المخدج فبعث بهما أو بإحداهما إلى الحجاج، فبعث بها إلى الوليد بن عبد الملك، فولدت للوليد يزيد بن الوليد الناقص. وأخرج يزدجرد من النهر وجعل في تابوت وحمل إلى إصطخر فوضع في ناووس هناك.
وقيل: إن يزدجرد هرب بعد وقعة نهاوند إلى أرض أصبهان وبها رجل يقال له مطيار كان قد أصاب من العرب شيئاً يسيراً فصار له بها محل كبير، فأى مطيار يزدجرد ذات يوم فحجبه بوابه ليستأذن له، فضربه وشجه، فدخل البواب على يزدجرد مدمى، فرحل عن أصبهان من ساعته فأتى الري، فخرج إليه صاحب طبرستان وعرض عليه بلاده وأخبره بحاصنتها، فلم يجبه.
وقيل: مضى من فوره ذلك إلى سجستان، ثم سار إلى مرو في ألف فارس، وقيل: بل قصد فارس فأقام بها أربع سنين، ثم أتى كرمان فأقام بها سنتين أو ثلاثاً فطلب إليه دهقانة شيئاً فلم يجبه فجره برجله وطرده عن بلاده، فسار إلى سجستان فأقام بها نحواً من خمس سنين، ثم عزم على قصد خراسان ليجمع الجموع ويسير بهم إلى العرب، فسار إلى مرو ومعه الرهن من أولاد الدهاقين ومعه فرخزاد. فلما قدم مرو كاتب ملوك الصين وملك فرغانة وملك كابل وملك الخزر يستمدهم، وكان الدهقان يومئذ بمروماهويه أبو براز، فوكل ماهويه بمرو ابنه براز ليحفظها ويمنع عنها يزدجرد خوفاً من مكره، فركب يزدجرد يوماً وطاف بالمدينة وأراد دخولها من بعض أبوابها، فمنعه براز، فصاح به أبوه ليفتح الباب فلم يفعل، وأومأ إليه أبوه أن لا يفعل، ففطن له رجل من أصحاب يزدجرد فأعلمه بذلك واستأذنه في قتله، فلم يأذن له.
وقيل: أراد يزدجرد صرف الدهقنة عن ماهويه إلى سنجان ابن أخيه، فبلغ ذلك ماهويه، فعمل في هلاك يزدجرد ؛ فكتب إلى نيزك طرخان يدعوه إلى القدوم عليه ليتفقا على قتله ومصالحة العرب عليه، وضمن له إن فعل أن يعطيه كل يوم ألف درهم. فكتب نيزك إلى يزدجرد يعده المساعدة على العرب وأنه يقدم عليه بنفسه إن أبعد عسكره وفرخزاد عنه. فاستشار يزدجرد أصحابه فقال له سنجان: لست أرى أن تبعد عنك أصحابك وفرخزاد. وقال أبو براز: أرى أن تتألف نيزك وتجيبه إلى ما سأل. فقبل رأيه وفرق عنه جنده، فصاح فرخزاد وشق جيبه وقال: أظنكم قاتلي هذا! ولم يبرح فرخزاد حتى كتب له يزدجرد بخط يده أنه آمن وأنه قد أسلم يزدجرد وأهله وما معه إلى ماهويه، وأشهد بذلك. وأقبل نيزك فلقيه يزدجرد بالمزامير والملاهي، أشار عليه بذلك أبو براز، فلما لقيه تأخر عنه أبو براز فاستقبله نيزك ماشياً، فأمر له يزدجرد بجنيبة من جنائبه، فركبها، فلما توسط عسكره تواقفا فقال له نيزك فيما يقول: زوجني إحدى بناتك حتى أناصحك في قتال عدوك. فسبه يزدجرد ، فضربه نيزك بمقرعته، وصاح يزدجرد ، وركض منهزماً. وقتل أصحاب نيزك أصحاب يزدجرد وانتهى يزدجرد إلى بيت طحان فمكث فيه ثلاثة أيام لم يأكل طعاماً. فقال له الطحان: اخرج أيها الشقي فكل طعاماً فقد جعت! فقال: لست أصل إلى ذلك إلا بزمزمة، وكان عند الطحان رجل يزمزم، فكلمه الطحان في ذلك ففعل وزمزم له فأكل. فلما رجع المزمزم سمع بذكر يزدجرد ، فسأل عن حليته فوصفوه له فأخبرهم به وبحليته فأرسل إليه أبو براز رجلاً من الأساورة وأمره بخنقه وإلقائه في النهر، وأتى الطحان فضربه ليدله عليه، فلم يفعل وجحده. فلما أراد الانصراف عنه قال له بعض أصحا به: إني لأجد ريح مسك؛ ونظر إلى طرف ثوبه من ديباج في الماء فجذبه فإذا هو يزدجرد ، فسأله أن لا يقتله ولا يدل عليه وجعل له خاتمه ومنطقته وسواره. فقال له: أعطني أربعة دراهم وأخلي عنك؛ فلم يكن معه وقال: إن خاتمي لا يحصى ثمنه فخذه، فأبى عليه، فقال له يزدجرد : قد كنت أخبر أني سأحتاج إلى أربعة دراهم فقد رأيت ذلك، ثم نزع أحد قرطيه فأعطاه الطحان ليستر عليه، وأرادوا قتله، فقال: ويحكم! إنا نجد في كتبنا أنه من قتل الملوك عاقبه الله بالحريق في الدنيا، فلا تقتلوني واحملوني إلى الدهقان أو إلى العرب فإنهم يستبقون مثلي! فأخذوا ما عليه وخنقوه بوتر القوس وألقوه في الماء، فأخذ أسقف مرو وجعله في تابوت ودفنه. وسأل أبو براز عن أحد القرطين وأخذ الذي دل عليه فضربه حتى أتى على نفسه.
وقيل: بل سار يزدجرد من كرمان قبل ورود العرب إليها نحو مرو على الطبسين وقوهستان في أربعة آلاف، فلما قارب مرو لقيه قائدان يقال لأحدهما بارز وللآخر سنجان وكانا متباغضين، فسعى براز بسنجان حتى هم يزدجرد بقتله، وأفشى ذلك إلى امرأة من نسائه، ففشا الحديث، فجمع سنجان أصحابه وقصد قصر يزدجرد ، فهرب براز وخاف يزدجرد فهرب أيضاً إلى رحى على فرسخين من مرو، فدخل بيت نقار الرحى، فأطعمه الطحان، فطلب منه شيئاً فأعطاه منطقته، فقال: إنما يكفيني أربعة دراهم، فلم يكن معه، ثم نام يزدجرد فقتله الطحان بفأس كانت معه وأخذ ما عليه وألقى جثته في الماء وشق بطنه وثقله.
وسمع بقتله مطران كان بمرو، فجمع النصارى وقال: قتل ابن شهريار، وإنما شهريار ابن شيرين المؤمنة التي قد عرفتم حقها وإحسانها إلى أهل ملتنا مع ما نال النصارى في ملك جده أنوشروان من الشرف، فينبغي أن نحزن لقتله ونبني له ناووساً، فأجابوه إلى ذلك وبنوا له ناووساً وأخرجوا جثته وكفنوها ودفنوها في الناووس.
وكان ملكه عشرين سنة، منها أربع سنين في دعة، وست عشرة سنة في تعب من محاربة العرب إياه وغلظتهم عليه، وكان آخر من ملك من آل أردشير ابن بابك وصفا الملك بعده للعرب.
ذكر مسير ابن عامر إلى خراسان وفتحها
لما قتل عمر بن الخطاب نقض أهل خراسان وغدروا. فلما افتتح ابن عامر فارس قام إليه حبيب بن أوس التميمي فقال له: أيها الأمير إن الأرض بين يديك ولم يفتح منها إلا القليل، فسر فإن الله ناصرك. قال: أو لم نؤمر بالمسير؟ وكره أن يظهر أنه قبل رأيه. وقيل: إن ابن عامر لما فتح فارس عاد إلى البصرة واستخلف على إصطخر شريك بن الأعورالحارثي، فبنى شريك مسجد إصطخر. فلما دخل البصرة أتاه الأحنف بن قيس، وقيل غيره، فقال له: إن عدوك منك هاربن ولك هائب، والبلاد واسعة، فسر فإن الله ناصرك ومعزٌّ دينه. فتجهز وسار واستخلف على البصرة زياداً، وسار إلى كرمان فاستعمل عليها مجاشع بن مسعود السلمي، وله صحبة، وأمره بمحاربة أهلها، وكانوا قد نكثوا أيضاً، واستعمل على سجستان الربيع بن زياد الحرثي، وكانوا أيضاً قد غدروا ونقضوا الصلح. وسار ابن عامر إلى نيسابور وجعل على مقدمته الأحنف بن قيس، فأتى الطبسين، وهما حصنان، وهما بابا خراسان، فصالحه أهلهما، وسار إلى وهستان فلقيه أهلها وقاتلهم حتى ألجأهم إلى حصنهم، وقدم عليها ابن عامرفصالحه أهلها على ستمائة ألف درهم. وقيل: كان المتوجه إلى قوهستان أمير بن أحمر اليشكري، وهي بلاد بكر بن وائل؛ وبعث ابن عامر سريةً إلى رستاق زام من أعمال نيسابور، ففتحه عنوةً، وفتح باخرز من أعمال نيسابور أيضاً، وفتح جوين من أعمال نيسابور أيضاً.
ووجه ابن عامر الأسود بن كلثوم العدوي من عدي الرباب، وكان ناسكاً، إلى بيهق، من أعمالها أيضاً، فقصد قصبته ودخل حيطان البلد من ثلمة كانت فيه ودخلت معه طائفة من المسلمين فأخذ العدو عليهم تلك الثلمة، فقاتل الأسود حتى قتل هو وطائفة ممن معه، وقام بأمر الناس بعده أخوه أدهم بن كلثوم، فظفر وفتح بيهق، وكان الأسود يدعو الله أن يحشره من بطون السباع والطير، فلم يواره أخوه، ودفن من استشهد من أصحابه. وفتح ابن عامر بشت من نيسابور.
وهذه بشت بالشين المعجمة، وليست ببست التي بالسين المهملة، تلك من بلاد الدوان وهذه من خراسان من نياسوبر.
وافتتح خواف وأسفرايين وأرغيان، ثم قصد نيسابور بعد ما استولى على أعمالها وافتتحها، فحصر أهلها أشهراً، وكان على كل ربع منها مرزبان للفرس يحفظه، فطلب صاحب ربع من تلك الرباع الأمان على أن يدخل المسلمين المدينة، فأجيب إلى ذلك، فأدخلهم ليلاً ففتحوا الباب وتحصن مرزبانها الأكبر في حصنها، ومعه جماعة، ومعه جماعة، وطلب الأمان والصلح على جميع نيسابور، فصالحه على ألف ألف درهم، وولى نيسابور قيس بن الهيثم السلمي، وسير جيشاً إلى نسا وأبيورد فافتتحوها صلحاً؛ وسير سريةً أخرى إلى سرخس مع عبد الله ابن خازم السلمي، فقاتلوا أهلها ثم طلبوا الأمان والصلح على أمان مائة رجل، فأجيبوا إلى ذلك، فصالحهم مرزبانها على ذلك وسمى مائة رجل ولم يذكر نفسه فقتله، ودخل سرخس عنوةً.
وأتى مرزبان طوس إلى ابن عامر فصالحه عن طوس على ستمائة ألف درهم؛ وسير جيشاً إلى هراة عليهم عبد الله بن خازم، وقيل غيره، فبلغ مرزبان هراة ذلك فسار إلى ابن عامر فصالحه عن هراة وباذغيس وبوشنج. وقيل: بل سار ابن عامر في الجيش إلى هراة فقاتله أهلها ثم صالحه مرزبانها على ألف ألف درهم، ولما غلب ابن عامر على هذه البلاد أرسل إليه مرزبان مرو فصالحه على ألفي ألف ومائتي ألف درهم، وقيل غير ذلك؛ وأرسل ابن عامر حاتم بن النعمان الباهلي إلى مرزبانها، وكانت مرو كلها صلحاً إلا قرية منها يقال لها سنج، فإنها أخذت عنوة وهي بكسر السين المهملة والنون الساكنة وآخرها جيم. ووجه ابن عامر الأحنف بن قيس إلى طخارستان، فمر برستاق يعرق برستاق الأحنف ويدعى سوانجرد، فحصر أهلها فصالحوه على ثلثمائة ألف درهم، فقال الأحنف: أصالحكم على أن يدخل رجل منا القصر فيؤذن فيه ويقيم فيكم حتى ينصرف. فرضوا بذلك، ومضى الأحنف إلى مرو الروذ فقاتله أهلها فقتلهم وهزمهم وحصرهم، وكان مرزبانها من أقارب باذان صاحب اليمن، فكتب إلى الأحنف: إنه دعاني إلى الصلح إسلام باذان، فصالحه على ستمائة ألف، وسير الأحنف سريةً فاستولت على رستاق بغ واستاقت منه مواشي، ثم صالحوا أهله. وجمع له أهل طخارستان، فاجتمع أهل الجوزجان، فوجه إليهم الأحنف الأقرع بن حابس التميمي في خيل وقال: يا بني تميم تحابوا وتباذلوا تعدل أموركم وابدأوا بجهاد بطونكم وفروجكم يصلح لكم دينكم، ولا تغلوا يسلم لكم جهادكم.
فسار الأقرع فلقي العدو بالجوزجان فكانت بالمسلمين جولة ثم عادوا فهزموا المشركين وفتحوا الجوزجان عنوة، فقال ابن الغريزة النهشلي:
سقى صوب السحاب إذا استهلت ... مصارع فتيةٍ بالجوزجان
إلى القصرين من رستاق خوتٍ ... أقادهم هناك الأقرعان
وفتح الأحنف الطالقان صلحاً وفتح الفارياب، وقيل: بل فتحها أمير بن أحمر. ثم سار الأحنف إلى بلخ، وهي مدينة طخارستان، فصالحه أهلها على أربعمائة ألف، وقيل: سبعمائة ألف؛ واستعمل على بلخ أسيد بن المتشمس، ثم سار إلى خوارزم، وهي على نهر جيحون، فلم يقدر عليها فاستشار أصحابه، فقال له حضنين بن المنذر: قال عمرو بن معد يكرب:
إذا لم تستطع أمراً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
فعاد إلى بلخ وقد قبض أسيد صلحها، وافق وهو يجيبهم المهرجان، فأهدوا له هدايا كثيرة من دارهم ودنانير ودواب وأوانٍ وثياب وغير ذلك، فقال لهم: ما صالحناه على هذا! فقالوا: لا، ولكن هذا شيء نفعله في هذا اليوم بأمرائنا. فقال: ما أدري ما هذا ولعله من حقي ولكن أقبضه حتى أنظر، فقبضه حتى قدم الأحنف فأخبره، فسألهم عنه، فقالوا ما قالوا لأسيد، فحمله إلى ابن عامر وأخبره عنه، فقال: خذه يا أبا بحر. قال: لا حاجة لي فيه. فأخذه ابن عامر. قال الحسن البصري: فضمه القرشي، وكان مضماً.
ولما تم لابن عامر هذا الفتح قال له الناس: ما فتح لأحد ما فتح عليك، فارس وكرمان وسجستان وخراسان. فقال: لا جرم لأجعلن شكري لله على ذلك أن أخرج محرماً من موقفي هذا. فأحرم بعمرة من نيسابور وقدم على عثمان واستخلف على خراسان قيس بن الهيثم، فسار قيسٌ بعدن شخوصه في أرض طخارستان فلم يأت بلداً منها إلا صالحه أهله وأذعنوا له، حتى أتى سمنجان فامتنعوا عليه، فحصرهم حتى فتحها عنوة.
أسيد بفتح الهمزة وكسر السين. وحضين بن المنذر بالضاد المعجمة.
ذكر فتح كرمانلما سار ابن عامر عن كرمان إلى خراسان واستعمل مجاشع بن مسعود السلمي على كرمان، على ما ذكرناه قبل، أمره أن يفتحها، وكان أهلها قد نكثوا وغدروا، ففتح هميد عنوةً واستبقى أهلها وأعطاهم أماناً وبنى بها قصراً يعرف بقصر مجاشع، وأتى السيرجان، وهي مدينة كرمان، فأقام عليها أياماً يسيرة وأهلها متحصنون، فقاتلهم وفتحها عنوةً، فجلا كثير من أهلها عنها، وفتح جيرفت عنوةً، وسار في كرمان فدوخ أهلها، وأتى القفص وقد تجمع له خلق كثير من الأعاجم الذين جلوا، فقاتلهم فظفر بهم وظهر عليهم، وهرب كثيرٌ من أهل كرمان فركبوا البحر ولحق بعضهم بمكران وبعضهم بسجستان، فأقطعت العرب منازلهم وأراضيهم فعمروها واحتفروا لها القني في مواضع منها وأدوا العشر منها.
ذكر فتح سجستان وكابل وغيرهما
قد تقدم ذكر فتح سجستان أيام عمر بن الخطاب، ثم إن أهلها نقضوا بعده. فلما توجه ابن عامر إلى خراسان سير إليها من كرمان الربيع بن زياد الحارثي، فقطع المفازة حتى أتى حصن زالق، فأغار على أهله يوم مهرجان وأخذ الدهقان، فافتدى نفسه بأن غرز عنزة وغمرها ذهباً وفضة وصالحه على صلح فارس. ثم أتى بلدة يقال لها كركويه، فصالحه أهلها ثم نزل رستاق هيسون، فصالحوه على غير قتال، وسار إلى زرنج فنزل على مدينة روشت بقرب زرنج، فقاتله أهلها وأصيب رجال من المسلمين، ثم انهزم المشركون وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأتى الربيع ناشروذ ففتحها، ثم أتى شرواذ فغلب عليها، وسار منها إلى زرنج فنازلها وقاتله أهلها فهزمهم وحصرهم، فأرسل إليه مرزبانها ليصالحه واستأمنه على نفسه ليحضر عنده فآمنه، وجلس له الربيع على جسد من أجساد القتلى واتكأ على آخر وأمر أصحابه ففعلوا مثله، فلما رآهم المرزبان هاله ذلك فصالحه على ألف وصيف مع كل وصيف جام من ذهب، ودخل المسلمون المدينة. ثم سار منها إلى سناروذ، وهي واد، فعبره وأتى القرية التي بها مربط فرس رستم الشديد، فقاتله أهلها، فظفر بهم ثم عاد إلى زرنج وأقام بها نحو سنة؛ وعاد إلى ابن عامر، واستخلف عليها عاملاً، فأخرج أهلها العامل وامتنعوا.
فكانت ولاية الربيع سنة ونصفاً. وسبى فيها أربعين ألف رأس. وكان كاتبه الحسن البصري. فاستعمل ابن عامر عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس على سجستان، فسار إليها فحصر زرنج، فصالحه مرزبانها على ألفي ألف درهم وألفي وصيف. وغلب عبد الرحمن على ما بين زرنج والكش من ناحية الهند، وغلب من ناحية الرخج على ما بينه وبين الدوان. فلما انتهى إلى بلد الدوان حصرهم في جبل الزوز ثم صالحهم ودخل على الزوز، وهو صنم من ذهب، عيناه ياقوتتان، فقطع يده وأخذ الياقوتتين، ثم قال للمرزبان: دونك الذهب والجوهر: وإنما أردت أن أعلمك أنه لا يضر ولا ينفع. وفتح كابل وزابلستان، وهي ولاية غزنة، ثم عاد إلى زرنج فأقام بها حتى اضطرب أمر عثمان، فاستخلف عليها أمير بن أحمر اليشكري وانصرف، فأخرج أهلها أمير بن أحمر وامتنعوا؛ ولأمير يقول زياد بن الأعجم:
لولا أميرٌ هلكت يشكرٌ ... ويشكرٌ هلكى على كل حال
ذكر عدة حوادثوحج بالناس هذه السنة عثمان. وفيها مات أبو الدرداء الأنصاري، وهو بدري، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين. وفيها مات أبو طلحة الأنصاري، وهو بدري، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: سنة إحدى وخمسين. وفيها مات أبو أسيد الساعدي، وقيل: مات سنة ستين، وهو على هذا القول آخر من مات من البدريين.
أسيد بضم الهمزة.
وفيها مات أبو سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، وأخوه الطفيل. وأبو سفيان بن حرب بن أمية، وهو ابن ثمان وثمانين سنة.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثينقيل: في هذه السنة غزا معاوية بن أبي سفيان مضيق القسطنطينية ومعه زوجته عاتكة بنت قرظة، وقيل فاختة.
ذكر ظفر الترك
وقتل عبد الرحمن بن ربيعةفي هذه السنة انتصرت الخزر والترك على المسلمين.
وسببه أن الغزوات لما تتابعت عليهم تذامروا وقالوا: كنا أمة لا يقرن بنا أحد حتى جاءت هذه الأمة القليلة فصرنا لا نقوم لها. فقال بعضهم: إن هؤلاء لا يموتون وما أصيب منهم أحد في غزوهم. وقد كان المسلمون غزوهم قبل ذلك فلم يقتل منهم أحد، فلهذا ظنوا أنهم لا يموتون. فقال بعضهم: أفلا تجربون؟ فكمنوا لهم في الغياض، فمر بالكمين نفرٌ من الجند فرموهم منها فقتلوهم فتواعد رؤوسهم إلى حربهم ثم اتعدوا يوماً. وكان عثمان قد كتب إلى عبد الرحمن ابن ربيعة وهو على الباب: إن الرعية قد أبطرها البطنة فلا تقتحم بالمسلمين فإني أخشى أن يقتلوا. فلم يرجع عبد الرحمن عن مقصده، فغزا نحو بلنجر، وكان الترك قد اجتمعت مع الخزر فقاتلوا المسلمين قتالاً شديداً وقتل عبد الرحمن، وكان يقال له ذو النور، وهو اسم سيفه، فأخذ أهل بلنجر جسده وجعلوه في تابوت فهم يستسقون به ويستنصرون به، فلما قتل انهزم الناس وافترقوا فرقتين: فرقة نحو الباب، فلقوا سلمان بن ربيعة أخا عبد الرحمن، كان قد سيره سعيد بن العاص مدداً للمسلمين بأمر عثمان، فلما لقوه نجوا معه، وفرقة نحو جيلان وجرجان، فيهم سلمان الفارسي وأبو هريرة، وكان في ذلك العسكر يزيد بن معاوية النخعي وعلقمة بن قيس ومعضد الشيباني وأبو مفرز التميمي في خباء واحد، وعمرو بن عتبة وخالد بن ربيعة والحلحال بن ذري والقرثع في خباء، فكانوا متجاورين في ذلك العسكر، وكان القرثع يقول: ما أحسن لمع الدماء على الثياب! وكان عمرو بن عتبة يقول لقباء عليه: ما أحسن حمرة الدماء على بياضك! ورأى يزيد بن معاوية أن غزالاً جيء به لم ير أحسن منه فلف في ملحفة ثم دفن في قبر لم ير أحسن منه عليه ثلاثة نفر قعود، فلما استيقظ واقتتل الناس رمي بحجر فهشم رأسه فمات، فكأنما زين ثوبه بالدماء وليس بتلطيخ، فدفن في قبر على الصورة التي رأى.
وقال معضد لعلقمة: أعرني بردك أعصب به رأسي، ففعل، فأتى برج بلنجر الذي أصيب فيه يزيد فرماهم فقتل منهم وأتاه حجر عرادة ففضخ هامته، فأخذه أصحابه فدفنوه إلى جنب يزيد، وأخذ علقمة البرد فكان يغسله فلا يخرج أثر الدم منه، وكان يشهد فيه الجمعة ويقول: يحملني على هذا أن دم معضد فيه. وأصاب عمرو بن عتبة جراحة فرأى قابءه كما اشتهى ثم قتل. وأما القرثع فإنه قاتل حتى خرق بالحراب، فبلغ الخبر بذلك عثمان فقال: إنا لله، انتكث أهل الكوفة، اللهم تب عليهم وأقبل بهم! وكان عثمان قد كتب إلى سعيد بن العاص أن ينفذ سلمان إلى الباب للغزو، فسيره فلقي المهزومين، على ما تقدم، فنجاهم الله به. فلما أصيب عبد الرحمن استعمل سعيدٌ سلمان بن ربيعة على الباب، واستعمل على الغزو بأهل الكوفة حذيفة بن اليمان، وأمدهم عثمان بأهل الشام عليهم حبيب بن مسلمة، فتأمر عليهم سلمان وأبى حبيب حتى قال أهل الشام: لقد هممنا بضرب سلمان. فقال الكوفيون: إذن والله نضرب حبيباً ونحبسه وإن أبيتم كثرت القتلى فينا وفيكم؛ وقال أوس بن مغراء في ذلك:
إن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم ... وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل
وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا ... وهذا أميرٌ في الكتائب مقبل
ونحن ولاة الأمر كنا حماته ... ليالي نرمي كل ثغر ونعكل
وأراد حبيب أن يتأمر على صاحب الباب كما يتأمر أمير الجيش إذا جاء من الكوفة، فكان ذلك أول اختلاف وقع بين أهل الكوفة والشام. وغزا حذيفة ثلاث غزوات، فقتل عثمان في الثالثة، ولقيهم مقتل عثمان فقال حذيفة بن اليمان: اللهم العن قتلته وشتامه! اللهم إنا كنا نعاتبه ويعاتبنا فاتخذوا ذلك سلماً إلى الفتنة! اللهم لا تمتهم إلا بالسيوف!
ذكر وفاة أبي ذر
وفيها مات أبو ذر، وكان قد قال لابنته: استشرفي يا بنية هل ترين أحداً؟ قالت: لا. قال: فما جاءت ساعتي بعد. ثم أمرها فذبحت شاةً ثم طبختها ثم قال: إذا جاءك الذين يدفنونني فإنه سيشهدني قوم صالحون فقولي لهم: يقسم عليكم أبو ذر أن لا تركبوا حتى تأكلوا. فلما نضجت قدرها قال لها: انظري هل ترين أحداً؟ قالت: نعم هؤلاء ركب. قال: استقبلي بي الكعبة، ففعلت. فقال: بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم مات، فخرجت ابنته فتلقتهم وقالت: رحمكم الله، اشهدوا أبا ذر. قالوا: وأين هو؟ فأشارت إليه، قالوا: نعم ونعمة عين! لقد أكرمنا الله بذلك. وكان فيهم ابن مسعود فبكى وقال: صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، (يموت وحده ويبعث وحده). فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه. وقالت لهم ابنته: إن أبا ذر يقرأ عليكم السلام، وأقسم عليكم أن لا تركبوا حتى تأكلوا؛ ففعلوا وحملوا أهله معهم حتى أقدموهم مكة ونعوه إلى عثمان، فضم ابنته إلى عياله وقال: يرحم الله أبا ذر ويغفر له نزوله الربذة.
ولما حضروا شموا من الخباء ريح مسك فسألوها عنه فقالت: إنه لما حضر قال: إن الميت يحضره شهود يجدون الريح لا يأكلون، فدوفي لهم مسكاً بماء ورشي به الخباء.
وكان النفر الذين شهدوه: ابن مسعود، وأبا مفرز، وبكر بن عبد الله التميميين، والأسود بن يزيد، وعلقمة بن قيس، ومالك الأشتر النخعيين، والحلحال الضبي، والحرث بن سويد التميمي، وعمرو بن عتبة السلمي، وابن ربيعة السلمي، وأبا رافع المزني، وسويد بن شعبة التميمي، وزياد بن معاوية النخعي، وأخا القرثع الضبي، وأخا معضد الشيباني. وقيل: كان موته سنة إحدى وثلاثين.
وقيل: إن ابن مسعود لم يحمل أهل أبي ذر معه إنما معه إنما تركهم حتى قدم على عثمان بمكة فأعلمه بموته، فجعل عثمان طريقه عليهم فحملهم معه.
ذكر خروج قارنثم جمع قارن جمعاً كثيراً من ناحية الطبسين وأهل باذغيس وهراة وقوهستان وأقبل في أربعين ألفاً، فقال قيس بن الهيثم لابن خازم: ما ترى؟ قال: أرى أن تخلي البلاد فإني أميرها ومعي عهد من ابن عامر إذا كانت حرب بخراسان فأنا أميرها؛ وأخرج كتاباً كان قد افتعله عمداً، فكره قيس منازعته وخلاه والبلاد وأقبل إلى ابن عامر، فلامه ابن عامر وقال: قد تركت البلاد خراباً وأقبلت! قال: جاءني بعهد منك. قال: فسار ابن خازم إلى قارن في أربعة آلاف وأمرا لناس فحملوا الودك، فلما قرب من قارن أمر الناس أن يدرج كل رجل منهم على زج رمحه خرقةً أو قطناً ثم يكثروا دهنه، ثم سار حتى أمسى، فقد مقدمته ستمائة ثم اتبعهم وأمر الناس، فأشعلوا النيران في أطراف الرماح، فانتهت مقدمته إلى معسكر قارن نصف الليل فناوشوهم، وهاج الناس على دهش وكانوا آمنين من البيات، ودنا ابن خازم منهم فرأوا النيران يمنةً ويسرةً تتقدم وتتأخر وتنخفض وترتفع، فهالهم ذلك، ومقدمة ابن خازم يقاتلونهم، ثم غشيهم ابن خازم بالمسلمين فقتل قارن، فانهزم المشركون واتبعوهم يقتلوهم كيف شاؤوا، وأصابوا سبياً كثيراً. وكتب ابن خازم بالفتح إلى ابن عامر، فرضي وأقره على خراسان، فلبث عليها حتى انقضى أمر الجمل، وأقبل إلى البصرة فشهد وقعة ابن الحضرمي وكان معه في دار سنبيل.
وقيل: ما جمع قارن استشار قيس بن الهيثم عبد الله بن خازم فيما يصنع، فقال: أرى أنك لا تطيق كثرة من قد أتانا، فاخرج بنفسك إلى ابن عامر فتخبره بكثرة العدو ونقيم نحن في الحصون ونطاولهم ويأتينا مددكم. فخرج قيس، فلما أمعن أظهر ابن خازم عهداً وقال: قد ولاني ابن عامر خراسان، وسار إلى قارن فظفر به وكتب بالفتح إلى ابن عامر فأقره على خراسان؛ ولم يزل أهل البصرة يغزون من لم يكن صالح من أهل خراسان، فإذا عادوا تركوا أربعة آلاف نجدة.
ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة مات العباس عم النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان عمره يوم مات ثمانياً وثمانين سنة، كان أسن من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بثلاث سنين. وفيها مات عبد الرحمن بن عوف وعمره خمس وسبعون سنة. وعبد الله بن مسعود وصلى عليه عمار بن ياسر، وقيل عثمان. وتوفي عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أري الأذان.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين
في هذه السنة كانت غزوة معاوية حصن المرأة من أرض الروم بناحية ملطية. وفيها كانت غزوة عبد الله بن سعد إفريقية الثانية حين نقض أهلها العهد؛ وفيها كان مسير الأحنف إلى خراسان وفتح المروين، ومسير ابن عامر إلى نيسابور وفتحها، في قول بعضهم، وقد تقدم ذكر ذلك؛ وفيها كانت غزوة قبرس، في قول بعضهم، وقد تقدم ذكرها مستوفى، وقيل إن فتحها كان سنة ثمان وعشرين، فلما كان سنة اثنتين وثلاثين أعان أهلها الروم على الغزاة في البحر بمراكب أعطوهم إياها، فغزاهم معاوية سنة ثلاث وثلاثين في خمس مئة مركب ففتحها عنوة فقتل وسبى ثم أقرهم على صلحهم وبعث إليهم اثني عشر ألفاً فبنوا المساجد وبنى مدينة. وقيل: كانت غزوته الثانية سنة خمس وثلاثين.
ذكر تسيير من سير من أهل الكوفة إلى الشاموفي هذه السنة سير عثمان نفراً من أهل الكوفة إلى الشام. وكان السبب في ذلك أن سعيد بن العاص لما ولاه عثمان الكوفة حين شهد على الوليد بشرب الخمر أمره أن يسير الوليد إليه، فقدم سعيد الكوفة وسير الوليد وغسل المنبر، فنهاه رجالٌ من بني أمية كانوا قد خرجوا معه عن ذلك، فلم يجبهم واختار سعيد وجوه الناس وأهل القادسية وقراء أهل الكوفة، فكان هؤلاء دخلته إذا خلا، وأما إذا خرج فكل الناس يدخل عليه، فدخلوا عليه يوماًن فبينا هم يتحدثون قال حبيش بن فلان الأسدي: ما أجود طلحة بن عبيد الله! فقال سعيد: إن من له مثل النشاستج لحقيق أن يكون جواداً، والله لو أن لي مثله لأعاشكم الله به عيشاً رغداً. فقال عبد الرحمن بن حبيش، وهو حدث: والله لوددت أن هذا الملطاط لك، يعني لسعيد، وهو ما كان للأكاسرة على جانب الفرات الذي يلي الكوفة. قالوا: فض الله فاك! والله لقد هممنا بك! فقال أبوه: غلام فلا تجاوزه. فقالوا: يتمنى له سوادنا. قال: ويتمنى لكم أضعافه، فثار به الأشتر وجندب وابن ذي الحنكة وصعصعة وابن الكواء وكميل وعمير بن ضابىء فأخذوه، فثار أبوه ليمنع عنه، فضربوهما حتى غشي عليهما، وجعل سعيد يناشدهم ويأبون حتى قضوا منهما وطراً. فسمعت بذلك بنو أسد فجاؤوا وفيهم طليحة فأحاطوا بالقصر وركبت القبائل فعاذوا بسعيد، فخرج سعيد إلى الناس فقال: أيها الناس قوم تنازعوا وقد رزق الله العافية، فردهم فتراجعوا. وأفاق الرجلان فقالا: قاتلنا غاشيتك. فقال: لا يغشوني أبداً، فكفا ألسنتكما ولا تحزبا الناس. ففعلا، وقعد أولئك النفر في بيوتهم وأقبلوا يقعون في عثمان.
وقيل: بل كان السبب في ذلك أنه كان يسمر عند سعيد بن العاص وجوه أهل الكوفة، منهم: مالك بن كعب الأرحبي والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس النخعيان ومالك الأشتر وغيرهم، فقال سعيد: إنما هذا السواد بستان قريش. فقال الأشتر: أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك؟ وتكلم القوم معه، فقال عبد الرحمن الأسدي، وكان على شرطة سعيد: أتردون على الأمير مقالته؟ وأغلظ لهم. فقال الأشتر: من ههنا لا يفوتنكم الرجل! فوثبوا عليه فوطئوه وطأً شديداً حتى غشي عليه، ثم جر برجله، فنضح بماء فأفاق فقال: قتلني من انتخبت. فقال: والله لا يسمر عندي أحد أبداً. فجعلوا يجلسون في مجالسهم يشتمون عثمان وسعيداً، واجتمع إليهم الناس حتى كثروا، فكتب سعيد وأشراف أهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم، فكتب إليهم أن يلحقوهم بمعاوية، وكتب إلى معاوية: إن نفراً قد خلقوا للفتنة فأقم عليهم وانههم، فإن آنست منهم رشداً فاقبل وإن أعيوك فارددهم علي.
فلما قدموا على معاوية أنزلهم كنيسة مريم وأجرى عليهم ما كان لهم بالعراق بأمر عثمان، وكان يتغدى ويتعشى معهم، فقال لهم يوماً: (إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفاً وغلبتم الأمم وحويتم مواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشاً، ولو لم تكن قريش كنتم أذلة، إن أئمتكم لكم جنة فلا تفترقوا عن جنتكم، وإن أئمتكم يصبرون لكم على الجور ويحتملون منكم المؤونة، والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم السوء ولا يحمدكم على الصبر ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم).
فقال رجل منهم، وهو صعصعة: (أما ما ذكرت من قريشٍ فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا، وأما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا).
فقال معاوية: (عرفتكم الآن وعلمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيبهم ولا أرى لك عقلاً، أعظم عليك أمر الإسلام وأذكرك به وتذكرني بالجاهلية! أخزى الله قوماً عظموا أمركم! افقهوا عني، ولا أظنكم تفقهون، أن قريشاً لم تعز في جاهلية ولا إسلام إلا بالله تعالى، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحساباً، وأمحضهم أنساباً، وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية، والناس يأكل بعضهم بعضاً، إلا بالله، فبوأهم حرماً آمناً يتخطف الناس من حولهم! هل تعرفون عربياً أو عجمياً أو أسود أو أحمر إلا وقد أصابه الدهر في بلده وحرمته إلا ما كان من قريش فإنهم لم يردهم أحدٌ من الناس بكيد إلا جعل الله خده الأسفل، حتى أراد الله أن يستنقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه ثم ارتضى له أصحاباً فكان خيارهم قريشاً، ثم بنى هذا الملك عليهم وجعل هذه الخلافة فيهم فلا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان الله يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه؟ أف لك ولأصحابك! أما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر القرى! أنتنها بيتاً، وأعمقها وادياً، وأعرفها بالشر، وألأمها جيراناً! لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سب بها، ثم كانوا ألأم العرب ألقاباً وأصهاراً، نزاع الأمم، وأنتم جيران الخط، وفعلة فارس، حتى أصابتكم دعوة النبي، صلى الله عليه وسلم، لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي، صلى الله عليه وسلم، فأنت شر قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس أقبلت تبغي دين الله عوجاً، وتنزع إلى الذلة، ولا يضر ذلك قريشاً ولا يضعهم ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إن الشيطان عنكم غير غافل، قد عرفكم بالشر فأغرى بكم الناس، وهو صارعكم، ولا تدركون بالشر أمراً أبداً إلا فتح الله عليكم شراً منه وأخزى).
ثم قام وتركهم فتقاصرت إليهم أنفسهم، فلما كان بعد ذلك أتاهم فقال: (إني قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحداً أبداً ولا يضره ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة، فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم ولا يبطرنكم الإنعام، فإن البطر لا يعتري الخيار، اذهبوا حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم).
فلما خرجوا دعاهم وقال لهم: (إني معيد عليكم أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان معصوماً فولاني وأدخلني في أمره، ثم استخلف أبو بكر فولاني، ثم استخلف عمر فولاني، ثم استخلف عثمان فولاني، ولم يولني أحدٌ إلا وهو عني راضٍ، وإنما طلب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للأعمال أهل الجزاء عن المسلمين والغناء، و وإن الله ذو سطوات ونقمات يمكر بمن مكر به، فلا تعرضوا لأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تظهرون، فإن الله غير تارككم حتى يختبركم ويبدي للناس سرائركم).
وكتب معاوية إلى عثمان: (إنه قدم علي أقوام ليست لهم عقول ولا أديان أثقلهم الإسلام و، أضجرهم العدل، لا يريدون الله بشيء، ولا يتكلمون بحجة، إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، والله مبتليهم ومختبرهم ثم فاضحهم ومخزيهم، وليسوا بالذين ينكون أحداً إلا مع غيرهم، فانه سعيداً ومن عنده عنهم، فإنهم ليسوا لأكثر من شغب ونكير).
فخرجوا من دمشق فقالوا: لا ترجعوا بنا إلى الكوفة فإنهم يشمتون بنا، ولكن ميلوا إلى الجزيرة، فسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان على حمص، فدعاهم فقال: (يا آلة الشيطان لا مرحباً بكم ولا أهلاً، قد رجع الشيطان محسوراً وأنتم بعد نشا، خسر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم، يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم، لا تقولوا لي ما بلغني أنكم قلتم لمعاوية؛ أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من قد عجمته العاجمات، أنا ابن فاقىء الردة! والله لئن بلغني يا صعصعة أن أحداً ممن معي دق أنفك ثم غمصك لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى)! فأقامهم شهراً كلما ركب أمشاهم، فإذا مر به صعصعة قال: يا ابن الحطيئة، أعلمت أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر؟ ما لك لا تقول كما بلغني أنك قلت لسعيد ومعاوية؟ فيقولون: نتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله. فما زالوا به حتى قال: تاب الله عليكم. وسرح الأشتر إلى عثمان، فقدم إليه ثانياً، فقال له عثمان: احلل حيث شئت. فقال: مع عبد الرحمن بن خالد. فقال: ذلك إليك، فرجع إليه.
قيل: وقد روي أيضاً نحو ما تقدم وزادوا فيه أن معاوية لما عاد غليهم من القابلة وذكرهم كان مما قال لهم: وإني والله لا آمركم بشيء إلا وقد بدأت فيه بنفسي وأهل بيتي، وقد عرفت قريش أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها غلا ما جعل الله لنبيه، صلى الله عليه وسلم، فإنه انتخبه وأكرمه، وإني لأظن أن أبا سفيان لو ولد الناس لم يلد إلا حازماً. قال صعصعة: قد كذبت! قد ولدهم خير من أبي سفيان من خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة فسجدوا له، وكان فيهم البر والفاجر، والأحمق والكيس. فخرج تلك الليلة من عندهم ثم أتاهم القابلة فتحدث عندهم طويلاً ثم قال: أيها القوم ردوا خيراً أو اسكتوا وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهاليكم والمسلمين فاطلبوه. فقال صعصعة: لست بأهل ذلك ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله. فقال: أليس أول من ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعة نبيه وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا؟ قالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: إني آمركم الآن إن كنت فعلت فأتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه، صلى الله عليه وسلم، ولزوم الجماعة وأن توقروا أئمتكم وتدلوهم على أحسن ما قدرتم عليه. فقال صعصعة: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإن في المسلمين من هو أحق به منك، من كان أبوه أحسن قدماً في الإسلام من أبيك وهو أحسن في الإسلام قدماً منك. فقال: والله إن لي في الإسلام قدماً ولغيري كان أحسن قدماً مني ولكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطاب، فلو كان غيري أقوى مني لم تكن عند عمر هوادة لي ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلي فاعتزلت عمله، فمهلاً فإن في ذلك وأشباهه ما يتمنى الشيطان ويأمر، ولعمري لو كانت الأمور تقضى على رأيكم وأمانيكم ما استقامت لأهل الإسلام يوماً ولا ليلة، فعاودوا الخير وقولوه، وإن لله لسطوات، وإني لخائف عليكم أن تتايعوا في مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن فيحلكم ذلك دار الهوان في العاجل والآجل. فوثبوا عليه وأخذوا رأسه وليحته، فقال: مه إن هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضاً! ثم قام من عندهم وكتب إلى عثمان نحو الكتاب المتقدم، فكتب إليه عثمان يأمره أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردهم فأطلقوا ألسنتهم، فضج سعيد منهم إلى عثمان، فكتب إليه عثمان أن يسيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بحمص، فسيرهم إليها، فأنزلهم عبد الرحمن وأجرى عليهم رزقاً، وكانوا: الأشتر وثابت بن قيس الهمداني وكميل بن زياد وزيد بن صوحان وأخاه صعصعة وجندب بن زهير الغامدي وجندب بن كعب الأزدي وعروة بن الجعد وعمرو ابن الحمق الخزاعي وابن الكواء.
قيل: سأل معاوية ابن الكواء عن نفسه قال: أنت بعيد الثرى كثير المرعى طيب البديهة بعيد الغور، الغالب عليك الحلم، ركن من أركان الإسلام، سدت بك فرجة مخوفة. قال: فأخبرني عن أهل الأحداث من الأمصار فإنك أعقل أصحابك. قال: أما أهل المدينة فهم أحرص الأمة على الشر وأعجزهم عنه، وأما أهل الكوفة فإنهم يردون جميعاً ويصدرون شتى، وأما أهل مصر فهم أولى الناس بشر وأسرعهم ندامة، وأما أهل الشام فهم أطوع الناس لمرشدهم وأعصاهم لمغويهم.
ذكر تسيير من سير من أهل البصرة إلى الشامولما مضت ثلا سنين من إمارة عبد الله بن عامر بلغه أن في عبد القيس رجلاً نازلاً على حكيم بن جبلة العبدي، وكان عبد الله بن سبأ، المعروف بابن السوداء، هو الرجل النازل عليه، واجتمع إليه نفر فطرح إليهم ابن السوداء ولم يصرح، فقبلوا منه. فأرسل إليهم ابن عامر فسأله: من أنت؟ فقال: رجل من أهل الكتاب رغبت في الإسلام وفي جوارك. فقال: ما يبلغني ذلك، اخرج عني. فخرج حتى أتى الكوفة فأخرج منها، فقصد مصر فاستقر بها وجعل يكاتبهم ويكاتبونه وتختلف الرجال بينهم.
وكان حمران بن أبان قد تزوج امرأة في عدتها ففرق عثمان بينهما وضربه وسيره إلى البصرة، فلزم ابن عامر فتذاكروا يوماً المرور بعامر بن عبد القيس، فقال حمران: ألا أسبقكم فأخبره؟ فخرج فدخل عليه وهو يقرأ في المصحف فقال: الأمير يريد المرور بك فأحببت أن أعلمك، فلم يقطع قراءته، فقام من عنده، فلما انتهى إلى الباب لقيه ابن عامر فقال: جئتك من عند امرىءٍ لا يرى لآل إبراهيم عليه فضلاً؛ ودخل عليه ابن عامر فأطبق المصحف وحدثه، فقال له ابن عامر: ألا تغشانا؟ فقال: سعد بن أبي القرحاء يحب الشرف. فقال: ألا نستعملك؟ فقال: حصين بن الحر يحب العمل. فقال: ألا نزوجك؟ فقال: ربيعة بن عسل يعجبه النساء. فقال: إن هذا يزعم أنك لا ترى لآل إبراهيم عليك فضلاً! فتصفح المصحف، فكان أول ما وقع عليه: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) آل عمران: .
فسعى به حمران، وأقام حمران بالبصرة ما شاء الله، وأذن له عثمان فقدم المدينة ومعه قوم، فسعوا بعامر بن عبد القيس أنه لا يرى التزويج ولا يأكل اللحم ولا يشهد الجمعة، فألحقه بمعاوية، فلما قدم عليه رأى عنده ثريداً فأكل أكلاً عربياً، فعرف أن الرجل مكذوب عليه، فعرفه معاوية سبب إخراجه، فقال: أما الجمعة فإني أشهدها في مؤخر المجلس ثم أرجع في أوائل الناس، وأما التزويج فإني خرجت وأنا يخطب علي، وأما اللحم فقد رأيت ولكني لا آكل ذبائح القصابين منذ رأيت قصاباً يجر شاة إلى مذبحها ثم وضع السكين على حلقها فما زال يقول: النفاق النفاق، حتى ذبحها. قال: فارجع. قال: لا أرجع إلى بلد استحل أهله مني ما استحلوا؛ فكان يكون في السواحل، فكان يلقى معاوية فيكثر معاوية أن يقول: ما حاجتك. فيقول: لا حاجة لي. فلما أكثر عليه قال: ترد علي من حر البصرة شيئاً لعل الصوم أن يشتد علي فإنه يخف علي في بلادكم.
ذكر عدة حوادثوحج بالناس عثمان. وفيها مات المقداد بن عمرو المعروف بالمقداد بن الأسود صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأوصى أن يصلي عليه الزبير. وفيها توفي الطفيل والحصين بنا الحرث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وشهدا بدراً وأحداً، وقيل: ماتا سنة إحدى وثلاثين، وقيل اثنتين وثلاثين.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثينقيل: فيها كانت غزوة الصواري، في قول بعضهم، وقد تقدم ذكرها.
وفيها تكاتب المنحرفون عن عثمان للاجتماع لمناظرته فيما كانوا يذكرون أنهم نقموا عليه.
ذكر الخبر عن ذلك وعن يوم الجرعةقد ذكرنا خبر المسيرين من الكوفة ومقامم عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ووفد سعيد بن العاص إلى عثمان سنة إحدى عشرة من خلافة عثمان، وكان سعيد قد ولى قبل مخرجه إلى عثمان بسنة وبعض أخرى الأشعث بن قيس أذربيجان، وسعيد بن قيس الري، والنسير العجلي همذان، والسائب بن الأقرع أصبهان، ومالك بن حبيب ماه، وحكيم بن سلام الحزامي الموصل، وجرير ابن عبد الله قرقيسيا، وسلمان بن ربيعة الباب، وجعل القعقاع بن عمرو على الحرب، وعلى حلوان عتيبة بن النهاس، وخلت الكوفة من الرؤساء. فخرج يزيد بن قيس وهو يريد خلع عثمان ومعه الذين كان ابن السوداء يكاتبهم، فأخذه القعقاع بن عمرو فقال: إنما نستعفي من سعيد. فقال: أما هذا فنعم، فتركه وكاتب يزيد المسيرين في القدوم عليه، فسار الأشتر والذين عند عبد الرحمن ابن خالد، فسبقهم الأشتر، فلم يفجإ الناس يوم الجمعة إلا والأشتر على باب المسجد يقول: جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان وتركت سعيداً يريده على نقصان نسائكم على مائة درهم، ورد أولي البلاء منكم إلى ألفين، ويزعم أن فيئكم بستان قريش. فاستخف الناس وجعل أهل الرأي ينهونهم فلا يسمع منهم.
فخرج يزيد وأمر منادياً ينادي: من شاء أن يلحق بيزيد لرد سعيد فليفعل، فبقي أشراف الناس وحلماؤهم في المسجد. وعمرو بن حريث يومئذ خليفة سعيد، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وأمرهم بالاجتماع والطاعة، فقال له القعقاع: أترد السيل عن أدراجه؟ هيهات لا والله لا يسكن الغوغاء إلا المشرفية ويوشك أن تنتضى ويعجون عجيج العتدان ويتمنون ما هم فيه اليوم فلا يرده الله عليهم أبداً، فاصبر. قال: أصبر. وتحول إلى منزلته، وخرج يزيد بن قيس فنزل الجرعة - وقي قريب من القادسية - ومعه الأشتر، فوصل إليهم سعيد ابن العاص، فقالوا: لا حاجة لنا بك. قال: إنما كان يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلاً وإلي رجلاً، وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل واحد؟ ثم انصرف عنهم، وتحسوا بمولى له على بعير قد حسر فقال: والله ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع. فقتله الأشتر. ومضى سعيد حتى قدم على عثمان فأخبره بما فعلوا وأنهم يريدون البذل وأنهم يختارون أبا موسى، فجعل أبا موسى الأشعري أميراً، وكتب إليهم: (أما بعد فقد أمرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد، ووالله لأقرضنكم عرضي ولأبذلن لكم صبري ولأستصلحنكم بجهدي فلا تدعوا شيئاً أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئاً كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا ما استعفيتم منه، أنزل فيه عندما أحببتم حتى لا يكون لكم على الله حجة، ولنصبرن كما أمرنا حتى تبلغوا ما تريدون). ورجع من الأمراء من قرب من الكوفة، فرجع جرير من قرقيسيا، وعتيبة بن النهاس من حلوان، وخطبهم أبو موسى وأمرهم بلزوم الجماعة وطاعة عثمان، فأجابوا إلى ذلك وقالوا: صل بنا. فقال: لا إلا على السمع والطاعة لعثمان. قالوا: نعم. فصلى بهم وأتاه ولاته فولاهم.
وقيل: سبب يوم الجرعة أنه كان قد اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان فأجمع رأيهم فأرسلوا إليه عامر بن عبد الله التميمي ثم العنبري. وهو الذي يدعى عامر بن عبد القيس، فأتاه فدخل عليه فقال له: إن ناساً من المسلمين اجتمعوا ونظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أموراً عظاماً، فاتق الله وتب إليه. فقال عثمان: انظروا إلى هذا فإن الناس يزعمون أنه قارىء ثم يجيء يكلمني في المحقرات، ووالله ما يدري أين الله! فقال عامر: بلى والله إني لأدري أن الله لبالمرصاد! فأرسل عثمان إلى معاوية وعبد الله بن سعد وإلى سعيد بن العاص وعمرو بن العاص وعبد الله بن عامر فجمعهم فشاورهم وقال لهم: إن لكل امرىء وزراء ونصحاء وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما قد رأيتم وطلبوا إلي أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون، فاجتهدوا رأيكم. فقال له ابن عامر: أرى لك يا أميرالمؤمنين أن تشغلهم بالجهاد عنك حتى يذلوا لك ولا يكون همة أحدهم إلا في نفسه وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته. وقال سعيد: احسم عنك الداء فاقطع عنك الذي تخاف، إن لكل قوم قادة متى تهلك يتفرقوا ولا يجتمع لهم أمر. فقال عثمان: إن هذا هو الراي لولا ما فيه. وقال معاوية: أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد فيكفيك كل رجل منهم ما قبله وأكفيك أنا أهل الشام. وقال عبد الله بن سعد: إن الناس أهل طمع فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم. ثم قام عمرو ابن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية فقلت وقالوا وزغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزماً وأقدم قدماً. فقال له عثمان: ما لك قمل فروك؟ أهذا الجد منك؟ فسكت عمرو حتى تفرقوا فقال: والله يا أمير المؤمنين لأنت أكرم علي من ذلك ولكني علمت أن بالباب من يبلغ الناس قول كل رجل منا فاردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي فأقود إليك خيراً وأدفع عنك شراً.
فرد عثمان عماله إلى أعمالهم وأمرهم بتجهيز الناس في البعوث وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه، ورد سعيداً إلى الكوفة، فلقيه الناس من الجرعة وردوه، كما سبق ذكره. قال أبو ثور الحداني: جلست إلى حذيفة وأبي مسعود الأنصاري بمسجد الكوفة يوم الجرعة، فقال أبو مسعود: ما أرى أن ترد على عقبيها حتى يكون فيها دماء. فقال حذيفة: والله لتردن على عقبيها ولا يكون فيها محجمة دم وما أرى اليوم شيئاً إلا وقد علمته والنبي، صلى الله عليه وسلم، حي. فرجع سعيد إلى عثمان ولم يسفك دم، وجاء أبو موسى أميراً، وأمر عثمان حذيفة بن اليمان أن يغزو الباب فسار نحوه.
ذكر ابتداء قتل عثمانفي هذه السنة تكاتب نفرٌ من اصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وغيرهم بعضهم إلى بعض: أن اقدموا فإن الجهاد عندنا، وعظم الناس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وليس أحد من الصحابة ينهى ولا يذب إلا نفرٌ، منهم: زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، فاجتمع الناس فكلموا علي بن أبي طالب، فدخل على عثمان فقال له: الناس ورائي وقد كلموني فيك، والله ما أدري ما أقول لك ولا أعرف شيئاً تجهله ولا أدلك على أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما أعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ولا خلونا بشيء فنبلغكه وما خصصنا بأمر دونك، وقد رأيت وصحبت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسمعت منه ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشيءٍ من الخير منك، وأنت أقرب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رحماً، ولقد نلت من صهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما لم ينالاه، وما سبقاك إلى شيء، فالله الله في نفسك، فإنك والله ما تبصر من عمى ولا تعلم من جهالة، وإن الطريق لواضح بين، وإن أعلام الدين لقائمة. اعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله إمامٌ عادل هدي وهدى فأقام سنة معلومةً وأمات بدعةً متروكة، فوالله إن كلاً لبين، وإن السنن لقائمة لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وأضل فأمات سنةً معلومة وأحيا بدعة متروكةً، وإني أحذرك الله وسطواته ونقماته، فإن عذابه شديد أليم، وأحذرك أن تكون إمام هذه الأمة الذي يقتل فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس أمورها عليها ويتركها شيعاً لا يبصرون الحق لعلو الباطل، يموجون فيها موجاًن ويمرجون فيها مرجاً.
فقال عثمان: قد علمت والله ليقولن الذي قلت، أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك ولا أسلمتك ولا عبت عليك ولا جئت منكر أن وصلت رحماً وسددت خلةً وآويت ضائعاً ووليت شبيهاً بمن كان عمر يولي. أنشدك الله يا علي هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال: نعم. قال: فتعلم أن عمر ولاه؟ قال: نعم. قال: فلم تلومني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته؟ قال علي: إن عمر كان يطأ على صماخ من ولى إن بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى العقوبة وأنت لا تفعل، ضعفت ورققت على أقربائك. قال عثمان: وهم أقرباؤك أيضاً! قال: أجل، إن رحمهم مني لقريبة ولكن الفضل في غيرهم. قال عثمان: هل تعلم أن عمر ولى معاوية؟ فقد وليته. فقال علي: أنشدك الله، هل تعلم أن معاوية كان أخوف لعمر من يرفأ، غلام عمر، له؟ قال: نعم. قال علي: فإن معاوية يقتطع الأمور دونك ويقول للناس هذا أمر عثمان، وأنت تعلم ذلك فلا تغير عليه. //

ج8. كتاب : الكامل في التاريخ المؤلف : ابن الأثير
ثم خرج علي من عنده وخرج عثمان على أثره فجلس على المنبر ثم قال: أما بعد فإن لكل شيء آفة ولكل أمر عاهة، وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة عيابون طعانون يرونكم ما تحبون ويسترون عنكم ما تكرهون، يقولون لكم ويقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق، أحب مواردهم إليهم البعيد، لا يشربون إلا نغصاً ولا يردون إلا عكراً، لا يقوم لهم رائد وقد أعيتهم الأمور، ألا فقد والله عبتم علي ما أقررتم لابن الخطاب بمثله، ولكنه وطئكم برجله وضربكم بيده وقمعكم بلسانه فدنتم له على ما أحببتم وكرهتم، ولنت لكم وأوطأتمك كتف وكففت يدي ولساني عنكم فاجترأتم علي. أما والله لأنا أعز نفراً وأقرب ناصراً وأكثر عدداً وأحرى، إن قلت هلم أتي إلي، ولقد عددت لكم أقراناً، وأفضلت عليكم فضولاً، وكشرت لكم عن نابي، وأخرجتم مني خلقاً لم أكن أحسنه ومنطقاً لم أنطق به، فكفوا عني ألسنتكم وعيبكم وطعنكم على ولاتكم، فإني كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا. ألا فما تفقدون من حقكم؟ والله ما قصرت عن بلوغ ما بلغ من كان قبل ولم تكونوا تختلفون عليه.
فقام مروان بن الحكم فقال: إن شئتم حكمنا والله ما بيننا وبينكم السيف، نحن وأنتم والله كما قال الشاعر:
فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم ... مغارسكم تبنون في دمن الثرى
فقال عثمان: اسكت لا سكت، دعني وأصحابي، ما منطقك في هذا! ألم أتقدم إليك أن لا تنطق؟ فسكت مروان ونزل عثمان عن المنبر، فاشتد قوله على الناس وعظم وزاد تألبهم عليه.
ذكر عدة حوادثوحج هذه السنة بالناس عثمان. وفي هذه السنة توفي كعب الأحبار، وهو كعب بن ماتع، وأسلم أيام عمر. وفيها مات أبو عبس عبد الرحمن بن جبر الأنصاري، شهد بدراً. وفيها مات مسطح بن أثاثة المطلبي، وهو ابن ست وخمسين سنة، وقيل: بل عاش وشهد صفين مع علي، وهو الأكثر، وكان بدرياً. وفيها توفي عبادة بن الصامت الأنصاري، وهو ممن شهد العقبة، وكان نقيباً بدرياً؛ وعاقل بن البكير، وهو بدري أيضاً.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين
ذكر مسير من سار إلى حصر عثمانقيل: في هذه السنة كان مسير من سار من أهل مصر إلى ذي خشب، ومسير من سار من أهل العراق إلى ذي المروة.
وكان سبب ذلك أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً من أهل صنعاء أمه سوداء، وأسلم أيام عثمان، ثم تنقل في الحجاز ثم بالبصرة ثم بالكوفة ثم بالشام يريد إضلال الناس فلم يقدر منهم على ذلك، فأخرجه أهل الشام، فأتى مصر فأقام فيهم وقال لهم: العجب ممن يصدق أن عيسى يرجع، ويكذب أن محمداً يرجع، فوضع لهم الرجعة، فقبلت منه، ثم قال لهم بعد ذلك: إنه كان لكل نبي وصي، وعلي وصي محمد، فمن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ووثب على وصيه، وإن عثمان أخذها بغير حق، فانهضوا في هذا الأمر وابدأوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا به الناس.
وبث دعاته، وكاتب من استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودعوا في السر إلى ما هو عليه رأيهم وصاروا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيب ولاتهم، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر ما يصنعون، حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا بذلك الأرض إذاعة، فيقول أهل كل مصر: إنا لفي عافية مما ابتلي به هؤلاء، إلا أهل المدينة فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار، فقالوا: إنا لفي عافية مما فيه الناس. فأتوا عثمان فقالوا: يا أمير المؤمنين أيأتيك عن الناس الذي يأتينا؟ فقال: ما جاءني إلا السلامة وأنتم شركائي وشهود المؤمنين، فأشيروا علي. قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالاً ممن تثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم.
فدعا محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة، وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة، وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر، وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشام، وفرق رجالاً سواهم، فرجعوا جميعاً قبل عمار فقالوا: ما أنكرنا شيئاً أيها الناس ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامهم. وتأخر عمار حتى ظنوا أنه قد اغتيل، فوصل كتاب من عبد الله بن أبي سرح يذكر أن عماراً قد استماله قومٌ بمصر وانقطعوا إليه، منهم: عبد الله بن السوداء، وخالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر.
فكتب عثمان إلى أهل الأمصار: أما بعد فإني آخذ عمالي بموافاتي كل موسم، وقد رفع إلي أهل المدينة أن أقواماً يشتمون ويضربون، فمن ادعى شيئاً من ذلك فليواف الموسم يأخذ حقه حيث كان مني أو من عمالي، أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين. فلما قرىء في الأمصار بكى الناس ودعوا لعثمان. وبعث إلى عمال الأمصار فقدموا عليه في الموسم: عبد الله بن عامر، وعبد الله بن سعد، ومعاوية، وأدخل معهم سعيد بن العاص وعمراً، فقال: ويحكم ما هذه الشكاية والإذاعة؟ إني والله لخائف أن تكونوا مصدوقاً عليكم وما يعصب هذا إلا بي! فقالوا له: ألم تبعث؟ ألم يرجع إليك الخبر عن العوام؟ ألم يرجع رسلك ولم يشافههم أحد بشيء؟ والله ما صدقوا ولا بروا ولا نعلم لهذا الأمر أصلاً ولا يحل الأخذ بهذه الإذاعة! فقال: أشيروا علي. فقال سعيد: هذا أمر مصنوع يلقى في السر فيتحدث به الناس، ودواء ذلك طلب هؤلاء وقتل الذين يخرج هذا من عندهم. وقال عبد الله بن سعد: خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم فإنه خير من أن تدعهم. وقال عبد الله بن سعد: خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم فإنه خير من أن تدعهم. وقال معاوية: قد وليتني فوليت قوماً لا يأتيك عنهم إلا الخير، والرجلان أعلم بناحيتيهما، والرأي حسب الأدب. وقال عمرو: أرى أنك قد لنت لهم ورخيت عليهم وزدتهم على ما كان يصنع عمر، فأرى أن تلزم طريقة صاحبيك فتشتد في موضع الشدة وتلين في موضع اللين.
فقال عثمان: قد سمعت كل ما أشرتم به علي ولكل أمر باب يؤتى منه، إن هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمة كائن، وإن بابه الذي يغلق عليه ليفتحن فنكفكه باللين والمؤاتاة إلا في حدود الله، فإن فتح فلا يكون لأحد علي حجة حق، وقد علم الله أني لم آل الناس خيراً، وإن رحى الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها. سكنوا الناس وهبوا لهم حقوقهم، فإذا تعوطيت حقوق الله فلا تدهنوا فيها. فلما نفر عثمان وشخص معاوية والأمراء معه واستقل على الطريق رجز به الحادي فقال:
قد علمت ضوامر المطي ... وضمرات عوج القسي
أن الأمير بعده علي ... وفي الزبير خلفٌ رضي
وطلحة الحامي لها ولي
فقال كعب: كذبت بل يلي بعده صاحب البغلة الشهباء، يعني معاوية؛ فطمع فيها من يومئذٍ.
فلما قدم عثمان المدينة دعا علياً وطلحة والزبير وعنده معاوية، فحمد الله معاوية ثم قال: أنتم أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وخيرته من خلفه وولاة أمر هذه الأمة، لا يطمع فيه أحد غيركم، اخترتم صاحبكم عن غير غلبة ولا طمع، وقد كبر وولي عمره ولو انتظرتم به الهرم لكان قريباً مع أني أرجو أن يكون أكرم على الله أن يبلغه ذلك، وقد فشت مقالة خفتها عليكم فيما عتبتم فيه من شيء، فهذه يدي لكم به، ولا تطمعوا الناس في أمركم، فوالله إن طمعوا فيه لا رأيتم منها أبداً إلا إدباراً.
قال علي: ما لك ولذلك لا أم لك؟ قال: دع أمي فإنها ليست بشر أمهاتكم، قد أسلمت وبايعت النبي، صلى الله عليه وسلم، وأجبني عما أقول لك. فقال عثمان: صدق ابن أخي، أنا أخبركم عني وعما وليت، إن صاحبي اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما ومن كان منهما بسبيل احتساباً، وإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يعطي قرابته وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش، فبسطت يدي في شيء من ذلك المال لما أقوم به فيه ورأيت أن ذلك لي، فإن رأيتم ذلك خطأً فردوه فأمري لأمركم تبع. فقالوا: قد أصبت وأحسنت، قد أعطيت عبد الله ابن خالد بن أسيد خمسين ألفاً، وأعطيت مروان خمسة عشر ألفاً. فأخذ منهما ذلك، فرضوا وخرجوا راضين.
وقال معاوية لعثمان: اخرج معي إلى الشام فإنهم على الطاعة قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به. فقال: لا أبيع جوار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بشيء وإن كان فيه قطع خيط عنقي. قال: فإن بعثت إليك جنداً منهم يقيم معك لنائبه إن نابت؟ قال: لا أضيق على جيران رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقال: والله لتغتالن ولتغزين! فقال: حسبي الله ونعم الوكيل!
ثم خرج معاوية فمر على نفر من المهاجرين فيهم علي وطلحة والزبير وعليه ثياب السفر، فقام عليهم وقال: إنكم قد علمتم أن هذا الأمر كان الناس يتغالبون عليه حتى بعث الله نبيه، صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتفاضلون السابقة والقدمة والاجتهاد، فإن أخذوا بذلك فالأمر أمرهم والناس لهم تبع، وإن طلبوا الدنيا بالتغالب سلبوا ذلك ورده الله إلى غيرهم، وإن الله على البدل لقادر، وإني قد خلفت فيكم شيخاً فاستوصوا به خيراً وكانفوه تكونوا أسعد منه بذلك. ثم ودعهم ومضى. فقال علي: ما كنت أرى في هذا خيراً. فقال الزبير: والله ما كان قط أعظم في صدرك وصدورنا منه اليوم.
واتعد المنحرفون عن عثمان يوماً يخرجون فيه بالأمصار جميعاً إذا سار عنها الأمراء، فلم يتهيأ لهم ذلك، ولما رجع الأمراء ولم يتم لهم الوثوب صاروا يكاتبون في القدوم إلى المدينة لينظروا فيما يريدون ويسألوا عثمان عن أشياء لتطير في الناس. وكان بمصر محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة يحرضان على عثمان.
فلما خرج المصريون خرج فيهم عبد الرحمن بن عديس البلوي في خمسمائة، وقيل: في ألف، وفيهم كنانة بن بشر الليثي وسودان بن حمران السكوني وقتيرة بن فلان السكوني، وعليهم جميعاً الغافقي بن حرب العكي؛ وخرج أهل الكوفة وفيهم زيد بن صوحان العبدي والأشتر النخعي وزياد بن النضر الحارثي وعبد الله بن الأصم العامري، وهم في عداد أهل مصر وعليهم جميعاً عمرو بن الأصم؛ وخرج أهل البصرة فيهم حكيم بن جبلة العبدي وذريح بن عباد وبشر بن شريح القيسي وابن المحترش، وهم بعداد أهل مصر، وأميرهم حرقوص بن زهير السعدي؛ فخرجوا جميعاً في شوال وأظهروا أنهم يريدون الحج، فلما كانوا من المدينة على ثلاث تقدم ناس من أهل البصرة فنزلوا ذا خشب، وكان هواهم في طلحة، وتقدم ناس من أهل الكوفة، وكان هواهم في الزبير، ونزلوا الأعوص، وجاءهم ناس من أهل مصر، وكان هواهم في علي، ونزلوا عامتهم بذي المروة، ومشى فيما بين أهل مصر وأهل البصرة زياد بن النضر وعبد الله بن الأصم وقالا لهم: لا تعجلوا حتى ندخل المدينة ونرتاد لكم، فقد بلغنا أنهم عسكروا لنا، فوالله إن كان هذا حقاً واستحلوا قتالنا بعد علم حالنا إن أمرنا لباطل، وإن كان الذي بلغنا باطلاً رجعنا إليكم بالخبر. قالوا: اذهبا. فذهبا فدخلا المدينة فلقيا أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، وعلياً وطلحة والزبير، فقالا: إنما نريد هذا البيت ونستعفي من بعض عمالنا، واستأذناهم في الدخول، فكلمهما أبي ونهاهما، فرجعا إلى أصحابهما. فاجتمع نفر من أهل مصر فأتوا علياً، ونفر من أهل البصرة فأتوا طلحة، ونفر من أهل الكوفة فأتوا الزبير، وقال كل فريق منهم: إن بايعنا صاحبنا وإلا كذبناهم وفرقنا جماعتهم ثم رجعنا عليهم حتى نبغتهم. فأتى المصريون علياً وهو في عسكر عند أحجار الزيت متقلداً سيفه، وقد أرسل ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه، فسلموا عليه وعرضوا عليه، فصاح بهم وطردهم وقال: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وجيش ذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد، صلى الله عليه وسلم، فانصرفوا عنه. وأتى البصريون طلحة فقال لهم مثل ذلك، وكان قد أرسل ابنيه إلى عثمان، وأتى الكوفيون الزبير فقال لهم مثل ذلك، وكان قد أرسل ابنه عبد الله إلى عثمان.
فرجعوا وتفرقوا عن ذي خشب وذي المروة والأعوص إلى عسكرهم ليتفرق أهل المدينة ثم يرجعوا إليهم. فلما بلغوا عسكرهم تفرق أهل المدينة، فرجعوا بهم، فلم يشعر أهل المدينة إلا والتكبير في نواحيها، ونزلوها وأحاطوا بعثمان وقالوا: من كف يده فهو آمن. وصلى عثمان بالناس أياماً، ولزم الناس بيوتهم ولم يمنعوا الناس من كلامه، وأتاهم أهل المدينة وفيهم علي فقال لهم: ما ردكم بعد ذهابكم؟ فقالوا: أخذنا مع بريد كتاباً بقتلنا. وأتى طلحة الكوفيين فسألهم عن عودهم فقالوا مثل ذلك. وأتى الزبير البصريين فقالوا مثل ذلك، وكل منهم يقول: نحن نمنع إخواننا ونصرهم، كأنما كانوا على ميعاد. فقال لهم علي: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقي أهل مصر وقد سرتم مراحل حتى رجعتم علينا؟ هذا والله أمر أبرم بليل! فقالوا: ضعوه كيف شئتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزل عنا. وعثمان يصلي بهم وهم يصلون خلفه، وهم أدق في عينه من التراب، وكانوا يمنعون الناس من الاجتماع.
وكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستنجدهم ويأمرهم بالحث للمنع عنه ويعرفهم ما الناس فيه. فخرج أهل الأمصار على الصعب والذلول، فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وبعث عبد الله بن سعد معاوية بن حديج، وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو وقام بالكوفة نفر يحضون على إعانة أهل المدينة، منهم: عقبة بن عامر وعبد الله بن أبي أوفى وحنظلة الكاتب وغيرهم من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، ومن التابعين: مسروق والأسود وشريح وعبد الله بن حكيم وغيرهم، وقام بالبصرة: عمران بن حصين وأنس ابن مالك وهشام بن عامر وغيرهم من الصحابة ومن التابعين: كعب بن سور وهرم بن حيان وغيرهما، وقام بالشام جماعة من الصحابة والتابعين وكذلك بمصر.
ولما جاءت الجمعة التي على أثر دخولهم المدينة، خرج عثمان فصلى بالناس ثم قام على المنبر فقال: يا هؤلاء، الله الله! فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد، صلى الله عليه وسلم، فامحوا الخطأ بالصواب. فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا أشهد بذلك، فأقعده حكيم بن جبلة، وقام زيد بن ثابت فأقعده محمد بن أبي قتيرة، وثار القوم بأجمعهم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشياً عليه، فأدخل داره واستقتل نفر من أهل المدينة مع عثمان، منهم: سعد بن أبي وقاص والحسين بن علي وزيد بن ثابت وأبو هريرة. فأرسل إليهم عثمان يعزم عليهم بالانصراف، فانصرفوا، وأقبل علي وطلحة والزبير فدخلوا على عثمان يعودونه من صرعته ويشكون إليه ما يجدون، وكان عند عثمان نفر من بني أمية فيهم مروان بن الحكم، فقالوا كلهم لعلي: أهلكتنا وصنعت هذا الصنيع؛ والله لئن بلغت الذي تريد لتمرن عليك الدنيا! فقام مغضباً وعاد هو والجماعة إلى منازلهم. وصلى عثمان بالناس بعد ما نزلوا به في المسجد ثلاثين يوماً، ثم منعوه الصلاة، وصلى بالناس أميرهم الغافقي ودان له المصريون، والكوفيون والبصريون، وتفرق أهل المدينة في حيطانهم ولزموا بيوتهم لا يجلس أحد ولا يخرج إلا بسيفه ليمتنع به، وكان الحصار أربعين يوماً ومن تعرض لهم وضعوا فيه السلاح.
وقد قيل: إن محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة كانا بمصر يحرضان على عثمان، وسار محمد بن أبي بكر مع من سار إلى عثمان، وأقام ابن أبي حذيفة بمصر وغلب عليها لما سار عنها عبد الله بن سعد، على ما يأتي. فلما خرج المصريون إلى قصد عثمان أظهروا أنهم يريدون العمرة وخرجوا في رجب وعليهم عبد الرحمن بن عديس البلوي، وبعث عبد الله بن سعد رسولاً إلى عثمان يخبره بحالهم وأنهم قد أظهروا العمرة وقصدهم خلعه أو قتله، فخطب عثمان الناس وأعلمهم حالهم، وقال لهم: إنهم قد أسرعوا إلى الفتنة واستطالوا عمري، والله لئن فارقتهم ليتمنون أن عمري كان عليهم مكان كل يوم سنة مما يرون من الدماء المسفوكة والإحن والأثرة الظاهرة والأحكام المغيرة.
وكان عبد الله بن سعد قد خرج إلى عثمان في آثار المصريين بإذن له، فلما كان بأيلة بلغه أن المصريين رجعوا إلى عثمان فحصروه، وأن محمد بن أبي حذيفة غلب على مصر واستجابوا له، فعاد عبد الله إلى مصر فمنع عنها، فأتى فلسطين فأقام بها حتى قتل عثمان.
فلما نزل القوم ذا خشب يريدون قتل عثمان إن لم ينزع عما يكرهون، ولما رأى عثمان ذلك جاء إلى علي فدخل عليه بيته فقال له: يا ابن عم، إن قرابتي قريبة ولي عليك حق عظيم، وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم وهم مصبحي، ولك عند الناس قدر وهم يسمعون منك، وأحب أن تركب إليهم فتردهم عني، فإن في دخولهم علي توهيناً لأمري وجرأة علي! فقال علي: على أي شيء أردهم عنك؟ قال: على أن أصير إلى ما أشرت إليه ورأيته لي. فقال علي: إني قد كلمتك مرة بعد أخرى فكل ذلك نخرج ونقول ثم ترجع عنه، وهذا من فعل مروان وابن عامر ومعاوية وعبد الله بن سعد، فإنك أطعتهم وعصيتني. قال عثمان: فأنا أعصيهم وأطيعك.
فأمر الناس فركب معه من المهاجرين والأنصار ثلاثون رجلاً فيهم سعيد بن زيد وأبو جهم العدوي وجبير بن مطعم وحكيم بن حزام ومروان وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، ومن الأنصار أبو أسيد الساعدي وأبو حميد وزيد بن ثابت وحسان بن ثابت وكعب بن مالك، ومن العرب نيار بن مركز، فأتوا المصريين فكلموهم، وكان الذي يكلمهم علي ومحمد بن مسلمة، فسمعوا مقالتهما ورجعوا إلى مصر. فقال ابن عديس لمحمد بن مسلمة: أتوصينا بحاجة؟ قال: نعم، تتقي الله وترد من قبلك عن إمامهم فإنه قد وعدنا أن يرجع وينزع. قال بن عديس: أفعل إن شاء الله. ورجع علي ومن معه إلى المدينة، فدخل على عثمان فأخبره برجوعهم وكلمه بما في نفسه ثم خرج من عنده، فمكث عثمان ذلك اليوم، وجاءه مروان بكرة الغد فقال له: تكلم وأعلم الناس أن أهل مصر قد رجعوا وأن ما بلغهم عن إمامهم كان باطلاً قبل أن يجيء الناس إليك من أمصارهم ويأتيك ما لا تستطيع دفعه. ففعل عثمان، فلما خطب الناس قال له عمرو بن العاص: اتق الله يا عثمان، فإنك قد ركبت أموراً وركبناها معك، فتب إلى الله نتب. فناداه عثمان: وإنك هنالك يا ابن النابغة! قملت والله جبتك منذ عزلتك عن العمل! فنودي من ناحية أخرى: تب إلى الله. فرفع يديه وقال: اللهم إني أول تائب. تاب إليك. ورجع إلى منزله.
وخرج عمرو بن العاص إلى منزله بفلسطين، وكان يقول: والله إني كنت لألقى الراعي فأحرضه على عثمان. وأتى علياً وطلحة والزبير فحرضهم على عثمان، فبينما هو بقصره بفلسطين ومعه ابناه محمد وعبد الله وسلامة بن روح الجذامي إذ مر به راكب من المدينة، فسأله عمرو عن عثمان، فقال: هو محصور. قال عمرو: أنا أبو عبد الله، قد يضرط العير والمكواة في النار. ثم مر به راكب آخر فسأله فقال: قتل عثمان. فقال عمرو: أنا أبو عبد الله، إذا حككت قرحةً نكأتها. فقال له سلامة بن روح: يا معشر قريش كان بينكم وبين العرب باب فكسرتموه فما حملكم على ذلك! فقال: أردنا أن نخرج الحق من خاصرة الباطل ليكون الناس في الحق شرعاً سواء.
وقيل: إن علياً لما رجع من عند المصريين بعد رجوعهم إلى عثمان قال له: تكلم كلاماً يسمعه الناس منك ويشهدون عليك ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والأمانة، فإن البلاد قد تمخضت عليك، فلا آمن أن يجيء ركبٌ آخر من الكوفة والبصرة فتقول: يا علي اركب إليهم، فإن لم افعل رأيتني قد قطعت رحمك واستخففت بحقك. فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها وأعطى الناس من نفسه التوبة وقال: أنا أول من اتعظ، أستغفر الله مما فعلة وأتوب إليه، فمثلي نزع وتاب، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروا في رأيهم، فوالله لئن ردني الحق عبداً لأستنن بسنة العبد ولأذلن ذل العبد وما عن الله مذهب إلا إليه، فوالله لأعطينكم الرضا ولأنحين مروان وذويه ولا أحتجب عنكم! فرق الناس وبكوا حتى أخضلوا لحاهم وبكى هو أيضاً.
فلما نزل عثمان وجد مروان وسعيداً ونفراً من بني أمية في منزله لم يكونوا شهدوا خطبته، فلما جلس قال مروان: يا أمير المؤمنين أتكلم أم أسكت؟ فقالت نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان: لا بل اصمت فإنهم والله قاتلوه ومؤثموه، إنه قد قال مقالةً لا ينبغي له أن ينزع عنها. فقال لها مروان: ما أنت وذاك! فوالله قد مات أبوك وما يحسن يتوضأ! فقالت: مهلاً يا مروان عن ذكر الآباء! تخبر عن أبي وهو غائب تكذب عليه وإن أباك لا يستطيع أن يدفع عن نفسه؟ أما والله لولا أنه عمه وأنه يناله غمه لأخبرتك عنه ما لن أكذب عليه. قالت: فأعرض عنها مروان، فقال: يا أمير المؤمنين أتكلم أم أسكت؟ قال: تكلم. فقال مروان: بأبي أنت وأمي، والله لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع فكنت أول من رضي بها وأعان عليها، ولكنك قلت ما قلت وقد بلغ الحزام الطبيين وخلف السيل الزبى، وحين أعطى الخطة الذليلة الذليل؛ والله لإقامة على خطيئة يستغفر منها أجمل من توبة يخوف عليها، وأنت إن شئت تقربت بالتوبة ولم تقر بالخطيئة؛ وقد اجتمع بالباب أمثال الجبال من الناس. فقال عثمان: فاخرج إليهم فكلمهم فإني أستحيي أن أكلمهم. فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضاً، فقال: ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهبٍ؟ شاهت الوجوه! ألا من أريد؟ جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا! اخرجوا عنا، والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم ولا تحمدوا غب رأيكم. ارجعوا إلى منازلكم فإنا والله ما نحن بمغلوبين على ما في أيدينا. فرجع الناس وأتى بعضهم علياً فأخبره الخبر.
فأقبل علي على عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فقال: أحضرت خطبة عثمان؟ قال: نعم. قال: أفحضرت مقالة مروان للناس؟ قال: نعم. فقال علي: أي عباد الله! يا للمسلمين! إني إن قعدت في بيتي قال لي: تركتني وقرابتي وحقي، وإني إن تكلمت فجاء ما يريد يلعب به مروان فصار سيقةً له يسوقه حيث يشاء بعد كبر السن وصحبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وقام مغضباً حتى دخل على عثمان فقال له: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به؟ والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه! وأيم الله إني لأراه يوردك ولا يصدرك! وما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك وغلبت على رأيك.
فلما خرج علي دخلت عليه امرأته نائلة ابنة الفرافصة فقالت: قد سمعت قول علي لك وليس يعاودك وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء. قال: فما أصنع؟ قالت: تتقي الله وتتبع سنة صاحبيك، فإنك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة، وإنما تركك الناس لمكانه، فأرسل إلى علي فاستصلحه فإن له قرابة منك وهو لا يعصى. فأرسل عثمان إلى علي فلم يأته وقال: قد أعلمته أني غير عائد. فبلغ مروان مقالة نائلة فيه فجلس بين يدي عثمان فقال: يا ابنة الفرافصة! فقال عثمان: لا تذكرنها بحرف فأسود وجهك، فهي والله أنصح لي! فكف مروان.
وأتى عثمان إلى علي بمنزله ليلاً وقال له: إني غير عائد، وإني فاعل. فقال له علي: بعد ما تكلمت على منبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأعطيت من نفسك ثم دخلت بيتك فخرج مروان إلى الناس يشتمهم على بابك ويؤذيهم. فخرج عثمان من عنده وهو يقول: خذلتني وجرأت الناس علي. فقال علي: والله إني لأكثر الناس ذباً عنك، ولكني كلما جئت بشيء أظنه لك رضا جاء مروان بأخرى فسمعت قوله وتركت قولي.
ولم يعد علي يعمل ما كان يعمل إلى أن منع عثمان الماء. فقال علي لطلحة: أريد أن تدخل عليه الروايا، وغضب غضباً شديداً حتى دخلت الروايا على عثمان.
قال: وقد قيل إن علياً كان عند حصر عثمان بخيبر، فقدم المدينة والناس مجتمعون عند طلحة، وكان ممن له فيه أثر، فلما قدم علي أتاه عثمان وقال له: أما بعد فإن لي حق الإسلام وحق الإخاء والقرابة والصهر، ولو لم يكن من ذلك شيء وكنا في الجاهلية لكان عاراً على بني عبد مناف أن ينتزع أخو بني تيم، يعني طلحة، أمرهم. فقال له علي: سيأتيك الخبر، ثم خرج إلى المسجد فرأى أسامة فتوكأ على يده حتى دخل دار طلحة، وهو في خلوة من الناس، فقال له: يا طلحة ما هذا الأمر الذي وقعت فيه؟ فقال: يا أبا الحسن بعد ما مس الحزام الطبيين. فانصرف علي حتى أتى بيت المال فقال: افتحوه، فلم يجوا المفاتيح، فكسر الباب وأعطى الناس، فانصرفوا من عند طلحة حتى بقي وحده، وسر بذلك عثمان، وجاء طلحة فدخل على عثمان وقال له: يا أمير المؤمنين أردت أمراً فحال الله بيني وبينه! فقال عثمان: والله ما جئت تائباً، ولكن جئت مغلوباً، الله حسيبك يا طلحة!
ذكر مقتل عثمانقد ذكرنا سبب مسير الناس إلى قتل عثمان، وقد تركنا كثيراً من الأسباب التي جعلها الناس ذريعة إلى قتله لعلل دعت إلى ذلك، ونذكر الآن كيف قتل وما كان بدء ذلك واتبداء الجرأة عليه قبل قتله.
فكان من ذلك أن إبلاً من إبل الصدقة قدم بها على عثمان فوهبها لبعض بني الحكم، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف، فأخذها وقسمها بين الناس وعثمان في الدار.
قيل: وكان أول من اجترأ على عثمان بالمنطق جبلة بن عمرو الساعدي، مر به عثمان وهو في نادي قومه وبيده جامعة، فسلم فرد القوم، فقال جبلة: لم تردون على رجل فعل كذا وكذا؟ ثم قال لعثمان: والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه الخبيثة: مروان وابن عامر وابن سعد، منهم من نزل القرآن بذمه وأباح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دمه. فاجترأ الناس عليه، وقد تقدم قول عمرو بن العاص له في خطبته.
قيل: وخطب يوماً وبيده عصا كان النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر يخطبون عليها، فأخذه جهجاه الغفاري من يده وكسرها على ركبته اليمنى فرمي في ذلك المكان بأكلة.
وقيل: كتب جمع من أهل المدينة من الصحابة وغيرهم إلى من بالآفاق منهم: إن أردتم الجهاد فهلموا إليه فإن دين محمد، صلى الله عليه وسلم، قد أفسده خليفتكم فأقيموه. فاختلفت قلوب الناس على ما تقدم ذكره، وجاء المصريون، كما ذكرنا، إلى المدينة، فخرج إليهم علي ومحمد بن مسلمة، كما تقدم، فكلماهم فعادوا ثم رجعوا، فلما رجعوا انطلق إليهم محمد بن مسلمة فسألهم عن سبب عودهم، فأخرجوا صحيفة في أنبوبة رصاص وقالوا: وجدنا غلام عثمان بالبويب على بعير من إبل الصدقة، ففتشنا متاعه فوجدنا فيه هذه الصحيفة يأمر فيها بجلد عبد الرحمن بن عديس وعمرو بن الحمق وعروة بن البياع وحبسهم وحلق رؤوسهم ولحاهم وصلب بعضهم. وقيل: إن الذي أخذت منه الصحيفة أبو الأعور السلمي. فلما رأوه سألوه عن مسيرة وهل معه كتاب فقال: لا. فسألوه في أي شيء هو، فتغير كلامه، فأنكروه وفتشوه وأخذوا الكتاب منه وعادوا وعاد الكوفيون والبصريون. فلما عاد أهل مصر أخبروا بذلك محمد بن مسلمة وقالوا له: قد كلمنا علياً ووعدنا أن يكلمه، وكلمنا سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فقالا: لا ندخل في أمركم. وقالوا لمحمد ابن مسلمة ليحضر مع علي عند عثمان بعد الظهر، فوعدهم بذلك، فدخل علي ومحمد بن مسلمة على عثمان فاستأذنا للمصريين عليه، وعنده مروان، فقال: دعني أكلمهم. فقال عثمان: اسكت فض الله فاك! ما أنت وهذا الأمر؟ اخرج عني! فخرج مروان: وقال علي ومحمد لعثمان ما قال المصريون، فأقسم بالله: ما كتبته ولا علم لي به. فقال محمد: صدق، هذا من عمل مروان.
ودخل عليه المصريون فلم يسلموا عليه بالخلافة، فعرفوا الشر فيهم، وتكلموا فذكر ابن عديس ما فعل عبد الله بن سعد بالمسلمين وأهل الذمة والاستئثار في الغنائم، فإذا قيل له في ذلك قال: هذا كتاب أمير المؤمنين. وذكروا شيئاً مما أحدث بالمدينة، وقالوا له: وخرجنا من مصر ونحن نريد قتلك فردنا علي ومحمد ابن مسلمة وضمنا لنا النزوع عن كل ما تكلمنا فيه، فرجعنا إلى بلادنا فرأينا غلامك وكتابك وعليه خاتمك تأمر عبد الله بجلدنا والمثلة بنا وطول الحبس.
فحلف عثمان أنه ما كتب ولا أمر ولا علم. فقال علي ومحمد: صدق عثمان. قال المصريون:فمن كتبه؟ قال: لا أدري. قالوا: فيجترأ عليك ويبعث غلامك وجملاً من الصدقة وينقش على خاتمك ويبعث إلى عاملك بهذه الأمور العظيمة وأنت لا تعلم؟ قال: نعم. قالوا: ما أنت إلا صادق أو كاذب، فإن كنت كاذباً فقد استحققت الخلع لما أمرت به من قتلنا بغير حق، وإن كنت صادقاً فقد استحققت أن تخلع نفسك لضعفك عن هذا الأمر وغفلتك وخبث بطانتك، ولا ينبغي لنا أن نترك هذا الأمر بيد من تقطع الأمور دونه لضعفه وغفلته، فاخلع نفسك منه كما خلعك الله! فقال: لا أنزع قميصاً ألسنيه الله، ولكني أتوب وأنزع. قالوا: لو كان هذا أول ذنب تبت منه قبلنا، ولكنا رأيناك تتوب ثم تعود ولسنا منصرفين حتى نخلعك أو نقتلك أو تلحق أرواحنا بالله تعالى، وإن منعك أصحابك وأهلك قاتلناهم حتى نخلص إليك. فقال: أما إن أتبرأ من خلافة الله فالقتل أحب إلي من ذلك، وأما قولكم تقاتلون من منعني فإني لا آمر أحداً بقتالكم، فمن قاتلكم فبغير أمري قاتل، ولو أردت قتالكم لكتبت إلى الأجناد فقدموا علي أو لحقت ببعض أطرافي. وكثرت الأصوات واللغط.
فقام علي فخرج وأخرج المصريين ومضى علي إلى منزله، وحصر المصريون عثمان، وكتب إلى معاوية وابن عامر وأمراء الأجناد يستنجدهم ويأمرهم بالعجل وإرسال الجنود إليه. فتربص به معاوية، فقام في أهل الشام يزيد بن أسد القسري جد خالج بن عبد الله القسري فتبعه خلق كثير، فسار بهم إلى عثمان، فلما كانوا بوادي القرى بلغهم قتل عثمان فرجعوا. وقيل: بل سار من الشام حبيب بن مسلمة الفهري، وسار من البصرة مجاشع بن مسعود السلمي، فلما وصلوا الربذة ونزلت مقدمتهم صراراً بناحية المدينة أتاهم قتل عثمان فرجعوا.
وكان عثمان قد استشار نصحاءه في أمره، فأشاروا عليه أن يرسل إلى علي يطلب إليه أن يردهم ويعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم حتى يأتيه إمداده. فقال: إنهم لا يقبلون التعلل، وقد كان مني في المرة الأولى ما كان. فقال مروان: أعطهم ما سألوك وطاولهم ما طاولوك، فإنهم قوم بغوا عليك ولا عهد لهم. فدعا علياً فقال له: قد ترى ما كان من لناس ولست آمنهم على دمي، فارددهم عني فإني أعطيهم ما يريدون من الحق من نفسي وغيري. فقال علي: الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك، ولا يرضون إلا بالرضا، وقد كنت أعطيتهم أولاً عهداً فلم تف به فلا تغرني هذه المرة فإني معطيهم علك الحق. فقال: أعطهم فوالله لأفين لهم. فخرج علي إلى الناس فقال لهم: أيها الناس إنكم إنما طلبتم الحق وقد أعطيتموه وقد زعم أنه منصفكم من نفسه. فقال الناس: قبلنا فاستوثق منه لنا فإنا لا نرضى بقول دون فعل. فدخل عليه علي فأعلمه فقال: اضرب بيني وبينهم أجلاً فإني لا أقدر على أن أرد ما كرهوا في يوم واحد. فقال علي: أما ما كان بالمدينة فلا أجل فيه وما غاب فأجله وصول أمرك. قال: نعم، فأجلني فيما في المدينة ثلاثة أيام، فأجابه إلى ذلك، وكتب بينهم كتاباً على رد كل مظلمة وعزل كل عامل كرهوه.
فكف الناس عنه، فجعل يتأهل للقتال ويستعد بالسلاح واتخذ جنداً، فلما مضت الأيام الثلاثة ولم يغير شيئاً ثار به الناس، وخرج عمرو بن حزم الأنصاري إلى المصريين فأعلمهم الحال، وهم بذي خشب، فقدموا المدينة وطلبوا منه عزل عماله ورد مظالمهم. فقال: والله لتفعلن أو لتخلعن أو لتقتلن. فأبى عليهم وقال: لا أنزع سربالاً سربلنيه الله. فحصروه واشتد الحصار عليه، فأرسل إلى علي وطلحة والزبير فحضروا، فأشرف عليهم فقال: يا أيها الناس اجلسوا. فجلسوا المحارب والمسالم. فقال لهم: يا أهل المدينة أستودعكم الله وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي، ثم قال: أنشدكم بالله هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم ويجمعكم على خيركم؟ أتقولون إن الله لم يستجب لكم وهنتم عليه وأنتم أهل حقه؟ أم تقولون: هان على الله دينه فلم يبال من ولي الدين لم يتفرق أهله يومئذ؟ أم تقولون: لم يكن أخذٌ عن مشورة إنما كان مكابرة فوكل الله الأمة إذا عصته ولم يشاوروا في الإمامة؟ أم تقولون: إن الله لم يعلم عاقبة أمري! وأنشدكم بالله أتعلمون لي من سابقة خير وقدم خير قدمه الله لي ما يوجب على كل من جاء بعدي أن يعرفوا لي فضلها! فمهلاً لا تقتلوني فإنه لا يحل إلا قتل ثلاثة: رجل زنى بعد إحصانه، أو كفر بعد إيمانه، أو قتل نفساً بغير حق، فإنكم إذا قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم ثم لم يرفع الله عنكم الاختلاف أبداً.
قالوا: أما ما ذكرت من استخارة الناس بعد عمر ثم ولوك فإن كل ما صنع الله خيرة، ولكن الله جعلك بلية ابتلى بها عباده، وأما ما ذكرت من قدمك وسلفك مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقد كنت كذلك وكنت أهلاً للولاية، ولكن أحدثت ما علمته ولا نترك إقامة الحق عليك مخافة الفتنة عاماً قابلاً، وأما قولك: إنه لا يحل إلا قتل ثلاثة، فإنا نجد في كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سميت، قتل من سعى في الأرض فساداً، وقتل من بغى ثم قاتل على بغيه، وقتل من حال دون شيء من الحق ومنعه وقاتل دونه، وقد بغيت ومنعت وحلت دونه وكابرت عليه ولم تقد من نفسك من ظلمت، وقد تمسكت بالإمارة علينا، فإن زعمت أنك لم تكابرنا عليه فإن الذين قاموا دونك ومنعوك منا إنما يقاتلون لتمسكك بالإمارة، فلو خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال معك! فسكت عثمان ولزم الدار وأمر أهل المدينة بالرجوع وأقسم عليهم، فرجعوا إلا الحسن بن علي وابن عباس ومحمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير وأشباهاً لهم، واجتمع إليه ناس كثير، فكانت مدة الحصار أربعين يوماً، فلما مضت ثماني عشرة ليلة قدم ركبان من الأمصار فأخبروا بخبر من تهيأ إليهم من الجنود وشجعوا الناس، فعندها حالوا بين الناس وبين عثمان ومنعوه كل شيء حتى الماء. فأرسل عثمان إلى علي سراً وإلى طلحة والزبير وأزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، إنهم قد منعوني الماء فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا ماء فافعلوا. فكان أولهم إجابة علي، وأم حبيبة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، فجاء علي في الغلس فقال: يا أيها الناس إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، فلا تقطعوا عن هذا الرجل الماء ولا المادة، فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي! فقالوا: لا والله ولا نعمة عين! فرمى بعمامته في الدار بأني قد نهضت ورجعت، وجاءت أم حبيبة على بغلةٍ لها مشتملة على إداوة فضربوا وجه بغلتها فقالت: إن وصايا بني أمية عند هذا الرجل، فأحببت أن أسأله عنها لئلا تهلك أموال الأيتام والأرامل. فقالوا: كاذبة، وقطعوا حبل البغلة بالسيف، فنفرت وكادت تسقط عنها، فتلقاها الناس فأخذوها وذهبوا بها إلى بيتها.
فأشرف عثمان يوماً فسلم عليهم ثم قال: أنشدكم الله هل تعلمون أني اشتريت بئر رومة بمالي ليستعذب بها فجعلت رشائي فيها كرجل من المسلمين؟ قالوا: نعم. قال: فلم تمنعوني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر؟ ثم قال: أنشدكم بالله هل تعلمون أني اشتريت أرض كذا فزدتها في المسجد؟ قيل: نعم. قال: فهل علمتم أن أحداً منع أن يصلي فيه قبلي؟ ثم قال: أنشدكم بالله أتعلمون أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال عني كذا وكذا؟ أشياء في شأنه. ففشا النهي في الناس يقولون: مهلاً عن أمير المؤمنين. فقام الأشتر فقال: لعله مكر به وبكم. وخرجت عائشة إلى الحج واستتبعت أخاها محمداً فأبى، فقالت: والله لئن استطعت أن يحرمهم الله ما يحاولون لأفعلن. فقال له حنظلة الكاتب: نستتبعك أم المؤمنين فلا تتبعها وتتبع ذؤبان العرب إلى ما لا يحل؟ وإن هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبك عليه بنو عبد مناف. ثم رجع حنظلة إلى الكوفة وهو يقول:
عجبت لما يخوض الناس فيه ... يرومون الخلافة أن تزولا
ولو زالت لزال الخير عنهم ... ولاقوا بعدها ذلاً ذليلا
وكانوا كاليهود وكالنصارى ... سواء كلهم ضلوا السبيلا
وبلغ طلحة والزبير ما لقي علي وأم حبيبة فلزموا بيوتهم وبقي عثمان يسقيه آل حزم في الغفلات. فأشرف عثمان على الناس فاستدعى ابن عباس فأمره أن يحج بالناس، وكان ممن لزم الباب، فقال: جهاد هؤلاء أحب إلي من الحج. فأقسم عليه فانطلق.
قال عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة: دخلت على عثمان فأخذ بيدي فأسمعني كلام من على بابه، فمنهم من يقول: ما تنتظرون به؟ ومنهم من يقول: انظروا عسى أن يراجع. قال: فبينما نحن واقفون إذ مر طلحة فقال: أين ابن عديس؟ فقام إليه فناجاه ثم رجع ابن عديس فقال لأصحابه: لا تتركوا أحداً يدخل على عثمان ولا يخرج من عنده. فقال لي عثمان: هذا ما أمر به طلحة، اللهم اكفني طلحة فإنه حمل علي هؤلاء وألبهم علي! والله إني لأرجو أن يكون منها صفراً وأن يسفك دمه! قال: فأردت أن أخرج فمنعوني حتى أمرهم محمد بن أبي بكر فتركوني أخرج. وقيل: إن الزبير خرج من المدينة قبل أن يقتل عثمان، وقيل: أدرك قتله.
ولما رأى المصريون أن أهل الموسم يريدون قصدهم وأن يجمعوا ذلك إلى حجهم مع ما بلغهم من مسير أهل الأمصار قالوا: لا يخرجنا من هذا الأمر الذي وقعنا فيه إلا قتل هذا الرجل فيشتغل الناس عنا بذلك. فراموا الباب فمنعهم الحسن وابن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان وسعيد بن العاص ومن معهم من أبناء الصحابة واجتلدوا، فزجرهم عثمان وقال: أنتم في حلٍ من نصرتي، فأبوا، ففتح الباب لمنعهم، فلما خرج ورآه المصريون رجعوا فركبهم هؤلاء وأقسم عثمان على أصحابه ليدخلن فدخلوا فأغلق الباب دون المصريين، فقام رجل من أسلم يقال له نيار بن عياض، وكان من الصحابة، فنادى عثمان، فبينا هو يناشده أن يعتزلهم إذ رماه كثير بن الصلت الكندي بسهم فقتله.
فقالوا لعثمان عند ذلك: ادفع إلينا قاتله لنقتله به. قال: لم أكن لأقتل رجلاً نصرني وأنتم تريدون قتلي. فلما رأوا ذلك ثاروا إلى الباب، فلم يمنعهم أحد منه، والباب مغلق لا يقدرون على الدخول منه، فجاؤوا بنار فأحرقوه والسقيفة التي على الباب، وثار أهل الدار، وعثمان يصلي قد افتتح طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى... فما شغله ما سمع، ما يخطىء وما يتتعتع، حتى أتى عليها، فلما فرغ جلس إلى المصحف يقرأ فيه، وقرأ: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) آل عمران: 173، فقال لمن عنده بالدار: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد عهد إلي عهداً فأنا صابر عليه، ولم يحرقوا الباب إلا وهم يطلبون ما هو أعظم منه، فأحرج على رجل أن يستقتل أو يقاتل، وقال للحسن: إن أباك الآن لفي أمر عظيم من أمرك فأقسمت عليك لما خرجت إليه. فتقدموا فقاتلوا ولم يسمعوا قوله، فبرز المغيرة بن الأخنس بن شريق، وكان قد تعجل من الحج، في عصابة لينصروا عثمان وهو معه في الدار، وارتجز يقول:
قد علمت ذات القرون الميل ... والحلي والأنامل الطفول
لتصدقن بيعتي خليلي ... بصارمٍ ذي رونقٍ مصقول
لا أستقيل إذ أقلت قيلي
وخرج الحسن بن علي وهو يقول:
لا دينهم ديني ولا أنا منهم ... حتى أسير إلى طمار شمام
وخرج محمد بن طلحة وهو يقول:
أنا ابن من حامى عليه بأحد ... ورد أحزاباً على رغم معد
وخرج سعيد بن العاص وهو يقول:
صبرنا غداة الدار والموت واقف ... بأسيافنا دون ابن أروى نضارب
وكنا غداة الروع في الدار نصرةً ... نشافههم بالضرب والموت نائب
وكان آخر من خرج عبد الله بن الزبير فكان يحدث عن عثمان بآخر ما كان عليه، وأقبل أبو هريرة والناس محجمون فقال: هذا يوم طاب فيه الضرب! ونادى: (يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار) غافر: 41، وبرز مروان وهو يقول:
قد علمت ذات القرون الميل ... والكف والأنامل الطفول
أني أروع أول الرعيل ... بغارةٍ مثل القطا الشليل
فبرز إليه رجل من بني ليث يدعى النباع، فضربه مروان وضرب هو مروان على رقبته فأثبته وقطع إحدى علباويه، فعاش مروان بعد ذلك أوقص، وقام إليه عبيد بن رفاعة الزرقي ليدفف عليه، فقامت فاطمة أم إبراهيم بن عدي، وكانت أرضعت مروان وأرضعت له، فقالت: إن كنت تريد قتله فقد قتل، وإن كنت تريد أن تلعب بلحمه فهذا قبيح! فتركه وأدخلته بيتها، فعرف لها بنوه ذلك واستعملوا ابنها إبراهيم بعد. ونزل إلى المغيرة بن الأخنس بن شريق رجلٌ فقتل المغيرة، قال: فلما سمع الناس يذكرونه قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال له عبد الرحمن بن عديس: ما لك؟ فقال: رأيت فيما يرى النائم هاتفاً يهتف فقال: بشر قاتل المغيرة بن الأخنس بالنار، فابتليت به.
واقتحم الناس الدار من الدور التي حولها ودخلوها من دار عمرٍو بن حزم إلى دار عثمان حتى ملؤوها ولا يشعر من بالباب، وغلب الناس على عثمان وندبوا رجلاً يقتله، فانتدب له رجل، فدخل عليه البيت فقال: اخلعها وندعك. فقال: ويحك! والله ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام ولا تغنيت ولا تمنيت ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولست خالعاً قميصاً كسانيه الله تعالى حتى يكرم الله أهل السعادة ويهين أهل الشقاوة! فخرج عنه، فقالوا: ما صنعت؟ فقال: والله لا ينجينا من الناس إلا قتله ولا يحل لنا قتله. فأدخلوا عليه رجلاً من بني ليث فقال له: لست بصاحبي لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، دعا لك أن تحفظ يوم كذا وكذا ولن تضيع. فرجع عنه وفارق القوم. ودخل عليه رجل من قريش فقال له: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، استغفر لك يوم كذا وكذا فلن تقارف دماً حراماً. فرجع وفارق أصحابه. وجاء عبد الله بن سلام ينهاهم عن قتله فقال: يا قوم لا تسلوا سيف الله فيكم، فوالله إن سللتموه لا تغمدوه! ويلكم! إن سلطانكم اليوم يقوم بالدرة، فإن قتلتموه لا يقوم إلا بالسيف. ويلكم! إن مدينتكم محفوفة بالملائكة فإن قتلتموه ليتركنها. فقالوا: يا ابن اليهودية ما أنت وهذا! فرجع عنهم. وكان آخر من دخل عليه ممن رجع محمد بن أبي بكر، فقال له عثمان: ويلك أعلى الله تغضب؟ هل لي إليك جرم إلا حقه أخذته منك؟.
فأخذ محمد لحيته وقال: قد أخزاك الله يا نعثل! فقال: لست بنعثل ولكني عثمان وأمير المؤمنين، وكانوا يلقبون به عثمان. فقال محمد: ما أعنى عنك معاوية وفلان وفلان! فقال عثمان: يا ابن أخي فما كان أبوك ليقبض عليها. فقال محمد: لو رآك أبي تعمل هذه الأعمال أنكرها عليك، والذي أريد بك أشد من قبضي عليها! فقال عثمان: أستنصر الله عليك واستعين به! فتركه وخرج.
وقيل: بل طعن جبينه بمشقص كان في يده. والأول أصح.
قال: فلما خرج محمد وعرفوا انكساره ثار قتيرة وسودان بن حمران والغافقي، فضربه الغافقي بحديدة معه وضرب المصحف برجله، فاستدار المصحف واستقر بين يديه وسالت عليه الدماء، وجاء سودان ليضربه، فأكبت عليه امرأته واتقت السيف بيدها، فنفح أصابعها فأطن أصابع يدها وولت، فغمز أوراكها وقال: إنها لكبيرة العجز! وضرب عثمان فقتله.
وقيل: الذي قتله كنانة بن بشر التجيبي. وكان عثمان رأى النبي، صلى الله عليه وسلم، تلك الليلة يقول له: إنك تفطر الليلة عندنا. فلما قتل سقط من دمه على قوله تعالى: (فسيكفيكهم الله) البقرة: 137. ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه، وكان عثمان قد أعتق من كف يده منهم، فلما ضربه سودان ضرب بعض الغلمان رقبة سودان فقتله، ووثب قتيرة على الغلام فقتله، وانتهبوا ما في البيت وخرجوا ثم أغلقوه على ثلاثة قتلى، فلما خرجوا وثب غلام عثمان على قتيرة فقتله، وثار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى أخذوا ما على النساء، وأخذ كلثوم التجيبي ملاءةً من على نائلة، فضربه غلام لعثمان فقتله، وتنادوا: أدركوا بيت المال ولا تسبقوا إليه، فسمع أصحاب بيت المال كلامهم وليس فيه إلا غرارتان، فقالوا: النجاء فإن القوم إنما يحاولون الدنيا! فهربوا، وأتوا بيت المال فانتهبوه وماج الناس.
وقيل: إنهم ندموا على قتله. وأما عمرو بن الحمق فوثب على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات، قال: فأما ثلاث منها فإني طعنتهن إياه لله تعالى، وأما ستفلما كان في صدري عليه. وأرادوا قطع رأسه فوقعت نائلة عليه وأم البنين فصحن وضربن الوجوه. فقال ابن عديس: اتركوه. وأقبل عمير ابن ضابىء فوثب عليه فكسر ضلعاً من أضلاعه وقال: سجنت أبي حتى مات في السجن.
وكان قتله لثماني عشر خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين يوم الجمعة، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً، وقيل: إلا ثمانية أيام، وقيل: بل كان قتله لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقيل: بل قتل أيام التشريق وكان عمره اثنتين وثمانين سنة، وقيل: ثمانياً وثمانين سنة، وقيل: تسعين سنة، وقيل: خمساً وسبعين سنة، وقيل: ستاً وثمانين سنة.
ذكر الموضع الذي دفن فيه
ومن صلى عليهقيل: بقي عثمان ثلاثة أيام لا يدفن، ثم إن حكيم بن حزام القرشي وجبير ابن مطعم كلما علياً في أن يأذن في دفنه، ففعل، فلما سمع من قصده بذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة، وخرج به ناس يسير من أهله وغيرهم، وفيهم الزبير والحسن وأبو جهم بن حذيفة ومروان، بين المغرب والعشاء، فأتوا به حائطاً من حيطان المدينة يسمى حش كوكب، وهو خارج البقيع، فصلى عليه جبير بن مطعم، وقيل: حكيم بن حزام، وقيل: مروان، وجاء ناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة عليه ثم تركوهم خوفاً من الفتنة. وأرسل علي إلى من أراد أن يرجم سريره ممن جلس على الطريق لما سمع بهم فمنعهم عنه، ودفن في حش كوكب. فلما ظهر معاوية بن أبي سفيان على الناس أمر بذلك الحائط فهدم وأدخل في البقيع وأمر الناس فدفنوا أمواتهم حول قبره حتى اتصل الدفن بمقابر المسلمين. وقيل: إنما دفن بالبقيع مما يلي حش كوكب. وقيل: شهد جنازته علي وطلحة وزيد بن ثابت وكعب بن مالك وعامة من ثم من أصحابه. قال: وقيل لم يغسل وكفن في ثيابه.
ذكر بعض سيرة عثمانقال الحسن البصري: دخلت المسجد فإذا أنا بعثمان متكئاً على ردائه، فأتاه سقاءان يختصمان إليه، فقضى بينهما. وقال الشعبي: لم يمت عمر بن الخطاب حتى ملته قريش وقد كان حصرهم بالمدينة، وقال: أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد، فإن كان الرجل منهم ليستأذنه في الغزو فيقول: قد كان لك في غزوك مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما يبلغك، وخير لك من غزوك اليوم أن لا ترى الدنيا ولا تراك. وكان يفعل هذا بالمهاجرين من قريش ولم يكن يفعله بغيرهم من أهل مكة. فلما ولي عثمان خلى عنهم فانتشروا في البلاد وانقطع إليهم الناس وكان أحب إليهم من عمر. قيل: وحج عثمان بالناس سنوات خلافته كلها إلا آخر حجة، وحج بأزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، كما كان يصنع عمر. وكتب إلى الأمصار أن يوافيه العمال في الموسم ومن يشكو منهم، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وأنه مع الضعيف على القوي مادام مظلوماً.
وقيل: كان أول منكر ظهر بالمدينة حين فاضت الدنيا طيران الحمام والرمي على الجلاهقات، وهي قوس البندق، واستعمل عليها عثمان رجلاً من بني ليث سنة ثمان من خلافته، فقص الطيور وكسر الجلاهقات.
قيل: وسأل رجل سعيد بن المسيب عن محمد بن أبي حذيفة ما دعاه إلى الخروج على عثمان، فقال: كان يتيماً في حجر عثمان وكان والي أيتام أهل بيته ومحتملاً كلهم، فسأل عثمان العمل، فقال: يا بني لو كنت رضاً لاستعملتك. قال: فأذن لي فأخرج فأطلب الرزق. قال: اذهب حيث شئت، وجهزه من عنده وحمله وأعطاه، فلما وقع إلى مصر كان فيمن أعان عليه حين منعه الإمارة. قال: وعمار بن ياسر؟ قال: كان بينه وبين عباس بن عتبة بن أبي لهب كلام فضربهما عثمان فأورث ذلك تعادياً بين أهل عمار وأهل عباس، وكانا تقاذفا.
قيل: سئل سالم بن عبد الله عن محمد بن أبي بكر ما دعاه إلى ركوب عثمان. قال: الغضب والطمع، كان من الإسلام بمكان فغره أقوام فطمع، وكانت له دالة فلزمه حق، فأخذه عثمان من ظهره، فاجتمع هذا إلى ذلك فصار مذمماً بعد أن كان محمداً. قيل: واستخف رجل بالعباس بن عبد المطلب فضربه عثمان فاستحسن منه ذلك، فقال: ايفخم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمه وأرخص في الاستخفاف به! لقد خالف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من فعل ذلك ورضي به. قيل: وكان كعب بن ذي الحبكة النهدي يلعب بالنارنجيات، فبلغ عثمان، فكتب إلى الوليد أن يوجعه ضرباً، فعزره وأخبر الناس خبره وقرأ عليهم كتاب عثمان، وفيه: إنه قد وجد بكم فجدوا وإياكم والهزل. فغضب كعب وكان في الذين خرجوا عليه، وكان سيره إلى دنباوند، فقال في ذلك للوليد:
لعمري لئن طردتني ما إلى التي ... طمعت بها من سقطتي سبيل
رجوت رجوعي يا ابن أروى ورجعتي ... إلى الحق دهراً، غال ذلك غول
فإن اغترابي في البلاد وجفوتي ... وشتمي في ذات الإله قليل
وإن دعائي كل يومٍ وليلةٍ ... عليك بدنباوندكم لطويل
قال: وأما ضابىء بن الحرث البرجمي فإنه استعار في زمن الوليد بن عقبة من قوم من الأنصار كلباً يدعى قرحان يصيد الظباء فحبسه عنهم، فانتزعه الأنصاريون منه قهراً، فهجاهم وقال:
تجشم دوني وفد قرحان خطةً ... تضل لها الوجناء وهي حسير
فباتوا شباعاً طاعمين كأنما ... خباهم ببيت المرزبان أمير
فكلبكم لا تتركوا فهو أمكم ... فإن عقوق الأمهات كبير
فاستعدوا عليه عثمان، فعزره وحبسه، فما زال في السجن حتى مات فيه. وقال في الفتك معتذراً إلى أصحابه:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
وقائلةٍ قد مات في السجن ضابىءٌ ... ألا من لخصمٍ لم يجد من يحاوله
فلذاك صار ابنه عمير سبئياً. قال: وأما كميل بن زياد وعمير بن ضابىء فإنهما سارا إلى المدينة لقتل عثمان، فأما عمير فإنه نكل عنه، وأما كميل فإنه جسر وثاوره، فوجأ عثمان وجهه فوقع على استه فقال: أوجعتني يا أمير المؤمنين! قال: أولست بفاتك؟ قال: لا والله. فقال عثمان: فاستقد مني، وقال: دونك، فعفا عنه، وبقيا إلى أيام الحجاج فقتلهما، وسيرد ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
قيل: وكان لعثمان على طلحة بن عبيد الله خمسون ألفاً، فقال له يوماً: قد تهيأ مالك فاقبضه. قال: هو لك معونة على مروءتك. قيل: فلما حضر عثمان قال علي لطلحة: أنشدك الله ألا رددت الناس عن عثمان! قال: لا والله حتى تعطيني بنو أمية الحق من أنفسها.
وكان عثمان يلقب ذا النورين لأنه جمع بين ابنتي النبي، صلى الله عليه وسلم.
قال الأصمعي: استعمل عبد الله بن عامر قطن بن عبد عوف على كرمان، فأقبل جيش للمسلمين فمنعهم سيل في واد من العبور، وخشي قطن الفوت فقال: من عبر له ألف درهم. فحملوا أنفسهم وعبروا، وكانوا أربعة آلاف، فأعطاهم أربعة آلاف ألف درهم، فأبى ابن عامر أن يجري ذلك له وكتب إلى عثمان، فكتب عثمان: أن احسبها له فإنه إنما أعان بها في سبيل الله، فلذلك سميت الجوائز لإجازة الوادي.
وقال حسان بن زيد: سمعت علياً وهو يخطب الناس ويقول بأعلى صوته: يا أيها الناس إنكم تكثرون في وفي عثمان، فإن مثلي ومثله كما قال الله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غلٍ إخواناً على سررٍ متقابلين) الحجر: . وقال أبو حميد الساعدي، وهو بدري وكان مجانباً لعثمان، فلما قتل عثمان قال: والله ما أردنا قتله، اللهم لك علي أن لا أفعل كذا وكذا ولا أضحك حتى ألقاك.
ذكر نسبه وصفته وكنيتهأما نسبه فهو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمها أم حكيم بنت عبد المطلب.
وأما صفته فإنه كان رجلاً ليس بالطويل ولا بالقصير، حسن الوجه، رقيق البشرة، بوجهه أثر جدري، كبير اللحية عظيمها، أسمر اللون، أصلع، عظيم الكراديس، عظيم ما بين المنكبين، يصفر لحيته، وقيل: كان كثير شعر الرأس، أروح الرجلين.
وأما كنيته فإنه كان يكنى أبا عبد الله بولد جاءه من رقية بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اسمه عبد الله، توفي وعمره ست سنين، نقره ديك في عينه فمرض فمات في دمادى الأولى سنة أربع من الهجرة، وقيل: كان يكنى أبا عمرو.
ذكر وقت إسلامه وهجرتهقيل: كان إسلامه قديماً قبل دخول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دار الأرقم، وكان ممن هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى والثانية ومعه فيهما امرأته رقية بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
ذكر أزواجه وأولادهتزوج رقية وأم كلثوم ابنتي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فولدت له رقية عبد الله، وتزوج فاختة بنت غزوان، فولدت له عبد الله الأصغر، هلك، وتزوج أم عمرو بنت جندب بن عمرو بن حممة الدوسية، ولدت له عمراً وخالداً وأباناً وعمر ومريم؛ وتزوج فاطمة بنت الوليد بن المغيرة المخزومية، ولدت له الوليد وسعيداً وأم سعيد؛ وتزوج أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزارية، ولدت له عبد الملك، هلك؛ وتزوج رملة بنت شيبة بن ربيعة، ولدت له عائشة وأم أبان وأم عمرو؛ وتزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية، ولدت له مريم بنت عثمان، وقيل: ولدت له أم البنين بنت عيينة عبد الملك وعتبة، وولدت له نائلة عنبسة، وكان له منها أيضاً ابنة تدعى أم البنين، وكانت عند عبد الله بن يزيد بن أبي سفيان؛ وقتل عثمان وعنده رملة ابنة شيبة ونائلة وأم البنين ابنة عيينة وفاختة بنت غزوان، غير أنه طلق أم البنين وهو محصور.
فهؤلاء أزواجه في الجاهلية والإسلام وأولاه.
ذكر أسماء عماله في هذه السنةكان عماله هذه السنة على مكة: عبد الله بن الحضرمي، وعلى الطائف القاسم بن ربيعة الثقفي، وعلى صنعاء يعلى بن منية، وعلى الجند عبد الله بن ربيعة، وعلى البصرة عبد الله بن عامر، خرج منها ولم يول عثمان عليها أحداً، وعلى الكوفة سعيد بن العاص أخرج منها ولم يترك يدخلها. وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان، وعامل معاوية على حمص عبد الرحمن بن خالد، وعلى قنسرين حبيب بن مسلمة الفهري، وعلى الأردن أبو الأعور السلمي، وعلى فلسطين علقمة بن حكيم الكناني، وعلى البحر عبد الله بن قيس الفزاري، وعلى القضاء أبو الدرداء في قول بعضهم، والصحيح أنه كان قد توفي قبل أن قتل عثمان، وكان عامل عثمان على الكوفة أبو موسى على الصلاة، وعلى خراج السواد جابر بن فلان المزني، وهو صاحب المسناة إلى جانب الكوفة، وسماك الأنصاري، وعلى حربها القعقاع بن عمرو، وعلى قرقيسيا جرير بن عبد الله، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس الكندي، وعلى حلوان عتيبة بن النهاس، وعلى ماه مالك بن حبيب، وعلى همذان النسير، وعلى الري سعيد بن قيس، وعلى أصبهان السائب بن الأقرع، وعلى ماسبذان خنيس، وعلى بيت المال عقبة بن عامر، وكان على قضاء عثمان زيد بن ثابت.
عتيبة بن النهاس بالتاء فوقها نقطتان، وبعدها ياء تحتها نقطتان، وآخره باء موحدة. وعيينة بن حصن بالياء تحتها نقطتان، وياء ثانية، وآخره نون، تصغير عين. والنسير بالنون، والسين المهملة، تصغير نسر.
ذكر الخبر عمن كان يصلي في مسجد النبي
صلى الله عليه وسلم حين حصر عثمان
قيل: وجاء ذلك اليوم الذي منع فيه عثمان الصلاة سعد القرظ، وهو المؤذن، إلى علي بن أبي طالب، فقال: من يصلي بالناس؟ فقال: ادع خالد ابن زيد، فدعاه، فصلى بالناس، فهو أول يوم عرف أن اسم أبي أيوب الأنصاري خالد بن زيد، فصلى أياماً ثم صلى بعد ذلك بالناس، وقيل: بل أمر علي سهل بن حنيف فصلى بالناس من أول ذي الحجة إلى يوم العيد، ثم صلى علي بالناس العيد، ثم صلى بهم حتى قتل عثمان. وقد تقدم غير ذلك في ذكر قتله.
ذكر ما قيل فيه من الشعرقال حسان بن ثابت الأنصاري:
أتركتم غزو الدروب وراءكم ... وغزوتمونا عند قبر محمد
فلبئس هدي المسلمين هديتم ... ولبئس أمر الفاجر المتعمد
إن تقدموا نجعل قرى سرواتكم ... حول المدينة كل لينٍ مذود
أو تدبروا فلبئس ما سافرتم ... ولمثل أمر أميركم لم يرشد
وكأن اصحاب النبي عشيةً ... بدنٌ تذبح عند باب المسجد
أبكي أبا عمرٍو لحسن بلائه ... أمسى ضجيعاً في بقيع الغرقد
وقال أيضاً:
إن تمس دار ابن أروى اليوم خاوية ... بابٌ صريعٌ وبابٌ محرقٌ خرب
فقد يصادف باغي الخير حاجته ... فيها ويهوي إليها الذكر والحسب
يا أيها الناس أبدوا ذات أنفسكم ... لا يستوي الصدق عند الله والكذب
قوموا بحق مليك الناس تعترفوا ... بغارةٍ عصبٍ من خلفها عصب
فيهم حبيبٌ شهاب الموت يقدمهم ... مستلئماً قد بدا في وجهه الغضب
وقال أيضاً:
من سره الموت صرفاً لا مزاج له ... فليأت مأسدةً في دار عثمانا
مستشعري حلق الماذي قد شفعت ... قبل المخاطم بيضٌ زان أبدانا
صبراً فدىً لكم أمي وما ولدت ... قد ينفع الصبر في المكروه أحيانا
فقد رضينا بأهل الشام نافرةً ... وبالأمير وبالإخوان إخوانا
إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا ... ما دمت حياً وما سميت حسانا
لتسمعن وشيكاً في ديارهم: ... الله أكبر يا ثارات عثمانا
ضحوا باشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
قال أبو عمر بن عبد البر، وقد ذكر بعض هذه الأبيات فقال: وق زاد فيها أهل الشام، ولم أر لذكره وجهاً، يعني ما فيها من ذكر علي، وهو:
يا ليت شعري وليت الطير تخبرني ... ما كان بين عليٍ وابن عفانا
وقال الوليد بن عقبة بن أبي معيط يحرض أخاه عمارة:
ألا إن خير الناس بعد ثلاثةٍ ... قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
فإن يك ظن بابن أمي صادقاً ... عمارة لا يطلب بذحلٍ ولا وتر
يبيت وأوتار ابن عفان عنده ... مخيمةٌ بين الخورنق والقصر
فأجابه الفضل بن العباس:
أتطلب ثأراً لست منه ولا له ... وأين ابن ذكوان الصفوري من عمرو
كما اتصلت بنت الحمار بأمها ... وتنسى أباها إذ تسامي أولي الفخر
ألا إن خير الناس بعد ثلاثةٍ ... وصي النبي المصطفى عند ذي الذكر
وأول من صلى وصنو نبيه ... وأول من أردى الغواة لدى بدرٍ
فلو رأت الأنصار ظلم ابن أمكم ... بزعمكم كانوا له حاضري النصر
كفى ذاك عيباً أن يشيروا بقتله ... وأن يسلموا للأحابيش من مصر
قوله: وأين ابن ذكوان، فإن الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو واسمه ذكوان بن أمية بن عبد شمس، ويذكر جماعة منى النسابين أن ذكوان مولى لأمية، فتبناه وكناه أبا عمرو، ويعني: إنك مولى لست من بني أمية حتى تكون ممن يطلب بثأر عثمان.
وقال غيرهم من الشعراء أيضاً بعد مقتله فيما بين مادح وهاجٍ، ومن ناع وباك، ومن سار فرح، فممن مدحه حسان، كما تقدم، وكعب بن مالك في آخرين غيرهم كذلك.
ذكر بيعة علي بن أبي طالب
ذكر بيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
وفي هذه السنة بويع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقد اختلفوا في كيفية بيعته، فقيل: إنه لما قتل عثمان اجتمع أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار وفيهم طلحة والزبير، فأتوا علياً فقالوا له: إنه لابد للناس من إمام. قال: لا حاجة لي أمركم فمن اخترتم رضيت به. فقالوا: ما نختار غيرك، وترددوا إليه مراراً وقالوا له في آخر ذلك: إنا لا نعلم أحداً أحق به منك، لا أقدم سابقةً، ولا أقرب قرابةً من رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقال: لا تفعلوا فإني أكون وزيراً خيراً من أن أكون أميراً. فقالوا: والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفيةً ولا تكون إلا في المسجد. وكان في بيته، وقيل: في حائط لبني عمرو بن مبذول، فخرج إلى المسجد وعليه إزار وطاق وعمامة خز ونعلاه في يده متوكئاً على قوس، فبايعه الناس؛ وكان أول من بايعه من الناس طلحة بن عبيد الله، فنظر إليه حبيب بن ذؤيب فقال: إنا لله! أول من بدأ بالبيعة يد شلاء، لا يتم هذا الأمر! وبايعه الزبير. وقال لهما علي: إن أحببتما أن تبايعاني وإن أحببتما بايعتكما. فقالا: بل نبايعك. وقالا بعد ذلك: إنما فعلنا ذلك خشية على نفوسنا، وعرفنا أنه لا يبايعنا. وهربا إلى مكة بعد قتل عثمان بأربعة أشهر. وبايعه الناس، وجاؤوا بسعد بن أبي وقاص، فقال علي: بايع، فقال: لا، حتى يبايع الناس، والله ما عليك مني بأس. فقال: خلوا سبيله. وجاؤوا بابن عمر بايع. قال: لا، حتى يبايع الناس. قال: ائتني بكفيل. قال: لا أرى كفيلاً. قال الأشتر: دعني أضرب عنقه! قال علي: دعوه أنا كفيله، إنك ما علمت لسيء الخلق صغيراً ولا كبيراً.
وبايعت الأنصار إلا نفيراً يسيراً، منهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري، ومحمد بن مسلمة، والنعمان ابن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة، وكانوا عثمانية؛ فأما حسان فكان شاعراً لا يبالي ما يصنع، وأما زيد بن ثابت فولاه عثمان الديوان وبيت المال، فلما حصر عثمان قال: يا معشر الأنصار كونوا أنصاراً لله، مرتين، فقال له أبو أيوب: ما تنصره إلا أنه أكثر لك من العبدان. وأما كعب بن مالك فاستعمله على صدقة مزينة وترك له ما أخذ منهم؛ ولم يبايعه عبد الله بن سلام، وصهيب بن سنان، وسلمة بن سلامة ابن وقش، وأسامة بن زيد، وقدامة بن مظعون، والمغيرة بن شعبة.
فأما النعمان بن بشير فإنه أخذ أصابع نائلة امرأة عثمان التي قطعت وقميص عثمان الذي قتل فيه وهرب به فلحق بالشام، فكان معاوية يعلق قميص عثمان وفيه الأصابع، فإذا رأى ذلك أهل الشام ازدادوا غيظاً وجداً في أمرهم، ثم رفعه، فإذا أحس منهم بفتور يقول له عمرو بن العاص: حرك لها حوارها تحن، فيعلقها.
وقد قيل: إن طلحة والزبير إنما بايعا علياً كرهاً، وقيل: لم يبايعه الزبير ولا صهيب ولا سلمة بن سلامة بن وقش وأسامة بن زيد.
فأما على قول من قال: إن طلحة والزبير بايعا كرهاً فقال: إن عثمان لما قتل بقيت المدينة خمسة أيام وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه، ووجدوا طلحة في حائط له، ووجدوا سعداً والزبير قد خرجا من المدينة، ووجدوا بني أمية قد هربوا غلا من لم يطق الهرب، وهرب سعيد والوليد ومروان إلى مكة، وتبعهم غيرهم، فأتى المصريون علياً فباعدهم، وأتى الكوفيون الزبير فباعدهم، وأتى البصريون طلحة فباعدهم، وكانوا مجتمعين على قتل عثمان مختلفين فيمن يلي الخلافة. فأرسلوا إلى سعد يطلبونه، فقال: إني وابن عمر لا حاجة لنا فيها، فأتوا ابن عمر فلم يجبهم، فبقوا حيارى. وقال بعضهم لبعض: لئن جرع الناس إلى أمصارهم بغير إمام لم نأمن الاختلاف وفساد الأمة. فجمعوا أهل المدينة لهم: يا أهل المدينة أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون الإمامة، وحكمكم جائز على الأمة، فانظروا رجلاً تنصبونه ونحن لكم تبعٌ، وقد أجلناكم يومكم، فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلن غداً علياً وطلحة والزبير وأناساً كثيراً! فغشي الناس علياً فقالوا: نبايعك فقد ترى ما نزل بالإسلام وما ابتلينا به من بين القرى. فقال علي: دعوني والتمسوا غيري فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان لا تقوم به القلوب ولا تثبت عليه العقول. فقالوا: ننشدك الله! ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى الإسلام؟ ألا ترى الفتنة؟ ألا تخاف الله؟ فقال: قد أجبتكم، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم، ألا إني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه. ثم افترقوا على ذلك واتعدوا الغد.
وتشاور الناس فيما بينهم وقالوا: إن دخل طلحة والزبير فقد استقامت، فبعث البصريون إلى الزبير حكيم بن جبلة وقالوا: احذر لا تحابه، ومعه نفر، فجاؤوا به يحدونه بالسيف، فبايع، وبعثوا إلى طلحة الأشتر ومعه نفر، فأتى طلحة، فقال: دعني أنظر ما يصنع الناس، فلم يدعه، فجاء به يتله تلاً عنيفاً، وصعد المنبر فبايع. وكان الزبير يقول: جاءني لص من لصوص عبد القيس فبايعت والسيف على عنقي، وأهل مصر فرحون بما اجتمع عليه أهل المدينة، وقد خشع أهل الكوفة والبصرة أن صاروا أتباعاً لأهل مصر وازدادوا بذلك على طلحة والزبير غيظاً.
ولما أصبحوا يوم البيعة، وهو يوم الجمعة، حضر الناس المسجد، وجاء علي فصعد المنبر وقال: أيها الناس، عن ملأٍ وإذن، إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنت كارهاً لأمركم، فأبيتم إلا أن أكون عليكم، ألا وإنه ليس لي دونكم إلا مفاتيح ما لكم معي وليس لي أن آخذ درهماً دونكم، فإن شئتم قعدت لكم وإلا فلا أجد على أحد. فقالوا: نحن على ما فارقناك عليه بالأمس. فقال: اللهم اشهد. ولما جاؤوا بطلحة ليبايع قال: إنما أبايع كرهاً. فبايع، وكان به شلل، فقال رجل يعتاف: إنا لله وإنا إليه راجعون، أول يد بايعت يد شلاء، لا يتم هذا الأمر! ثم جيء بالزبير فقال مثل ذلك وبايع، وفي الزبير اختلاف، ثم جيء بعده بقوم كانوا قد تخلفوا فقالوا: نبايع على إقامة كتاب الله في القريب والبعيد والعزيز والذليل، فبايعهم، ثم قام العامة فبايعوا، وصار الأمر أمر أهل المدينة وكأنهم كما كانوا فيه وتفرقوا إلى منازلهم.
وبويع يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة، والناس يحسبون بيعته من يوم قتل عثمان.
وأول خطبة خطبها علي حين استخلف حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله أنزل كتاباً هادياً يبين فيه الخير والشر، فخذوا بالخير ودعوا الشر، الفرائض الفرائض أدوها إلى الله تعالى يؤدكم إلى الجنة. إن الله حرم حرماتٍ غير مجهولة وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، لا يحل دم امرىء مسلم إلا بما يجب. بادروا أمر العامة، وخاصة أحدكم الموت، فإن الناس أمامكم وإن ما من خلفكم الساعة تحدوكم. تخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر الناس أخراهم. اتقوا الله عباد الله في بلاده وعباده، إنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم. أطيعوا الله فلا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشر فدعوه، (واذكروا إذ أنتم قليلٌ مستضعفون في الأرض) الأنفال: 26. ولما فرغ من الخطبة وهو على المنبر قال السبئية.
خذها إليك واحذرن أبا حسن ... إنا نمر الأمر إمرار الرسن
صولة أقوامٍ كأشداد السفن ... بمشرفياتٍ كغدران اللبن
ونطعن الملك بلينٍ كالشطن ... حتى يمرن على غير عنن
فقال علي:
إني عجزت عجزةً لا أعتذر ... سوف أكيس بعدها وأستمر
أرفع من ذيلي ما كنت أجر ... وأجمع الأمر الشتيت المنتشر
إن لم يشاغبني العجول المنتصر ... إن تتركوني والسلاح يبتدر
ورجع علي إلى بيته، فدخل عليه طلحة والزبير في عدد من الصحابة فقالوا: يا علي إنا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في قتل هذا الرجل وأحلوا بأنفسهم. فقال: يا إخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟ ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم وثابت إليهم أعرابكم وهو خلاطكم يسومونكم ما شاؤوا، فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء مما تريدون؟ قالوا: لا. قال: فلا والله لا أرى إلا رأياً ترونه أبداً إلا أن يشاء الله. إن هذا الأمر أمر جاهلية وإن لهؤلاء القوم مادة، وذلك أن الشيطان لم يشرع شريعة قط فيبرح الأرض من أخذ بها أبداً. إن الناس من هذا الأمر إن حرك على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا، حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق، فاهدأوا عني وانظروا ماذا يأتيكم ثم عودوا. واشتد على قريش وحال بينهم وبين الخروج على حالها، وإنما هيجه على ذلك هرب بني أمية وتفرق القوم، فبعضهم يقول ما قال علي، وبعضهم يقول: نقضي الذي علينا ولا نؤخره، والله إن علياً لمستغنٍ برأيه وليكونن أشد على قريش من غيره.
فسمع ذلك فخطبهم وذكر فضلهم وحاجته إليهم ونظره لهم وقيامه دونهم وأنه ليس له من سلطانهم إلا ذاك والأجر من الله عليه، ونادى: برئت الذمة من عبد لا يرجع إلى مولاه. فتذامرت السبئية والأعراب وقالوا: لنا غداً مثلها ولا نستطيع نحتج فيهم بشيء. وقال: أيها الناس أخرجوا عنكم الأعراب فليلحقوا بمياههم، فأبت السبئية وأطاعهم الأعراب. فدخل علي بيته، ودخل عليه طلحة والزبير وعدةٌ من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: دونكم ثأركم فاقتلوه. فقالوا: عشوا من ذلك. فقال: هم والله بعد اليوم أعشى! وقال:
ولو أن قومي طاوعتني سراتهم ... أمرتهم أمراً يديخ الأعاديا
وقال طلحة: دعني آت البصرة فلا يفجأك إلا وأنا في خيل. وقال الزبير: دعني آت الكوفة فلا يفجأك إلا وأنا في خيل. فقال: حتى أنظر في ذلك.
قيل: وقال ابن عباس: أتيت علياً بعد قتل عثمان عند عودي من مكة فوجدت المغيرة بن شعبة مستخلياً به، فخرج من عنده، فقلت له: ما قال لك هذا؟ فقال: قال لي قبل مرته هذه: إن لك حق الطاعة والنصيحة، وأنت بقية الناس، وإن الرأي اليوم تحرز به ما في غد، وإن الضياع اليوم يضيع به ما في غد، أقرر معاوية وابن عامر وعمال عثمان على أعمالهم حتى تأتيك بيعتهم ويسكن الناس، ثم اعزل من شئت، فأبيت عليه ذلك وقلت: لا أداهن في ديني ولا أعطي الدنية في أمري. قال: فإن كنت أبيت علي فانزع من شئت واتر معاوية، فإن في معاوية جرأة، وهو في أهل الشام يستمع منه، ولك حجة في إثباته، وكان عمر بن الخطاب قد ولاه الشام. فقلت: لا والله لا أستعمل معاوية يومين! ثم انصرف من عندي وأنا أعرف فيه أنه يود أني مخطىء، ثم عاد إلي فقال: إني أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت وخالفتني فيه، ثم رأيت بعد ذلك أن تصنع الذي رأيت فتعزلهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله وهم أهون شوكة مما كان. قال ابن عباس: فقلت لعلي: أما المرة الأولى فقد نصحك، وأما المرة الثانية فقد غشك. قال: ولم نصحني؟ قلت: لأن معاوية وأصحابه أهل دنيا فمتى ثبتهم لا يبالون من ولي هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولون: أخذ هذا الأمر بغير شورى وهو قتل صاحبنا، ويؤلبون عليك، فتنتفض عليك الشام وأهل العراق، مع أني لا آمن طلحة والزبير أن يكرا عليك، وأنا أشير عليك أن تثبت معاوية، فإن بايع لك فعلي أن أقلعه من منزله، وقال علي: والله لا أعطيه إلا السيف! ثم تمثل:
وما ميتةٌ إن متها غير عاجز ... بعارٍ إذا ما غالت النفس غولها
فقلت: يا أمير المؤمنين أنت رجلٌ شجاع لست صاحب رأي في الحرب، أما سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (الحرب خدعة)؟ فقال: بلى. فقلت: أما والله لئن أطعتني لأصدرنهم بعد ورد، ولأتركنهم ينظرون في دبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها في غير نقصان عليك ولا إثم لك. فقال: يا ابن عباس لست من هناتك ولا من هنات معاوية في شيء. قال ابن عباس: فقلت له: أطعني والحق بما لك بينبع وأغلق بابك عليك، فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنك الناس دم عثمان غداً. فأبى علي فقال: تشير علي وأرى فإذا عصيتك فأطعني. قال: فقلت: افعل، إن أيسر ما لك عندي الطاعة. فقال له علي: تسير إلى الشام فقد وليتكها. فقال ابن عباس: ما هذا برأي، معاوية رجل من بني أمية وهو ابن عم عثمان وعامله ولست آمن أن يضرب عنقي بعثمان، وإن أدنى ما هو صانعٌ أن يحبسني فيتحكم علي لقرابتي منك، وإن كل ما حمل عليك حمل علي، ولكن اكتب إلى معاوية فمنه وعده. فقال: لا والله، لا كان هذا أبداً!
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، أعني سنة خمس وثلاثين، سار قسطنطين بن هرقل في ألف مركب يريد أرض المسلمين قبل قتل عثمان، فسلط الله عليهم ريحاً عاصفاً فغرقهم ونجا قسطنطين فأتى صقلية، فصنعوا له حماماً، فدخله فقتلوه فيه وقالوا: قتلت رجالنا. هكذا قال أبو جعفر.
وهذا قسطنطين هو الذي هزمه المسلمون في غزوة الصواري سنة إحدى وثلاثين، وقتله أهل صقلية في الحمام، وإن كانوا قد اختلفوا في السنة التي كانت الوقعة فيها، فلولا قوله: إن المراكب غرقت، لكانت هذه الحادثة هي تلك، فإنها في قول بعضهم: كانت سنة خمس وثلاثين.
وفي خلافة عثمان مات أوس بن خولي الأنصاري؛ وفي خلافة عثمان أيضاً مات الجلاس بن سويد الأنصاري، وكان من المنافقين على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحسنت توبته؛ وفيها مات الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب، والد الملقب بببة؛ وفي آخرها مات الحكم بن أبي العاص، وهو والد مروان وعم عثمان؛ وفيهها مات حبان بن منقذ الأنصاري، وهو والد يحيى بن حبان، بفتح الحاء المهملة وبالباء الموحدة؛ وفيها مات عبد الله ابن قيس بن خالد الأنصاري، وقيل: بل قتل بأحد شهيداً؛ وفي خلافته مات قطبة بن عامر الأنصاري، وهو عقبي بدري؛ وفي خلافته مات زيد بن خارجة بن زيد الأنصاري، وهو الذي تكلم بعد موته؛ وفيها قتل معبد بن العباس بن عبد المطلب بإفريقية في آخر خلافة عثمان؛ وفيها مات معيقيب بن أبي فاطمة، وكان من مهاجرة الحبشة، وكان على خاتم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقيل: بل مات سنة أربعين في خلافة علي؛ وفيها مات مطيع بن الأسود العدوي، وكان إسلامه يوم الفتح؛ وفي خلافته مات نعيم بن مسعود الأشجعي، وقيل: بل قتل في وقعة الجمل مع مجاشع بن مسعد؛ وفي خلافته مات عبد الله بن حذافة السهمي، وهو بدري، وكان فيه دعابة؛ وفيها مات عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي والد عمر الشاعر، وكان قد جاء من اليمن لينصر عثمان لما حصر فسقط عن راحلته فمات؛ وأبو رافع مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقيل: مات في خلافة علي، وهو اصح؛ وفي خلافته توفي أبو سبرة بن أبي رهم العامري من عامر بن لؤي، وهو بدري، وفيها مات هاشم بن عتبة بن ربيعة خال معاوية، أسلم يوم الفتح وكان صالحاً؛ وفيها مات أبو الدرداء، وقيل: عاش بعده، والأول أصح.
ثم دخلت سنة ست وثلاثينذكر تفريق عليّ عماله وخلاف معاوية
وفي هذه السنة فرق علي عماله على الأمصار، فبعث عثمان بن حنيف على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وكانت له هجرة، وعبيد الله بن عباس على اليمن، وقيس بن سعد على مصر، وسهل بن حنيف على الشام.
فأما سهل فإنه خرج حتى إذا كان بتبوك لقيته خيلٌ فقالوا: من أنت؟ قال: أمير. قالوا: على أي شيء؟ أمير المؤمنينعلى الشام. قالوا: إن كان بعثك عثمان فحي هلاً بك، وإن كان بعثك غيره فارجع. قال: أوما سمعتم بالذي كان؟ قالوا: بلى. فرجع إلى علي. وأما قيس بن سعد فإنه لما انتهى إلى أيلة لقيته خيلٌ فقالوا له: من أنت؟ قال: من فالة عثمان، فأنا أطلب من آوي إليه فأنتصر به لله. قالوا: من أنت؟ قال: قيس بن سعد. قالوا: امض. فمضى حتى دخل مصر. فافترق أهل مصر فرقاً، فرقة دخلت في الجماعة فكانوا معه، وفرقة اعتزلت بخرنبا وقالوا: إن قتل قتلة عثمان فنحن معكم، وإلا فنحن على دديلتنا حتى نحرك أو نصيب حاجتنا، وفرقة قالوا: نحن مع علي ما لم يقد من إخواننا، وهم في ذلك مع الجماعة. وكتب قيس إلى علي بذلك.
وأما عثمان بن حنيف فسار ولم يرده أحد عن دخول البصرة ولم يجد لابن عامر في ذلك رأياً ولا استقلالاً بحرب، وافترق الناس بها، فاتبعت فرقةٌ القوم، ودخلت فرقةٌ في الجماعة، وقالت فرقة: ننظر ما يصنع أهل المدينة فتصنع كما صنعوا. وأما عمارة بن شهاب فلما بلغ زبالة لقيه طليحة بن خويلد، وكان خرج يطلب بثأر عثمان وهو يقول: لهفي على أمر لم يسبقني ولم أدركه! وكان خروجه عند عود القعقاع من إغاثة عثمان، فلما لقي عمارة قال له: ارجع، فإن القوم لا يريدون بأميرهم بدلاً، فإن أبيت ضربت عنقك. فرجع عمارة إلى علي بالخبر. وانطلق عبيد الله بن عباس إلى اليمن، فجمع يعلى بن منية كل شيء من الجباية وخرج به إلى مكة فقدمها بالمال، ودخل عبيد الله اليمن.
ولما رجع سهل بن حنيف من الشام وأتت علياً الأخبار دعا طلحة والزبير فقال: إن الأمر الذي كنت أحذركم قد وقع، وإن الذي قد وقع لا يدرك إلا بإماتته، وإنها فتنة كالنار كلما سعرت ازدادت واستثارت. فقالا له: ائذن لنا نخرج من المدينة فإما أن نكاثر وإما أن تدعنا. فقال: سأمسك الأمر ما استمسك، فإذا لم أجد بداً فآخر الداء الكي.
وكتب إلى معاوية وإلى أبي موسى. فكتب إليه أبو موسى بطاعة أهل الكوفة وبيعتهم، وبين الكاره منهم للذي كان والراضي ومن بين ذلك حتى كان علي كأنه يشاهدهم. وكان رسول علي إلى أبي موسى معبدٌ الأسلمي، وكان رسوله إلى معاوية سبرة الجهني، فقدم عليه، فلم يجبه معاوية بشيء، كلما تنجز جوابه لم يزد على قوله:
أدم إدامة حصن أو خذا بيدي ... حرباً ضروساً تشب الجذل والضرما
في جاركم وابنكم إذ كان مقتله ... شنعاء شيبت الأصداغ واللمما
أعيا المسود بها والسيدون فلم ... يوجد لنا غيرنا مولىً ولا حكما
حتى إذا كان الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر دعا معاوية رجلاً من بني عبس يدعى قبيصة فدفع إليه طوماراً مختوماً عنوانه: من معاوية إلى علي: وقال له: إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار، ثم أوصاه بما يقول، وأعاد رسول علي معه. فخرجا فقدما المدينة في ربيع الأول، فدخلها العبسي كما أمره قد رفع الطومار، فتبعه الناس ينظرون إليه، وعلموا أن معاوية معترض، ودخل الرسول على علي فدفع إليه الطومار، ففض ختمه فلم يجد فيه كتاباً. فقال للرسول: ما وراءك؟ قال: آمن أنا؟ قال: نعم، إن الرسول لا يقتل. قال: ورائي أني تركت قوماً لا يرضون إلا بالقود. قال: ممن؟ قال: من خيط رقبتك. وتركت ستين ألف شيخ تبكي تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم قد ألبسوه منبر دمشق. قال: أمني يطلبون دم عثمان، ألست موتوراً كترة عثمان؟ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان! نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله، فإنه إذا أراد أمراً اصابه، اخرج. قال: وأنا آمنٌ؟ قال: وأنت آمن. فخرج العبسي وصاحت السبئية وقالت: هذا الكلب رسول الكلاب، اقتلوه! فنادى: يا آل مضر! يا آل قيس! الخيل والنهل! أقسم بالله ليردنها عليكم أربعة آلاف خصي، فانظروا كم الفحول والركاب! وتعاونوا عليه، فمنعه مضر، فجعلوا يقولون له: اسكت، فيقول: لا والله لا يفلح هؤلاء أبداً، أتاهم ما يوعدون، لقد حل بهم ما يجدون، انتهت والله أعمالهم وذهبت ريحهم، فوالله ما أمسوا حتى عرف الذل فيهم.
وأحب أهل المدينة أن يعلموا رأي علي في معاوية وقتاله أهل القبلة، أيجسر عليه أم ينكل عنه؟ وقد بلغهم أن ابنه الحسن دعاه إلى القعود وترك الناس، فدسوا زياد بن حنظلة التميمي وكان منقطعاً إلى علي فجلس إليه ساعة، فقال له علي: يا زياد تيسر، فقال: لأي شيء؟ فقال: لغزو الشام. فقال زياد: الأناة والرفق أمثل، وقال:
ومن لم يصانع في أمورٍ كثيرةٍ ... يضرس بأنيابٍ ويوطأ بمنسم
فتمثل علي وكأنه لا يريده:
متى تجمع القلب الزكي وصارماً ... وأنفاً حمياً تجتنبك المظالم
فخرج زياد والناس ينتظرونه وقالوا: ما وراءك؟ فقال: السيف يا قوم. فعرفوا ما هو فاعل. واستأذنه طلحة والزبير في العمرة، فأذن لهما، فلحقا بمكة؛ ودعا علي محمد بن الحنفية فدفع إليه اللواء، وولى عبد الله بن عباس ميمنته، وعمر بن أبي سلمة أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد ولاه ميسرته، ودعا أبا ليلى بن عمر بن الجراح ابن أخي أبي عبيدة بن الجراح فجعله على مقدمته، واستخلف على المدينة قثم بن العباس، ولم يول ممن خرج على عثمان أحداً، وكتب إلى قيس بن سعد وإلى عثمان بن حنيف وإلى أبي موسى أن يندبوا الناس إلى أهل الشام، ودعا أهل المدينة إلى قتالهم وقال لهم: إن في سلطان الله عصمة أمركم فأعطوه طاعتكم غير ملوية ولا مستكره بها، والله لتفعلن أو لينقلن عنكم سلطان الإسلام ثم لا ينقله إليكم أبداً حتى يأرز الأمر إليها، انهضوا إلى هؤلاء الذين يريدون تفريق جماعتكم لعل الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق وتقضون الذي عليكم.
خرنبا بفتح الخاء المعجمة، وسكون الراء، وفتح النون، والباء الموحدة، وآخره ألف.
ذكر ابتداء وقعة الجملفبينما هم كذلك على التجهز لأهل الشام أتاهم الخبر عن طلحة والزبير وعائشة وأهل مكة بنحو آخر وأنهم على الخلاف، فأعلم علي الناس ذلك، وأن عائشة وطلحة والزبير قد سخطوا إمارته ودعوا الناس إلى الإصلاح وقال لهم: سأصبر ما لم أخف على جماعتكم، وأكف إن كفوا، وأقتصر على ما بلغني. عنهم.
ثم أتاه أنهم يريدون البصرة، فسره ذلك وقال: إن الكوفة فيها رجال العرب وبيوتاتهم. فقال له ابن عباس: إن الذي سرك من ذلك ليسوءني، إن الكوفة فسطاط فيه من أعلام العرب، ولا يحملهم عدة القوم، ولا يزال فيها من يسمو إلى أمر لا يناله، فإذا كان كذلك شغب علي الذي قد نال ما يريد حتى تكسر حدته.
فقال علي: إن الأمر ليشبه ما تقول، وتهيأ للخروج إليهم، فندب أهل المدينة للمسير معهم فتثاقلوا، فبعث إلى عبد الله بن عمر كميلاً النخعي، فجاء به، فدعاه إلى الخروج معه، فقال: إنما أنا من أهل المدينة وقد دخلوا في هذا الأمر فدخلت معهم، فإن يخرجوا أخرج معهم، وإن يقعدوا أقعد. قال: فأعطني كفيلاً. قال: لا أفعل. فقال له علي: لولا ما أعرف من سوء خلقك صغيراً وكبيراً لأنكرتني، دعوه فأنا كفيله. فرجع ابن عمر إلى المدينة وهم يقولون: والله ما ندري كيف نصنع، إن الأمر لمشتبه علينا ونحن مقيمون حتى يضيء لنا.
فخرج من تحت ليلته وأخبر أم كلثوم ابنة علي، وهي زوجة عمر، بالذي سمع، وأنه يخرج معتمراً مقيماً على طاعة علي ما خلا النهوض. فأصبح علي فقيل له: حدث الليلة حدث هو أشد من طلحة والزبير وعائشة ومعاوية. قال: وما ذاك؟ قالوا: خرج ابن عمر إلى الشام فأتى السوق وأعد الظهر والرجال وأخذ لكل طريق طلاباً وماج الناس. فسمعت أم كلثوم فأتت علياً فأخبرته الخبر، فطابت نفسه وقال: انصرفوا، والله ما كذبت ولا كذب، والله إنه عندي ثقة. فانصرفوا.
وكان سبب اجتماعهم بمكة أن عائشة كانت خرجت إليها، وعثمان محصور، ثم خرجت من مكة تريد المدينة. فلما كانت بسرف لقيها رجلٌ من أخوالها من بني ليث يقال له عبيد بن أبي سلمة، وهو ابن أم كلاب، فقالت له: مهيم؟ قال: قتل عثمان وبقوا ثمانياً. قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: اجتمعوا على بيعة علي. فقالت: ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك! ردوني ردوني! فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبن بدمه! فقال لها: ولم؟ والله إن أول أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر. قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأول. فقال لها ابن أم كلاب:
فمنك البداء ومنك الغير ... ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام ... وقلت لنا إنه قد كفر
فهبنا أطعناك في قتله ... وقاتله عندنا من أمر
ولم يسقط السقف من فوقنا ... ولم ينكسف شمسنا والقمر
وقد بايع الناس ذا تدرإ ... يزيل الشبا ويقيم الصغر
ويلبس للحرب أثوابها ... وما من وفى مثل من قد غدر
فانصرفت إلى مكة فقصدت الحجر فسترت فيه، فاجتمع الناس حولها، فقالت: أيها الناس إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلماً بالأمس ونقموا عليه استعمال من حدثت سنه، وقد استعمل أمثالهم قبله، ومواضع من الحمى حماها لهم فتابعهم ونزع لهم عنها. فلما لم يجدوا حجة ولا عذراً بادروا بالعدوان فسفكوا الدم الحرام واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام وأخذوا المال الحرام، والله لإصبعٌ من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم! ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنباً لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء، أي يغسل.
فقال عبد الله بن عامر الحضرمي، وكان عامل عثمان على مكة: ها أنا أول طالب! فكان أول مجيب، وتبعه بنو أمية على ذلك، وكانوا هربوا من المدينة بعد قتل عثمان إلى مكة ورفعوا رؤوسهم، وكان أول ما تكلموا بالحجاز وتبعهم سعيد بن العاص والوليد بن عقبة وسائر بني أمية، وقدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة بمال كثير، ويعلى بن أمية، وهو ابن منية، من اليمن ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف درهم، فأناخ بالأبطح، وقدم طلحة والزبير من المدينة فلقيا عائشة، فقالت: ما وراءكما؟ فقالا: إنا تحملنا هراباً من المدينة من غوغاء وأعراب وفارقنا قومماً حيارى لا يعرفون حقاً ولا ينكرون باطلاً ولا يمنعون أنفسهم. فقالت: انهضوا إلى هذه الغوغاء. فقالوا: نأتي الشام. فقال ابن عامر: قد كفاكم الشام معاوية، فأتوا البصرة فإن لي به بها صنائع ولهم في طلحة هوىً. قالوا: قبحك الله! فوالله ما كنت بالمسالم ولا بالمحارب، فهلا أقمت كما أقام معاوية فنكفى بك ثم نأتي الكوفة فنسد على هؤلاء القوم المذاهب؟ فلم يجدوا عنده جواباً مقبولاً، فاستقام الرأي على البصرة، وقالوا لها: نترك المدينة فإنا خرجنا فكان معنا من لا يطيق من بها من الغوغاء ونأتي بلداً مضيعاً سيحتجون علينا ببيعة علي فتنهضينهم كما أنهضت أهل مكة، فإن أصلح الله الأمر كان الذي أردنا، وإلا دفعنا بجهدنا حتى يقضي الله ما أراد.
فأجابتهم إلى ذلك. ودعوا عبد الله بن عمر ليسير معهم، فابى وقال: أنا من أهل المدينة أفعل ما يفعلون. فتركوه.
وكان أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، معها على قصد المدينة، فلما تغير رأيها إلى البصرة تركن ذلك، وأجابتهم حفصة إلى المسير معهم، فمنعها أخوها عبد الله بن عمر. وجهزهم يعلى بن منية بستمائة بعير وستمائة ألف درهم، وجهزهم ابن عامر بمال كثير، ونادى مناديها: إن أم المؤمنين وطلحة والزبير شاخصون إلى البصرة، فمن أراد إعزاز الإسلام وقتال المحلين والطلب بثأر عثمان وليس له مركب وجهاز فليأت! فحملوا ستمائة على ستمائة بعير وساروا في ألف، وقيل: في تسعمائة من أهل المدينة ومكة، ولحقهم الناس فكانوا في ثلاثة آلاف رجل. وبعثت أم الفضل بنت الحرث أم عبد الله بن عباس رجلاً من جهينة يدعى ظفراً فاستأجرته على أن يأتي علياً بالخبر، فقدم على علي بكتابها.
وخرجت عائشة ومن معها من مكة، فلما خرجوا منها وأذن مروان بن الحكم، ثم جاء حتى وقف على طلحة والزبير فقال: على أيكما أسلم بالإمرة وأؤذن بالصلاة؟ فقال عبد الله بن الزبير: على أبي عبد الله، يعني أباه الزبير. وقال محمد بن طلحة: على أبي محمد، يعني أباه طلحة. فأرسلت عائشة إلى مروان وقالت له: أتريد أن تفرق أمرنا! ليصل بالناس ابن أختي، تعني عبد الله بن الزبير. وقيل: بلى صلى بالناس عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد حتى قتل، فكان معاذ ابن عبيد الله يقول: والله لو ظفرنا لاقتتلنا، ما كان الزبير يترك طلحة والأمر ولا كان طلحة يترك الزبير والأمر.
وتبعها أمهات المؤمنين إلى ذات عرق فبكوا على الإسلام، فلم ير يوم كان أكثر باكياً وباكيةً من ذلك اليوم، فكان يسمى يوم النحيب. فلما بلغوا ذات عرق لقي سعيد بن العاص مروان بن الحكم وأصحابه بها فقال: أين تذهبون وتتركون ثأركم على أعجاز الإبل وراءكم؟ يعني عائشة وطلحة والزبير، اقتلوهم ثم ارجعوا إلى منازلكم. فقالوا: نسير فلعلنا نقتل قتلة عثمان جميعاً. فخلا سعيد بطلحة والزبير فقال: إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر؟ اصدقاني. قالا: نجعله لأحدنا أينا اختاره الناس. قال: بل تجعلونه لولد عثمان فإنكم خرجتم تطلبون بدمه. فقالا: ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأيتام! قال: فلا أراني أسعى إلا لإخراجها من بني عبد مناف. فرجع ورجع عبد الله ابن خالد بن أسيد، وقال المغيرة بن شعبة: الرأي ما قال سعيد، من كان ههنا من ثقيف فليرجع. فرجع ومضى القوم ومعهم أبان والوليد ابنا عثمان.
وأعطى يعلى بن منية عائشة جملاً اسمه عسكر اشتراه بثمانين ديناراً، فركبته، وقيل: بل كان جملها لرجل من عرينة.
قال العرني: بينما أنا أسير على جمل إذ عرض لي راكب فقال: أتبيع جملك؟ قلت: نعم. قال: بكم؟ قلت: بألف درهم. قال: أمجنون أنت؟ قلت: ولم؟ والله ما طلبت عليه أحداً إلا أدركته ولا طلبني وأنا عليه أحدٌ إلا فته. قال: لو تعلم لمن نريده! إنما نريده لأم المؤمنين عائشة! فقلت: خذه بغير ثمن. قال: بل ترجع معنا إلى الرحل فنعطيك ناقة ودراهم. قال: فرجعت معه فأعطوني ناقة مهرية وأربعمائة درهم أو ستمائة، وقالوا لي: يا أخا عرينة هل لك دلالة بالطريق؟ قلت: أنا من أدل الناس. قالوا: فسر معنا. فسرت معهم فلا أمر على واد إلا سألوني عنه، حتى طرقنا الحوأب، وهو ماء، فنبحتنا كلابه، فقالوا: أي ماء هذا؟ فقلت: هذا ماء الحواب. فصرخت عائشة بأعلى صوتها وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إني لهيه، سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب! ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت: ردوني، أنا والله صاحبة ماء الحوأب. فأناخوا حولها يوماً وليلة، فقال لها عبد الله بن الزبير: إنه كذب، ولم يزل بها وهي تمتنع، فقال لها: النجاء النجاء! قد أدرككم علي بن أبي طالب. فارتحلوا نحو البصرة فلما كانوا بفنائها لقيهم عمير بن عبد الله التميمي وقال: يا أم المؤمنين أنشدك الله أن تقدمي اليوم على قوم لم تراسلي منهم أحداً فعجلي ابن عامر فإن له بها صنائع فليذهب إليهم ليلقوا الناس إلى أن تقدمي ويسمعوا ما جئتم به. فأرسلته فاندس إلى البصرة، فأتى القوم، وكتبت عائشة إلى رجال من أهل البصرة وإلى الأحنف بن قيس وصبرة بن شيمان وأمثالهم وأقامت بالحفير تنتظر الجواب.
ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين وكان رجل عامة، وألزه بأبي الأسود الدئلي، وكان رجل خاصة، وقال لهما: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها. فخرجا فانتهيا إليها بالحفير، فأذنت لهما، فدخلا وسلما وقالا: إن أميرنا بعثنا إليك لنسألك عن مسيرك فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت: والله ما مثل يعطي لبنيه الخبر، إن الغوغاء ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأحدثوا فيه وآووا المحدثين فاستوجبوا لعنة الله ولعنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترةٍ ولا عذر فاستحلوا الدم الحرام وسفكوه وانتهبوا المال الحرام وأحلوا البلد الحرام والشهر الحرام فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء وما الناس فيه وراءنا وما ينبغي لهم من إصلاح هذه القصة، وقرأت: (لا خير في كثيرٍ من نجواهم) النساء: 114 الآية، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به ومنكر ننهاكم عنه.
فخرج عمران وأبو الأسود من عندها فأتيا طلحة وقالا: ما أقدمك؟ فقال: الطلب بدم عثمان. فقالا: ألم تبايع علياً؟ فقال: بلى والسيف على عنقي وما أستقيل علياً البيعة إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان. ثم أتيا الزبير فقالا له مثل قولهما لطلحة، وقال لهما مثل قول طلحة، فرجعا إلى عثمان بن حنيف ونادى مناديها بالرحيل، فدخلا على عثمان فبادر أبو الأسود عمران فقال:
يا ابن حنيفٍ قد أتيت فانفر ... وطاعن القوم وجالد واصبر
وابرز لهم مستلئماً وشمر
فقال عثمان: إنا لله وإنا إليه راجعون، دارت رحى الإسلام ورب الكعبة فانظروا بأي زيفان تزيف. فقال عمران: إي والله لتعركنكم عركاً طويلاً. قال: فأشر علي يا عمران. قال: اعتزل فإني قاعد. قال عثمان: بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين. فانصرف عمران إلى بيته وقام عثمان في أمره، فأتاه هشام بن عامر فقال: إن هذا الأمر الذي تريده يسلم إلى شر مما تكره، إن هذا فتقٌ لا يرتق، وصدعٌ لا يجبر، فارفق بهم وسامحهم حتى يأتي أمر علي. فأبى ونادى عثمان في الناس وأمرهم بلبس السلاح، فاجتمعوا إلى المسجد، وأمرهم بالتجهز، وأمر رجلاً دسه إلى الناس خدعاً كوفياً قيسياً، فقام فقال: أيها الناس أنا قيس بن العقدية الحميسي، إن هؤلاء القوم إن كانوا جاؤوا خائفين، فقد أتوا من بلد يأمن فيه الطير، وإن كانوا جاؤوا يطلبون بدم عثمان فما نحن بقتلة عثمان، فأطيعوني وردوهم من حيث جاؤوا. فقام الأسود ابن سريع السعدي فقال: أو زعموا أنا قتلة عثمان؟ إنما أتوا يستعينون بنا على قتلة عثمان منا ومن غيرنا. فحصبه الناس فعرف عثمان أن لهم بالبصرة ناصراً فكسره ذلك.
فأقبلت عائشة فيمن معها حتى انتهوا إلى المربد فدخلوا من أعلاه ووقفوا حتى خرج عثمان فيمن معه وخرج إليها من أهل البصرة من أراد أن يكون معها، فاجتمع القوم بالمربد، فتكلم طلحة وهو في ميمنة المربد وعثمان في ميسرته، فأنصتوا له، فحمد الله وأثنى عليه وذكر عثمان وفضله وما استحل منه ودعا إلى الطلب بدمه وحثهم عليه، وكذلك الزبير. فقال من في ميمنة المربد: صدقا وبرا. وقال من في ميسرته: فجرا وغدرا وأمرا بالباطل، فقد بايعا علياً ثم جاءا يقولان، وتحاثى الناس وتحاصبوا وأرهجوا.
فتكلمت عائشة، وكانت جهورية الصوت، فحمدت الله وقالت: كان الناس يتجنون على عثمان ويزرون على عماله ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم، فننظر في ذلك فنجده بريئاً تقياً وفياً، ونجدهم فجرة غدرة كذبة، وهم يحاولون غير ما يظهرون فلما قووا كاثروه واقتحموا عليه داره واستحلوا الدم الحرام والشهر الحرام والبلد الحرام بلا ترةٍ ولا عذر، ألا إن مما ينبغي ولا ينبغي لكم غيره، أخذ قتلة عثمان وإقامة كتاب الله، وقرأت: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله) آل عمران: 23 الآية؛ فافترق أصحاب عثمان فرقتين، فرقة قالت: صدقت وبرت، وقال الآخرون: كذبتم والله ما نعرف ما جئتم به! فتحاثوا وتحاصبوا. فلما رأت عائشة ذلك انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقين لعثمان بن حنيف حتى وقفوا في المربد في موضع الدباغين، وبقي أصحاب عثمان على حالهم، ومال بعضهم إلى عائشة وبقي بعضهم مع عثمان.
وأقبل جارية بن قدامة السعدي وقال: يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح! إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك! إنه من رأى قتالك يرى قتلك! لئن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتنا مكرهة فاستعيني بالناس.
وخرج غلام شاب من بني سعد إلى طلحة والزبير فقال: أما أنت يازبير فحواري رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأما أنت يا طلحة فوقيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيدك وأرى أمكما معكما فهل جئتما بنسائكما؟ قالا: لا. قال: فما أنا منكم في شيء؛ واعتزل وقال في ذلك:
صنتم حلائلكم وقدتم أمكم ... هذا لعمرك قلة الإنصاف
أمرت بجر ذيولها في بيتها ... فهوت تشق البيد بالإيجاف
غرضاً يقاتل دونها أبناؤها ... بالنبل والخطي والأسياف
هكت بطلحة والزبير ستورها ... هذا امخبر عنهم والكافي
وأقبل حكيم بن جبلة العبدي وهو على الخيل، فأنشب القتال، وأشرع أصحاب عائشة رماحهم وأمسكوا ليسمك حكيم وأصحابه، فلم ينته وقاتلهم وأصحاب عائشة كافون يدفعون عن أنفسهم وحكيم يذمر خيله ويركبهم بها، فاقتتلوا على فم السكة، وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا إلى مقبرة بني مازن وحجز الليل بينهم، ورجع عثمان إلى القصر، وأتى أصحاب عائشة إلى ناحية دار الرزق وباتوا يتأهبون وبات الناس يأتونهم واجتمعوا بساحة دار الرزق. فغاداهم حكيم بن جبلة وهو يسب وبيده الرمح، فقال له رجل من عبد القيس: من هذا الذي تسبه؟ قال: عائشة. قال: يا ابن الخبيثة الأم المؤمنين تقول هذا؟ فطعنه حكيم فقتله. ثم مر بامرأة وهو يسبها أيضاً، فقالت له: ألأم المؤمنين تقول هذا يا ابن الخبيثة؟ فطعنها فقتلها. ثم سار فاقتتلوا بدار الرزق قتالاً شديداً إلى أن زال النهار وكثر القتل في أصحاب عثمان بن حنيف وكثر الجراح في الفريقين. فلما عضتهم الحرب تنادوا إلى الصلح وتوادعوا، فكتبوا بينهم كتاباً على أن يبعثوا رسولاً إلى المدينة يسأل أهلها، فإن كان طلحة والزبير أكرها خرج عثمان ابن حنيف عن البصرة وأخلاها لهما، وإن لم يكونا أكرها خرج طلحة والزبير، وكتبوا بينهم كتاباً بذلك. وسار كعب بن سور إلى أهل المدينة يسألهم. فلما قدمها اجتمع الناس إليه، وكان يوم جمعة، فقام وقال: يا أهل المدينة، أنا رسول أهل البصرة، نسألكم هل أكره طلحة والزبير على بيعة علي أم أتياها طائعين؟ فلم يجبه أحد إلا أسامة بن زيد فإنه قام وقال: إنهما بايعا وهما مكرهان. فأمر به تمام بن العباس فواثبه سهل بن حنيف والناس وثار صهيب وأبو أيوب في عدة من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فيهم محمد بن مسلمة حين خافوا أن يقتل أسامة فقالوا: اللهم نعم. فتركوه، وأخذ صهيب أسامة بيده إلى منزله وقال له: أما وسعك ما وسعنا من السكوت؟ قال: ما كنت أظن أن الأمر كما أرى. فرجع كعب وبلغ علياً الخبر، فكتب إلى عثمان يعجزه وقال: والله ما أكرها على فرقة ولقد أكرها على جماعة وفضل، فإن كان يريدان الخلع فلا عذر لهما، وإن كانا يريدان غير ذلك نظرنا ونظروا.
فقدم الكتاب على عثمان، وقدم كعب بن سور، فأرسلوا إلى عثمان ليخرج، فاحتج بالكتاب وقال: هذا أمر آخر غير ما كنا فيه. فجمع طلحة والزبير الرجال في ليلة مظلمة ذات رياح ومطر ثم قصدا المسجد فوافقا صلاة العشاء، وكانوا يؤخرونها، فأبطأ عثمان، فقدما عبد الرحمن بن عتاب، فشهر الزط والسيابجة السلاح ثم وضعوه فيهم، فأقبلوا عليهم فاقتتلوا في المسجد فقتلوا، وهم أربعون رجلاً، فأدخلا الرجال على عثمان فأخرجوه إليهما. فلما وصل إليهما توطؤوه وما بقيت في وجهه شعرة، فاستعظما ذلك وأرسلا إلى عائشة يعلمانها الخبر، فأرسلت إليهما أن خلوا سبيله.
وقيل: لما أخذ عثمان أرسله إلى عائشة يستشيرونها في أمره، فقالت: اقتلوه. فقالت لها امرأة: نشدتك الله في عثمان وصحبته لرسول الله، صلى الله عليه وسلم! فقالت لهم: احبسوه. فقال لهم مجاشع بن مسعود: اضربوه وانتفوا لحيته وحاجبيه وأشفار عينيه. فضربوه أربعين سوطاً ونتفوا لحيته وحاجبيه وأشفار عينيه وحبسوه ثم أطلقوه وجعلوا على بيت المال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.
وقد قيل في إخراج عثمان غير ما تقدم، وذلك أن عائشة وطلحة والزبير لما قدموا البصرة كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان: من عائشة أم المؤمنين حبيبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان، أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم فانصرنا، فإن لم تفعل فخذل الناس عن علي.
فكتب إليها: أما بعد فأنا ابنك الخالص، لئن اعتزلت ورجعت إلى بيتك وإلا فأنا أول من نابذك.
وقال زيد: رحم الله أم المؤمنين! أمرت أن تلزم بيتها وأمرنا أن نقاتل، فتركت ما أمرت به وأمرتنا به وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه.
وكان على البصرة عند قدومها عثمان بن حنيف فقال لهم: ما نقمتم على صاحبكم؟ فقالوا: لم نره أولى بها منا وقد صنع ما صنع. قال: فإن الرجل أمرني فأكتب إليه فأعلمه ما جئتم به على أن أصلي أنا بالناس حتى يأتينا كتابه.
فوقفوا عنه، فكتب فلم يلبث إلا يومين أو ثلاثة حتى وثبوا على عثمان عند مدينة الرزق فظروا وأرادوا قتله ثم خشوا غضب الأنصار فنتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه وضربوه وحبسوه. وقام طلحة والزبير خطيبين فقالا: يا أهل البصرة توبة لحوبة، إنما أردنا أن نستعتب أمير المؤمنين عثمان فغلب السفهاء الحلماء فقتلوه! فقال الناس لطلحة: يا أبا محمد قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا. فقال الزبير: هل جاءكم مني كتاب في شأنه؟ ثم ذكر قتل عثمان وأظهر عيب علي، فقام إليه رجل من عبد القيس فقال: أيها الرجل أنصت حتى نتكلم. فأنصت. فقال العبدي: يا معشر المهاجرين أنتم أول من أجاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان لكم بذلك فضل ثم دخل الناس في الإسلام كما دخلتم، فلما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بايعتم رجلاً منكم فرضينا وسلمنا ولم تستأمرونا في شيء من ذلك، فجعل الله للمسلمين في إمارته بركة، ثم مات واستخلف عليكم رجلاً فلم تشاورونا في ذلك فرضينا وسلمنا، فلما توفي جعل أمركم إلى ستة نفر فاخترتم عثمان وبايعتموه عن غير مشورتنا، ثم أنكرتم منه شيئاً فقتلتموه عن غير مشورة منا، ثم بايعتم علياً عن غير مشورة منا، فما الذي نقمتم عليه فنقاتله؟ هل استأثر بفيء أو علم بغير الحق أو أتى شيئاً تنكرونه فنكون معكم عليه، وإلا فما هذا؟ فهموا بقتل ذلك الرجل، فمنعته عشيرته، فلما كان الغد وثبوا عليه وعلى من معه فقتلوا منهم سبعين. وبقي طلحة والزبير بعد أخذ عثمان بالبصرة ومعهما بيت المال والحرس والناس، ومن لم يكن معهما استتر.
وبلغ حكيم بن جبلة ما صنع بعثمان بن حنيف فقال: لست أخاف الله إن لم أنصره! فجاء في جماعة من عبد القيس ومن تبعه من ربيعة وتوجه نحو دار الرزق، وبها طعام أراد عبد الله بن الزبير أن يرزقه أصحابه، فقال له عبد الله: ما لك يا حكيم؟ قال: نريد أن نرتزق من هذا الطعام وأن تخلوا عثمان فيقيم في دار الإمارة على ما كتبتم بينكم حتى يقدم علي، وايم الله لو أجد أعواناً عليكم ما رضيت بهذه منكم حتى أقتلكم بمن قتلهم، ولقد أصبحتم وإن دماءكم لنا لحلال بمن قتلتم، أما تخافون الله؟ بم تستحلون الدم الحرام؟ قال: بدم عثمان. قال: فالذين قتلتم هم قتلوا عثمان، أما تخافون مقت الله؟ فقال له عبد الله: لا نرزقكم من هذا الطعام ولا نخلي سبيل عثمان حتى تخلع علياً. فقال حكيم: اللهم إنك حكم عدل فاشهد، وقال لأصحابه: لست في شك من قتال هؤلاء القوم، فمن كان في شك فلينصرف. وتقدم فقاتلهم. فقال طلحة والزبير: الحمد لله الذي جمع لنا ثأرنا من أهل البصرة، اللهم لا تبق منهم أحداً! فاقتتلوا قتالاً شديداً، ومع حكيم أربعة قواد، فكان حكيم بحيال طلحة، وذريح بحيال الزبير، وابن المحترش بحيال عبد الرحمن بن عتاب، وحرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، فزحف طلحة لحكيم وهو في ثلثمائة، وجعل حكيم يضرب بالسيف ويقول:
أضربهم باليابس ... ضرب غلامٍ عابس
من الحياة آيس ... في الغرفات نافس
فضرب رجل رجله فقطعها، فحبا حتى أخذها فرمى بها صاحبه فصرعه وأتاه فقتله ثم اتكأ عليه وقال:
يا ساقي لن تراعي ... إن معي ذراعي
احمي بها كراعي
وقال أيضاً:
ليس علي أن أموت عار ... والعار في الناس هو الفرار
والمجد لا يفضحه الدمار
فأتى عليه رجل وهو رثيث، رأسه على آخر، فقال: ما لك يا حكيم؟ قال: قتلت. قال: من قتلك؟ قال: وسادتي. فاحتمله وضمه في سبعين من أصحابه، وتكلم يومئذ حكيم وإنه لقائم على رجل واحدة، وإن السيوف لتأخذهم وما يتتعتع ويقول: إنا خلفنا هذين، وقد بايعا علياً وأعطياه الطاعة ثم أقبلا مخالفين محاربين يطلبان بدم عثمان، ففرقا بيننا ونحن أهل دار وجوار، اللهم إنهما لم يريدا عثمان! فناداه منادٍ: يا خبيث! جزعت حين عضك نكال الله إلى كلام من نصبك وأصحابك بما ركبتم من الإمام المظلوم وفرقتم من الجماعة وأصبتم من الدماء، فذق وبال الله وانتقامه. وقتلوا وقتل معهم، قتله يزيد بن الأسحم الحداني، فوجد حكيم قتيلاً بين يزيد وأخيه كعب.
وقيل: قتله رجل يقال له ضخيم وقتل معه ابنه الأشرف وأخوه الرعل بن جبلة. ولما قتل حكيم أرادوا قتل عثمان بن حنيف فقال لهم: أما إن سهلاً بالمدينة فإن قتلتموني انتصر، فخلوا سبيله، فقصد علياً. وقتل ذريح ومن معه، وأفلت حرقوص بن زهير في نفر من أصحابه، فلجأوا إلى قومهم، فنادى منادي طلحة والزبير: من كان فيهم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا بهم، فجيء بهم فقتلوا ولم ينج منهم إلا حرقوص بن زهير، فإن عشيرته بني سعد منعوه، وكان منهم، فنالهم من ذلك أمر شديد، وضربوا فيه أجلاً وخشنوا صدور بني سعد، وكانوا عثمانية، فاعتزلوا، وغضبت عبد القيس حين غضبت سعد لمن قتل منهم بعد الوقعة ومن كان هرب إليهم إلى ما هم عليه من لزوم الطاعة لعلي، فأمر طلحة والزبير للناس بأعطياتهم وأرزاقهم وفضلا أهل السمع والطاعة، فخرجت عبد القيس وكثير من بكر بن وائل حين منعوهم الفضول فبادروهم إلى بيت المال وأكب عليهم الناس فأصابوا منهم وخرجوا حتى نزلوا على طريق علي. وأقام طلحة والزبير وليس معهما ثأر إلا حرقوص بن زهير، وكتبوا إلى أهل الشام بما صنعوا وصاروا إليه، وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة بما كان منهم وتأمرهم أن يثبطوا الناس عن علي وتحثهم على طلب قتلة عثمان، وكتبت إلى أهل اليمامة وإلى أهل المدينة بما كان منهم أيضاً، وسيرت الكتب.
وكانت هذه الوقعة لخمس ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين.
وبايع أهل البصرة طلحة والزبير، فلما بايعوهما قال الزبير: ألا ألف فارس أسير بهم إلى علي أقتله بياتاً أو صباحاً قبل أن يصل إلينا! فلم يجبه أحد، فقال: إن هذه للفتنة التي كنا نحدث عنها. فقال له مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها؟ قال: ويلك! إنا نبصر ولا نبصر، ما كان أمر قط إلا وأنا أعلم موضع قدمي فيه غير هذا الأمر فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر! وقال علقمة بن وقاص الليثي: لما خرج طلحة والزبير وعائشة رأيت طلحة وأحب المجالس إليه أخلاها وهو ضارب بلحيته على صدره، فقلت: يا أبا محمد أرى أحب المجالس إليك أخلاها وأنت ضارب بلحيتك على صدرك، إن كرهت شيئاً فاجلس. قال: فقال لي: يا علقمة بينا نحن يد واحدة على من سوانا إذ صرنا جبلين من حديد يطلب بعضنا بعضاً، إنه كان مني في عثمان شيء ليس توبتي إلا أن يسفك دمي في طلب دمه. قال: فقلت: فرد ابنك محمداً فإن لك ضيعة وعيالاً، فإن يك شيء يخلفك. قال: فامنعه. قال: فأتيت محمداً ابنه فقلت له: لو أقمت فإن حدث به حدث كنت تخلفه في عياله وضيعته. قال: ما أحب أن أسأل عنه الركبان.
يعلى بن منية بضم الميم، وسكون النون، والياء المعجمة باثنتين من تحتها، وهي أمه، واسم أبيه أمية. عبد الله بن خالد بن أسيد. جارية ابن قدامة بالجيم. حكيم بن جبلة بضم الحاء، وفتح الكاف، وقيل بفتح الحاء، وكسر الكاف. وصوحان بضم الصاد، وآخره نون.
ذكر مسير علي إلى البصرة والوقعةقد ذكرنا فيما تقدم تجهز علي إلى الشام، فبينما هو على ذلك أتاه الخبر عن طلحة والزبير وعائشة من مكة بما عزموا عليه، فلما بلغه ذلك دعا وجوه أهل المدينة وخطبهم، فحمد الله واثنى عليه ثم قال: إن آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، فانصروا الله ينصركم ويصلح لكم أمركم. فتثاقلوا، فلما رأى زياد بن حنظلة تثاقل الناس انتدب إلى علي وقال له: من تثاقل عنك فإنا نخف معك فنقاتل دونك. وقام رجلان صالحان من أعلام الأنصار، أحدهما أبو الهيثم ابن التيهان، وهو بدري، والثاني خزيمة بن ثابت، وقيل: هو ذو الشهادتين، وقال الحكم: ليس بذي الشهادتين، مات ذو الشهادتين أيام عثمان، فأجابه إلى نصرته.
قال الشعبي: ما نهض في تلك الفتنة إلا ستة نفر بدريون ما لهم سابع. وقال سعيد بن زيد: ما اجتمع أربعة من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، لخير يعملونه إلا وعلي أحدهم، قيل: وقال أبو قتادة الأنصاري لعلي: يا أمير المؤمنين إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قلدني هذا السيف وقد أغمدته زماناً وقد حان تجريده على هؤلاء القوم الظالمين الذين لا يألون الأمة غشاً، وقد أحببت أن تقدمني فقدمني. وقالت أم سلمة: يا أمير المؤمنين لولا أن أعصي الله وأنك لا تقبله مني لخرجت معك، وهذا ابن عمي، وهو والله أعز علي من نفسي، يخرج معك ويشهد مشاهدك. فخرج معه وهو لم يزل معه، واستعمله علي على البحرين ثم عزله واستعمل النعمان بن عجلان الزرقي. فلما أراد علي المسير إلى البصرة وكان يرجو أن يدرك طلحة والزبير فيردهما قبل وصولهما إلى البصرة أو يوقع بهما، فلما سار استخلف على المدينة تمام بن العباس، وعلى مكة قثم بن العباس، وقيل: أمر على المدينة سهل بن حنيف، وسار علي من المدينة في تعبيته التي تعباها لأه الشام آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، فقالت أخت علي بن عدي من بني عبد شمس:
لا هم فاعقر بعلي جمله ... ولا تبارك في بعيرٍ حمله
ألا علي بن عدي ليس له
وخرج معه من نشط من الكوفيين والبصريين متخففين في تسعمائة، وهو يرجو أن يدركهم فيحول بينهم وبين الخروج أو يأخذهم، فلقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه وقال: يا أمير المؤمنين لا تخرج منها، فوالله إن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبداً! فسبوه. فقال: دعوا الرجل من أصحاب محمد، صلى الله عليه وسلم.
وسار حتى انتهى إلى الربذة، فلما انتهى إليها أتاه خبر سبقهم، فأقام بها يأتمر ما يفعل، وأتاه ابنه الحسن في الطريق فقال له: لقد أمرتك فعصيتني فتقتل غداً بمضيعة لا ناصر لك. فقال له علي: إنك لا تزال تخن خنين الجارية، وما الذي أمرتني فعصيتك؟ قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان أن تخرج من المدينة فيقتل ولست بها، ثم أمرتك يوم قتل أن لا تبايع حتى تأتيك وفود العرب وبيعة أهل كل مصر فإنهم لن يقطعوا أمراً دونك، فأبيت علي، وأمرتك حين خرجت هذه المرأة وهذان الرجلان أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فإن كان الفساد كان على يد غيرك، فعصيتني في ذلك كله.
فقال: أي بني! أما قولك: لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان، فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما قولك: لا تبايع حتى يبايع أهل الأمصار، فإن الأمر أمر أهل المدينة وكرهنا أن يضيع هذا الأمر، ولقد مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما أرى أحداً أحق بهذا الأمر مني، فبايع الناس أبا بكر الصديق فبايعته، ثم إن أبا بكر انتقل إلى رحمة الله وما أرى أحداً أحق بهذا الأمر مني، فبايع الناس عمر فبايعته، ثم إن عمر انتقل إلى رحمة الله وما أرى أحداً أحق بهذا الأمر مني فجعلني سهماً من ستة أسهم، فبايع الناس عثمان فبايعته، ثم سار الناس إلى عثمان فقتلوه وبايعوني طائعين غير مكرهين، فأنا مقاتل من خالفني بمن أطاعني حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين. وأما قولك أن أجلس في بيتي حين خرج طلحة والزبير، فكيف لي بما قد لزمني أو من تريدني؟ أتريدني أن أكون كالضبع التي يحاط بها ويقال ليست ههنا حتى يحل عرقوباها حتى تخرج! وإذا لم أنظر فيما يلزمني من هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه؟ فكف عنك يا بني.
ولما قدم علي الربذة وسمع بها خبر القوم أرسل منها إلى الكوفة محمد بن أبي بكر الصديق ومحمد بن جعفر وكتب إليهم: إني اخترتكم على الأمصار وفزعت إليكم لما حدث، فكونوا لدين الله أعواناً وأنصاراً وانهضوا إلينا، فالإصلاح نريد لتعود هذه الأمة إخواناً. فمضيا وبقي علي بالربذة يتهيأ، وأرسل إلى المدينة فأتاه ما يريده من دابة وسلاح وأمر أمره وقام في الناس فخطبهم وقال: إن الله تبارك وتعالى أعزنا بالإسلام ورفعنا به وجعلنا به إخواناً بعد ذلة وقلة وتباغض وتباعد، فجرى الناس على ذلك ما شاء الله، الإسلام دينهم والحق فيهم والكتاب إمامهم، حتى أصيب هذا الرجل بأيدي هؤلاء القوم الذين نزغهم الشيطان لينزغ بين هذه الأمة! ألا إن هذه الأمة لابد مفترقة كما افترقت الأمم قبلها، فنعوذ بالله من شر ما هو كائن؛ ثم عاد ثانية وقال: إنه لابد مما هو كائن أن يكون، ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة شرها فرقة تنتحلني ولا تعمل بعملي، وقد أدركتم ورأيتم، فالزموا دينكم واهدوا بهديي فإنه هدي نبيكم واتبعوا سنته وأعرضوا عما أشكل عليكم حتى تعرضوه على القرآن فما عرفه القرآن فالزموه وما أنكره فردوه، وارضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً ومحمد نبياً وبالقرآن حكماً وإماماً.
فلما أراد المسير من الربذة إلى البصرة قام إليه ابن لرفعاعة بن رافع فقال: يا أمير المؤمنين أي شيء تريد وأين تذهب بنا؟ فقال: أما الذي نريد وننوي فالإصلاح إن قبلوا منا وأجابونا إليه. قال: فإن لم يجيبونا إليه؟ قال: ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحق ونصبر. قال: فإن لم يرضوا؟ قال: ندعهم ما تركونا. قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتنعنا منهم. قال: فنعم إذاً. وقام الحجاج بن غزية الأنصاري فقال: لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقوم؛ وقال:
دراكها دراكها قبل الفوت ... فانفر بنا واسم بنا نحو الصوت
لا وألت نفسي إن كرهت الموت
والله لننصرن الله كما سمانا أنصاراً! ثم أتاه جمعة من طيء وهو بالربذة، فقيل لعلي: هذه جماعة قد أتتك، منهم من يريد الخروج معك ومنهم من يريد التسليم عليك. قال: جزى الله كليهما خيراً وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً. فلما دخلوا عليه قال لهم: ما شهدتمونا به؟ قالوا: شهدناك بكل ما تحب. فقال: جزاكم الله خيراً فقد أسلمتم طائعين وقاتلتم المرتدين ووافيتم بصدقاتكم المسلمين. فنهض سعيد بن عبيد الطائي فقال: يا أمير المؤمنين إن من الناس من يعبر لسانه عما في قلبه، وإني والله ما أجد لساني يعبر عما في قلبي، وسأجهد وبالله التوفيق، أما أنا فسأنصح لك في السر والعلانية، وأقاتل عدوك في كل موطن، وأرى من لحق لك ما لا أرها لأحد غيرك من أهل زمانك لفضلك وقرابتك. فقال: رحمك الله! قد أدى لسانك عما يجن ضميرك. فقتل معه بصفين.
وسار علي من الربذة وعلى مقدمته أبو ليلى بن عمر بن الجراح وعلى الميمنة عبد الله بن عباس وعلى الميسرة عمر بن أبي سلمة أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، والراية مع محمد بن الحنفية، وعلي على ناقة حمراء يقود فرساً كميتاً.
فلما نزل بفيد أتته أسد وطيء فعرضوا عليه أنفسهم، فقال: الزموا قراركم، في المهاجرين كفاية. وأتاه رجل بفيد من الكوفة، فقال له: من الرجل؟ قال: عامر بن مطر الشيباني. قال: أخبر عما وراءك. فأخبره، فسأله عن أبي موسى، فقال: إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبه، وإن أردت القتال فليس بصاحبه. فقال علي: والله ما اريد إلا الصلح حتى يرد علينا.
ولما نزل علي الثعلبية أتاه الذي لقي عثمان بن حنيف وحرسه فأخبر أصحابه الخبر فقال: اللهم عافني مما ابتليت به طلحة والزبير. فلما انتهى إلى الإساد أتاه ما لقي حكيم بن جبلة وقتلة عثمان فقال: الله أكبر! ما ينجيني من طلحة والزبير إن أصابا ثأرهما! وقال:
دعا حكيمٌ دعوة الزماع ... حل بها منزلة النزاع
فلما انتهى إلى ذي قار أتاه فيها عثمان بن حنيف وليس في وجهه شعرة، وقيل: أتاه بالربذة، وكانوا قد نتفوا شعر رأسه ولحيته، وعلى ما ذكرناه، فقال: يا أمير المؤمنين بعثتني ذا لحية وقد جئتك أمرد. فقال: أصبت أجراً وخيراً، إن الناس وليهم قبل رجلان فعملا بالكتاب والسنة، ثم وليهم ثالث فقالوا وفعلوا، ثم بايعوني وبايعني طلحة والزبير، ثم نكثا بيعتي وألبا الناس علي، ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وعثمان وخلافهما علي، والله إنهما ليعلمان أني لست بدون رجل ممن تقدم، اللهم فاحلل ما عقدا ولا تبرم ما أحكما في أنفسهما وأرهما المساءة فيما قد عملا! وأقام بذي قار ينتظر محمداً ومحمداً، فأتاه الخبر بما لقيت ربيعة وخروج عبد القيس، فقال: عبد القيس خير ربيعة وفي كل ربيعة خير، وقال:
يا لهف نفسي على ربيعه ... ربيعة السامعة المطيعه
قد سبقتني فيهم الوقيعه ... دعا علي دعوةً سميعه
حلوا بها المنزلة الرفيعه
وعرضت عليه بكر بن وائل فقال لها ما قال لطيء واسد. وأما محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر فأتيا أبا موسى بكتاب علي وقاما في الناس بأمره، فلم يجابا إلى شيء. فلما أمسوا دخل ناس من أهل الحجى على أبي موسى فقالوا: ما ترى في الخروج؟ فقال: كان الرأي بالأمس ليس اليوم، إن الذي تهاونتم به فيما مضى هو الذي جر عليكم ما ترون، إنما هما أمران: القعود سبيل الآخرة والخروج سبيل الدنيا، فاختاروا. فلم ينفر إليه أحد، فغضب محمد ومحمد وأغلظا لأبي موسى. فقال لهما: والله إن بيعة عثمان لفي عنقي وعنق صاحبكما، فإن لم يكن بد من قتال لا نقاتل أحداً حتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا.
فانطلقا إلى علي فأخبراه الخبر وهو بذي قار، فقال للأشتر، وكان معه: أنت صاحبنا في أبي موسى والمعترض في كل شيء، اذهب أنت وابن عباس فأصلح ما أفسدت. فخرجا فقدما الكوفة فكلما أبا موسى واستعانا عليه بنفر من أهل الكوفة، فقام لهم أبو موسى وخطبهم وقال: أيها الناس إن أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، الذين صحبوه أعلم بالله وبرسوله ممن لم يصحبه، وإن لكم علينا لحقاً، وأنا مؤد إليكم نصيحة، كان الرأي أن لا تستخفوا بسلطان الله وأن لا تجترئوا على الله وأن تأخذوا من قدم عليكم من المدينة فتردوهم إليها حتى يجتمعوا فهم أعلم بمن تصلح له الإمامة، وهذه فتنة صماء، النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب، والراكب خير من الساعي، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب فأغمدوا السيوف وانصلوا الأسنة واقطعوا الأوتار وآووا المظلوم والمضطهد حتى يلتئم هذا الأمر وتنجلي هذه الفتنة.
فرجع ابن عباس والأشتر إلى علي فأخبراه الخبر، فأرسل ابنه الحسن وعمار ابن ياسر، وقال لعمار: انطلق فأصلح ما أفسدت. فأقبلا حتى دخلا المسجد، وكان أول من أتاهما المسروق بن الأجدع فسلم عليهما، وأقبل على عمار فقال: يا أبا اليقظان علام قتلتم عثمان؟ قال: على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا. قال: فوالله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لكان خيراً للصابرين. فخرج أبو موسى فلقي الحسن فضمه إليه وأقبل على عمار فقال: يا أبا اليقظان أعدوت على أمير المؤمنين فيمن عدا فأحللت نفسك مع الفجار؟ فقال: لم أفعل ولم يسؤني. فقطع الحسن عليهما الكلام وأقبل على أبي موسى فقال له: لم تثبط الناس عنا؟ فوالله ما أردنا إلا الإصلاح ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء. فقال: صدقت يا بأبي أنت وأمي، ولكن المستشار مؤتمن، سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب). وقد جعلنا الله إخواناً وقد حرم علينا دماءنا وأموالنا. فغضب عمار وسبه وقام وقال: يا أيها الناس إنما قال له وحده: أنت فيها قاعداً خير منك قائماً. فقام رجل من بني تميم فسب عماراً وقال: أنت أمس مع الغوغاء واليوم تسافه أميرنا! وثار زيد بن صوحان وطبقته وثار الناس وجعل أبو موسى يكفكف الناس، ووقف زيد على باب المسجد ومعه كتاب إليه من عائشة تأمره فيه بملازمة بيته أو نصرتها، وكتاب إلى أهل الكوفة بمعناه، فأخرجهما فقرأهما على الناس، فلما فرغ منهما قال: أمرت أن تقر في بيتها وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة، فأمرتنا بما أمرت به وركبت ما أمرنا به. فقال له شبث بن ربعي: يا عماني - لأنه من عبد القيس وهم يسكنون عمان - سرقت بجلولاء فقطعت يدك وعصيت أم المؤمنين! وتهاوى الناس.
وقام أبو موسى وقال: أيها الناس أطيعوني وكوني جرثومة من جراثيم العرب يأوي إليكم المظلوم ويأمن فيكم الخائف، إن الفتنة إذا أقبلت شبهت فإذا أدبرت بينت، وإن هذه الفتنة فاقرة كداء البطن تجري بها الشمال والجنوب والصبا والدبور تذر الحليم وهو حيران كابن أمس، شيموا سيوفكم وقصدوا رماحكم وقطعوا أوتاركم والزموا بيوتكم، خلوا قريشاً إذا أبوا إلا الخروج من دار الهجرة وفراق أهل علم بالأمراء، استنصحوني ولا تسغشوني، أطيعوني يسلم لكم دينكم ودنياك ويشقى بحر هذه الفتنة من جناها.
فقام زيد فشال يده المقطوعة فقال: يا عبد الله بن قيس رد الفرات على أدراجه، أردده من حيث يجيء حتى يعود كما بدأ، فإن قدرت على ذلك فستقدر على ما تريد، فدع عنك ما لست مدركه! سيروا إلى أمير المؤمنين وسيد المسلمين، انفروا إليه أجمعين تصيبوا الحق.
فقام القعقاع بن عمرو فقال: إني لكم ناصح وعليكم شفيق، أحب لكم أن ترشدوا ولأقولن لكم قولاً هو الحق، أما ما قال الأمير فهو الحق، لو أن إليه سبيلاً، وأما ما قال زيد فزيد عدو هذا الأمر فلا تستنصحوه، والقول الذي هو الحق أنه لابد من إمارة تنظم الناس وتزع الظالم وتعز المظلوم، وهذا أمير المؤمنين ولي بما ولي وقد أنصف في الدعاء، وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا وكونا من هذا الأمر بمرأى ومسمع.
وقال عبد الخير الخيراني: يا أبا موسى هل بايع طلحة والزبير؟ قال: نعم. قال: هل أحدث علي ما يحل بن نقض بيعته؟ قال: لا أدري. قال: لا دريت، نحن نتركك حتى تدري، هل تعلم أحداً خارجاً من هذه الفتنة؟ إنما الناس أربع فرق: علي بظهر الكوفة، وطلحة والزبير بالبصرة، ومعاوية بالشام، وفرقة بالحجاز لا غناء بها ولا يقاتل بها عدو. فقال أبو موسى: أولئك خير الناس، وهي فتنة. فقال عبد الخير: غلب عليك غشك يا أبا موسى! فقال سيحان ابن صوحان: أيها الناس لابد لهذا الأمر وهؤلاء الناس من والٍ يدفع الظالم ويعز المظلوم ويجمع الناس، وهذا واليكم يدعوكم لتنظروا فيما بينه وبين صاحبيه، وهو المأمون على الأمة الفقيه في الدين، فمن نهض إليه فإنا سائرون معه. فلما فرغ سيحان قال عمار: هذا ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يستنفركم إلى زوجة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإلى طلحة والزبير، وإني أشهد أنها زوجته في الدنيا والآخرة، فانظروا ثم انظروا في الحق فقاتلوا معه. فقال له رجل: أنا مع من شهدت له بالجنة على من لم تشهد له. فقال له الحسن: اكفف عنا فإن للإصلاح أهلاً. وقام الحسن بن علي فقال: أيها الناس أجيبوا دعوة أمركم وسيروا إلى إخوانكم فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، ووالله لأن يليه أولو النهى أمثل في العاجل والآجل وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم، وإن أمير المؤمنين يقول: قد خرجت مخرجي هذا ظالماً أو مظلوماً، وإني أذكر الله رجلاً رعى حق الله إلا نفر، فإن كنت مظلوماً أعانني وإن كنت ظالماً أخذ مني، والله إن طلحة والزبير لأول من بايعني وأول من غدر، فهل استأثرت بمال أو بدلت حكماً؟ فانفروا فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر. فسامح الناس وأجابوا ورضوا. وأتى قوم من طيء عدي بن حاتم فقالوا: ماذا ترى وما تأمر؟ فقال: قد بايعنا هذا الرجل وقد دعانا إلى جميل وإلى هذا الحدث العظيم لننظر فيه، ونحن سائرون وناظرون. فقام هند بن عمرو فقال: إن أمير المؤمنين قد دعانا وأرسل إلينا رسله حتى جاءنا ابنه، فاسمعوا إلى قوله وانتهوا إلى أمره وانفروا إلى أميركم فانظروا معه في هذا الأمر وأعينوه برأيكم.
وقام حجر بن عدي فقال: أيها الناس أجيبوا أمير المؤمنين وانفروا خفافاً وثقالاً، مروا وأنا أولكم. فأذعن الناس للمسير، فقال الحسن: أيها الناس إني عاذٍ فمن شاء منكم أن يخرج معي على الظهر ومن شهاء في الماء. فنفر معه قريب من تسعة آلاف،أخذ في البر ستة آلاف ومائتان، وأخذ في الماء ألفان وأربعمائة.
وقيل: إن علياً أرسل الأشتر بعد ابنه الحسن وعمار إلى الكوفة، فدخلها والناس في المسجد وأبو موسى يخطبهم ويثبطهم والحسن وعمار معه في منازعة، وكذلك سائر الناس، كما تقدم، فجعل الأشتر لا يمر بقبيلة فيها جماعة إلا دعاهم، ويقول: اتبعوني إلى القصر، فانتهى إلى القصر في جماعة الناس، فدخله وأبو موسى في المسجد يخطبهم ويثبطهم والحسن يقول له: اعتزل عملنا لا أم لك! وتنح عن منبرنا! وعمار ينازعه، فأخرج الأشتر غلمان أبي موسى من القصر، فخرجوا يعدون وينادون: يا أبا موسى هذا الأشتر قد دخل القصر فضربنا وأخرجنا. فنزل أبو موسى فدخل القصر فصاح به الأشتر: اخرج لا أم لك أخرج الله نفسك! فقال: أجلني هذه العشية. فقال: هي لك ولا تبيتن في القصر الليلة. ودخل الناس ينهبون متاع أبي موسى، فمنعهم الأشتر وقال: أنا له جار. فكفوا عنه. فنفر الناس في العدد المذكور.
وقيل: إن عدد من سار من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل. قال أبو الطفيل: سمعت علياً يقول ذلك قبل وصولهم، فقعدت فأحصيتهم فما زادوا رجلاً ولا نقصوا رجلاً. وكان على كنانة وأسد وتميم والرباب ومزينة معقل ابن يسار الرياحي، وكان على سبع قيس سعد بن مسعود الثقفي عم المختار، وعلى بكر وتغلب وعلة بن محدوج الذهلي، وكان على مذحج والأشعرين حجر ابن عدي، وعلى بجيلة وأنمار وخثعم والأزد مخنف بن سليم الأزدي، فقدموا على أمير المؤمنين بذي قار، فلقيهم في ناس معه فيهم ابن عباس فرحب بهم وقال: يا أهل الكوفة أنتم قاتلتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم حتى صارت إليكم مواريثهم فمنعتم حوزتكم وأعنتم الناس على عدوهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإن يرجعوا فذاك الذي نريد، وإن يلجوا داويناهم بالرفق حتى يبدأونا بظلم، ولم ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله. واجتمعوا عنده بذي قار وعبد القيس بأسرها في الطريق بين علي وأهل البصرة ينتظرونه وهم ألوف.
وكان رؤساء الجماعة من الكوفيين: القعقاع بن عمرو وسعد بن مالك وهند ابن عمرو والهيثم بن شهاب، وكان رؤساء النفار: زيد بن صوحان والأشتر وعدي بن حاتم والمسيب بن نجبة ويزيد بن قيس، وأمثال لهم ليسوا دونهم، إلا أنهم لم يؤمروا؛ منهم حجر بن عدي. فلما نزلوا بذي قار دعا علي القعقاع فأرسله إلى أهل البصرة وقال: الق هذين الرجلين، وكان القعقاع من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فادعهما إلى الألفة والجماعة وعظم عليهما الفرقة، وقال له: كيف تصنع فيما جاءك منهما وليس عندك فيه وصاة مني؟ قال: نلقاهم بالذي أمرت به. فإذا جاء منهم ما ليس عندنا منك فيه رأي اجتهدنا رأينا وكلمناهم كما نسمع ونرى أنه ينبغي. قال: أنت لها. فخرج القعقاع حتى قدم البصرة فبدأ بعائشة فسلم عليها وقال: أي أمة ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بني الإصلاح بين الناس. قال: فابعثي إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما. فبعثت إليهما، فجاءا، فقال لهما: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها، فقالت: الإصلاح بين الناس، فما تقولان أنتما، أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان. قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عرفناه لنصلحن ولئن أنكرناه لا نصلح. قالا: قتلة عثمان، فإن هذا إن ترك كان تركاً للقرآن. قال: قد قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة وأنتم قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة رجل فغضب لهم ستة آلاف واعتزلوكم وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف، فإن تركتموهم كنتم تاركين لما تقولون، وإن قاتلتموهم والذين اعتزلوكم فأديلوا عليكم فالذي حذرتم وقويتم به هذا الأمر أعظم مما أراكم تكرهون، وإن أنتم منعتم مضر وربيعة من هذه البلاد اجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلائ كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم والذنب الكبير.
قالت عائشة: فماذا تقول أنت؟ قال: أقول: إن هذا الأمر دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة ودرك بثأر هذا الرجل وعافية وسلامة لهذه الأمة، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شر وذهاب هذا المال، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم، ولا تعرضونا للبلاء فتعرضوا له فيصرعنا وإياكم. وايم الله إني لأقول هذا القول وأدعوكم إليه! وإني لخائف أن لا يتم حتى يأخذ الله حاجته من هذه الأمة التي قل متاعها ونزل بها ما نزل، فإن هذا الأمر الذي حدث أمر ليس يقدر، وليس كقتل الرجل الرجل ولا النفر الرجل ولا القبيلة الرجل. قالوا: قد أصبت وأحسنت فارجع، فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر.
فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح كره ذلك من كرهه ورضيه من رضيه. وأقبلت وفود العرب من أهل البصرة نحو علي بذي قار قبل رجوع القعقاع لينظروا ما رأى إخوانهم من أهل الكوفة وعلى أي حال نهضوا إليهم وليعلموهم أن الذي عليه رأيهم الإصلاح ولا يخطر لهم قتالهم على بال.
فلما لقوا عشائرهم من أهل الكوفة قال لهم الكوفيون مثل مقالتهم وأدخلوهم على علي فأخبروه بخبرهم، وسأل علي جرير بن شرس عن طلحة والزبير فأخبره بدقيق أمرهما وجليله وقال له: أما الزبير فيقول: بايعنا كرهاً، وأما طلحة فيتمثل الأشعار ويقول:
ألا أبلغ بني بكرٍ رسولاً ... فليس إلى بني كعبٍ سبيل
سيرجع ظلمكم منكم عليكم ... طويل الساعدين له فضول
فتمثل علي عندها:
ألم تعلم أبا سمعان أنا ... نرد الشيخ مثلك ذا الصداع
ويذهل عقله بالحرب حتى ... يقوم فيستجيب بغير داع
فدافع عن خزاعة جمع بكر ... وما بك يا سراقة ومن دفاع
ورجعت وفود أهل البصرة برأي أهل الكوفة، ورجع القعقاع من البصرة، فقام علي خطيباً فحمد الله وذكر الجاهلية وشقاءها والإسلام والسعادة وإنعام الله على الأمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم الذي يليه ثم الذي يليه، ثم حدث هذا الحدث الذي جره على هذه الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيا وحسدوا من أفاءها الله عليه وعلى الفضيلة وأرادوا رد الإسلام والأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره. ألا وإني راحل غداً فارتحلوا، ولا يرتحلن أحد أعان على عثمان بشيء من أمور الناس، وليغن السفهاء عني أنفسهم. فاجتمع نفر، منهم: علباء بن الهيثم وعدي بن حاتم وسالم بن ثعلبة القيسي وشريح بن أوفى والأشتر في عدة ممن سار إلى عثمان ورضي بسير من سار، وجاء معهم المصريون وابن السوداء وخالد بن ملجم فتشاوروا فقالوا: ما الرأي؟ وهذا علي وهو والله أبصر بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان وأقرب إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول ولم ينفر إليه سواهم والقليل من غيرهم، فكيف به إذا شام القوم وشاموه ورأوا قلتنا في كثرتهم، وأنتم والله ترادون وما أنتم بالحي من شيء! فقال الأشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا، وأما علي فلم نعرف رأيه إلى اليوم، ورأي الناس فينا واحد، فإن يصطلحوا مع علي فعلي دمائنا، فهلموا بنا نثب على علي فنلحقه بعثمان فتعود فتنة يرضى منا فيها بالسكون. فقال عبد الله بن السوداء: بئس الرأي رأيت، أنتم يا قتلة عثمان بذي قار ألفان وخمسمائة أو نحو من ستمائة، وهذا ابن الحنظلية، يعني طلحة، وأصحابه في نحو من خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلاً. فقال علباء ابن الهيثم: انصرفوا بنا عنهم ودعوهم، فإن قلوا كان أقوى لعدوهم عليهم، وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم، دعوهم وارجعوا فتعلقوا ببلد من البلدان حتى يأتيكم فيه من تقوون به وامتنعوا من الناس. فقال ابن السوداء: بئس ما رأيت، ود والله الناس أنكم انفردتم ولم تكونوا مع أقوام برآء، ولو انفردتم لتخطفكم الناس كل شيء. فقال عدي بن حاتم: والله ما رضيت ولا كرهت، ولقد عجبت من تردد من تردد عن قتله في خوض الحديث، فأما إذا وقع ما وقع ونزل من الناس بهذه المنزلة فإن لنا عتاداً من خيول وسلاح، فإن أقدمتم أقدمنا وإن أمسكتم أمسكنا. فقال ابن السوداء: أحسنت. وقال سالم ابن ثعلبة: من كان أراد بما أتى الدنيا فإني لم ارد ذلك، والله لئن لقيتهم غداً لا أرجع إلى شيء، وأحلف بالله إنكم لتفرقن السيف فرق قوم لا تصير أمورهم إلا إلى السيف. فقال ابن السوداء: قد قال قولاً. وقال شريح بن أوفى: أبرموا أموركم قبل أن تخرجوا، ولا تؤخروا أمراً ينبغي لكم تعجيله، ولا تعجلوا أمراً ينبغي لكم تأخيره، فإنا عند الناس بشر المنازل وما أدري ما الناس صانعون إذا ما هم التقوا. وقال ابن السوداء: يا قوم إن عزكم في خلطة الناس، فإذا التقى الناس غداً فأنشبوا القتال ولا تفرغوهم للنظر، فمن أنتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع، ويشغل الله علياً وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهون. فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون.
وأصبح علي على ظهر ومضى، ومضى معه الناس حتى نزل على عبد القيس فانضموا إليه، وسار من هناك فنزل الزاوية، وسار من الزاوية يريد البصرة، وسار طلحة والزبير وعائشة من الفرضة، فالتقوا عند موضع قصر عبيد الله بن زياد. فلما نزل الناس أرسل شقيق بن ثور إلى عمرو بن مرحوم العبدي أن اخرج فإذا خرجت فمل بنا إلى عسكر علي. فخرجا في عبد القيس وبكر بن وائل فعدلوا إلى عسكر علي، فقال الناس: من كان هؤلاء معه غلب. وأقاموا ثلاثة أيام لم يكن بينهم قتال، فكان يرسل علي إليهم يكلمهم ويدعوهم، وكان نزولهم يوم الخميس في النصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، ونزل بهم علي وقد سبق أصحابه وهم يتلاحقون به. فلما نزل قال أبو الجرباء للزبير: إن الرأي أن تبعث ألف فارس إلى علي قبل أن يوافي إليه أصحابه. فقال: إنا لنعرف أمور الحرب ولكنهم أهل دعوتنا وهذا أمر حدثٌ لم يكن قبل اليوم، من لم يلق الله فيه بعذر انقطع عذره يوم القيامة، وقد فارقنا وفدهم على أمر وأنا أرجو أن يتم لنا الصلح فأبشروا واصبروا. وأقبل صبرة بن شيمان فقال لطلحة والزبير: انتهزا بنا هذا الرجل فإن الرأي في الحرب خير من الشدة. فقالا: إن هذا أمر لم يكن قبل اليوم فينزل فيه قرآن أو يكون فيه سنة من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد زعم قوم أنه لا يجوز تحريكه، وهم علي ومن معه، وقلنا نحن: إنه لا ينبغي لنا أن نتركه ولا نؤخره، وقد قال علي: ترك هؤلاء القوم شر وهو خير من شر منه، وقد كان يتبين لنا، وقد جاءت الأحكام بين المسلمين بأعمها منفعة. وقال كعب بن سور: يا قوم اقطعوا هذا العنق ن هؤلاء القوم، فأجابوه بنحو ما تقدم. وقام علي فخطب الناس، فقام إليه الأعور بن بنان المنقري فساله عن إقدامهم على أهل البصرة، فقال له علي: على الإصلاح وإطفاء النائرة لعل الله يجمع شمل هذه الأمة بنا ويضع حربهم. قال: فإن لم يجيبونا؟ قال: تركناهم ما تركونا. قال: فإن لم يتركونا؟ قال: دفعناهم عن أنفسنا. قال: فهل لهم من هذا مثل الذي عليهم؟ قال: نعم.
وقام إليه أبو سلامة الدألاني فقال: أترى لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إن كانوا أرادوا الله بذلك؟ قال: نعم. قال: أفترى لك حجة بتأخير ذلك؟ قال: نعم، إن الشيء إذا كان لا يدرك فإن الحكم فيه أحوطه وأعمه نفعاً. قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غداً؟ قال: إني لأرجو أن لا يقتل منا ومنهم أحد نقى قلبه لله إلا أدخله الله الجنة.
وقال في خطبته: أيها الناس املكوا عن هؤلاء القوم أيديكم وألسنتكم وإياكم أن تسبقونا فإن المخصوم غداً من خصم اليوم. وبعث إليهم حكيم بن سلامة ومالك بن حبيب: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع فكفوا حتى ننزل وننظر في هذا الأمر. وخرج إليه الأحنف بن قيس وبنو سعد مشمرين قد منعوا حرقوص بن زهير وهم معتزلون، وكان الأحنف قد بايع علياً بالمدينة بعد قتل عثمان لأنه كان قد حج وعاد من الحج فبايعه. قال الأحنف: ولم أبايع علياً حتى لقيت طلحة والزبير وعائشة بالمدينة وأنا أريد الحج وعثمان محصور، فقلت لكل منهم: إن الرجل مقتول فمن تأمرونني أبايع؟ فكلهم قال: بايع علياً. فقلت: أترضونه لي؟ فقالوا: نعم. فلما قضيت حجي ورجعت إلى المدينة رأيت عثمان قد قتل فبايعت علياً ورجعت إلى أهلي ورأيت الأمر قد استقام. فبينما أنا كذلك إذ أتاني آتٍ فقال: هذه عائشة وطلحة والزبير بالخريبة يدعونك. فقلت: ما جاء بهم؟ قال: يستنصرونك على قتال علي في دم عثمان، فأتاني أفظع أمر، فقلت: إن خذلاني أم المؤمنين وحواري رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لشديدٌ، وإن قتال ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد أمروني ببيعته أشد، فلما أتيتهم قالوا: جئنا لكذا وكذا. قال: فقلت: يا أم المؤمنين ويا زبير ويا طلحة، نشدتكم الله أقلت لكم. من تأمرونني أبايع؟ فقلتم: بايع علياً. فقالوا: نعم ولكنه بدل وغير. فقلت: والله لا أقاتلكم ومعكم أم المؤمنين ولا اقاتل ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد أمرتموني ببيعته، ولكني أعتزل. فأذنوا له في ذلك، فاعتزل بالجلحاء ومعه زهاء ستة آلاف، وهي من البصرة على فرسخين. فلما قدم علي أتاه الأحنف فقال له: إن قومنا بالبصرة يزعمون أنك إن ظهرت عليهم غداً قتلت رجالهم وسبيت نساءهم. قال: ما مثلي يخاف هذا منه، وهل يحل هذا إلا لمن تولى وكفر وهم قوم مسلمون؟ قال: اختر مني واحدة من اثنتين، إما أن اقاتل معك وإما أن أكف عنك عشرة آلاف سيف. قال: فكيف بما أعطيت أصحابك من الاعتزال؟ قال: إن من الوفاء لله قتالهم. قال: فاكفف عنا عشرة آلاف سيف. فرجع إلى الناس فدعاهم إلى القعود ونادى: يا آل خندف! فأجابه ناس، ونادى: يا آل تميم! فأجابه ناس، ثم نادى: يا آل سعد! فلم يبق سعدي إلا أجابه، فاعتزل بهم ونظر ما يصنع الناس، فلما كان القتال وظفر علي دخلوا فيما دخل فيه الناس وافرين.
فلما تراءى الجمعان خرج الزبير على فرس عليه سلاح، فقيل لعلي: هذا الزبير. فقال: أما إنه أحرى الرجلين إن ذكر بالله تعالى أن يذكر.
وخرج طلحة فخرج إليهما حتى اختلفت أعناق دوابهم، فقال علي: لعمري قد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً إن كنتما أعددتما عند الله عذراً، فاتقيا الله ولا تكونا (كالتي نقضت غزلها من بعد قوةٍ أنكاثاً) النحل: 92، ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي وأحرم دمكما، فهل من حدث أحل لكما دمي؟ قال طلحة: ألبت على عثمان. قال علي: (يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق) النور: 25. يا طلحة، تطلب بدم عثمان فلعن الله قتلة عثمان! يا طلحة، أجئت بعرس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تقاتل بها وخبأت عرسك في البيت! أما بايعتني؟ قال: بايعتك والسيف على عنقي. فقال علي للزبير: يا زبير ما أخرجك؟ قال: أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلاً ولا أولى به منا. فقال له علي: ألست له أهلاً بعد عثمان؟ قد كنا نعدك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء ففرق بيننا. وذكره أشياء، وقال له: تذكر يوم مررت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بني غنم فنظر إلي فضحك وضحكت إليه فقلت له لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ليس به زهو، لتقاتلنه وأنت ظالم له). قال: اللهم نعم، ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا، والله لا أقاتلك أبداً. فانصرف علي إلى أصحابه فقال: أما الزبير فقد أعطى الله عهداً أن لا يقاتلكم. ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها: ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا. قالت: فما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أدعهم وأذهب. قال له ابنه عبد الله: جمعت بين هذين الغارين حتى إذا حدد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب، لكنك خشيت رايات ابن أبي طالب وعلمت أنها تحملها فتيةٌ أنجادٌ وأن تحتها الموت الأحمر فجبنت. فأحفظه ذلك، وقال: إني حلفت أن لا أقاتله. قال: كفر عن يمينك وقاتله. فأعتق غلامه مكحولاً، وقيل سرجس، فقال عبد الرحمن بن سليمان التميمي:
لم أر كاليوم أخا إخوان ... أعجب من مكفر الأيمان
الأبيات. وقيل: إنما عاد الزبير عن القتال لما سمع أن عمار بن ياسر مع علي، فخاف أن يقتل عماراً، وقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (يا عمار تقتلك الفئة الباغية)، فرده ابنه عبد الله، كما ذكرناه. وافترق أهل البصرة ثلاث فرق: فرقة مع طلحة والزبير، وفرقة مع علي، وفرقة لا ترى القتال، منهم الأحنف وعمران بن حصين وغيرهما. وجاءت عائشة فنزلت في مسجد الحدان في الأزد، ورأس الأزد يومئذ صبرة بن شيمان، فقال له كعب بن سور: إن الجموع إذا تراءت لم تستطع، إنما هي بحور تدفق، فأطعني ولا تشهدهم واعتزل بقومك فإني أخاف أن لا يكون صلح، ودع مضر وربيعة فهما أخوان فإن اصطلحا فالصلح أردنا وإن اقتتلا كنا حكاماً عليهم غداً.
وكان كعب في الجاهلية نصرانياً، فقال له صبرة: أخشى أن يكون فيك شيء من النصرانية! أتأمرني أن أغيب عن إصلاح بين الناس وأن أخذل أم المؤمنين وطلحة والزبير إن ردوا عليهم الصلح وأدع الطلب بدم عثمان؟ والله لا أفعل هذا أبداً! فأطبق أهل اليمن على الحضور، وحضر مع عائشة المنجاب بن راشد في الرباب، وهم: تيم، وعدي، وثور، وعكل بنو عبد مناف بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، وضبة بن أد بن طابخة، وحضر أيضاً أبو الجرباء في بني عمرو بن تميم، وهلال بن وكيع في بني حنظلة، وصبرة بن شيمان على الأزد، ومجاشع بن مسعود السلمي على سليم، وزفر بن الحرث في بني عامر و على غطفان أعصر بن النعمان الباهلي، وعلى اليمن ذو الآجرة الحميري.
ولما خرج طلحة والزبير نزلت مضر جميعاً وهم لا يشكون في الصلح، ونزلت ربيعة فوقهم وهم لا يشكون في الصلح، ونزلت اليمن أسفل منهم ولا يشكون في الصلح، وعائشة في الحدان، والناس بالزابونة على رؤسائهم هؤلاء، وهم ثلاثون ألفاً، وردو حكيماً ومالكاً إلى علي إننا على ما فارقنا عليه القعقاع، ونزل علي بحيالهم، فنزلت مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليم، فكان بعضهم يخرج إلى بعض لا يذكرون إلا الصلح، وكان أصحاب علي عشرين ألفاً، وخرج علي وطلحة والزبير فتواقفوا فلم يروا أمراً أمثل من الصلح ووضع الحرب، فافترقوا على ذلك. وبعث علي من العشي عبد الله بن عباس إلى طلحة والزبير، وبعثاهما محمد بن أبي طلحة إلى علي، وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه، وطلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما بذلك، فباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية التي أشرفوا عليها والصلح، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة وقد أشرفوا على الهلكة، وباتوا يتشاورون، فاجتمعوا على إنشاب الحرب، فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم، فخرجوا متسللين وعليهم ظلمة، فقصد مضرهم إلى مضرهم، وربيعتهم إلى ربيعتهم، ويمنهم إلى يمنهم، فوضعوا فيهم السلاح، فثار أهل البصرة وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين أتوهم، وبعث طلحة والزبير إلى الميمنة، وهم ربيعة، أميراً عليها عبد الرحمن بن الحرث، وإلى الميسرة عبد الرحمن بن عتاب، وثبتا في القلب وقالا: ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلاً. فقالا: قد علمنا أن علياً غير منته حتى يسفك الدماء وأنه لن يطاوعنا. فرد أهل البصرة أولئك الكوفيين إلى عسكرهم.
فسمع علي وأهل الكوفة الصوة وقد وضع السبئية رجلاً قريباً منه يخبره بما يريد، فلما قال علي: ما هذا؟ قال ذلك الرجل: ما شعرنا إلا وقوم منهم قد بيتونا فرددناهم فوجدنا القوم على رجل فركبونا وثار الناس. فارسل علي صاحب الميمنة إلى الميمنة وصاحب الميسرة إلى الميسرة وقال: لقد علمت أن طلحة والزبير غير منتهين حتى يسفكا الدماء وأنهما لن يطاوعانا والسبئية لا تفتر إنشاباً، ونادى علي في الناس: كفوا فلا شيء، وكان من رأيهم جميعاً في تلك الفتنة أن لا يقتتلوا حتى يبدأوا، يطلبون بذلك الحجة، وأن لا يقتلوا مدبراً ولا يجهزوا على جريح ولا يستحلوا سلباً ولا يرزأوا بالبصرة سلاحاً ولا ثياباً ولامتاعاً. وأقبل كعب بن سور حتى أتى عائشة فقال: أدركي فقد أبى القوم إلا القتال لعل الله أن يصلح بك.
فركبت وألبسوا هودجها الأدراع، فلما برزت من البيوت وهي على الجمل بحيث تسمع الغوغاء وقفت واقتتل الناس وقاتل الزبير فحمل عليه عمار ابن ياسر فجعل يحوزه بالرمح والزبير كافٌّ عنه ويقول: أتقتلني يا أبا اليقظان؟ فيقول: لا يا أبا عبد الله. وإنما كف الزبير عنه لقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (تقتل عمار الفئة الباغية)، ولولا ذلك لقتله. وبينما عائشة واقفة إذ سمعت ضجةً شديدةً فقالت: ما هذا؟ قالوا: ضجة العسكر. قالت: بخير أو بشر؟ قالوا: بشر، فما فجأها إلا الهزيمة، فمضى الزبير من وجهه إلى وادي السباع، وإنما فارق المعركة لأنه قاتل تعذيراً لما ذكر له علي.
وأما طلحة فأتاه سهم غربٍ فأصابه فشك رجله بصفحة الفرس وهو ينادي: إلي إلي عباد الله! الصبر الصبر! فقال له القعقاع بن عمرو: يا أبا محمد إنك لجريح وإنك عما تريد لعليل، فادخل البيوت. فدخل ودمه يسيل وهو يقول: اللهم خذ لعثمان مني حتى ترضى، فلما امتلأ خفه دماً وثقل قال لغلامه: أردفني وأمسكني وأبلغني مكاناً أنزل فيه. فدخل البصرة، فأنزله في دار خربة فمات فيها، وقيل: إنه اجتاز به رجل من أصحاب علي فقال له: أنت من أصحاب أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: امدد يدك أبايعك له؛ فبايعه، فخاف أن يموت وليس في عنقه بيعة. ولما قضى دفن في بني سعد، وقال: لم أر شيخاً أضيع دماً مني. وتمثل عند دخول البصرة مثله ومثل الزبير:
فإن تكن الحوادث أقصدتني ... وأخطأهن سهمي حين أرمي
فقد ضيعت حين تبعت سهماً ... سفاهاً ما سفهت وضل حلمي
ندمت ندامة الكسعي لما ... شريت رضا بني سهمٍ برغمي
أطعتهم بفرقة آل لأيٍ ... فألقوا للسباع دمي ولحمي
وكان الذي رمى طلحة مروان بن الحكم، وقيل غيره. وأما الزبير فإنه مر بعسكر الأحنف بن قيس فقال: والله ما هذا انحياز، جمع بين المسلمين حتى ضرب بعضهم بعضاً لحق ببيته. وقال الأحنف للناس: من يأتيني بخبره؟ فقال عمرو بن جرموز لأصحابه: أنا، فاتبعه، فلما لحقه نظر إليه الزبير قال: ما وراءك؟ قال: إنما أريد أن أسألك. فقال غلام للزبير اسمه عطية: إنه معد. قال: ما يهولك من رجل! وحضرت الصلا، فقال ابن جرموز: الصلاة. فقال الزبير: الصلاة، فلما نزلا استدبره ابن جرموز فطعنه في جربان درعه فقتله وأخذ فرسه وسلاحه وخاتمه وخلى عن الغلام فدفنه بوادي السباع ورجع إلى الناس بالخبر. وقال الأحنف لابن جرموز: والله ما أدري أحسنت أم أسأت.
فأتى ابن جرموز علياً فقال لحاجبه: استأذن لقاتل الزبير. فقال علي: ائذن له وبشره بالنار. وأحضر سيف الزبير عند علي فأخذه فنظر إليه وقال: طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم! وبعث به إلى عائشة لما انجلت الوقعة وانهزم الناس يريدون البصرة، فلما رأوا الخيل أطافت بالجمل عادوا قلباً كما كانوا حيث التقوا وعادوا في أمر جديد، ووقفت ربيعة بالبصرة ميمنة وبعضهم ميسرة، وقالت عائشة لما انجلت الوقعة وانهزم الناس لكعب بن سور: خل عن الجمل وتقدم بالمصحف فادعهم إليه. وناولته مصحفاً. فاستقبل القوم والسبئية أمامهم فرموه رشقاً واحداً فقتلوه ورموا أم المؤمنين في هودجها، فجعلت تنادي: البقية البقية يا بني! ويعلو صوتها كثرة: الله الله! اذكروا الله والحساب! فيأبون إلا إقداماً، فكان أول شيء أحدثته حين أبوا أن قالت: أيها الناس العنوا قتلة عثمان وأشياعهم. وأقبلت تدعو، وضج الناس بالدعاء. فسمع لي فقال: ما هذه الضجة؟ قالوا: عائشة تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم. فقال علي: اللهم العن قتلة عثمان! فأرسلت إلى عبد الرحمن بن عتاب وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام أن اثبتا مكانكما، وحرضت الناس حين رأت القوم يريدونها ولا يكفون، فحملت مضر البصرة حتى قصفت مضر الكوفة حتى زحم علي فنخس قفا ابنه محمد، وكانت الراية معه، وقال له: احمل! فتقدم حتى لم يجد متقدماً إلا على سنان رمح، فأخذ علي الراية من يده وقال: يا بني بين يدي.
وحملت مضر الكوفة، فاجتلدوتا قدام الجمل حتى ضرسوا والمجنبتان على حالهما لا تصنع شيئاً، ومع علي قوم من غير مضر، منهم زيد بن صوحان، طلبوا ذلك منه، فقال له رجل: تنح إلى قومك، ما لك ولهذا الموقف؟ ألست تعلم أن مضر بحيالك والجمل بين يديك وأن الموت دونه؟ فقال: الموت خيرٌ من الحياة، الموت أريد، فأصيب هو وأخوه سيحان وارتث صعصعة أخوهما واشتدت الحرب، فلما رأى علي ذلك بعث إلى ربيعة وغلى اليمن أن اجمعوا من يليكم. فقام رجل من عبد القيس من أصحاب علي فقال: ندعوكم إلى كتاب الله. فقالوا: وكيف يدعونا إليه من لا يستقيم ولا يقيم حدود الله وقد قتل كعب بن سور داعي الله! ورمته ربيعة رشقاً واحداً فقتلوه، فقام مسلم بن عبد الله العجلي مكانه فرشقوه رشقاً واحداً فقتلوه، ودعت يمن الكوفة يمن البصرة فرشقوهم، وأبى أهل الكوفة إلا القتال ولم يريدوا إلا عائشة، فذكرت أصحابها فاقتتلوا حتى تنادوا فتحاجزوا ثم رجعوا فاقتتلوا وتزاحف الناس وظهرت يمن البصرة على يمن الكوفة فهزمتهم، وربيعة البصرة على ربيعة الكوفة فهزمتهم، ثم عاد يمن الكوفة فقتل على رايتهم عشرة، خمسة من همدان وخمسة من سائر اليمن. فلما رأى ذلك يزيد بن قيس أخذها فثبتت في يده وهو يقول:
قد عشت يا نفسي وقد عشيت ... دهراً فقدك اليوم ما بقيت
ألب طول العمر ما حييت
وإنما تمثلها، وقال ابن أبي نمران الهمداني:
جردت سيفي في رجال الأزد ... أضرب في كهولهم والمرد
كل طويل الساعدين نهد
ورجعت ربيعة الكوفة فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل على رايتهم، وهم في الميسرة: زيد وعبد الله بن رقبة وأبو عبيدة بن راشد بن سلمى وهو يقول: اللهم أنت هديتنا من الضلالة واستنقذتنا من الجهالة وابتليتنا بالفتنة فكنا في شبهة وعلى ريبة، وقتل. واشتد الأمر حتى لزقت ميمنة أهل الكوفة بقلبهم وميسرة أهل البصرة بقلبهم ومنعوا ميمنة أهل الكوفة أن يختلطوا بقلبهم وإن كانوا إلى جنبهم، وفعل مثل ذلك ميسرة أهل الكوفة بميمنة أهل البصرة، فلما رأى الشجعان من مضر الكوفة والبصرة الصبر تنادوا: طرفوا إذا فرغ الصبر، فجعلوا يقصدون الأطراف الأيدي والأرجل، فما رؤي وقعة كانت أعظم منها قبلها ولا بعدها ولا أكثر ذراعاً مقطوعة ولا رجلاً مقطوعة، واصيبت يد عبد الرحمن ابن عتاب قبل قتله. فنظرت عائشة من يسارها فقالت: من القوم عن يساري؟ قال صبرة بن شيمان: بنوك الأزد. فقالت: يا آل غسان حافظوا اليوم على جلادكم الذي كنا نسمع به، وتمثلت:
وجالد من غسان أهل حفاظها ... وكعب وأوسٌ جالدت وشبيب
فكان الأزد يأخذون بعر الجمل يشمونه ويقولون: بعر جمل أمنا ريحه ريح المسك. وقالت لمن عن يمينها: من القوم عن يميني؟ قال: بكر بن وائل. قالت: لكم يقول القائل:
وجاؤوا إلينا في الحديد كأنهم ... من العزة القعساء بكر بن وائل
إنما بإزائكم عبد القيس. فاقتتلوا أشد من قتالهم قبل ذلك. وأقبلت على كتيبة بين يديها فقالت: من القوم؟ قالوا: بنو ناجية. قالت: بخ بخ سيوف أبطحية قرشية! فجالدوا جلاداً يتفادى منه. ثم أطافت بها بنو ضبة فقالت: ويهاً جمرة الجمرات! فلما رقوا خالطهم بنو عدي بن عبد مناة وكثروا حولها، فقالت: من أنتم؟ قالوا: بنو عدي خالطنا إخوتنا، فأقاموا رأس الجمل وضربوا ضرباً شديداً ليس بالتعذير ولا يعدلون بالتطريف، حتى إذا كثر ذلك وظهر في العسكرين جميعأً راموا الجمل وقالوا: لا يزال القوم أو يصرع الجمل، وصار مجنبتا علي إلى القلب، وفعل ذلك أهل البصرة، وكره القوم بعضهم بعضاً. وأخذ عميرة بن يثربي برأس الجمل وكان قاضي البصرة قبل كعب بن سور، فشهد الجمل هو وأخوه عبد الله، فقال علي: من يحمل على الجمل؟ فانتدب له هند بن عمرو الجملي المرادي، فاعترضه ابن يثربي فاختلفا ضربتين فقتله ابن يثربي، ثم حمل علباء بن الهيثم فاعترضه ابن يثربي فقتله وقتل سيحان بن صوحان وارتث صعصعة، وقال ابن يثربي:
أنا لمن ينكرني ابن يثربي ... قاتل علباء وهند الجملي
وابن لصوحان على دين علي
وقال ابن يثربي أيضاً:
أضربهم ولا أرى أبا حسن ... كفى بهذا حزناً من الحزن
إنما نمر الأمر إمرار الرسن
فناداه عمار: لقد عذت بحريز وما إليك من سبيل، فإن كنت صادقاً فاخرج من هذه الكتيبة إلي. فترك الزمام في يد رجل من بني عدي، حتى إذا كان بين الصفين تقدم عمار، وهو ابن تسعين سنة، وقيل أكثر من ذلك، عليه فرو وقد شد وسطه بحبل ليف، وهو أضعف من بارزه، واسترجع الناس وقالوا: هذا لاحق بأصحابه، وضربه ابن يثربي فاتقاه عمار بدرقته فنشب سيفه فيها فعالجه فلم يخرج، وأسف عمار لرجليه فضربه فقطهما فوقع على استه وأخذ أسيراً فأتي به إلى علي، فقال: استبقني. فقال: أبعد ثلاثة تقتلهم! وأمر به فقتل. وقيل: إن المقتول عمرو بن يثربي وإن عميرة بقي حتى ولي قضاء البصرة مع معاوية، ولما قتل ابن يثربي تولى ذلك العدوي الزمام فتركه بيد رجل من بني عدي وبرز، فخرج إليه ربيعة العقيلي يرتجز ويقول:
يا أمتا أعق أمٍ نعلم ... والأم تغذو ولداً وترحم
ألا ترين كم شجاعٍ يكلم ... وتختلى منه يدٌ ومعصم
كذب فهي من أبر أمٍ نعلم. ثم اقتتلا فأثخن كل واحد منهما صاحبه، فماتا جميعاً، وقام مقام العدوي الحرث الضبي، فما رؤي أشد منه، وجعل يقول:
نحن بنو ضبة أصحاب الجمل ... نبارز القرن إذا القرن نزل
ننعى ابن عفانٍ بأطراف الأسل ... الموت أحلى عندنا من العسل
ردوا علينا شيخنا ثم بجل
وقيل: إن هذه الأبيات لوسيم بن عمرو الضبي، وكان عمرو يحرض أصحابه يوم الجمل، وقد أخذ الخطام، ويقول:
نحن بنو ضبة لا نفر ... حتى نرى جماجماً تخر
يخر منها العلق المحمر
ويقول:
يا أمتا يا عيس لن تراعي ... كل بنيك بطلٌ شجاع
ويقول:
يا أمتا يا زوجة النبي ... يا زوجة المبارك المهدي
ولم يزل الأمر كذلك حتى قتل على الخطام أربعون رجلاً. قالت عائشة: ما زال جملي معتدلاً حتى فقدت أصوات بني ضبة. قال: وأخذ الخطام سبعون رجلاً من قريش كلهم يقتل وهو آخذ بخطام الجمل، وكان ممن أخذ بزمام الجمل محمد بن طلحة، وقال: يا أمتاه مريني بأمرك. قالت: آمرك أن تكون خير بني آدم إن تركت، فجعل لا يحمل عليه أحد إلا حمل عليه، وقال: حاميم لا ينصرون، واجتمع عليه نفر كلهم ادعى قتله، المكعبر الأسدي، والمكعبر الضبي، ومعاوية بن شداد العبسي، وعفار السعدي النصري، فأنفذه بعضهم بالرمح، ففي ذلك يقول:
وأشعث قوامٍ بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه ... فخر صريعاً لليدين وللفم
يذكرني حاميم والرمح شاجرٌ ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
على غير شيءٍ غير أن ليس تابعاً ... علياً ومن لا يتبع الحق يندم
وأخذ الخطام عمرو بن الأشرف فجعل لا يدنو منه أحدٌ إلا خبطه بالسيف، فأقبل إليه الحرث بن زهير الأزدي وهو يقول:
يا أمنا يا خير أم نعلم ... أما ترين كم شجاع يكلم
وتختلى هامته والمعصم
فاختلفا ضربتين فقتل كل واحد منهما صاحبه، وأحدق أهل النجدات والشجاعة بعائشة، فكان لا يأخذ الخطام أحد إلا قتل، وكان لا يأخذه والراية إلا معروف عند المطيفين بالجمل فينتسب: أنا فلان بن فلان، فوالله إن كان ليقاتلون عليه وإنه للموت لا يوصل إليه إلا بطلبة وعنت، وما رامه أحد من أصحاب علي إلا قتل أو أفلت ثم لم يعد، وحمل عدي بن حاتم الطائي عليهم ففقئت عينه، وجاء عبد الله بن الزبير ولم يتكلم فقالت: من أنت؟ فقال: ابنك ابن أختك. قالت: واثكل أسماء! وانتهى إليه الأشتر، فاقتتلا، فضربه الأشتر على رأسه فجرحه جرحاً شديداً، وضربه عبد الله ضربةً خفيفة، واعتنق كل رجل منهما صاحبه وسقطا إلى الأرض يعتركان، فقال ابن الزبير:
اقتلوني ومالكاً ... واقتلوا مالكاً معي
فلو يعلمون من مالك لقتلوه، إنما كان يعرف بالأشتر، فحمل أصحاب علي وعائشة فخلصوهما. قال الأشتر: لقيت عبد الرحمن بن عتاب فلقيت أشد الناس وأخرقه ما لبثت أن قتلته، ولقيت الأسود بن عوف فلقيت أشد الناس وأشجعه فما كدت أنجو منه فتمنيت أني لم أكن لقيته، ولحقني جندب بن زهير الغامدي فضربته فقتلته، قال: ورأيت عبد الله بن حكيم بن حزام وعنده راية قريش وهو يقاتل عدي بن حاتم وهما يتصاولان تصاول الفحلين فتعاورناه فقتلناه. قال: وأخذ الخطام الأسود بن أبي البختر فقتل، وهو قرشي أيضاً، وأخذه عمرو بن الأشرف فقتل وقتل معه ثلاثة عشر رجلاً من أهل بيته، وهو أزدي، وجرح مروان بن الحكم، وجرح عبد الله بن الزبير سبعاً وثلاثين جراحة من طعنة ورمية، قال: وما رأيت مثل يوم الجمل ما ينهزم منا أحد وما نحن إلا كالجبل الأسود، وما يأخذ بخطام الجمل أحد إلا قتل حتى ضاع الخطام، ونادى علي: اعقروا الجمل فإنه إن عقر تفرقوا، فضربه رجل فسقط فما سمعت صوتاً قط أشد من عجيج الجمل. وكانت راية الأزد من أهل الكوفة مع مخنف بن سليم فقتل وأخذها الصقعب، وأخوه عبد الله بن سليم فقتل، وأخذها العلاء بن عروة، فكان الفتح وهي بيده. وكانت راية عبد القيس من أهل الكوفة مع القاسم بن سليم فقتل، وقتل معه زيد وسيحان ابنا صوحان، وأخذها عدة نفر فقتلوا، منهم عبد الله بن رقية، ثم أخذها منقذ بن النعمان فدفعها إلى ابنه مرة بن منقذ فانقضت الحرب وهي في يده، وكانت راية بكر بن وائل في بني ذهل مع الحرث بن حسان الذهلي، فأقدم وقال: يا معشر بكر لم يكن أحد له من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مثل منزلة صاحبكم فانصروه، فتقدم وقاتلهم فقتل ابنه وخمسة من بني أهله، وقتل الحرث، فقيل فيه:
أنعى الرئيس الحرث بن حسان ... لآل ذهل ولآل شيبان
وقال رجل من بني ذهل:
تنعى لنا خير امرىء من عدنان ... عند الطعان ونزال الأقران
وقال أخوه بشر بن حسان:
أنا ابن حسان بن خوط وأبي ... رسول بكر كلها إلى النبي
وقتل رجال من بني محدوج، وقتل من بني ذهل خمسة وثلاثون رجلاً، وقال رجل لأخيه وهو يقاتل: يا أخي ما أحسن قتالنا إن كنا على الحق! قال: فإنا على الحق، إن الناس أخذوا يميناً وشمالاً، وإنا تمسكنا بأهل بيت نبينا؛ فقاتلا حتى قتلا. وجرح يومئذ عمير بن الأهلب الضبي، فمر به رجل من أصحاب علي وهو في الجرحى يفحص برجليه ويقول:
لقد أوردتنا حومة الموت أمنا ... فلم ننصرف إلا ونحن رواء
لقد كان في نصر ابن ضبة أمه ... وشيعتها مندوحةٌ وغناء
أطعنا قريشاً ضلةً من حلومنا ... ونصرتنا أهل الحجاز عناء
أطعنا بني تيم بن مرة شقوةً ... وهل تيم إلا أعبدٌ وإماء
فقال له الرجل: قل لا إله إلا الله. قال: ادن مني فلقني فبي صمم. فدنا منه الرجل، فوثب عليه فعض أذنه فقطعها.
وقيل في عقر الجمل: إن القعقاع لقي الأشتر وقد عاد من القتال عند الجمل فقال: هل لك في العود؟ فلم يجبه. فقال: يا أشتر بعضنا أعلم بقتال بعض منك، وحمل القعقاع والزمام مع زفر بن الحرث، وكان آخر من أخذ الخطام، فلم يبق شيخ من بني عامر إلا أصيب قدام الجمل، وزفر بن الحرث يرتجز ويقول:
يا أمنا مثلك لا يراع ... كل بنيك بطلٌ شجاع
ليس بوهواهٍ ولا براع
وقال القعقاع:
إذا وردنا آجناً جهرناه ... ولا يطاق ورد ما منعناه
وزحف إلى زفر بن الحرث الكلائي، وتسرعت عامر إلى حربه فأصيبوا، فقال القعقاع لبجير بن دلجة، وهو من أصحاب علي: يا بجير بن دلجة صح بقومك فليعقروا الجمل قبل أن تصابوا وتصاب أم المؤمنين. فقال بجير: يا آل ضبة! يا عمرو بن دلجة! ادع بي إليك، فدعاه، فقال: أنا آمن حتى أرجع عنكم؟ قال: نعم. فاجتث ساق البعير فرمى نفسه على شقه وجرجر البعير، فقال القعقاع لمن يليه: أنتم آمنون. واجتمع هو وزفر على قط بطان البعير وحملا الهودج فوضعاه، وإنه كالقنفذ لما فيه من السهام، ثم أطافا به، وفر من وراء ذلك من الناس. فلما انهزموا أمر علي منادياً فنادى: ألا لا تتبعوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح ولا تدخلوا الدور. وأمر علي نفراً أن يحملوا الهودج من بين القتلى، وأمر أخاها محمد بن أبي بكر أن يضرب عليها قبة، وقال: انظر هل وصل إليها شيء من جراحة؟ فأدخل راسه في هودجها، فقالت: من أنت؟ فقال: أبغض أهلك إليك. قالت: ابن الخثعمية؟ قال: نعم. قالت: يا بأبي، الحمد لله الذي عافاك! وقيل: لما سقط الجمل أقبل محمد بن أبي بكر إليه ومعه عمار فاحتملا الهودج فنحياه، فأدخل محمد يده فيه، فقالت: من هذا؟ فقال: أخوك البر. قالت: عقق! قال: يا أخية هل أصابك شيء؟ قالت: ما أنت وذاك؟ قال: فمن إذاً الضلال؟ قالت: بل الهداة. وقال لها عمار: كيف رأيت ضرب بنيك اليوم يا أماه؟ قالت: لست لك بأم. قال: بلى وإن كرهت. قالت: فخرتم أن ظفرتم وأتيتم مثل الذي نقمتم، هيهات والله لن يظفر من كان هذا دأبه! فأبرزوا هودجها فوضعوه ليس قربها أحد، وأتاها علي فقال: كيف أنت يا أمه؟ قالت: بخير. قال: يغفر الله لك. وجاء أعين بن ضبيعة ابن أعين المجاشعي حتى اطلع في الهودج، فقالت:إليك لعنك الله! فقال: والله ما أرى إلا حميراء! فقالت له: هتك الله سترك وقطع يدك وأبدى عورتك. فقتل بالبصرة، وسلب، وقطعت يده ورمي عرياناً في خربة من خربات الأزد. ثم أتى وجوه الناس عائشة وفيهم القعقاع بن عمرو فسلم عليها فقالت: إني رأيت بالأمس رجلين اجتلدا وارتجزا بكذا فهل تعرف كوفيك؟ قال: نعم، ذاك الذي قال: أعق أم نعلم، وكذب، إنك لأبر أمٍ نعلم ولكن لم تطاعي. قالت: والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
وخرج من عندها فأتى علياً، فقال له علي: والله لوددت أني مت من قبل اليوم بعشرين سنة، وكان علي يقول ذلك اليوم بعد الفراغ من القتال:
إليك أشكو عجري وبجري ... ومعشراً أغشوا علي بصري
قتلت منهم مضراً بمضري ... شفيت نفسي وقتلت معشري
فلما كان الليل أدخلها أخوها محمد بن أبي بكر البصرة فأنزلها في دار عبد الله ابن خلف الخزاعي على صفية بنت الحرث بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان ابن عبد الدر، وهي أم طلحة الطلحات بن عبد الله بن خلف، وتسلل الجرحى من بين القتلى ليلاً فدخلوا البصرة، فأقام علي بظاهر البصرة ثلاثاً وأذن للناس في دفن موتاهم، فخرجوا إليهم فدفنوهم، وطاف علي في القتلى، فلما أتى على كعب بن سور قال: أزعمتم أنه خرج معهم السفهاء وهذا الحبر قد ترون! وأتى على عبد الرحمن بن عتاب فقال: هذا يعسوب القوم، يعني أنهم كانوا يطيفون به، واجتمعوا على الرضا به لصلاتهم، ومر على طلحة بن عبيد الله وهو صريع فقال: لهفي عليك يا أبا محمد! إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لقد كنت أكره أن أرى قريشاً صرعى، أنت والله كما قال الشاعر:
فتىً كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هوا استغنى ويبعده الفقر
وجعل كلما مر برجل فيه خير قال: زعم من زعم أنه لم يخرج إلينا إلا الغوغاء وهذا العابد المجتهد فيهم. وصلى علي على القتلى من أهل البصرة والكوفة، وصلى على قريش من هؤلاء وهؤلاء، وأمر فدفنت الأطراف في قبر عظيم، وجمع ما كان في العسكر من شيء وبعث به إلى مسجد البصرة وقال: من عرف شيئاً فليأخذه إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان. وكان جميع القتلى عشرة آلاف نصفهم من أصحاب علي ونصفهم من أصحاب عائشة، وقيل غير ذلك، وقتل من ضبة ألف رجل، وقتل من بني عدي حول الجمل سبعون رجلاً كلهم قد قرأ القرآن سوى الشباب ومن لم يقرأ. ولما فرغ علي من الوقعة أتاه الأحنف بن قيس في بني سعد، وكانوا قد اعتزلوا القتال، فقال له علي: تربصت؟ فقال: ما كنت أراني إلا وقد أحسنت وبأمرك كان ما كان يا أمير المؤمنين، فارفق فإن طريقك الذي سلكت بعيد وأنت إلي غداً أحوج منك أمس، فاعرف إحساني واستصف مودتي لغدٍ ولا تقل مثل هذا فإني لم أزل لك ناصحاً.
ثم دخل علي البصرة يوم الإثنين فبايعه أهلها على راياتهم حتى الجرحى والمستأمنة، وأتاه عبد الرحمن بن أبي بكرة في المستأمنين أيضاً فبايعه، فقال له علي: و ما عمل المتربص المتقاعد بي أيضاً؟ يعني أباه أبا بكرة! فقال: والله إنه لمريض وإنه على مسرتك لحريص. فقال علي: امش أمامي! فمشى معه إلى أبيه، فلما دخل عليه علي قال له تقاعدت بي وتربصت؟ ووضع يده على صدره وقال: هذا وجع بين؛ واعتذر إليه، فقبل عذره، واراده على البصرة، فامتنع وقال: رجل من أهلك يسكن إليه الناس وسأشير عليه. فافترقا على ابن عباس، وولى زياداً على الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس أن يسمع منه ويطيع، وكان زياد معتزلاً. ثم راح إلى عائشة، وهي في دار عبد الله بن خلف، وهي أعظم دار بالبصرة، فوجد النساء يبكين على عبد الله وعثمان ابني خلف، وكان عبد الله قتل مع عائشة وعثمان قتل مع علي، وكانت صفية زوجة عبد الله مختمرة تبكي، فلما رأته قالت له: يا علي! يا قاتل الأحبة! يا مفرق الجمع! أيتم الله منك بنيك كما أيتمت ولد عبد الله منه! فلم يرد عليها شيئاً. ودخل على عائشة فسلم عليها وقعد عندها، ثم قال: جبهتنا صفية، أما إني لم أرها منذ كانت جارية.
فلما خرج علي أعادت عليه القول، فكف بغلته وقال: لقد هممت أن أفتح هذا الباب، وأشار إلى باب في الدار، وأقتل من فيه، وكان فيه ناس من الجرحى، فأخبر علي بمكانهم فتغافل عنهم فسكت، وكان مذهبه أن لا يقتل مدبراً ولا يذفف على جريح ولا يكشف ستراً ولا يأخذ مالاً.
ولما خرج علي من عند عائشة قال له رجل من أزد: والله لا تغلبنا هذه المرأة! فغضب وقال: مه! لا تهتكن ستراً ولا تدخلن داراً لا تهيجن امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسفهن أمراءكم وصلحاءكم، فإن النساء ضعيفات، ولقد كنا نؤمر بالكف عنهن وهن مشركات، فكيف إذا هن مسلمات؟ ومضى علي فلحقه رجل فقال له: يا أمير المؤمنين قام رجلان على الباب فتناولا من هو أمض شتيمة لك من صفية. قال: ويحك لعلها عائشة! قال: نعم. قال أحدهما: جزيت عنا أمنا عقوقنا. وقال الآخر: يا أمي توبي فقد أخطأت. فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب، فأقبل بمن كان عليه، فأحالوا على رجلين من أزد الكوفة، وهما: عجلان وسعد ابنا عبد الله، فضربهما مائة سوط وأخرجهما من ثيابهما.
وسألت عائشة يومئذ عمن قتل من الناس منهم معها ومنهم عليها والناس عندها، فكلما نعي واحد من الجميع قالت: يرحمه الله. فقيل لها: كيف ذلك؟ قالت: كذلك قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلان في الجنة، وفلان في الجنة، وقال علي: إني لأرجو أن لا يكون أحد نقى قلبه لله من هؤلاء إلا أدخله الله الجنة.
ثم جهز علي عائشة بكل ما ينبغي لها من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك وبعث معها كل من نجا مم خرج معها إلا من أحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء البصرة المعروفات، وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر، فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه أتاها علي فوقف لها وحضر الناس فخرجت وودعتهم وقالت: يا بني لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بيني وبينها إلا ذاك، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة.
وخرجت يوم السبت غرة رجب وشيعها أميالاً وسرح بنيه معها يوماً، فكان وجهها إلى مكة، فأقامت إلى الحج ثم رجعت إلى المدينة، وقال لها عمار حين ودعها: ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عهد إليك! قالت: والله إنك ما علمت لقوال بالحق. قال: الحمد لله الذي قضى على لسانك لي.
وأما المنهزمون فقد ذكرنا حالهم، وكان منهم: عتبة بن أبي سفيان، فخرج هو وعبد الرحمن ويحيى ابنا الحكم فساروا في البلاد، فلقيهم عصمة ابن أبير التيمي فقال لهم: هل لكم في الجوار؟ فقالوا: نعم. فأجارهم وأنزلهم حتى برأت جراحهم وسيرهم نحو الشام في أربعمائة راكب، فلما وصلوا إلى دومة الجندل قالوا: قد وفيت ذمتك وقضيت ما عليك. فرجع. وأما ابن عامر فإنه خرج أيضاً فلقيه رجلٌ مه بني حرقوص يدعى مري، فأجاره وسيره إلى الشام. وأما مروان بن الحكم فاستجار بمالك بن مسمع، فأجاره ووفى له، وحفظ له بنو مروان ذلك في خلافتهم وانتفع بهم وشرفوه بذلك. وقيل: إن مروان نزل مع عائشة بدار عبد الله بن خلف وصحبها إلى الحجاز، فلما سارت إلى مكة سار إلى المدينة. وأما عبد الله بن الزبير فإنه نزل بدار رجل من الأزد يدعى وزيراً، فقال له: ائت أم المؤمنين فأعلمها بمكاني ولا يعلم محمد بن أبي بكر. فأتى عائشة فأخبرها، فقالت: علي بمحمد. فقال لها: إنه قد نهاني أن يعلم محمد. فلم تسمع قوله وأرسلت إلى محمد وقالت: اذهب مع هذا الرجل حتى تأتيني بابن أختك. فانطلق معه، وخرج عبد الله ومحمد حتى انتهيا إلى دار عائشة في دار عبد الله بن خلف.
ولما فرغ علي من بيعة أهل البصرة نظر في بيت المال فرأى فيه ستمائة ألف وزيادة، فقسمها على من شهد معه، فأصاب كل رجل منهم خمسمائة خمسمائة، فقال لهم: إن أظفركم الله بالشام فلكم مثلها إلى أعطياتكم. فخاض في ذلك السبئية، وطعنوا على علي من وراء وراء، وطعنوا فيه أيضاً حين نهاهم عن أخذ أموالهم، فقالوا: ما له يحل لنا دماءهم ويحرم علينا أموالهم؟ فقال لهم علي: القوم أمثالكم، من صفح عنا فهو منا ومن لج حتى يصاب فقتاله مني على الصدر والنحر.
وقال القعقاع: ما رأيت شيئاً أشبه بشيء من قتال القلب يوم الجمل بقتال صفين، لقد رأيتنا ندافعهم بأسنتنا ونتكىء على أزجتنا وهم مثل ذلك، حتى لو أن الرجال مشت عليها لاستقلت بهم. وقال عبد الله بن سنان الكاهلي: لما كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى فنيت، وتطاعنا بالرماح حتى تكسرت وتشبكت في صدورنا وصدورهم حتى لو سيرت عليها الخيل لسارت. ثم قال علي: السيوف يا بني المهاجرين! فما شبهت أصواتها إلا بضرب القصارين.
وعلم أهل المدينة بالوقعة يوم الحرب قبل أن تغرب الشمس من نسر مر بماء حول المدينة ومعه شيء معلق فسقط منه فإذا كف فيه خاتم نقشه: عبد الرحمن بن عتاب. وعلم من بين مكة والمدينة والبصرة بالوقعة بما ينقل إليهم النسور من الأيدي والأقدام.
وأراد علي المقام بالبصرة لإصلاح حالها فأعجلته السبئية عن المقام، فإنهم ارتحلوا بغير إذنه، فارتحل في آثارهم ليقطع عليهم أمراً إن أرادوه.
وقد قيل في سبب القتال يوم الجمل غير ما تقدم مع الاتفاق على مسير أصحاب عائشة ونزولهم البصرة والوقعة الأولى مع عثمان بن حنيف وحكيم.
وأما مسير علي وعزل أبي موسى فقيل فيه: إن علياً لما أرسل محمد بن أبي بكر إلى أبي موسى وجرى له ما تقدم سار هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى علي بالربذة فأعلمه الحال، فأعاده علي إلى أبي موسى يقول له: أرسل الناس فإني لم أولك إلا لتكون من أعواني على الحق. فامتنع أبو موسى، فكتب هاشم إلى علي: إني قدمت على رجلٍ غالٍ مشاقق ظاهر الشنآن، وأرسل الكتاب مع المحل ابن خليفة الطائي، فبعث علي الحسن ابنه وعمار بن ياسر يستنفران الناس، وبعث قرظة بن كعب الأنصاري أميراً، وكتب معه إلى أبي موسى: إني قد بعثت الحسن وعماراً يستنفران الناس، وبعثت قرظة ابن كعب والياً على الكوفة، فاعتزل عملنا مذموماً مدحوراً، وإن لم تفعل فإني قد أمرته أن ينابذك، فإن نابذته فظفر بك يقطعك إرباً إرباً. فلما قدم الكتاب على أبي موسى اعتزل، واستنفر الحسن الناس، فنفروا نحو ما تقدم، وسار علي نحو البصرة، فقال جون بن قتادة: كنت مع الزبير فجاء فارس يسير فقال: السلام عليك أيها الأمير، فرد عليه، فقال: إن هؤلاء القوم قد أتوا مكان كذا وكذا فلم أر أرث سلاحاً ولا أقل عدداً ولا أرعب قلوباً منهم. ثم انصرف عنه، وجاء فارس آخر فقال له: إن القوم قد بلغوا مكان كذا وكذا فسمعوا بما جمع الله لكم من العدد والعدة فخافوا فولوا مدبرين. فقال الزبير: إيهاً عنك! فوالله لو لم يجد علي بن أبي طالب إلا العرفج لدب إلينا فيه فانصرف.
وجاء فارس، وقد كادت الخيل تخرج من الرهج، فقال: هؤلاء القوم قد أتوك فلقيت عماراً فقلت له وقال لي. فقال الزبير: إنه ليس فيهم! فقال الرجل: بلى والله إنه لفيهم. فقال الزبير: والله ما جعله الله فيهم. فقال الرجل: بلى والله. فلما كرر عليه أرسل الزبير رجلين ينظران، فانطلقا ثم رجعا فقالا: صدق الرجل. فقال الزبير: يا جدع أنفاه! يا قطع ظهراه! ثم أخذته رعدة فجعل السلاح ينتفض. قال جون: فقلت ثكلتني أمي! هذا الذي كنت أريد أن أموت معه أو أعيش، ما أخذه هذا الأمر إلا لشيء سمعه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وانصرف جون فاعتزل، وجاء علي، فلما تواقف الناس دعا الزبير وطلحة فتوافقوا، وذكر من أمر الزبير وعوده وتكفيره عن يمينه مثل ما تقدم، فلما أبوا إلا القتال قال علي: أيكم يأخذ هذا المصحف يدعوهم إلى ما فيه فإن قطعت يده أخذه بيده الأخرى فإن قطعت أخذه بأسنانه وهو مقتول؟ فقال شاب: أنا. فطاف به على أصحابه فلم يجبه إلا ذلك الشاب، ثلاث مرات، فسلمه إليه، فدعاهم، فقطعت يده اليمنى، فأخذه باليسرى، فقطعت، فأخذه بصدره والدماء تسيل على قبائه، فقتل، فقال علي: الآن حل قتالهم. فقالت أم الفتى:
لا هم إن مسلماً دعاهم ... يتلو كتاب الله لايخشاهم
وأمهم قائمةٌ تراهم ... تأمرهم بالقتل لا تنهاهم
قد خضبت من علقٍ لحاهم
وحملت ميمنة علي على ميسرتهم، فاقتتلوا، فلاذ الناس بعائشة، وكان أكثرهم من ضبة والأزد، وكان قتالهم من ارتفاع النهار إلى قريب من العصر ثم انهزموا، ونادى رجلٌ من الأزد: كروا، فضربه محمد بن علي فقطع يده، فقال: يامعشر الأزد فروا، واستحر القتل في الأزد فنادوا: نحن على دين علي. فقال رجل من بني ليث:
سائل بنا حين لقينا الأزدا ... والخيل تعدو أشقراً ووردا
لما قطعنا كبدهم والزندا ... سحقاً لهم في رأيهم وبعدا
وحمل عمار بن ياسر على الزبير فجعل يحوزه بالرمح، فقال: أتريد أن تقتلني يا أبا اليقظان؟ فقال: لا يا أبا عبد الله، انصرف، وجرح عبد الله بن الزبير فألقى نفسه في الجرحى ثم برأ. وعقر الجمل، واحتمل محمد ابن أبي بكر عائشة فأنزلها وضرب عليها قبة، فوقف علي عليها وقال لها: استنفرت الناس وقد فروا وألبت بينهم حتى قتل بعضهم بعضاً، في كلام كثير. فقالت عائشة: ملكت فأسجع، نعم ما ابتليت قومك اليوم! فسرحها وأرسل معها جماعة من رجال ونساء وجهزها بما تحتاج.
لم أذكر في وقعة الجمل إلا ما ذكره أبو جعفر إذا كان أوثق من نقل التاريخ، فإن الناس قد حشوا تواريخهم بمقتضى أهوائهم.
وممن قتل يوم الجمل عبد الرحمن بن عبيد الله أخو طلحة، له صحبة، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس بن عامر بن لؤي، له صحبة. وفيها قتل المحرز ابن حارثة بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس، له صحبة، واستعمله عمر على مكة ثم عزله، وفيها قتل معرض بن علاط السلمي أخو الحجاج بن علاط، وقتل مع علي، وفيها قتل مجاشع ومجالد ابنا مسعود السلميان مع عائشة، لهما صحبة، فأما مجاشع فلا شك أنه قتل في الجمل، وقتل عبد الله بن حكيم بن حزام الأسدي القرشي مع عائشة، وكان إسلامه يوم الفتح، وفيها قتل هند ابن أبي هالة الأسيدي، أمه خديجة بنت خويلد زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، مع علي، وقيل: مات بالبصرة: والأول أصح.
الأسيدي بضم الهمزة، منسوب إلى أسيد بتشديد الياء، وهم بطن من تميم.
وقتل هلال بن وكيع بن بشر التميمي مع عائشة، له صحبة، وفيها قتل معاذ بن عفراء أخو معوذ، وهما ابنا الحرث بن رفاعة الأنصاريان، وشهدا بدراً، وقتل مع علي، وقيل: عاش وقتل في وقعة الحرة.
التيهان بفتح التاء فوقها نقطتان، وتشديد الياء تحتها نقطتان، وآخره نون. وشبث بفتح الشين المعجمة، والباء الموحدة، وآخره ثاء مثلثة. وسيحان بفتح السين المهملة، وسكون الياء تحتها نقطتان، وفتح الحاء المهملة، وآخره نون. ونجبة بفتح النون والجيم، والباء الموحدة. وعميرة بفتح العين، وكسر الميم. وأبير بضم الهمزة، وفتح الباء الموحدة. والخريت بكسر الخاء المعجمة، والراء المشددة، وسكون الياء المثناة من تحتها نقطتان، وفي آخره تاء فوقها نقطتان.
ذكر قصد الخوارج سجستانفي هذه السنة بعد الفراغ من وقعة الجمل خرج حسكة بن عتاب الحبطي وعمران بن الفضيل البرجمي في صعاليك من العرب حتى نزلوا زالق من سجستان، وقد نكث أهلها، فأصابوا منها مالاً ثم أتوا زرنج وقد خافهم مرزبانها فصالحهم ودخلوها، فقال الراجز:
بشر سجستان بجوعٍ وحرب ... بابن الفضيل وصعاليك العرب
لا فضةٌ تغنيهم ولا ذهب
فبعث علي عبد الرحمن بن جرو الطائي، فقتله حسكة، فكتب علي إلى عبد الله بن العباس يأمره أن يولي سجستان رجلاً ويسيرة إليها في أربعة آلاف، فوجه ربعي بن كاس العنبري ومعه الحصين بن أبي الحر العنبري، فلما ورد سجستان قاتلهم حسكة وقتلوه، وضبط ربع البلاد، وكان فيروز حصين ينسب إلى الحصين بن أبي الحر هذا، وهو من سجستان.
ذكر قتل محمد بن أبي حذيفةفي هذه السنة قتل محمد بن أبي حذيفة، وكان أبوه أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس قد قتل يوم اليمامة، وترك ابنه محمداً هذا، فكفله عثمان ابن عفان وأحسن تربيته، وكان فيما قيل: أصاب شراباً فحده عثمان، ثم تنسك محمد وأقبل على العبادة وطلب من عثمان أن يوليه عملاً، فقال: لو كنت أهلاً لذلك لوليتك. فقال له: إني قد رغبت في غزو البحر فأذن لي في إتيان مصر، فأذن له وجهزه، فلما قدمها رأى الناس عبادته فلزموه وعظموه، وغزا مع عبد الله بن سعد غزوة الصواري.
وكان محمد يعيبه ويعيب عثمان بتوليته ويقول: استعمل رجلاً أباح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دمه. فكتب عبد الله إلى عثمان: إن محمداً قد أفسد علي البلاد هو ومحمد بن أبي بكر. فكتب إليه: أما ابن أبي بكر فإنه يوهب لأبيه ولعائشة، وأما ابن أبي حذيفة فإنه ابني وابن أخي وتربيتي وهو فرخ قريش. فكتب إليه: إن هذا الفرخ قد استوى ريشه ولم يبق إلا أن يطير. فبعث عثمان إلى ابن أبي حذيفة بثلاثين ألف درهم وبجمل عليه كسوة، فوضعها محمد في المسجد ثم قال: يا معشر المسلمين ألا ترون إلى عثمان يخادعني عن ديني ويرشوني عليه! فازداد أهل مصر تعظيماً له وطعناً على عثمان، وبايعوه على رياستهم، فكتب إليه عثمان يذكره بره به وتربيته إياه وقيامه بشأنه، ويقول: إنك كفرت إحساني أحوج ما كنت إلى شكرك. فلم يرده ذلك عن ذمه وتأليب الناس عليه وحثهم على المسير إلى حصره ومساعدة من يريد ذلك.
فلما سار المصريون إلى عثمان، أقام هو بمصر، وخرج عنها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فاستولى عليها وضبطها فلم يزل بها مقيماً حتى قتل عثمان وبويع علي، واتفق معاوية وعمرو بن العاص على خلاف علي، فسار إلى مصر قبل قدوم قيس بن سعد إليها أميراً، فأراد دخولها فلم يقدر على ذلك، فخدع محمداً حتى خرج منها إلى العريش في ألف رجل فتحصن بها، فنصب عليه المنجنيق حتى نزل في ثلاثين من أصحابه فقتل.
وهذا القول ليس بشيء لأن علياً استعمل قيساً على مصر أول ما بويع له، ولو أن ابن أبي حذيفة قتله معاوية وعمرو قبل وصول قيس إلى مصر لاستوليا عليها لأنه لم يكن بها أمير يمنعهما عنها، ولا خلاف أن استيلاء معاوية وعمرو عليها كان بعد صفين، والله أعلم.
وقيل غير ذلك، وهو أن محمد بن أبي حذيفة سير المصريين إلى عثمان، فلما حصروه أخرج محمدٌ عبد الله بن سعد عن مصر، وهو عامل عثمان، واستولى عليها، فنزل عبد الله على تخوم مصر وانتظر أمر عثمان، فطلع عليه راكب فسأله، فأخبره بقتل عثمان، فاسترجع، وسأله عما صنع الناس بعده، فأخبره ببيعة علي، فاسترجع، فقا له: كأن إمرة علي تعدل عندك قتل عثمان! قال: نعم. قال: أظنك عبد الله بن سعد. فقال: نعم. فقال له: إن كانت لك في نفسك حاجة فالنجاء النجاء، فإن رأى أمير المؤمنين علي فيك وفي أصحابك إن ظفر بكم أن يقتلكم أو ينفيكم، وهذا بعدي أمير يقدم عليك. فقال: من هو؟ قال: قيس بن سعد بن عبادة. قال عبد الله بن سعد: أبعد الله محمد بن أبي حذيفة، فإنه بغى على ابن عمه وسعى عليه، وقد كفله ورباه وأحسن إليه، فأساء جواره وجهز إليه الرجال حتى قتل ثم ولى عليه من هو أبعد منه ومن عثمان ولم يمتعه بسلطان بلاده شهراً ولم يره لذلك أهلاً. وخرج عبد الله هارباً حتى قدم على معاوية.
وهذا القول يدل على أن قيساً ولي مصر ومحمد بن أبي حذيفة حي، وهو الصحيح.
وقيل: إن عمراً سار إلى مصر بعد صفين، فلقيه محمد بن أبي حذيفة في جيش، فلما رأى عمرو كثرة من معه أرسل إليه، فالتقيا واجتمعا، فقال له عمرو: إنه قد كان ما ترى وقد بايعت هذا الرجل، يعني معاوية، وما أنا براضٍ بكثير من أمره، وإني لأعلم أن صاحبك علياً أفضل من معاوية نفساً وقديمً وألى بهذا الأمر، فواعدني موعداً ألتقي معك فيه في غير جيش، تأتي في مائة وآتي في مثلها، وليس معنا إلا السيوف في القرب. فتعاهدا وتعاقدا على ذلك واتعدا العريش، ورجع عمرو إلى معاوية، فأخبره الخبر، فلما جاء الأجل سار كل واحد منهما إلى صاحبه في مائة، وجعل عمرو له جيشاً خلفه لينطوي خبره، فلما التقيا بالعريش قدم جيش عمرو على أثره، فعلم محمد أنه قد غدر به، فدخل قصراً بالعريش فتحصن به، فحصره عمرو ورماه بالمنجنيق حتى أخذ أسيراً، وبعث به عمرو إلى معاوية فسجنه، وكانت ابنة قرظة امرأة معاوية ابنة عمه محمد بن أبي حذيفة أمها فاطمة بنت عتبة، فكانت تصنع له طعاماً ترسله إليه، فأرسلت إليه يوماً في الطعام مبارد، فبرد بها قيود وهرب فاختفى في غار فأخذ وقتل، والله أعلم.
وقيل: إنه بقي محبوساً إلى أن قتل حجر بن عدي، ثم إنه هرب، فطلبه مالك بن هبيرة السكوني فظفر به فقتله غضباً لحجر، وكان مالك قد شفع إلى معاوية في حجر فلم يشفعه. وقيل: إن محمد بن أبي حذيفة لما قتل محمد بن أبي بكر خرج في جمع كثير إلى عمرو فآمنه عمرو ثم غدر به وحمله إلى معاوية بفلسطين فحبسه، ثم إنه هرب، فأظهر معاوية للناس أنه كره هربه وأمر بطلبه، فسار في أثره عبيد الله بن عمرو بن ظلام الخثعمي فأدركه بحوران في غار، وجاءت حمر تدخل الغار، فلما رأت محمداً نفرت منه، وكان هناك ناس يحصدون، فقالوا: والله إن لنفرة هذه الحمر لشأناً. فذهبوا إلى الغار فرأوه، فخرجوا من عنده، فوافقهم عبيد الله فسألهم عنه ووصفه لهم، فقالوا: هو في الغار، فأخرجه وكره أن يأتي به معاوية فيخلي سبيله، فضرب عنقه، وكان ابن خال معاوية.
ذكر ولاية قيس بن سعد مصر
وفي هذه السنة في صفر بعث علي قيس بن سعد أميراً على مصر، وكان صاحب راية الأنصار مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان من ذوي الرأي والبأس، فقال له: سر إلى مصر فقد وليتكها واخرج إلى رحلك واجمع إليك ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حتى تأتيها ومعك جند، فإن ذلك أرعب لعدوك وأعز لوليك، وأحسن إلى المحسن واشتد على المريب، وارفق بالعامة والخاصة، فإن الرفق يمن. فقال له قيس: أما قولك: اخرج إليها بجند، فوالله لئن لم أدخلها إلا بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها أبداً، فأنا أدع ذلك الجند لك، فإن كنت احتجت إليهم كانوا منك قريباً، وإن أردت أن تبعثهم إلى وجه من وجوهك كانوا عدة. فخرج قيس حتى دخل مصر في سبعة من أصحابه على الوجه الذي تقدم ذكره، فصعد المنبر فجلس عليه وامر بكتاب أمير المؤمنين فقرى على أهل مص بإمارته ويأمرهم بمبايعته ومساعدته وإعانته على الحق، ثم قام قيس خطيباً وقال: الحمد لله الذي جاء بالحق وأمات الباطل وكبت الظالمين، أيها الناس إنا قد بايعنا خير من نعلم بعد نبينا، صلى الله عليه وسلم، فقوموا أيها الناس فبايعوه على كتاب الله وسنة رسوله، فإن نحن لم نعمل لكم بذلك فلا بيعة لنا عليكم.
فقام الناس الناس فبايعوا واستقامت مصر، وبعث عليها عماله إلا قرية منها يقال لها خرنبا فيها ناس قد أعظموا قتل عثمان، عليهم رجل من بني كنانة ثم من بني مدلج اسمه يزيد بن الحرث، فبعث إلى قيس يدعو إلى الطلب بدم عثمان. وكان مسلمة بن مخلد قد أظهر الطلب أيضاً بدم عثمان، فأرسل إليه قيس: ويحك أعلي تثب! فوالله ما أحب أن لي ملك الشام إلى مصر وأني قتلتك! فبعث إليه مسلمة: إني كاف عنك ما دمت أنت والي مصر.
وبعث قيس، وكان حازماً، إلى أهل خرنبا: إني لا أكرهكم على البيعة وإني كاف عنكم؛ فهادنهم جبى الخراج ليس أحد ينازعه، وخرج أمير المؤمنين إلى الجمل ورجع وهو بمكانه، فكان أثقل خلق الله على معاوية لقربه من الشام ومخافة أن يقبل علي في أهل العراق وقيس في أهل مصر فيقع بينهما معاوية، فكتب معاوية إلى قيس: سلام عليك، أما بعد فإنكم نقمتم على عثمان ضربة بسوط أو شتيمة رجل أو تسيير آخر واستعمال فتى، وقد علمتم أن دمه لا يحل لكم، فقد ركبتم عظيماً وجئتم أمراً إداً، فثب إلى الله يا قيس، فإنك من المجلبين على عثمان، فأما صاحبك فإنا استيقنا أنه الذي أغرى به الناس وحملهم حتى قتلوه، وإنه لم يسلم من دمه عظم قومك، فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطالب بدم عثمان فافعل وتابعنا على أمرنا ولك سلطان العراقين إذا ظهرت ما بقيت ولمن أحببت من أهلك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان، وسلني ما شئت فإني أعطيك واكتب إلي برأيك.
فلما جاءه الكتاب أحب أن يدافعه ولا يبدي له أمره ولا يتعجل إلى حربه، فكتب إليه: أما بعد فقد فهمت ما ذكرته من قتلة عثمان فذلك شيء لم أقاربه، وذكرت أن صاحبي هو الذي أغرى به حتى قتلوه، وهذا مما لم أطلع عليه، وذكرت أن عظم عشيرتي لم تسلم من دم عثمان، فأول الناس كان فيه قياماً عشيرتي، وأما ما عرضته من متابعتك فهذا أمر لي فيه نظر وفكرة، وليس هذا مما يسرع إليه، وأنا كاف عنك وليس يأتيك من قبلي شيء تكرهه حتى ترى ونرى إن شاء الله تعالى.
فلما قرأ معاوية كتابه رآه مقارباً مباعداً، فكتب إليه: أما بعد فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعدك سلماً ولا متباعداً فأعدك حرباً، وليس مثلي يصانع المخادع وينخدع للمكايد ومعه عدد الرجال وبيده أعنة الخيل، والسلام.
فلما قرأ قيس كتابه ورأى أنه لا يفيد معه المدافعة والمماطلة أظهر له ما في نفسه، فكتب إليه: أما بعد فالعجب من اغترارك بي وطمعك في واستسقاطك إياي، أتسومني الخروج عن طاعة أولى الناس بالإمارة وأقولهم بالحق وأهداهم سبيلاً وأقربهم من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسيلة وتأمرني بالدخول في طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر وأقولهم بالزور وأضلهم سبيلاً وأبعدهم من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسيلة، ولد ضالين مضلين، طاغوتٍ من طواغيت إبليس! وأما قولك إني مالىء عليك مصر خيلاً ورجالاً، فوالله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون أهم إليك إنك لذو جد، والسلام.
فلما رأى معاوية كتابه أيس منه وثقل عليه مكانه ولم تنجع حيله فيه، فكاده من قبل علي، فقال لأهل الشام: لا تسبوا قيس بن سعد ولا تدعوا إلى غزوه فإنه لنا شيعة قد تأتينا كتبه ونصيحته سراً، ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خرنبا، يجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم ويحسن إليهم! وافتعل كتاباً عن قيس إليه بالطلب بدم عثمان والدخول معه في ذلك وقرأه على أهل الشام.
فبلغ ذلك علياً، أبلغه ذلك محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر بن أبي طالب، وأعلمته عيونه بالشام، فأعظمه وأكبره، فدعا ابنيه وعبد الله بن جعفر فأعلمهم ذلك. فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين دع ما يريبك إلى ما لا يربيك، اعزل قيساً عن مصر. فقال علي: إني والله ما أصدق بهذا عنه. فقال عبد الله: اعزله فإن كان هذا حقاً لا يعتزل لك. فإنهك كذلك إذ جاءهم كتاب من قيس يخبر أمير المؤمنين بحال المعتزلين وكفه عن قتالهم. فقال ابن جعفر: ما أخوفني أن يكون ذلك ممالأة منه، فمره بقتالهم. فكتب إليه يأمره بقتالهم فلما قرأ الكتاب كتب جوابه: أما بعد فقد عجبت لأمرك تأمرني بقتال قوم كافين عنك مفرغيك لعدوك! ومتى حاددناهم ساعدوا عليك عدوك، فأطعني يا أمير المؤمنين واكفف عنهم فإن الرأي تركهم، والسلام. فلما قرأ علي الكتاب قال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين ابعث محمد بن أبي بكر على مصر واعزل قيساً، فقد بلغني أن قيساً يقول: إن سلطاناً لا يستقيم إلا بقتل مسلمة بن مخلد لسلطان سوء.
وكان ابن جعفر أخا محمد بن أبي بكر لأمه؛ فبعث علي محمد بن أبي بكر إلى مصر، وقيل: بعث الأشتر النخعي، فمات بالطريق، فبعث محمداًن فقدم محمد على قيس بمصر، فقال له قيس: ما بال أمير المؤمنين؟ ما غيره؟ دخل أحد بيني وبينه؟ قال: لا، وهذا السلطان سلطانك. قال: لا والله لا أقيم. وخرج منها مقبلاً إلى المدينة وهو غضبان لعزله، فجاءه حسان بن ثابت، وكان عثمانياًن يشمت به، فقال له: قتلت عثمان ونزعك علي، فبقي عليك الإثم ولم يحسن لك الشكر! فقال له قيس: يا أعمى القلب والبصر! والله لولا أن ألقي بين رهطي ورهطك حرباً لضربت عنقك! اخرج عني! ثم أخاف مروان بن الحكم قيساً بالمدينة، فخرج منها هو وسهل بن حنيف إلى علي فشهدا معه صفين. فكتب معاوية إلى مروان يتغيظ عليه ويقول له: لو أمددت علياً بمائة ألف مقاتل لكان أيسر عندي من قيس بن سعد في رأيه ومكانه.
فلما قدم قيس على علي وأخبره الخبر، علم أنه كان يقاسي أموراً عظاماً من المكايدة، وجاءهم خبر قتل محمد بن أبي بكر، فعظم محل قيس عنده وأطاعه في الأمر كله.
ولما قدم محمد مصر قرأ كتاب علي على أهل مصر ثم قام فخطب فقال: الحمد لله الذي هدانا وإياكم لما اختلف فيه من الحق وبصرنا وإياكم كثيراً مما كان عمي عنه الجاهلون. ألا إن أمير المؤمنين ولاني أمركم وعهد إلي ما سمعتم، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، فإن يكن ما ترون من إمارتي وأعمالي طاعة لله فاحمدوا الله على ما كان من ذلك فإنه هو الهادي له، وإن رأيتم عاملاً لي عمل بغير الحق فارفعوه إلي وعاتبوني فيه فإني بذلك أسعد وأنتم بذلك جديرون، وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال برحمته.
ثم نزل ولبث شهراً كاملاً حتى بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كانوا قد وادعهم قيس، فقال لهم: إما أن تدخلوا في طاعتنا وإما أن تخرجوا عن بلادنا. فأجابوه: إنا لا نفعل، فدعنا حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمرنا فلا تعجل لحربنا. فأبى عليهم، فامتنعوا منه وأخذوا حذرهم، فكانت وقعة صفين وهم هائبون لمحمد.
فلما رجع علي عن معاوية وصار الأمر إلى التحكيم طمعوا في محمد وأظهروا له المبارزة، فبعث محمد الحرث بن جمهان الجعفي إلى أهل خرنبا وفيها يزيد بن الحرث مع بني كنانة ومن معه، فقاتلهم فقاتلوه وقتلوه. فبعث محم إليهم أيضاً ابن مضاهم الكلبي فقتلوه.
وقد قيل: إنه جرى بين محمد ومعاوية مكاتبات كرهت ذكرها فإنها مما لا يحتمل سماعها العامة.
وفيها قدم أبراز مرزبان مرو إلى علي بعد الجمل مقراً بالصلح، فكتب له كتاباً إلى دهاقين مرو والأساورة ومن بمرو، ثم إنهم كفروا وأغلقوا نيسابور، فبعث علي خليد بن قرة، وقيل: ابن طريف اليربوعي، إلى خراسان.
ذكر قدوم عمرو بن العاص على معاوية
ومتابعته له
قيل: كان عمرو بن العاص قد سار عن المدينة، قبل أن يقتل عثمان، نحو فلسطين.
وسبب ذلك أنه لما أحيط بعثمان قال: يا أهل المدينة لا يقيم أحد فيدركه قتل هذا الرجل إلا ضربه الله بذل، من لم يستطع نصره فليهرب. فسار، وقيل غير ذلك، وقد تقدم، وسار معه ابناه عبد الله ومحمد، فسكن فلسطين، فمر به راكب من المدينة، فقال له عمرو: ما اسمك؟ قال: حصيرة. قال عمرو: حصر الرجل! فما الخبر؟ قال: تركت عثمان محصوراً. ثم مر به راكب آخر بعد أيام فقال له عمرو: ما اسمك؟ قال: قتال. قال: قتل الرجل! فما الخبر؟ قال: قتل عثمان، ولم يكن شيء إلى أن سرت. ثم مر به راكب من المدينة، فقال له عمرو: ما اسمك؟ قال: حرب. قال عمرو: يكون حرب، وقال له: ما الخبر؟ فقال: بايع الناس علياً. فقال سلم بن زنباع: يا معشر العرب كان بينكم وبين العرب باب فكسر فاتخذوا باباً غيره. فقال عمرو: ذلك الذي نريده. ثم ارتحل عمرو راجلاً معه ابناه يبكي كما تبكي المرأة وهو يقول: واعثماناه! أنعى الحياء والدين! حتى قدم دمشق، وكان قد علم الذي يكون فعمل عليه، لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان قد بعثه إلى عمان، فسمع من حبر هناك شيئاً عرف مصداقه، فسأله عن وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، ومن يكون بعده، فأخبره بأبي بكر وأن مدته قصيرة، ثم يلي بعده رجل من قومه مثله تطول مدته ويقتل غيلة ثم يلي بعده رجل من قومه تطول مدته ويقتل عن ملإٍ، قال: ذلك أشد، ثم يلي بعده رجل من قومه ينتشرالناس عليه ويكون على رأسه حرب شديدة، ثم يقتل قبل أن يجتمع الناس عليه، ثم يلي بعده أمير الأرض المقدسة فيطول ملكه وتجتمع عليه أهل تلك الفرقة ثم يموت.
وقيل: إن عمراً لما بلغه قتل عثمان قال: أنا أبو عبد الله أنا قتلته وأنا بوادي السباع، إن يل هذا الأمر طلحة فهو فتى العرب سيباً، وإن يله ابن أبي طالبٍ فهو أكره من يليه إلي. فبلغه بيعة علي فاشتد عليه وأقام ينتظر ما يصنع الناس، فأتاه مسير عائشة وطلحة والزبير، فأقام ينتظر ما يصنعون، فأتاه الخبر بوقعة الجمل فأرتج عليه أمره، فسمع أن معاوية بالشام لا يبايع علياً وأنه يعظم شأن عثمان، وكان معاوية أحب إليه من علي، فدعا ابنيه عبد الله ومحمداً فاستشارهما وقال: ما تريان؟ أما علي فلا خير عنده، وهو يدل بسابقته، وهو غير مشركي في شيء من أمره. فقال له ابنه عبد الله: توفي النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر وهم عنك راضون، فأرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس على إمام فتبايعه. وقال له ابنه محمد: أنت نابٌ من أنياب العرب ولا ارى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت. فقال عمرو: أما أنت يا عبد الله فأمرتني بما هو خير لي في آخرتي وأسلم لي في ديني، وأما أنت يا محمد فأمرتني بما هو خير لي في دنياي وشر لي في آخرتي. ثم خرج ومعه ابناه حتى قدم على معاوية، فوجد أهل الشام يحضون معاوية على الطلب بدم عثمان، وقال عمرو: أنتم على الحق، اطلبوا بدم الخليفة المظلوم، ومعاوية لا يلتفت إليه، فقال لعمرو وابناه: ألا ترى معاوية لا يلتفت إليك؟ فانصرف إلى غيره. فدخل عمرو على معاوية فقال له: والله لعجب لك! إني أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عني، أما والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن في النفس من ذلك ما فيها حيث تقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنا إنما أردنا هذه الدنيا. فصالحه معاوية وعطف عليه.
ذكر ابتداء وقعة صفينلما عاد علي من البصرة بعد فراغه من الجمل قصد الكوفة وأرسل إلى جرير ابن عبد الله البجلي، وكان عاملاً على همذان استعمله عثمان، وإلى الأشعث ابن قيس، وكان على أذربيجان استعمله عثمان أيضاً، يأمرهما بأخذ البيعة والحضور عنده، فلما حضرا عنده أراد علي أن يرسل رسولاً إلى معاوية، قال جرير: أرسلني إليه فإنه لي ود. فقال الأشتر: لا تفعل فإن هواه مع معاوية. فقال علي: دعه حتى ننظر ما الذي يرجع إلينا به. فبعثه وكتب معه كتاباً إلى معاوية يعلمه فيه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ونكث طلحة والزبير وحربه إياهما ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار من طاعته.
فسار جرير إلى معاوية، فلما قدم عليه ماطله واستنظره واستشار عمراً، فاشار عليه أن يجمع أهل الشام ويلزم علياً دم عثمان ويقاتله بهم، ففعل معاوية ذلك، وكان أهل الشام لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان الذي قتل فيخ مخضوباً بالدم بأصابع زوجته نائلة إصبعان منها وشيء من الكف وإصبعان مقطوعتان من أصولهما ونصف الإبهام، وضع معاوية القميص على المنبر وجمع الأجناد إليه فبكوا على القميص مدة وهو على المنبر والأصابع معلقة فيه، واقسم رجال من أهل الشام أن لا يمسهم الماء إلا للغسل من الجنابة، وأن لا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان، ومن قام دونهم قتلوه. فلما عاد جرير إلى أمير المؤمنين علي وأخبره خبر معاوية واجتماع أهل الشام معه على قتاله وأنهم يبكون على عثمان ويقولون: إن علياً قتله وآوى قتلته وأنهم لا ينتهون عنه حتى يقتلهم أو يقتلوه، قال الأشتر لعلي: قد كنت نهيتك أن ترسل جريراً وأخبرتك بعداوته وغشه، ولو كنت أرسلتني لكان خيراً من هذا الذي أقام عنده حتى لم يدع باباً يرجو فتحه إلا فتحه، ولا باباً يخاف منه إلا أغلقه. فقال جرير: لو كنت ثم لقتلوك، لقد ذكروا أنك من قتلة عثمان. فقال الأشتر: والله لو أتيتهم لم يعيني جوابهم ولحملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر، ولو أطاعني فيك أمير المؤمنين لحبسك وأشباهك حتى يستقيم هذا الأمر. فخرج جرير إلى قرقيسيا وكتب إلى معاوية، فكتب إليه معاوية يأمره بالقدوم إليه.
وقيل: كان الذي حمل معاوية على رد جرير البجلي غير مقضي الحاجة شرحبيب بن السمط الكندي.
وكان سبب ذلك أن شرحبيلاً كان قد سيره عمر بن الخطاب إلى العراق إلى سعد بن أبي وقاص وكان معه، فقدمه سعد وقربه، فحسده الأشعث بن قيس الكندي لمنافسة بينهما، فوفد جرير البجلي على عمر، فقال له الأشعث: إن قدرت أن تنال من شرحبيل عند عمر فافعل. فلما قدم على عمر سأله عمر عن الناس، فأحسن الثناء على سعد، قال: وقد قال شعراً:
ألا ليتني والمرء سعد بن مالك ... وزبراً وابن السمط في لجة البحر
فيغرق أصحابي وأخرج سالماً ... على ظهر قرقورٍ أنادي أبا بكر
فكتب عمر إلى سعد يأمره بأن يرسل زبراً وشرحبيلاً إليه، فأرسلهما، فأمسك زبراً بالمدينة وسير شرحبيلاً إلى الشام، فشرف وتقدم، وكان أبوه السمط من غزة الشام. فلما قدم جرير بكتاب علي إلى معاوية في البيعة انتظر معاوية قدوم شرحبيل، فلما قدم عليه أخبره معاوية بما قدم فيه جرير، فقال: كان أمير المؤمنين عثمان خليفتنا، فإن قويت على الطلب بدمه وإلا فاعتزلنا. فانصرف جرير، فقال النجاشي:
شرحبيل ما للدين فارقت أمرنا ... ولكن لبغض المالكي جرير
وقولك ما قد قلت عن أمر أشعثٍ ... فأصبحت كالحادي بغير بعير
جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك، فنسب إلى جده مالك.
وخرج علي فعسكر بالنخيلة، وتخلف عنه نفر من أهل الكوفة، منهم: مرة الهمذاني ومسروق، أخذا أعطياتهما وقصدا قزوين، فأما مسروق فإنه كان يستغفر الله من تخلفه عن علي بصفين، وقدم عليه عبد الله بن عباس فيمن معه من أهل البصرة، وبلغ ذلك معاوية، فاستشار عمراً، فقال: أما إذا سار علي فسر إليه بنفسك ولا تغب عنه برأيك ومكيدتك. فتجهز معاوية وتجهز الناس وحضهم عمرو وضعف علياً وأصحابه وقال: إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم ووهنوا شوكتهم وفلوا حدهم، وأهل البصرة مخالفون لعلي بمن قتل منهم، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنما سار علي في شرذمة قليلة وقد قتل خليفتكم، والله الله في حقكم أن تضيعوه وفي دمكم أن تطلوه! وكتب معاوية أهل الشام وعقد لواء لعمرو ولواء لابنيه عبد الله ومحمد ولواء لغلامه وردان، وعقد علي لواء لغلامه قنبر، فقال عمرو:
هل يغنين وردان عني قنبرا ... وتغني السكون عني حميرا
إذا الكماة لبسوا السنورا
فبلغ ذلك علياً فقال:
لأصبحن العاصي ابن العاصي ... سبعين ألفاً عاقدي النواصي
مجنبين الخيل بالقلاص ... مستحقبين حلق الدلاص
فلما سمع معاوية ذلك قال: ما أرى علياً إلا وقد وفى لك. وسار معاوية وتأنى في مسيره، فلما رأى ذلك الوليد بن عقبة بعث إليه يقول:
ألا ابلغ معاوية بن حربٍ ... فإنك من أخي ثقةٍ مليم
قطعت الدهر كالسدم المعنى ... تهدر في دمشق فما تريم
وإنك والكتاب إلى عليٍ ... كدابغةٍ وقد حلم الأديم
يمينك الإمارة كل ركبٍ ... لأنقاض العراق بها رسيم
وليس أخو التراث بمن توانى ... ولكن طالب الترة الغشوم
ولو كنت القتيل وكان حياً ... لجرد لا ألف ولا غشوم
ولا نكلٌ عن الأوتار حتى ... يبيء بها ولا برمٌ جثوم
وقومك بالمدينة قد أبيروا ... فهم صرعى كأنهم الهشيم
فكتب إليه معاوية:
ومستعجبٍ مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
وبعث علي زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثماني آلاف، وبعث مع شريح ابن هانىء أربعة آلاف، وسار علي من النخيلة وأخذ معه من بالمدائن من المقاتلة، وولى على المدائن سعد بن مسعود، عم المختار بن أبي عبيد الثقفي. ولما سار علي كان معه نابغة بني جعدة، فحدا به يوماً فقال:
قد علم المصران والعراق ... أن علياً فحلها العتاق
أبيض جحجاحٌ له رواق ... إن الأولى جاروك لا أفاقوا
لكم سباقٌ ولهم سباق ... قد علمت ذلكم الرفاق
ووجه عليٌّ من المدائن معقل بن قيس في ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذ على الموصل حتى يوافيه على الرقة، فلما وصل إلى الرقة قال لأهلها ليعملوا له جسراً يعبر عليه إلى الشام، فأبوا، وكانوا قد ضموا سفنهم إليهم، فنهض من عندهم ليعبر على جسر منبج وخلف عليهم الأشتر، فناداهم الأشتر وقال: أقسم بالله لئن لم تعملوا جسراً يعبر عليه أمير المؤمنين لأجردن فيكم السيف ولأقتلن الرجال ولآخذن الأموال! فلقي بعضهم بعضاً وقالوا: إنه الأشتر وإنه قمنٌ أن يفي لكم بما حلف عليه أو يأتي بأكثر منه. فنصبوا له جسراً وعبر عليه علي وأصحابه وازدحموا عليه، فسقطت قلنسوة عبد الله بن أبي الحصين الأزدي فنزل فأخذها ثم ركب، وسقطت قلنسوة عبد الله بن الحجاج الأزدي فنزل فأخذها، ثم قال لصاحبه:
فإن يك ظن الزاجري الطير صادقاً ... كما زعموا أقتل وشيكاً وتقتل
فقال ابن أبي الحصين: ما شيء أحب إلي مما ذكرت! فقتلا جميعاً بصفين.
ولما بلغ علي الفرات دعا زياد بن النضر الحارثي وشريح بن هانىء فسرحهما أمامه في اثني عشر ألفاً نحو معاوية على حالهما التي خرجا عليها من الكوفة. وكان سبب عودهما إليه أنهما حيث سيرهما علي من الكوفة أخذا على شاطىء الفرات مما يلي البر. فلما بلغا عانات بلغهما أن معاوية قد أقبل في جنود الشام، فقالا: لا والله ما هذا لنا برأي نسير وبيننا وبين المسلمين وأمير المؤمنين هذا البحر! وما لنا خير في أن نلقى جنود الشام بقلة من معنا. فذهبوا ليعبروا من عانات، فمنعهم أهلها. فرجعوا فعبروا من هيت، فلحقوا علياً دون قرقيسيا، فلما لحقوا علياً قال: مقدمتي تأتيني من ورائي. فأخبره شريح وزياد بما كان، فقال: سددتما. فلما عبر الفرات سيرهما أمامه، فلما انتهيا إلى سور الروم لقيهما أبو الأعور السلمي في جند من أهل الشام، فأرسلا إلى علي فأعلماه، فأرسل علي إلى الأشتر وأمره بالسرعة وقال له: إذا قدمت فأنت عليهم، وإياك أن تبدأ القوم بقتال إلا أن يبدأوك حتى تلقاهم فتدعوهم وتسمع منهم ولا يحملك بغضهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرة بعد مرة، واجعل على ميمنتك زياداً وعلى ميسرتك شريحاً، ولا تدن منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد منهم تباعد من يهاب البأس حتى أقدم عليك، فإني حثيث المسير في إثرك إن شاء الله تعالى. وكتب علي إلى شريح وزياد بذلك وأمرهما بطاعة الأشتر.
فسار الأشتر حتى قدم عليهم واتبع ما أمره وكف عن القتال، ولم يزالوا متواقفين حتى إذا كان عند المساء حمل عليهم أبو الأعور السلمي، فثبتوا له واضطربوا ساعة، ثم انصرف أهل الشام وخرج إليهم من الغد هاشم بن عتبة المرقال، وخرج إليه أبو الأعور، فاقتتلوا يومهم وصبر بعضهم لبعض ثم انصرفوا، وحمل عليهم الأشتر وقال: أروني أبا الأعور؛ وتراجعوا، ووقف أبو الأعور وراء المكان الذي كان فيه أول مرة، وجاء الأشتر فصف أصحابه بمكان أبي الأعور بالأمس، فقال الأشتر لسنان بن مالك النخعي: انطلق إلى أبي الأعور فادعه إلى البراز. فقال: إلى مبارزتي أو مبارزتك. فقال الأشتر: لو أمرتك بمبارزته فعلت؟ قال: نعم، والله لو أمرتني أن أعترض صفهم بسيفي لفعلت! فدعا له وقال: إنما تدعوه لمبارزتي. فخرج إليهم فقال: آمنوني فإني رسول، فآمنوه، فانتهى إلى أبي الأعور وقال له: إن الأشتر يدعوك إلى أن تبارزه، فسكت طويلاً ثم قال: إن خفة الأشتر وسوء رأيه حملاه على إجلاء عمال عثمان عن العراق وتقبيح محاسنه وعلى أن سار إليه في داره حتى قتله فأصبح متبعاً بدمه لا حاجة لي في مبارزته. قال له الرسول: قد قلت فاسمع مني أجبك. قال: لا حاجة لي في جوابك، اذهب عني! فصاح به أصحابه، فانصرف عنه ورجع إلى الأشتر فأخبره، فقال: لنفسه نظر. فوقفوا حتى حجز الليل بينهم، وعاد الشاميون من الليل وأصبح عليٌّ غدوة عند الأشتر، وتقدم الأشتر ومن معه فانتهى إلى معاوية فواقفه ولحق بهم علي فتواقفوا طويلاً.
ثم إن علياً طلب لعسكره موضعاً ينزل فيه، وكان معاوية قد سبق فنزلا منزلاً اختاره بسيطاً واسعاً أفيح وأخذ شريعة الفرات، وليس في ذلك الصقع شريعة غيرها، وجعلها في حيزه، وبعث عليها أبا الأعور السلمي يحميها ويمنعها، فطلب أصحاب علي شريعة غيرها فلم يجدوا، فأتوا علياً فأخبروه بفعلهم وبعطش الناس، فدعا صعصعة بن صوحان فأرسله إلى معاوية يقول له: إنا سرنا مسيرنا هذا ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، فقدمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك، ونحن من رأينا الكف حتى ندعوك ونحتج عليك، وهذه أخرى قد فعلتموها، منعتم الناس عن الماء والناس غير منتهين، فابعث إلى أصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء وليكفوا لننظر فيما بيننا وبينكم وفيما قدمنا له، فإن أردت أن نترك ما جئنا له ونقتتل على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا.
فقال معاوية لأصحابه: ما ترون؟ فقال الوليد بن عقبة وعبد الله بن سعد: امنعهم الماء كما منعوه ابن عفان، اقتلهم عطشاً قتلهم الله! فقال عمرو بن العاص: خل بين القوم وبين الماء وإنهم لن يعطشوا وأنت ريان ولكن بغير الماء، فانظر فيما بينك وبين الله. فأعاد الوليد وعبد الله بن سعد مقالتهما وقالا: امنعهم الماء إلى الليل، فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا وكان رجوعهم هزيمة، امنعهم الماء منعهم الله إياه يوم القيامة! قال صعصعة: إنما يمنعه الله الفجرة وشربة الخمر، لعنك الله ولعن هذا الفاسق! يعني الوليد بن عقبة. فشتموه وتهددوه.
وقد قيل: إن الوليد وابن أبي سرح لم يشهدا صفين.
فرجع صعصعة فأخبره بما كان وأن معاوية قال: سيأتيكم رأيي، فسرب الخيل إلى أبي الأعور ليمنعهم الماء، فلما سمع علي ذلك قال: قاتلوهم على الماء. فقال الأشعث بن قيس الكندي: أنا أسير إليهم. فسار إليهم، فلما دنوا منهم ثاروا في وجوههم فرموهم بالنبل فتراموا ساعةً ثم تطاعنوا بالرماح ثم صاروا إلى السيوف فاقتتلوا ساعة، وأرسل معاوية يزيد بن أسد البجلي القسري، جد خالد بن عبد الله القسري، في الخيل إلى أبي الأعور، فأقبلوا، فأرسل علي شبث بن ربعي الرياحي، فازداد القتال، فأرسل معاوية عمرو بن العاص في جند كثير، فأخذ يمد أبا الأعور ويزيد بن أسد، وأرسل علي الأشتر في جمع عظيم وجعل يمد الأشعث وشبثاً، فاشتد القتال، فقال عبد الله بن عوف الأزدي الأحمري:
خلوا لنا ماء الفرات الجاري ... أو اثبتوا لجحفلٍ جرار
لكل قرمٍ مستميتٍ شاري ... مطاعن برمحه كرار
ضراب هامات العدى مغوار ... لم يخش غير الواحد القهار
وقاتلوهم حتى خلوا بينهم وبين الماء وصار في أيدي أصحاب علي، فقالوا: والله لا نسقيه أهل الشام! فأرسل علي إلى أصحابه: أن خذوا من الماء حاجتكم وخلوا عنهم، فإن الله نصركم ببغيهم وظلمهم. ومكث علي يومين لا يرسل إليهم أحداً ولا يأتيه أحد، ثم إن علياً دعا أبا عمرو بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي، فقال لهم: ائتوا هذا الرجل وادعوه إلى الله وإلى الطاعة والجماعة. فقال له شبث: يا أمير المؤمنين ألا تطمعه في سلطان توليه إياه أو منزلة تكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك؟ قال: انطلقوا إليه واحتجوا عليه وانظروا ما رأيه. وهذا في أول ذي الحجة. فأتوه فدخلوا عليه، فابتدأ بشير بن عمرو الأنصاري فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا معاوية إن الدنيا عنك زائلةٌ، وإنك راجع إلى الآخرة، وإن الله محاسبك بعملك ومجازيك عليه، وإني أنشدك الله أن لا تفرق جماعة هذه الأمة وأن لا تسفك دماءها بينها.
فقطع عليه معاوية الكلام وقال: هلا أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال أبو عمرو: إن صاحبي ليس مثلك، إن صاحبي أحق البرية كلها بهذا الأمر في الفضل والدين والسابقة في الإسلام والقرابة بالرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: فماذا يقول؟ قال: يأمرك بتقوى الله وأن تجيب انب عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في عاقبة أمرك! قال معاوية: ونترك دم ابن عفان؟ لا والله لا أفعل ذلك أبداً.
قال: فذهب سعيد بن قيس يتكلم، فبادره شبث بن ربعي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معاوية قد فهمت ما رددت على ابن محصن، إنه والله لا يخفى علينا ما تطلب، إنك لم تجد شيئاً تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلا قولك: قتل إمامكم مظلوماً فنحن نطلب دمه، فاستجاب لك سفهاء طغام، وقد علمنا أنك أبطأت عنه بالنصر وأحببت له القتل لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب، ورب متمني أمر وطالبه يحول الله دونه، وربما أوتي المتمني أمنيته وفوق أمنيته، ووالله ما لك في واحدة منهما خير! والله إن أخطأك ما ترجو إنك لشر العرب حالاً! ولئن أصبت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق من ربك صلي النار! فاتق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله.
قال: فحمد معاوية الله ثم قال: أما بعد فإن أول ما عرفت به سفهك وخفة حلمك أن قطعت على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه ثم اعترضت بعد فيما لا علم لك به، فقد كذبت ولؤمت أيها الأعرابي الجلف الجافي في كل ما ذكرت ووصفت! انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم إلا السيف. وغضب، وخرج القوم. فقال له شبث بن ربعي: أتهول بالسيف؟ أقسم بالله لنعجلنها إليك.
فأتوا علياً فأخبروه بذلك، فأخذ علي يأمر الرجل ذا الشرف فيخرج ومعه جماعة من أصحابه ويخرج إليه آخر من أصحاب معاوية ومعه جماعة، فيقتتلان في خيلهما ثم ينصرفان، وكرهوا أن يلقوا جمع أهل العراق بجمع أهل الشام لما خافوا أن يكون فيه من الاستئصال والهلاك، فكان علي يخرج مرة الأشتر ومرةً حجر بن عدي الكندي ومرةً شبث بن ربعي ومرةً خالد بن المعمر ومرةً زياد بن النضر الحارثي ومرةً زياد بن خصفة التيمي ومرة سعيد بن قيس الهمداني ومرةً معقل بن قيس الرياحي ومرةً قيس بن سعد الأنصاري، وكان الأشتر أكثرهم خروجاً. وكان معاوية يخرج إليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وأبا الأعور السلمي وحبيب بن مسلمة الفهري وابن ذي الكلاع الحميري وعبيد الله ابن عمر بن الخطاب وشرحبيب بن السمط الكندي وحمرة بن مالك الهمداني، فاقتتلوا أيام ذي الحجة كلها، وربما اقتتلوا في اليوم الواحد مرتين.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة مات حذيفة بن اليمان بعد قتل عثمان بيسير ولم يدرك الجمل، وقتل ابناه صفوان وسعيد مع علي بصفين بوصية أبيهما، وقيل: مات سنة خمس وثلاثين، والأول أصح. وفيها مات سلمان الفارسي في قول بعضهم، وكان عمره مائتين وخمسين سنة، هذا أقل ما قيل فيه، وقيل: ثلثمائة وخمسون سنة، وكان قد أدرك بعض أصحاب المسيح، عليه السلام. وعبد الله ابن سعد بن أبي سرح مات بعسقلان حيث خرج معاوية إلى صفين وكره الخروج معه. ومات فيها عبد الرحمن بن عديس البلوي أمير القادمين من مصر لقتل عثمان، وكان ممن بايع النبي، صلى الله عليه وسلم، تحت الشجرة، وقيل: بل قتل بالشام. وفيها مات قدامة بن مظعون الجمحي، وهو من مهاجرة الحبشة، وشهد بدراً. وفيها توفي عمرو بن أبي عمرو بن ضبة الفهري أبو شداد، شهد بدراً. وفيها استعمل علي على الري يزيد بن حجية التيمي تيم اللات، فكسر من خراجها ثلاثين ألفاً، فكتب إليه يستدعيه، فحضر، فسأله عن المال قال: أين ما غللته من المال؟ قال: ما أخذت شيئاً! فخفقه بالدرة خفقات وحبسه ووكل به سعداً مولاه، فهرب منه يزيد إلى الشام، فسوغه معاوية المال، فكان ينال من علي، وبقي بالشام إلى أن اجتمع الأمر لمعاوية فسار معه إلى العراق فولاه الري، فقيل: إنه شهد مع علي الجمل وصفين والنهروان، ثم ولاه الري، وهو الصحيح، فكان ما تقدم ذكره.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين
ذكر تتمة أمر صفينفي هذه السنة في المحرم منها جرت موادعةٌ بين علي ومعاوية، توادعا على ترك الحرب بينهما حتى ينقضي المحرم طمعاً في الصلح، واختلفت بينهما الرسل، فبعث علي عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد ابن خصفة.
فتكلم عدي بن حاتم فحمد الله وقال: أما بعد فإنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمتنا ونحقن به الدماء ونصلح ذات البين، إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقةً وأحسنها في الإسلام أثراً، وقد استجمع له الناس ولم يبق أحد غيرك وغير من معك، فاحذر يا معاوية لا يصبك وأصحابك مثل يوم الجمل! فقال له معاوية: كأنك إنما جئت متهدداً لم تأت مصلحاً! هيهات يا عدي! كلا والله إني لابن حرب لا يقعقع له بالشنان، وإنك والله من المجلبين على عثمان، وإنك من قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتله الله به! فقال له شبث وزياد بن خصفة جواباً واحداً: أتيناك فيما يصلحنا وإياك فأقبلت تضرب لنا الأمثال، دع ما لا ينفع من القول والفعل وأجبنا فيما يعم نفعه. وقال يزيد ابن قيس: إنا لم نأت إلا لنبلغك ما أرسلنا به إليك ونؤدي عنك ما سمعنا منك، ولن ندع أن نصح لك وأن نذكر ما يكون به الحجة عليك ويرجع إلى الألفة والجماعة، إن صاحبنا من قد عرف المسلمون فضله ولا يخفى عليك، فاتق الله يا معاوية ولا تخالفه، فإنا والله ما رأينا في الناس رجلاً قط أعمل بالتقوى ولا أزهد في الدنيا ولا أجمع لخصال الخير كلها معه.
فحمد الله معاوية ثم قال: أما بعد فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي، وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها لأن صاحبكم قتل خليفتنا وفرق جماعتنا وآوى ثأرنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله فنحن لا نرد عليه ذلك فليدفع إلينا قتلة عثمان لنقتلهم ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة. فقال شبث بن ربعي: أيسرك يا معاوية أن تقتل عماراً؟ فقال: وما يمنعني من ذلك؟ لو تمكنت من ابن سمية لقتلته بمولى عثمان. فقال شبث: والذي لا إله غيره لا تصل إلى ذلك حتى تندر الهام عن الكواهل وتضيق الأرض الفضاء عليك! فقال معاوية: لو كان ذلك لكانت عليك أضيق! وتفرق القوم عن معاوية، وبعث معاوية إلى زياد بن خصفة فخلا به وقال له: يا أخا ربيعة، إن علياً قطع أرحامنا وقتل إمامنا وآوى قتلة صاحبنا، وإني أسألك النصر عليه بعشيرتك ثم لك عهد الله وميثاقه أني أوليك إذا ظهرت أي المصرين أحببت. فقال زياد: أما بعد فإني على بينة من ربي وما أنعم الله علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين! وقام. فقال معاوية لعمرو بن العاص: ليس نكلم رجلاً منهم فيجيب إلى خير، ما قلوبهم إلا كقلب واحد.
وبعث معاوية إلى علي حبيب بن مسلمة الفهري وشرحبيل بن السمط ومعن ابن يزيد بن الأخنس، فدخلوا عليه، فحمد الله حبيبٌ وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن عثمان كان خليفة مهدياً يعمل بكتاب الله وينيب إلى أمره، فاستثقلتم حياته واستبطأتم وفاته فعدوتم عليه فقتلتموه، فادفع إلينا قتلة عثمان إن زعمت أنك لم تقتله نقتلهم به، ثم اعتزل أمر الناس فيكون أمرهم شورى بينهم، يولونه من أجمعوا عليه. فقال له علي: ما أنت لا أم لك والعزل وهذا الأمر؟ اسكت فإنك لست هناك ولا بأهل له. فقال: والله لتريني بحيث ! فقال له علي: وما أنت؟ لا أبقى الله عليك إن أبقيت علينا، اذهب فصوب وصعد ما بدا لك! وقال شرحبيل: ما كلامي إلا مثل كلام صاحبي، فهل عندك جواب غير هذا؟ فقال علي: ليس عندي جواب غيره.
ثم حمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فإن الله تعالى بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم، بالحق فأنقذ به من الضلالة والهلكة وجمع به من الفرقة ثم قبضه الله إليه فاستخلف الناس أبا بكر، واستخلف أبو بكر عمر، فأحسنا السيرة وعدلا، وقد وجدنا عليهما أن توليا الأمور ونحن آل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فغفرنا ذلك لهما، وولى الناس عثمان فعمل بأشياء عابها الناس فساروا إليه فقتلوه، ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمورهم فقالوا لي: بايع، فأبيت، فقالوا: بايع فإن الأمة لا ترضى إلا بك وإنا نخاف إن لم تفعل أن يتفرق الناس، فبايعتهم، فلم يرعني إلا شقاق رجلين قد بايعاني وخلاف معاوية الذي لم يجعل له سابقة في الدين ولا سلف صدق في الإسلام، طليق ابن طليق، حزب من الأحزاب، لم يزل حرباً لله ورسوله هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين، ولا عجب إلا من اختلافكم معه وانقيادكم له وتتركون آل بيت نبيكم الذي لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم! ألا إني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وإماتة الباطل وإحياء الحق ومعالم الدين! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين. فقالا: تشهد أن عثمان قتل مظلوماً؟ فقال لهما: لا أقول إنه قتل مظلوماً ولا ظالماً. قالا: فمن لم يزعم أنه قتل مظلوماً فنحن منه برآء. وانصرفا، فقال علي، كرم الله وجهه: (إنك لا تسمع الموتى) إلى قوله: (فهم مسلمون) النمل: 80 - 81، ثم قال لأصحابه: لا يكن هؤلاء في الجد في ضلالهم أجد منكم في الجد في حقكم وطاعة ربكم.
فتنازع عامر بن قيس الحذمري ثم الطائي وعدي بن حاتم الطائي في الراية بصفين، وكانت حذمر أكثر من بني عدي رهط حاتم، فقال عبد الله بن خليفة البولاني عند علي: يا بني حذمر أعلى عدي تتوثبون وهل فيكم وفي آبائكم مثل عدي وأبيه؟ أليس بحامي القرية ومانع الماء يوم روية؟ أليس ابن ذي المرباع، وابن جواد العرب، وابن المنهب ماله ومانع جاره، ومن لم يغدر ولم يفجر ولم يبخل ولم يمنن ولم يجبن؟ هاتوا في آبائكم مثل أبيه، أوفيكم مثله، أليس أفضلكم في الإسلام ووافدكم إلى النبي، صلى الله عليه وسلم؟ أليس برأسكم يوم النخيلة ويوم القادسية ويوم المدائن ويوم جلولاء ويوم نهاوند ويوم تستر؟ فقال علي: حسبك يا ابن خليفة. وقال علي: لتحضر جماعة طيء. فأتوه، فقال: من كان رأسكم في هذه المواطن؟ قالوا: عدي. فقال ابن خليفة: سلهم يا أمير المؤمنين أليسوا راضين برياسة عدي؟ ففعل، فقالوا: بلى. فقال علي: فعدي أحقكم بالراية، وأخذها. فلما كان ايام حجر بن عدي طلب زيادٌ عبد الله بن خليفة ليبعثه مع حجر، فسار إلى الجبلين ووعده عدي أن يرده وأن يسأل فيه، فطال عليه ذلك، فقال شعراً، منه:
أتنسى بلائي سادراً يا ابن حاتمٍ ... عشية ما أغنت عديك حذمرا
فدافعت عنك القوم حتى تخاذلوا ... وكنت أنا الخصم اللد العذورا
فولوا وما قاموا مقامي كأنما ... رأوني ليثاً بالأباءة مخدرا
نصرتك إذ خام القريب وأبعد ال ... بعيد وقد أفردت نصراً مؤزرا
فكان جزائي أن أجرر بينكم ... سحيباً وأن أولى الهوان وأوسرا
وكم عدةٍ لي منك أنك راجعي ... فلم تغن بالميعاد عني حبترا
وسترد قصته بتمامها، إن شاء الله تعالى.
فلما انسلخ المحرم أمر علي منادياً تعبئة الناس للقتال فنادى: يا أهل الشام! يقول لكم أمير المؤمنين: قد استدمتكم لتراجعوا الحق وتنيبوا إليه، فلم تنتهوا عن طغيانكم ولم تجيبوا إلى الحق، وإني قد نبذت إليكم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين! فاجتمع أهل الشام إلى أمرائهم ورؤسائهم، خرج معاوية وعمرو يكتبان الكتائب ويعبيان الناس، وكذلك فعل أمير المؤمنين، وقال للناس: لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم، فأنتم بحمد الله على حجة، وترككم قتالهم حجة أخرى، فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريحٍ ولا تكشفوا عورةً ولا تمثلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً ولا تدخلوا داراً ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم، ولا تهيجوا امرأة وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهن ضعاف القوى والأنفس. وكان يقول بهذا المعنى لأصحابه في كل موطن، وحرض أصحابه فقال: عباد الله اتقوا الله وغضوا الأبصار واخفضوا الأصوات وأقلوا الكلام ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمجاولة والمزاولة والمناضلة والمعانقة والمكادمة والملازمة، (فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) الأنفال: 45، (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين) الأنفال: 46، اللهم ألهمهم الصبر وأنزل عليهم النصر وأعظم لهم الأجر! وأصبح علي فجعل على خيل الكوفة الأشتر، وعلى جند البصرة سهل بن حنيف، وعلى رجالة الكوفة عمار بن ياسر، وعل رجالة البصرة قيس بن سعد، وهاشم بن عتبة المرقال معه الراية، وجعل مسعر بن فدكي على قراء الكوفة وأهل البصرة. وبعث معاوية على ميمنته ابن ذي الكلاع الحميري، وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري، وعلى مقدمته أبا الأعور السلمي، وعلى خيل دمشق عمرو بن العاص، وعلى رجالة دمشق مسلم بن عقبة المري، وعلى الناس كلهم الضحاك بن قيس، وبايع رجالٌ من أهل الشام على الموت، فعقلوا أنفسهم بالعمائم، وكانوا خمسة صفوف، وخرجوا أول يوم من صفر فاقتتلوا، وكان على الذين خرجوا من أهل الكوفة الأشتر، وعلى من خرج من أهل الشام حبيب بن مسلمة، فاقتتلوا يومهم قتالاً شديداً معظم النهار ثم تراجعوا وقد انتصف بعضهم مع بعض. ثم خرج في اليوم الثاني هاشم بن عتبة في خيل ورجال، وخرج إليه من أهل الشام أبو الأعور السلمي، فاقتتلوا يومهم ذلك ثم انصرفوا، وخرج في اليوم الثالث عمار بن ياسر، وخرج إليه عمرو بن العاص، فاقتتلوا أشد قتال، وقال عمار: يا أهل العراق أتريدون أن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله وجاهدهما وبغى على المسلمين وظاهر المشركين؟ فلما رأى الله يعز دينه ويظهر رسوله أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو فيما نرى راهب غير راغب! ثم قبض النبي، صلى الله عليه وسلم، فوالله إن زال بعده معروفاً بعداوة المسلم واتباع المجرم، فاثبتوا له وقاتلوه.
وقال عمار لزياد بن النضر وهو على الخيل: احمل على أهل الشام. فحمل وقاتله الناس وصبروا له، وحمل عمار فأزال عمرو بن العاص عن موضعه، وبارز يومئذ زياد بن النضر أخاه لأمه، واسمه عمرو بن معاوية من بني المنتفق، فلما التقيا تعارفا فانصرف كل واحد منهما عن صاحبه وتراجع الناس. وخرج من الغد محمد بن علي، وهو ابن الحنفية، وخرج إليه عبيد الله بن عمر بن الخطاب في جمعين عظيمين فاقتتلوا أشد القتال، وأرسل عبيد الله إلى ابن الحنفية يدعوه إلى المبارزة، فخرج إليه، فحرك علي دابته ورد ابنه وبرز علي إلى عبيد الله، فرجع عبيد الله، وقال محمد لأبيه: لو تركتني لرجوت قتله. وقال: يا أمير المؤمنين وكيف تبرز إلى هذا الفاسق؟ والله إني لأرغب بك عن أبيه! فقال علي: يا بني لا تقل في أبيه إلا خيراً. وتراجع الناس. وخرج عبد الله بن عباس في اليوم الخامس، وخرج إليه الوليد بن عقبة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فسب الوليد بني عبد المطلب، فطلبه ابن عباس ليبارزه فأبى، وقاتل ابن عباس قتالاً شديداً. وخرج في اليوم السادس قيس بن سعد الأنصاري، وخرج إليه ابن ذي الكلاع الحميري، فاقتتلوا قتالاً شديداً ثم انصرفوا. ثم عاد يوم الثلاثاء وخرج الأشتر، وخرج إليه حبيب، فاقتتلوا قتالاً شديداً وانصرفوا عند الظهر.
ثم إن علياً قال: حتى متى لا نناهض هؤلاء القوم بأجمعنا؟ فقام في الناس عشية الثلاثاء ليلة الأربعاء خطيباً فحمد الله وأثنى عليه فقال: الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض وما أبرم لم ينقضه الناقضون، ولو شاء الله ما اختلف اثنان من خلقه ولا اختلفت الأمة في شيء ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار فنحن بمرأى من ربنا ومسمع فلو شاء عجل النقمة وجعل الآخرة دار القرار (ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) النجم: 31، ألا وإنكم لاقو القوم غداً فأطيلوا الليلة القيام وأكثروا تلاوة القرآن واسألوا الله النصر والصبر والقوهم بالجد والحزم، وكونوا صادقين. فقام القوم يصلحون سلاحهم، فمر بهم كبع بن جعيل فقال:
أصبحت الأمة في أمرٍ عجب ... والملك مجموعٌ غداً لمن غلب
فقلت قولاً صادقاً غير كذب ... إن غداً تهلك أعلام العرب
وعبى عليٌّ الناس ليلته حتى الصباح وزحف بالناس، وخرج إليه معاوية في أهل الشام، فسأل علي عن القبائل من أهل الشام فعرف مواقفهم، فقال للأزد: اكفونا الأزد، وقال لخثعم: اكفونا خثعم، وأمر كل قبيلة أن تكفيه أختها من الشام إلا أن تكون قبيلة ليس منها بالشام أحد فيصرفها إلى قبيلة أخرى من الشام ليس بالعراق منهم أحد، مثل بجيلة لم يكن بالشام منها إلا القليل صرفهم إلى لخم.
فتناهض الناس يوم الأربعاء فاقتتلوا قتالاً شديداً نهارهم كله، ثم انصرفوا عند المساء وكلٌّ غير غالب، فلما كان يوم الخميس صلى علي بغلس وخرج بالناس إلى أهل الشام فزحف إليهم وزحفوا معه، وكان على ميمنة علي عبد الله ابن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعلى ميسرته عبد الله بن عباس، والقراء مع ثلاثة نفر: عمار، وقيس بن سعد، وعبد الله بن بديل، والناس على راياتهم ومراكزهم، وعلي في القلب في أهل المدينة بين أهل الكوفة وأهل البصرة، وأكثر من معه من أهل المدينة الأنصار ومعه عدد من خزاعة وكنانة وغيرهم من أهل المدينة، وزحف إليهم. ورفع معاوية قبة عظيمة فألقى عليها الثياب وبايعه أكثر أهل الشام على الموت، وأحاط بقبته خيل دمشق. وزحف عبد الله بن بديل في الميمنة نحو حبيب بن مسلمة وهو في ميسرة معاوية، فلم يزل يحوزه ويكشف خيله حتى اضطرهم إلى قبة معاوية عند الظهر، وحرض عبد الله بن بديل أصحابه فقال: ألا إن معاوية ادعى ما ليس له، ونازع الحق أهله، وعاند من ليس مثله، وجادل بالباطل ليدحض به الحق، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب الذين قد زين لهم الضلالة، وزرع في قلوبهم حب الفتنة، ولبس عليهم الأمر، وزادهم رجساً إلى رجسهم، فقاتلوا الطغام الجفاة ولا تخشوهم، (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قومٍ مؤمنين) التوبة: 13 - 14.
وحرض علي أصحابه فقال في كلام له: فسووا صفوفكم كالبينان المرصوص، وقدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس، فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في الأطراف فإنه أصون للأسنة، وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش، وأسكن للقلب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار، راياتكم فلا تميلوها ولا تزيلوها، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، واستعينوا بالصدق والصبر، فإن بعد الصبر ينزل عليكم النصر.
وقام يزيد بن قيس الأرحبي يحرض الناس فقال: إن المسلم من سلم في دينه ورأيه؛ وإن هؤلاء القوم والله لا يقاتلونا على إقامة دين ضيعناه وإحياء حق أمتناه، إن يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا ليكونوا جبارين فيها ملوكاً، فلو ظهروا عليكم، لا أراهم الله ظهوراً ولا سروراً، ألزموكم بمثل سعيد والوليد وابن عامر السفيه الضال، يجيز أحدهم بمثل ديته ودية أبيه وجده في جلسه ثم يقول: هذا لي ولا إثم علي، كأنما أعطى تراثه على أبيه وأمه، وإنما هو مال الله أفاءه علينا بأرماحنا وسيوفنا، فقاتلوا عباد الله القوم الظالمين، فإنهم إن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم وهم من قد عرفتم وخبرتم! والله ما ازدادوا إلى يومهم إلا شراً!
وقاتلهم عبد الله بن بديل في الميمنة قتالاً شديداً حتى انتهى إلى قبة معاوية وأقبل الذين تبايعوا على الموت إلى معاوية، فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل في الميمنة، وبعث إلى حبيب بن مسلمة في الميسرة فحمل بهم وبمن كان معه على ميمنة الناس فهزمهم، وانكشف أهل العراق من قبل الميمنة حتى لم يبق منهم إلا ابن بديل في مائتين أو ثلثمائة من القراء قد أسند بعضهم إلى بعض وانجفل الناس، وأمر علي سهل بن حنيف فاستقدم فيمن كان معه من أهل المدينة، فاستقبلتهم جموع لأهل الشام عظيمة فاحتملتهم حتى أوقفتهم في الميمنة، وكان فيما بين الميمنة إلى موقف علي في القلب أهل اليمن. فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علي، فانصرف علي يمشي نحو الميسرة، فانكشفت عنه مضر من الميسرة وثبتت ربيعة، وكان الحسن والحسين ومحمد بنو علي معه حين قصد الميسرة والنبل يمر بين عاتقه ومنكبيه، وما من بنيه أحد إلا يقيه بنفسه فيرده، فبصر به أحمر مولى أبي سفيان أو عثمان فأقبل نحوه، فخرج إليه كيسان مولى علي فاختلفا بينهما ضربتان فقتله أحمر، فأخذ علي بجيب درع أحمر فجذبه وحمله على عاتقه ثم ضرب به الأرض فكسر منكبيه وعضديه، ودنا منه أهل الشام، فما زاده قربهم إلا إسراعاً، فقال له ابنه الحسن: ما ضرك لو سعيت حتى تنتهي إلى هؤلاء القوم الذين قد صبروا لعدوك من أصحابك؟ فقال: يا بني إن لأبيك يوماً لا يعدوه ولا يبطىء به عنه السعي ولا يعجل به إليه المشي، إن أباك والله لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه. فلما وصل إلى ربيعة نادى بصوت عال كغير المكترث لما فيه الناس: لمن هذه الرايات؟ قالوا: رايات ربيعة. قال: بل رايات عصم الله أهلها فصبرهم وثبت أقدامهم. وقال للحضين بن المنذر: يا فتى ألا تدني رايتك هذه ذراعاً؟ قال: بلى والله وعشرة أذرع، فأدناها حتى قال: حسبك مكانك. ولما انتهى علي إلى ربيعة تنادوا بينهم: يا ربيعة إن أصيب فيكم أمير المؤمنين وفيكم رجل حي افتضحتم في العرب! فقاتلوا قتالاً شديداً ما قاتلوا مثله، فلذلك قال علي:
لمن رايةٌ سوداء يخفق ظلها ... إذا قيل قدمها حضين تقدما
ويقدمها في الموت حتى يزيرها ... حياض المنايا تقطر الموت والدما
أذقنا ابن حربٍ طعننا وضرابنا ... بأسيافنا حتى تولى وأحجما
جزى الله قوماً صابروا في لقائهم ... لدى الموت قوماً ما أعف وأكرما
وأطيب أخباراً وأكرم شيمةً ... إذا كان أصوات الرجال تغمغما
ربيعة أعني، إنهم أهل نجدةٍ ... وبأسٍ إذا لاقوا خميساً عرمرما
ومر به الأشتر وهو يقصد الميسرة، والأشتر يركض نحو الفزع قبل الميمنة، فقال له علي: يا مالك! قال: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: ائت هؤلاء القوم فقل لهم: أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه إلى الحياة التي لا تبقى لكم؟ فمضى الأشتر فاستقبلا الناس منهزمين فقال لهم ما قال علي، ثم قال: أيها الناس أنا الأشتر، إلي! فأقبل إليه بعضهم وذهب البعض، فنادى: أيها الناس ما أقبح ما قاتلتم مذ اليوم! أخلصوا لي مذحجاً، فأقبلت مذحج إليه، فقال لهم: ما أرضيتم ربكم ولا نصحتم له في عدوكم، وكيف ذلك وأنتم أبناء الحرب، وأصحاب الغارات، وفتيان الصباح، وفرسان الطراد، وحتوف الأقران، ومذحج الطعان الذي لم يكونوا يسبقون بثأرهم ولا تطل دماؤهم، وما تفعلون هذا اليوم، فإنه مأثور بعده، فانصحوا واصدقوا عدوكم اللقاء فإن الله مع الصادقين. والذي نفسي بيده ما من هؤلاء - وأشار إلى أهل الشام - رجل على مثل جناح بعوضة من دين، اجلوا سواد وجهي يرجع فيه دمه، عليكم بهذا السواد الأعظم، فإن الله لو قد فضه تبعه من بجانبيه. قالوا: تجدنا حيث أحببت. فقصد نحو عظمهم مما يلي الميمنة يزحف إليهم ويردهم، واستقبله شباب من همدان، وكانوا ثمانمائة مقاتل يومئذ، وكانوا صبروا في الميمنة حتى أصيب منهم ثمانون ومائة رجل وقتل منهم أحد عشر رئيساً، كان أولهم ذؤيب بن شريح، ثم شرحبيل ثم مرثد ثم هبيرة ثم يريم ثم سمير أولاد شريح فقتلوا، ثم أخذ الراية عميرة ثم الحرث ابنا بشير فقتلا جميعاً، ثم أخذ الراية سفيان وعبد الله وبكر بنو زيد فقتلوا جميعاً، ثم أخذ الراية وهب بن كريب، فانصرف هو وقومه وهم يقولون: ليت لنا عدتنا من العرب يحالفوننا على الموت ثم نرجع فلا ننصرف أو نقتل أو نظفر! فسمعهم الأشتر يقولون هذا فقال لهم: أنا أحالفكم على أن لا نرجع أبداً حتى نظفر أو نهلك. فوقفوا معه، وفي هذا قال كعب بن جعيل:
وهمدان زرق تبتغي من تحالف
وزحف الأشتر نحو الميمنة وثاب إليه الناس وتراجعوا من أهل البصرة وغيرهم، فلم يقصد كتيبة إلا كشفها ولا جمعاً إلا حازه ورده، فإنه كذلك إذ مر به زياد بن النضر الحارثي يحمل إلى العسكر وقد صرع، وسببه أنه قد كان استلحم عبد الله بن بديل وأصحابه في الميمنة، فتقدم زياد إليهم ورفع رايته لأهل الميمنة، فصبروا وقاتل حتى صرع. ثم مروا بيزيد بن قيس الأرحبي محمولاً نحو العسكر، وكان قد رفع رايته لأهل الميمنة لما صرع زياد وقاتل حتى صرع، فقال الأشتر حين رآه: هذا والله الصبر الجميل والفعل الكريم، ألا يستحي الرجل أن ينصرف ولا يقتل أو يشفى به على القتل؟ وقاتلهم الأشتر قتالاً شديداً، ولزمه الحرث بن جمهان الجعفي يقاتل معه، فما زال هو ومن رجع إليه يقاتلون حتى كشف أهل الشام وألحقهم بمعاوية والصف الذي معه بين صلاة العصر والمغرب، وانتهى إلى عبد الله بن بديل وهو في عصابة من القراء نحو المائتين أو الثلثمائة قد لصقوا بالأرض كأنهم جثاً، فكشف عنهم أهل الشام فأبصروا إخوانهم فقالوا: ما فعل أمير المؤمنين؟ قالوا: حيٌّ صالح في الميسرة يقاتل الناس أمامه. فقالوا: الحمد لله! قد كنا ظننا أنه قد هلك وهلكتم. وقال عبد الله بن بديل لأصحابه: استقدموا بنا. فقال الأشتر: لاتفعل واثبت مع الناس فإنه خير لهم وأبقى لك ولأصحابك. فأبى ومضى كما هو نحو معاوية وحوله كأمثال الجبال وبيده سيفان، وخرج عبد الله أمام أصحابه يقتل كل من دنا منه حتى قتل جماعة، ودنا من معاوية، فنهض إليه الناس من كل جانب وأحيط به وبطائفة من أصحابه فقاتل حتى قتل وقتل ناس من أصحابه، ورجعت طائفة منهم مجرحين. فبعث الأشتر الحرث بن جمهان الجعفي، فحمل على أهل الشام الذين يتبعون من انهزم من أصحاب عبد الله حتى نفسوا عنهم وانتهوا إلى الأشتر، وكان معاوية قد رأى ابن بديل وهو يضرب قدماً، فقال: أترونه كبش القوم؟ فلما قتل أرسل إليه لينظروا من هو، فلم يعرفه أهل الشام، فجاء إليه، فلما رآه عرفه فقال: هذا عبد الله بن بديل، والله لو استطاعت نساء خزاعة لقاتلتنا فضلاً عن رجالها! وتمثل بقول حاتم:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت يوماً به الحرب شمرا
وزحف الأشتر بعك والأشعرين وقال لمذحج: اكفونا عكاًن ووقف في همدان وقال لكندة: اكفونا الأشعرين، فاقتتلوا قتالاً شديداً إلى المساء، وقاتلهم الأشتر في همدان وطوائف من الناس، فأزال أهل الشام عن مواضعهم حتى ألحقهم بالصفوف الخمسة المعقلة بالعمائم حول معاوية، ثم حمل عليهم حملة أخرى فصرع أربعة صفوف من المعقلين بالعمائم حتى انتهوا إلى الخامس الذي حول معاوية، ودعا معاوية بفرسه فركب وكان يقول: أردت أن أنهزم فذكرت قول ابن الإطنابة الأنصاري، وكان جاهلياً:
ابت لي عفتي وأبى بلائي ... وإقدامي على البطل المشيح
وإعطائي على المكروه مالي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جشأت وجاشت: ... مكانك تحمدي أو تستريحي
قال: فمنعني هذا القول من الفرار، ونظر إلي عمرو وقال: اليوم صبر وغداً فخر. فقلت: صدقت. وتقدم جندب بن زهير فبارز رأس أزد الشام، فقتله الشامي وقتل من رهطه عجل وسعد ابنا عبد الله من بني ثعلبة، وقتل أبو زينب بن عوف. وخرج عبد الله بن أبي الحصين الأزدي في القراء الذين مع عمار بن ياسر فأصيب معه، وتقدم عقبة بن حديد النميري وهو يقول: ألا إن مرعى الدنيا أصبح هشيماً، وشجرها خضيداً، وجديدها سملاً، وحلوها مر المذاق، إني قد سئمت الدنيا وعزفت نفسي عنها، وإني أتمنى الشهادة وأتعرض لها في كل جيش وغارة فأبى الله إلا أن يبلغني هذا اليوم، وإني متعرض لها من ساعتي هذه وقد طمعت أن لا أحرمها فما تنتظرون عباد الله بجهاد من عادى الله؟ - في كلام طويل - وقال: يا إخوتي قد بعت هذه الدار بالتي أمامها، وهذا وجهي إليها. فتبعه إخوته عبيد الله وعوف ومالك وقالوا: لا نطلب رزق الدنيا بعدك، فقاتلوا حتى قتلوا. وتقدم شمر بن ذي الجوشن فبارز، فضرب أدهم بن محرز الباهلي بالسيف وجهه وضربه شمر فلم يضره، فعاد شمر إلى رحله فشرب ماء، وكان ظمآن، ثم أخذ الرمح ثم حمل على أدهم فصرعه وقال: هذه بتلك.
وكانت راية بجيلة مع أبي شداد قيس بن هبيرة الأحمسي وهو قيس بن مكشوح، ومكشوح لقب، فقال لقومه: والله لأنتهين بكم إلى صاحب الترس المذهب، وكان صاحبه عبد الرحمن بن خالد، فقاتل الناس قتالاً شديداً وشد بسيفه نحو صاحب الترس، فعرض له مولى رومي لمعاوية فضرب قدم أبي شداد فقطعها، وضربه أبو شداد فقتله، وأشرعت إليه الرماح فقتل، وأخذ الراية عبد الله بن قلع الأحمسي فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عفيف بن إياس فلم تزل في يده حتى تحاجز الناس. وقتل حازم بن أبي حازم أخو قيس بن أبي حازم يومئذ، وقتل أبوه أيضاً، له صحبة، ونعيم بن صهيب بن العيلة البجليون مع علي.
فلما رأى علي ميمنة أصحابه قد عادت إلى مواضعها ومواقفها وكشفت من بإزائها من عدوها حتى ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم، أقبل حتى انتهى إليهم فقال: إني قد رأيت جولتكم عن صفوفكم يحوزكم الجفاة الطغام وأعراب الشام وأنتم لهاميم العرب والسنام الأعظم وعمار الليل بتلاوة القرآن وأهل دعوة الحق. فلولا إقبالكم بعد إدباركم، وكركم بعد انحيازكم، لوجب عليكم ما يجب على المولي يوم الزحف دبره وكنتم من الهالكين، ولكن هون وجدي وشفى أحاح نفسي أني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم وأزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم، تركب أولاهم أخراهم كالإبل المطرودة الهيم، فالآن فاصبروا فقد نزلت عليكم السكينة وثبتكم الله باليقين ليعلم المنهزم أنه مسخط ربه، وموبق نفسه، في كلام طويل.
وكان بشر بن عصمة المري قد لحق بمعاوية، فلما اقتتل الناس بصفين نظر بشر إلى مالك بن العقدية الجشمي وهو يفتك بأهل الشام، فاغتاظ لذلك فحمل على مالك وتجاولا ساعة ثم طعنه بشر بن عصمة فصرعه ولم يقتله وانصرف عنه، وقد ندم على طعنته إياه، وكان جباراً، فقال:
وإني لأرجو من مليكي تجاوزاً ... ومن صاحب الموسوم في الصدر هاجس
دلفت له تحت الغبار بطعنةٍ ... على ساعةٍ فيها الطعان تخالس
فبلغت مقالته ابن العقدية فقال:
ألا أبلغا بشر بن عصمة أنني ... شغلت وألهاني الذين أمارس
وصادفت مني غرةً وأصبتها ... كذلك والأبطال ماضٍ وحابس
وحمل عبد الله بن الطفيل البكائي على أهل الشام، فلما انصرف حمل عليه رجل من بني تميم يقال له قيس بن مرة ممن لحق بمعاوية من أهل العراق فوضع الرمح بين كتفي عبد الله، واعترضه ابن عم لعبد الله اسمه يزيد بن معاوية فوضع الرمح بين كتفي التميمي، فقال له: والله لئن طعنته لأطعننك! فقال له: عليك عهد الله وميثاقه إن رفعت الرمح عن ظهر صاحبك لترفعن سنانك عني! قال: نعم. فرفع التميمي سنانه ورفع يزيد سنانه، فلما رجع الناس إلى الكوفة عتب يزيد على ابن الطفيل، فقال له:
ألم ترني حاميت عنك مناصحاً ... بصفين إذ خلاك كل حميم
ونهنهت عنك الحنظلي وقد أتى ... على سابحٍ ذي ميعةٍ وهزيم
وخرج رجل من آل عك من أهل الشام يسأل المبارزة، فبرز إليه قيس ابن فهدان الكندي فحمل عليه وتجاولا ساعة ثم طعنه عبد الرحمن فقتله، وقال:
لقد علمت عكٌّ بصفين أننا ... إذا التقت الخيلان نطعنها شزرا
ونحمل رايات الطعان بحقها ... فنوردها بيضاً ونصدرها حمرا
وخرج قيس بن يزيد، وهو ممن فر إلى معاوية، فخرج إليه أبو العمرطة ابن يزيد فتعارفا فتوافقا ثم انصرفا وأخبر كل واحد منهما أنه لقي أخاه. وقاتلت طيء يومئذ قتالاً شديداً فعبيت لهم جموع، فأتاهم حمرة بن مالك الهمداني فقال: من القوم؟ فقال له عبد الله بن خليفة، وكان شيعياً شاعراً خطيباً: نحن طيء السهل وطيء الرمل وطيء الجبل الممنوع ذي النخل، نحن طيء الرماح وطيء البطاح فرسان الصباح. فقال حمرة بن مالك: إنك لحسن الثناء على قومك. واقتتل الناس قتالاً شديداً، فناداهم: يا معشر طيء، فدى لكم طارفي وتالدي! قاتلوا على الدين والأحساب. وحمل بشر بن العسوس فقاتل، ففقئت عينه يومئذ، فقال في ذلك:
ألا ليت عيني هذه مثل هذه ... ولم أمش في الأحياء إلا بقائد
ويا ليت رجلي ثم طنت بنصفها ... ويا ليت كفي ثم طاحت بساعدي
ويا ليتني لم أبق بعد مطرفٍ ... وسعدٍ وبعد المستنير بن خالد
فوارس لم تغذ الحواضن مثلهم ... إذا الحرب أبدت عن خدام الخرائد
وقاتلت النخع يومئذ قتالاً شديداً، فأصيب منهم حيان وبكر ابنا هوذة، وشعيب بن نعيم، وربيعة بن مالك بن وهبيل، وأبي أخو علقمة بن قيس الفقيه، وقطعت رجل علقمة يومئذ، فكان يقول: ما أحب أن رجلي أصح مما كانت، وإنها لمما أرجو بها الثواب وحسن الجزاء من ربي. قال: ورأيت أخي في المنام فقلت له: ماذا قدمتم عليه؟ فقال لي: إنا التقينا نحن والقوم عند الله تعالى فاحتججنا فحججناهم،فما سررت بشيء سروري بتلك الرؤيا، وكان يقال لأبي ابي الصلاة لكثرة صلاته. وخرجت حمير في جمعها ومن انضم إليها من أهل الشام، ومقدمهم ذو الكلاع، ومعه عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وهم ميمنة أهل الشام، فقصدوا ربيعة من أهل العراق، وكانت ربيعة ميسرة أهل العراق، وفيهم ابن عباس على الميسرة، فحملوا على ربيعة حملة شديدة، فتضعضعت راية ربيعة، وكانت الراية مع أبي ساسان حضين بن المنذر، فانصرف أهل الشام عنهم، ثم كر عبيد الله بن عمر وقال: يا أهل الشام إن هذا الحي من أهل العراق قتلة عثمان وأنصار علي. فشدوا على الناس شدةً عظيمة، فثبتت ربيعة وصبروا صبراً حسناً إلا قليلاً من الضعفاء والفشلة، وثبت أهل الرايات وأهل الصبر والحفاظ وقاتلوا قتالاً حسناً، وانهزم خالد بن المعمر مع من انهزم، وكان على ربيعة، فلما رأى أصحاب الرايات قد صبروا رجع وصاح بمن انهزم وأمرهم بالرجوع فرجعوا، وكان خالد قد سعي به إلى علي أنه كاتب معاوية، فأحضره علي ومعه ربيعة فسأله علي عما قيل، وقال له: إن كنت فعلت ذلك فالحق بأي بلد شئت لا يكون لمعاوية عليكم حكم. فأنكر ذلك.
وقالت ربيعة: يا أمير المؤمنين لو نعلم أنه فعل ذلك لقتلناه، فاستوثق منه علي بالعهود، فلما فر اتهمه بعض الناس واعتذر هو بأني لما رأيت رجالاً منا قد انهزموا استقبلتهم لأردهم إليكم فأقبلت بمن أطاعني إليكم. ولما رجع إلى مقامه حرض ربيعة فاشتد قتالهم مع حمير وعبيد الله بن عمر حتى كثرت بينهم القتلى فقتل سمير بن الريان العجلي، وكان شديد البأس، وأتى زياد ابن عمر بن خصفة عبد القيس فأعلمهم بما لقيت بكر بن وائل من حمير وقال: يا عبد القيس لا بكر بعد اليوم، فأتت عبد القيس بني بكر فقاتلوا معهم فقتل ذو الكلاع الحميري وعبيد الله بن عمر، قتله محرز بن الصحصح من تيم الله بن ثعلبة من أهل البصرة، وأخذ سيفه ذو الوشاح، وكان لعمر، فلما ملك معاوية العراق أخذه منه، وقيل: بل قتله هانىء بن خطاب الأرحبي، وقيل: قتله مالك بن عمرو التنعي الحضرمي.
وخرج عمار بن ياسر على الناس فقال: اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته. اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم أنحني عليها حتى تخرج من ظهري لفعلته. وإني لا أعلم اليوم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم عملاً هو أرضى لك منه لفعلته. والله إني لأرى قوماً ليضربنكم ضرباً يرتاب منه المبطلون، وايم الله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمت أنا على الحق وأنهم على الباطل. ثم قال: من يبتغي رضوان الله ربه ولا يرجع إلى مال ولا ولد؟ فأتاه عصابة، فقال: اقصدوا بنا هؤلاء القوم الذين يطلبون دم عثمان، والله ما أرادوا الطلب بدمه ولكنهم ذاقوا الدنيا واستحبوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه منها، ولم يكن لهم سابقة يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم، فخدعوا اتباعهم وإن قالوا: إمامنا قتل مظلوماً، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكاً، فبلغوا ما ترون، فلولا هذه ما تبعهم من الناس رجلان. اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت، وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الأليم. ثم مضى ومعه تلك العصابة، فكان لا يمر بواد من أودية صفين إلا تبعه من كان هناك من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم جاء إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وهو المرقال، وكان صاحب راية علي، وكان أعور، فقال: يا هاشم أعوراً وجبناً؟ لا خير في أعور لا يغشى البأس، اركب يا هاشم؛ فركب ومضى معه وهو يقول:
أعور يبغي أهله محلاً ... قد عالج الحياة حتى ملا
لابد أن يفل أو يفلا ... يتلهم بذي الكعوب تلا
وعمار يقول: تقدم يا هاشم، الجنة تحت ظلال السيوف والموت تحت أطراف الأسل، وقد فتحت السماء وتزينت الحور العين. اليوم ألقى الأحبة، محمداً وحزبه، وتقدم حتى دنا من عمرو بن العاص فقال له: يا عمرو بعت دينك بمصر، تباً لك! فقال له: لا ولكن أطلب بدم عثمان. قال: أنا أشهد على علمي فيك أنك لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله وأنك إن لم تقتل اليوم تمت غداً، فانظر إذا أعطي الناس على قدر نياتهم ما نيتك، لقد قاتلت صاحب هذه الراية ثلاثاً مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهذه الرابعة ما هي بأبر وأتقى. ثم قاتل عمار فلم يرجع وقتل.
وقال حبة بن جوين العرني: قلت لحذيفة بن اليمان: حدثنا فإنا نخاف الفتن. فقال: عليكم بالفئة التي فيها ابن سمية، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (تقتله الفئة الباغية الناكبة عن الطريق، وإن آخر رزقه ضياح من لبن)، وهو الممزوج بالماء من اللبن. قال حبة: فشهدته يوم قتل وهو يقول: ائتوني بآخر رزق لي في الدنيا، فأتي بضياح من لبن في قدح أروح له حلقة حمراء، فما أخطأ حذيفة مقياس شعرة، فقال: اليوم ألقى الأحبة. محمداً وحزبه، والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمت أننا على الحق وأنهم على الباطل. ثم قتل، قتله أبو الغازية، واحتز رأسه ابن حوي السكسكي؛ وقيل قتله غيره.
وقد كان ذو الكلاع سمع عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعمار بن ياسر: (تقتلك الفئة الباغية، وآخر شربة تشربها ضياح من لبن)، فكان ذو الكلاع يقول لعمرو: ما هذا ويحك يا عمرو؟ فيقول عمرو: إنه سيرجع إلينا، فقتل ذو الكلاع قبل عمار مع معاوية، وأصيب عمار بعده مع علي، فقال عمرو لمعاوية: ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحاً، بقتل عمار أو بقتل ذي الكلاع، والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمار لمال بعامة أهل الشام إلى علي. فأتى جماعةٌ إلى معاوية كلهم يقول: أنا قتلت عماراً. فيقول عمرو: فما سمعته يقول؟ فيخلطون، فأتاه ابن حوي فقال: أنا قتلته فسمعته يقول: اليوم ألقى الأحبة، محمداً وحزبه. فقال له عمرو: أنت صاحبه، ثم قال: رويداً والله ما ظفرت يداك ولقد أسخطت ربك.
قيل: إن أبا الغازية قتل عماراً عاش إلى زمن الحجاج ودخل عليه فأكرمه الحجاج وقال له: أنت قتلت ابن سمية؟ يعني عماراً. قال: نعم. فقال: من سره أن ينظر إلى عظيم الباع يوم القيامة فلينظر إلى هذا الذي قتل ابن سمية، ثم سأله أبو الغازية حاجته فلم يجبه إليها، فقال: نوطىء لهم الدنيا ولا يعطونا منها ويزعم أني عظيم الباع يوم القيامة! فقال الحجاج: أجل والله من كان ضرسه مثل أحد وفخذه مثل جبل ورقان ومجلسه مثل المدينة والربذة إنه لعظيم الباع يوم القيامة، والله لو أن عماراً قتله أهل الأرض كلهم لدخلوا كلهم النار.
وقال عبد الرحمن السلمي: لما قتل عمار دخلت عسكر معاوية لأنظر هل بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا، وكنا إذا تركنا القتال تحدثوا وتحدثنا إليهم، فإذا معاوية وعمرو وأبو الأعور وعبد الله بن عمرو يتسايرون، فأدخلت فرسي بينهم لئلا يفوتني ما يقولون، فقال عبد الله لأبيه: يا أبه قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما قال، قال: وما قال؟ قال: ألم يكن المسلمون ينقلون في بناء مسجد النبي، صلى الله عليه وسلم، لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فغشي عليه فأتاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: (ويحك يا ابن سمية، الناس ينقلون لبنة لبنة وأنت تنقل لبنتين لبنتين رغبة في الأجر، وأنت مع ذلك تقتلك الفئة الباغية). فقال عمرو لمعاوية: أما تسمع ما يقول عبد الله؟ قال: وما يقول؟ فأخبره، فقال معاوية: أنحن قتلناه؟ إنما قتله من جاء به. فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم يقولون: إنما قتل عماراً من جاء به، فلا أدري من كان أعجب أهو أم هم.
فلما قتل عمار قال علي لربيعة وهمدان: أنتم درعي ورمحي، فانتدب له نحو من اثني عشر ألفاً وتقدمهم علي على بغلة فحملوا معه حملة رجل واحد فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض وقتلوا كل من انتهوا إليه حتى بلغوا معاوية وعلي يقول:
أقتلهم ولا أرى معاويه ... الجاحظ العين العظيم الحاويه
ثم نادى معاوية فقال علي: علام يقتل الناس بيننا؟ هلم أحاكمك إلى الله فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور. فقال له عمرو: أنصفك. فقال له معاوية: ما أنصفت، إنك لتعلم أنه لم يبرز إليه أحد إلا قتله. فقال له عمرو: ما يحسن بك ترك مبارزته. فقال له معاوية: طمعت فيها بعدي! وكان أصحاب علي قد وكلوا به رجلين يحافظانه لئلا يقاتل، وكان يحمل إذا غفلا فلا يرجع حتى يخضب سيفه، وإنه حمل مرة فلم يرجع حتى انثنى سيفه فألقاه إليهم وقال: لولا أنه أنثنى ما رجعت إليكم. فقال الأعمش لأبي عبد الرحمن: هذا والله ضرب غير مرتاب. فقال أبو عبد الرحمن: سمع القوم شيئاً فأدوه ما كانوا بكاذبين.
وأسر معاوية جماعةً من أصحاب علي، فقال له عمرو: اقتلهم. فقال عمرو ابن أوس الأودي: لا تقتلني فإنك خالي. قال: من أين أنا خالك ولم يكن بيننا وبين أود مصاهرة؟ قال: إن أخبرتك فهو أماني عندك؟ قال: نعم. قال: أليست أختك أم حبيبة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى. قال: فإني ابنها وأنت أخوها فأنت خالي. فقال معاوية: ما له لله أبوه! أما كان في هؤلاء من يفطن لها غيره؟ وخلى سبيله، وكان قد أسر علي أسارى كثيرة فخلى سبيلهم، فجاؤوا معاوية وإن عمراً ليقول له وقد أسر أيضاً أسارى كثيرة: اقتلهم، فلما وصل أصحابهم قال معاوية: يا عمرو لو أطعناك في هؤلاء الأسارى لوقعنا في قبيح من الأمر؛ وخلى سبيل من عنده.
وأما هاشم بن عتبة فإنه دعا الناس عند المساء وقال: ألا من كان يريد الله والدار الآخرة فإلي! فأقبل إليه ناس كثير، فحمل على أهل الشام مراراً ويصبرون له، وقاتل قتالاً شديداً وقال لأصحابه: لا يهولنكم ما ترون من صبرهم، فوالله ما هو إلا حمية العرب وصبرها تحت راياتها وإنهم لعلى الضلال وإنكم لعلى الحق. ثم حرض أصحابه وحمل في عصابة من القراء فقاتل قتالاً شديداً حتى رأوا بعض ما يسرون به، فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم شاب وهو يقول:
أنا ابن أرباب الملوك غسان ... والدائن اليوم بدين عثمان
نبأنا قراؤنا بما كان ... أن علياً قتل ابن عفان
ثم يحمل فلا يرجع حتى يضرب بسيفه ويشتم ويلعن. فقال له هاشم: يا هذا إن هذا الكلام بعده الخصام، وإن هذا القتال بعده الحساب، فاتق الله فإنه سائلك عن هذا الموقف وما أردت به. قال: فإني قاتلكم لأن صاحبك لا يصلي وأنتم لا تصلون، وإن صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم ساعدتموه على قتله. فقال له هاشم: ما أنت وعثمان، قتله أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبناء أصحابه وقراء الناس، وهم أهل الدين والعلم، وما أهمل أمر هذا الدين طرفة عين. وأما قولك: إن صاحبنا لا يصلي، فإنه أول من صلى وافقه خلق الله في دين الله وأولى بالرسول، صلى الله عليه وسلم، وأما كل من ترى معي فكلهم قارىء لكتاب الله لا ينام الليل تهجداً، فلا يغوينك هؤلاء الأشقياء. فقال الفتى: فهل لي من توبة؟ قال: نعم، تب إلى الله يتب عليك فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات. فرجع الفتى، فقال له أهل الشام: خدعك العراقي. فقال: كلا ولكن نصح لي. وقاتل هاشم وأصحابه قتالاً شديداً حتى رأوا الظفر، فأقبلت عليهم عند المغرب كتيبة لتنوخ، فقاتلهم هاشمٌ وهو يقول:
أعور يبغي أهله محلا ... لابد أن يفل أو يفلا
قد عالج الحياة حتى ملا ... يتلهم بذي الكعوب تلا
فقتل يومئذ تسعة أو عشرة، وحمل عليه الحرث بن المنذر التنوخي فطعنه فسقط، فأرسل إليه علي أن قدم لواءك. فقال لرسوله: انظر إلى بطني، فإذا هو قد انشق. فقال الحجاج بن غزية الأنصاري:
فإن تفخروا بابن البديل وهاشمٍ ... فنحن قتلنا ذا الكلاع وحوشبا
ونحن تركنا عند معترك القنا ... أخاك عبيد الله لحماً ملحبا
ونحن أحطنا بالبعير وأهله ... ونحن سقيناكم سماماً مقشبا
ومر علي بكتيبة من أهل الشام فرآهم لا يزولون، وهم غسان، فقال: إن هؤلاء لا يزولون إلا بطعنٍ وضربٍ يفلق الهام ويطيح العظام تسقط منه المعاصم والأكف وحتى تقرع جباههم بعمد الحديد، أين أهل النصر والصبر طلاب الأجر؟ فأتاه عصابة من المسلمين، فدعا ابنه محمداً فقال له: تقدم نحو هذه الراية مشياً رويداً على هينتك حتى إذا أشرعت في صدورهم الرماح فأمسك حتى يأتيك أمري. ففعل وأعد لهم علي مثلهم وسيرهم إلى ابنه محمد وأمره بقتالهم، فحملوا عليهم فأزالوهم عن مواقفهم وأصابوا منهم رجالاً. ومر الأسود بن قيس المرادي بعبد الله بن كعب المرادي وهو صريع، فقال عبد الله: يا أسود! قال: لبيك! وعرفه وقال له: عز علي مصرعك. ثم نزل إليه وقال له: إن كان جارك ليأمن بوائقك وإن كنت لمن الذاكرين الله كثيراً، أوصني رحمك الله. فقال: أوصيك بتقوى الله وأن تناصح أمير المؤمنين وأن تقاتل معه المحلين حتى تظهر أو تلحق بالله، وأبلغه عني السلام وقل له: قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك، فإنه من اصبح غداً والمعركة خلف ظهره كان العالي، ثم لم يلبث أن مات، فأقبل الأسود إلى علي فأخبره، فقال: رحمه الله، جاهد عدونا في الحياة ونصح لنا في الوفاة. وقيل: إن الذي أشار على أمير المؤمنين علي بهذا عبد الرحمن بن الحنبل الجمحي.
قال: فاقتتل الناس تلك الليلة كلها إلى الصباح، وهي ليلة الهرير، فتطاعنوا حتى تقصفت الرماح، وتراموا حتى نفد النبل وأخذوا السيوف، وعليٌّ يسير فيما بين الميمنة والميسرة ويأمر كل كتيبة أن تقدم على التي تليها، فلم يزل يفعل ذلك حتى أصبح والمعركة كلها خلف ظهره، والأشتر في الميمنة وابن عباس في الميسرة وعلي في القلب والناس يقتتلون من كل جانب، وذلك يوم الجمعة، وأخذ الأشتر يزحف بالميمنة ويقاتل فيها، وكان قد تولاها عشية الخميس وليلة الجمعة إلى ارتفاع الضحى، ويقول لأصحابه: ازحفوا قيد هذا الرمح، ويزحف بهم نحو أهل الشام، فإذا فعل ذلك بهم قال: ازحفوا قيد هذه القوس، فإذا فعلوا سألهم مثل ذلك حتى مل أكثر الناس الإقدام. فلما رأى الأشتر ذلك قال: أعيذكم بالله أن ترضعوا الغنم سائر اليوم! ثم دعا بفرسه فركبه وترك رايته مع حيان بن هوذة النخعي وخرج يسير في الكتائب ويقول: من يشتري نفسه ويقاتل مع الأشتر حتى يظهر أو يلحق بالله؟ فاجتمع إليه ناس كثير فيهم حيان بن هوذة النخعي وغيره. فرجع إلى المكان الذي كان فيه وقال لهم: شدوا شدة، فدىً لكم خالي وعمي، ترضون بها الرب وتعزون بها الدين! ثم نزل وضرب وجه دابته وقال لصاحب رايته: اقدم بها، وحمل على القوم وحملوا معه، فضرب أهل الشام حتى اتهى بهم إلى عسكرهم، ثم قاتلوه عند العسكر قتالاً شديداً، وقتل صاحب رايته. ولما رأى علي الظفر من ناحيته أمده بالرجال، فقال عمرو بن العاص لوردان مولاه: أتدري ما مثلي ومثلك ومثل الأشتر؟ قال: لا. قال: كالأشقر إن تقدم وإن تأخر عقر، لئن تأخرت لأضربن عنقك. قال: أما والله يا أبا عبد الله لأوردنك حياض الموت، ضع يدك على عاتقي؛ ثم جعل يتقدم ويتقدم ويقول: لأوردنك حياض الموت، واشتد القتال.
فلما رأى عمرو أن أمر أهل العراق قد اشتد وخاف الهلاك قال لمعاوية: هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعاً ولا يزيدهم إلا فرقة؟ قال: نعم. قال: نرفع المصاحف ثم نقول لما فيها: هذا حكم بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول: ينبغي لنا أن نقبل، فتكون فرقة بينهم، وإن قبلوا ما فيها رفعنا القتال عنا إلى أجل.
فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا: هذا حكم كتاب الله، عز وجل، بيننا وبينكم، من لثغور الشام بعد أهله؟ من لثغور العراق بعد أهله؟ فلما رآها الناس قالوا: نجيب إلى كتاب الله. فقال لهم علي: عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم وقتال عدوكم فإن معاوية وعمراً وابن أبي معيط وحبيباً وابن أبي سرح والضحاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالاً ثم رجالاً فكانوا شر أطفال وشر رجال، ويحكم والله ما رفعوها إلا خديعةً ووهناً ومكيدةً. فقالوا له: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فتأبى أن نقبله! فقال لهم علي: فإني إنما أقاتلهم ليدينوا الحكم الكتاب فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم ونسوا عهده ونبذوا كتابه. فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي، في عصابة من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا علي أجب إلى كتاب الله، عز وجل، إذ دعيت إليه وإلا دفعناك برمتك إلى القوم أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان! قال: فاحفظوا عني نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم لي، فإن تطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم. قالوا: ابعث إلى الأشتر فليأتك. فبعث عليٌّ يزيد بن هانىء إلى الأشتر يستدعيه. فقال الأشتر: ليست هذه الساعة بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقفي، إنني قد رجوت أن يفتح الله لي! فرجع يزيد فأخبره، وارتفعت الأصوات وارتفع الرهج من ناحية الأشتر، فقالوا: والله ما نراك إلا أمرته أن يقاتل! فقال لعي: هل رأيتموني ساررته؟ أليس كلمته على رؤوسكم وأنتم تسمعون؟ قالوا: فابعث إليه فليأتك وإلا والله اعتزلناك! فقال له: ويلك يا يزيد! قل له: أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت. فأبلغه ذلك، فقال الأشتر: ألرفع المصاحف؟ قال: نعم. قال: والله لقد ظننت أنها ستوقع اختلافاً وفرقة! إنها مشورة ابن العاهر! ألا ترى إلى الفتح؟ ألا ترى ما يلقون؟ ألا ترى ما صنع الله لنا؟ لن ينبغي أن أدع هؤلاء، وانصرف عنهم. فقال له يزيد: أتحب أن تظفر وأمير المؤمنين يسلم إلى عدوه أو يقتل؟ قال: لا والله، سبحان الله! فأعلمه بقولهم، فأقبل إليهم الأشتر وقال: يا أهل العراق! يا أهل الذل والوهن! أحين علوتم القوم وظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها وهم والله قد تركوا ما أمر الله به فيها وسنة من أنزلت عليه؟ فأمهلوني فاقاً فإني قد أحسست بالفتح. قالوا: لا. قال: أمهلوني عدو الفرس فإني قد طمعت في النصر. قالوا: إذن ندخل معك في خطيئتك. قال: فخبروني عنكم متى كنتم محقين؟ أحين تاقتلون وخياركم يقتلون؟ فأنتم الآن إذ أمسكتم عن القتال مبطلون أم أنتم الآن محقون؟ فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم وهم خير منكم في النار. قالوا: دعنا منك يا أشتر، قاتلناهم لله وندع قتالهم لله! قال: خدعتم فانخدعتم ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب الجباه السود! كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقاً إلى لقاء الله، فلا أرى مرادكم إلا الدنيا، ألا قبحاً يا أشباه النيب الجلالة! ما أنتم برائين بعدها عزاً أبداً فابعدوا كما بعد القوم الظالمون! فسبوه وسبهم وضربوا وجه دابته بسياطهم وضرب وجوه دوابهم بسوطه فصاح به وبهم علي فكفوا. وقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكماً.
فجاء الأشعث بن قيس إلى علي فقال: أرى الناس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد. قال: ائته. فأتاه، فقال لمعاوية: لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه، تبعثون رجلاً ترضون به ونبعث نحن رجلاً نرضى به، نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ثم نتبع ما اتفقا عليه. قال له الأشعث: هذا الحق. فعاد إلى علي فأخبره، فقال الناس: قد رضينا وقبلنا. فقال أهل الشام: قد رضينا عمراً. وقال الأشعث وأولئك القوم الذين صاروا خوارج: إنا قد رضينا بأبي موسى الأشعري. فقال علي: قد عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن، لا أرى أن أولي أبا موسى. فقال الأشعث وزيد ابن حصين ومسعر بن فدكي: لا نرضى إلا به فإنه قد حذرنا ما وقعنا فيه. قال علي: فإنه ليس بثقة، قد فارقني وخذل الناس عني ثم هرب مني حتى آمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس أوليه ذلك. قالوا: والله لا نبالي أنت كنت أم ابن عباس! لا نريد إلا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء. قال علي: فإني أجعل الأشتر. قالوا: وهل سعر الأرض غير الأشتر؟ فقال: قد أبيتم إلا أبا موسى؟ قالوا: نعم. قال: فاصنعوا ما أردتم.
فبعثوا إليه وقد اعتزل القتال وهو بعرض، فأتاه مولى له فقال: إن الناس قد اصطلحوا. فقال: الحمد لله. قال: قد جعلوك حكماً. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. وجاء أبو موسى حتى دخل العسكر، وجاء الأشتر علياً فقال: ألزني بعمرو بن العاص فوالله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه. وجاء الأحنف بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين إنك قد رميت بحجر الأرض وإني قد عجمت أبا موسى وحلبت أشطره فوجدته كليل الشفرة قريب القعر، وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يصير في أكفهم ويبعد حتى يصير بمنزلة النجم منهم، فإن أبيت أن تجعلني حكماً فاجعلني ثانياً أو ثالثاً، فإنه لن يعقد عقدة إلا حللتها، ولا يحل عقدة أعقدها لك إلا عقدت أخرى أحكم منها.
فأبى الناس إلا أبا موسى والرضا بالكتاب. فقال الأحنف: إن أبيتم إلا أبا موسى فأدفئوا ظهره بالرجال.
وحضر عمرو بن العاص عند علي ليكتب القضية بحضوره، فكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين. فقال عمرو: اكتب اسمه واسم أبيه، هو أميركم وأما أميرنا فلا. فقال الأحنف: لا تمح اسم إمارة المؤمنين فإني أخاف إن محوتها أن لا ترجع إليك أبداً، لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضاً. فأبى ذلك علي ملياً من النهار، ثم إن الأشعث ابن قيس قال: امح هذا الاسم، فمحي، فقال علي: الله أكبر! سنة بسنة. والله إني لكاتب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم الحديبية فكتبت: محمد رسول الله، وقالوا: لست برسول الله ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأمرني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمحوه، فقلت: لا أستطيع. فقال: أرنيه، فاريته، فمحاه بيده وقال: إنك ستدعى إلى مثلها فتجيب. فقال عمرو: سبحان الله! أنشبه بالكفار ونحن مؤمنون! فقال علي: يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين ولياً وللمؤمنين عدواً؟ فقال عمرو: والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبداً. فقال علي: إني لأرجو أن يطهر الله مجلسي منك ومن أشباهك. وكتب الكتاب: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضى علي على أهل الكوفة ومن معهم وقاضى معاوية على أهل الشام ومن معهم، إننا ننزل عند حكم الله وكتابه وأن لا يجمع بيننا غيره، وأن كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان في كتاب الله، وهما أبو موسى عبد الله بن قيس، وعمرو بن العاص، عملا به، وما لم يجداه في كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة. وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين من العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهليهما والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة لا يرادها في حرب ولا فرقة حتى يعصيا، وأجل القضاء إلى رمضان، وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه، وإن مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام.
وشهد من أصحاب علي الأشعث بن قيس وسعيد بن قيس الهمداني ووقاء بن سمي البجلي وعبد الله بن محل العجلي وحجر بن عدي الكندي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الطفيل العامري وعقبة بن زياد الحضرمي ويزيد بن حجية التميمي ومالك بن كعب الهمداني، ومن أصحاب معاوية أبو الأعور السلمي وحبيب بن مسلمة وزمل بن عمرو العذري وحمرة ابن مالك الهمداني وعبد الرحمن بن خالد المخزومي وسبيع بن يزيد الأنصاري وعتبة بن أبي سفيان ويزيد بن الحر العبسي.
وقيل للأشتر ليكتب فيها، فقال: لا صحبتني يميني ولا نفعتني بعدها شمالي إن خط لي في هذه الصحيفة اسم على صلح ولا موادعة، أولست على بينة من ربي من ضلال عدوي، أولستم قد رأيتم الظفر؟ فقال له الأشعث: والله ما رأيت ظفراً، هلم إلينا لا رغبة بك عنا. فقال: بلى والله، الرغبة عنك في الدنيا للدنيا وفي الآخرة للآخرة، لقد سفك الله بسيفي دماء رجال ما أنت خير عندي منهم ولا أحرم دماً. قال: فكأنما قصع الله على أنف الأشعث الحمم. وخرج الأشعث بالكتاب يقرؤه على الناس حتى مر على طائفة من بني تميم فيهم عروة بن أدية أخو أبي بلال فقرأه عليهم، فقال عروة: تحكمون في أمر الله الرجال؟ لا حكم إلا لله! ثم شد بسيفه فضرب به عجز دابة الأشعث ضربةً خفيفة واندفعت الدابة، وصاح به أصحاب الأشعث، فرجع، وغضب للأشعث قومه وناس كثير من أهل اليمن، فمشى إليه الأحنف بن قيس ومسعر بن فدكي وناس من تميم فاعتذروا، فقبل وشكر.
وكتب الكتاب يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين، واتفقوا على أن يوافي أمير المؤمنينعلي موضع الحكمين بدومة الجندل أو بأذرح في شهر رمضان. وقيل لعلي: إن الأشتر لا يقر بما في الصحيفة ولا يرى إلا قتال القوم. فقال علي: وأنا والله ما رضيت ولا أحببت أن ترضوا، فإذا أبيتم إلا أن ترضوا فقد رضيت وإذا رضيت فلا يصلح الرجوع بعد الرضا ولا التبديل بعد الإقرار إلا أن يعصى الله ويتعدى كتابه، فقاتلوا من ترك أمر الله، وأما الذي ذكرتم من تركه أمري وما أنا عليه فليس من أولئك فلست أخاف على ذلك، يا ليت فيكم مثله اثنين! يا ليت فيكم مثله واحداً يرى في عدوي ما أرى إذاً لخفت علي مؤونتكم ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم، وقد نهيتكم فعصيتموني، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
والله لقد فعلتم فعلةً ضعضعت قوةً وأسقطت منةً وأورثت وهناً وذلةً، ولما كنتم الأعلين وخاف عدوكم الاجتياح واستحر بهم القتل ووجدوا ألم الجراح رفعوا المصاحف فدعوكم إلى ما فيها ليفتنوكم عنهم ويقطعوا الحرب ويتربصوا بكم المنون خديعةً ومكيدةً، فأعطيتموهم ما سألوا، وأبيتم إلا أن تدهنوا وتجيروا، وايم الله ما أظنكم بعدها توفقون الرشد ولا تصيبون باب الحزم.
ثم رجع الناس عن صفين، فلما رجع علي خالفت الحرورية وخرجت، كان ذلك أول ما ظهرت وأنكرت تحكيم الرجال، ورجعوا على غير الطريق الذي أقبلوا فيه، أخذوا على طريق البر، وعادوا وهم أعداء متباغضون وقد فشا فيهم التحكيم يقطعون الطريق بالتشاتم والتضارب بالسياط، يقول الخوارج: يا أعداء الله أدهنتم في أمر الله، ويقول الآخرون: فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا.
وساروا حتى جازوا النخيلة ورأوا بيوت الكوفة، فإذا بشيخ في ظل بيت عليه أثر المرض، فسلم عليه أمير المؤمنين، فرد رداً حسناً، فقال له علي: أرى وجهك متغيراً، أمن مرض؟ قال: نعم. قال: لعلك كرهته. قال: ما أحب أنه بغيري. فقال: أليس احتساباً للخير فيما أصابك؟ قال: بلى. قال: فأبشر برحمة ربك وغفران ذنبك، من أنت يا عبد الله؟ قال: صالح ابن سليم. قال: ممن أنت؟ قال: أما الأصل فمن سلامان طيء، وأما الدعوة ولاجوار ففي سليم بن منصور. فقال: سبحان الله ما أحسن اسمك واسم أبيك ومن اعتزيت إليه واسم ادعائك! هل شهدت معنا غزاتنا هذه؟ قال: لا والله ولقد أردتها ولكن ما ترى من أثر الحمى منعني عنها. فقال: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) التوبة: 91 الآية، خبرني ما يقول الناس فيما كان بيننا وبين أهل الشام؟ قال: فيهم المسرور، وهم أغشاء الناس، وفيهم المكبوت الآسف بما كان بينك وبينهم، وأولئك نصحاء الناس لك. قال: صدقت، جعل الله ما كان من شكواك حطاً لسيئاتك، فإن المرض لا أجر فيه ولكن لا يدع على العبد ذنباً إلا حطه، وإنما الأجر في القول باللسان والعمل باليد والرجل، وإن الله، عز وجل، ليدخل بصدق النية والسريرة الصالحة عالماً من عباده الجنة. ثم مضى غير بعيد فلقيه عبد الله بن وديعة الأنصاري فدنا منه وسلم عليه وسايره، فقال له: ما سمعت الناس يقولون إن علياً كان له جمع عظيم ففرقه، وكان له حصن حصين فهدمه، فمتى يبني ما هدم ويجمع ما فرق؟ ولو كان مضى بمن أطاعه إذ عصاه من عصاه فقاتل حتى يظفر أو يهلك كان ذلك الحزم. قال علي: أنا هدمت أم هم هدموا؟ أنا فرقت أم هم فرقوا؟ أما قولهم: لو كان مضى بمن أطاعه فقاتل حتى يظفر أو يهلك، فوالله ما خفي هذا عني، وإن كنت لسخياً بنفسي عن الدنيا طيب النفس بالموت، ولقد هممت بالإقدام على القوم فنظرت إلى هذين قد ابتدراني، يعني الحسن والحسين، ونظرت إلى هذين قد استقدماني، يعني عبد الله بن جعفر ومحمد بن علي، فعلمت أن هذين إن هلكا انقطع نسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من هذه الأمة وكرهت ذلك وأشفقت على هذين أن يهلكا، وأيم الله لئن لقيتهم بعد يومي هذا لألقينهم وليسوا معي في عسكر ولا دار.
ثم مضى وإذا على يمينه قبور سبعة أو ثمانية فقال علي: ما هذه؟ فقيل: يا أمير المؤمنين إن خباب بن الأرت توفي بعد مخرجك وأوصى بأن يدفن في الظهر، وكان الناس إنما يدفنون في دورهم وأفنيتهم، وكان أول من دفن بظاهر الكوفة ودفن الناس إلى جنبه، فقال علي: رحم الله خباباً فلقد أسلم راغباً وهاجر طائعاً وعاش مجاهداً وابتلي في جسمه أحوالاً ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً، ووقف عليها وقال: السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات! أنتم لنا سلفٌ فارط ونحن لكم تبعٌ وبكم عما قليل لاحقون! اللهم اغفر لنا ولهم وتجاوز بعفوك عنا وعنهم! طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب وقنع بالكفاف ورضي عن الله، عز وجل! ثم أقبل حتى حاذى سكة الثوريين فسمع البكاء فقال: ما هذه الأصوات؟ فقيل: البكاء على قتلى صفين. فقال: أما إني أشهد لمن قتل منهم صابراً محتسباً بالشهادة. ثم مر بالفائشيين فسمع مثل ذلك، ثم مر بالشباميين فسمع رجة شديدة فوقف فخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي، فقال له علي: أيغلبكم نساؤكم؟ ألا تنهونهن عن هذا الرنين؟ قال: يا أمير المؤمنين لو كانت داراً أو دارين أو ثلاثاً قدرنا على ذلك، ولكن قتل من هذا الحي ثمانون ومائة قتيل، فليس دار إلا وفيها البكاء، فأما نحن معشر الرجال فإنا لا نبكي ولكنا نفرح بالشهادة. قال علي: رحم الله قتلاكم وموتاكم! فأقبل يمشي معه وعلي راكب، فقال له عليك ارجع، ووقف ثم قال له: ارجع فإن مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلة للمؤمن. ثم مضى حتى مر بالناعطيين وكان جلهم عثمانية، فسمع بعضهم يقول: والله ما صنع علي شيئاً، ذهب ثم انصرف في غير شيء، فلما رأوا أبلسوا، فقال علي لأصحابه: وجوه قوم ما رأوا الشام. ثم قال لأصحابه: قوم فارقناهم آنفاً خير من هؤلاء. ثم قال:
أخوك الذي إن أجرضتك ملمةٌ ... من الدهر لم يبرح لبثك واجما
وليس أخوك بالذي إن تشعبت ... عليك الأمور ظل لحاك لائما
ثم مضى فلم يزل يذكر الله حتى دخل القصر. فلما دخل الكوفة لم يدخل الخوراج معه فأتوا حروراء فنزلوا بها. وقتل أويس القرني بصفين، وقيل: بل مات بدمشق، وقيل: بأرمينية، وقيل: بسجتسان. وفيها قتل جندب ابن زهير الأزدي، وهو من الصحابة، مع علي، وقتل بصفين أيضاً حابس ابن سعد الطائي مع معاوية، وهو خال يزيد بن عدي بن حاتم، فقتل يزيد قاتله غدراً، فأراد عدي إسلامه إلى أولياء المقتول فهرب إلى معاوية. وممن شهد صفين مع علي خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ولم يقاتل، فلما قتل عمار ابن ياسر جرد سيفه وقاتل حتى قتل، وقال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (تقتل عماراً الفئة الباغية)، وقتل مع علي سهيل ابن عمرو بن أبي عمر الأنصاري، وهو بدري. وممن شهد وقتل فيها مع علي من المهاجرين خالد بن الوليد، وله صحبة.
شريح بن هانىء بضم الشين، وآخره حاء مهملة. الهمداني بفتح الهاء، وسكون الميم، وفتح الدال المهملة، نسبة إلى همدان: قبيلة كبيرة من اليمن. حمرة بن مالك بضم الحاء المهملة، وسكون الميم، وآخره راء. حضين بن المنذر بضم الحاء المهملة، وفتح الضاد المعجمة. يريم بفتح الياء تحتها نقطتان، وكسر الراء، وسكون الياء الثانية، وآخره ميم. بديل بن ورقاء بضم الباء الموحدة وفتح الدال المهملة. حازم بن أبي حازم بالحاء المهملة. حبة بن جوين بفتح الحاء المهملة، والباء المشددة الموحدة. والعرني بضم العين المهملة، وفتح الراء، وآخره نون.
ذكر استعمال جعدة بن هبيرة على خراسانوفي هذه السنة بعث علي جعدة بن هبيرة المخزومي إلى خراسان بعد عوده من صفين، فانتهى إلى نيسابور، وقد كفروا وامتنعوا، فرجع إلى علي، فبعث خليد بن قرة اليربوعي، فحاصر أهلها حتى صالحوه وصالحه أهل مرو.
ذكر اعتزال الخوارج علياً ورجوعهم إليه
ولما رجع علي من صفين فارقة الخوارج وأتوا حروراء، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفاً، ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي التميمي، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوا اليشكري، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله، عز وجل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فلما سمع علي ذلك وأصحابه قامت الشيعة فقالوا له: في أعناقنا بيعة ثانية، نحن أوياء من واليت وأعداء من عاديت. فقالت الخوارج: استبقم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان، بايع أهل الشام معاوية على ما أحبوا وكرهوا، وبايعتم أنتم علياً على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى. فقال لهم زياد بن النضر: والله ما بسط علي يده فبايعناه قط والله ما بسط علي يده فبايعناه قط إلا على كتاب الله وسنة نبيه، ولكنكم لما خالفتموه جاءته شيعته فقالوا له: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت، ونحن كذلك، وهو على الحق والهدى ومن خالفه ضال مضل.
وبعث علي عبد الله بن عباس إلى الخوارج وقال: لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتى آتيك. فخرج إليهم فأقبلوا يكلمونه، فلم يصبر حتى راجعهم، فقال: ما نقمتم من الحكمين وقد قال تعالى: (إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما) النساء: 35، فكيف بأمة محمد، صلى الله عليه وسلم؟ فقالت الخوارج: أما ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم في الزاني مائة جلدة، وفي السارق القطع، فليس للعباد أن ينظروا في هذا، قال ابن عباس: فإن الله تعالى يقول: (يحكم به ذوا عدلٍ منكم) المائدة: 95. فقالوا: أو تجعل الحكم في الصيد والحرث وبين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين؟ وقالوا له: أعدلٌ عندك عمرو بن العاص وهو بالأمس يقاتلنا؟ فإن كان عدلاً فلسنا بعدول، وقد حكمتم في أمر الله الرجال، وقد أمضى الله حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يرجعوا، وقد كتبتم بينكم وبينهم كتاباً وجعلتم بينكم الموادعة، وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب مذ نزلت براءة إلا من أقر بالجزية.
وبعث علي زياد بن النضر فقال: أنظر بأي رؤوسهم هم أشد إطافة. فأخبره بأنه لم يرهم عند رجل أكثر منهم عند يزيد بن قيس.
فخرج علي في الناس حتى دخل إليهم، فأتى فسطاط يزيد بن قيس فدخله فصلى فيه ركعتين وأمره على أصبهان والري، ثم خرج حتى انتهى إليهم وهم يخاصمون ابن عباس فقال: ألم أنهك عن كلامهم؟ ثم تكلم فقال: اللهم هذا مقامٌ من يفلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة. ثم قال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكوا. قال: فما أخرجكم علينا؟ قالوا: حكومتك يوم صفين. قال: أنشدكم الله، أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف وقلتم نجيبهم قلت لكم إني أعلم بالقوم منكم أنهم ليسوا باصحاب دين؟ وذكر ما كان قاله لهم، ثم قال لهم: قد اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف، وإن أبيا فنحن عن حكمهما برآء.
قالوا: فخبرنا أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء؟ فقال: إنا لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق إنما يتكلم به الرجال. قالوا: فخبرنا عن الأجل لم جعلته بينكم؟ قال: ليعلم الجاهل ويتثبت العالم، ولعل الله يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة، ادخلوا مصركم رحمكم الله. فدخلوا من عند آخرهم.
قيل: والخوارج يزعمون أنهم قالوا له: صدقت قد كنا كما ذكرت وكان ذلك كفراً منا وقد تبنا إلى الله فتب كما تبنا نبايعك وإلا فنحن مخالفون. فبايعنا علي وقال: ادخلوا فلنمكث ستة أشهر حتى نجبي المال ويسمن الكراع ثم نخرج إلى عدونا. وقد كذب الخوارج فيما زعموا.
ذكر اجتماع الحكمينولما جاء وقت اجتماع الحكمين أرسل علي أربعمائة رجل عليهم شريح ابن هانىء الحارثي وأوصاه أن يقول لعمرو بن العاص: إن علياً يقول لك: إن أفضل الناس عند الله، عز وجل، من كان العمل بالحق أحب إليه وإن نقصه من الباطل وإن زاده. يا عمرو والله إنك لتعلم أين موضع الحق فلم تتجاهل؟ إن أوتيت طمعاً يسيراً كنت لله به ولأوليائه عدواً، وكأن والله ما أوتيت قد زال عنك! ويحك فلا تكن للخائنين خصيماً وللظالمين ظهيراً، أما إني أعلم بيومك الذي أنت فيه نادم، وهو يوم وفاتك، تتمنى أنك لم تظهر لمسلم عداوة ولم تأخذ على حكم رشوة.
فلما بلغه تغير وجهه ثم قال: متى كنت قبل مشورة علي أو أنتهي إلى أمره أو أعتد برأيه؟ فقال له: وما يمنعك يا ابن النابغة أن تقبل من مولاك وسيد المسلمين بعد نبيهم مشورته؟ فقد كان من هو خير منك أبو بكر وعمر يستشيرانه ويعملان برأيه. فقال له: إن مثلي لا يكلم مثلك. قال شريح: بأي أبويك ترغب عني يا ابن النابغة؟ أبأبيك الوسط أم بأمك النابغة؟ فقام عنه.
وأرسل علي أيضاً معهم عبد الله بن عباس ليصلي بهم ويلي أمورهم، ومعهم أبو موسى الأشعري.
وأرسل معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام حتى توافوا من دومة الجندل بأذرح. وكان عمرو إذا أتاه كتاب من معاوية لا يدرى بما جاء فيه ولا يسأله أهل الشام عن شيء؛ وكان أهل العراق يسألون ابن عباس عن كتاب يصله من علي، فإن كتمهم ظنوا به الظنون وقالوا: أتراه كتب بكذا وكذا؟ فقال لهم ابن عباس: أما تعقلون؟ أما ترون رسول معاوية يجيء لا يعلم أحد بما جاء به ولا يسمع لهم صياح، وأنتم عندي كل يوم تظنون في الظنون؟ وحضر معهم ابن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وابن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري وأبو جهم بن حذيفة العدوي والمغيرة بن شعبة.
وكان سعد بن أبي وقاص على ماء لبني سليم بالبادية، فأتاه ابنه عمر فقال له: إن أبا موسى وعمراً قد شهدهما نفرٌ من قريش فاحضر معهم فإنك صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأحد الشورى ولم تدخل في شيء كرهته هذه الأمة وأنت أحق الناس بالخلافة. فلم يفعل، وقيل: بل حضرهم سعد وندم على حضوره فأحرم بعمرة من بيت المقدس.
وقال المغيرة بن شعبة لرجال من قريش: أترون أحداً يستطيع أن يأتي برأي يعلم به أيجتمع الحكمان أم لا؟ فقالوا: لا. فقال: إني أعلمه منهما. فدخل على عمرو بن العاص فقال: كيف ترانا معشر من اعتزل الحب؟ فإنا قد شككنا في الأمر الذي استبان لكم فيها. فقال له عمرو: أراكم خلف البرار أمام الفجار. فانصرف المغيرة إلى أبي موسى فقال له مثل قوله لعمرو. فقال له أبو موسى: أراكم أثبت الناس رأياً، فيكم بقية الناس. فعاد المغيرة إلى أصحابه وقال لهم: لا يجتمع هذان على أمر واحد.
فلما اجتمع الحكمان قال عمرو: يا أبا موسى ألست تعلم أن عثمان قتل مظلوماً؟ قال: أشهد. قال: ألست تعلم أن معاوية وآل معاوية أولياؤه؟ قال: بلى. قال: فما يمنعك منه وبيته في قريش كما قد علمت؟ فإن خفت أن يقول الناس: ليست له سابقة، فقل وجدته ولي عثمان الخليفة المظلوم والطالب بدمه الحسن السياسة والتدبير وهو أخو أم حبيبة زوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكاتبه وقد صحبه وعرض له بسلطان.
فقال أبو موسى: يا عمرو اتق الله! فأما ما ذكرت من شرف معاوية فإن هذا ليس على الشرف تولاه أهله، ولو كان على الشرف لكان لآل أبرهة ابن الصباح، إنما هو لأهل الدين والفضل، مع أني لو كنت معطيه أفضل قريش شرفاً أعطيته علي بن أبي طالب، وأما قولك: إن معاوية ولي دم عثمان فوله هذا الأمر، فلم أكن لأوليه وأدع المهاجرين الأولين، وأما تعريضك لي بالسلطان، فوالله لو خرج معاوية لي من سلطانه كله لما وليته، وما كنت لأرتشي في حكم الله! ولكنك إن شئت أحيينا اسم عمر بن الخطاب، رحمه الله.
قال له عمرو: فما يمنعك من ابني وأنت تعلم فضله وصلاحه؟ فقال: إن ابنك رجل صدق ولكنك قد غمسته في هذه الفتنة. فقال عمرو: إن هذا الأمر لا يصلح إلا لرجل له ضرس يأكل ويطعم؛ وكانت في ابن عمر غفلة؛ فقال له ابن الزبير: أفطن فانتبه! فقال عبد الله بن عمر: والله لا أرشو عليها شيئاً أبداً. وقال: يا ابن العاص إن العرب قد أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعوا بالسيوف فلا تردنهم في فتنة.
وكان عمرو قد عود أبا موسى أن يقدمه في الكلام يقول له: أنت صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأسن مني فتكلم، وتعود ذلك أبو موسى، وأراد عمرو بذلك كله أن يقدمه في خلع علي، فلما أراده عمرو على ابنه وعلى معاوية فأبى وأراد أبو موسى بن عمر فأبى عمرو، قال له عمرو: خبرني ما رأيك؟ قال: أرى أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا. فقال عمرو: الرأي ما رأيت. فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فقال عمرو: يا أبا موسى أعلمهم أن رأينا قد اتفق. فتكلم أبو موسى فقال: إن رأينا قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الأمة. فقال عمرو: صدق وبر، تقدم يا أبا موسى فتكلم. فتقدم أبو موسى، فقال له ابن عباس: ويحك! والله إني لأظنه قد خدعك، إن كنتما اتفقتما على أمر فقدمه فليتكلم به قبلك ثم تكلم به بعده، فإنه رجلٌ غادر ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا بينكما فإذا قمت في الناس خالفك.
وكان أبو موسى مغفلاً فقال: إنا قد اتفقنا، وقال: أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع علياً ومعاوية ويولي الناس أمرهم من أحبوا، وإني قد خلعت علياً ومعاوية فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه أهلاً. ثم تنحى.
وأقبل عمرو فقام وقال: إن هذا قد قال ما سمعتموه وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي ابن عفان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه.
فقال سعد: ما أضعفك يا أبا موسى عن عمرو ومكايده! فقال أبو موسى: فما أصنع؟ وافقني على أمر ثم نزع عنه! فقال ابن عباس: لا ذنب لك يا أبا موسى، الذنب لمن قدمك في هذا المقام. قال: غدر فما أصنع؟ فقال ابن عمر: انظروا إلى ما صار أمر هذه الأمة! صار إلى رجل ما يبالي ما صنع وإلى آخر ضعيف.
وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: لو مات الأشعري قبل هذا اليوم لكان خيراً له.
وقال أبو موسى الأشعري لعمرو: لا وفقك الله، غدرت وفجرت! إنما مثلك (كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) الأعراف: 176. قال عمرو: إنما مثلك (كمثل الحمار يحمل أسفاراً) الجمعة: 5. فحمل شريح بن هانىء على عمرو فضربه بالسوط وحمل ابن لعمرو على شريح فضربه بالسوط أيضاً وحجز الناس بينهم. وكان شريح يقول بعد ذلك: ما ندمت على شيء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ولم أضربه بالسيف.
والتمس أهل الشام أبا موسى فهرب إلى مكة، ثم انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة، ورجع ابن عباس وشريح إلى علي، وكان علي إذا صلى الغداة يقنت فيقول: اللهم العن معاوية وعمراً وأبا الأعور وحبيباً وعبد الرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد! فبلغ ذلك معاوية فكان إذا قنت سب علياً وابن عباس والحسن والحسين والأشتر.
وقد قيل: إن معاوية حضر الحكمين وإنه قام عشيةً في الناس فقال: أما بعد من كان متكلماً في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه. قال ابن عمر: فاطلعت حبوتي فأردت أن أقول يتكلم فيه رجال قاتلوك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق الجماعة ويسفك فيها دم، وكان ما وعد الله فيه الجنان أحب إلي من ذلك، فلما انصرفت إلى المنزل جاءني حبيب بن مسلمة فقال: ما منعك أن تتكلم حين سمعت هذا الرجل يتكلم؟ قلت: أردت ذلك ثم خشيت. فقال حبيب: وفقت وعصمت، وهذا أصح لأنه ورد في الصحيح.
ذكر خبر الخوارج عند توجيه الحكمين وخبر يوم النهرلما أراد علي أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج: زرعة ابن البرج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي فقالا له: لا حكم إلا لله! فقال علي: لا حكم إلا لله. وقال حرقوص بن زهير: تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا. فقال علي: قد أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتاباً وشرطنا شروطاً وأعطينا عليها عهوداً، وقد قال الله تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) النحل: 91. فقال حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب عنه. فقال علي: ما هو ذنب ولكنه عجزٌ عن الرأي وقد نهيتكم. فقال زرعة: يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقاتلنك، اطلب وجه الله تعالى. فقال علي: بؤساً لك ما أشقاك! كأني بك قتيلاً تسفي عليك الرياح! قال: وددت لو كان ذلك. فخرجا من عنده يحكمان.
وخطب علي ذات يوم، فحكمت المحكمة في جوانب المسجد، فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل! إن سكتوا غممناهم، وإن تكلموا حججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم. فوثب يزيد بن عاصم المحاربي فقال: الحمد لله غير مودع ربنا ولا مستغنى عنه! اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية في الدين إدهانٌ في أمر الله وذل راجع بأهله إلى سخط الله، يا علي أبالقتل تخوفنا؟ أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل غير مصفحات، ثم لتعلم أينا أولى بها صلياً. ثم خرج هو وإخوة له ثلاثة فأصيبوا مع الخوارج بالنهر وأصيب أحدهم بعد ذلك بالنخيلة.
ثم خطب علي يوماً آخر فقام رجل فقال: لا حكم إلا لله! ثم توالى عدة رجال يحكمون. فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل! أما إن لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدأونا، وإنما فيكم أمر الله. ثم رجع إلى مكانه من الخطبة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب { متن الدرة المضيئة في السيرة}الدرة المضية

    كتاب { متن الدرة المضيئة في السيرة}الدرة المضية بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي  ----------------- قال الشيخ الإمام الحبر الحافظ أبو...