الجمعة، 20 مايو 2022

مجلد 32. ومجلد 33. من كتاب : الكامل في التاريخ ابن الأثير

مجلد 32 و33.كتاب : الكامل في التاريخ ابن الأثير

لما سار صلاح الدين إلى خلاط جعل طريقه على ميافارقين مطمع ملكها، حيث كان صاحبه قطب الدين، صاحب ماردين، قد توفي كما ذكرنا، وملك بعد ابنه، وهو طفل، وكان حكمها إلى شاه أرمن، وعسكره فيها، فلما توفي طمع في أخذها، فلما نازلها رآها مشحونة بالرجال، وبها زوجة قطب الدين المتوفي، ومعها بنات لها منه، وهي أخت نور الدين محمد، صاحب الحصن، فأقام صلاح الدين عليها يحصرها من أول جمادى الأولى.

 

 
وكان المقدم على أجنادها أميراً اسمه يرنقش، ولقبه أسد الدين، وكان شجاعاً شهماً، يحفظ البلد، فأحسن إليه، واشتد القتال عليه ونصبت المجانيق والعرادات، فلم يصل صلاح الدين إلى ما يريد منها؛ فلما رأى ذلك عدل عن القوة والحرب إلى أعمال الحيلة، فراسل امرأة قطب الدين المقيمة بالبلد يقول لها: إن أسد الدين يرنقش قد مال إلينا في تسليم البلد ونحن نرعى حق أخيك نور الدين فيك بعد وفاته، ونريد أن يكون لك في هذا الأمر نصيب، وأنا أزوج بناتك بأولادي وتكون ميافارقين وغيرها لك وبحكمك؛ ووضع من أرسل إلى أسد يعرفه أن الخاتون قد مالت للمقاربة والانقياد إلى السلطان، وأن من بخلاط قد كاتبوه ليسلموا إليه، فخذ لنفسك.
واتفق أن رسولاً وصله من خلاط، يبذلون له الطاعة، وقالوا له من الاستدعاء إليهم ما كانوا يقولونه، فأمر صلاح الدين الرسول، فدخل إلى ميافارقين، وقال لأسد: أنت عمن تقاتل، وأنا قد جئت في تسليم خلاط إلى صلاح الدين! فسقط في يده، وضعفت نفسه، وأرسل يقترح أقطاعاً ومالاً، فأجيب إلى ذلك، وسمل البلد سلخ جمادى الأولى، وعقد النكاح لبعض أولاده على بعض بنات الخاتون، وأقر بيدها قلعة الهتاخ لتكون فيها هي وبناتها.
ذكر عود صلاح الدين إلى بلد الموصل
والصلح بينه وبين أتابك عز الدينلما فرغ صلاح الدين من أمر ميافارقين، وأحكم قواعدها، وقرر أقطاعها وولاياتها، أجمع على العود إلى الموصل، فسار نحوها، وجعل طريقه على نصيبين، فوصل إلى كفر زمار، والزمان شتاء، فنزلها في عسكره، وعزم على المقام بها وإقطاع جميع بلاد الموصل، وأخذ غلالها ودخلها، وإضعاف الموصل بذلك، إذ علم أنه لا يمكنه التغلب عليها؛ وكان نزوله في شعبان، وأقام بها شعبان ورمضان، وتردد الرسل بينه وبين عز الدين، صاحب الموصل، وصار مجاهد الدين يراسل ويتقرب، وكن قوله مقبولاً عند سائر الملوك لما علموا من صحته.
فبينما الرسل تتردد في الصلح، إذ مرض صلاح الدين، وسار من كفر زمار عائداً إلى حران، فلحقه الرسل بالإجابة إلى ما طلب، فتقرر الصلح، وحلف على ذلك، وكاتب القاعدة أن يسلم إليه عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية القرابلي، وجميع ما وراء الزاب من الأعمال، وأن يخطب له على منابر بلاده، ويضرب اسمه على السكة، فلما حلف أرسل رسله فحلف عز الدين له، وتسلموا البلاد التي استقرت القاعدة على تسليمها.
ووصل صلاح الدين إلى حران، فأقام بها مريضاً، وأمنت الدنيا، وسكنت الدهماء، وانحسمت مادة الفتن، وكان ذلك بتوصل مجاهد الدين قايماز، رحمه الله.
وأما صلاح الدين فإنه طال مرضه بحران، وكان عنده من أهله أخوه الملك العادل، وله حينئذ حلب، وولده الملك العزيز عثمان، واشتد مرضه حتى أيسوا من عافيته، فحلف الناس لأولاده، وجعل لكل منهم شيئاً من البلاد معلوماً، وجعل أخاه العادل وصياً على الجميع، ثم إنه عوفي وعاد إلى دمشق في المحرم سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.
ولما كان مريضاً بحران كان عنده ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه، وله من الأقطاع حمص والرحبة، فسار من عنده إلى حمص، فاجتاز بحلب وأحضر جماعة من أحداثها وأعطاهم مالاً، ولما وصل إلى حمص راسل جماعة من الدمشقيين وواعدهم على تسليمهم البلد إليه إذا مات صلاح الدين، وأقام بحمص ينتظر موته ليسير إلى دمشق فيملكها، فعوفي وبلغه الخبر على جهته، فلم يمض غير قليل حتى مات ابن شيركوه ليلة عيد الأضحى فإنه شرب الخمر وأكثر منها، فأصبح ميتاً، فذكروا، والعهدة عليهم، أن صلاح الدين وضع عليه إنساناً يقال له الناصح بن العميد، وهو من دمشق، فحضر عنده، ونادمه وسقاه سماً، فلما أصبحوا من الغد لم يروا الناصح، فسألوا عنه، فقيل: إنه سار من ليلته إلى صلاح الدين؛ فكان هذا مما قوى الظن. فلما توفي أعطى أقطاعه لولده شيركوه، وعمره اثنتا عشرة سنة. وخلف ناصر الدين من الأموال والخيل والآلات شيئاً كثيراً، فحضر صلاح الدين في حمص واستعرض تركته، وأخذ أكثرها ولم يترك إلا ما لا خير فيه.
وبلغني أن شيركوه بن ناصر الدين حضر عند صلاح الدين، بعد موت أبيه بسنة، فقال له: إلى أين بلغت من القرآن؟ فقال: إلى قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً) النساء 10، فعجب صلاح الدين والحاضرون من ذكائه.
ذكر الفتنة بين التركمان والأكراد
بديار الجزيرة والموصلفي هذه السنة ابتدأت الفتنة بين التركمان والأكراد بديار الجزيرة والموصل وديار بكر وخلاط والشام وشهرزور وأذربيجان، وقتل فيها من الخلق ما لا يحصى، ودامت عدة سنين، وتقطعت الطرق، ونهبت الأموال، وأريقت الدماء.
وكان سببها أن امرأة من التركمان تزوجت بإنسان تركماني، واجتازوا في طريقهم بقلعة من الزوزان للأكراد، فجاء أهلها وطلبوا من التركمان وليمة العرس، فامتنعوا من ذلك، وجرى بينهم كلام صاروا منه إلى القتال، فنزل صاحب تلك القلعة فأخذ الزوج فقتله، فهاجت الفتنة، وقام التركمان على ساق، وقتلوا جمعاً كثيراً من الأكراد، وثار الأكراد فقتلوا من التركمان أيضاً كذلك، وتفاقم الشر ودام.
ثم إن مجاهد الدين قايماز، رحمه الله، جمع عنده جمعاً من رؤساء الأكراد والتركمان، وأصلح بينهم، وأعطاهم الخلع والثياب وغيرها، وأخرج عليهم مالاً جماً، فانقطعت الفتنة وكفى الله شرها، وعاد الناس إلى ما كانوا عليه من الطمأنينة والأمان.
ذكر ملك الملثمين والعرب إفريقية وعودها إلى الموحدينقد ذكرنا سنة ثمانين ملك علي بن إسحق الملثم بجاية، وإرسال يعقوب ابن يوسف بن عبد المؤمن، صاحب المغرب، العساكر واستعادتها، فسار علي إلى إفريقية، فلما وصل إليها اجتمع سليم ورباح ومن هناك من العرب، وانضاف إليهم الترك الذين كانوا قد دخلوا من مصر مع قراقوش، وقد تقدم ذكر وصوله إليها، ودخل أيضاً من أتراك مصر مملوك لتقي الدين ابن أخي صلاح الدين، اسمه بوزابة، فكثر جمعهم، وقويت شوكتهم، فلما اجتمعوا بلغت عدتهم مبلغاً كثيراً، وكلهم كاره لدولة الموحدين، واتبعوا جميعهم علي ابن إسحاق الملثم، لأنه من بيت المملكة والرياسة القديمة، وانقادوا إليه، ولقبوه بأمير المسلمين، وقصدوا بلاد إفريقية فملكوها جميعها شرقاً وغرباً إلا مدينتي تونس والمهدية، فإن الموحدين أقاموا بهما، وحفظوهما على خوف وضيق شدة، وانضاف إلى المفسد الملثم كل مفسد في تلك الأرض، ومن يريد الفتنة والنهب والفساد والشر، فخربوا البلاد والحصون والقرى، وهتكوا الحزم، وقطعوا الأشجار.
وكان الوالي على إفريقية حينئذ عبد الواحد بن عبد الله الهنتاتي وهو بمدينة تونس، فأرسل إلى ملك المغرب يعقوب وهو بمراكش يعلمه الحال، وقصد اللثم جزيرة باشرا، وهي بقرب تونس، تشتمل على قرى كثيرة، فنازلها وأحاط بها، فطلب أهلا منه الأمان، فأمنهم، فلما دخلها العسكر نهبوا جميع ما فيها من الأموال والدواب والغلات، وسلبوا الناس حتى أخذوا ثيابهم، وامتدت الأيدي إلى النساء والصبيان، وتركوهم هلكى، فقصدوا مدينة تونس، فأما الأقوياء فكانوا يخدمون ويعملون ما يقوم بقوتهم، وأما الضعفاء فكانوا يستعطون ويسألون الناس؛ ودخل عليهم فصل الشتاء، فأهلكهم البرد ووقع فيهم الوباء، فأحصي الموتى منهم فكانوا اثنتي عشر ألفاً، هذا من موضع واحد، فما الظن بالباقي؟.
ولما استولى الملثم على إفريقية قطع خطبة أولاد عبد المؤمن وخطب للإمام الناصر لدين الله الخليفة العباسي، وأرسل إليه يطلب الخلع والأعلام السود. وقصد في سنة اثنتين وثمانين مدينة قفصة فحصرها، فأخرج أهلها الموحدين من عساكر ولد عبد المؤمن وسلموها إلى الملثم، فرتب فيها جنداً من الملثمين والأتراك، وحصنها بالرجال مع حصانتها في البناء.
وأما يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن فإنه لما وصله الخبر اختار من عساكره عشرين ألف فارس من الموحدين، وقصد قلة العسكر لقلة القوت في البلاد، ولما جرى فيها من التخريب والأذى، وسار في صفر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فوصل إلى مدينة تونس، وأرسل ستة آلاف فارس مع ابن أخيه، فساروا إلى علي بن إسحق الملثم ليقاتلوه، وكان بقفصة، فوافوه، وكان مع الموحدين جماعة من الترك، فخامروا عليهم، فانهزم الموحدون، وقتل جماعة من مقدميهم، وكان ذلك في ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين.
فلما بلغ يعقوب الخبر أقام بمدينة تونس إلى نصف رجب من السنة، ثم خرج فيمن معه من العساكر يطلب الملثم والأتراك، فوصل إليهم، فالتقوا بالقرب من مدينة قابس، واقتتلوا، فانهزم الملثم ومن معه، فأكثر الموحدون القتل حتى كادوا يفنونهم، فلم ينج منهم إلا القليل فقصدوا البر، ورجع يعقوب من يومه إلى قابس ففتحها وأخذ منها أهل قراقوش وأولاده وحملهم إلى مراكش، وتوجه إلى مدينة قفصة فحصرها ثلاثة أشهر، وقطع أشجارها، وخرب ما حولها، فأرسل إليه الترك الذين فيها يطلبون الأمان لأنفسهم ولأهل البلد، فأجابهم إلى ذلك، وخرج الأتراك منها سالمين، وسير الأتراك إلى الثغور لما رأى من شجاعتهم ونكايتهم في العدو، وتسلم يعقوب البلد وقتل من فيه من الملثمين، وهدم أسواره، وترك المدينة مثل قرية، وظهر ما أنذر به المهدي بن تومرت، فإنه قال إنها تخرب أسوارها وتقطع أشجارها، وقد تقدم ذلك ذلك؛ فلما فرغ يعقوب من أمر قفصة واستقامت إفريقية عاد إلى مراكش، وكان وصوله إليها سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة فارق الرضي أبو الخير إسماعيل القزويني الفقيه الشافعي بغداد، وكان مدرس النظامية بها، وعاد إلى قزوين، ودرس فيها بعده الشيخ أبو طالب المبارك صاحب ابن الخل، وكان من العلماء الصالحين.
وفيها كان بني أهل الكرخ ببغداد وبين أهل باب البصرة فتنة عظيمة جرح فيها كثير منهم وقتل، ثم أصلح النقيب الظاهر بينهم.
وفيها توفي الفقيه مهذب الدين عبد الله بن أسعد الموصلي، وكان عالماً بمذهب الشافعي، وله نظم حسن ونثر أجاد فهي، وكان من محاسن الدنيا، وكانت وفاته بحمص.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة
ذكر نقل العادل من حلب
والملك العزيز إلى مصر وإخراج الأفضل من مصر إلى دمشق وإقطاعه إياهافي هذه السنة أخرج صلاح الدين ولده الأفضل علياً من مصر إلى دمشق، وأقطعها له، وأخذ حلب من أخيه العادل، وسيره مع ولده العزيز عثمان إلى مصر، وجعل نائباً عنه، واستدعي تقي الدين منها.
وسبب ذلك أنه كان قد استناب تقي الدين بمصر، كما ذكرناه، وجعل معه ولده الأكبر الأفضل علياً، فأرسل تقي الدين يشكو من الأفضل، ويذكر أنه قد عجز عن جباية الخراج معه لأنه كان حليماً كريماً إذا أراد تقي الدين معاقبة أحد منعه؛ فأحضر ولده الأفضل، وقال لتقي الدين: لا تحتج في الخراج وغيره بحجة؛ وتغير عليه بذلك، وظن أنه يريد إخراج ولده الأفضل لينفرد بمصر حتى يملكها إذا مات صلاح الدين، فلما قوي هذا الخاطر عنده أحضر أخاه العادل من حلب وسيره إلى مصر ومعه ولده العزيز عثمان، واستدعى تقي الدين إلى الشام، فامتنع من الحضور، وجمع الأجناد والعساكر ليسير إلى المغرب، إلى مملوكه قراقوش، وكان قد استولى على جبال نفوسة وبرقة وغيرها، وقد كتب إليه يرغبه في تلك البلاد، فتجهز للمسير إليه، واستصحب معه أنجاد العسكر وأكثر منهم.
فلم سمع ذلك صلاح الدين ساءه، وعلم أنه إن أرسل إليه يمنعه لم يجبه، فأرسل إليه يقول له: أريد أن تحضر عندي لأودعك، وأوصيك بما تفعله؛ فلما حضر عنده منعه، وزاد في إقطاعه، فصار إقطاعه عندي لأودعك، وأوصيك بما تفعله؛ فلما حضر عنده منعه، وزاد في إقطاعه، فصار إقطاعه حماة، ومنبج، والمعزة، وكفر طاب، وميافارقين، وجبل جور، بجميع أعمالها، وكان تقي الدين قد سير في مقدمته مملوكه بوزابة، فاتصل بقراقوش، وكان منهم ما ذكرناه سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.
وقد بلغني من خبير بأحوال صلاح الدين أنه إنما حمله على أخذ حلب من العادل وإعادة تقي الدين إلى الشام، أن صلاح الدين لما مرض بحران، على ما ذكرناه، أرجف بمصر أنه قد مات، فجرى من تقي الدين حركات من يريد أن يستبد بالملك، فلما عوفي صلاح الدين بلغه ذلك، فأرسل الفقيه عيس الهكاري، وكان كبير القدر عنده، مطاعاً في الجند، إلى مصر، وأمره بإخراج تقي الدين والمقام بمصر؛ فسار مجداً، فلم يشعر تقي الدين إلا وقد دخل الفقيه عيس إلى داره بالقاهرة، وأرسل إليه يأمره بالخروج منا، فطلب أن يمهل إلى أن يتجهز، فلم يفعلن وقال: تقيم خارج المدينة وتتجهز. فخرج وأظهر أنه يريد الدخول إلى الغرب، فقال له: اذهب حيث شئت؛ فلما سمع صلاح الدين الخبر أرسل إليه يطلبه، فسار إلى الشام، فأحسن إليه ولم يظهر له شيئاً مما كان لأنه كان حليماً، كريماً، صبوراً، رحمه الله.
وأما أخذ حلب من العادل، فإن السبب فيه أنه كان من جملة جندها أمير كبير اسمه سليمان بن جندر، بينه وبين صلاح الدين صحبة قدية، قبل الملك، وكان صلاح الدين يعتمد عليه، وكان عاقلاً ذا مكر ودهاء، فاتفق أن الملك العادل لما كان بحلب مل يفعل معه ما كان يظنه، وقدم غيره عليه، فتأثر بذلك.
فلما مرض صلاح الدين، وعوفي، سار إلى الشام، فسايره يوماً سليمان ابن جندر، فجرى حديث مرضه، فقال له سليمان: بأي رأي كنت تظن أنك تمضي إلى الصيد فلا يخالفونك؟ بالله ما تستحي يكون الطائر أهدى منك إلى المصلحة؟ قال: وكيف ذلك؟ وهو بضحك، قال: إذا أراد الطائر أن يعمل عشاً لفراخه قصد أعالي الشجر ليحمي فراخه، وأنت، سلمت الحصون إلى أهلك، وجعلت أولادك على الأرض. هذه حلب بيد أخيك، وحماه بيد تقي الدين، وحصن بيد ابن شيركوه، وابنك العزيز مع تقي الدين بمصر يخرجه أي وقت أراد، وهذا ابنك الآخر مع أخيك في خيمه يفعل به ما أراد. فقال له: صدقت، واكتم هذا الأمر؛ ثم أخذ حلب من أخيه، وأخرج تقي الدين من مصر، ثم أعطى أخاه العادل حران والرها وميافارقين ليخرجه من الشام ومصر، لتبقى لأولاده، فلم ينفعه ما فعل لما أراد الله تعالى نقل الملك عن أولاده على ما نذكر.
ذكر وفاة البهلوان وملك أخيه قزلفي هذه السنة، في أولها، توفي البهلوان محمد بن إيلدكز، صاحب بلد الجبل والري وأصفهان وأذربيجان وأرانية وغيرها من البلاد، وكان عادلاً، حسن السيرة، عاقلاً، حليماً، ذا سياسة حسنة للملك، وكانت تلك البلاد في أيامه آمنة والرعايا مطمئنة، فلما مات جرى بأصفهان بين الشافعية والحنفية من الحروب والقتل والإحراق والنهب ما يجل عن الوصف، وكان قاضي البلد رأس الحنفية، وابن الخجندي رأس الشافعية، وكان بمدينة الري أيضاً فتنة عظيمة بني السنة والشيعة، وتفرق أهلها وقتل منهم، وخربت المدينة وغيرها من البلاد.
ولما مات البهلوان ملك أخوه قزل أرسلان واسمه عثمان، وكان السلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه مع البهلوان، والخطبة له في البلاد بالسلطنة، وليس له من الأمر شيء، وإنما البلاد والأمراء والأموال بحكم البهلوان، فلما مات البهلوان خرج طغرل عن حكم قزل، ولحق به جماعة من الأمراء والجند، فاستولى على بعض البلاد، وجرت بينه وبين قزل حروب نذكرها إن شاء الله تعالى.
ذكر اختلاف الفرنج بالشام
وإنحياز القمص صاحب طرابلس إلى صلاحكان القمص، صاحب طرابلس، واسمه ريمند بن ريمند الصنجيلي، قد تزوج بالقومصة، صاحبة طبرية، وانتقل إليها، وأقام عندها بطبرية، ومات ملك الفرنج بالشام، وكان مجذوماً، وأوصى بالملك إلى ابن أخت له، وكان صغيراً، فكفه القمص، وقام بسياسة الملك وتدبيره لأنه لم يكن للفرنج ذلك الوقت أكبر من شأناً، ولا أشجع ولا أجود رأياً منه، فطمع في الملك بسبب هذا الصغير؛ فاتفق أن الصغير توفي، فانتقل الملك إلى أمه، فبطل ما كان القمص يحدث نفسه به.
ثم إن هذه الملكة هويت رجلاً من الفرنج الذين قدموا الشام من الغرب اسمه كي، فتزوجته، ونقلت الملك إليه، وجعلت التاج على رأسه، وأحضرت البطريك والقسوس والرهبان والإسبتارية والدواية والبارونية، وأعلمتهم أنها قد ردت الملك إليه، وأشهدتهم عليها بذلك، فأطاعوه، ودانوا له، فعظم ذلك على القمص، وسقط في يديه، طولب بحساب ما جبى من الأموال مدة ولاية ذلك الصبي، فأدعى أنه أنفقه عليه، وزاده ذلك نفوراً، وجاهر بالمشاقة والمباينة، وراسل صلاح الدين، وانتمى إليه، واعتضد به، وطلب منه المساعدة على بلوغ غرضه من الفرنج، ففرح صلاح الدين والمسلمون بذلك، ووعده النصرة، والسعي له في كل ما يريده، وضمن له أنه يجعله ملكاً مستقلاً للفرنج قاطبة، وكان عنده جماعة من فرسان القمص أسرى فأطلقهم، فحل ذلك عنده أعظم محل، وأظهر طاعة صلاح الدين، ووافقه على ما فعل جماعة من الفرنج، فاختلفت كلمتهم وتفرق شملهم، وكان ذلك من أعظم الأسباب الموجبة لفتح بلادهم، واستنفاذ البيت المقدس منهم، على ما نذكره إن شاء الله.
وسير صلاح الدين السرايا من ناحية طبرية، فشنت الغارات على بلاد الفرنج، وخرجت سالمة غانمة، فوهن الفرنج بذلك، وضعفوا وتجرأ المسلمون عليهم وطمعوا فيهم.
ذكر غدر البرنس أرناطكان البرنس أرناط، صاحب الكرك، من أعظم الفرنج وأخبثهم، وأشدهم عداوة للمسلمين، وأعظمهم ضرراً عليهم، فلما رأى صلاح الدين ذلك منه قصد بالحصر مرة بعد مرة، وبالغارة على بلاده كرة بعد أخرى، فذل، وخضع، وطلب الصلح من صلاح الدين، فأجابه إلى ذلك، وهادنه وتحالفا، وترددت القوافل من الشام إلى مصر، ومن مصر إلى الشام.
فلا كان هذه السنة اجتاز به قافلة عظيمة غزيرة الأموال، كثيرة الرجال، ومعها جماعة صالحة من الأجناد، فغدر اللعين بهم، وأخذهم عن آخرهم، وغنم أموالهم ودوابهم وسلاحهم، وأودع السجون من أسره منهم؛ فأرسل إليه صلاح الدين يلومه، ويقبح فعله وغدره، ويتهدده إن لم يطلب الأسى والأموال، فلم يجب إلى ذلك، وأصر على الامتناع، فنذر صلاح الدين نذراً أن يقتله إن ظفر به، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثكان المنجون قديماً وحديثاً قد حكموا أن هذه السنة التاسع والعشرين من جمادى الآخرة تجتمع الكواكب الخمسة في برج الميزان، ويحدث باقترانها رياح شديدة، وتراب يهلك العباد ويخرب البلاد، فلما دخلت هذه السنة لم يكن لذلك صحة، ولم يهب من الرياح شيء البتة، حتى إن غلال الحنطة والشعير تأخر نجازها لعدم الهواء الذي يذري به الفلاحون، فأكذب الله أحدوثة المنجمين وأخزاهم.
وفيها توفي عبد الله بن بري بن عبد الجبار بن بري النحوي المصري، وكان إماماً في النحو، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائةاتفق أول هذه السنة يوم السبت، وهو يوم النوروز السلطاني، ورابع عشر آذار سنة ألف وأربع مائة وثمان وتسعين إسكندرية؛ وكان القمر والشمس في الحمل، واتفق أول سنة العرب، وأول سنة الفرس التي جددوها أخيراً، وأول سنة الروم، والشمس والقمر في أول البروج، وهذا يبعد وقوع مثله.
ذكر حصر صلاح الدين الكرك
في هذه السنة كتب صلاح الدين إلى جميع البلاد يستنفر الناس للجهاد، وكتب إلى الموصل وديار الجزيرة وإربل وغيرها من بلاد الشرق، وإلى مصر وسائر بلاد الشام، يدعوهم إلى الجهاد، ويحثهم عليه، ويأمرهم بالتجهز له بغاية الإمكان. ثم خرج من دمشق، أواخر المحرم، في عسكرها الخاص فسار إلى رأس الماء، وتلاحقت به العساكر الشامية، فلما اجتمعوا جعل عليهم ولده الملك الأفضل علياً ليجتمع إليه من يرد إليه منها، وسار هو إلى بصرى، جريدة.
وكان سبب مسيره وقصده إليها أنه أتته الأخبار أن البرنس أرناط، صاحب الكرك، يريد أن يقصد الحجاج ليأخذهم من طريقهم، وأظهر أنه إذا فرغ من أخذ الحجاج يرجع إلى طريق العسكر المصري يصدهم عن الوصول إلى صلاح الدين، فسار إلى بصرى ليمنع البرنس أرناط من طلب الحجاج، ويلزم بلده خوفاً عليه.
وكان من الحجاج جماعة من أقاربه منهم محمد بن لاجين، وهو ابن أخت صلاح الدين، وغيره، فلما سمع أرناط بقرب صلاح الدين من بلده لم يفارقه، وانقطع عما طمع فيه، فوصل الحجاج سالمين؛ فلما وصلوا وفرغ سره من جهتهم سار إلى الكرك فحصره وضيق عليه الكرك والشوبك وغيرهما، فنهبوا وخربوا وأحرقوا، والبرنس محصور لا يقدر على المنع عن بلده، وسائر الفرنج قد لزموا طرف بلادهم، خوفاً من العسكر الذي مع ولده الأفضل، فتمكن من الحصر والنهب والتحريق والتخريب، هذا فعل صلاح الدين.
ذكر الغارة على بلد عكاأرسل صلاح الدين إلى ولده الأفضل يأمره أن يرسل قطعة صالحة من الجيش إلى بلد عكا ينهبونه ويخربونه، فسير مظفر الدين كوكبري بن زين، وهو صاحب حران والرها، وأضاف إليه قايماز النجمي ودلدرم اليارقي، وهما من أكابر الأمراء، وغيرهما، فساروا ليلاً، وصبحوا صفورية أواخر صفر، فخرج إليهم الفرنج في جمع من الدواية والاسبتارية وغيرهما، فالتقوا هناك، وجرت بينهم حرب تشيب لها المفارق السود.
ثم أنزل الله تعالى نصره على المسلمين، فانهزم الفرنج، وقتل منهم جماعة، وأسر الباقون، وفيمن قتل مقدم الاسبتارية، وكان من فرسان الفرنج المشهورين، وله النكايات العظيمة في المسلمين، ونهب المسلمون ما جاورهم من البلاد، وغنموا وسبوا، وعادوا سالمين، وكان عودهم على طبرية، وبها القمص، فلم ينكر ذلك، فكان فتحاً كثيراً، فإن الداوية والاسبتارية هم جمرة الفرنج، وسيرت البشائر إلى البلاد بذلك.
ذكر عود صلاح الدين إلى عسكره
ودخوله إلى الفرنجلما أتت صلاح الدين البشارة بهزيمة الاسبتارية والدواية، وقتل من قتل منهم، وأسر من أسر، عاد عن الكرك إلى العسكر الذي مع ولده الملك الأفضل، وقد تلاحقت سائر الأمداد والعساكر، واجتمع بهم، وساروا جميعاً، وعرض العسكر، فبلغت عدتهم اثني عشر ألف فارس ممن له الأقطاع والجامكية، وسوى المتطوعة، فعبا عسكره قلباً وجناحين، وميمنة وميسرة، وجالشية وساقة، وعرف كل منهم موضعه وموقفه، وأمره بملازمته، وسار على تعبئة، فنزل بالأقحوانة بقرب طبرية، وكان القمص قد انتمى إلى صلاح الدين، كما ذكرنا، وكبه متصلة إليه يعده النصرة، ويمنيه المعاضدة، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً.
فلما رأى الفرنج اجتماع العساكر الإسلامية، وتصميم العزم على قصد بلادهم، أرسلوا إلى القمص البطرك والقوس والرهبان، وكثيراً من الفرسان، فأنكروا عليه انتماءه إلى صلاح الدين، و قالوا له: لا شك أنك أسلمت، و إلا لم تصبر على ما فعل المسلمون أمس بالفرنج، يقتلون الداوية والاسبتارية، ويأسرونهم، ويجتازون بهم عليك، وأنت لا تنكر ذلك ولا تمنع عنه؛ ووافقهم على ذلك من عنده من عسكر طبرية وطرابلس، وتهدده البطرك أنه يحرمه، ويفسخ نكاح زوجته، إلى غير ذلك من التهديد؛ فلما رأى القمص شدة الأمر عليه خاف، فاعتذر وتنصل وتاب، فقبلوا عذره، وغفروا زلته، وطلبوا منه الموافقة على المسلمين، والمؤازرة على حفظ بلادهم، فأجابهم إلى المصالحة والانضمام إليهم، والاجتماع معهم، وسار معهم إلى ملك الفرنج، واجتمعت كلمتهم بعد فرقتهم، ولم تغن عنهم من الله شيئاً، وجمعوا فارسهم وراجلهم، ثم ساروا من عكا إلى صفورية، وهم يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى، قد ملئت قلوبهم رعباً.
ذكر فتح صلاح الدين طبرية
لما اجتمع الفرنج وساروا إلى صفورية، جمع صلاح الدين أمراءه ووزراءه واستشارهم، فأشار أكثرهم عليه بترك اللقاء، وأن يضعف الفرنج بشن الغارات، وإخراب الولايات ومرة بعد مرة، فقال له بعض أمرائه: الرأي عندي أننا نجوس بلادهم، وننهب، ونخرب، ونحرق، ونسبي، فإن وقف أحد من عسكر الفرنج بن أيدينا لقيناه، فإن الناس بالمشرق يلعنوننا ويقولون ترك قتال الكفار، وأقبل يريد قتال المسلمين؛ والرأي أن نفعل فعلاً نعذر فيه ونكف الألسنة عنا؛ فقال صلاح الدين: الرأي عندي أن نلقي بجمع المسلمين جمع الكفار، فإن الأمور لا تجري بحكم الإنسان، ولا نعلم قدر الباقي من أعمارنا، ولا ينبغي أن نفرق هذا الجمع إلا بعد الجد بالجهاد.
ثم رحل من الأقحوانة، اليوم الخامس من نزوله بها، وهو يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر، فسار حتى خلف طبرية وراء ظهره، وصعد جبلها، وتقدم حتى قارب الفرنج، فلم ير الفرنج من يمنعهم من القتال، ونزل جريدة إلى طبرية وقاتلهم، ونقب بعض أبراجها، وأخذ المدينة عنوة في ليلة، ولجأ من بها إلى القلعة التي لها، فامتنعوا بها، وفيها صاحبتها، ومعها أولادها، فنهب المدينة وأحرقها.
فلما سمع الفرنج نزول صلاح الدين إلى طبرية وملكه المدينة، وأخذ ما فيها، وإحراقها، وإحراق ما تخلف مما لا يحمل، اجتمعوا للمشورة، فأشار بعضهم بالتقدم إلى المسلمين وقتالهم، ومنعهم عن طبرية، فقال القمص: إن طبرية لي ولزوجتي، وقد فعل صلاح الدين بالمدينة ما فعل، وبقي القلعة، وفيها زوجتي، وقد رضيت أن يأخذ القلعة وزوجتي وما لنا بها ويعود، فوالله لقد رأيت عساكر الإسلام قديماً وحديثاً ما رأيت مثل هذا العسكر الذي مع صلاح الدين كثرة وقوة، وإذا أخذ طبرية لا يمكنه المقام بها، فمتى فارقها وعاد عنها أخذناها، وإن أقام بها لا يقدر على المقام بها إلا بجميع عساكره، ولا يقدرون على الصبر طول الزمان عن أوطانهم وأهليهم، فيضطر إلى تركها، ونفتك من أسر منا.
فقال له برنس أرناط، صاحب الكرك: قد أطلت في التخويف من المسلمين، ولا شك أنك تريدهم، وتميل إليهم، وإلا ما كنت تقول هذا، وأما قولك: إنهم كثيرون، فإن النار لا يضرها كثرة الحطب.
فقال: أنا واحد منكم إن تقدمتم تقدمت، وإن تأخرتم تأخرت، وسترون ما يكون.
فقوي عزمهم على التقدم إلى المسلمين وقتالهم، فرحلوا من معسكرهم الذي لزموه، وقربوا من عساكر الإسلام؛ فلما سمع صلاح الدين بذلك عاد عن طبرية إلى عسكره، وكان قريباً منه، وإنما كان قصده بمحاصرة طبرية أن يفارق الفرنج مكانهم لتمكن من قتالهم. وكان المسلمون قد نزلوا على الماء، والزمان قيظ شديد الحر، فوجد الفرنج العطش، ولم يتمكنوا من الوصول إلى ذلك الماء من المسلمين، وكانوا قد أفنوا ما هناك من ماء الصهاريج ولم يتمكنوا من الرجوع خوفاً من المسلمين، فبقوا على حالهم إلى الغد، وهو يوم السبت، وقد أخذ العطش منهم.
وأما المسلمون فإنهم طمعوا فيهم، وكانوا من قبل يخافونهم، فباتوا يحرض بعضهم بعضاً، وقد وجدوا ريح النصر والظفر، وكلما رأوا حال الفرنج خلاف عادتهم مما ركبهم من الخذلان، زاد طمعهم وجرأتهم، فأكثروا التكبير والتهليل طول ليلتهم، ورتب السلطان تلك الليلة الجاليشية، وفرق فيهم النشاب.
ذكر انهزام الفرنج بحطينأصبح صلاح الدين والمسلمون يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر، فركبوا وتقدموا إلى الفرنج، فركب الفرنج، ودنا بعضهم من بعض، إلا أن الفرنج قد اشتد بهم العطش وانخذلوا، فاقتتلوا، واشتد القتال، وصبر الفريقان، ورمى جاليشية المسلمين من النشاب ما كان كالجراد المنتشر، فقتلوا من خيول الفرنج كثيراً. هذا القتال بينهم، والفرنج قد جمعوا نفوسهم براجلهم وهم يقاتلون سائرين نحو طبرية، لعلهم يردون الماء.
فلما علم صلاح الدين مقصدهم صدهم عن مرادهم، ووقف بالعسكر في وجوههم، وطاف بنفسه على المسلمين يحرضهم، ويأمرهم بما يصلحهم، وينهاهم عما يضرهم، والناس يأتمرون لقوله، ويقفون عند نهيه، فحمل مملوك من مماليكه الصبيان حملة منكرة على صف الفرنج، فقاتل قتالاً عجب منه الناس، ثم تكاثر الفرنج عليه فقتلوه، فحين قتل حمل المسلمون حملة منكرة فضعضعوا الكفار وقتلوا منهم كثيراً. فلما رأى القمص شدة الأمر علم أنهم لا طاقة لهم بالمسلمين، فاتفق هو وجماعته وحملوا على من يليهم وكان المقدم من المسلمين، في تلك الناحية، تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين، فلما رأى حملة الفرنج حملة مكروب، علم أنه لا سبيل إلى الوقوف في وجوههم، فأمر أصحابه أن يفتحوا لهم طريقاً يخرجون منه، ففعلوا، فخرج القمص وأصحابه ثم التأم الصف.
وكان بعض المتطوعة من المسلمين قد ألقى في تلك الأرض ناراً، وكان الحشيش كثيراً فاحترق، وكانت الريح على الفرنج، فحملت حر النار والدخان إليهم، فاجتمع عليهم العطش وحر الزمان وحر النار، والدخان، وحر القتال، فلما انهزم القمص سقط في أيديهم وكادوا يستسلمون، ثم علموا أنهم لا ينجيهم من الموت إلا الإقدام عليه، فحملوا حملات متداركة كادوا يزيلون بها المسلمين، على كثرتهم، عن مواقفهم لولا لطف الله بهم، إلا أن الفرنج لا يحملون حملة فيرجعون إلا وقد قتل منهم، فوهنوا لذلك وهناً عظيماً، فأحاط بهم المسلمون إحاطة الدائرة بقطرها، فارتفع من بقي من الفرنج إلى تل بناحية حطين، وأرادوا أن ينصبوا خيامهم، ويجموا نفوسهم به، فاشتد القتال لعيهم من سائر الجهات، ومنعوهم عما أرادوا، ولم يتمكنوا من نصب خيمة غير خيمة ملكهم، وأخذ المسلمون صليبهم الأعظم الذي يسمونه صليب الصلبوت، ويذكرون أن فيه قطعة من الخشبة التي صلب عليها المسيح، عليه السلام، بزعمهم، فكان أخذه عندهم من أعظم المصائب عليهم، وأيقنوا بعده بالقتل والهلاك، هذا والقتل والأسر يعملان في فرسانهم ورجالتهم، فبقي الملك على التل في مقدار مائة وخمسين فارساً من الفرسان المشهورين والشجعان المذكورين.
فحكي لي عن الملك الأفضل، ولد صلاح الدين، قال: كنت إلى جانب أبي في ذلك الصاف، وهو أول مصاف شاهدته، فلما صار ملك الفرنج على التل في تلك الجماعة حملوا حملة منكرة على من بإزائهم من المسلمين حتى ألحقوهم بوالدي. قال: فنظرت إليه، وقد علته كآبة، وأربد لونه، وأمسك بلحيته، وتقدم، وهو يصيح: كذب الشيطان. قال: فعاد المسلمون على الفرنج، فرجعوا فصعدوا إلى التل، فلما رأيت الفرنج قد عادوا، والمسلمون يتبعونهم، صحت من فرحي: هزمناهم! فعاد الفرنج فحملوا حملة ثانية مثل الأولى حتى ألحقوا المسلمين بوالدي، وفعل مثل ما فعل أولاً، وعطف المسلمون عليهم فألحقوهم بالتل، فصحت أنا أيضاً: هزمناهم! لالتفت والدي إلي وقال: اسكت! ما نهزمهم حتى تسقط تلك الخيمة، قال: فهو يقول لي، وإذا الخيمة قد سقطت، فنزل السلطان وسجد شكراً لله تعالى، وبكى من فرحه.
وكان سبب سقوطها أن الفرنج لما حملوا تلك الحملات ازدادوا عطشاً، وقد كانوا يرجون الخلاص في بعض تلك الحملات مما هم فيه، فلما لم يجدوا إلى الخلاص طريقاً، نزلوا عن دوابهم وجلسوا على الأرض، فصعد المسلمون إليهم، فألقوا خيمة الملك، وأسروهم على بكرة أبيهم، وفيهم الملك وأخوه والبرنس أرناط، صاحب الكرك، ولم يكن للفرنج أسد منه عداوة للمسلمين، وأسروا أيضاً صاحب جبيل، وابن هنفري، ومقدم الداوية، وكان من أعظم الفرنج شأناً، وأسروا أيضاً جماعة من الداوية، وجماعة من الاسبتارية، وكثر القتل والأسر فيهم، فكان من يرى القتلى لا يظن أنهم أسروا واحداً، ومن يرى الأسرى لا يظن أنهم قتلوا أحداً، وما أصيب الفرنج، منذ خرجوا إلى الساحل، وهو سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى الآن، بمثل هذه الوقعة.
فلما فرغ المسلمون منهم نزل صلاح الدين في خيمته، وأحضر ملك الفرنج عنده، وبرنس صاحب الكرك، وأجلس الملك إلى جانبه وقد أهلكه العطش، فسقاه ماء مثلوجاً، فشرب، وأعطى فضله برنس صاحب الكرك، فشرب، فقال صلاح الدين: إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فينال أماني؛ ثم كلم البرنس، وقرعه بذنوبه، وعدد عليه غدارته، وقام إليه بنفسه فضرب رقبته وقال: كنت نذرت دفعتين أن أقتله إن ظفرت به: إحداهما لما أراد المسير إلى مكة والمدينة، والثانية لما أخذ القفل غدراً؛ فلما قتله وسحب وأخرج ارتعدت فرائض الملك، فسكن جأشه وأمنه.
وأما القمص، صاحب طرابلس، فإنه لما نجا من المعركة، كما ذكرناه، وصل إلى صور، ثم قصد طرابلس، ولم يلبث إلا أياماً قلائل حتى مات غيظاً وحنقاً مما جرى على الفرنج خاصة، وعلى دين النصرانية عامة.
ذكر عود صلاح الدين إلى طبرية
وملك قلعتها مع المدينةلما فرغ صلاح الدين من هزيمة الفرنج أقام بموضعه باقي يومه، وأصبح يوم الأحد، فعاد إلى طبرية ونازلها، فأرسلت صاحبتها تطلب الأمان لها ولأولادها وأصحابها ومالها، فأجابها إلى ذلك، فخرجت بالجميع، فوفى لها، فسارت آمنة، ثم أمر بالملك وجماعة من أعيان الأسرى فأرسلوا إلى دمشق، وأمر بمن أسر من الداوية والاسبتارية أن يجمعوا ليقتلهم.
ثم علم أن من عنده أسير لا يسمح به لما يرجوا من فدائه، فبذل في كل أسير من هذين الصنفين خمسين ديناراً مصرية، فأحضر عنده في الحال مائتا أسير منهم، فأمر بهم فضربت أعناقهم، وإنما خص هؤلاء بالقتل لأنهم أشد شوكة من جميع الفرنج، فأراح الناس من شرهم؛ وكتب إلى نائبه خص هؤلاء بالقتل لأنهم أشد شوكة من جميع الفرنج، فأراح الناس من شرهم؛ وكتب إلى نائبه بدمشق ليقتل من دخل البلد منهم سواء كان له أو لغيره، ففعل ذلك، ولقد اجتزت بموضع الوقعة بعدها بنحو سنة، فرأيت الأرض ملأى من عظامهم تبين على البعد، منها المجتمع بعضه على بعض، ومنها المفترق، هذا سوى ما جحفته السيول، وأخذته السباع في تلك الأكام والوهاد.
ذكر فتح مدينة عكالما فرغ صلاح الدين من طبرية سار عنها يوم الثلاثاء ووصل إلى عكا يوم الأربعاء، وقد صعد أهلها على سورها يظهرون الامتناع والحفظ، فعجب هو والناس من ذلك لأنهم علموا أن عساكرهم من فارس وراجل بين قتيل وأسير، وأنهم لم يسلم منهم إلا القليل، إلا أنه نزل يومه، وركب يوم الخميس، وقد صمم على الزحف إلى البلد وقتاله، فبينما هو ينظر من أين يزحف ويقاتل إذ خرج كثير من ألها يضرعون، ويطلبون الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وأمنهم على أنفسهم وأموالهم، وخيرهم بين الإقامة والظعن، فاختاروا الرحيل خوفاً من المسلمين، وساروا عنها متفرقين، وحملوا ما أمكنهم حمله من أموالهم، وتركوا الباقي على حاله.
ودخل المسلمون إليها يوم الجمعة مستهل جمادى الأولى، وصلوا بها الجمعة في جامع كان للمسلمين قديماً، ثم جعله الفرنج ببيعة، ثم جعله صلاح الدين جامعاً، وهذه الجمعة أول جمعة أقيمت بالساحل الشامي بعد أن ملكه الفرنج. وسلم البلد إلى ولده الأفضل، وأعطى جميع ما كان فيه للداوية من أقطاع وضياع وغير ذلك للفقيه عيسى، وغنم المسلمون ما بقي مما لم يطق الفرنج حمله، وكان من كمثرته يعجز الإحصاء عنه، فرأوا فيها من الذهب والجوهر والسقلاط، والبندقي، والشكر، والسلاح، وغير ذلك من أنواع الأمتعة كثيراً، فإنها كانت مقصداً للتجار الفرنج والروم وغيرهم، من أقصى البلاد وأدناها، وكان كثير منها قد خزنه التجار، وسافروا عنه لكساده، فلم يكن له من ينقله، ففرق صلاح الدين وابنه الأفضل ذلك جميعه على أصحابهما، وأكثر ذلك فعله الأفضل لأنه كان مقيماً بالبلد، وأنت شيمته في الكرم معروفة. و أقام صلاح الدين بعكا عدة أيام لإصلاح حالها. وتقرير قواعدها.
ذكر فتح مجدليابةلما هزم صلاح الدين الفرنج أرسل إلى أخيه العادي بمصر يبشره بذلك، ويأمره بالمسير إلى بلاد الفرنج من جهة مصر بمن بقي عنده من العسكر، ومحاصرة ما يليه منها، فسارع إلى ذلك، وسار عن مصر فنازل حصن مجليابة وحصره وغنم ما فيه. وورد كتابه بذلك إلى صلاح الدين، وكانت بشارة كبيرة.
ذكر فتح عدة حصون
في مدة مقام صلاح الدين بعكا تفرق عسكره إلى الناصرة، وقيسارية، وحيفا، وصفورية، ومعليا، والشقيف، والفولة، وغيرها من البلاد المجاورة لعكا، فملكوها ونهبوها وأسروا رجالها، وسبوا نساءها وأطفالها، وقدموا من ذلك بما سد القضاء، وسير تقي الدين فنزل على تبنين ليقطع المرة عنها وعن صور، وسير حسام الدين عمر بن لاجين في عسكره إلى نابلس فدخلها وحصر قلعتها واستنزل من فيها بالأمان، وتسلم القلعة، وأقام أهل البلد به، وأقرهم على أملاكهم وأموالهم.
ذكر فتح يافالما خرج العادل من مصر، وفتح مجدليابة، كما ذكرنا، سار إلى مدينة يافا، وهي على الساحل، فحصرها وملكها عنوة، ونهبها، وأسر الرجال، وسبى الحريم، وجرى على أهلها ما لم يجر على أحد من أهل تلك البلاد.
وكان عندي جارية من أهلها، وأنا بحلب، ومعها طفل عمره نحو سنة، فسقط من يدها فانسلخ وجهه، فبكت عليه كثيراً، فسكنتها وأعلمتها أنه ليس بولدها ما يوجب البكاء؛ فقالت: ما له أبكي، إنما أبكي لما جرى علينا. كان لي ستة أخوة هلكوا جميعهم، وزوج أختان لا أعلم ما كان منهم.
هذا من امرأة واحدة والباقي بالنسبة، ورأيت بحلب امرأة فرنجية قد جاءت مع سيدها إلى باب، فطرقه سيدها، فخرج صاحب البيت فكلمهما، ثم أخرج امرأة فرنجية، فحين رأتها الأخرى صاحتا واعتنقتا، وهما تصرخان وتبكيان، وسقطتا إلى الأرض، ثم قعدتا تتحدثان، وإذا هما أختان؛ وكان لهما عدة من الأهل ليس لهما علم بأحد منهم.
ذكر فتح تبنين وصيدا وجبيل وبيروتفأما تبنين، فقد ذكرنا إنفاذ صلاح الدين تقي الدين ابن أخيه إلى تبنين، فلما وصلها نازلها، وأقام عليها، فرأى حصرها لا يتم إلا بوصول عمه صلاح الدين إليه، فأرسل إليه يعلمه الحال ويحثه على الوصول إليه، فرحل ثامن جمادى الأولى، ونزل عليه في الحادي عشر منه، فحصرها، وضايقها، وقاتلها بالزحف، وهي من القلاع المنيعة على جبل، فلما ضاق عليهم الأمر واشتد الحصر أطلقوا من عندهم من أسرى المسلمين، وهم يزيدون على مائة رجل، فلما دخلوا العسكر أحضرهم صلاح الدين وكساهم، وأعطاهم نفقة، وسيرهم إلى أهليهم.
وبقي الفرنج كذلك خمسة أيام ثم أرسلوا يطلبون الأمان، فأمنهم على أنفسهم فسلموها إليه، ووفى لهم وسيرهم إلى مأمنهم.
وأما صيدا فإن صلاح الدين لما فرغ من تبنين رحل عنها إلى صيدا، فاجتاز في طريقه بصرفند فأخذها صفواً عفواً بغير قتال، وسار عنها إلى صيدا، وهي من مدن الساحل المعروفة، فلما سمع صاحبها بمسيره نحوه سار عنها وتركها فارغة من مانع ومدافع. فلما وصلها صلاح الدين تسلمها ساعة وصوله وكان ملكها حادي عشر جمادى الأولى. وأما بيروت فهي من أحصن مدن الساحل وأنزهها أطيبها. فلما فتح صلاح الدين صيدا سار عنها من يومه نحو بيروت ووصل إليها من الغد فرأى أهلها قد صعدوا عل سورها وأظهروا القوة والجلد والعدة وقاتلوا على سورها عدة أيام قتالاً شديداً واغتروا بحصانة البلد، وظنوا أنهم قادرون على حفظه، وزحف المسلمون إليهم مرة بعد مرة، فبينما الفرنج على السور يقاتلون إذ سمعوا من البلد جلبة عظيمة وغلبة زائدة، فأتاهم من أخبرهم أن البلد قد دخله المسلمون من الناحية الأخرى قهراً وغلبة، فأرسلوا ينظرون ما الخبر وإذا ليس له صحة، فأرادوا تسكين من به فلم يمكنهم ذلك لكثرة ما اجتمع فيه من السواد، فلما خافوا على أنفسهم من الاختلاف الواقع أرسلوا يطلبون الأمان، فأمنهم على أنفسهم وأموالهم وتسلمها في التاسع والعشرين من جمادى الأولى من السنة فكان مدة حصرها ثمانية أيام.
وأما جبيل فإن صاحبها كان من جملة الأسى الذين سيروا إلى دمشق مع ملكهم فتحدث مع نائب صلاح الدين بدمشق في تسليم جبيل على شرط إطلاقه، فعرف صلاح الدين بذلك، فأحضره مقيداً عنده تحت الاستظهار والاحتياط، وكان العسكر حينئذ على بيروت، فسلم حصنه وأطلق أسرى المسلمين الذين به، وأطلقه صلاح الدين كما شرط له، وكان صاحب جبيل هذا من أعيان الفرنج وأصحاب الرأي والمكر والشر به يضرب المثل بينهم، وكان للمسلمين منه عدو أزرق، وكان إطلاقه من الأسباب الموهنة للمسلمين على ما يأتي بيانه.
ذكر خروج المركيش إلى صور
لما انهزم القمص صاحب طرابلس من حطين إلى مدينة صور أقام بها، وهي أعظم بلاد الساحل حصانة وأشدها امتناعاً على من رامها، فلما رأى السلطان قد ملك تبنين وصيدا وبيوت، خاف أن يقصد صلاح الدين صور وهي فارغة ممن يقاتل فيها ويحميها ويمنعها فلا يقوى على حفظها، وتركها وسار إلى مدينة طرابلس فبقيت صور شاغرة لا مانع لها ولا عاصم من المسلمين، فلو بدأ بها صلاح الدين قبل تبنين وغيرها لأخذها بغير مشقة، لكنه استعظمها لحصانتها فأراد أن يفرغ باله مما يجاورها من نواحيها ليسهر أخذها، فكان ذلك سبب حفظها وكان أمر الله قدراً مقدوراً، واتفق أن إنساناً من الفرنج الذين داخل البحر يقال له المركيش، لعنه الله، خرج في البحر بمال كثير للزيارة والتجارة، ولم يشعر بما كان من الفرنج فأرسى بعكا، وقد رابه ما رأى من ترك عوائد الفرنج عند وصول المراكب من الفرنج وضرب الأجراس وغير ذلك، وما رأى أيضاً من زي أهل البلد، فوقف ولم يدر ما الخبر، وكانت الريح قد ركدت، فأرسل الملك الأفضل إليه بعض أصحابه في سفينة يبصر من هو وما يريد، فأتاه القاصد فسأله المركيش عن الأخبار لما أنكره فأخبره بكسرة الفرنج وأخذ عكا وغيرها، وأعلمه أن صور بيد الفرنج وعسقيلان وغيرها، وحكى الأمر له على وجهه فلم يمكنه الحركة لعدم الريح، فرد الرسول يطلب الأمان ليدخل البلد بما معه من متاع ومال، فأجيب إلى ذلك فردده مراراً كل مرة يطلب شيئاً لم يطلبه في المرة الأولى، وهو يفعل ذلك انتظاراً لهبوب الهواء ليسير به، فبينما هو في مراجعاته إذ هبت الريح فسار نحو صور، وسير الملك الأفضل الشواني في طلبه فلم يدركوه، فأتى صور وقد اجتمع بها من الفرنج خلق كثير لأن صلاح الدين كان كلما فتح مدينة من عكا وبيوت وغيرهما ما ذكرنا أعطى أهلها الأمان، فساروا كلهم إلى صور وكثر الجمع بها إلا أنهم ليس لهم رأس يجمعهم، ولا مقدم يقاتل بهم، وليسوا أهل حرب، وهم عازمون على مراسلة صلاح الدين وطلب الأمان وتسليم البلد إليه، فأتاهم المركيش وهم على ذلك العزم، فردهم عنه وقوى نفوسهم وضمن لهم حفظ المدينة وبذل ما معه من الأموال وشرط عليهم أن تكون المدينة وأعمالها له دون غيره، فأجابوه إلى ذلك، فأخذ أيمانهم عليه وأقام عندهم ودبر أحوالهم، وكان من شياطين الإنس حسن التدبير والحفظ، وله شجاعة عظيمة، وشرع في تحصينها فجدد حفر خنادقها وعمل أسوارها، وزاد في حصانتها واتفق من بها على الحفظ والقتال دونها.
ذكر فتح عسقلان وما يجاورهالما ملك صلاح الدين بيروت وجبيل وغيرهما، كان أمر عسقلان والقدس أهم عنده من غيرهما لأسباب منها أنهما على طريق مصر، يقطع بينهما وبين الشام. وكان يختار أن تتصل الولايات له ليسهل خروج العسكر منها ودخولهم إليها، ولما في فتح القدس من الذكر الجميل والصيت العظيم، إلى غير ذلك من الأغراض، فسار عن بيروت نحو عسقلان، واجتمع بأخيه العادل ومن معه من عساكر مصر، ونازلوها يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة، وكان صلاح الدين قد أحضر ملك الفرنج ومقدم الداوية إليه من دمشق، وقال لهما: إن سلمتما البلاد إلي فلكما الأمان؛ فأرسلا إلى من بعسقلان من الفرنج يأمرانهم بتسليم البلد، فلم يسمعوا أمرهما وردوا عليهما أقبح رد وجبهوهما بما يسوءهما.
فلما رأى السلطان ذلك جد في قتال المدينة ونصب المجانيق عليها، وزحف مرة بعد أخرى، وتقدم النقابون إلى السور، فنالوا من باشورته شيئاً. هذا وملكهم يكرر المراسلات إليهم بالتسليم، ويشير عليهم، ويعدهم أنه إذا أطلق من الأسر أضرم البلاد على المسلمين ناراً، واستنجد الفرنج من البحر، و أجلب الخيل والرجل إليهم من أقاصي بلاد الفرنج وأدانيها، وهم لا يجيبون إلى ما يقول ولا يسمعون ما يشير به.
ولما رأوا أنهم كل يوم يزدادون ضعفاً ووهناً، وإذا قتل منهم الرجل لا يجدون له عوضاً، ولا لهم نجدة ينتظرونها، راسلوا ملكهم المأسور في تسليم البلد على شروط اقترحوها، فأجابهم صلاح الدين إليها، وكانوا قتلوا في الحصار أميراً كبيراً من المهرانية، فخافوا عند مفارقة البلد أن عشيرته يقتلون منهم بثأره، فاحتاطوا فيما اشترطوا لأنفسهم، فأجيبوا إلى ذلك جميعه، وسلموا المدينة سلخ جمادى الآخرة من السنة، وكانت مدة الحصار أربعة عشر يوماً، وسيرهم صلاح الدين ونساءهم وأموالهم وأولادهم إلى بيت القدس، ووفي لهم بالأمان.
ذكر فتح البلاد والحصون المجاورة لعسقلان.لما فتح صلاح الدين عسقلان أقام بظاهرها، وبث السرايا في أطراف البلاد المجاورة لها، ففتحوا الرملة، والداروم، وغزة، ومشهد إبراهيم الخليل، عليه السلام، ويبنى، وبيت لحم، وبيت جبريل، والنظرون، وكل ما كان للداوية.
ذكر فتح البيت المقدسلما فرغ صلاح الدين من أمر عسقلان وما يجاورها من البلاد، على ما تقدم، وكان قد أرسل إلى مصر أخرج الأسطول الذي بها في جمع من المقاتلة، ومقدمهم حسام الدين لؤلؤ الحاجب، وهو معروف بالشجاعة، والشهامة، ويمن النقيبة، فأقاموا في البحر يقطعون الطريق على الفرنج، كلما رأوا لهم مركباً غنموه، وشانياً أخذوه، فحين وصل الأسطول وخلا سره من تلك الناحية سار عن عسقلان إلى البيت المقدس، وكان به البطرك المعظم عندهم، وهو أعظم شأناً من ملكهم، وبه أيضاً باليان بن بيرزان، صاحب الرملة، وكانت مرتبته عندهم تقارب مرتبة الملك، وبه أيضاً من خلص من فرسانهم من حطين، وقد جمعوا وحشدوا، واجتمع أهل تلك النواحي، عسقلان وغيرها، فاجتمع به كثير من الخلق، كلهم يرى الموت أيسر عليه من أن يملك المسلمون البيت المقدس ويأخذوه منهم، ويرى أن بذل نفسه وماله وأولاده بعض ما يجب عليه من حفظه، وحصنوه تلك الأيام بما وجدوا إليه سبيلاً، وصعدوا على سوره بحدهم وحديدهم، مجمعين على حفظه والذب عنه بجهدهم وطاقتهم، مظهرين العزم على المناضلة دونه بحسب استطاعتهم، ونصبوا المجانيق على أسواره ليمنعوا من يريد الدنو منه والنزول عليه.
ولما قرب صلاح الدين منه تقدم أمير في جماعة من أصحابه، غير محتاط ولا حذرن فلقيه جمع من الفرنج قد خرجوا من القدس ليكونوا يزكاً، فقاتلوهم، فقتلوه وقتلوا جماعة ممن معه، فأهم المسلمين قتله، وفجعوا بفقده، وساروا حتى نزلوا على القدس منتصف رجب، فلما نزلوا عليه رأى المسلمون على سوره من الرجال ما هالهم، وسمعوا لأهله من الجلبة والضجيج من وسط المدينة ما استدلوا به على كثرة الجمع، و بقي صلاح الدين خمسة أيام يطوف حول المدينة لينظر من أين يقاتله، لأنه في غاية الحصانة والامتناع فلم يجد عليه موضع قتال إلا من جهة الشمال نحو باب عمودا، وكنيسة صهيون، فانتقل إلى هذه الناحية في العشرين من رجب ونزلها، ونصب تلك الليلة المجانيق، فأصبح من الغد وقد فرغ من نصبها، ورمى بها.
ونصب الفرنج على سور البلد مجانيق ورموا بها، وقوتلوا أشد قتال رآه أحد من الناس، كل واحد من الفريقين يرى ذلك ديناً، وحتماً واجباً، فلا يحتاج إلى باعث سلطاني بل كانوا يمنعون ولا يمتنعون ويزجرون ولا ينزجرون.
وكان خيالة الفرنج كل يوم يخرجون إلى ظاهر البلد يقاتلون ويبارزون، فيقتل من الفريقين؛ وممن استشهد من المسلمين الأمير عز الدين عيسى ابن مالك، وهو من أكابر الأمراء، وكان أبوه صاحب قلعة جعبر، وكان يصطلي القتال بنفسه كل يوم، فقتل إلى رحمة الله تعالى، وكان محبوباً إلى الخاص والعام، فلما رأى المسلمون مصرعه عظم عليهم ذلك، وأخذ من قلوبهم، فحملوا حملة رجل واحد، فأزالوا الفرنج عن مواقفهم، فأدخلوهم بلدهم، و وصل المسلمون إلى الخندق، فجاوزه والتصقوا إلى السور فنقبوه، وزحف الرماة يحمونهم، والمجانيق توالي الرمي لتكشف الفرنج عن الأسوار ليتمكن المسلمون من النقب، فلما نقبوه حشوه بما جرت به العادة.
فلما رأى الفرنج شدة قتال المسلمين، وتحكم المجانيق بالرمي المتدارك، وتمكن النقابين من النقب، وأنهم قد أشرفوا على الهلاك، اجتمع مقدموهم يتشاورون فيما يأتون ويذرون، فاتفق رأيهم على طلب الأمان، وتسليم البيت المقدس إلى صلاح الدين، فأرسلوا جماعة من كبرائهم وأعيانهم في طلب الأمان، فلما ذكروا ذلك للسلطان امتنع من إجابتهم، وقال: لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، من القتل والسبي وجزاء السيئة بمثلها. فلما رجع الرسل خائبين محرومين، أسل باليان بن بيرزان وطلب الأمان لنفسه ليحضر عند صلاح الدين في هذا الأمر وتحريره، فأجيب إلى ذلك، وحضر عنده، ورغب في الأمان، وسأل فيه، فلم يجبه إلى ذلك، واستعطفه فلم يعطف عليه، واسترحمه فلم يرحمه.
فلما أيس من ذلك قال له: أيها السلطان اعلم أننا في هذه المدينة في خلق كثير لا يعلمهم إلا الله تعالى، وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان، ظناً منهم أنك تجيبهم إليه كما أجبت غيرهم، وهم يكرهون الموت ويرغبون في الحياة، فإذا رأينا أن الموت لا بد منه، فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا ونحرق أموالنا وأمتعتنا، ولا نترككم تغنمون منها ديناراً واحداً ولا درهماً، ولا تسبون وتأسرون رجلاً ولا امرأة، وإذا فرغنا من ذلك أخربنا الصخرة والمسجد الأقصى وغيرهما من المواضع، ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين، وهم خمسة آلاف أسير، ولا نترك لنا دابة ولا حيواناً إلا قتلناه ثم خرجنا إليكم كلنا فقاتلناكم قتال من يريد أن يحمي دمه ونفسه، وحينئذ لا يقتل الرجل حتى يقتل أمثاله، ونموت أعزاء أو نظفر كراماً.
فاستشار صلاح الدين أصحابه، فأجمعوا على إجابتهم إلى الأمان، وأن لا يخرجوا ويحملوا على ركوب ما لا يدري عاقبة الأمر فيه عن أي شيء تنجلي، ونحسب أنهم أسارى بأيدينا، فنبيعهم نفوسهم بما يستقر بيننا وبينهم، فأجاب صلاح الدين حينئذ إلى بذل الأمان للفرنج، فاستقر أن يزن الرجل عشرة دنانير يستوي فيه الغني والفقير، ويزن الطفل من الذكور والبنات دينارين، وتزن المرأة خمسة دنانير، فمن أدى ذلك إلى أربعين يوماً فقد نجا، ومن انقضت الأربعون يوماً عنه ولم يؤد ما عليه فقد صار مملوكاً، فبذل باليان بن بيرزان عن الفقراء ثلاثين ألف دينار، فأجيب إلى ذلك.
وسلمت المدينة يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب، وكان يوماً مشهوداً، ورفت الأعلام الإسلامية على أسوارها، ورتب صلاح الدين على أبواب البلد، في كل باب، أميناً من الأمراء ليأخذوا من أهله ما استقر عليهم، فاستعملوا الخيانة، ولم يؤدوا فيه أمانة، واقتسم الأمناء الأموال، وتفرقت أيدي سبا، ولو أديت فيه الأمانة لملأ الخزائن، وعم الناس، إنه كان فيه على الضبط ستون ألف رجل ما بين فارس وراجل سوى من يتبعهم من النساء والولدان، ولا يعجب السامع من ذلك، فإن البلد كبير، واجتمع إليه من تلك النواحي من عسقلان وغيرها، والداروم، والرملة، وغزة، وغيرها من القرى، بحيث امتلأت الطرق والكنائس، وكان الإنسان لا يقدر أن يمشي.
ومن الدليل على كثرة الخلق أن أكثرهم وزن ما استقر من القطيعة، وأطلق باليان بن بيرزان ثمانية عشر ألف رجل وزن عنهم ثلاثين ألف دينار، وبقي بعد هذا جميعه من لم يكن معه ما يعطي، وأخذ أسيراً ستة عشر ألف آدمي ما بين رجل وامرأة وصبي، هذا بالضبط واليقين.
ثم إن جماعة من الأمراء ادعى كل واحد منهم أن جماعة من رعية إقطاعه مقيمون بالبيت المقدس، فيطلقهم ويأخذ هو قطيعتهم، وكان جماعة من الأمراء يلبسون الفرنج زي الجند المسلمين، ويخرجونهم، ويأخذون منهم قطيعة قرروها، واستوهب جماعة من صلاح الدين عدداً من الفرنج، فوهبهم لهم، فأخذوا قطيعتهم، وبالجملة فلم يصل إلى خزائنه إلا القليل.
وكان بالقدس بعض نساء الملوك من الروم قد ترهبت وأقامت به، ومعها من الحشم والعبيد والجواري خلق كثير، ولها من الأموال والجواهر النفيسة شيء عظيم، فطلب الأمان لنفسها ومن معها، فأمنها وسيرها.
وكذلك أيضاً أطلق ملكة القدس التي كان زوجها الذي أسره صلاح الدين قد ملك الفرنج بسببها، ونيابة عنها كان يقوم بالملك، وأطلق مالها وحشمها، واستأذنته في المصير إلى زوجها، وكان حينئذ محبوساً بقلعة نابلس، فأذن لها، فأتته وأقامت عنده.
وأتته أيضاً امرأة للبرنس أرناط صاحب الكرك، وهو الذي قتله صلاح الدين بيده يوم المصاف بحطين، فشفعت في ولدها مأسور، فقال لها صلاح الدين: إن سلمت الكرك أطلقته؛ فسارت إلى الكرك، فلم يسمع منها الفرنج الذين فيه، ولم يسلموه، فلم يطلق ولدها، ولكنه أطلق ما لها ومن تبعها.
وخرج البطريك الكبير الذي للفرنج، ومعه من أموال البيع منها: الصخرة والأقصى، وقمامة وغيرها، ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وكان له من المال مثل ذلك، فلم يعرض له صلاح الدين، فقيل له ليأخذ ما معه يقوي به المسلمين، فقال: لا أغدر به؛ ولم يأخذ منه غير عشرة دنانير، وسير الجميع ومعهم من يحميهم إلى مدينة صور.
وكان على رأس قبة الصخرة صليب كبير مذهب. فلما دخل المسلمون البلد يوم الجمعة تسلق جماعة منهم إلى أعلى القبة ليقلعوا الصليب، فلما فعلوا وسقط صاح الناس كلهم صوتاً واحداً من البلد ومن ظاهره المسلمون والفرنج: أما المسلمون فكبروا فرحاً، وأما الفرنج فصاحوا تفجعاً وتوجعاً، فسمع الناس ضجة كادت الأرض أن تميد بهم لعظمها وشدتها.
فلما ملك البلد وفارقه الكفار أمر صلاح الدين بإعادة الأبنية إلى حالها القديم، فإن الداوية بنوا غربي الأقصى أبنية ليسكونها، وعملوا فيها ما يحتاجون إليه من هري ومستراح وغير ذلك، وأدخلوا بعض الأقصى في أبنيتهم فأعيد إلى الأول، وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار والأنجاس، ففعل ذلك أجمع.
ولما كان الجمعة الأخرى، رابع شعبان، صلى المسلمون فيه الجمعة، ومعهم صلاح الدين، وصلى في قبة صلاح الدين خطيباً وإماماً برسم الصلوات الخمس، وأمر أن يعمل له منبر، فقيل له: إن نور الدين محموداً كان قد عمل بحلب منبراً أمر الصناع بالمبالغة في تحسينه وإتقانه، وقال: هذا قد عملناه لينصب بالبيت المقدس، فعمله النجارون في عدة سنين لم يعمل في الإسلام مثله، فأمر بإحضاره، فحمل من حلب ونصب بالقدس، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة، وكان هذا من كرامات نور الدين وحسن مقاصده، رحمه الله.
ولما فرغ صلاح الدين من صلاة الجمعة تقدم بعمارة المسجد الأقصى واستنفاد الوسع في تحسينه وترصيفه، وتدقيق نقوشه، فأحضروا من الرخام الذي لا يوجد مثله، ومن الفص المذهب القسطنطيني وغير ذلك مما يحتاجون إليه، قد ادخر على طول السنين، فشرعوا في عمارته، ومحوا ما كان في تلك الأبنية من الصور، وكان الفرنج فرشوا الرخام فوق الصخرة وغيبوها، فأمر بكشفها.
وكان سبب تغطيتها بالفرش أن القسيسين باعوا كثيراً منها للفرنج الواردين إليهم من داخل البحر للزيارة، فكانوا يشترونه بوزنه ذهباً رجاء بركتها، وكان أحدهم إذا دخل إلى بلاده باليسير منها بني له الكنيسة، ويجعل في مذبحها، فخاف بعض ملوكهم أن تفنى، فأمر بها ففرش فوقها حفظاً لها؛ فلما كشفت نقل إليها صلاح الدين المصاحف الحسنة، و الربعات الجيدة، ورتب القراءة، وأدر عليهم الوظائف الكثيرة، فعاد الإسلام هناك غضاً طرياً، وهذه المكرمة من فتح البيت المقدس لم يفعلها بعد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، غير صلاح الدين، رحمه الله، وكفاه ذلك فخراً وشرفاً.
وأما الفرنج من أله فإنهم أقاموا، وشرعوا في بيع ما لا يمكنهم حمله من أمتعتهم وذخائرهم وأموالهم، وما لا يطيقون حمله، وباعوا ذلك بأرخص الثمن، فاشتراه التجار من أهل العسكر، واشتراه النصارى من أهل القدس الذين ليسوا من الفرنج، فإنهم طلبوا من صلاح الدين أ، يمكنهم من المقام في مساكنهم ويأخذ منهم الجزية، فأجابهم إلى ذلك، فاشتروا حينئذ من أموال الفرنج، وترك الفرنج أيضاً أشياء كثيرة لم يمكنهم بيعها من الأسرة والصناديق والبتيات، وغير ذلك، وتركوا أيضاً من الرخام الذي لا يوجد مثله، من الأساطين والألواح والفص وغيره، شيئاً كثيراً، ثم ساروا.
ذكر رحيل صلاح الدين إلى صور
ومحاصرتها
لما فتح صلاح الدين البيت المقدس أقام بظاهره إلى الخامس والعشرين من شعبان يرتب أمور البلد وأحواله، وتقدم بعمل الربط والمدارس، فجعل دار الاسبتار مدرسة للشافعية، وهي في غاية ما يكون من الحسن؛ فلما فرغ من أمر البلد سار إلى مدينة صور، وكانت قد اجتمع فيها من الفرنج عالم كثير، وقد صار المركيش صاحبها والحاكم فيها، وقد ساسهم أحسن سياسة، وبالغ في تحصين البلد، ووصل صلاح الدين إلى عكا، وأقام بها أياماً، فلما سمع المركيش بوصوله إليها جد في عمل سور صور وخنادقها وتعميقها، ووصلها من البحر إلى البحر من الجانب الآخر، فصارت المدينة كالجزيرة في وسط الماء لا يمكن الوصول إليها ولا الدنو منها.
ثم رحل صلاح الدين من عكا، فوصل إلى صور تاسع شهر رمضان، فنزل على نهر قريب من البلد بحيث يراه، حتى اجتمع الناس وتلاحقوا، وسار في الثاني والعشرين من رمضان، فنزل على تل يقارب سور البلد، بحيث يرى القتال، وقسم القتال على العسكر كل جمع منهم له وقت معلوم يقاتلون فيه، بحيث يتصل القتال على أهل البلد لحفظه، وعليه الخنادق التي قد وصلت من البحر إلى البحر، فلا يكاد الطير يطير عليها، فإن المدينة كالكف في البحر، والساعد متصل بالبر والبحر من جانبي الساعد، والقتال إنما هو في الساعد، فزنف المسلمون مرة بالمجانيق، والعرادات، والجروخ، والدبابات، وكان أهل صلاح الدين يتناوبون القتال مثل: ولده الأفضل، وولده الظاهر غازي، وأخيه العادل بن أيوب، وابن أخيه تقي الدين، وكذلك سائر الأمراء.
وكان للفرنج شوان وحراقات يركبون فيها في البحر، ويقفون من جانبي الموضع الذي يقاتل المسلمون منه أهل البلد، فيرمون المسلمين من جانبهم بالجوخ، ويقاتلونهم. وكان ذلك يعظم عليهم، لأن أهل البلد يقاتلونهم من بين أيديهم، وأصحاب الشواني يقاتلونهم من جانبيهم، فكانت سهامهم تنفذ من أحد الجانبين إلى الجانب الآخر لضيق الموضع، فكثرت الجراحات في المسلمين والقتل، ولم يتمكنوا من الدنو إلى البلد؛ فأرسل صلاح الدين إلى الشواني التي جاءت من مصر، وهي عشر قطع، وكانت بعكا، فأحضرها برجالها ومقاتلتها وعدتها، وكانت في البحر تمنع شواني أه صور من الخروج إلى قتال المسلمين، فتمكن المسلمون حينئذ من القرب من البلد، ومن قتالهن فقاتلوه براً وبحراً وضايقوه حتى كادوا يظفرون، فجاءت الأقدار بما لم يكن في الحساب، وذلك أن خمس قطع من شواني المسلمين باتت، في بعض تلك الليالي، مقابل ميناء صور ليمنعوا من الخروج منه والدخول إليه، فباتوا ليلتهم يحرسون، وكان مقدمهم عبد السلام المغربي الموصوف بالحذق في صناعته وشجاعته، فلما كان وقت السحر أمنوا فناموا، فما شعروا إلا بشواني الفرنج قد نازلتهم وضايقتهم، فأوقعت بهم، فقتلوا من أرادوا قتله، وأخذوا الباقين بمراكبهم، وأدخلوهم ميناء صور، والمسلمون في البر ينظرون إليهم، ورمى جماعة من المسلمين أنفسهم من الشواني في البحر، فمنهم من سبح فنجا، ومنهم من غريق.
وتقدم السلطان إلى الشواني الباقية بالمسير إلى بيروت لعدم انتفاعه بها لقلتها، فسارت، فتبعها شواين الفرنج، فحين رأى من في شواني المسلمين الفرنج مجدين في طلبهم ألقوا نفوسهم في شوانيهم إلى البر فنجوا وتركوها، فأخذها صلاح الدين، ونقضها وعاد إلى مقاتلة صور في البر، وكان ذلك قليل الجدوى لضيق المجال.
وفي بعض الأيام خرج الفرنج فقاتلوا المسلمين من وراء خنادقهم، فاشتد القتال بين الفريقين، ودام إلى آخر النهار؛ كان خروجهم قبل العصر، وأسر مهم فارس كبير مشهور، بعد أن كثر القتال والقتل عليه من الفريقين، لما سقط، فلما أسر قتل، وبقوا كذلك عدة أيام.
ذكر الرحيل عن صور إلى عكا
وتفريق العساكر
لما رأى صلاح الدين أن أمر صور يطول رحل عنها، وهذه كانت عادته، متى ثبت البلد بين يديه ضجر منه ومن حصاره فرحل عنه. وكان هذه السنة لم يطل مقامه على مدينة بل فتح الجميع في الأيام القريبة، كما ذكرناه، بغير تعب ولا مشقة. فلما رأى هو وأصحابه شدة أمر صور ملوها، وطلبوا الانتقال عنها، ولم يكن لأحد ذنب في أمرها غير صلاح الدين، فإنه هو جهز إليها جنود الفرنج، وأمدها بالرجال والأموال من أهل عكا وعسقلان والقدس وغير ذلك، كما سبق ذكره؛ كان يعطيهم الأمان ويرسلهم إلى صور، فصار فيها من سلم من فرسان الفرنج بالساحل، بأموالهم وأموال التجار وغيرهم، فحفظوا المدينة وراسلوا الفرنج داخل البحر يستمدونهم، فأجابوهم بالتلبية لدعوتهم، ووعدوهم بالنصرة، وأمروهم بحفظ صور لتكون دار هجرتهم يحتمون بها ويلجأون إليها، فزادهم ذلك حرصاً على حفظها والذب عنها.
وسنذكر إن شاء الله ما صار إليه الأمر بعد ذلك ليعلم أن الملك لا ينبغي أن يترك الحزم، وإن ساعدته الأقدار، فلأن يعجز حازماً خير له من أن يظفر مفرطاً، مضيعاً للحزم، وأعذر له عند الناس.
ولما أراد الرحيل استشار أمراءه، فاختلفوا، فجماعة يقولون: الرأي أن نرحل، فقد جرح الرجال، وقتلوا، وملوا، وفنيت النفقات، وهذا الشتاء قد حضر، والشوط بطين، فنريح ونستريح في هذا البرد، فإذا جاء الربيع اجتمعنا وعاودناها وغيرها. وكان هذا قول الأغنياء منهم، وكأنهم خافوا أن السلطان يقترض منهم ما ينفقه في العسكر إذا أقام لخلو الخزائن وبيوت الأموال من الدرهم والدينار، فإنه كان يخرج كل ما حمل إليه منها. وقالت الطائفة الأخرى: الرأي أن نصابر البلد ونضايقه، فهو الذي يعتمدون عليه من حصونهم، ومتى أخذناه منهم انقطع طمع من داخل البحر من هذا الجانب وأخذنا باقي البلاد صفواً عفواً.
فبقي صلاح الدين متردداً بين الرحيل والإقامة، فلما رأى من يرى الرحيل إقامته أخل بما رد إليه من المحاربة والرمي بالمنجنيق، واعتذروا بجراح رجالهم، وأنهم قد أرسلوا بعضهم ليحضروا نفقاتهم والعلوفات لدوابهم والأقوات لهم، إلى غير ذلك من الأعذار، فصاروا مقيمين بغير قتال، فاضطر إلى الرحيل، فرحل عنها آخر شوال، وكان أول كانون الأول، إلى عكا، فأذن للعساكر جميعها بالعود إلى أوطانهم والاستراحة في الشتاء، والعود في الربيع، فعادت عساكر الشرق والموصل وغيرها، وعساكر الشام، وعساكر مصرن وبقي حلقته الخاص مقيماً بعكا، فنزل بقلعتها، ورد أمر البلد إلى عز الدين جورديك، وهو من أكابر المماليك النورية، جمع الديانة والشجاعة وحسن السيرة.
ذكر فتح هونينلما فتح صلاح الدين تبنين امتنع من بهونين من تسليمها، وهي من أحسن القلاع وأمنعها، فلم ير التعريج عليها ولا الاشتغال بمحاصرتها، بل سير إليها جماعة من العسكر والأمراء فحصروها، ومنعوا من حمل الميرة إليها؛ واشتغل بما تقدم ذكره من فتح عسقلان والبيت المقدس وغير ذلك، فلما كان يحاصر مدينة صور أرسل من فيها يطلبون الأمان، فأمنهم، فسلموا، ونزلوا منها فوفى لهم بأمانهم.
ذكر حصر صفد وكوكب والكركلما سار صلاح الدين إلى عسقلان جعل على قلعة كوكب، وهي مطلة على الأردن، من يحصرها، ويحفظ الطريق للمجتازين لئلا ينزل من به من الفرنج يقطعونه، وسير طائفة أخرى من العسكر أيضاً إلى قلعة صفد فحصروها، وهي مطلة على مدينة طبرية.
وكان حصن كوكب للإسبتار، وحصن صفد للداوية، وهما قريبان من حطين، موضع المصاف، فلجأ إليها جمع ممن سلم من الداوية والإسبتار فحموهما، فلما حصرهما المسلمون استراح الناس من شر من فيهما، واتصلت الطرق حتى كان يسير فيها المنفرد فلا يخاف.
وكان مقدم الجماعة الذين يحصرون قلعة كوكب أميراً يقال له سيف الدين، وهو أخو جاولي الأسدي، وكان شهماً شجاعاً، يرجع إلى دين وعبادة، فأقام عليه إلى آخر شوال، وكان أصحابه يحرسون نوباً مرتبة، فلما كان آخر ليلة من شوال غفل الذي كانت نوبته في الحراسة، وكان قد صلى ورده من الليل إلى السحر، وكانت ليلة كثيرة الرعد والبرق، والريح والمطر، فلم يشعر المسلمون وهم نازلون إلا والفرنج قد خالطوهم بالسيوف، ووضعوا السلاح فيهم، فقتلوهم أجمعين، وأخذوا ما كان عندهم من طعام وسلاح وغيره وعادوا إلى قلعتهم، فقووا بذلك قوة عظيمة أمكنتهم أن يحفظوا قلعتهم إلى أن أخذت أواخر سنة أربع وثمانين، على ما سنذكره إن شاء الله.
وأتى الخبر إلى صلاح الدين بذلك، عند رحيله عن صور، فعظم ذلك عليه، مضافاً إلى ما ناله من أخذ شوانيه ومن فيها، ورحيله عن صور، ثم رتب على حصن كوكب الأمير قايماز النجمي في جماعة أخرى من الأجناد، فحصروها.
ذكر الفتنة بعرفات وقتل ابن المقدمفي هذه السنة، يوم عرفة، قتل شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم بعرفات، وهو أكبر الأمراء الصلاحية، وقد تقدم من ذكره ما فيه كفاية.
وسبب قتله أنه لما فتح المسلمون البيت المقدس طلب إذناً من صلاح الدين ليحج ويحرم من القدس، ويجمع في سنة بين الجهاد والحج وزيارة الخليل، عليه السلام، وما بالشام من مشاهد الأنبياء، وبين زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين، فأذن له. وكان قد اجتمع تلك السنة من الحجاج بالشام الخلق العظيم من البلاد: العراق، والموصل، وديار بكر، والجزيرة، وخلاط، وبلاد الروم ومصر وغيرها، ليجمعوا بين زيارة البيت المقدس ومكة، فجعل ابن المقدم أميراً عليهم فساروا حتى وصلوا إلى عرفات سالمين، ووقفوا في تلك المشاعر، وأدوا الواجب والسنة.
فلما كان عشية عرفة تجهز هو وأصحابه ليسيروا من عرفات، فأمر بضرب كوساته التي هي أمارة الرحيل، فضربها أصحابه، فأرسل إليه أمير الحاج العراقي، وهو مجبر الدين طاش تكين، ينهاه عن الإفاضة من عرفات قبله، ويأمره بكف أصحابه عن ضرب كوساته، فأرسل إليه : إني ليس لي معك تعلق، أنت أمير الحاج العراقي، وأنا أمير الحاج الشامي، وكل منا يفعل ما يراه ويختاره؛ وسار ولم يقف، ولم يسمع قوله، فلما رأى طاش تكين إصراره على مخالفته ركب في أصحابه وأجناده، وتبعه من غوغاء الحاج العراقي وبطاطيهم، وطاعتهم، والعالم الكثير، والجم الغفير، وقصدوا حاج الشام مهولين عليهم، فلما قربوا منهم خرج الأمر من الضبط، وعجزوا عن تلافيه، فهجم طماعة العراق على حاج الشام وفتكوا فيهم، وقتلوا جماعة ونهيت أموالهم وسبيت جماعة من نسائهم، إلا أنهن رددن عليهم، وجرح ابن المقدم عدة جراحات، وكان يكف أصحابه عن القتال، ولو أذن لهم لانتصف منهم وزاد، لكنه راقب الله تعالى، وحرمة المكان واليوم، فلما أثخن بالجراحات أخذه طاش تكين إلى خيمته، وأنزله عنده ليمرضه ويستدرك الفارط في حقه، وساروا تلك الليلة من عرفات، فلما كان الغد مات بمنى، ودفن بمقبرة المعلى، ورزق الشهادة بعد الجهاد، و شهود فتح البيت المقدس، رحمه الله تعالى.
ذكر قوة السلطان طغرل على قزلفي هذه السنة قوي أمر السلطان طغرل، وكثر جمعه، وملك كثيراً من البلاد، فأرسل قزل إلى الخليفة يستنجده، ويخوفه من طغرل، ويبذل من نفسه الطاعة والتصرف على ما يختارونه، وأرسل طغرل رسولاً إلى بغداد يقول: أريد أن يتقدم الديوان بعمارة دار السلطنة لأسكنها إذا وصلت؛ فأكرم رسول قزل ووعده بالنجدة، ورد رسول السلطان طغرل بغير جواب، وأمر الخليفة بنقض دار السلطنة، فهدمت إلى الأرض وعفي أثرها.
ذكر ملك شرستي من الهند وغيرها وانهزام المسلمين بعدهافي آخر هذه السنة سار شهاب الدين الغوري، ملك غزنة، إلى بلاد الهند، وقصد بلاد أجمير، وتعرف بولاية السوالك، واسم ملكهم كولة، وكان شجاعاً شهماً، فلما دخل المسلمون بلاده ملكوا مدينة تبرندة، وهي حصن منيع عامر، وملكوا شرستي، وملكوا كورام.
فلما سمع ملكهم جمع العساكر فأكثر، وسار إلى المسلمين، فالتقوا، وقامت الحرب على ساق، وكان مع الهند أربعة عشر فيلاً، فلما اشتدت الحرب انهزمت ميمنة المسلمين وميسرتهم، فقال لشهاب الدين بعض خواصه: قد انكسرت الميمنة والميسرة، فانج بنفسك لا يهلك المسلمون؛ فأخذ شهاب الدين الرمح وحمل على الهنود، فوصل إلى الفيلة، فطعن فيلاً منها في كتفه، وجرح الفيل لا يندمل، فلما وصل شهاب الدين إلى الفيلة زرقه بعض الهنود بحربة، فوقعت الحربة في ساعده، فنفذت الحربة من الجانب الآخر، فوقع حينئذ إلى الأرض، فقاتل عليه أصحابه ليخلصوه، وحرصت الهنود على أخذه، وكان عنده حرب لم يسمع بمثلها، وأخذه أصحابه فركبوه فرسه وعادوا به منهزمين، فلم يتبعهم الهنود، فلما أبعدوا عن موضع الوقعة بمقدار فرسخ أغمي على شهاب الدين من كثرة خروج الدم، فحمله الرجال على أكتافهم في محفة اليد أربعة وعشرين فرسخاً، فلما وصل إلى لهاوور أخذ الأمراء الغورية، وهم الذين انهزموا ولم يثبتوا، وعلق على كل واحد منم عليق شعير؛ وقال: أنتم دواب ما أنتم أمراء! وسار إلى غزنة، وأمر بعضهم فمشى إليها ماشياً، فلما وصل إلى غزنة أقام بها ليستريح الناس، ونذكر ما فعله بملك الهند الذي هزمه سنة ثمان وثمانين إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، قتل مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب، وهو أستاذ دار الخليفة، أمر الخليفة بقتله، وكان متحكماً في الدولة، ليس للخليفة معه حكم؛ وكان هو القيم بالبيعة له، وظهر له أموال عظيمة، أخذ جميعها، وان حسن السيرة عفيفاً عن الأموال، وكان الذي سعى به إنسان من أصحابه وصنائعه، يقال له عبيد الله بن يونس، فسعى به إلى الخليفة، وقبح آثاره، فقبض عليه وقتله.
وفيها، في ربيع الآخر، وقع حريق في الحظائر ببغداد، واحترقت أحطاب كثيرة، وسببه أن فقيهاً بالمدرسة النظامية كان يطبخ طعاماً يأكله، فغفل عن النار والطبيخ، فعلقت النار واتصلت إلى الحظائر، فاحترقت جميعها، واحترق درب السلسلة وغيره مما يجاوره.
وفيها، في شوال، استوزر الخليفة الناصر لدين الله أبا المظفر عبيد الله ابن يونس، ولقبه جلال الدين، ومشى أرباب الدولة في ركابه، حتى قضى القضاة، وكان ابن يونس من شهوده. وكان يمشي ويقول: لعن الله طول العمر.
وفيها، في المحرم، توفي عبد المغيث بن زهير الحري ببغداد، وكان من أعيان الحنابلة، قد سمع الحديث الكثير، وصنف كتاباً في فضائل يزيد ابن معاوية أتى فيه بالعجائب، وقد رد عليه أبو الفرج بن الجوزي، وكان بنيهما عداوة.
وفيها توفي قاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني، وولي قضاء القضاة للمقتفي بعد موت الزينبي، ثم للمستنجد بالله، ثم عزل، ثم أعيد إلى المستضيء بأمر الله.
وفيها توفي الوزير جلال الدين أبو الحسن علي بن جمال الدين أبي جعفر محمد بن أبي منصور وزير صاحب الموصل، وهو الجواد ابن الجواد، وقد ذكرنا من أخباره وأخبار أبيه ما يعلم به محلهما، وحمل إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فدفن بها عند أبيه علي بن خطاب بن ظفر الشيخ الصالح من جزيرة ابن عمر، وكان من الأولياء أرباب الكرامات، وصحبته أنا مدة، فلم أر مثله حسن خلق وسمت وكرم وعبادة، رحمه الله.
وفيها ولدت امرأة من سواد بغداد بنتاً لها أسنان.
وفيها توفي نصر بن فتيان بن مطر أبو الفتح بن المني الفقيه الحنبلي، لم يكن لهم مثله، رحمه الله.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة
ذكر حصر صلاح الدين كوكبفي هذه السنة، في المحرم انحسر الشتاء، فسار صلاح الدين من عكا فيمن تخلف عنده من العسكر إلى قلعة كوكب، فحصرها، ونازلها، ظناً منه أن ملكها سهل وأن أخذها، وهو في قلة من العسكر، متيسر، فلما رآها عالية منيعة أدرك أن الوصول إليها متعذر، وكان عنده منها ومن صفد والكرك المقيم المقعد، لأن البلاد الساحلية، من عكا إلى جهة الجنوب، كانت قد ملك جميعها، ما عدا هذه الحصون، وكان يختار أن يبقى في وسطها ما يشغل قلبه، ويقسم همه، ويحتاج إلى حفظه، ولئلا ينال الرعايا والمجتازين منهم الضرر والعظيم.
فلما حصر كوكب، ورآها منيعة، يبطئ ملكها وأخذها، رحل عنها، وجعل عليها قايماز النجمي، مستديماً لحصاره. وكان رحيله عنها في ربيع الأول. وأتاه رسل الملك قلج أرسلان. وقزل أرسلان وغيرهما. وينئونه بالفتح والظفر، وسار من كوكب إلى دمشق، ففرح الناس بقدومه، وكتب إلى البلاد جميعها باجتماع العساكر. وأقام بها إلى أن سار إلى الساحل.
ذكر رحيل صلاح الدين إلى بلد الفرنجلما أراد صلاح الدين المسير عن دمشق حضر عند القاضي الفاضل مودعاً له ومستشيراً، وكان مريضاً، وودعه وسار عن دمشق منتصف ربيع الأول إلى حمص، فنزل على بحيرة قدس، غربي حمص، وجاءته العساكر: فأول من أتاه من أصحاب الأطراف عماد الدين زنكي بن مودود بن اقسنقر. صاحب سنجار، ونصيبين. الخابور، وتلاحقت العساكر من الموصل وديار الجزيرة وغيرها. فاجتمعت عليه، وكثرت عنده. فسار حتى نزل تحت حصن الأكراد من الجانب الشرقي؛ وكنت معه حينئذ، فأقام يومين، وسار جريدة، وترك أثقال العسكر موضعها تحت الحصن، ودخل إلى بلد الفرنج، فأغار على صافيثا، والعريمة، ويحمور، وغيرها من البلاد والولايات، ووصل إلى قرب طرابلس، وأبصر البلاد، وعرف من أين يأتيها، وأين يسلك منها، ثم عاد إلى معسكره سالماً.
وقد غنم العسكر من الدواب، على اختلاف أنواعها، ما لا حد له، وأقام تحت حصن الأكراد إلى آخر ربيع الآخر.
ذكر فتح جبلةلما أقام صلاح الدين تحت حصن الأكراد، أتاه قاضي جبلة، وهو منصور بن نبيل، يستدعيه إليها ليسلمها إليه، وكان هذا القاضي عند بيمند، صاحب أنطاكية وجبلة، مسموع القول مقبول الكلمة، له الحرمة الوافرة، والمنزلة العالية، وهو يحكم على جميع المسلمين، بجبلة ونواحيها، على ما يتعلق بالبيمند، فحملته الغيرة للدين على قصد السلطان، وتكفل له بفتح جبلة ولاذقية والبلاد الشمالية، فسار صلاح الدين معه رابع جمادى الأولى، فنزل بأنطرطوس سادسه، فرأى الفرنج قد أخلوا المدينة، واحتموا في برجين حصينين، كل واحد منهما قلعة حصينة ومعقل منيع، فخرب المسلمون دورهم ومساكنهم وسور البلد، ونهبوا ما وجدوه من ذخائرهم.
وكان الداوية بأحد البرجين، فحصرهما صلاح الدين، فنزل إليه من في أحد البرجين بأمان وسلموه، فأمنهم، وخرب البرج وألقى حجارته في البحر، وبقي الذي فيه الداوية لم يسلموه، وكان معهم مقدمهم الذي أسره صلاح الدين يوم المصاف، وكان قد أطلقه لما ملك البيت المقدس، فهو الذي حفظ هذا الحصن، فخرب صلاح الدين ولاية أنطرطوس، ورحل عنها وأتى مرقية، وقد أخلاها أهلها، ورحلوا عنها، وساروا إلى المرقب، وهو من حصونهم التي لا ترام، ولا يحدث أحد نفسه بملكه لعلوه وامتناعه، وهو للإسبتار، والطريق تحته، فيكون الحصن على يمين المجتاز إلى جبلة، والبحر عن يساره، والطريق مضيق لا يسلكه إلا الواحد بعد الواحد.
فاتفق أن صاحب صقلية من الفرنج قد سير نجدة إلى فرنج الساحل في ستين قطعة من الشواني، وكانوا بطرابلس، فلما سمعوا بمسير صلاح الدين جاؤوا ووقفوا في البحر، تحت المرقب، في شوانيهم، ليمنعوا من يجتاز بالسهام. فلما رأى صلا الدين ذلك أمر بالطارقيات والجفتيات، فصفت على الطريق ما يلي البحر من أول المضيق إلى آخره، وجعل وراءها الرماة، فمنعوا الفرنج من الدنو إليهم. فاجتاز المسلمون عن آخرهم، حتى عبروا المضيق ووصلوا إلى جبلة ثامن عشر جمادى الأولى. وتسلمها وقت وصوله.
وكان قاضيها قد سبق إليها ودخل. فلما وصل صلاح الدين رفع أعلامه على سورها وسلمها إليه ، وتحصن الفرنج الذين كانوا بها بحصنها، واحتموا بقلعتها، فما زال قاضي جبلة يخوفهم ويرغبهم، حتى استنزلهم بشرط الأمان، وأن يأخذ رهائنهم يكونون عنده إلى أن يطلق الفرنج رهائن المسلمين من أهل جبلة.
وكان بيمند. صاحبها، قد أخذ رهائن القاضي ومسلمي جبلة، وتركهم عنده بأنطاكية، فأخذ القاضي رهائن الفرنج فأنزلهم عنده حتى أطلق بيمند رهائن المسلمين فأطلق المسلمون رهائن الفرنج، وجاء رؤساء أهل الجبل إلى صلاح الدين بطاعة أهله، وهو من أمنع الجبال وأشقها مسلكاً، وفيه حصن يعرف ببكسرائيل، بين جبلة ومدينة حماة، فملكه المسلمون، وصار الطريق في هذا الوقت عليه من بلاد الإسلام إلى العسكر، وكان الناس يلقون شدة في سلوكه. وقرر صلاح الدين أحوال جبلة، وجعل فيها لحفظها الأمير سابق الدين عثمان بن الداية، صاحب شيزر، وسار عنها.
ذكر فتح لاذقيةلما فرغ السلطان من أمر جبلة، سار عنها إلى لاذقية، فوصل إليها في الرابع والعشرين من جمادى الأولى، فترك الفرنج المدينة لعجزهم عن حفظها، وصعدوا إلى حصنين لها على الجبل فامتنعوا بهما، فدخل المسلمون المدينة وحصروا القلعتين اللتين فيهما الفرنج، وزحفوا إليهما، ونقبوا السور ستين ذراعاً، وعلقوه، وعظم القتال، واشتد الأمر عند الوصول إلى السور؛ فلما أيقن الفرنج بالعطب، ودخل إليهم قاضي جبلة فخوفهم من المسلمين، طلبوا الأمان فأمنهم صلاح الدين، ورفعوا الأعلام الإسلامية إلى الحصنين، وكان ذلك في اليوم الثالث من النزول عليها.
وكانت عمارة اللاذقية من أحسن الأبنية وأكثرها زخرفة مملوءة بالرخام على اختلاف أنواعها، فخرب المسلمون كثيراً منها، ونقلوا رخامها، وشعثوا كثيراً من بيعها التي قد غرم على كل واحد منها الأموال الجليلة المقدار، وسلمها إلى ابن أخيه تقي الدين عمر، فعمرها، وحصن قلعتها، حتى إذا رآها اليوم من رآها قبل ينكرها، فلا يظن أن هذه تلك؛ وكان عظيم الهمة في تحصين القلاع والغرامة الوافرة عليها، كما فعل بقلعة حماة.
ذكر حال أسطول صقليةلما نازل صلاح الدين لاذقية جاء أسطول صقلية الذي تقدم ذكره، فوقف بإزاء ميناء لاذقية، فلما سلمها الفرنج الذين بها إلى صلاح الدين، عزم أهل هذا الأسطول على أخذ من يخرج منها من أهلها غيظاً وحنقاً، حيث سلموها سريعاً، فسمع بذلك أهل لاذقية، فأقاموا، وبذلوا الجزية، وكان سبب مقامهم.
ثم إن مقدم هذا الأسطول طلب من السلطان الأمان ليحضر عنده، فأمنع، وحضر وقبل الأرض بين يديه، وقال ما معناه: إنك سلطان رحيم وكريم، وقد فعلت بالفرنج ما فعلت فذلوا، فاتركهم يكونون مماليكك وجندك تفتح بهم البلاد والممالك، وترد عليهم بلادهم، وإلا جاءك من البحر ما لا طاقة لك به، فيعظم عليك الأمر ويشتد الحال.
فأجابه صلاح الدين بنحو من كلامه من إظهار القوة والاستهانة بكل من يجيء من البحر، وإنهم إن خرجوا أذاقهم ما أذاق أصحابهم من القتل والأسر؛ فصلب على وجهه، ورجع إلى أصحابه.
ذكر فتح صهيون وعدة من الحصونثم رحل صلاح الدين عن لاذقية في السابع والعشرين من جمادى الأولى، وقصد قلعة صهيون، وهي قلعة منيعة شاهقة في الهواء، صعبة المرتقى، على قرنة جبل، يطيف بها واد عميق، فيه ضيق في بعض المواضع، بحيث إن حجر المنجنيق يصل منه إلى الحصن، إلا أن الجبل متصل بها من جهة الشمال، وقد عملوا لها خندقاً عميقاً لا يرى قعره، وخمسة أسوار منيعة، فنزل صلاح الدين على هذا الجبل الملتصق بها، ونصب عليه المجانيق ورماها، وتقدم إلى ولده الظاهر، صاحب حلب، فنزل على المكان الضيق من الوادي، ونصب عليه المجانيق أيضاً، فرمى الحصن منه.
وكان معه من الرجالة الحلبيين كثير، وهم في الشجاعة بالمنزلة المشهورة، ودام رشق السهام من قسي اليد، والجرخ، والزنبورك، والزيار، فجرح أكثر من بالحصن، وهم يظهرون التجلد والامتناع، وزحف المسلمون إليهم ثاني جمادى الآخرة، فتعلقوا بقرنة من ذلك الجبل قد أغفل الفرنج إحكامها، فتسلقوا منها بين الصخور، حتى التحقوا بالسور الأول فقاتلوهم عليه حتى ملكوه، ثم إنهم قاتلوهم على باقي الأسوار فملكا منها ثلاثة وغنموا ما فيها من أبقار ودواب وذخائر وغير ذلك، واحتمى الفرنج بالقلة التي للقلعة، فقاتلهم المسلمون عليها، فنادوا وطلبوا الأمان، فلم يجبهم صلاح الدين إليه، فقرروا على أنفسهم مثل قطيعة البيت المقدس، وتسلم الحصن وسلمه إلى أمير يقال له ناصر الدين منكوبرس، صاح قلعة أبي قبيس، فحصنه وجعله من أحصن الحصون.
ولما ملك المسلمون صهيون تفرقوا في تلك النواحي، فملكوا حصن بلاطنوس، وكان من به من الفرنج قد هربوا منه وتركوه خوفاً ورعباً. وملك أيضاً حصن العيدو، وحصن الجماهرتين، فاتسعت المملكة الإسلامية بتلك الناحية، إلا أن الطريق إليها من البلاد الإسلامية على عقبة بكسرائيل شاق شديد، لان الطريق السهلة كانت غير مسلوكة، لأن بعضها بيد الإسماعيلية، وبعضها بيد الفرنج.
ذكر فتح حصن بكاس والشغرثم سار صلاح الدين عن صهيون، ثالث جمادى الآخرة، فوصل إلى قلعة بكاس فرأى الفرنج قد أخلوها، وتحصنوا بقلعة الشغر، فملك قلعة بكاس بغير قتال، وتقدم إلى قلعة الشغر وحصرها، وهي وبكاس على الطريق السهل المسلوك إلى لاذقية وجبلة، والبلاد التي افتتحها صلاح الدين من بلاد الشام الإسلامية.
فلما نازلها رآها منيعة حصينة لا ترام، ولا يوصل إليها بطريق من الطرق؛ إلا أنه أمر بمزاحفتهم ونصب منجنيق عليهم، ففعلوا ذلك، ورمى بالمنجنيق، فلم يصل من أحجاره إلى القلعة شيء إلا القليل الذي لا يؤذي، فبقي المسلمون عليه أياماً لا يرون فيه طمعاً، وأهله غير مهتمين بالقتال لامتناعهم عن ضرر يتطرق إليهم، وبلاء ينزل عليهم.
فبينما صلاح الدين جالس، وعنده أصحابه، وهم في ذكر القلعة وإعمال الحلية في الوصول إليها. قال بعضهم: هذا الحصن كما قال الله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً) الكهف 97، فقال صلاح الدين: أو يأتي الله بنصر من عنده وفتح.
فبينما هم في هذا الحديث إذ قد أشرف عليهم فرنجي ونادى بطلب الأمان لرسول يحضر عند صلاح الدين، فأجيب إلى ذلك، ونزل رسول، وسأل إنظارهم ثلاثة أيام، فإن جاءهم من يمنعهم، وإلا سلموا القلعة بما فيها من ذخائر ودواب وغير ذلك، فأجابهم إليه وأخذ رهائنهم على الوفاء به.
فلما كان اليوم الثالث سلموها إليه، واتفق يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة؛ وكان سبب استمهالهم أنهم أرسلوا إلى البيمند، صاحب أنطاكية، وكان هذا الحصن له، يعرفونه أنهم محصورون، ويطلبون منه أن يرحل عنهم المسلمين، فإن فعل، إلا سلموها، وإنما فعلوا ذلك لرعب قذفه الله تعالى في قلوبهم، وإلا فلو أقاموا الدهر الطويل لم يصل إليهم أحد، ولا بلغ المسلمون منهم غرضاً؛ فلما تسلم صلاح الدين الحصن سلمه إلى أمير يقال له قلج، وأمره بعمارته، ورحل عنه.
ذكر فتح سرمينيةلما كان صلاح الدين مشغولاً بهذه القلاع والحصون، سير ولده الظاهر غازي، صاحب حلب، فحصر سرمينية، وضيق على أهلها، واستنزلهم على قطيعة قررها عليهم، فلما أنزلهم، وأخذ منهم المقاطعة، هدم الحصن وعفى أثره وعالي بنيانه.
وكان فيه وفي هذه الحصون من أسارى المسلمين الجم الغفير، فأطلقوا، وأعطوا كسوة ونفقة، وكان فتحه في يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الآخرة.
واتفق أن فتح هذه المدن والحصون جميعها من جبلة إلى سرمينية، مع كثرتها، كان في ست جمع مع أنها في أيدي أشجع الناس وأشدهم عداوة للمسلمين، فسبحان من إذا أراد أن يسهل الصعب فعل؛ وهي جميعها من أعمال أنطاكية، ولم يبق لها سوى القصير، وبغراس، ودرب ساك، وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في مكانه.
ذكر فتح برزيةلما رحل صلاح الدين من قلعة الشغر سار إلى قلعة برزية، وكانت قد وصفت له، وهي تقابل حصن أفامية، وتناصفها في أعمالها، وبينهما بحيرة تجتمع من ماء العاصي وعيون تتفجر من جبيل برزية وغيره، وكان أهلها أضر شيء على المسلمين، يقطعون الطريق، ويبالغون في الأذى، فلما وصل إليها نزل شرقيها في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة، ثم ركب من الغد وطاف عليها لينظر موضعاً يقاتلها منه، فلم يجد إلا من جهة الغرب، فنصب له هناك خيمة صغيرة، ونزل فيها ومعه بعض العسكر جريدة لضيق المواضع.
وهذا القلعة لا يمكن أن تقاتل من جهة الشمال والجنوب البتة، فإنها لا يقدر أحد أن يصعد جبلها من هاتين الجهتين، وأما الجانب الشرقي فيمكن الصعود منه لكن لغير مقاتل، لعلوه وصعوبته، وأما جهة الغرب فإن الوادي المطيف بجبلها قد ارتفع هناك ارتفاعاً كثيراً، حتى قارب القلعة، بحيث يصل منه حجر المنجنيق والسهام، فنزله المسلمون ونصبوا عليه المجانيق، ونصب أهل القلعة عليها منجنيقاً بطلها.
ورأيت أنا من رأس جبل عال يشرف على القلعة، لكنه لا يصل منه شيء إليها، امرأة ترمي من القلعة عن المنجنيق، وهي التي بطلت منجنيق المسلمين، فلما رأى صلاح الدين أن المنجنيق لا ينتفعون به، عزم على الزحف، ومكاثرة أهلها بجموعه، فقسم عسكره ثلاثة أقسام: يزحف قسم، فإذا تعبوا وكلوا عادوا وزحف القسم الثاني، فإذا تعبوا وضجروا عادا وزحف القسم الثالث، ثم يدور الدور مرة بعد أخرى حتى يتعب الفرنج وينصبوا، فإنهم لم يكن عندهم من الكثرة ما يتقسمون كذلك، فإذا تعبوا وأعيوا سلموا القلعة.
فلما كان الغد، وهو السابع والعشرون من جمادى الآخرة، تقدم أحد الأقسام، وكان المقدم عليهم عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، صاحب سنجار، وزحفوا، وخرج الفرنج من حصنهم، فقاتلهم على فصليهم، ورماهم المسلمون بالسهام من وراء الجفتيات والجنويات والطارقيات، ومشوا إليهم حتى قربوا إلى الجبل، فلا قاربوا الفرنج عجوزا عن الدنو منهم لخشونة المرتقى، وتسلط الفرنج عليهم، لعلو مكانهم، بالنشاب والحجارة، فإنهم كانوا يلقون الحجارة الكبار فتتدحرج إلى أسفل الجبل، فلا يقوم لها شيء.
فلما تعب هذا القسم انحدروا، وصعد القسم الثاني، وكانوا جلوساً ينتظرونهم، وهم حلقة صلاح الدين الخاص، فقاتلوا قتالاً شديداً، وكان الزمان حراً شديداً، فاشتد الكرب على الناس، وصلاح الدين في سلاحه يطوف عليهم ويحرضهم، وكان تقي الدين ابن أخيه كذلك، فقاتلوهم إلى قريب الظهر ثم تعبوا، ورجعوا.
فلما رآهم صلاح الدين قد عادوا تقدم إليهم وبيده جماق يردهم، وصاح في القسم الثالث، وهم جلوس ينتظرون نوبتهم، فوثبوا ملبين، وساعدوا إخوانهم، وزحفوا معهم، فجاء الفرنج ما لا قبل لهم به، وكان أصحاب عماد الدين قد استراحوا، فقاموا أيضاً معهم، فحينئذ اشتد الأمر على الفرنج وبلغت القلوب الحناجر، وكانوا قد اشتد تعبهم ونصبهم، فظهر عجزهم عن القتال، وضعفهم عن حمل السلاح لشدة الحر والقتال، فخالطهم المسلمون فعاد الفرنج يدخلون الحصن، فدخل المسلمون معهم، وكان طائفة قليلة في الخيام، شرقي الحصن، فرأوا الفرنج قد أهملوا ذلك الجانب، لأنهم لا يرون فيه مقاتلاً، وليكثروا في الجهة التي فيها صلاح الدين، فصعدت تلك الطائفة من العسكر، فلم يمنعهم مانع، فصعدوا أيضاً الحصن من الجهة الأخرى، فالتقوا مع المسلمين الداخلين مع الفرنج؛ فملكوا الحصن عنوة وقهراً، ودخل الفرنج القلة التي للحصن، وأحاط بها المسلمون، وأرادوا نقبها.
وكان الفرنج قد رفعوا من عندهم من أسرى المسلمين إلى سطح القلة، وأرجلهم في القيود والخشب المنقوب، فلما سمعوا تكبير المسلمين في نواحي القلعة كبروا في سطح القلة، وظن الفرنج أن المسلمين قد صعدوا على السطح فاستسلموا وألقوا بأيديهم إلى الأسر، فملكها المسلمون عنوة، ونهبوا ما فيها، وأسروا وسبوا من فيها، وأخذوا صاحبها وأهلها، وأمست خالية لا ديار بها، وألقى المسلمون النار في بعض بيوتهم فاحترقت.
ومن أعجب ما يحكى من السلامة أنني رأيت رجلاً من المسلمين على هذا الحصن قد جاء من طائفة من المؤمنين شمالي القلعة إلى طائفة أخرى من المسلمين جنوبي القلعة، وهو يعدو في الجبل عرضاً، فألقيت عليه الحجارة، وجاءه حجر كبير لو ناله لبعجه، فنزل عليه، فناداه الناس يحذرونه، فالتفت ينظر ما الخبر، فسقط على وجهه من عثرة، فاسترجع الناس، وجاء الحجر إليه، فلا قاربه وهو منبطح على وجهه، لقيه حجر آخر ثابت في الأرض فوق الرجل، فضبه المنحدر فارتفع عن الأرض، وجاز الرجل، ثم عاد إلى الأرض من جانبه الآخر لم ينله منه أذى ولا ضرر، وقام يعدو حتى لحق بأصحابه، فكان سقوطه سبب نجاته فتعست أم الجبان.
وأما صاحب برزية، فإنه أسر هو وامرأته وأولاده، ومنهم بنت له معها زوجها، فتفرقهم العسكر، فأرسل صلاح الدين في الوقت وبحث عنهم واشتراهم، وجمع شمل بعضهم ببعض؛ فلما قارب أنطاكية أطلقهم وسيرهم إليها، وكانت امرأة صاحب برزية أخت امرأة بيمند، صاحب أنطاكية، وكانت تراسل صلاح الدين وتهاديه، وتعلمه كثيراً من الأحوال التي تؤثر، فأطلق هؤلاء لأجلها.
ذكر فتح درب ساك
لما فتح صلاح الدين حصن برزية رحل عنه من الغد، فأتى جسر الحديد، وهو على العاصي، بالقرب من أنطاكية، فأقام عليه حتى وافاه من تخلف عنه من عسكره، ثم سار عنه إلى قلعة درب ساك، فنزل عليها ثامن رجب، وهي من معاقل الداوية الحصينة وقلاعهم التي يدخرونها لحماياتهم عند نزول الشدائد.
فلما نزل عليها نصب المجانيق، وتابع الرمي بالحجارة، فهدمت من سورها شيئاً يسيراً، فلم يبال من فيه بذلك، فأمر بالزحف عليها ومهاجمتها، فبادرها العسكر بالزحف وقاتلوها، وكشفوا الرجال عن سورها، وتقدم النقابون فنقبوا منها برجاً وعلقوه، فسقط واتسع المكان الذي يريد المقاتلة أن يدخلوا منه، وعادوا يومهم ذلك، ثم باكروا الزحف من الغد.
وكان من فيه قد أرسلوا إلى صاحب أنطاكية يستنجدونه، فصروا، وأظهروا الجلد، وهم ينظرون وصول جوابه إما بإنجادهم وإزاحة المسلمين عنهم، وإما بالتخلي عنهم ليقوم عذرهم في التسليم، فلما علموا عجزه عن نصرتهم، وخافوا هجوم المسلمين عليها، وأخذهم السيف، وقتلهم وأسرهم، ونهب أموالهم، طلبوا الأمان، فأمنهم على شرط أن لا يخرج أحد إلا بثيابه التي عليه بغير مال، ولا سلاح، ولا أثاث بيت، ولا دابة، ولا شيء مما بها، ثم أخرجهم منه وسيرهم إلى أنطاكية، وكان فتحه تاسع عشر رجب.
ذكر فتح بغراسثم سار عن درب ساك إلى قلعة بغراس، فحصرها، بعد أن اختلف أصحابه في حصرها، فمنهم من أشار به، ومنهم من نهى عنه وقال: هو حصن حصين، وقلعة منيعة، وهو بالقرب من أنطاكية، ولا فرق بين حصره وحصرها، ويحتاج أن يكون أكثر العسكر في اليزك مقابل أنطاكية، فإذا كان الأمر كذلك قل المقاتلون عليها، ويتعذر حينئذ الوصول إليها.
فاستخار الله تعالى وسار إليها، وجعل أكثر عسكره يزكاً مقابل أنطاكية، يغيرون على أعمالها، وكانوا حذرين من الخوف من أهلها، إن غفلوا، لقربهم منها، وصلاح الدين في بعض أصحابه على القلعة يقاتلها، ونصب المجانيق، فلم يؤثر فيها شيئاً لعلوها وارتفاعها، فغلب على الظنون تعذر فتحها وتأخر ملكها، وشق على المسلمين قلة الماء عندهم، إلا أن صلاح الدين نصب الحياض، وأمر بحمل الماء إليها، فخفف الأمر عليهم.
فبينما هو على هذه الحال إذ قد فتح باب القلعة، وخرج منه إنسان يطلب الأمان ليحضر، فأجيب إلى ذلك، فأذن له في الحضور، فحضر، وطلب الأمان لمن في الحصن حتى يسلموه إليه، بما فيه على قاعدة درب ساك، فأجابهم إلى ما طلبوا؛ فعاد الرسول ومعه الأعلام الإسلامية، فرفعت على رأس القلعة، ونزل من فيها، وتسلم المسلمون القلعة بما فيها من ذخائر وأموال وسلاح، وأمر صلاح الدين بتخريبه، فخرب، وكان ذلك مضرة عظيمة وأتقنه، وجعل فيه جماعة من عسكره يغيرون منه على البلاد، فتأذى بهم السواد الذي بحلب، وهو إلى الآن بأيديهم.
ذكر الهدنة بين المسلمين وصاحب أنطاكيةلما فتح صلا الدين بغراس عزم على التوجه إلى أنطاكية وحصرها، فخاف البيمند صاحبها من ذلك، وأشفق منه، فأرسل إلى صلاح الدين يطلب الهدنة، وبذل إطلاق كل أسير عنده من المسلمين، فاستشار من عنده من أصحاب الأطراف وغيرهم، فأشار أكثرهم بإجابته إلى ذلك ليعود الناس ويستريحوا ويجددوا ما يحتاجون إليه، فأجاب إلى ذلك، واصطلحوا ثمانية أشهر، أولها: أول تشرين الأول، وآخرها: آخر أيار، وسير رسوله إلى صاحب أنطاكية يستخلفه، ويطلق من عنده من الأسرى.
وكان صاحب أنطاكية، في هذا الوقت، أعظم الفرنج شأناً، وأكثرهم ملكاً، فإن الفرنج كانوا قد سلموا إليه طرابلس، بعد موت القمص، وجميع أعمالها، مضافاً إلى ما كان له، أن القمص لم يخلف ولداً، فلما سلمت إليه طرابلس جعل ولده الأكبر فيها نائباً عنه.
وأما صلاح الدين فإنه عاد إلى حلب ثالث شعبان، فدخلها وسار منها إلى دمشق، وفرق العساكر الشرقية، كعماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار والخابور، وعسكر الموصل، وغيرها، ثم رحل من حلب إلى دمشق، وجعل طريقه على قبر عمر بن عبد العزيز، فزاره، وزار الشيخ الصالح أبا زكرياء المغربي، وكان مقيماً هناك، وكان من عباد الله الصالحين، وله كرامات ظاهرة.
وكان مع صلاح الدين الأمير عز الدين أبو الفليتة قاسم بن المهنا العلوي الحسيني، وهو أمير مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، كان قد حضر عنده، وشهد معه مشاهده وفتوحه، وكان صلاح الدين قد تبارك برؤيته، وتيمن بصحبته، وكان يكرمه كثيراً، وينبسط معه، ويرجع إلى قوله في أعماله كلها، ودخل دمشق أول شهر رمضان، فأشير عليه بتفريق العساكر، فقال: إن العمر قصير والأجل غير مأمون؛ وقد بقي بيد الفرنج هذه الحصون: كوكب، وصفد، والكرك، وغيرها، ولا بد من الفراغ منها، فإنها في وسط بلاد الإسلام، ولا يؤمن شر أهلها، وإن أغفلناهم ندمنا فيما بعد، والله أعلم.
ذكر فتح الكرك وما يجاورهكان صلاح الدين قد جعل على الكرك عسكراً يحصره، فلازموا الحصار هذه المدة الطويلة، حتى فنيت أزواد الفرنج وذخائرهم، وأكلوا دوابهم، وصبروا حتى لم يبق للصبر مجال، فراسلوا الملك العادل، أخا صلاح الدين، وان جعله صلاح الدين على قلعة الكرك في جمع من العسكر يحصرها، ويكون مطلعاً على هذه الناحية من البلاد لما أبعد هو إلى درب ساك، وبغراس، فوصلته رسل الفرنج من الكرك يبذلون تسليم القلعة إليه، ويطلبون الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وأرسل إلى مقدم العسكر الذي يحصرها في المعنى، فتسلم القلعة منهم وأمنهم.
وتسلم أيضاً ما يقاربه من الحصون كالشوبك وهرمز والوعيرة والسلع، وفرغ القلب من تلك الناحية، وألقى الإسلام هناك جرانه، وأمنت قلوب من في ذلك السقع من البلاد، كالقدس وغيره، فإنهم كانوا ممن بتلك الحصون وجلين، ومن شرهم مشفقين.
ذكر فتح قلعة صفدلما وصل صلاح الدين إلى دمشق، وأشير عليه بتفريق العساكر، وقال: لا بد من الفراغ من صفد وكوكب وغيرهما، أقام بدمشق إلى منتصف رمضان، وسار عن دمشق إلى قلعة صفد فحصرها وقاتلها، ونصب عليها المجانيق، وأدام الرمي إليها ليلاً ونهاراً بالحجارة والسهام.
وكان أهلها قد قاربت ذخائرهم وأزوادهم أن تفنى في المدة التي كانوا فيها محاصرين، فإن عسكر صلاح الدين كان يحاصرهم، كما ذكرناه، فلما رأى أهله جد صلاح الدين في قتالهم، خافوا أن يقيم إلى أن يفنى ما بقي معهم من أقواتهم، وكانت قليلة، ويأخذهم عنوة ويهلكهم، أو أنهم يضعفون عن مقاومته قبل فناء ما عندهم من القوت فيأخذهم، فأرسلوا يطلبون الأمان، فأمنهم وتسلمها منهم، فخرجوا عنها وساروا إلى مدينة صور، وكفى الله المؤمنين شرهم، فإنهم كانوا وسط البلاد الإسلامية.
ذكر فتح كوكبلما كان صلاح الدين يحاصر صفد، اجتمع من بصور من الفرنج، وقالوا: إن فتح المسلمون قلعة صفد لم تبق كوكب، ولو أنها معلقة بالكوكب، وحينئذ ينقطع طمعنا من هذا الطرف من البلاد؛ فاتفق رأيهم على إنفاذ نجدة لها سراً من رجال وسلاح وغير ذلك، فأخرجوا مائتي رجل من شجعان الفرنج وأجلادهم، فساروا الليل مستخفين، وأقاموا النهار مكمنين.
فاتفق من قدر الله تعالى أن رجلاً من المسلمين الذين يحاصرون كوكب خرج متصيداً، فلقي رجلاً من تلك النجدة، فاستغربه بتلك الأرض، فضربه ليعلمه بحاله، وما الذي أقدمه إلى هناك، فأقر بالحال، ودله على أصحابه، فعاد الجندي المسلم إلى قايماز النجمي، وهو مقدم ذلك العسكر، فأعلمه الخبر، والفرنجي معه، فركب في طائفة من العسكر إلى الموضع الذي قد اختفى فيه الفرنج، فكبسهم، فأخذهم، وتتبعهم في الشعاب والكهوف، فلم يفلت منهم أحد، فكان معهم مقدمان من فرسان الإسبتار، فحملا إلى صلاح الدين وهو على صفد، فأحضرهما ليقتلهما، وكانت عادته قتل الداوية والإسبتارية لشدة عداوتهم للمسلمين وشجاعتهم، فلما أمر بقتلهما قال له أحدهما: ما أظن ينالنا سوء وقد نظرنا إلى طلعتك المباركة ووجهك الصبيح. وكان رحمه الله، كثير العفو، يفعل الاعتذار والاستعطاف فيه، فيعفو ويصفح، فلما سمع كلامهما لم يقتلهما، وأمر بهما فسجنا.
ولما فتح صفد سار عنها إلى كوكب ونازلها وحصرها، وأرسل إلى من بها من الفرنج يبذل لهم الأمان إن سلموا، ويتهددهم بالقتل والسبي والنهب إن امتنعوا، فلم يسمعوا قولهن وأصروا على الامتناع، فجد في قتالهم، ونصب عليهم المجانيق، وتابع رمي الأحجار إليهم، وزحف مرة بعد مرة، وكانت الأمطار كثيرة، لا تنقطع ليلاً ولا نهاراً، فلم يتمكن المسلمون من القتال على الوجه الذي يريدوه، وطال مقامهم عليها.
وفي آخر الأمر زحفوا إليها دفعات متناوبة في ويم واحد، ووصلوا إلى باشورة القلعة، ومعهم النقابون والرماة يحمونهم بالنشاب عن قوس اليد والجروخ، فلم يقدر أحد منهم أن يخرج رأسه من أعلى السور، فنقبوا الباشورة فسقطت، وتقدموا إلى السور الأعلى، فلما رأى الفرنج ذلك أذعنوا بالتسليم، وطلبوا الأمان فأمنهم، وتسلم الحصن منهم منتصف ذي القعدة، وسيرهم إلى صور، فوصلوا إليها.
واجتمع بها من شياطين الفرنج وشجعانهم كل صنديد، فاشتدت شوكتهم، وحميت جمرتهم، وتابعوا الرسل إلى من بالأندلس وصقلية وغيرهما من جزائر البحر يستغيثون ويستنجدون، والأمداد كل قليل تأتيهم، وكان ذلك كله بتفريط صلاح الدين في إطلاق كل من حصره، حتى عض بنانه ندماً وأسفاً حيث لم ينفعه ذلك.
واجتمع للمسلمين بفتح كوكب وصفد من حد أيلة إلى أقصى أعمال بيروت، لا يفصل بينه غير مدينة صور، وجميع أعمال أنطاكية، سوى القصير، ولما ملك صلاح الدين صفد سار إلى البيت المقدس، فعيد فيه عيد الأضحى، ثم سار منه إلى عكا، فأقام بها حتى انسلخت السنة.
ذكر ظهور طائفة من الشيعة بمصرفي هذه السنة ثار بالقاهرة جماعة من الشيعة، عدتهم اثنا عشر رجلاً، ليلاً، ونادوا بشعار العلويين،: يال علي، يال علي، وسلكوا الدروب ينادون، ظناً منهم أن رعية البلد يلبون ويملكون البلد، فلم يلتفت أحد منهم إليهم، ولا أعارهم سمعه.
فلما رأوا ذلك تفرقوا خائفين، فأخذوا، وكتب بذلك إلى صلاح الدين، فأهمه أمرهم وأزعجه، فدخل عله القاضي الفاضل، فأخبره الخبر، فقال القاضي الفاضل: ينبغي أن تفرح بذلك ولا تحزن ولا تهتم، حيث علمت من بواطن رعيتك المحبة لك والنصح، وترك الميل إلى عدوك، ولو وضعت جماعة يفعلون مثل هذه الحالة لتعلم بواطن أصحابك ورعيتك، وخسرت الأموال الجليلة عليهم، لكان قليلاً؛ فسري عنه.
وكان هذا القاضي صاحب دولة صلاح الدين، وأكبر من بها، وستأتي مناقبه عند وفاته، ما تراه.
ذكر انهزام عسكر الخليفة من السلطان طغرلفي هذه السنة جهز الخليفة الناصر لدين الله عسكراً كثيراً، وجعل المقدم عليهم وزيره جلال الدين عبيد الله بن يونس، وسيرهم إلى مساعدة قزل، ليكف السلطان طغرل عن البلاد، فسار العسكر ثالث صفر إلى أن قارب همذان، فلم يصل قزل إليهم، وأقبل طفرل إليهم في عساكره، فالتقوا ثامن ربيع الأول بداي مرج عند همذان، واقتتلوا، فلم يثبت عسكر بغداد، بل انهزموا وتفرقوا، وثبت الوزير قائماً، ومعه مصحف وسيف، فأتاه من عسكره طغرل من أسره، وأخذ ما معه من خزانة وسلاح ودواب وغير ذلك، وعاد العسكر إلى بغداد متفرقين.
وكنت حينئذ بالشام في عسكر صلاح الدين يريد الغزاة، فأتاه الخبر مع النجابين بميسر العسكر البغدادي، فقال: كأنكم وقد وصل الخبر بانهزامهم. فقال له بعض الحاضرين: وكيف ذلك؟ فقال: لا شك أن أصحابي وأهيل أعرف بالحرب من الوزير، وأطوع في العسكر منه، ومع هذا، فما أرسل أحداً منهم في سرية للحرب إلا وأخاف عليه، وهذا الوزير غير عارف بالحرب، وقريب العهد بالولاية، ولا يراه الأمراء أهلاً أن يطاع، وفي مقابلة سلطان شجاع قد باشر الحرب بنفسه، ومن معه يطيعه، وكان الأمر كذلك، ووصل الخبر إليه بانهزامهم فقال لأصحابه: كنت أخبرتكم بكذا وكذا، وقد وصل الخبر بذلك.
ولما عادت عساكر بغداد منهزمة قال بعض الشعراء، وهو أحمد بن الواثق بالله:
أتركونا من جائحات الجريمة ... طلعة طلعة تكون وخيمة
بركات الوزير قد شملتنا ... فلهذا أمورنا مستقيمة
خرجت جندنا تريد خراسا ... ن جميعاً بأبهات عظيمة
بخيول وعدة وعديد ... وسيوف مجربات قديمة
ووزير وطاق طنب ونفش ... وخيول معدة للهزيمة
هم رأوا غرة العدو وقد أق ... بل ولوا وانحل عقد العزيمة
وأتونا ولا بخفي حنين ... بوجوه سود قباح دميمة
لو رأى صاحب الزمان ولوعا ... ين أفعالهم وقبح الجريمة
قابل الكل بالنكال وناهي ... ك بها سبة عليهم مقيمة
كان ينبغي أن تتقدم هذه الحادثة، وإنما أخرتها لتتبع الحوادث المتقدمة بعضها بعضاً، لتعلق كل واحدة منها بالأخرى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي شيخنا أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الله بن سويدة التكريتي، كان عالماً بالحديث، وله تصانيف حسنة.
وفيها توفيت سلجوقة خاتون بنت قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان زوجة الخليفة وكانت قبله زوجة نور الدين محمد بن قرا أرسلان، صاحب الحصن، فلما توفي عنها تزوجها الخليفة، ووجد الخليفة عليها وجداً عظيماً ظهر للناس كلهم، وبنى على قبرها تربة بالجانب الغربي، وإلى جانب التربة رباطه المشهور بالرملة.
وفيها توفي علاء الدين تنامش وحمل تابوته إلى مشهد الحسين، عليه السلام.
وفيها توفي خالص خادم الخليفة، و كان أكبر أمير ببغداد؛ ومات أبو الفرج بن النقور العدل ببغداد، وسمع الحديث الكثير، وهو بيت الحديث، رحمه الله.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة
ذكر فتح شقيف أرنونفي هذه السنة، في ربيع الأول، سار صلاح الدين إلى شقيف أرنون، وهو من أمنع الحصون، ليحصره، فنزل بمرج عيون، فنزل صاحب الشقيف، وهو أرناط صاحب صيدا، وكان أرناط هذا من أعظم الناس دهاء ومكراً، فدخل إليه واجتمع به، وأظهر له الطاعة والمودة، وقال له: أنا محب لك، ومعترف بإحسانك، وأخاف أن يعرف المركيس ما بيني وبينك، فينال أولادي وأهلي منه أذى، فإنهم عنده، فأشتهي أن تمهلني حتى أتوصل في تخليصهم من عنده، وحينئذ أحضر أنا وهم عندك، ونسلم الحصن إليك، ونكون في خدمتك، ونقنع بما تعطينا من إقطاع؛ فظن صلاح الدين صدقه، فأجابه إلى ما سأل، فاستقر الأمر بينهما أن يسلم الشقيف في جمادى الآخرة.
وأقام صلاح الدين بمرج عيون ينتظر الميعاد، وهو قلق مفكر، لقرب انقضاء مدة الهدنة بينه وبين البيمند، صاحب أنطاكية، فأمر تقي الدين ابن أخيه أن يسير في من معه من عساكره، ومن يأتي من بلاد المشرق، ويكون مقابل أنطاكية لئلا يغير صاحبها على بلاد الإسلام عند انقضاء الهدنة.
وكان أيضاً منزعج الخاطر، كثير الهم، لما بلغه من اجتماع الفرنج بمدينة صور، وما يتصل بهم من الأمداد في البحر، وأن ملك الفرنج الذي كان قد أسره صلاح الدين وأطلقه، بعد فتح القدس، قد اصطلح هو والمركيس، بعد اختلاف كان بينهما، وأنهم قد اجتمعوا في خلق لا يحصون، فإنهم قد خرجوا من مدينة صور إلى ظاهرها؛ فكان هذا وأشباهه مما يزعجه، ويخاف من ترك الشقيف وراء ظهره والتقدم إلى صور وفيها الجموع المتوافرة فتنقطع الميرة عنه، إلا أنه مع هذه الأشياء مقيم على العهد مع أرناط صاحب الشقيف.
وكان أرناط، في مدة الهدنة، يشتري الأقوات من سوق العسكر والسلاح وغير ذلك مما يحصن به شقيفه، وكان صلاح الدين يحسن الظن، وإذا قيل له عنه مما هو فيه من المكر، وإن قصده المطاولة إلى أن يظهر الفرنج من صور، وحينئذ يبدي فضيحته، ويظهر مخالفته، لا يقبل فيه، فلما قارب انقضاء الهدنة تقدم صلاح الدين من معسكره إلى القرب من شقيف أرنون وأحضر عنده أرناط وقد بقي من الأجل ثلاثة أيام، فقال له في معنى تسليم الشقيف، فاعتذر بأولاده وأهله، وأن المركيس لم يمكنهم من المجيء إليه وطلب التأخير مدة أخرى، فحينئذ علم السلطان مكره وخداعه، فأخذه وحبسه، وأمره بتسليم الشقيف، فطلب قسيساً، ذكره، لحمله رسالة إلى من بالشقيف ليسلموه، فأحضروه عنده، فساره بما لم يعلموا، فمضى ذلك القسيس إلى الشقيف، فأظهر أهله العصيان، فسير صلاح الدين أرناط إلى دمشق وسجنه، وتقدم إلى الشقيف فحصره وضيق عليه، وجعل عليه من يحفظه ويمنع عنه الذخيرة والرجال.
ذكر وقعة اليزك مع الفرنجلما كان صلاح الدين بمرج عيون، وعلى الشقيف، جاءته كتب من أصحابه الذين جعلهم يزكاً في مقابل الفرنج على صور، يخبرونه فيها أن الفرنج قد أجمعوا على عبور الجسر الذي لصور، وعزموا على حصار صيدا، فسار صلاح الدين جريدة في شجعان أصحابه، سوى من جعله على الشقيف، فوصل إليهم وقد فات الأمر.
وذلك أن الفرنج قد فارقوا صور وساروا عنها لمقصدهم، فلقيهم اليزك على مضيق هناك، وقاتلوهم ومنعوهم، وجرى لهم معهم حرب شديدة يشيب لها الوليد، وأسروا من الفرنج جماعة، وقتلوا جماعة منهم سبعة رجال من فرسانهم المشهورين وجرحوا جماعة، وقتل من المسلمين أيضاً جماعة منهم مملوك لصلاح الدين كان من أشجع الناس، فحمل وحده على صف الفرنج، فاختلط بهم، وضربهم بسيفه يميناً وشمالاً، فتكاثروا عليه فقتلوه، رحمه الله؛ ثم إن الفرنج عجوزا عن الوصول إلى صيدا فعادوا إلى مكانهم.
ذكر وقعة ثانية للغزاة المتطوعةلما وصل صلاح الدين إلى اليزك وقد فاتته تلك الوقعة أقام عندهم في خيمة صغيرة، ينتظر عودة الفرنج لينتقم منهم، ويأخذ بثأر من قتلوه من المسلمين. فركب في بعض الأيام في عدة يسيرة على أن ينظر إلى مخيم الفرنج من الجبل ليعمل بمقتضى ما يشاهده، وظن من هناك من غزاة العجم والعرب المتطوعين أنه على قصد المصاف والحرب، فساروا مجدين وأوغلوا في أرض العدو مبعدين، وفارقوا الحزم، وخلفوا السلطان وراء ظهورهم، وقاربوا الفرنج، فأرسل صلاح الدين عدة من الأمراء يردونهم ويحمونهم إلى أن يخرجوا، فلم يسمعوا ولم يقبلوا.
وكان الفرنج قد اعتقدوا أن وراءهم كميناً، فلم يقدموا عليهم، فأرسلوا من ينظر حقيقة الأمر، فاهم الخبر أنهم منقطعون عن المسلمين، وليس وراءهم ما يخاف، فحملت الفرنج عليهم حملة رجل واحد، فقاتلوهم، وفلم يلبثوا أن أناموهم، وقتل معهم جماعة من المعروفين، وشق على صلاح الدين والمسلمين ما جرى عليهم، وكان ذلك بتفريطهم في حق أنفسهم، رحمهم الله ورضي عنهم.
وكانت هذه الوقعة تاسع جمادى الأولى، فلما رأى صلاح الدين ذلك انحدر من الجبل إليهم في عسكره، فحملوا على الفرنج فألقوهم إلى الجسر وقد أخذوا طريقهم، فألقوا أنفسهم في الماء، فغرق منهم نحو مائة دارع سوى من قتل، وعزم السلطان على مصابرتهم ومحاصرتهم، فتسامع الناس، فقصدوه من كل ناحية واجتمع معه خلق كثير، فلما رأى الفرنج ذلك عادوا إلى مدينة صور، فلما عادوا إليها سار صلاح الدين إلى تبنين، ثم إلى عكا ينظر حالها، ثم عاد إلى العسكر والمخيم.
ذكر وقعة ثالثةلما عاد صلاح الدين إلى العسكر أتاه الخبر أن الفرنج يخرجون من صور للاحتطاب والاحتشاش، متبددين، فكتب إلى من بعكا من العسكر وواعدهم يوم الاثنين ثامن جمادى الآخرة ليلاقوهم من الجانبين، ورتب كمناء في موضع من تلك الأدوية والشعاب، واختار جماعة من شجعان عسكره، وأمرهم بالتعرض للفرنج، وأمرهم أنهم إذا حمل عليهم الفرنج قاتلوهم شيئاً من قتال، ثم تطاردوا لهم، وأروهم العجز عن مقاتلتهم، فإذا تبعهم الفرنج استجروهم إلى أن يجوزوا موضع الكمين، ثم يعطفوا عليهم، ويخرج الكمين من خلفهم؛ فخرجوا على هذه العزيمة.
فلما تراءى الجمعان، والتقت الفئتان واقتتلوا، أنف فرسان المسلمين أن يظهر عنهم اسم الهزيمة، وثبتوا، فقاتلوهم، وصبر بعضهم لبعض، واشتد القتال وعظم الأمر، ودامت الحرب، وطال على الكمناء الانتظار، فخافوا على أصحابهم فخرجوا من مكامنهم نحوهم مسرعين، وإليهم قاصدين، فأتوهم وهم في شدة الحرب، فازداد الأمر شدة على شدة، وكان فيهم أربعة أمراء من ربيعة وطي، وكانوا يجهلون تلك الأرض، فلم يسلكوا مسلك أصحابهم، فسلكوا الوادي ظناً منهم أنه يخرج بهم إلى أصحابهم، وتبعهم بعض مماليك صلاح الدين، فلما رآهم الفرنج بالوادي علموا أنهم جاهلون فأتوهم وقاتلوهم.
وأما المملوك فإنه نزل عن فرسه، وجلس على صخرة، وأخذ قوسه بيده، وحمى نفسه، وجعلوا يرمونه بسهام الزنبورك وهو يرميهم فجرح منهم جماعة وجرحوه جراحات كثيرة، فسقط فأتوه وهو بآخر رمق، فتركوه وانصرفوا وهم يحسبونه ميتاً؛ ثم إن المسلمين جاؤوا من الغد إلى موضعهم، فرأوا القتلى، ورأوا المملوك حياً، فحملوه في كساء، وهو يكاد لا يعرف من كثرة الجراحات، فأيسوا من حياته، فأعرضوا عنه وعرضوا عليه الشهادة، وبشروه بالشهادة، فتركوه، ثم عادوا إليه، فرأوه وقد قويت نفسه، فأقبلوا عليه بمشروب، فعوفي، ثم كان بعد ذلك لا يحضر مشهداً إلا كان له فيه الأثر العظيم.
ذكر مسير الفرنج إلى عكا ومحاصرتها
لما كثر جمع الفرنج بصور على ما ذكرناه من أن صلاح الدين كان كلما فتح مدينة أو قلعة أعطى أهلها الأمان، وسيرهم إليها بأموالهم ونسائهم وأولادهم، فاجتمع بها منهم عالم كثير لا يعد ولا يحصى، ومن الأموال ما لا يفنى على كثرة الإنفاق في السنين الكثيرة، ثم إن الرهبان والقسوس وخلقاً كثيراً من مشهوريهم وفرسانهم لبسوا السواد، وأظهروا الحزن على خروج البيت المقدس من أيديهم، وأخذهم البطرك الذي كان بالقدس، ودخل بهم بلاد الفرنج يطوفها بهم جميعاً، ويستنجدون أهلها، ويستجيرون بهم، ويحثونهم على الأخذ بثأر البيت المقدس، وصوروا المسيح، عليه السلام، وجعلوه مع صورة عربي يضربه، وقد جعلوا الدماء على صورة المسيح، عليه السلام، وقالوا لهم: هذا المسيح يضربه محمد نبي المسلمين وقد جرحه وقتله.
فعظم ذلك على الفرنج، فحشروا وحشدوا حتى النساء، فإنهم كان معهم على عكا عدة من النساء يبارزن الأقران، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، ومن لم يستطع الخروج استأجر من يخرج عوضه، أو يعطيهم مالاً على قدر حالهم، فاجتمع لهم من الرجال والأموال ما لا يتطرق إليه الإحصاء.
ولقد حدثني بعض المسلمين المقيمين بحصن الأكراد، وهو من أجناد أصحابه الذين سلموه إلى الفرنج قديماً، وكان هذا الرجل قد ندم على ما كان منه من موافقة الفرنج في الغارة على بلاد الإسلام، و القتال معهم، والسعي معهم، وكان سبب اجتماعي به ما أذكره سنة تسعين وخمسمائة، إن شاء اله تعالى.
قال لي هذا الرجل إنه دخل مع جماعة من الفرنج من حصن الأكراد إلى البلاد البحرية التي للفرنج والروم في أربع شوان، يستنجدون؛ قال: فانتهى بنا التطواف إلى رومية الكبرى، فخرجنا منها، وقد ملأنا الشواني نقرة.
وحدثني بعض الأسرى منهم أنه له والدة ليس لها ولد سواه، ولا يملكون من الدنيا غير بيت باعته وجهزته بثمنه، وسيرته لاستنقاذ بيت واحد فأخذ أسيراً.
وكان عند الفرنج من الباعث الديني والنفساني ما هذا حده، فخرجوا على الصعب والذلول، براً وبحراً، من كل فج عميق، ولولا أن الله تعالى لطف بالمسلمين، وأهلك ملك الألمان لما خرج على ما نذكره عند خروجه إلى الشام ، وإلا كان يقال: إن الشام ومصر كانتا للمسلمين.
فهذا كان سبب خروجهم، فلما اجتمعوا بصور تموج بعضهم في بعض، ومعهم الأموال العظيمة، والبحر بمدهم بالأقوات والذخائر، والعدد والرجال، من بلادهم، فضاقت عليهم صور، باطنها وظاهرها، فأرادوا قصد صيدا، وكان ما ذكرناه، فعادوا واتفقوا على قصد عكا ومحاصرتها ومصابرتها، فساروا إليها بفارسهم وراجلهم، وقضهم وقضيضهم، ولزموا البحر في مسيرهم لا يفارقونه في السهل والوعر، والضيق السعة، ومراكبهم تسير مقابلة في البحر، فيها سلاحهم وذخائرهم، ولتكون عدة لهم، إن جاءهم ما لا قبل لهم به ركبوا فيها وعادوا؛ وكان رحيلهم ثامن رجب، ونزولهم على عكا في منتصفه، ولما كانوا سائرين كان يزك المسلمين يتخطفونهم، ويأخذون المنفرد منهم.
ولما رحلوا جاء الخبر إلى صلاح الدين برحيلهم، فسار حتى قاربهم، ثم جمع أمراءه واستشارهم: هل يكون المسير محاذاة الفرنج ومقاتلتهم وهم سائرون، أو يكون في غير الطريق التي سلكوها؟ فقالوا: لا حاجة بنا إلى احتمال المشقة في مسايرتهم، فإن الطريق وعر وضيق ولا يتهيأ لنا ما نريده منهم، والرأي أننا نسير في الطريق المهيع، ونجتمع عليهم عند عكا، فتفرقهم ونمزقهم.
فعلم ميلهم إلى الراحة المعجمة، فوافقهم، وكان رأيه مسايرتهم ومقاتلتهم وهم سائرون، وقال: إن الفرنج إذا نزلوا لصقوا بالأرض، فلا يتهيأ لنا إزعاجهم، ولا نيل الغرض منهم، والرأي قتالهم قبل الوصول إلى عكا؛ فاخالفوه، فتبعهم، وساروا على طريق كفر كنا، فسبقهم الفرنج، وكان صلا الدين قدج جعل في مقابل الفرنج جماعة من الأمراء يسايرونهم، ويناوشونهم القتال، ويتخطفونهم، ولم يقدم الفرنج عليهم مع قتلهم، فلو أن العساكر اتبعت رأي صلاح الدين في مسايرتهم ومقاتلتهم قبل نزولهم على عكا، لكان بلغ غرضه وصدهم عنها، ولكن إذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه.
ولما وصل صلاح الدين إلى عكا رأى الفرنج قد نزلوا عليها من البحر إلى البحر، من الجانب الآخر، ولم يبق للمسلمين إليها طريق، فنزل صلاح الدين عليهم، وضرب خيمته على تل كيسان، وامتدت ميمنته إلى تل الغياظية، وميسرته إلى النهر الجاري، ونزلت الأثقال بصفورية، وسير الكتب إلى الأطراف باستدعاء العساكر، فأتاه عسكر الموصل، وديار بكر، وسنجار وغيرها من بالد الجزيرة، وأتاه تقي الدين ابن أخيه، وأتاه مظفر الدين بن زين الدين، وهو صاحب حران والرها.
وكانت الأمداد تأتي المسلمين في البر وتأتي الفرنج في البحر، وكان بين الفريقين مدة مقامهم على عكا حروب كثيرة ما بين صغيرة وكبيرة، منها اليوم المشهور ومنها ما هو دون ذلك، وأنا أذكر الأيام الكبار لئلا يطول ذلك، ولأن ما عداها كان قتالاً يسيراً من بعضهم مع بعض، فلا حاجة إلى ذكره.
ولما نزل السلطان عليهم لم يقدر على الوصول إليهم، ولا إلى عكا حروب كثيرة ما بين صغيرة وكبيرة، منها اليوم المشهور ومنها ما هو دون ذلك. وأنا أذكر الأيام الكبار لئلا يطول ذلك، ولأن ما عداها كان قتالاً يسيراً من بعضهم مع بعض، فلا حاجدة إلى ذكره.
ولما نزل السلطان عليهم لم يقدر على الوصول إليهم، ولا إلى عكا، حتى انسلخ رجل، قم قاتلهم مستهل شعبان، فلم ينل منهم ما يريد، وبات الناس على تعبئة، فلما كان الغد باكرهم القتال بحده وحديده، واستدار عليهم من سائر جهاتهم من بكرة إلى الظهر، وصبر الفريقان صبراً حار له من رآه.
فلما كان وقت الظهر حمل عليهم تقي الدين حملة منكرة من الميمنة على من يليه منهم، فأزاحهم عن مواقفهم يركب بعضهم لا يلوي أخ على أخ، والتجأوا إلى من يليهم من أصحابهم، واجتمعوا بهم واحتموا بهم، وأخلوا نصف البلد، وملك تقي الدين مكانهم، والتصق بالبلد، وصار ما أخلوه بيده، ودخل المسلمون البلد، وخرجوا منه، واتصلت الطرق، وزال الحصر عمن فيه، وأدخل صلاح الدين إليه من أراد من الرجال، وما أراد من الذخائر والأموال والسلاح وغير ذلك، ولو أن المسلمين لزموا قتالهم إلى الليل لبلغوا ما أرادوه، فإن للصدمة الأولى روعة، لكنهم لما نالوا منهم هذا القدر أخلدوا إلى الراحة، وتركوا القتال وقالوا: نباكرهم غداً، ونقطع دابرهم.
وكان في جملة من أدخله صلاح الدين إلى عكا من جملة الأمراء حسام الدين أبو الهيجاء السمين، وهو من أكابر أمراء عسكره، وهو من الأكراد الحكيمة من بلد إربل. وقتل من الفرنج هذا اليوم جماعة كبيرة.
ذكر وقعة أخرى ووقعة العربثم إن المسلمين نهضوا إلى الفرنج من الغد وهو سادس شعبان عازمين على بذل جهدهم، واستنفاد وسعهم في اسئصالهم فتقدموا على تعبئتهم، فرأوا الفرنج حذرين محتاطين، قد ندموا على ما فرطوا فيه بالأمس، وهم قد حفظوا أطرافهم ونواحيهم، وشرعوا في حفر خندق يمنع من الوصول إليهم، فألح المسلمون عليهم في القتال، فلم يتقدم الفرنج إليهم، ولا فارقوا مرابضهم؛ فلما رأى المسلمون ذلك عادوا عنهم.
ثم إن جماعة من العرب بلغهم أن الفرنج تخرج من الناحية الأخرى إلى الاحتطاب وغيره من أشغالهم، فكمنوا لهم في معاطف النهر ونواحيه سادس عشر شعبان، فلما خرج جمع من الفرنج على عادتهم حملت عليهم العرب، فقتلوهم عن آخرهم، وغنموا ما كان معهم، وحملوا الرؤوس إلى صلاح الدين، فأحسن إليهم، وأعطاهم الخلع.
ذكر الوقعة الكبرى على عكالما كان بعد هذه الوقعة المذكورة بقي المسلمون إلى العشرين من شعبان، كل يوم يغادرون القتال مع الفرنج ويرواحونه، والفرنج لا يظهرون من معسكرهم ولا يفارقونه، ثم إن الفرنج اجتمعوا للمشورة، فقالوا: إن عسكر مصر لم يحضر والحال مع صلاح الدين هكذا، فكيف يكون إذا حضر، والرأي أننا نلقي المسلمين غداً لعلنا نظفر بم قبل اجتماع العساكر والأمداد إليهم.
وكان كثير من عسكر صلاح الدين غائباً عنه، بعضها مقابل أنطاكية ليردوا عادية بيمند صاحبها عن أعمال حلب، وبعضها في حمص مقابل طرابلس لتحفظ ذلك الثغر أيضاً، وعسكر في مقابل صور لحماية ذلك البلد، وعسكر بمصر يكون بثغر دمياط والإسكندرية وغيرهما، والذي بقي من عسكر مصر كانوا لم يصلوا لطول بيكارهم، كما ذكرناه قبل، وكان هذا مما أطمع الفرنج في الظهور إلى قتال المسلمين.
وأصبح المسلمون على عادتهم، منم من يتقدم إلى القتال، ومنهم من هو في خيمته، ومنهم من قد توجه في حاجته من زيارة صديق وتحصيل ما يحتاج إليه هو وأصحابه ودوابه، إلى غير ذلك، فخرج الفرنج من معسكرهم كأنهم الجراد المنتشر، يدبون على وجه الأرض، قد ملأوها طولاً وعرضاً، وطلبوا ميمنة المسلمين وعليها تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين، فلما رأى الفرنج نحوه قاصدين حذر هو وأصحابه، فتقدموا إليه، فلما قربوا منه تأخر عنهم.
فلما رأى صلاح الدين الحال، وهو في القلب، أمد تقي الدين برجال من عنده ليتقوى بهم، وكان عسكر ديار بكر وبعض الشرقيين في جناح القلب، فلما رأى الفرنج قلة الرجال في القلب، وأن كثيراً منهم قد سار نحو الميمنة مدداً لهم، عطفوا على القلب، فحملوا حملة رجل واحد، فاندفعت العساكر بين أيديهم منهزمين، وثبت بعضهم، فاستشهد جماعة منهم كالأمير مجلى بن مروان والظهير أخي الفقيه عيس، وكان والي بعضهم، فاستشهد جماعة منهم كالأمير مجلى بن مروان والظهير أخي الفقيه عيسى، وكان والي البيت المقدس قد جمع بين الشجاعة والعلم والدين، وكالحاجب خليل الهكاري وغيرهم من الشجعان الصابرين في مواطن الحرب، ولم يبق بين أيديهم في القلب من يردهم، فقصدوا التل الذي عليه خيمة صلاح الدين، فقتلوا من مروا به، ونهبوا، وقتلوا عند خيمة صلاح الدين جماعة، منهم شيخنا جمال الدين أبو علي بن رواحة الحموي، وهو من أهل العلم، وله شعر حسن، وما ورث الشهادة من بعيد، فإن جده عبد الله بن رواحة، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله الروم يوم مؤتة، وهذا قتله الفرنج يوم عكا، وقتلوا غيره، وانحدروا إلى الجانب الآخر من التل، فوضعوا السيف فيمن لقوه، وكان من لطف الله تعالى بالمسلمين أن الفرنج لم يلقوا خيمة صلاح الدين، ولو لقوها لعلم الناس وصولهم إليها، وانهزام العساكر بين أيديهم، فكانوا انهزموا أجمعون.
ثم إن الفرنج نظروا وراءهم، فرأوا أمدادهم قد انقطعت عنهم، فرجعوا خوفاً أن ينقطعوا عن أصحابهم، وكان سبب انقطاعهم أن الميمنة وقفت مقابلتهم، فاحتاج بعضهم أن يقف مقابلها، وحملت ميسرة المسلمين على الفرنج، فاشتغل المدد بقتال من بها عن الاتصال بأصحابهم، وعادوا إلى طرف خنادقهم، فحملت الميسرة على الفرنج، الواصلين إلى خيمة صلاح الدين، فصادفوهم وهم راجعون، فقاتلوهم، وثار بهم غلمان العسكر.
وكان صلاح الدين لما انهزم القلب قد تبعهم يناديهم، ويأمرهم بالكرة، ومعاودة القتال، فاجتمع معه منهم جماعة صالحة، فحمل بهم على الفرنج من وراء ظهورهم وهم مشغولين بقتال الميسرة، فأخذتهم سيوف الله من كل جانب، فلم يفلت منهم أحد، بل قتل أكثرهم، وأخذ الباقون أسرى، وفي جملة من أسر مقدم الداوية الذي كان قد أسره صلاح الدين وأطلقه، فلما ظفر به الآن قتله.
وكانت عدة القتلى، سوى من كان إلى جانب البحر، نحو عشرة آلاف قتيل، فأمر بهم، فألقوا في النهر الذي يشرب الفرنج منه؛ وكان عامة القتلى من فرسان الفرنج، فإن الرجالة لم يلحقوهم، وكان في جملة الأِسرى ثلاث نسوة فرنجيات كن يقاتلن على الخيل، فلما أسرن، وألقي عنهن السلاح عرفن أنهن نساء.
وأما المنهزمون من المسلمين، فمنهم من رجع من طبرية، ومنهم من جاز الأردن وعاد، ومنهم من بلغ دمشق، ولولا أن العساكر تفرقت في الهزيمة لكانوا بلغوا من الفرنج من الاستئصال، والإهلاك، مرادهم، على أن الباقين بذلوا جهدهم، وجدوا في القتال وصمموا على الدخول مع الفرنج إلى معسكرهم لعلهم يفزعون منهم، فجاءهم الصريخ بأن رحالهم وأموالهم قد نهبت، وكان سبب هذا النهب أن الناس لما رأوا الهزيمة حملوا أثقالهم على الدواب، فثار بهم أوباش العسكر وغلمانه، فنهبوه وأتوا عليه، وكان في عزم صلاح الدين أن يباكرهم القتال والزحف، فرأى اشتغال الناس بما ذهب من أموالهم، وهم يسعون في جمعها وتحصيلها، فأمر بالنداء بإحضار ما أخذ، فأحضر منه ما ملأ الأرض من المفارش، والعيب المملوءة والثياب والسلاح وغير ذلك، فرد الجميع على أصحابه، ففاته ذلك اليوم ما أراد، فسكن روع الفرنج، وأصلحوا شأن الباقين منهم.
ذكر رحيل صلاح الدين عن الفرنج
وتمكنهم من حصر عكا
لما قتل من الفرنج ذلك العدد الكثير، جافت الأرض من نتن ريحهم، وفسد الهواء والجو، وحدث للأمزجة فساد، وانحرف مزاج صلاح الدين، وحدث له قولنج مبرح كان يعتاده، فحضر عنده الأمراء، وأشاروا عليه بالانتقال من ذلك الموضع، وترك مضايقة الفرنج، وحسنوه له، وقالوا: قد ضيقنا على الفرنج، ولو أرادوا الانفصال عن مكانهم لم يقدروا، والرأي أننا نبعد عنهم بحيث يتمكنون من الرحيل والعود، فإن رحلوا، وهو ظاهر الأمر، فقد كفينا شرهم وكفوا شرنا، وإن أقاموا عاودنا القتال ورجعنا معهم إلى ما نحن فيه، ثم إن مزاجك منحرف، والألم شديد، ولو وقع إرجاف لهلك الناس، والرأي على كل تقدير البعد عنهم.
ووافقهم الأطباء على ذلك، فأجابهم إليه إلى ما يريد الله يفعله: (وإذا أراد الله بقوم سواء فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ) الرعد 11، فرحلوا إلى الخروبة رابع شهر رمضان وأمر من بعكا من المسلمين بحفظها، وإغلاق أبوابها، والاحتياط، وأعلمهم بسبب رحيله.
فلما رحل هو وعساكره أمن الفرنج وانبسطوا في تلك الأرض، وعادوا فحصروا عكا، وأحاطوا بها من البحر إلى البحر، ومراكبهم أيضاً في البحر تحصرها، وشرعوا في حفر الخندق، وعمل السور من التراب الذي يخرجونه من الخندق، وجاؤوا بما لم يكن في الحساب؛ وكان اليزك كل يوم يوافقهم، وهم لا يقاتلون، ولا يتحركون، إنما هم مهتمون بعمل الخندق والسور عليهم ليتحصنوا به من صلاح الدين، إن عاد إلى قتالهم، فحينئذ ظهر رأي المشيرين بالرحيل.
وكان اليزك كل يوم يخبرون صلاح الدين بما يصنع الفرنج، ويعظمون الأمر عليه، وهو مشغول بالمرض، لا يقدر على النهوض للحرب، وأشار عليه بعضهم بأن يرسل العساكر جميعها إليهم ليمنعهم من الخندق والسور، ويقاتلوهم، ويتخلف هو عنهم، فقال: إذا لم أحضر معهم لا يفعلون شيئاً، وربما كان من الشر أضعاف ما نرجوه من الخير؛ فتأخر الأمر إلى أن عوفي، فتمكن الفرنج وعملوا ما أرادوا، وأحكموا أمورهم، وحصنوا نفوسهم بما وجدوا إليه السبيل، وكان من بعكا يخرجون إليهم كل يوم، ويقاتلونهم، وينالون منهم بظاهر البلد.
ذكر وصول عسكر مصر والأسطول المصري في البحرفي منتصف شوال وصلت العساكر المصرية، ومقدمها الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب، فلما وصل قويت نفوس الناس به وبمن معه، واشتدت ظهورهم، وأحضر معه من آلات الحصار، من الدرق والطارقيات والنشاب والأقواس، شيئاً كثيراً، ومعهم من الرجالة الجم الغفير، وجمع صلاح الدين من البلاد الشامية راجلاً كثيراً، وهو على عزم الزحف إليهم بالفارس والراجل.
ووصل بعده الأسطول المصري، ومقدمه الأمير لؤلؤ، وكان شهماً، شجاعاً، مقداماً، خبيراً بالبحر والقتال فيه، ميمون النقيبة، فوصل بغتة، فوقع على بطسة كبيرة للفرنج، فغنمها، وأخذ منها أموالاً كثيرة وميرة عظيمة، فأدخلها إلى عكا، فسكنت نفوس من بها بوصول الأسطول وقوي جنانهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في صفر، خطب لولي العهد أبي نصر محمد بن الخليفة الناصر لدين الله ببغداد، ونثرت الدنانير والدراهم، وأرسل إلى البلاد في إقامة الخطبة، ففعل ذلك.
وفيها، في شوال، ملك الخليفة تكريت، وسب ذلك أن صاحبها، وهو الأمير عيسى، قتله إخوته، وملكوا القلعة بعده، فسير الخليفة إليهم عسكراً فحصروها وتسلموها، ودخل أصحابه إلى بغداد فأعطوا أقطاعاً.
وفيها، في صفر، فتح الرباط الذي بناه الخليفة بالجانب الغربي من بغداد، وحضر الخلق العظيم، فكان يوماً مشهوداً.
وفي هذه السنة، في رمضان، مات شرف الدين أبو سعد عبد الله بن محمد ابن هبة الله بن أبي عصرون، الفقيه الشافعي بدمشق، وكان قاضيها، وأضر، وولي القضاء بعده ابنه، وكان الشيخ من أعيان الفقهاء الشافعية.
وفيها، في ذي القعدة، توفي الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري بالخروبة مع صلاح الدين، وهو من أعيان أمراء عسكره، ومن قدماء الأسدية، وكان فقيهاً، جندياً، شجاعاً، كريماً، ذا عصبية ومروءة، وهو من أصحاب الشيخ الإمام أبي القاسم بن البرزي، تفقه عليه بجزيرة ابن عمر، ثم اتصل بأسد الدين شيركوه فصار إماماً له، فرأى من شجاعته ما جعل له أقطاعاً، وتقدم عند صلاح الدين تقدماً عظيماً.
وفيها، في صفر توفي شيخنا أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن وهبان، المعروف بابن أفضل الزمان، بمكة، وكان رحمه الله عالماً متبحراً في علوم كثيرة، خلاف فقه مذهبه والأصولين، والحساب والفرائض، والنجوم، والهيئة، والمنطق، وغير ذلك، وختم أعماله بالزهد، ولبس الخشن، وأقام بمكة، حرسها الله تعالى، مجاوراً، فتوفي بها، وكان من أحسن الناس صحبة وخلقاً.
وفيها، في ذي القعدة، مات أبو طالب المبارك بن المبارك بن المبارك الكرخي مدرس النظامية، وكان من أصحاب أبي الحسن بن الخل، وكان صالحاً خيراً له عند الخليفة والعامة حرمة عظيمة، وجاه عريض، وكان حسن الخط يضرب به المثل.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة
ذكر وقعة الفرنج واليزك
وعود صلاح الدين إلى منازلة الفرنجقد ذكرنا رحيل صلاح الدين عن عكا إلى الخروبة لمرضه، فما برأ أقام بمكانه إلى أن ذهب الشتاء؛ وفي مدة مقامه بالخروبة كان يزكه وطلائعه لا تنقطع عن الفرنج.
فلما دخل صفر من سنة ست وثمانين وخمسمائة سمع الفرنج أن صلاح الدين قد سار للصيد، ورأى العسكر الذي ي اليزك عندهم قليلاً، وأن الوحل الذي في مرج عكا كثير يمنع من سلوكه من أراد أن ينجد اليزك، فاغتنموا ذلك، وخرجوا من خندقهم على اليزك وقت العصر، فقاتلهم المسلمون، وحموا أنفسهم بالنشاب، وأحجم الفرنج عنهم، وحتى فني نشابهم، فحملوا عليهم حينئذ حملة رجل واحد، فاشتد القتال، وعظم الأمر، وعلم المسلمون أنه لا ينجيهم إلا الصبر وصدق القتال، فقاتلوا قتال مستقتل إلى أن جاء الليل، وقتل من الفريقين جماعة كثيرة، وعاد الفرنج إلى خندقهم.
ولما عاد صلاح الدين إلى المعسكر سمع خبر الوقعة، فندب الناس إلى نصر إخوانهم، فأتاه الخبر أن الفرنج عادوا إلى خندقهم، فأقام، ثم إنه رأى الشتاء قد ذهب، وجاءته العساكر من البلاد القريبة منه دمشق وحمص وحماة وغيرها، فتقدم من الخروبة نحو عكا، فنزل بتل كيسان، وقاتل الفرنج كل يوم ليشغلهم عن قتال من بعكا من المسلمين، فكانوا يقاتلون الطائفين ولا يسأمون.
ذكر إحراق الأبراج ووقعة الأسطولكان الفرنج، في مدة مقامهم على عكا، قد عملوا ثلاثة أبراج من الخشب عالية جداً، طول كل برج منها في السماء ستون ذراعاً، وعملوا كل برج منها خمس طبقات، كل طبقة مملوءة من المقاتلة، وقد جمعوا أخشابها من الجزائر، فإن مثل هذه الأبراج العظيمة لا يصلح لها من الخشب إلا القليل النادر، وغشوها بالجلود والخل والطين والأدوية التي تمنع النار من إحراقها، وأصلحوا الطرق لها، وقدموها نحو مدينة عكا من ثلاث جهات، وزحفوا بها في العشرين من ربيع الأول، فأشرفت على السور، وقاتل من بها من عليه، فانكشفوا، وشرعوا في طم خندقها، فأشرف البلد على أن يملك عنوة وقهراً.
فأرسل أهله إلى صلاح الدين إنساناً سبح في البحر، فأعلمه ما هم فيه من الضيق، وما قد أشرفوا عليه من أخذهم وقتلهم، فركب هو وعساكره وتقدموا إلى الفرنج وقاتلوهم من جميع جهاتهم قتالاً عظيماً دائماً يشغلهم عن مكاثرة البلد، فافترق الفرنج فرقتين: فرقة تقاتل صلاح الدين، وفرقة تقاتل أهل عكا، إلا أن الأمر قد خف عمن بالبلد، ودام القتال ثمانية أيام متتابعة، آخرها الثامن والعشرون من الشهر، وسئم الفريقان القتال، وملوا منه لملازمته ليلاً ونهاراً، والمسلمون قد تيقنوا استيلاء الفرنج على البلد، لما رأوا من عجز من فيه عن دفع الأبراج، فإنهم لم يتركوا حيلة إلا وعملوها، فلم يفد ذلك ولم يغن عنهم شيئاً، وتابعوا رمي النفط الطيار عليها، فلم يؤثر فيها، فأيقنوا بالبوار والهلاك، فأتاهم الله بنصر من عنده وإذن في إحراق الأبراج.
وكان سبب ذلك أن إنساناً من أهل دمشق كان مولعاً بجمع آلات النفاطين، وتحصيل عقاقير تقوي عمل النار، فكان من يعرفه يلومه على ذلك وينكره عليه، وهو يقول: هذه حالة لا أباشرها بنفسي إنما أشتهي معرفتها، وكان بعكا لأمر يريده الله، فلما رأى الأبراج قد نصبت على عكا شرع في عمل ما يعرفه من الأدوية المقوية للنار، بحيث لا يمنعها شيء من الطين والخل وغيرهما، فلما فرغ منها حضر عند الأمير قراقوش، وهو متولي الأمور بعكا والحاكم فيها، وقال له: تأمر المنجنيقي أن يرمي في المنجنيق المحاذي لبرج من هذه الأبراج ما أعطيه حتى أحرقه.
وكان عند قراقوش من الغيظ والخوف على البلد ومن فيه ما يكاد يقتله، فازداد غيظاً بقوله وحرد عليه، فقال له: قد بالغ أهل هذه الصناعة في الرمي بالنفط وغيره فلم يفلحوا؛ فقال له من حضر: لعل الله تعالى قد جعل الفرنج على يد هذا، ولا يضرنا أن نوافقه على قوله؛ فأجابه إلى ذلك، وأمر المنجنيقي بامتثال أمره، فرمى عدة قدور نفطاً وأدوية ليس فيها نار، فكان الفرنج إذا رأوا القدر لا يحرق شيئاً يصيحون، ويرقصون، ويلعبون على سطح البرج، حتى إذا علم أن الذي ألقاه قد تمكن من البرج، ألقى قدراً مملوءة وجعل فيها النار فاشتعل البرج، وألقى قدراً ثانية وثالثة، فاضطرمت النار في نواحي البرج، وأعجلت من في طبقاته الخمس عن الهرب والخلاص، فاحترق هو ومن فيه، وكان فيه من الزرديات والسلاح شيء كثير.
وكان طمع الفرنج بما رأوا أن القدور الأولى لا تعمل شيئاً يحملها على الطمأنينة وترك السعي في الخلاص، حتى عجل الله لهم النار في الدنيا قبل الآخرة، فلما احترق البرج الأول انتقل إلى الثاني، وقد هرب من فيه لخوفهم، فأحرقه، وكذلك الثالث، وكان يوماً مشهوداً لم ير الناس مثله، والمسلمون ينظرون ويفرحون، وقد أسفرت وجوههم بعد الكآبة فرحاً بالنصر وخلاص المسلمين من القتل لأنهم ليس فيهم أحد ألا وله في البلد إما نسيب وإما صديق.
وحمل ذلك الرجل إلى صلاح الدين فبذل له الأموال الجزيلة والإقطاع الكثير فلم يقبل منه الحبة الفرد، وقال: إنما عملته لله تعالى، ولا أريد الجزاء إلا منه.
وسيرت الكتب إلى البلاد بالبشائر، وأرسل يطلب العساكر الشرقية، فأول من أتاه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، وهو صاحب سنجار وديار الجزيرة، ثم أتاه علاء الدين ولد عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، سيره أبوه مقدماً على عسكره وهو صاحب الموصل، ثم وصل زين الدين يوسف صاحب إربل؛ وكان كل منهم إذا وصل يتقدم إلى الفرنج بعسكره، وينضم إليه غيرهم، ويقاتلونهم، ثم ينزلون.
ووصل الأسطول من مصر، فلما سمع الفرنج بقربه منهم جهزوا إلى طريقه أسطولاً ليلقاه ويقاتله، فركب صلاح الدين في العساكر جميعها، وقاتلهم من جهاتهم ليشتغلوا بقتاله عن قتال الأسطول ليتمكن من دخول عكا، فلم يشتغلوا عن قصده بشيء، فكان القتال بين الفريقين براً وبحراً، وكان يوماً مشهوداً لم يؤرخ مثله، وأخذ المسلمون من الفرنج مركباً بما فيه من الرجال والسلاح، وأخذ الفرنج من المسلمين مثل ذلك، إلا أن القتل في الفرنج كان أكثر منه في المسلمين، ووصل الأسطول الإسلامي سالماً.
ذكر وصول ملك الألمان إلى الشامفي هذه السنة خرج ملك الألمان من بلاده، وهم نوع من الفرنج، من أكثرهم عدداً، وأشدهم بأساً، وكان قد أزعجه ملك الإسلام البيت المقدس، فجمع عساكره، وأزاح علتهم، وسار عن بلاده وطريقه على القسطنطينية، فأرسل ملك الروم بها إلى صلاح الدين يعرفه الخبر ويعد أنه لا يمكنه من العبور في بلاده.
فلما وصل ملك الألمان إلى القسطنطينة عجز ملكها عن منعه من العبور لكثرة جموعه، لكنه منع عنهم الميرة، ولم يمكن أحداً من رعيته من حمل ما يريدونه إليهم، فضاقت بهم الأزواد والأقوات، وساروا حتى عبروا خليج القسطنطينية، وصاروا على أرض بلاد الإسلام، وهي مملكة الملك قلج أرسلان ابن مسعود بن سليمان بن قتلمش بن سلجق. فلما وصلوا إلى أوائلها ثار بهم التركمان الأوج، فما زالوا يسايرونهم ويقتلون من انفرد ويسرقون ما قدروا عليه، وكان الزمان شتاء والبرد يكون في تلك البلاد شديداً، والثلج متراكماً، فأهلكهم البرد والجوع والتركمان فقل عددهم.
فلما قاربوا مدينة قونية خرج إليهم الملك قطب الدين ملكشاه بن قلج أرسلان ليمنعهم، فلم يكن له بهم قوة، فعاد إلى قونية وبها أبوه قد حجر ولده المذكور عليه، وتفرق أولاده في بلاده، وتغلب كل واحد منهم على ناحية منها، فلما عاد عنهم قطب الدين أسرعوا السير في أثره، فنازلوا قونية، وأرسلوا إلى قلج أرسلان هدية وقالوا له: ما قصدنا بلادك ولا أردناها، وإنما قصدنا البيت المقدس؛ وطلبوا منه أن يأذن لرعيته في إخراج ما يحتاجون إليه من قوت وغيره، فأذن في ذلك، فأتاهم ما يريدون، فشبعوا، وتزودوا، وساروا؛ ثم طلبوا من قطب الدين أن يأمر رعيته بالكف عنهم، وأن يسلم إليهم جماعة من أمرائه رهائن، وكان يخافهم، فسلم إليهم نيفاً وعشرين أميراً كان يكرههم، فساروا بهم معهم ولم يمتنع اللصوص وغيرهم من قصدهم والتعرض إليهم، فقبض ملك الألمان على من منعه من الأمراء وقيدهم، فمنهم من هلك في أسره، ومنهم من فدى نفسه.
وسار ملك الألمان حتى أتى بلاد الأرمن وصاحبها لافون بن اصطفانة بن ليون، فأمدهم بالأقوات والعلوفات، وحكمهم في بلاده، وأظهر الطاعة لهم، ثم ساروا نحو أنطاكية، وكان في طريقهم نهر، فنزلوا عنده، ودخل ملكهم إليه ليغتسل، فغرق في مكان منه لا يبلغ الماء وسط الرجل وكفى الله شره.
وكان معه ولد له، فصار ملكاً بعده، وسار إلى أنطاكية، فاختلف أصحابه عليه، فأحب بعضهم العود إلى بلاده، فتخلف عنه، وبعضهم مال إلى تمليك أخ له، فعاد أيضاً، وسار فيمن صحت نيته له، فعرضهم، وكانوا نيفاً وأربعين ألفاً، ووقع فيهم الوباء والموت، فوصلوا إلى أنطاكية وكأنهم قد نبشوا من القبور، فتبرم بهم صاحبها، وحسن لهم المسير إلى الفرنج الذين على عكا، فساروا على جبلة ولاذقية وغيرهما من البلاد التي ملكها المسلمون، وخرج أهل حلب وغيرها إليهم، وأخذوا منهم خلقاً كثيراً، ومات أكثر ممن أخذ، فبلغوا طرابلس، وأقاموا بها أياماً، فكثر فيهم الموت، فلم يبق منهم إلا نحو ألف رجل، فركبوا في البحر إلى الفرنج الذين على عكا، ولما وصولا ورأوا ما نالهم في طريقهم وما هم فيه من الاختلاف عادوا إلى بلادهم فغرقت بهم المراكب ولم ينج منهم أحد.
وكان الملك قلج أرسلان يكاتب صلاح الدين بأخبارهم، ويعده أنه يمنعهم من العبور في بلاده، فلما عبروها وخلفوها أرسل يعتذر بالعجز عنهم، لأن أولاده حكموا عليه، وحجروا عليه، وتفرقوا عنه، وخرجوا عن طاعته.
وأما صلاح الدين عند وصول الخبر بعبور ملك الألمان، فإنه استشار أصحابه، فأشار كثير منهم عليه بالمسير إلى طريقهم ومحاربتهم قبل أن يتصلوا بمن على عكا، فقال: بل نقيم إلى أن يقربوا منا، وحينئذ نفعل ذلك لئلا يستسلم من بعكا من عساكرنا؛ لكنه سير بعض من عنده من العساكر، منها عسكر حلب وجبلة ولاذقية وشيزر وغير ذلك، إلى أعمال حلب ليكونوا في أطراف البلاد يحفظونها من عاديتهم، وكان حال المسلمين كما قال الله عز وجل: (إذ جاءكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً) الأحزاب 10 - 11، فكفى الله شرهم ورد كيدهم في نحرهم.
ومن شدة خوفهم أن بعض أمراء صلاح الدين كان له ببلد الموصل قرية، وكان أخي، رحمه الله، يتولاها، فحصل دخلها من حنطة وشعير وتبن، فأرسل إليه في بيع الغلة، فوصل كتابه يقول: لا تبع الحبة الفرد، واستكثر لنا من التبن؛ ثم بعد ذلك وصل كتابه يقول: تبيع الطعام فما بنا حاجة إليه، ثم إن ذلك الأمير قدم الموصل، فسألناه عن المنع من بيع الغلة، ثم الإذن فيها بعد مدة يسيرة، فقال: لما وصلت الأخبار بوصول ملك الألمان أيقنا أننا ليس لنا بالشام مقام، فكتبت بالمنع من بيع الغلة لتكون ذخيرة لنا إذا جئنا إليكم، فلما أهلكهم الله تعالى وأغنى عنها كتبت ببيعها والانتفاع بثمنها.
ذكر وقعة للمسلمين والفرنج على عكا
وفي هذه السنة، في العشرين من جمادى الآخرة، خرجت الفرنج فأرسلها وراجلها من وراء خنادقهم، وتقدموا إلى المسلمين، وهم كثير لا يحصى عددهم، وقصدوا نحو عسكر مصر، ومقدمهم الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وكان المصريون قد ركبوا واصطفوا للقاء الفرنج، فالتقوا، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانحاز المصريون عنهم، ودخل الفرنج خيامهم، ونهبوا أموالهم، فعطف المصريون عليهم، فقاتلوهم من وسط خيامهم فأخرجوهم عنها، وتوجهت طائفة من المصريين نحو خنادق الفرنج، فقطعوا المدد عن أصحابهم الذين خرجوا، وكانوا متصلين كالنمل، فلما انقطعت أمدادهم ألقوا بأيديهم، وأخذتهم السيوف من كل ناحية فلم ينج منهم إلا الشريد، وقتل منهم مقتلة عظيمة، يزيد عدد القتلى على عشرة آلاف قتيل.
وكانت عساكر الموصل قريبة من عسكر مصر، وكان مقدمهم علاء الدين خرمشاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل، فحملوا أيضاً على الفرنج، وبالغوا في قتالهم، ونالوا منهم نيلاً كثيراً، هذا جميعه، ولم يباشر القتال أحد من الحلقة التي مع صلاح الدين، ولا أحد من الميسرة، وكان بها عماد الدين زنكي، صاحب سنجار، وعسكر إربل وغيرهم.
ولما جرى على الفرنج هذه الحادثة خمدت جمرتهم، ولانت عريكتهم، وأشار المسلمون على صلاح الدين بمباكرتهم القتال، ومناجزتهم وهم على هذه الحال من الهلع والجزع، فاتفق أنه وصله من الغد كتاب من حلب يخبر فيه بموت ملك الألمان، وما أصاب أصحابه من الموت والقتل والأسر، وما صار أمرهم إليه من القلة والذلة، واشتغل المسلمون بهذه البشرى والفرح بها عن قتال من بإزائهم، وظنوا أن الفرنج إذا بلغهم هذا الخبر ازدادوا وهناً على وهنهم وخوفاً على خوفهم؛ فلما كان بعد يومين أتت الفرنج أمداد في البحر مع كند كبير من الكنود البحرية يقال له الكند هري ابن أخي ملك إفرنسيس لأبيه، وابن أخي ملك انكلتار لأمه، ووصل معه من الأموال شيء كثير يفوق الإحصاء، فوصل إلى الفرنج، فجند الأجناد، وبذل الأموال فعادت نفوسهم فقويت واطمأنت، وأخبرهم أن الأمداد واصلة إليهم يتلو بعضها بعضاً، فتماسكوا وحفظوا مكانهم، ثم أظهروا أنهم يريدون الخروج إلى لقاء المسلمين وقتالهم، فانتقل صلاح الدين من مكانه إلى الخروبة في السابع والعشرين من جمادى الآخرة، ليتسع المجال، وكانت المنزلة قد أنتنت بريح القتلى.
ثم إن الكند هري نصب منجنيقاً ودبابات وعرادات، فخرج من بعكا من المسلمين فأخذوها، وقتلوا عندها كثيراً من الفرنج؛ ثم إن الكند هري بعد أخذ مجانيقه أراد أن ينصب منجنيقاً، فلم يتمكن من ذلك لأن المسلمين بعكا كانوا يمنعون من عمل ستائر يستتر بها من يرمي من المنجنيق، فعمل تلاً من تراب بالبعد من البلد.
ثم إن الفرنج كانوا ينقلون التل إلى البلد بالتدريج، ويستترون به، ويقربونه إلى البلد، فلما صار من البلد بحيث يصل من عنده حجر منجنيق، نصبوا وراءه منجنيقين، وصار التل سترة لهما، وكانت الميرة قد قلت بعكا، فأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية يأمرهم بإنفاذ الأقوات واللحوم وغير ذلك في المراكب إلى عكا، فتأخر إنفاذها، فسير إلى نائبه بمدينة بيروت في ذلك، فسير بطسة عظيمة مملوءة من كل ما يريدونه، وأمر من بها فلبسوا ملبس الفرنج وتشبهوا بهم ورفعوا عليها الصلبان، فلما وصلوا إلى عكا لم يشك الفرنج أنها لهم، فلم يتعرضوا لها، فلما حاذت ميناء عكا أدخلها من بها، ففرح بها المسلمون، وانتعشوا وقيت نفوسهم، وتبلغوا بما فيها إلى أن أتتهم الميرة من الإسكندرية.
وخرجت ملكة من الفرنج من داخل البحر في نحو ألف مقاتل، فأخذت بنواحي الإسكندرية، وأخذ من معها، ثم إن الفرنج وصلهم كتاب من بابا، وهو كبيرهم الذي يصدرون عن أمره، وقوله عندهم كقول النبيين لا يخالف، والمحروم عندهم من حرمه، والمقرب من قربه، وهو صاحب رومية الكبرى، يأمرهم بملازمة ما هم بصدده، ويعلمهم أنه قد أرسل إلى جميع الفرنج يأمرهم بالمسير إلى نجدتهم براً وبحراً، ويعلمهم بوصول الأمداد إليهم، فازدادوا قوة وطمعاً.
ذكر خروج الفرنج من خنادقهم
لما تتابعت الأمداد إلى الفرنج، وجند لهم الكند هري جمعاً كثيراً بالأموال التي وصلت معه عزموا على الخروج من خنادقهم ومناجزة المسلمين، فتركوا على عكا من يحصرها ويقاتل أهلها، وخرجوا، حادي عشر شوال، في عدد كالرمل كثرة وكالنار جمرة؛ فلما رأى صلاح الدين ذلك نقل أثقال المسلمين إلى قيمون، وهو على ثلاثة فراسخ عن عكا، وكان قد عاد إليه من فرق من عساكره لما هلك ملك الألمان، ولقي الفرنج على تعبئة حسنة.
وكان أولاده الأفضل علي والظاهر غازي والظافر مما يلي القلب، وأخوه العادل أبو بكر في الميمنة، ومعه عساكر مصر ومن انضم إليهم، وكان في الميسرة عماد الدين، صاحب سنجار، وتقي الدين، صاحب حماة، ومعز الدين سنجر شاه، صاحب جزيرة ابن عمر، مع جماعة من أمرائه، واتفق أن صلاح الدين أخذه مغس كان يعتاده، فنصب له خيمة صغيرة على تل مشرف على العسكر، ونزل فيها ينظر إليهم، فسار الفرنج، شرقي نهر هناك، حتى وصلوا إلى رأس النهر، فشاهدوا عساكر الإسلام وكثرتها، فارتاعوا لذلك، ولقيهم الجالشية، وأمطروا عليهم من السهام ما كاد يستر الشمس، فلما رأوا ذلك تحولوا إلى غربي النهر، ولزمهم الجالشية يقاتلونهم، والفرنج قد تجمعوا، ولزم بعضهم بعضاً، وكان غرض الجالشية أن تحمل الفرنج عليهم، فيلقاهم المسلمون ويلتحم القتال، فيكون الفصل، ويستريح الناس، وكان الفرنج قد ندموا على مفارقة خنادقهم، فلزموا مكانهم، وباتوا ليلتهم تلك.
فلما كان الغد عادوا نحو عكا ليعتصموا بخندقهم، والجالشية في أكتافهم يقاتلونهم تارة بالسيوف وتارة بالرماح وتارة بالسهام، وكلما قتل من الفرنج قتيل أخذوه معهم لئلا يعلم المسلمون ما أصابهم، فلولا ذلك الألم الذي حدث بصلاح الدين لكانت هي الفصيل، وإنما لله أمر هو بالغه، فلما بلغ الفرنج خندقهم، ولم يكن لهم بعدها ظهور منه، عاد المسلمون إلى خيامهم، وقد قتلوا من الفرنج خلقاً كثيراً.
وفي الثالث والعشرين من شوال أيضاً كمن جماعة من المسلمين، وتعرض للفرنج جماعة أخرى، فخرج إليهم أربع مائة فارس، فقاتلهم المسلمون شيئاً من قتال، وتطاردوا لهم، وتبعهم الفرنج حتى جازوا الكمين، فخرجوا عليهم فلم يفلت منهم أحد.
واشتد الغلاء على الفرنج، حتى بلغت غرارة الحنطة أكثر من مائة دينار صوري، فصبروا على هذا، وكان المسلمون يحملون إليهم الطعام من البلدان منهم الأمير أسامة، مستحفظ بيروت، كان يحمل الطعام وغيره؛ ومنهم سيف الدين علي بن أحمد المعروف بالمشطوب، كان يحمل من صيدا أيضاً إليهم؛ وكذلك من عسقلان وغيرها، ولولا ذلك لهلكوا جوعاً خصوصاً في الشتاء عند انقطاع مراكبهم عنهم لهياج البحر.
ذكر تسيير البدل إلى عكا والتفريط فيه حتى أخذتلما هجم الشتاء، وعصفت الرياح، خاف الفرنج على مراكبهم التي عندهم لأنها لم تكن في الميناء، فسيروها إلى بلاد صور والجزائر، فانفتح الطريق إلى عكا في البحر، فأرسل أهلها إلى صلاح الدين يشكون الضجر والملل والسآمة، وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين مقدماً على جندها، فأمر صلاح الدين بإقامة البدل وإنفاذه إليها، وإخراج من فيها، وأمر أخا الملك العادل بمباشرة ذلك، فانتقل إلى جانب البحر، ونزل تحت جبل حيفا، وجمع المراكب والشواني، وكلما جاءه جماعة من العسكر سيرهم إليها، وأخرج عوضهم، فدخل إليها عشرون أميراً، وكان بها ستون أميراً، فكان الذين دخلوا قليلاً بالنسبة إلى الذين خرجوا، وأهمل نواب صلاح الدين تجنيد الرجال وإنفاذهم.
وكان على خزانة ماله قوم من النصارى، وكانوا إذا جاءهم جماعة قد جندوا تعنتوهم بأنواع شتى، تارة بإقامة معرفة، وتارة بغير ذلك، فتفرق بهذا السبب خلق كثير، وانضاف إلى ذلك تواني صلاح الدين ووثوقه بنوابه، وإهمال النواب، فانحسر الشتاء والأمر كذلك، وعادت مراكب الفرنج إلى عكا وانقطع الطريق إلا من سابح يأتي بكتاب.
وكان من جملة الأمراء الذين دخلوا إلى عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وعز الدين أرسل مقدم الأسدية بعد جاولي وابن جاولي، وغيرهم، وكان دخولهم عكا أول سنة سبع وثمانين، وكان قد أشار جماعة على صلاح الدين بأن يرسل إلى من بعكا النفقات الواسعة والذخائر والأقوات الكثيرة، ويأمرهم بالمقام، فإنهم قد جربوا وتدربوا واطمأنت نفوسهم على ما هم فيه، فلم يفعل، وظن فيهم الضجر والملل، وأن ذلك يحملهم على العجز والفشل، فكان الأمر بالضد.
ذكر وفاة زين الدين يوسف صاحب إربل ومسير أخيه مظفر الدين إليهاكان زين الدين يوسف بن زين الدين علي، صاحب إربل، قد حضر عند صلاح الدين بعساكره، فمرض ومات ثامن عشر شهر رمضان، وذكر العماد الكاتب في كتابه البرق الشامي قال: جئنا إلى مظفر الدين نعزيه بأخيه، وظنناً به الحزن، وليس له أخ غيره، ولا ولد يشغله عنه، فإذا هو في شغل شاغل عن العزاء، مهتم بالاحتياط على ما خلفه، وهو جالس في خيام أخيه المتوفي، وقد قبض على جماعة من أمرائه، واعتقلهم، وعجل عليهم، وما أغفلهم، منهم بلداجي، صاحب قلعة خفتيذكان، وأرسل إلى صلاح الدين يطلب منه إربل لنزل عن حران والرها، فأقطعه إياها، وأضاف إليها شهرزور وأعمالها ودربند قرابلي، وبنيث قفجاق؛ ولما مات زين الدين كاتب من كان بإربل مجاهد الدين قايماز لهواهم فيه، وحسن سيرته فيهم، وطلبوه إليهم لملكوه، فلم يجسر هو ولا صاحبه عز الدين أتابك مسعود بن مودود على ذلك، خوفاً من صلاح الدين.
وكان أعظم الأٍسباب في تركها أن عز الدين كان قد قبض على مجاهد الدين، فتمكن زين الدين من إربل، ثم إن عز الدين أخرج مجاهد الدين من القبض، وولاه نيابته، وقد ذكرنا ذلك أجمع.
فلما ولاه النيابة عنه لم يمكنه، وجعل معه إنساناً كان من بعض غلمان مجاهد الدين، فكان يشاركه في الحكم ويحل عليه ما يعقده، فلحق مجاهد الدين من ذلك غيظ شديد، فلما طلب إلى إربل قال لمن يثق به: لا أفعل لئلا يحكم فيها فلان، ويكف يدي عنها؛ فجاء مظفر الدين إليها وملكها، وبقي غصة في حلق البيت الأتابكي لا يقدرون على إساغتها. وسنذكر ما اعتمده معهم مرة بعد أخرى، إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك الفرنج مدينة شلب
وعودها إلى المسلمينفي هذه السنة ملك ابن الرنك، وهو من ملوك الفرنج، غرب بلاد الأندلس، مدينة شلب وهي من كبار مدن المسلمين بالأندلس، واستولى عليها، فوصل الخبر بذلك إلى الأمير أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، صاحب الغرب والأندلس، فتجهز في العساكر الكثيرة وسار إلى الأندلس، وعبر المجاز، وسير طائفة كثيرة من عسكره في البحر، ونازلها وحصرها، وقاتل من بها قتالاً شديداً، حتى ذلوا وسألوا الأمان فأمنهم وسلموا البلد وعادوا إلى بلادهم.
وسير جيشاً من الموحدين ومعهم جمع من العرب إلى بلاد الفرنج، ففتحوا أربع مدن كان الفرنج قد ملكوها قبل ذلك بأربعين سنة، وفتكوا في الفرنج، فخافهم ملك طليطلة من الفرنج، وأرسل يطلب الصلح، فصالحه خمس سنين، وعاد أبو يوسف إلى مراكش، وامتنع من هذه الهدنة طائفة منالفرنج لم يرضوها ولا أمكنهم إظهار الخلاف، فبقوا متوقفين حتى دخلت سنة تسعين وخمسمائة، فتحركوا. وسنذكر خبرهم هناك، إن شاء الله تعالى.
ذكر الحرب بين غياث الدين وسلطان شاه بخراسانكان سلطان شاه أخو خوارزم شاه قد تعرض إلى بلاد غياث الدين ومعز الدين ملكي الغورية، من خراسان، فتجهز غياث الدين وخرج من فيروزكوه إلى خراسان سنة خمس وثمانين وخمسمائة، فبقي يتردد بين بلاد الطالقان، وبنجده، ومرو، وغيرها يريد حرب سلطان شاه، فلم يزل كذلك إلى أن دخلت سنة ست وثمانين، فجمع سلطان شاه عساكره وقصد غياث الدين، فتصافاً واقتتلا، فانهزم سلطان شاه، وأخذ غياث الدين بعض بلاده وعاد إلى غزنة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة، في ربيع الأول، تسلم الخليفة الناصر لدين الله حديثة عانة، وكان سير إليها جيشاً حصروها سنة خمس وثمانين فقاتلوا عليها قتالاً شديداً، ودام الحصار، وقتل من الفريقين خلق كثير، فلما ضاقت عليهم الأقوات سلموها على أقطاع عينوها، ووصل صاحبها وأهلها إلى بغداد وأعطوا أقطاعاً ثم تفرقوا في البلاد واشتدت الحاجة بهم حتى رأيت بعضهم وإنه ليتعرض بالسؤال وبعض خدم الناس، ونعوذ بالله من زوال نعمته وتحول عافيته.
وفي هذه السنة توفي مسعود بن النادر الصفار ببغداد، وكان مكثراً من الحديث، حسن الخط، خيراً ثقة.
وفيها توفي أبو حامد محمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري بالموصل، وكان قاضيها، وقبلها ولي قضاء حلب وجميع الأعمال بها، وكان رئيساً جواداً ذا مروءة عظيمة، يرجع إلى دين وأخلاق جميلة.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة
ذكر حصر عز الدين صاحب الموصل الجزيرةفي هذه السنة، في ربيع الأول، سار أتابك عز الدين مسعود بن مودود ابن زنكي صاحب الموصل إلى جزيرة ابن عمر، فحصرها، وكان بها صاحبها سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود، وهو ابن أخي عز الدين.
وكان سبب حصره أن سنجر شاه كان كثير الأذى لعمه عز الدين، والشناعة عليه، والمراسلة إلى صلاح الدين في حقه، تارة يقول إنه يريد قصد بلادك، وتارة يقول إنه يكاتب أعداءك ويحثهم على قصدك، إلى غير ذلك من الأمور المؤذية، وعز الدين يصبر منه على ما يكره لأمور تارة للرحم، وتارة خوفاً من تسليمها إلى صلاح الدين؛ فلما كان في السنة الماضية سار صاحبها إلى صلاح الدين، وهو على عكا، في جملة من سار من أصحابه الأطراف، وأقام عنده قليلاً، وطلب دستوراً للعود إلى بلده، فقال له صلاح الدين: عندنا من أصحاب الأطراف جماع منهم عماد الدين، صاحب سنجار وغيرها، وهو أكبر منك، ومنهم ابن عمك عز الدين، وهو أصغر منك، وغيرهم، ومتى فتحت هذا الباب اقتدى بك غيرك؛ فلم يلتفت إلى قوله، وأصر على ذلك. وكان عند صلاح الدين جماعة من أهل الجزيرة يستغيثون على سنجر شاه لأنه ظلمهم، وأخذ أموالهم وأملاكهم، فكان يخافه لهذا.
ولم يزل في طلب الإذن في العود إلى ليلة الفطر من سنة ست وثمانين، فركب تلك الليلة في السحر وجاء إلى خيمة صلاح الدين أرسل يطلب الإذن عليه، وكان صلاح الدين قد بات محموماً، وقد عرق، فلم يمكن أن يأذن له، فبقي كذلك متردداً على باب خيمته إلى أن أذن له، فلما دخل عليه هنأه بالعيد، وأكب عليه يودعه، فقال له: ما علمنا بصحة عزمك على الحركة، فتصبر علينا حتى نرسل ما جرت به العادة، فما يجوز أن تنصرف عنا، بعد مقامك عندنا، على هذا الوجه. فلم يرجع وودعه وانصرف.
وكان تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين قد أقبل من بلده حماة في عسكره، فكتب إليه صلاح الدين يأمره بإعادة سنجر شاه طوعاً أو كرهاً؛ فحكى له عن تقي الدين أنه قال: ما رأيت مثل سنجر شاه، لقيته بعقبة فيق، فسألته عن سبب انصرافه، فغالطني، فقلت له: سمعت بالحال، ولا يليق أن تنصرف بغير تشريف السلطان وهديته، فيضع تعبك؛ وسألته العود فلم يصغ إلى قولي، فكلمني كأنني بعض مماليكه، فلما رأيت ذلك منه قلت له: إن رجعت بالتي هي أحسن، وإلا أعدتك كارهاً؛ فنزل عن دابته وأخذ ذيلي وقال: قد استجرت بك؛ وجعل يبكي، فعجبت من حماقته أولاً، وذلته ثانياً، فعاد معي.
فلما عاد بقي عند صلاح الدين عدة أيام، وكتب صلاح الدين إلى عز الدين أتابك يأمره بقصد الجزيرة، ومحاصرتها، وأخذها، وأنه يرسل إلى طريق سنجر شاه ليقبض عليه إذا عاد؛ فخاف عز الدين أن صلاح الدين قد فعل ذلك مكيدة ليشنع عليه بنكث العهد، فلم يفعل شيئاً من ذلك بل أرسل إليه يقول: أريد خطك بذلك ومنشوراً منك بالجزيرة؛ فترددت الرسل في ذلك إلى أن انقضت سنة ست وثمانين، ودخلت هذه السنة فاستقرت القاعدة بينهما، فسار عز الدين إلى الجزيرة، فحصرها أربعة أشهر وأياماً آخرها شعبان، ولم يملكها بل استقرت القاعدة بينه وبين سنجر شاه على يد رسول صلاح الدين، فإنه كان قد أرسله بعد قصدها يقول: إن صاحب سنجار، وصاحب إربل وغيرهما قد شفعا في سنجر شاه، فاستقر الصلح على أن لعز الدين نصف أعمال الجزيرة، ولسنجر شاه نصفها، وتكون الجزيرة بيد سنجر شاه من جملة النصف.
وعاد عز الدين في شعبان إلى الموصل، وكان صلاح الدين بعد ذلك يقول: ما قيل لي عن أحد شيء من الشر فرأيته إلا كان دون ما يقال فيه، إلا سنجر شاه، فإنه كان يقال لي عنه شيئاً استعظمتها، فلما رأيته صغر في عيني ما قيل فيه.
؟؟
ذكر عبور تقي الدين الفرات
وملكه حران وغيرها من البلاد الجزرية ومسيره إلى خلاط ومؤتةفي هذه السنة، في صفر، سار تقي الدين من الشام إلى البلاد الجزرية: حران والرها، كان قد أقطعه إياها عمه صلاح الدين، بعد أخذها من مظفر الدين، مضافاً إلى ما كان له بالشام، وقرر معه أنه يقطع البلاد للجند، ويعود وهم معه إليه ليتقوى بهم على الفرنج؛ فلما عبر الفرات، وأصلح حال البلاد، سار إلى ميافارقين، وكانت له، فلما بلغها تجدد له طمع في غيرها من البلاد المجاورة لها، فقصد مدينة حاني من ديار بكر، فحصرها وملكها، وكان في سبع مائة فارس؛ فلما سمع سيف الدين بكتمر، صاحب خلاط، بملكه حاني جمع عساكره وسار إليه، فاجتمعت عساكره أربعة آلاف فارس، فلما التقوا اقتتلوا فلم يثبت عسكر خلاط لتقي الدين، بل انهزموا، وتبعهم تقي الدين، ودخل بلادهم.
وكان بكتمر قد قبض على مجد الدين بن رشيق، وزير صاحبه شاه أرمن، وسجنه في قلعة هناك، فلما انهزم كتب إلى مستحفظ القلعة يأمره بقتل ابن رشيق، فوصل القاصد وتقي الدين قد نازل القلعة، فأخذ الكتاب، وملك القلعة، وأطلق ابن رشيق، وسار إلى خلاط فحصرها، ولم يكن في كثرة من العسكر فليم يبلغ منها غرضاً، فعاد عنها، وقصد ملازكرد وحصرها، وضيق على من بها، وطال مقامه عليها؛ فلما ضاق عيهم الأمر طلبوا منه المهلة أياماً ذكروها، فأجابهم إليها.
ومرض تقي الدين، فمات قبل انقضاء الأجل بيومين، وتفرقت العساكر عنها، وحمله ابنه وأصحابه ميتاً إلى ميافارقين، وعاد بكتمر فقوي أمره، وثبت ملكه بعد أن أشرف على الزوال، وهذه الحادثة من الفرج بعد الشدة، فإن ابن رشيق نجا من القتل وبكتمر نجا من أن يؤخذ.
ذكر وصول الفرنج من الغرب في البحر إلى عكاوفي هذه السنة وصلت أمداد الفرنج في البحر إلى الفرنج الذين على عكا، وكان أول من وصل منهم الملك فليب، ملك إفرنسيس، وهو من أشرف ملوكهم نسباً، وإن كان ملكه ليس بالكثير، وان وصوله إليها ثاني عشر ربيع الأول، ولم يكن في الكثرة التي ظنوها وإنما كان معه ست بطس كبار عظام فقويت به نفوس من على عكا منهم، ولجوا في قتال المسلمين الذين فيها.
وكان صلاح الدين على شفرعم، فكان يركب كل يوم ويقصد الفرنج ليشغلهم بالقتال عن مزاحفة البلد، وأرسل إلى الأمير أسامة، مستحفظ بيروت، يأمره بتجهيز ما عنده من الشواني والمراكب وتشحينها بالمقاتلة، وتسييرها في البحر ليمنع الفرنج من الخروج إلى عكا، ففعل ذلك، وسير الشواني في البحر، فصادفت خمسة مراكب مملوءة رجالاً من أصحاب ملك انكلتار الفرنج، كان قد سيرهم بين يديه، وتأخر هو بجزيرة قبرس ليملكها، فأقبلت شواني المسلمين مع مراكب الفرنج، فاستظهر المسلمون عليهم، وأخذوهم، وغنموا ما معهم من قوت ومتاع ومال وأسروا الرجال.
وكتب أيضاً صلاح الدين إلى من بالقرب من النواب له يأمرهم بمثل ذلك ففعلوا.
وأما الفرنج الذين على عكا، فإنهم لازموا قتال من بها، ونصبوا عليها سبعة مجانيق رابع جمادى الأولى، فلما رأى صلاح الدين ذلك تحول من شفرعم، ونزل عليهم لئلا يتعب العسكر كل يوم في المجيء إليهم والعود عنهم، فقرب منهم. وكانوا كلما تحركوا للقتال ركب وقاتلهم من وراء خندقهم، فكانوا يشتغلون بقتالهم، فيخف القتال عمن بالبلد.
ثم وصل ملك انكلتار ثالث عشر جمادى الأولى. وكان قد استولى في طريقه على جزيرة قبرس، وأخذها من الروم؛ فإنه لما وصل إليها غدر بصاحبها وملكها جميعاً، فكان ذلك زيادة في ملكه وقوة للفرنج؛ فلما فرغ منها سار عنها إلى من على عكا من الفرنج، فوصل إليهم في خمس وعشرين قطعة كباراً مملوءة رجالاً وأموالاً، فعظم به شر الفرنج، واشتدت نكايتهم في المسلمين. وكان رجل زمانه شجاعة ومكراً وجلداً وصبراً، وبلي المسلمون منه بالداهية التي لا مثل لها.
ولما وردت الأخبار بوصوله أمر صلاح الدين بتجهيز بطسة كبيرة مملوءة من الرجال والعدة والقوت، فجهزت وسيرت من بيروت، وفيها سبع مائة مقاتل، فلقيها ملك إنكلتار مصادفة، فقاتلها، وصبر من فيها على قتالها، فلما أيسوا من الخلاص نزل مقدم من بها إلى أسفلها، وهو يعقوب الحلبي مقدم الجندارية، يعرف بغلام ابن شقين، فخرقها خرقاً واسعاً لئلا يظفر الفرنج بمن فيها وما معهم من الذخائر، فغرق جميع ما فيها.
وكانت عكا محتاجة إلى رجال لما ذكرناه من سبب نقصهم، ثم إن الفرنج عملوا دبابات زحفوا بها فأحرق المسلمون بعضها وأخذوا بعضها، ثم عملوا كباشاً وزحفوا بها، فخرج المسلمون وقاتلوهم بظاهر البلد، وأخذوا تلك الكباش، فلما رأى الفرنج أن ذلك جميعه لا ينفعهم عملوا تلاً كبيراً من التراب مستطيلاً، وما زالوا يقربونه إلى البلد ويقاتلون من ورائه لا ينالهم من البلد أذى، حتى صار على نصف علوه، فكانوا يستظلون به، ويقاتلون من خلفه، فلم يكن للمسلمين فيه حيلة لا بالنار ولا بغيرها، فحينئذ عظمت المصيبة على من بعكا من المسلمين، فأرسلوا إلى صلاح الدين يعرفونه حالهم، فلم يقدر لهم على نفع.
ذكر ملك الفرنج عكافي يوم الجمعة، سابع عشر جمادى الآخرة، استولى الفرنج، لعنهم الله، على مدينة عكا، وكان أول وهن دخل على من بالبلد أن الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري، المعروف بالمشطوب، كان فيها، ومعه عدة من الأمراء كان هو أمثلهم وأكبرهم، خرج إلى ملك إفرنسيس وبذل له تسليم البلد بما فيه على أن يطلق المسلمين الذين فيه، ويمكنهم من اللحاق بسلطانهم، فلم يجبه إلى ذلك، فعاد علي بن أحمد إلى البلد، فوهن من فيه، وضعفت نفوسهم، وتخاذلوا، وأهمتهم أنفسهم.
ثم إن أميرين ممن كان بعكا، لما رأوا ما فعلوا بالمشطوب، وأن الفرنج لم يجيبوا إلى الأمان، اتخذوا الليل جملاً، وركبوا في شيني صغير، وخرجوا سراً من أصحابهم، ولحقوا بعسكر المسلمين، وهم عز الدين أرسل الأسدي، وابن عز الدين جاولي، ومعهم غيرهم، فلما أصبح الناس ورأوا ذلك ازدادوا وهناً إلى وهنهم، وضعفاً إلى ضعفهم، وأيقنوا بالعطب.
ثم إن الفرنج أرسلوا إلى صلاح الدين في معنى تسليم البلد، فأجابهم إلى ذلك، والشرط بينهم أن يطلق من أسراهم بعدد من في البلد ليطلقوا هم من بعكا، وأن يسلم إليهم صليب الصلبوت، فلم يقنعوا بما بذل، فأرسل إلى من بعكا من المسلمين يأمرهم أن يخرجوا من عكا يداً واحدة ويسيروا مع البحر ويحملوا على العدو حملة واحدة، ويتركوا البلد بما فيه، ووعدهم أنه يتقدم إلى تلك الجهة التي يخرجون منها بعساكره، يقاتل الفرنج فيها ليلحقوا به، فشرعوا في ذلك، واشتغل كل منهم باستصحاب ما يملكه، فما فرغوا من أشغالهم حتى أسفر الصبح، فبطل ما عزموا عليه لظهوره.
فلما أصبحوا عجز الناس عن حفظ البلد، وزحف إليهم الفرنج بحدهم وحديدهم، فظهر من بالبلد على سوره يحركون أعلامهم ليراها المسلمون، وكانت هي العلامة إذا حزبهم أمر، فلما رأى المسلمون ذلك ضجوا بالبكاء والعويل، وحملوا على الفرنج من جميع جهاتهم ظناً منهم أن الفرنج يشتغلون عن الذين بعكا، وصلا الدين يحرضهم، وهو في أولهم.
وكان الفرنج قد زحفوا من خنادقهم ومالوا إلى جهة البلد، فقرب المسلمون من خنادقهم، حتى كادوا يدخلونها عليهم ويضعون السيف فيهم، فوقع الصوت فعاد الفرنج ومنعوا المسلمين، وتركوا في مقابلة من بالبلد من يقاتلهم.
فلما رأى المشطوب أن صلاح الدين لا يقدر على نفع، ولا يدفع عنهم ضراً، خرج إلى الفرنج، وقرر معهم تسليم البلد، وخروج من فيه بأموالهم وأنفسهم، وبذلك لهم عن ذلك مائتي ألف دينار وخمسمائة أسير من المعروفين، وإعادة صليب الصلبوت، وأربعة عشر ألف دينار للمركيس صاحب صور، فأجابوه إلى ذلك، وحلفوا له عليه، وأن تكون مدة تحصيل المال والأسرى إلى شهرين.
فلما حلفوا له سلم البلد إليهم، ودخلوه سلماً، فلما ملكوه غدروا واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم، وحبسوهم، وأظهروا أنهم يفعلون ذلك ليصل إليهم ما بذل لهم، وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب، حتى يطلقوا من عندهم، فشرع في جمع المال، وكان هو لا مال له، إنما يخرج ما يصل إليه من دخل البلاد أولاً بأول.
فلما اجتمع عنده من المال مائة ألف دينار جمع الأمراء واستشارهم، فأشاروا بأن لا يرسل شيئاً حتى يعود فيستحلفهم على إطلاق أصحابه، وأن يضمن الداوية ذلك، لأنهم أهل تدين يرون الوفاء. فراسلهم صلاح الدين في ذلك، فقال الداوية: لا نحلف ولا نضمن لأننا نخاف غدر من عندنا؛ وقال ملوكهم: إذا سلمتم إلينا المال والأسرى والصليب فلنا الخيار فيمن عندنا؛ فحينئذ علم صلا الدين عزمهم على الغدر، فلم يرسل إليهم شيئاً، وأعاد الرسالة إليهم، وقال: نحن نسلم إليكم هذا المال والأسرى والصليب، ونعطيكم رهناً على الباقي، وتطلقون أصحابنا، وتضمن الداوية الرهن، ويحلفون على الوفاء لهم؛ فقالوا: لا نحلف، إنما ترسل إلينا المائة ألف دينار التي حصلت، والأسرى، والصليب، ونحن نطلق من أصحابكم من نريد ونترك من نريد حتى يجيء باقي المال؛ فعلم الناس حينئذ غدرهم، وإنما يطلقون غلمان العسكر والفقراء والأكراد ومن لا يؤبه له، ويمسكون عندهم الأمراء وأرباب الأموال، يطلبون منهم الفداء، فلم يجبهم السلطان إلى ذلك.
فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب، ركب الفرنج، وخرجوا إلى ظاهر البلد بالفارس والراجل، وركب المسلمون إليهم وقصدوهم، وحملوا عليهم، فانكشفوا عن موقفهم، وإذا أكثر من كان عندهم من المسلمين قتلى قد وضعوا فيهم السيف وقتلوهم واستبقوا الأمراء والمقدمين ومن كان له مال، وقتلوا من سواهم من سوادهم وأصحابهم ومن لا مال له، فلما رأى صلاح الدين ذلك تصرف في المال الذي كان جمعه، ورد الأسرى والصليب إلى دمشق.
ذكر رحيل الفرنج إلى ناحية عسقلانلما فرغ الفرنج، لعنهم الله، من إصلاح أمر عكا، برزوا منها في الثامن والعشرين من رجب، وساروا مستهل شعبان نحو حيفا مع شاطئ البحر لا يفارقونه؛ فلما سمع صلاح الدين برحيلهم نادى في عسكره بالرحيل فساروا.
وكان على اليزك، ذلك اليوم، الملك الأفضل ولد صلاح الدين، ومعه سيف الدين إيازكوش وعز الدين جورديك، وعدة من شجعان الأمراء، فضايقوا الفرنج في مسيرهم، وأرسلوا عليهم من السهام ما كاد يحجب الشمس، ووقعوا على ساقة الفرنج، فقتلوا منها جماعة، وأسروا جماعة.
وأرسل الأفضل إلى والده يستمده ويعرفه الحال، فأمر العساكر بالمسير إليه، فاعتذروا بأنهم ما ركبوا بأهبة الحرب، وإنما كانوا على عزم المسير لا غير، فبطل المدد وعاد ملك الإنكلتار إلى ساقة الفرنج، فحماها، وجمهم، وساروا حتى أتوا حيفا، فنزلوا بها، ونزل المسلمون بقيمون، قرية بالقرب منهم، وأحضر الفرنج من عكا عوض من قتل منهم وأسر ذلك اليوم، وعوض ما هلك من الخيل، ثم ساروا إلى قيسارية، والمسلمون يسايرونهم ويتخطفون منهم من قدروا عليه فيقتلونه، لأن صلاح الدين كان قد أقسم أنه لا يظفر بأحد منهم إلا قتله بمن قتلوا ممن بعكا.
فلما قاربوا قيسارية لاصقهم المسلمون، وقاتلوهم أشد قتال، فنالوا منهم نيلاً كثيراً، ونزل الفرنج بها، وبات المسلمون قريباً منهم، فلما نزلوا خرج من الفرنج جماعة فأبعدوا عن جماعتهم، فأوقع بهم المسلمون الذين كانوا في اليزك، فقتلوا منهم وأسروا، ثم ساروا من قيسارية إلى أرسوف، وكان المسلمون قد سبقوهم إليها، ولم يمكنهم مسايرتهم لضيق الطريق، فلما وصل الفرنج إليهم حمل المسلمون علهم حملة منكرة وألحقوهم بالبحر، ودخله بعضهم فقتل منهم كثير.
فلما رأى الفرنج ذلك اجتمعوا، وحملت الخيالة على المسلمين حملة رجل واحد، فولوا منهزمين لا يلوي أحد على أحد. وكان كثير من الخيالة والسوقة قد ألفوا القيام وقت الحرب قريباً من المعركة، فلما كان ذلك اليوم كانوا على حالهم، فلما انهزم المسلمون عنهم قتل خلق كثير، والتجأ المنهزمون إلى القلب، وفيه صلاح الدين، فلو علم الفرنج أنها هزيمة لتبعوهم واستمرت الهزيمة وهلك المسلمون، لكن كان بالقرب من المسلمين شعرة كثيرة الشجر، فدخلوها وظنها الفرنج مكيدة، فعادوا، وزال عنهم ما كانوا فيه من الضيق، وقتل من الفرنج كند كبير من طواغيتهم، وقتل من المسلمين مملوك لصلاح الدين اسمه أياز الطويل، وهو من الموصوفين بالشجاعة والشهامة لم يكن في زمانه مثله.
فلما نزل الفرنج نزل المسلمون وأعنة خيلهم بأيديهم، ثم سار الفرنج إلى يافا فنزلوها، ولم يكن بها أحد من المسلمين، فملكوها.
ولما كان من المسلمين بأرسوف من الهزيمة ما ذكرناه، سار صلاح الدين عنهم إلى الرملة، واجتمع بأثقاله بها، وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا عليه بتخريب عسقلان، وقالوا له: قد رأيت ما كان منا بالأمس، وإذا جاء الفرنج إلى عسقلان ووقفنا في وجوههم نصدهم عنها فهم لا شك يقاتلوننا لننزاح عنها فينزلوا عليها، فإذا كان ذلك عدنا إلى مثل ما كنا عليه على عكا، ويعظم الأمر علينا، لأن العدو قد قوي بأخذ عكا وما فيها من الأسلحة وغيرها، وضعفنا نحن بما خرج عن أيدينا، ولم تطل المدة حتى نستجد غيرها.
فلم تسمح نفسه بتخريبها، وندب الناس إلى دخولها وحفظها، فلم يجبه أحد إلى ذلك وقالوا: إن أردت حفظها فادخل أنت معنا، أو بعض أولادك الكبار، وإلا فما يدخلها منا أحد لئلا يصيبنا ما أصاب أهل عكا، فلما رأى الأمر كذلك سار إلى عسقلان، وأمر بتخريبها، فخربت تاسع عشر شعبان، وألقيت حجارتها في البحر، وهلك فيها من الأموال والذخائر التي للسلطان والرعية ما لا يمكن حصره، وعفى أثرها حتى لا يبقى للفرنج في قصدها مطمع.
ولما سمع الفرنج بتخريبها أقاموا مكانهم ولم يسيروا إليها، وكان المركيس، لعنه الله، لما أخذ الفرنج عكا قد أحس من ملك إنكلتار بالغدر به، فهرب من عنده إلى مدينة صور، وهي له وبيده، وكان رجل الفرنج رأياً شجاعة، وكل هذه الحروب هو أثارها، فلما خربت عسقلان أرسل إلى ملك إنكلتار يقول له: مثلك لا ينبغي أن يكون ملكاً ويتقدم على الجيوش، تسمع أن صلاح الدين قد خرب عسقلان وتقيم مكانك؟ يا جاهل، لما بلغك أنه قد شرع في تخريبها كنت سرت إليه مجداً فرحلته وملكتها صفواً بغير قتال ولا حصار، فإنه ما خربها إلا وهو عاجز عن حفظها. وحق المسيح لو أنني معك كانت عسقلان اليوم بأيدينا لم يخرب منها غير برج واحد.
فلما خربت عسقلان رحل صلاح الدين عنها ثاني شهر رمضان، ومضى إلى الرملة فخربت حصنها وخب كنيسة لد، وفي مدة مقامه لتخريب عسقلان كانت العساكر مع الملك العادل أبي بكر بن أيوب نجاه الفرنج، ثم سار صلا الدين إلى القدس بعد تخريب الرملة، فاعتبره وما فيه من سلاح وذخائر، وقرر قواعده وأسبابه، وما يحتاج إليه، وعاد إلى المخيم ثامن رمضان.
وفي هذه الأيام خرج ملك إنكلتار من يافا، ومعه نفر من الفرنج من معسكرهم، فوقع به نفر من المسلمين، فقاتلوهم قتالاً شديداً، وكاد ملك إنكلتار يؤسر، ففداه بعض أصحابه بنفسه، فتخلص الملك وأسر ذلك الرجل.
وفيها أيضاً كانت وقعة بين طائفة من المسلمين وطائفة من الفرنج انتصر فيها المسلمون.
ذكر رحيل الفرنج إلى نطرونلما رأى صلاح الدين أن الفرنج قد لزموا يافا ولم يفارقوها، وشرعوا في عمارتها. رحل من منزلته إلى النطرون ثالث عشر رمضان، وخيم به، فراسله ملك إنكلتار يطلب المهادنة، فكانت الرسل تتردد إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب، أخي صلاح الدين، فاستقرت القاعدة أن ملك إنكلتار يزوج أخته من العادل أبي بكر بن أيوب، أخي صلاح الدين، فاستقرت القاعدة أن ملك إنكلتار يزوج أخته من العادل، ويكون القدس وما بأيدي المسلمين من بلاد الساحل للعادل، وتكون عكا وما بيد الفرنج من البلاد لأخت ملك إنكلتار، مضافاً إلى مملكة كانت لها داخل البحر قد ورثتها من زوجها، وأن يرضى الداوية بما يقع الاتفاق عليه، فعرض العادل ذلك على صلاح الدين، فأجاب إليه، فلما ظهر الخبر اجتمع القسيسون، والأساقفة، والرهبان إلى أخت ملك إنكلتار وأنكروا عيها، فامتنعت من الإجابة، وقيل كان المانع منه غير ذلك، والله أعلم.
وكان العادل وملك إنكلتار يجتمعان بعد ذلك ويتجاريان حديث الصلح، وطلب من العادل أن يسمعه غناء المسلمين، فأحضر له مغنية تضرب بالجنك، فغنت له، فاستحسن ذلك، ولم يتم بينهما صلح، وكان ملك إنكلتار يفعل ذلك خديعة ومكراً.
ثم إن الفرنج أظهروا العزم على قصد البيت المقدس، فسار صلاح الدين إلى الرملة، جريدة، وترك الأثقال بالنطرون، وقرب من الفرنج، وبقي عشرين يوماً ينتظرهم، فلم يبرحوا، فكن بين الطائفتين، مدة المقام، عدة وقعات في كلها ينتصر المسلمون على الفرنج، وعاد صلاح الدين إلى النطرون، ورحل الفرنج من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة، على عزم قصد البيت المقدس، فقرب بعضهم من بعض فعظم الخطب واشتد الحذر، فكان كل ساعة يقع الصوت في العسكرين بالنفير فلقوا من ذلك شدة شديدة، وأقبل الشتاء، وحالت الأوحال والأمطار بينهما.
ذكر مسير صلاح الدين إلى القدسلما رأى صلاح الدين أن الشتاء قد هجم، والأمطار متوالية متتابعة، والناس منها في ضنك وحرج، ومن شدة البرد ولبس السلاح والسهر في تعب دائم، وكان كثير من العساكر قد طال بيكارها، فأذن لهم في العود إلى بلادهم للاستراحة والإراحة، وسار هو إلى البيت المقدس فيمن بقي معه، فنزلوا جميعاً داخل البلد، فاستراحوا مما كانوا فيه، ونزل هو بدار الأقسا مجاور بيعة قمامة، وقدم إليه عسكر من مصر مقدمهم الأمير أبو الهيجاء السمين، فقويت نفوس المسلمين بالقدس.
وسار الفرنج من الرملة إلى النطرون ثالث ذي الحجة، على عزم قصد القدس، فكانت بينهم وبين يزك المسلمين وقعات، أسر المسلمون في وقعة منها نيفاً وخمسين فارساً من مشهوري الفرنج وشجعانهم، وكان صلاح الدين لما دخل القدس أمر بعمارة سوره، وتجديد ما رث منه، فأحكم الموضع الذي ملك البلد منه، وأتقنه، وأمر بحفر خندق خارج الفصيل، وسلم كل برج إلى أمير يتولى عمله، فعمل ولده الأفضل من ناحية باب عمود إلى باب الرحمة، وأرسل أتابك عز الدين مسعود، صاحب الموصل، جماعة من الحصاصين، ممن له في قطع الصخر اليد الطولى، فعملوا له هناك برجاً وبدنة، وكذلك جميع الأمراء.
ثم إن الحجارة قلت عند العمالين، فكان صلاح الدين، رحمه الله يركب وينقل الحجارة بنفسه على دابته من الأمكنة البعيدة، فيقتدي به العسكر، فكان يجمع عنده ن العمالين في اليوم الواحد ما يعملونه عدة أيام.
ذكر عود الفرنج إلى الرملةفي العشرين من ذي الحجة عاد الفرنج إلى الرملة، وكان سبب عودهم أنهم كانوا ينقلون ما يريدونه من الساحل، فلما أبعدوا عنه كان المسلمون يخرجون على من يجلب لهم الميرة فيقطعون الطريق ويغنمون ما معهم، ثم إن ملك إنكلتار قال لمن معه من الفرنج الشاميين: صوروا لي مدينة القدس، فإني ما رأيتها؛ فصوروها له، فرأى الوادي يحيط بها ما عدا موضعاً يسير من جهة الشمال، فسأل عن الوادي وعن عمقه، فأخبر أنه عميق، وعر المسلك.
فقال: هذه مدينة لا يمكن حصرها ما دام صلاح الدين حياً وكلمة المسلمين مجتمعة، لأننا إن نزلنا في الجانب الذي يلي المدينة بقيت سائر الجوانب غير محصورة، فيدخل إليهم منها الرجال والذخائر وما يحتاجون إليه، وإن نحن افترقنا فنزل بعضنا من جانب الوادي وبعضنا من الجانب الآخر، جمع صلاح الدين عسكره وواقع إحدى الطائفتين، ولم يمكن الطائفة الأخرى إنجاد أصحابهم، لأنهم إن فارقوا مكانهم خرج من بالبلد من المسلمين فغنموا ما فيه، وإن تركوا فيه من يحفظه وساروا نحو أصحابهم، فإلى أن يتخلصوا من الوادي ويلحقوا بهم يكون صلاح الدين قد فرغ منهم، هذا سوى ما يتعذر علينا من إيصال ما يحتاج إليه من العلوفات والأقوات.
فلا قال لهم ذلك علموا صدقه، ورأوا قلة الميرة عندهم، وما يجري للجالبين لها من المسلمين، فأشاروا عليه بالعود إلى الرملة، فعادوا خائبين خاسرين.
ذكر قتل قزل أرسلانفي شعبان من هذه السنة قتل قزل أرسلان، واسمه عثمان بن إيلدكز، وقد ذكرنا أنه ملك البلاد، بعد وفاة أخيه البهلوان، ملك أران، وأذربيجان، وهمذان، وأصفهان، والري، وما بينها، وأطاعه صاحب فارس وخوزستان، واستولى على السلطتان طغرل بن أرسلان بن طغرل، فاعتقله في بعض القلاع، ودانت له البلاد.
وفي آخر أمره سار إلى أصفهان، والفتن بها متصلة من لدن توفي البهلوان إلى ذلك الوقت، فتعصب على الشافعية، وأخذ جماعة من أعيانهم فصلبهم، وعاد إلى همذان، وخطب لنفسه بالسلطنة، وضرب النوب الخمس، ثم إنه دخل ليلة قتل إلى منزله لينام، وتفرق أصحابه، فدخل إليه من قتله على فراشه، ولم يعرف قاتله، فأخذ أصحابه صاحب بابه ظناً وتخميناً؛ وكان كريماً حسن الأخلاق، يحب العدل ويؤثره، ويرجع إلى حلم وقلة عقوبة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قدم معز الدين قيصر شاه بن قلج أرسلان، صاحب بلاد الروم، على صلاح الدين في رمضان، وكان سب قدومه أن والده عز الدين قلج أرسلان فرق مملكته على أولاده، وأعطى ولده هذا ملطية وأعطى ولده قطب الدين ملك شاه سيواس، فاستولى قطب الدين على أبيه، وحجر عليه، وأزال حكمه، وألزمه أن يأخذ ملطية من أخيه هذا ويسلمها إليه، فخاف معز الدين، فسار إلى صلاح الدين ملتجئاً إليه، معتضداً به، فأكرمه صلاح الدين، وزوجه بابنه أخيه الملك العادل، فامتنع قطب الدين من قصده، وعاد معز الدين إلى ملطية في ذي القعدة.
وحدثني من أثق به قال: رأيت صلاح الدين وقد ركب ليودع معز الدين هذا، فترجل له معز الدين، وترجل صلاح الدين، وودعه راجلاً، فلما أراد الركوب عضده معز الدين هذا، وأركبه، وسوى ثيابه علاء الدين خرمشاه بن عز الدين، صاحب الموصل، قال: فعجبت من ذلك، وقلت ما تبالي يا ابن أيوب أي موتة تموت؟ يركبك ملك سلجوقي وابن أتابك زنكي.
وفيها توفي حسام الدين محمد بن لاجين، وهو ابن أخت صلاح الدين؛ وعلم الدين سليمان بن جندر، وهو من أكابر أمراء صلاح الدين أيضاً.
وفي رجب توفي الصفي بن القابض، وكان متولي دمشق لصلاح الدين، يحكم في جميع بلاده.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة
ذكر عمارة الفرنج عسقلانفي هذه السنة، في المحرم، رحل الفرنج نحو عسقلان وشرعوا في عمارتها، وكان صلاح الدين بالقدس، فسار ملك إنكلتار، جريدة، من عسقلان إلى يزك المسلمين، فواقعهم، وجرى بين الطائفتين قتال شديد انتصف بعضهم من بعض.
وفي مدة مقام صلاح الدين بالقدس ما برحت سراياه تقصد الفرنج، فتارة تواقع طائفة منهم، وتارة تقطع الميرة عنهم، ومن جملتها سرية كان مقدمها فارس الدين ميمون القصري، وهو من مقدمي المماليك الصلاحية، خرج على قافلة كبيرة للفرنج، فأخذها وغنم ما فيها.
ذكر قتل المركيس وملك الكندهرفي هذه السنة، في ثالث عشر ربيع الآخر، قتل المركيس الفرنجي، لعنه الله، صاحب صور، وهو أكبر شياطين الفرنج.
وكان سبب قتله أن صلاح الدين راسل مقدم الإسماعيلية، وهو سنان، وبذل له أن يرسل من يقتل ملك إنكلتار، وإن قتل المركيس فله عشرة آلاف دينار، فلم يمكنهم قتل ملك إنكلتار، ولم يره سنان مصلحة لهم لئلا يخلو وجه صلاح الدين من الفرنج ويتفرغ لهم، وشره في أخذ المال، فعدل إلى قتل المركيس، فأرسل رجلين في زي الرهبان، واتصلا بصاحب صيدا وابن بارزان، صاحب الرملة، وكانا مع المركيس بصور، فأقاما معهما ستة أشهر يظرهان العبادة، فأنس بهما المركيس، ووثق بهما، فلما كان بعد التاريخ عمل الأسقف بصور دعوة للمركيس، فحضرها، وأكل طعامه، وشرب مدامه، وخرج من عنده، فوثب عليه الباطنيان المذكوران، فجرحاه جراحاً وثيقة، وهرب أحدهما، ودخل كنيسة يختفي فيها، فاتفق أن المركيس حمل إليها ليشد جراحه، فوثب عليه ذلك الباطني فقتله، وقتل الباطنيان بعده.
ونسب الفرنج قتله إلى وضع من ملك إنكلتار لينفرد بملك الساحل الشامي، فلما قتل ولي بعده مدينة صور كند من الفرنج، من داخل البحر، يقال له الكند هري، وتزوج بالملكة في ليلته، ودخل بها وهي حامل، وليس الحمل عندهم مما يمنع النكاح.
وهذا الكند هري هو ابن أخت ملك إفرنسيس من أبيه، وابن أخت ملك إنكلتار من أمه، وملك كند هري هذا بلاد الفرنج بالساحل بعد عود ملك إنكلتار، وعاش إلى سنة أربع وتسعين وخمسمائة، فسقط من سطح فمات؛ وكان عاقلاً، كثير المدارة والاحتمال.
ولما رحل ملك إنكلتار إلى بلاده أرسل كند هري هذا إلى صلاح الدين يستعطفه، ويستميله، يطلب منه خلعة، وقال: أنت تعلم أن لبس القباء والشربوش عندنا عيب، وأنا ألبسهما منك محبة لك؛ فأنفذ إليه خلعة سنية منها القباء والشربوش، فلبسهما بعكا.
ذكر نهب بني عامر البصرةفي هذه السنة، في صفر، اجتمع بنو عامر في خلق كثير، وأميرهم اسمه عميرة، وقصدوا البصرة، وكان الأمير بها اسمه محمد بن إسمعيل، ينوب عن مقطعها الأمير طغرل، مملوك الخليفة الناصل لدين الله، فوصلوا إليها يوم السبت سادس صفر، فخرج إليهم الأمير محمد فيمن معه من الجند، فوقعت الحرب بينهم بدرب الميدان، بجانب الخريبة، ودام القتال إلى آخر النهار، فلما جاء الليل ثلم العرب في السور عدة ثلم، ودخلوا البلد من الغد، فقاتلهم أهل البلد، فقتل بينهم قتلى كثيرة من الفريقين، ونهبت العرب الخانات بالشاطئ وبعض محال البصرة، وعبر أهلها إلى شاطئ الملاحين، وفارق العرب البلد في يومهم وعاد أهله إليه.
وكان سبب سرعة العرب في مفارقة البلد أنهم بلغهم أن خفاجة والمنتفق قد قاربوهم، فساروا إليهم وقاتلوهم أشد قتال، فظفرت عامر، وغنمت أموال خفاجة والمنتفق، وعادوا إلى البصرة بكرة الاثنين، وكان الأمير قد جمع من أهل البصرة والسواد جمعاً كثيراً، فلما عادت عامر قاتلهم أهل البصرة ومن اجتمع معهم، فلم يقوموا للعرب وانهزموا، ودخل العرب البصرة ونهبوها، وفارق البصرة أهلها، ونهبت أموالهم، وجرت أمور عظيمة، ونهبت القسامل وغيرها يومين، وفارقها العرب وعاد أهلها إليها، وقد رأيت هذه القصة بعينها في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، والله أعلم.
ذكر ما كان من ملك إنكلتارفي تاسع جمادى الأولى من هذه السنة استولى الفرنج على حصن الداروم، فخربوه، ثم ساروا إلى البيت المقدس وصلاح الدين فيه، فبلغوا بيت نوبة.
وكان سبب طمعهم أن صلاح الدين فرق عساكره الشرقية وغيرها لأجل الشتاء، وليستريحوا، وليحضر البدل عوضهم، وسار بعضهم مع ولده الأفضل وأخيه العادل إلى البلاد الجزرية، لما نذكره إن شاء الله تعالى، وبقي من حلقته الخاص بعض العساكر المصرية، فظنوا أنهم ينالون غرضاً، فلما سمع صلاح الدين بقربهم منه فرق أبراج البلد على الأمراء، وسار الفرنج من بيت نوبة إلى قلونية، سلخ الشهر، وهي على فرسخين من القدس، فصب المسلمون عليهم البلاء، وتابعوا إرسال السرايا فبلي الفرنج منهم بما لا قبل لهم به، وعلموا أنهم إذا نازلوا القدس كان الشر إليهم أسرع والتسلط عليهم أمكن، فرجعوا القهقرى، وركب المسلمون أكتافهم بالرماح والسهام.
ولما أبعد الفرنج عن يافا سير صلاح الدين سرية من عسكره إليها، فقاربوها، وكمنوا عندها، فاجتاز بهم جماعة من فرسان الفرنج مع قافلة، فخرجوا عليهم، فقتلوا منهم وأسروا وغنموا، وكان ذلك آخر جمادى الأولى.
ذكر استيلاء الفرنج على عسكر المسلمينفي تاسع جمادى الآخرة بلغ الفرنج الخبر بوصول عسكر من مصر، ومعهم قفل كبير، ومقدم العسكر فلك الدين سليمان، أخو العادل لأمه، ومعه عدة من الأمراء، فأسرى الفرنج إليهم، فواقعهم بنواحي الخليل، فانهزم الجند، ولم يقتل منهم رجل من المشهورين إنما قتل من الغلمان والأصحاب، وغنم الفرنج خيامهم وآلاتهم؛ وأما القفل فإنه أخذ بعضه، وصعد من نجا جبل الخليل، فلم يقدم الفرنج على أتباعهم، ولو اتبعوهم نصف فرسخ لأتوا عليهم؛ وتمزق من نجا من القفل، وتقطعوا، ولقوا شدة إلى أن اجتمعوا.
حكى لي بعض أصحابنا، وكنا قد سيرنا معه شيئاً للتجارة إلى مصر، وكان قد خرج في هذا القفل، قال: لما وقع الفرنج علينا كنا قد رفعنا أحمالنا للسير، فحملوا علينا وأوقعوا بنا، فضربت أحمالي وصعدت الجبل ومعي عدة أحمال لغيري. فلحقنا قوم من الفرنج، فأخذوا الأحمال التي في صحبتي، وكنت بين أيديهم بمقدار رمية سهم، فلم يصلوا إلي، فنجوت بما معي، وسرت لا أدري أين أقصد، وإذ قد لاح لي بناء كبير على جبل، فسألت عنه، فقيل لي: هذا الكرك؛ فوصلت إليه ثم عدت منه إلى القدس سالماً. وسار هذا الرجل من القدس سالماً، فلما بلغ بزاعة، عند حلب، أخذه الحرامية، فنجا من العطب، وهلك عند ظنه السلامة.
ذكر سير الأفضل والعادل إلى بلاد الجزيرة
قد تقدم ذكر موت تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين، واستيلاء ولده ناصر الدين محمد على بلاد الجزيرة، فلما استولى عليها أرسل إلى صلاح الدين يطلب تقريرها عليه، مضافاً إلى ما كان لأبيه بالشام، فلم ير صلاح الدين أن مثل تلك البلاد تسلم إلى صبي، فما أجابه إلى ذلك، فحدث نفسه بالامتناع على صلاح الدين لاشتغاله بالفرنج، فطلب الأفضل علي بن صلاح الدين من أبيه أن يقطعه ما كان لتقي الدين، وينزل عن دمشق، فأجابه إلى ذلك، وأمره بالمسير إليها، فسار إلى حلب في جماعة من العسكر، وكتب صلاح الدين إلى أصحاب البلاد الشرقية، مثل صاحب الموصل، وصاحب سنجار، وصاحب الجزيرة، وصاحب ديار بكر، وغيرها، يأمرهم بإنفاذ العساكر إلى ولده الأفضل.
فلما رأى ولد تقي الدين ذلك علم أنه لا قوة له بهم، فراسل الملك العادل، عم أبيه، يسأله إصلاح حاله مع صلاح الدين، فأنهى ذلك إلى صلاح الدين، وأصلح حاله، وقرر قاعدته بأن يقرر له ما كان لأبيه بالشام، وتؤخذ منه البلاد الجزرية، واستقرت القاعدة على ذلك.
وأقطع صلاح الدين البلاد الجزرية، وهي حران، والرها، وسميساط، وميافارقين، وحاني العادل، وسيره إلى ابن تقي الدين ليتسلم منه البلاد، ويسيره إلى صلاح الدين، ويعيد الملك الأفضل أين أدركه؛ فسار العادل، فلحق الأفضل بحلب، فأعاده إلى أبيه، وعبر العادل الفرات وتسلم البلاد من ابن تقي الدين وجعل نوابه فيها، واستصحب ابن تقي الدين معه، وعاد إلى صلاح الدين بالعساكر، وكان عوده في جمادى الآخرة من هذه السنة.
ذكر عود الفرنج إلى عكالما عاد الملك الأفضل فيمن معه، وعاد الملك العادل وابن تقي الدين فيمن معهما من عساكرهما، ولحقتهم العساكر الشرقية، عسكر الموصل وعسكر ديار بكر وعسكر سنجار وغير ذلك من البلاد، واجتمعت العساكر بدمشق، أيقن الفرنج أنهم لا طاقة لهم بها، إذا فارقوا البحر، فعادوا نحو عكا يظهرون العزم على قصد بيوت ومحاصرتها، فأمر صلاح الدين ولده الأفضل أن يسير إليها في عسكره والعساكر الشرقية جميعها، معارضاً للفرنج في مسيرهم نحوها، فسار إلى مرج العيون، واجتمعن العساكر معه، فأقام هنالك ينتظر مسير الفرنج، فلما بلغهم ذلك أقاموا بعكا ولم يفارقوها.
ذكر ملك صلاح الدين يافالما رحل الفرنج نحو عكا كان قد اجتمع عند صلاح الدين عسكر حلب وغيره، فسار إلى مدينة يافا، وكانت بيد الفرنج، فنازلها وقاتل من بها منهم، وملكها في العشرين من رجب بالسيف عنوة، ونهبها المسلمون، وغنموا ما فيها، وقتلوا الفرنج وأسروا كثيراً، وكان بها أكثر ما أخذوه من عسكر مصر والقفل الذي كان معهم، وقد ذكر ذلك.
وكان جماعة من المماليك الصلاحية قد وقفوا على أبواب المدينة، وكل من خرج من الجند ومعه شيء من الغنيمة أخذوه منه، فإن امتنع ضربوه وأخذوا ما معه قهراً، ثم زحفت العساكر إلى القلعة، فقاتلوا عيها آخر النهار، وكادوا يأخذونها، فطلب من بالقلعة الأمان على أنفسهم، وخرج البطرك الكبير الذي لهم، ومعه عدة من أكابر الفرنج، في ذلك، وترددوا، وكان قصدهم منع المسلمين عن القتال، فأدركهم الليل، وواعدوا المسلمين أن ينزلوا بكرة غد ويسلموا القلعة.
فلما أصبح الناس طالبهم صلاح الدين بالنزول عن الحصن، فامتنعوا، وإذا قد وصلهم نجدة من عكا، وأدركهم ملك إنكلتار، فأخرج من بيافا من المسلمين، وأتاه المدد من عكا وبرز إلى ظاهر المدينة، واعترض المسلمين وحده، وحمل علهم، فلم يتقدم إليه أحد، فوقف بين الصفين واستدعى طعاماً من المسلمين، ونزل فأكل، فأمر صلاح الدين عسكره بالحملة عليهم، وبالجد في قتالهم، فتقدم إليه بعض أمرائه يعرف بالجناح، وهو أخو المشطوب ابن عي بن أحمد الهكاري، فقال له: يا صلاح الدين قل لمماليكك الذين أخذوا أمس الغنيمة، وضربوا الناس بالحماقات، أن يتقدموا فيقاتلوا، إذا كان القتال فنحن، وإذا كان الغنيمة فلهم. فغضب صلاح الدين من كلامه وعاد عن الفرنج.
وكان رحمه الله حليماً كريماً كثير العفو عند المقدرة، ونزل في خيامه، وأقام حتى اجتمعت العساكر، وجاء إليه ابنه الأفضل وأخوه العادل وعساكر الشرق، فرحل بهم إلى الرملة لينظر ما يكون منه ومن الفرنج، فلزم الفرنج يافا ولم يبرحوا منها.
ذكر الهدنة مع الفرنج
وعود صلاح الدين إلى دمشق
في العشرين من شعبان من هذه السنة عقدت بين المسلمين والفرنج هدنة لمدة ثلاث سنين وثمانية أشهر، أولها هذا التاريخ، وافق أول أيلول؛ وكان سبب الصلح أن ملك إنكلتار لما رأى اجتماع العساكر، وأنه لا يمكنه مفارقة ساحل البرح، وليس بالساحل للمسلمين بلد يطمع فيه، وقد طالت غيبته عن بلاده، راسل صلاح الدين في الصلح، وأظهر من ذلك ضد ما كان يطلب منه المصاف والحرب، فأعاد الفرنجي رسله مرة بعد مرة، ونزل عن تتمة عمارة عسقلان وعن غزة والداروم والرملة، وأرسل إلى الملك العادل في تقرير هذه القاعدة، فأشار هو وجماعة الأمراء بالإجابة إلى الصلح، وعرفوه ما عند العسكر من الضجر والملل، وما قد هلك من أسلحتهم ودوابهم ونفد من نفقاتهم، وقالوا: إن هذا الفرنجي إنما طلب الصلح ليركب البحر ويعود إلى بلاده، فإن تأخرت إجابته إلى أن يجيء الشتاء وينقطع الركوب في البحر نحتاج للبقاء هاهنا سنة أخرى، وحينئذ يعظم الضرر على المسلمين.
وأكثروا القول له في هذا المعنى، فأجاب حينئذ إلى الصلح، فحضر رسل الفرنج وعقدوا الهدنة، وتحالفوا على هذه القاعدة، وكان في جملة من حضر عند صلاح الدين باليان بن بارزان الذي كان صاحب الرملة ونابلس، فلما حلف صلاح الدين قال له: اعلم أنه ما عمل أحد في الإسلام ما عملت، ولا هلك من الفرنج مثل ما هلك منهم هذه المدة فإننا أحصينا من خرج إلينا في البحر من المقاتلة، فكانوا ستمائة ألف رجل ما عاد منهم إلى بلادهم من كل عشرة واحد، بعضهم قتلته أنت، وبعضهم مات، وبعضهم غرق.
وأما صلاح الدين، فإنه بعد تمام الهدنة سار إلى البيت المقدس، وأمر بإحكام سوره، وعمل المدرسة والرباط والبيمارستان وغير ذلك من مصالح المسلمين، ووقف عليها الوقوف، وصام رمضان بالقدس، وعزم على الحج والإحرام منه، فلم يمكنه ذلك، فسار عنه خامس شوال نحو دمشق، واستناب بالقدس أميراً اسمه عز الدين جورديك، وهو من المماليك النورية.
ولما سار عنه جعل طريقه على الثغور الإسلامية كنابلس وطبرية وصفد وتبنين وقصد بيروت، وتعهد هذه البلاد، وأمر بإحكامها، فلما كان في بيروت أتاه بيمند صاحب أنطاكية وأعمالها، واجتمع به وخدمه، فخلع عليه صلاح الدين وعاد إلى بلده، فلما عاد رحل صلاح الدين إلى دمشق، فدخلها في الخامس والعشرين من شوال، وكان يوم دخوله إليها يوماً مشهوداً، وفرح الناس به فرحاً عظيماً لطول غيبته، وذهاب العدو عن بلاد الإسلام.
ذكر وفاة قلج أرسلانفي هذه السنة، منتصف شعبان، توفي الملك قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق السلجوقي بمدينة قونية، وكان له من البلاد قونية وأعمالها، وأقصرا، وسيواس، وملطية، وغير ذلك من البلاد، وكانت مدة ملكه نحو تسع وعشرين سنة، وكان ذا سياسة حسنة، وهيبة عظيمة، وعدل وافر، وغزوات كثيرة إلى بلاد الروم، فلما كبر فوق بلاده على أولاده، فاستضعفوه، ولم يلتفتوا إليه، وحجر عليه ولده قطب الدين.
وكان قلج أرسلان قد استناب، في تدبير ملكه، رجلاً يعرف باختيار الدين حسن، فلما غلب قطب الدين على الأمر قتل حسناً، ثم أخذ والده وسار به إلى قيسارية ليأخذها من أخيه الذي سلمها إليه أبوه، فحصرها مدة، فوجد والده قلج أرسلان فرصة، فهرب ودخل قيسارية وحده. فلما علم قطب الدين ذلك عاد إلى قونية وأقصر فملكهما، ولم يزل قلج أرسلان يتحول من ولد إلى ولد، وكل منهم يتبرم به، حتى مضى إلى ولده غياث الدين كيخسرو، صاحب مدينة برغلوا، فلما رآه فرح به، وخدمه، وجمع العساكر، وسار هو معه إلى قونية، فملكها، وسار إلى اقصرا ومعه والده قلج أرسلان، فحصرها، فمرض أبوه، فعاد به إلى قونية فتوفي بها ودفن هناك، وبقي ولده غياث الدين في قونية مالكاً لها، حتى أخذتها منه أخوه ركن الدين سليمان، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وقد حدثني بعض من أثق به من أهل العلم بما يحكيه، وكان قد وصل تلك البلاد بغير هذا، ونحن نذكره، قال إن قلج أرسلان قسم بلاده بين أولاده في حياته، فسلم دوقاط إلى ابنه ركن الدين سليمان، وسلم قونية إلى ولده كيخسر وغياث الدين، وسلم أنقرة، وهي التي تسمى انكشورية إلى ولده محيي الدين، وسلم ملطية إلى ولده معز الدين قيصر شاه، وسلم أبلستين إلى ولده قطب الدين، وسلم نكسار إلى ولد آخر، وسلم أماسيا إلى ولد أخيه.
هذه أمهات البلاد، وينضاف إلى كل بلد من هذه ما يجاورها من البلاد الصغار التي ليست مثل هذه، ثم إنه ندم على ذلك، وأراد أن يجمع الجميع لولده الأكبر قطب الدين، وخطب له ابنه صلاح الدين يوسف، صاحب مصر والشام، ليقوى به، فلما سمع باقي أولاده بذلك امتنعوا عليه، وحرجوا عن طاعته، وزال حكمه عنهم، فسار يتردد بينهم على سبيل الزيارة، فيقيم عند كل واحد منهم مدة، وينتقل إلى الآخر، ثم إنه مضى إلى ولده كيخسرو، صاحب قونية، على عادته، فخرج إليه، ولقيه، وقبل الأرض بين يديه، وسلم قونية إليه وتصرف عن أمره، فقال لكيخسرو: أريد أن أسير إلى ولدي الملعون محمود، وهو صاحب قيسارية، وتجيء أنت معي لأخذها منه؛ فتجهز وسار معه، وحصر محموداً بقيسارية، فمرض قلج أرسلان، وتوفي عليها. فعاد كيخسرو، وبقي كل واحد من الأولاد على البلد الذي بيده.
وكان قطب الدين، صاحب أقصرا وسيواس، إذا أراد أن يسير من إحدى المدينتين إلى الأخرى يجعل طريقه على قيسارية، وبها أخوه نور الدين محمود، وليست على طريقه إنما كان يقصدها ليظهر المودة لأخيه والمحبة له، وفي نفسه الغدر، فكان أخوه محمود يقصده ويجتمع به، ففي بعض المرات نزل بظاهر البلد على عادته، وحضر أخوه محمود عنده غير محتاط، فقتله قطب الدين، وألقى رأسه إلى أصحابه، وأراد أخذ البلد، فامتنع من به من أصحاب أخيه عليه، ثم إنهم سلموه إليه على قاعدة استمرت بينهم.
وكان عند محمود أمير كبير، وكان يحذره من أخيه قطب الدين ويخوفه، فلم يصغ إليه، وكان جواداً، كثير الخير، والتقدم في الدولة عند نور الدين، فلما قتل قطب الدين أخاه قتل حسناً معه، وألقاه على الطريق، فجاء كلب يأكل من لحمه، فثار الناس، وقالوا: لا سمعاً ولا طاعة! هذا رجل مسلم، وله هاهنا مدرسة، وتربة، وصدقات دارة، وأفعال حسنة، لا نتركه تأكله الكلاب؛ فأمر به فدفن في مدرسته، وبقي أولاد قلج أرسلان على حالهم.
ثم إن قطب الدين مرض ومات، فسار أخوه ركن الدين سليمان صاحب دوقاط إلى سيواس، وهي تجاوره، فملكها، ثم سار منها إلى قيسارة وأقصرا، ثم بقي مديدة، وسار إلى قونية وبها أخوه غياث الدين، وفحصره بها وملكها ففارقها غياث الدين إلى الشام، ثم إلى بلد الروم، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى؛ ثم سار بعد ذلك إلى ركن الدين إلى نكسار وأماسيا، فملكها، وسار إلى ملطية سنة سبع وتسعين وخمسمائة، فملكها وفارقها أخوه معز الدين إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكان معز الدين هذا تزوج ابنة للعادل، فأقام عنده. واجتمع لركن الدين ملك جميع الإخوة ما عدا أنقرة فإنه منيعة لا يوصل إليها، فجعل عليها عسكراً يحصرها صيفاً وشتاء ثلاث سنين، فتسلمها سنة إحدى وستمائة، ووضع على أخيه الذي كان بها من يقتله إذ فارقها، فلما سار عنها قتل.
وتوفي ركن الدين في تلك الأيام، ولم يسمع خبر قتل أخيه بل عاجله الله تعالى لقطع رحمه.
وإنما أوردنا هذه الحادثة هاهنا لنتبع بعضها بعضاً، ولأني لم أعلم تاريخ كل حادثة منها لأثبتها فيه.
ذكر ملك شهاب الدين أجمير
وغيرها من الهندقد ذكرنا سنة ثلاث وثمانين غزوة شهاب الدين الغوري إلى بلد الهند، وانهزامه، وبقي إلى الآن وفي نفسه الحقد العظيم على الجند الغورية الذين انهزموا، وما ألزمهم من الهوان.
فلما كان هذه السنة خرج من غزنة وقد جمع عساكره وسار منهم يطلب عدوه الهندي الذي هزمه تلك النوبة، فلما وصل إلى برشاوور تقدم إليه شيخ من الغورية كان يدل عليه، فقال له: قد قربنا من العدو؛ وما يعلم أحد أني نمضي ولا من نقصد ولا نرد على الأمراء سلاماً، وهذا لا يجوز فعله، فقال له السلطان: اعلم أنني منذ هزمني هذا الكافر ما نمت مع زوجتي، ولا غيرت ثياب البياض عني، وأنا سائر إلى عدوي، ومعتمد على الله تعالى لا على الغورية، ولا على غيرهم، فإن نصرني الله، سبحانه، ونصر دينه فمن فضله وكرمه، وإن انهزمنا فلا تطلبوني فيمن انهزم، ولو هلكت تحت حوافر الخيل.
فقال له الشيخ: سوف ترى بني عمك من الغورية ما يفعلون، فينبغي أن تكلمهم وترد سلامهم. ففعل ذلك، وبقي أمراء الغورية يتضرعون بين يديه، ويقولون سوف ترى ما نفعل.
وسار إلى أن وصل إلى موضع المصاف الأول، وجازه مسيرة أربعة أيام، وأخذ عدة مواضع من بلاد العدو، فلما سمع الهندي تجهز، وجمع عساكره، وسار يطلب المسلمين، فلما بقي بين الطائفتين مرحلة عاد شهاب الدين وراءه والكافر في أعقابه أربع منازل، فأرسل الكافر إليه يقول له: أعطني يدك، إنك تصاففني في باب غزنة حتى أجيء وراءك إلا فنحن مثقلون، ومثلك لا يدخل البلاد شبه اللصوص ثم يخرج هارباً، ما هذا فعل السلاطين، فأعاد الجواب: إنني لا أقدر على حربك.
وتم على حاله عائداً إلى أن بقي بينه وبين بلاد الإسلام ثلاثة أيام، والكافر في أثره يتبعه، حتى لحقه قريباً من مرندة فجرد شهاب الدين من عسكره سبعين ألفاً، وقال: أريد هذه الليلة تدورون حتى تكونوا وراء عسكر العدو، وعند صلاة الصبح تأتون أنتم من تلك الناحية، وأنا من هذه الناحية؛ ففعلوا ذلك، وطلع الفجر.
ومن عادة الهنود أنهم لا يبرحون من مضجعهم إلى أن تطلع الشمس، فلما أصبحوا حمل عليهم عسكر المسلمين من كل جانب، وضربت الكوسات، فلم يلتفت ملك الهند إلى ذلك وقال: من يقدم علي، أنا هذا؟ والقتل قد كثر في الهنود، والنصر قد ظهر للمسلمين؛ فلما رأى ملك الهند ذلك أحضر فرساً له سابقاً، وركب ليهرب، فقال له أعيان أصحابه: إنك حلفت لنا أنك لا تخلينا وتهرب؛ فنزل عن الفرس وركب الفيل ووقف موضعه، والقتال شديد، والقتل قد كثر في أصحابه، فانتهى المسلمون إليه وأخذوه أسيراً، وحينئذ عظم القتل والأسر في الهنود، ولم ينج منهم إلا القليل.
وأحضر الهندي بين يدي شهاب الدين، فلم يخدمه فأخذ بعض الحجاب بلحيته، وجذبه إلى الأرض، حتى أصابها جبينه، وأقعده بين يدي شهاب الدين، فقال له شهاب الدين: لو استأسرتني ما كنت تفعل بي؟ فقال الكافر: كنت استعملت لك قيداً من ذهب أقيدك به، فقال شهاب الدين: بل نحن ما نجعل لك من القذر ما نقيدك.
وغنم المسلمون من الهنود أموالاً كثيرة وأمتعة عظيمة، وفي جملة ذلك أربعة عشر فيلاً، من جملتها الفيل الذي جرح شهاب الدين في تلك الوقعة. وقال ملك الهند لشهاب الدين: إن كنت طالب بلاد، فما بقي فيها من يحفظها، وإن كنت طالب مال، فعندي أموال تحمل أجمالك كلها.
فسار شهاب الدين وهو معه إلى الحصن الذي له يعول عليه، وهو أجمير، فأخذه، وأخذ جميع البلاد التي تقاربه، وأقطع جميع البلاد لمملوكه قطب الدين أيبك، وعاد إلى غزنة، وقتل ملك الهند.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض على أمير الحاج طاشتكين ببغداد، وكان نعم الأمير، عادلاً في الحاد، رفيقاً بهم، نحباً لهم، له أوراد كثيرة من صلوات وصيام، وكان كثير الصدقة، لا جرم، وقفت أعماله بين يديه فخلص من السجن، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها خرج السلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل من الحبس بعد موت قزل أرسلان بن إيلدكز، والتقى هو وقتلغ إينانج بن البهلوان بن إيلدكز، فانهزم إينانج إلى الري، وكان ما نذكره، إن شاء الله تعالى، سنة تسعين وخمسمائة.
وفيها، في رجب، توفي الأمير السيد علي بن المرتضى العلوي الحنفي مدرس جامع السلطان ببغداد.
وفي شعبان منها توفي أبو علي الحسن بن هبة الله بن البوقي، الفقيه الشافعي الواسطي، وكان عالماً بالمذهب انتفع به الناس.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة
ذكر وفاة صلاح الدين وبعض سيرتهفي هذه السنة في صفر، توفي صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي، صاحب مصر والشام والجزيرة وغيرها من البلاد، بدمشق، ومولده بتكريت، وقد ذكرنا سبب انتقالهم منها، وملكهم مصر سنة أربع وستين وخمسمائة.
وكان سبب مرضه أن خرج يتلقى الحاج، فعاد، ومرض من يومه مرضاً حاداً بقي به ثمانية أيام وتوفي، رحمه الله.
وكان قبل مرضه قد أحضر ولده الأفضل علياً وأخاه الملك العادل أبا برك، واستشارهما فيما يفعل، وقال: قد تفرغنا من الفرنج، وليس لنا في هذه البلاد شاغل، فأي جهة نقصد؟ فأشار عليه أخوه العادل بقصد خلاط، لأنه كان قد وعده، إذا أخذهتا، أن يسلمها إليه، وأشار ولده الأفضل بقصد بلد الروم التي بيد أولاد قلج أرسلان، وقال: هي أكثر بلاداً وعسكراً ومالاً وأسرع مأخذاً، وهي أيضاً طريق الفرنج إذا خرجوا على البر، فإذا ملكناها منعناهم من العبور فيها. فقال: كلاكما مقصر، ناقص الهمة، بل أقصد أنا بلد الروم، وقال لأخيه: تأخذ أنت بعض أولادي وبعض العسكر وتقصد خلاط، فإذا فرغت أنا من بلد الروم جئت إليكم، وندخل منها أذربيجان، ونتصل ببلاد العجم، فما فيها من يمنع عنها.
ثم أذن لأخيه العادل في المضي إلى الكرك، وكان له، وقال له: تجهز واحضر لتسير؛ فلما سار إلى الكرك مرض صلاح الدين، و توفي قبل عوده.
وكان رحمه الله، كريماً، حليماً، حسن الأخلاق، متواضعاً، صبوراً عل ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك ولا يتغير عليه.
وبلغني أنه كان يوماً جالساً وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضاً بسرموز فأخطأته ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه ليتغافل عنها.
وطلب مرة الماء فلم يحضر، وعاود الطلب في مجلس واحد خمس مرات فلم يحضر، فقال: يا أصحابنا، والله قد قتلني العطش! فأحضر الماء، فشربه ولم ينكر التواني في إحضاره.
وكان مرة قد مرض مرضاً شديداً أرجف عليها بالموت، فلما برئ منه وأدخل الحمام كان الماء حاراً، فطلب ماء بارداً، فأحضره الذي يخدمه، فسقط من الماء شيء على الأرض، فناله منه شيء، فتأمل له لضعفه، ثم طلب البارد أيضاً، فأحضر، فلما قاربه سقطت الطاسة على الأرض، فوقع الماء جميعه عليه، فكاد يهلك، فلم يزد على أن قال للغلام: إن كنت تريد قتلي فعرفني! فاعتذر إليه، فسكت عنه.
وأما كرمه، فإنه كان كثير البذل لا يقف في شيء يخرجه، ويكفي دليلاً على كرمه أنه لما مات لم يخلف في خزائنه غير دينار واحد صوري، وأربعين درهماً ناصرية، وبلغني أنه أخرج في مدة مقام على عكا قبالة الفرنج ثمانية عشر ألف دابة من فرس وبغل سوى الجمال، وأما العين والثياب والسلاح فإنه لا يدخل تحت الحصر، ولما انقرضت الدولة العلوية بمصر أخذ من ذخائرهم من سائر الأنواع ما يفوت الإحصاء ففرقه جميعه.
وأما تواضعه، فإنه كان ظاهراً لم يتكبر على أحد من أصحابه، وكان يعيب الملوك المتكبرين بذلك، وكان يحضر عنده الفقراء والصوفية، ويعمل لهم السماع، فإذا قام أحدهم لرقص أو سماع يقوم له فلا يقعد حتى يفرغ الفقير.
ولم يلبس شيئاً مما ينكره الشرع، وكان عنده علم ومعرفة، وسمع الحديث وأسمعه، وبالجملة كان نادراً في عصره، كثير المحاسن والأفعال الجميلة، عظيم الجهاد في الكفار، وفتوحه تدل على ذلك، وخلف سبعة عشر ولداً ذكراً.
ذكر حال أهله وأولاده بعدهلما مات صلاح الدين بدمشق كان معه بها ولده الأكبر والأفضل نور الدين علي، وكان قد حلف له العساكر جميعها، غير مرة، في حياته، فلما مات ملك دمشق، والساحل، والبيت المقدس، وبعلبك، وصرخد، وبصرى، وبانياس، وهونين، وتبنين، وجمع الأعمال إلى الداروم.
وكان ولده الملك العزيز عثمان بمصر، فاستولى عليها، وعلى جميع أعمالها، مثل: حارم، وتل باشر، وإعزاز، وبرزية، ودرب ساك، ومنبج وغير ذلك.
وكان بحماة محمود بن تقي الدين عمر فأطاعه وصار معه.
وكان بحمص شيركوه بن محمد بن شيركوه، فأطاع الملك الأفضل.
وكان الملك العادل قد سار إليه، كما ذكرنا، فامتنع فيه، لم يحضر عند أحد من أولاد أخيه، فأرسل إليه الملك الأفضل يستدعيه ليحضر عنده، فوعده ولم يفعل، فأعاد مراسلته، وخوفه من الملك العزيز، صاح مصر، ومن أتابك عز الدين، صاحب الموصل، فإنه كان قد سار عنها إلى بلاد العادل الجزرية، على ما نذكره، ويقول له: إن حضرت جهزت العساكر وسرت إلى بلادك فحفظتها، وإن أقمت قصدك أخي الملك العزيز لما بينكما من العداوة، وإذا ملك عز الدين بلادك فليس له دون الشام مانع؛ وقال لرسوله: إن حضر معك، وإلا فقل له قد أمرني، إن سرت إليه بدمشق عدت معك، وإن لم تفعل أسير إلى الملك العزيز أحالفه على ما يختار.
فلما حضر الرسول عنده وعده بالمجيء، فلما رأى أن ليس معه منه غير الوعد أبلغه ما قيل له في معنى موافقة العزيز، فحينئذ سار إلى دمشق، وجهز الأفضل معه عسكراً من عنده، وأرسل إلى صاحب حمص، وصاحب حماة، وإلى أخيه الملك الظاهر بحلب، يحثهم على إنفاذ العساكر مع العادل إلى البلاد الجزرية ليمنعها من صاحب الموصل، ويخوفهم إن هم لم يفعلوا.
ومما قال لأخيه الظاهر: قد عرفت صحبة أهل الشام لبيت أتابك، فوالله لئن ملك عز الدين حران ليقومن أهل حلب عليك، ولتخرجن منها وأننت لا تعقل، وكذلك يفعل بي أهل دمشق، فاتفقت كلمتهم على تسيير العساكر معه، فجهزوا عساكرهم وسيروها إلى العادل وقد عبر الفرات. فعسكرت عساكرهم بنواحي الرها بمرج الريحان، وسنذكر ما كان منه إن شاء الله تعالى.
ذكر مسير أتابك عز الدين
إلى بلاد العادل وعوده بسبب مرضهلما بلغ أتابك عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، صاحب الموصل، وفاة صلاح الدين جمع أهل الرأي من أصحابه، وفيهم مجاهد الدين قايماز، كبير دولته، والمقدم على كل من فيها، وهو نائبه فيهم، واستشارهم فيما يفعل، فسكتوا.
فقال له بعضهم، وهو أخي مجد الدين أبو السعادات المبارك: أنا أرى أنك تخرج مسرعاً جريدة فيمن خف من أصحابك وحلقتك الخاص، وتتقدم إلى الباقين باللحاق بك، وتعطي من هو محتاج إلى شيء ما يتجهز به ما يخرجه ويلحق بك إلى نصيبين، وتكاتب أصحاب الأطراف مثل مظفر الدين بن زين الدين، وصاحب إربل، وسنجر شاه ابن أخيك صاحب جزيرة ابن عمر، وأخيك عماد الدين صاحب سنجار ونصيبين، تعرفهم أنك قد سرت، وتطلب منهم المساعدة وتبذل لهم اليمين على ما يلتمسونه، فمتى رأوك قد سرت خافوك، وإن أجابك أخوك صاح بسنجار ونصيبين إلى الموافقة، وإلا بدأ بنصيبين فأخذتها وتركت عسكره مقابل أخيك يمنعه الحركة، إن أرادها، أو قصدت الرقة، فلا تمنع نفسها، وتأتي حران والرها، فليس فيها من يحفظها لا صاحب ولا عسكر ولا ذخيرة، فإن العادل أخذهما من ابن تقي الدين، ولم يقم فيهما ليصلح حالهما، وكان القوم يتكلون على قوتهم، فلم يظنوا هذا الحادث، فإذا فرغت من ذلك الطرف عدت إلى من امتنع من طاعتك فقاتلته، وليس وراءك ما تخاف عليه، فإن بلدك عظيم لا يبالي بكل من وراءك.
فقال مجاهد الدين: المصلحة أننا نكاتب أصحاب الأطراف، ونأخذ رأيهم في الحركة، ونستميلهم، فقال له أخي: إن أشاروا بترك الحركة تقبلون منهم؟ قال: لا! قال: إنهم لا يشيرون إلا بتركها، لأنهم لا يريدون أن يقوى هذا السلطان خوفاً منه، وكأني بهم يغالطونكم ما دامت البلاد الجزرية فارغة من صاحب وعسكر فإذا جاء إليها من يحفظها جاهروكم بالعداوة.
ولم يمكنه أكثر من هذا القول خوفاً من مجاهد الدين، حيث رأى ميله إلى ما تكلم به، فانفصلوا على أن يكاتبوا أصحاب الأطراف، فكاتبوهم، فكل أشار بترك الحركة إلى أن ينظر ما يكون من أولاد صلاح الدين وعمهم فتثبطوا.
ثم إن مجاهد الدين كرر المراسلات إلى عماد الدين، صاحب سنجار، يعده ويستميله، فبينما هم على ذلك إذ جاءهم كتاب الملك العادل من المناخ بالقرب من دمشق، وقد سار عن دمشق إلى بلاده، يذكر فيه موت أخيه، وأن البلاد قد استقرت ولده الملك الأفضل، والناس متفقون على طاعته، وأنه هو المدبر لدولة الأفضل، وقد سيره في عسكر جم، كثير العدد، لقصد ماردين لما بلغه أن صاحبها تعرض إلى بعض القرى التي له، وذكر من هذا النحو شيئاً كثيراً، فظنوه حقاً وأن قوله لا ريب فيه، ففتروا عن الحركة، وذلك الرأي، فسيروا الجواسيس، فأتتهم الأخبار بأنه في ظاهر حران نحو من مائتي خيمة لا يغر، فعادوا فتحركوا، فإلى أن تقررت القواعد بينهم وبين صاحب سنجار، وصلته العساكر الشامية التي سيرها الأفضل وغيره إلى العادل، فامتنع بها وسار أتابك عز الدين عن الموصل إلى نصيبين، واجتمع هو وأخوه عماد الدين بها، وساروا على سنجار نحو الرها، وكان العادل قد عسكر قريباً منها بمرج الربحان، فخافهم خوفهاً عظيماً.
فلما وصل أتابك عز الدين إلى تل موزن مرض بالإسهال، فأقام عدة أيام فضعف عن الحركة، وكثر مجيء الدم من، فخاف الهلاك، فترك العساكر مع أخيه عماد الدين وعاد جريدة في مائتي فارس، ومعه مجاهد الدين وأخي مجد الدين، فلما وصل إلى دنيسر استولى عليه الضعف، فأحضر أخي وكتب وصية، ثم سار فدخل الموصل وهو مريض أول رجب.
ذكر وفاة أتابك عز الدين
وشيء من سيرتهفي هذه السنة توفي أتابك عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي بن أاقسنقر، صاحب الموصل، بالموصل، وقد ذكرنا عوده إلهيا مريضاً، فبقي في مرضه إلى التاسع والعشرين من شعبان، فتوفي، رحمه الله، ودفن بالمدرسة التي أنشأها مقابل دار الملكة، وكان قد بقي ما يزيد على عشرة أيام لا يتكلم إلا بالشهادتين، وتلاوة القرآن، وإذا تكلم بغيرها استغفر الله، ثم عاد إلى ما كان عليه، فرزق خاتمة خير، رضي الله عنه.
وكان، رحمه الله، خير الطبع، كثير الخير والإحسان، لا سيما إلى شيوخ قد خدموا أباه، فإنه كان يتعهدهم بالبر والإحسان، والصلة والإكرام، ويرجع إلى قولهم، ويزور الصالحين، ويقربهم، ويشفعهم.
وكان حليماً، قليل المعاقبة، كثير الحياء، لم يكلم جليساً له إلا وهو مطرق، وما قال في شيء يسأله: لا، حياء وكرم طبع.
وكان قد حج، ولبس بمكة، حرسها الله، خرقة التصوف، وكان يلبس تلك الخرقة كل ليلة، ويخرج إلى المسجد قد بناه في داره، ويصلي فيه نحو ثلث الليل؛ وكان رقيق القلب، شفيقاً على الرعية.
بلغني عنه أنه قال، بعض الأيام: إنني سهرت الليلة كثيراً، وسبب ذلك أني سمعت صوت نائحة، فظننت أن ولد فلان قد مات، وكان قد سمع أنه مريض، قال: فضاق صدري، وقمت من فراشي أدور في السطح، فلما طال علي الأمر أرسلت خادماً إلى الجاندارية، فأرسل منهم واحداً يستعلم الخبر، فعاد وذكر إنساناً لا أعرفه، فسكن بعض ما عندي فنمت، ولم يكن الرجل الذي ظن أن ابنه مات من أصحابه إنما كان من رعيته.
كان ينبغي أن تتأخر وفاته، وإنما قدمناها لتتبع أخباره بعضها بعضاً.
ذكر قتل بكتمر صاحب بخلاطفي هذه السنة، أول جمادى الأولى، قتل سيف الدين بكتمر، صاحب خلاط، وكان بين قتله وموت صلاح الدين شهران، فإنه أسرف في إظهار الشماتة بموت صلاح الدين، فلم يمهله الله تعالى، ولما بلغه موت صلاح الدين فرح فرحاً كثيراً، وعمل تختاً جلس عليه، ولقب نفسه بالسلطان المعظم صلاح الدين، وكان لقبه سيف الدين، فغيره، وسمي نفسه عبد العزيز، وظهرت منه اختلال وتخليط، وتجهز ليقصد ميافارقين يحصرها، فأدركته منيته.
وكان سبب قتله أن هزار ديناري، وهو أيضاً من مماليك شاه أرمن ظهير الدين، كان قد قوي وكثر جمعه، وتزوج ابنة بكتمر، فطمع في الملك، فوضع عليه من قتله، فلما قتل ملك بعده هزار ديناري بلاد خلاط وأعمالها.
وكان بكتمر ديناً، خيراً، صالحاً، كثير الخير، والصلاح، والصدقة، محباً لأهل الدين والصوفية، كثير الإحسان إليهم، قريباً منهم ومن سائر رعيته، محبوباً إليهم، عادلاًُ فيهم، وكان جواداً شجاعاً عادلاً في رعيته حسن السيرة فيهم.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة شتى شهاب الدين ملك غزنة في برشاوور، وجهز مملوكه أيبك في عساكر كثيرة، فأدخله بلاد الهند يغنم ويسبي، ويفتح من البلاد ما يمكنه، فدخلها، وعاد فخرج هو وعساكره سالماً، قد ملأوا أيديهم من الغنائم.
وفيها، في رمضان، توفي سلطان شاه، صاحب مرو وغيرها من خراسان، وملك أخوه علاء الدين تكش بلاده، وسنذكر سنة تسعين إن شاء الله تعالى.
وفيها أمر الخليفة الناصر لدين الله بعمارة خزانة الكتب بالمدرسة النظامية ببغداد، ونقل إليها من الكتب النفيسة ألوفاً لا يوجد مثلها.
وفيها، في ربيع الأول فرغ من عمارة الرباط الذي أمر بإنشائه الخليفة أيضاً بالحريم الطاهري، غربي بغداد على دجلة، وهو من أحسن الربط، ونقل إليه كتباً كثيرة من أحسن الكتب.
وفيها ملك الخليفة قلعة من بلاد خوزستان، وسبب ذلك أن صاحبها سوسيان بن شملة جعل فيها دزداراً، فأساء السيرة مع جندها، فغدر به بعضهم فقتله، ونادوا بشعار الخليفة، فأرسل إليها وملكها.
وفيها انقض كوكبان عظيمان، وسمع صوت هدة عظيمة، وذلك بعد طاوع الفجر، وغلب ضوءهما القمر وضوء النهار.
وفيها مات الأمير داود بن عيسى بن محمد بن أبي هشام، أمير مكة، وما زالت إمارة مكة تكون له تارة، ولأخيه مكثر تارة، إلى أن مات.
وفي هذه السنة توفي أبو الرشيد الحاسب البغدادي، وكان قد أرسله الخليفة الناصر لدين الله في رسالة إلى الموصل فمات هناك.
ثم دخلت سنة تسعين وخمسمائة
ذكر الحرب بين شهاب الدين وملك بنارس الهنديكان شاب الدين الغوري، ملك غزنة، وقد جهز مملوكه قطب الدين أيبك، وسيره إلى بلد الهند للغزاة، فدخلها فقتل فيها و سبى وغنم وعاد، فلما سمع به ملك بنارس، وهو أكبر ملك في الهند، ولايته من حد الصين إلى بلاد ملاوا طولاً، ومن البحر إلى مسيرة عشرة أيام من لهاوور عرضاً، وهو ملك عظيم، فعندها جمع جيوشه، وحشرها، وسار يطلب بلاد الإسلام.
ودخلت سنة تسعين فسار شهاب الدين الغوري من غزنة بعساكره نحوه، فالتقى العسكران على ماجون، وهو نهر كير يقارب دجلة بالموصل، وكان مع الهندي سبع مائة فيل، ومن العسكر على ما قيل ألف ألف رجل، ومن جملة عسكره عدة أمراء مسلمين، كانوا في تلك البلاد أباً عن جد، من أيام السلطان محمود بن سبكتكين، يلازمون شريعة الإسلام، ويواظبون على الصلوات وأفعال الخير، فلما التقى المسلمون والهنود اقتتلوا، فصبر الكفار لكثرتهم، وصبر المسلمون لشجاعتهم، فانهزم الكفار، ونصر المسلمون، وكثر القتل في الهنود، حتى امتلأت الأرض وجافت، وكانوا لا يأخذون إلا الصبيان والجواري، وأما الرجال فيقتلون، وأخذ منهم تسعين فيلاً، وباقي الفيلة قتل بعضها، وانهزم بعضها، وقتل ملك الهند، ولم يعرفه أحد، إلا أنه كانت أسنانه قد ضعفت أصولها، فأمسكوها بشريط الذهب، فبذلك عرفوه.
فلما انهزم الهنود دخل شهاب الدين بلاد بنارس، وحمل من خزائنها على ألف وأربع مائة جمل، وعاد إلى غزنة ومعه الفيلة التي أخذها من جملتها فيل أبيض، حدثني من رآه: لما أخذت الفيلة، وقدمت إلى شهاب الدين، أمرت بالخدمة، فخدمت جميعها إلا الأبيض فإنه لم يخدم، ولا يعجب أحد من قولنا الفيلة تخدم، فإنها تفهم ما يقال لها، ولقد شاهدت فيلاً بالموصل وفياله يحدثه، فيفعل ما يقول له.
ذكر قتل السلطان طغرل
وملك خوارزم شاه الري ووفاة أخيه سلطان شاهقد ذكرنا سنة ثمان وثمانين خرج السلطان طغرل بن ألب أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي من الحبس، وملكه همذان وغيرها، وكان قد جرى بينه وبين قتلغ إينانج بن البهلوان، صاحب البلاد، حرب انهزم فيها قتلغ إينانج، وتحصن بالري.
وسار طغرل إلى همذان، وأرسل قتلغ إينانج إلى خوارزم شاه علاء الدين تكش يستنجده، فسار إليه في سنة ثمان وثمانين، فلما تقاربا ندم قتلغ إينانج على استدعاء خوارزم شاه، وخاف على نفسه فمضى من بين يديه وتحصن في قلعة له، فوصل خوارزم شاه إلى الري وملكها، وحصر قلعة طبرك ففتحها في يومين، وراسله طغرل، واصطلحا، وبقيت الري في يد خوارزم، فجد في السير خوفاً عليها، فأتاه الخبر، وهو في الطريق، أن أهل خوارزم منعوا سلطان شاه عنها، ولم يقددر على القرب منها، وعاد عنها خائباً، فشتى خوارزم شاه بخوارزم، فلما انقضى الشتاء سار إلى مرو لقصد أخيه سنة تسع وثمانين، فترددت الرسل بينهما في الصلح.
فبينما هم في تقرير الصلح ورد على خوارزم شاه رسول من مستحفظ قلعة سرخس لأخيه سلطان شاه يدعوه ليسلم إليه القلعة لأنه قد استوحش من صاحبه سلطان شاه، فسار خوارزم شاه إليه مجداً، فتسلم القلعة وصار معه.
وبلغ ذلك سلطان شاه في عضده، وتزايد كمده، فمات سلخ رمضان سنة تسع وثمانين وخمسمائة؛ فلما سمع خوارزم شاه بموته سار من ساعته إلى مرو فتسلمها، وتسلم مملكة أخيه سلطان شاه جميعها وخزائنه، وأرسل إلى ابنه علاء الدين محمد، وكان يلقب حينئذ قطب الدين، وهو بخوارزم، فأحضره فولاه نيسابور، وولى ابنه الأكبر ملكشاه مرو، وذلك في ذي الحجة سنة تسع وثمانين.
فلما دخلت سنة تسعين وخمسمائة قصد السلطان طغرل بلد الري فأغار على من به من أصحاب خوارزم شاه، ففر منه قتلغ إينانج بن البهلوان، وأرسل إلى خوارزم شاه يعتذر ويسأل إنجاده مرة ثانية؛ ووافق ذلك وصول رسول الخليفة إلى خوارزم شاه يشكو من طغرل، ويطلب إنجاده مرة ثانية؛ ووافق ذلك وصول رسول الخليفة إلى خوارزم شاه يشكو من طغرل، ويطلب منه قصد بلاده ومعه منشور بإقطاعه البلاد، فسار من نيسابور إلى الري، فتلقاه قتلغ إينانج ومن معه بالطاعة، وساروا معه، فلما سمع السلطان طغرل بوصوله كانت عساكره متفرقة، فلم يقف ليجمعها، بل سار إليه فيمن معه، فقيل له: إن الذي تفعله ليس برأي، والمصلحة أن تجمع العساكر؛ فلم يقبل، وكان فيه شجاعة، بل تمم مسيره، فالتقى العسكران بالقرب من الري، فحمل طغرل بنفسه في وسط عسكر خوارزم شاه، فأحاطوا به وألقوه عن فرسه وقتلوه في الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول، وحمل رأسه إلى خوارزم شاه، فسيره من يومه إلى بغداد فنصب بها بباب النوبي عدة أيام.
وسار خوارزم شاه إلى همذان، وملك تلك البلاد جميعها، وكان الخليفة الناصر لدين الله قد سير عسكراً إلى نجدة خوارزم شاه، وسير له الخلع السلطانية مع وزيره مؤيد الدين بن القصاب، فنزل على فرسخ من همذان، فأرسل إليه خوارزم شاه يطلبه إليه، فقال مؤيد الدين: ينبغي أن تحضر أنت وتلبس الخلعة من خيمتي؛ وترددت الرسل بينهما في ذلك، فقيل لخوارزم شاه: إنها حيلة عليك حتى تحضر عنده ويقبض عليك؛ فرحل خوارزم شاه إليه قصداً لأخذه، فاندفع من بين يديه والتجأ إلى بعض الجبال فامتنع به، فرجع خوارزم شاه إلى همذان، ولما ملك همذان وتلك البلاد سلمها إلى قتلغ إينانج، وأقطع كثيراً منها لمماليكه وجعل المقدم عليهم مياجق، وعاد إلى خوارزم.
ذكر مسير وزير الخليفة إلى خوزستان وملكهافي هذه السنة، في شعبان، خلع الخليفة الناصر لدين الله على النائب في الوزارة مؤيد الدين أبي عبد الله محمد بن علي المعروف بابن القصاب، خلع الوزارة، وحكم في الولاية، وبرز في رمضان، وسار إلى بلاد خوزستان؛ وولي الأعمال بها، وصار له فيها أصحاب وأصدقاء ومعارف، وعرف البلاد ومن أي وجه يمكن الدخول إليها والاستيلاء عليها، فلما ولي ببغداد نيابة الوزارة أشار على الخليفة بأن يرسله في عسكر إليها ليملكها له، وكان عزمه أنه إذا ملك البلاد واستقر فيها أقام مظهراً للطاعة، مستقلاً بالحكم فيها، ليأمن على نفسه.
فاتفق أن صاحبها ابن شملة توفي، واختلف أولاده بعده، فراسل بعضهم مؤيد الدين يستنجده لما بينهم من الصحبة القديمة، فقوي الطمع في البلاد، فجهزت العساكر وسيرت معه إلى خوزستان، فوصلها سنة إحدى وتسعين وجرى بينه وبين أصحاب البلاد مراسلات ومحاربة عجزوا عنها، وملك مدينة تستر في المحرم، وملك غيرها من البلاد، وملك القلاع، وأنفذ بني شملة أصحاب بلاد خوزستان إلى بغداد، فوصلوا في ربيع الأول.
ذكر حصر العزيز مدينة دمشقفي هذه السنة وصل الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين، وهو صاحب مصر، إلى مدينة دمشق، فحصرها وبها أخوه الأكبر الملك الأفضل علي بن صلاح الدين، وكنت حينئذ بدمشق، فنزل بنواحي ميدان الحصى، فأرسل الأفضل إلى عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وهو صاحب الديار الجزرية، يستنجده، وكان الأفضل غاية الواثق به والمعتمد عليه، وقد سبق ما يدل على ذلك، فسار الملك العادل إلى دمشق هو والملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، صاحب حلب، وناصر الدين محمد بن تقي الدين، صاحب حماة، وأسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه، صاحب حمص، وعسكر الموصل وغيرها، كل هؤلاء اجتمعوا بدمشق، واتفقوا على حفظها، علماً منهم أن العزيز إن ملكها أخذ بلادهم.
فلما رأى العزيز اجتماعهم علم أنه لا قدرة له على البلد، فترددت الرسل حينئذ في الصلح، فاستقرت القاعدة على أن يكون البيت المقدس وما جاوره من أعمال فلسطين للعزيز، وتبقى دمشق وطبرية وأعمالها والغور للأفضل، على ما كانت عليه، وأن يعطي الأفضل أخاه الملك الظاهر جبلة ولاذقية بالساحل الشامي، وأن يكون للعادل بمصر إقطاعه الأول، واتفقوا على ذلك، وعاد العزيز إلى مصر، ورجع كل واحد من الملوك إلى بلده.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كانت زلزلة في ربيع الأول بالجزيرة والعراق وكثير من البلاد، سقطت منها الجبانة التي عند مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام.
وفيها، في جمادى الآخرة، اجتمعت زعب وغيرها من العرب، وقصدوا مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم هاشم بن قاسم، أخو أمير المدينة، فقاتلهم فقتل هاشم، وكان أمير المدينة قد توجه إلى الشام، فلهذا طمعت العرب فيه.
وفيها توفي القاضي أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الصمد الطرسوسي الحلبي بها، في شعبان، وكان من عباد الله الصالحين، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة
ذكر ملك وزير الخليفة همذان
وغيرها من بلاد العجمقد ذكرنا ملك مؤيد الدين بن القصاب بلاد خوزستان، فلما ملكها سار منها إلى ميسان من أعمال خوزستان، فوصل إليه قتلغ إينانج بن البهلوان، صاحب البلاد، وقد تقدم ذكر تغلب خوارزم شاه عليها، ومعه جماعة من الأمراء، فأكرمه وزير الخليفة وأحسن إليه.
وكان سبب مجيئه أنه جرى بينه وبين عسكر خوارزم شاه ومقدمهم مياجق مصاف عند زنجان، واقتتلوا، فانهزم قتلغ إينانج وعسكره، وقصد عسكر الخليفة ملتجئاً إلى مؤيد الدين الوزير، فأعطاه الوزير الخيل والخيام وغير ذلك مما يحتاج إليه، وخلع عليه وعلى من معه من الأمراء، ورحلوا إلى كرماشاهان.
ورحل منها إلى همذان، وكان بها ولد خوارزم شاه ومياجق والعسكر الذي معهما، فلما قاربهم عسكر الخليفة فارقها الخوارزميون وتوجهوا إلى الري، واستولى الوزير على همذان في شوال من هذه السنة، ثم رحل هو وقتلغ إينانج خلفهم، فاستولوا على كل بلد جازوا به منها: خرقان، ومزدغان، وساوة، وآوة، وساروا إلى الري، ففارقها الخوارزميون إلى خوار الري، فسير الوزير خلفهم عسكراً، ففارقها الخوارزميون إلى دامغان، وبسطام، وجرجان، فعاد عسكر الخليفة إلى الري فأقاموا بها، فاتفق قتلغ إينانج ومن معه من الأمراء على الخلاف على الوزير وعسكر الخليفة لأنهم رأوا البلاد قد خلت من عسكر خوارزم شاه، فطمعوا فيها. فدخلوا الري، فحصرها وزير الخليفة، ففارقها قتلغ إينانج، وملكها الوزير، ونهبها العسكر، فأمر الوزير بالنداء بالكف عن النهب.
وسار قتلغ إينانج ومن معه من الأمراء إلى مدينة آوة وبها شحنة الوزير، فمنعهم من دخولها، فساروا عنها، ورحل الوزير في أثرهم نحو همذان، فبلغه وهو في الطريق أن قتلغ أينانج قد اجتمع معه عسكر، وقصد مدينة كرج، وقد نزل على دربند هناك، فطلبهم الوزير من موضع المصاف إلى همذان، فنزل بظاهرها، فأقام نحو ثلاثة أشهر، فوصله رسول خوارزم شاه تكش، وكان قد قصدهم منكراً أخذه البلاد من عسكره، ويطلب إعادتها، وتقرير قواعد الصلح، فلم يجب الوزير إلى ذلك، فسار خوارزم شاه مجداً إلى همذان.
وكان الوزير مؤيد الدين بن القصاب قد توفي في أوائل شعبان، فوقع بينه وبين عسكره الخليفة مصاف، نصف شعبان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، فقتل بينهم كثير من العسكرين، وانهزم عسكر الخليفة، وغنم الخوارزميون منهم شيئاً كثيراً، وملك خوارزم شاه همذان، ونبش الوزير من قبره وقطع رأسه وسيره إلى خوارزم، وأظهر أنه قتله في المعركة؛ ثم إن خوارزم شاه أتاه من خراسان ما أوجب أن يعود إليها، فترك البلاد وعاد إلى خراسان.
ذكر غزو ابن عبد المؤمن الفرنج بالأندلسفي هذه السنة، في شعبان، غزا أبو يوسف يعقوب بن عبد المؤمن، صاحب بلاد المغرب والأندلس، بلاد الفرنج بالأندلس؛ وسبب ذلك أن ألفنش ملك الفرنج بها، ومقر ملكه مدينة طليطلة، كتب إلى يعقوب كتاباً نسخته: باسمك اللهم فاطر السموات والأرض؛ أما بعد أيها الأمير، فإنه لا يخفى على كل ذي عقل لازب، ولا ذي لب وذكاء ثاقب، أنك أمير الملة الحنيفية، كما أنا أمير الملة النصرانية، وأنك من لا يخفى عليه ما هم عليه رؤساء الأندلس من التخاذل والتواكل، وإهمال الرعية، واشتمالهم على الراحات، وأنا أسومهم الخسف وأخلي الديار، وأسبي الذاراري، وأمثل بالكهول، وأقتل الشباب، ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم، وقد أمكنتك يد القدرة، وأنتم تعتقدون أن الله فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، والآن خفف الله عنكم، وعلم أن فيكم ضعفاً، فقد فرض عليكم قتال اثنين منا بواحد منكم، ونحن الآن نقاتل عدداً منكم بواحد منا، ولا تقدرون دفاعاً، ولا تستطيعون امتناعاً.
ثم حكي لي عنك أنك أخذت في الاحتفال، وأشرفت على ربوة القتال، وتمطل نفسك عاماً بعد عام، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، ولا أدري الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما أنزل عليك.
ثم حكي لي عنك أنك لا تجد سبيلاً للحرب لعلك ما يسوغ لك التقحم فيها، فها أنا أقول لك ما فيه الراحة، وأعتذر عنك، ولك أن توافيني بالعهود والمواثيق والأيمان أن تتوجه بجملة من عندك في المراكب والشواني، وأجوز إليك بجملتي وأبارزك في أعز الأماكن عندك، فإن كانت لك فغنيمة عظيمة جاءت إليك، وهدية مثلت بين يديك، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك، واستحققت إمارة الملتين، والتقدم على الفئتين، والله يسهل الإرادة، ويوفق السعادة بمنه لا رب غيره، ولا خير إلا خيره.
فلما وصل كتابه وقرأه يعقوب كتب في أعلاه هذه الآية: (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون) النمل 37، وأعاده إليه، وجمع العساكر العظيمة من المسلمين وعبر المجاز إلى الأندلس.
وقيل: كان سبب عبوره إلى الأندلس أن يعقوب لما قاتل الفرنج سنة ست وثمانين وصالحهم، بقي طائفة من الفرنج لم ترض الصلح، كما ذكرناه، فلما كان الآن جمعت تلك الطائفة جمعاً من الفرنج، وخرجوا إلى بلاد الإسلام، فقتلوا وسبوا وغنموا وأسروا، وعاثوا فيها عيثاً شديداً، فانتهى ذلك إلى يعقوب، فجمع العساكر، وعبر المجاز إلى الأندلس في جيش يضيق عنهن الفضاء، فسمعت الفرنج بذلك، فجمعت قاصيهم ودانيهم، وأقبلوا إليه مجدين على قتاله، واثقين بالظفر لكثرتهم، فالتقوا، تاسع شعبان، شمالي قرطبة عند قلعة رياح، بمكان يعرف بمرج الحديد، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فكانت الدائرة أولاً على المسلمين، ثم عادت على الفرنج، فانهزموا أقبح هزيمة وانتصر المسلمون عليهم (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) التوبة 40.
وكان عدد من قتل من الفرنج مائة ألف وستة وأربعين ألفاً، وأسر ثلاثة عشر ألفاً، وغنم المسلمون منهم شيئاً عظيماً، فمن الخيام مائة ألف وثلاثة وأربعون ألفاً، ومن الخيل ستة وأربعون ألفاً، ومن البغال مائة ألف، ومن الحمير مائة ألف. وكان يعقوب قد نادى في عسكره: من غنم شيئاً فهو له سوى السلاح؛ وأحصى ما حمل إليه منه، فكان زيادة على سبعين ألف لبس، وقتل من المسلمين نحو عشرين ألفاً.
ولما انهزم الفرنج اتبعهم أو يوسف، فرآهم قد أخذوا قلعة رياح، وساروا عنها من الرعب والخوف، فملكها، وجعل فيها والياً، وجنداً يحفظونها، وعاد إلى مدينة إشبيلية.
وأما ألفنش، فإنه لما انهزم حلق رأسه، ونكس صليبه، وركب حماراً، وأقسم أن لا يركب فرساً ولا بغلاً حتى تنصر النصرانية، فجمع جموعاً عظيمة، وبلغ الخبر بذلك إلى يعقوب، فأرسل إلى بلاد الغرب مراكش وغيرها يستنفر الناس من غير إكراه، فأتاه من المتطوعة والمرتزقين جمع عظيم، فالتقوا في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، فانهزم الفرنج هزيمة قبيحة، وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والدواب وغيرها، وتوجه إلى مدينة طليلطة فحصرها، وقاتلها قتالاً شديداً، وقطع أشجارها، وشن الغارة على ما حولها من البلاد، وفتح فيها عدة حصون، فقتل رجالها، وسبى حريمها، وخرب دورها، وهدم أسوارها، فضعفت النصرانية حينئذ، وعظم أمر الإسلام بالأندلس، وعاد يعقوب إلى إشبيلية فأقام بها.
فلما دخلت سنة ثلاث وتسعين سار عنها إلى بلاد الفرنج، وذلوا، واجتمع ملوكها، وأرسلوا يطلبون الصلح، فأجابهم إليه بعد أن كان عازماً على الامتناع مريداً لملازمة الجهاد إلى أن يفرغ منهم، فأتاه خبر علي بن إسحق الملثم الميورقي أنه فعل بإفرقية ما نذكره من الأفاعيل الشنيعة، فترك عزمه، وصاحلهم مدة خمس سنين، وعاد إلى مراكش آخر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.
ذكر فعلة الملثم بإفريقيةلما عبر أبو يوسف يعقوب، صاحب المغرب، إلى الأندلس، كما ذكرنا، وأقام مجاهداً ثلاث سنين، انقطعت أخباره عن إفريقية، فقوي طمع علي بن إسحق الملثم الميورقي، وكان بالبرية مع العرب، فعاود قصد إفريقية، فانبث جنوده في البلاد فخربوها، وأكثروا الفساد فيها، فمحيت آثار تلك البلاد وتغيرت، وصارت خالية من الأنيس، خاوية على عروشها.
وأراد المسير إلى بجاية ومحاصرتها لاشتغال يعقوب بالجهاد، وأظهر أنه إذا استولى على بجاية سار إلى المغرب؛ فوصل الخبر إلى يعقوب بذلك، فصالح الفرنج على ما ذكرناه، وعاد إلى مراكش عازماً على قصده، وإخراجه من البلاد، كما فعل سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وقد ذكرناه.
ذكر ملك عسكر الخليفة أصفهانفي هذه السنة جهز الخليفة الناصر لدين الله جيشاً وسيره إلى أصفهان، ومقدمهم سيف الدين طغرل، مقطع بلد اللحف من العراق، وكان بأصفهان عسكر لخوارزم شاه مع ولده.
وكان أهل أصفهان يكرهونهم، فكاتب صدر الدين الخجندي رئيس الشافعية بأصفهان الديوان ببغداد يبذل من نفسه تسليم البلد إلى من يصل الديوان من العساكر، وكان هو الحكام بأصفهان على جميع أهلها، فسيرت العساكر، فوصلوا إلى أصفهان، ونزلوا بظاهر البلد، وفارقه عسكر خوارزم شاه، وعادوا إلى خراسان، وتبعهم بعض عسكر الخليفة، فتخطفوا منهم، وأخذوا من ساقة العسكر من قدروا عليه، ودخل عسكر الخليفة إلى أصفهان وملكوها.
ذكر ابتداء حال كوكجه
وملكه بلد الري وهمذان وغيرهمالما عاد خوارزم شاه إلى خرسان، كما ذكرنا، اتفق المماليك الذين للبهلوان والأمراء، وقدموا على أنفسهم كوكجه، وهو من أعيان المماليك البهلوانية، واستولوا على الري وما جاورها من البلاد، وساروا إلى أصفهان لإخراج الخوارزمية منها، فلما قاربوها سمعوا بعسكر الخليفة عندها، فأرسل إلى مملوك الخليفة سيف الدين طغرل يعرض نفسه على خدمة الديوان، ويظهر العبودية، وأنه إنما قصد أصفهان في طلب العساكر الخوارزمية، وحيث رآهم فارقوا أصفهان سار في طلبهم، فلم يدركهم، وسار عسكر الخليفة من أصفهان إلى همذان.
وأما كوكجه فإنه تبع الخوارزمية إلى طبس، وهي من بلاد الإسماعيلية، وعاد فقصد أصفهان وملكها، وأرسل إلى بغداد يطلب أن يكون له الري وخوار الري وساوة وقم وقاجان وما ينضم إليها إلى حد مزدغان، وتكون أصفهان وهمذان وزنجان وقزوين لديوان الخليفة، فأجيب إلى ذلك، وكتب له منشور بما طلب، وأرسلت له الخلع، فعظم شأنه، وقوي أمره، وكثرت عساكره، وتعظم على أصحابه.
ذكر حصر العزيز دمشق ثانية
وانهزمه عنهاوفي هذه السنة أيضاً خرج الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين من مصر في عساكره إلى دمشق يريد حصرها، فعاد عنها منهزماً.
وسبب ذلك أن من عنده من مماليك أبيه، وهم المعروفون بالصلاحية: فخر الدين جركس، وسرا سنقر، وقراجا، وغيرهم كانوا منحرفين عن الأفضل علي بن صلاح الدين لأنه كان قد أخرج من عنده منهم مثل: ميمون القصري، وسنقر الكبير، وأيبك وغيرهم، فكانوا لا يزالون يخوفون العزيز من أخيه، ويقولون: إن الأكراد والمماليك الأسدية من عسكر مصر يريدون أخاك، ونخاف أن يميلوا إليه ويخرجوك من البلاد، والمصلحة أن نأخذ دمشق؛ فخرج من العام الماضي وعاد، كما ذكرناه، فتجهز هذه السنة ليخرج، فبلغ الخبر إلى الأفضل، فسار من دمشق إلى عمه الملك العادل، فاجتمع به بقلعة جعبر، ودعاه إلى نصرته، وسار من عنده إلى حلب، إلى أخيه الملك الظاهر غازي، فاستنجد به، وسار الملك العادل من قلعة جعبر إلى دمشق، فسبق الأفضل إليها ودخلها، وكان الأفضل لثقته به قد أمر نوابه بإدخاله إلى القلعة ثم عاد الأفضل من حلب إلى دمشق ووصل الملك العزيز إلى قرب دمشق، فأرسل مقدم الأسدية، وهو سيف الدين أيازكوش، وغيره منهم، ومن الأكراد أبو الهيجاء السمين وغيره، إلى الأفضل والعادل بالانحياز إليهما والكون معهما، ويأمرهما بالاتفاق على العزيز والخروج من دمشق ليسلموه إليهما.
وكان سبب الانحراف عن العزيز وميلهم إلى الأفضل أن العزيز لما ملك مصر مال إلى المماليك الناصرية، وقدمهم، ووثق بهم، ولم يلتفت إلى هؤلاء الأمراء، فامتعضوا من ذلك، ومالوا إلى أخيه، وأرسلوا إلى الأفضل والعادل فاتفقا على ذلك، واستقرت القاعدة بحضور رسل الأمراء أن الأفضل يملك الديار المصرية، ويسلم دمشق إلى عمه الملك العادل، وخرجا من دمشق، فانحاز إليهما من ذكرنا، فلم يمكن العزيز المقام، بل عاد منهزماً يطوي المراحل خوف الطلب ولا يصدق بالنجاة، وتساقط أصحابه عنه إلى أن وصل إلى مصر.
وأما العادل والأفضل فإنهما أرسلا إلى القدس، وفيه نائب العزيز، فسلمه إليهما، وسارا فيمن معهما من الأسدية والأكراد إلى مصر، فرأى العادل انضمام العساكر إلى الأفضل، واجتماعهم عليه، فخاف أنه يأخذ مصر، ولا يسلم إليه دمشق، فأرسل حينئذ سراً إلى العزيز يأمره بالثبات، وأن يجعل بمدينة بلبيس من يحفها، وتكفل بأنه يمنع الأفضل وغيره من مقاتلة من بها، فجعل العزيز الناصرية ومقدمهم فخر الدين جركس بها ومعهم غيرهم، ووصل العادل والأفضل إلى بلبيس، فنازلوا من بها من الناصرية، وأراد الأفضل مناجزتهم، أو تركهم بها والرحيل إلى مصر، فمنعه العادل من الأمرين، وقال: هذه عساكر الإسلام، فإذا اقتتلوا في الحرب فمن يرد العدو الكافر، وما بها حاجة إلى هذا، فإن البلاد لك وبحكمك، ومتى قصدت مصر والقاهرة وأخذتهما قهراً زالت هيبة البلاد، وطمع فيها الأعداء، وليس فيها من يمنعك عنها.
وسلك معه أمثال هذا، فطالت الأيام، وأرسل إلى العزيز سراً يأمره بإرسال القاضي الفاضل، وكان مطاعاً عند البيت الصلاحي لعلو منزلته كانت عند صلاح الدين، فحضر عندهما، وأجرى ذكر الصلح، وزاد القول ونقص، وانفسخت العزائم واستقر الأمر على أن يكون للأفضل القدس وجميع البلاد بفلسطين وطبرية والأردن وجميع ما بيده، ويكون للعادل إقطاعه الذي كان قديماً، ويكون مقيماً بمصر عند العزيز، إنما اختار ذلك لأن الأسدية والأكراد لا يريدون العزيز، فهم يجتمعون معه، فلا يقدر العزيز على منعه عما يريد، فلما استقر الأمر على ذلك وتعاهدوا عاد الأفضل إلى دمشق وبقي العادل بمصر عند العزيز.
ذكر عدة حوادثفي ذي القعدة، التاسع عشر منه، وقع حريق عظيم ببغداد بعقد المصطنع فاحترقت المربعة التي بين يديه، ودكان ابن البخيل الهراس، وقيل كان ابتداؤه من دار ابن البخيل.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة
ذكر ملك شهاب الدين بهنكر
وغيرها من بلد الهند
في هذه السنة سار شهاب الدين الغوري، صاحب غزنة، إلى بلد الهند، وحصر قلعة بهنكر، وهي قلعة عظيمة منيعة، فحصرها، فطلب أهلها منه الأمان على أن يسلموا إليه، فأمنهم وتسلمها، وأقام عندها عشرة أيام حتى رتب جندها وأحوالها وسار عنها إلى قلعة كوالير، وبينهما مسيرة خمسة أيام، وفي الطريق نهر كبير، فجازه، ووصل إلى كوالير، وهي قلعة منيعة حصينة على جبل عال لا يصل إليها حجر منجنيق، ولا نشاب، وهي كبيرة، فأقام عليها صفراً جميعه يحاصلها، فلم يبلغ منها غرضاً، فراسله من بها في الصلح، فأجابهم إليه على أن يقر القلعة بأيديهم على مال يحملونه إليه، فحملوا إليه فيلاً حمله ذهب، فرحل عنها إلى بلاد آي وسور، فأغار عليها ونهبها، وسبى وأسر ما يعجز العاد عن حصره، ثم عاد إلى غزنة سالماً.
ذكر ملك العادل مدينة دمشق من الأفضلفي هذه السنة، في السابع والعشرين من رجب، ملك الملك العادل أبو بكر ابن أيوب مدينة دمشق من ابن أخيه الأفضل علي بن صلاح الدين.
وكان أبلغ الأسباب في ذلك وثوق الأفضل بالعادل، وأنه بلغ من وثوقه به أنه أدخله بلده وهو غائب عنه، ولقد أرسل إليه أخوه الظاهر غازي، صاحب حلب، يقول له: أخرج عمنا من بيننا فإنه لا يجيء علينا منه خير، ونحن ندخل لك تحت كل ما تريد، وأنا أعرف به منك، وأقرب إليه، فإنه عمي مثل ما هو عمك، وأنا زوج ابنته، ولو علمت أنه يريد لنا خيراً لكنت أولى به منك. فقال له الأفضل: أنت سيء الظن في كل أحد؛ أي مصلحة لعمنا في أن يؤذينا؟ ونحن إذا اجتمعت كلمتنا، وسيرنا معه العساكر من عندنا كلنا، ملك من البلاد أكثر من بلادنا، ونربح سوء الذكر.
وهذا كان أبلغ الأٍسباب، ولا يعلمها كل أحد، وأما غير هذا، فقد ذكرنا مسير العادل والأفضل إلى مصر وحصارهم بلبيس، وصلحهم مع الملك العزيز بن صلاح الدين، ومقام العادل معه بمصر، فلما أقام عنده استماله، وصلحهم مع الملك العزيز بن صلاح الدين، ومقام العادل معه بمصر، فلما أقام عنده استماله، وقرر معه أنه يخرج معه إلى دمشق ويأخذها من أخيه ويسلمها إليه، فسار معه من مصر إلى دمشق، وحصروها، واستمالوا أميراً من أمراء الأفضل يقال له العزيز بن أبي غالب الحمصي، وكان الأفضل كثير الإحسان إليه، والاعتماد عليه، والوثوق به، فسلم إليه باباً من أبواب دمشق يعرف بالباب الشرقي ليحفظه، فمال إلى العزيز والعادل، ووعدهما أنه يفتح لهما الباب، ويدخل العسكر منه إلى البلد غيلة، ففتحه اليوم السابع والعشرين من رجب، وقت العصر، وأدخل الملك العادل منه ومعه جماعة من أصحابه، فلم يشعر الأفضل إلا وعمه معه في دمشق، وركب الملك العزيز، ووقف بالميدان الأخضر غربي دمشق.
فلما رأى الأفضل أن البلد قد ملك خرج إلى أخيه، وقت المغرب، واجتمع به، ودخلا كلاهما البلد، واجتمعا بالعادل، وقد نزل في دار أسد الدين شيركوه، وتحادثوا، فاتفق العادل والعزيز على أن أوهما الأفضل أنهما يبقيان عليه البلد خوفاً أنه ربما جمع من عنده من العسكر وثار بهما، ومعه العامة، فأخرجهم من البلد، لأن العادل لم يكن في كثرة؛ وأعاد الأفضل إلى القلعة، وبات العادل في دار شيركوه، وخرج العزيز إلى الخيم فبات فيها، وخرج العادل من الغد إلى جوسقه فأقام به وعساكره في البلد في كل يوم يخرج الأفضل إليهما، ويجتمع بهما، فبقوا كذلك أياماً، ثم أرسلا إليه وأمراه بمفارقة القلعة وتسليم البلد على قاعدة أن تعطى قلعة صرخد له، ويسلم جميع أعمال دمشق، فخرج الأفضل، ونزل في جوسق بظاهر البلد، غربي دمشق، وتسلم العزيز القلعة، ودخلها، وأقام بها أياماً، فجلس يوماً في مجلس شرابه، فلما أخذت منه الخمر جرى على لسانه أنه يعيد البلد إلى الأفضل، فنقل ذلك إلى العادل في وقته، فحضر المجلس في ساعته، والعزيز سكران، فلم يزل به حتى سلم البلد إليه، وخرج منه، وعاد إلى مصر، وسار الأفضل إلى صرخد، وكان العادل يذكر أن الأفضل سعى في قتله، فلهذا أخذ البلد منه، وكان الأفضل ينكر ذلك ويتبرأ منه (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) البقرة 113.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في المحرم، هبت ريح شدية بالعراق، واسودت لها الدنيا، ووقع رمل أحمر، واستعظم الناس ذلك وكبروا، واشتعلت الأضواء بالنهار.
وفيها قتل صدر الدين محمود بن عبد اللطيف بن محمد بن ثابت الخجندي، رئيس الشافعية بأصفهان، قتله فلك الدين سنقر الطويل، شحنة أصفهان بها، وكان قدم بغداد سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، واستوطنها، وولي النظر في المدرسة النظامية ببغداد، ولما سار مؤيد الدين بن القصاب إلى خوزستان سار في صحبته، فلما ملك الوزير أصفهان أقام ابن الخجندي بها في بيته وملكه ومنصبه، فجرى بينه وبين سنقر الطويل شحنة أصفهان للخليفة منافرة فقتله سنقر.
وفي رمضان درس مجير الدين أبو القاسم محمود بن المبارك البغدادي، الفقيه الشافعي بالمدرسة النظامية ببغداد.
وفي شوال منها استنيب نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي الرازي في الوزارة ببغداد، وكان قد توجه إلى بغداد لما ملك ابن القصاب الري.
وفيها ولي أبو طالب يحيى بن سعيد بن زيادة ديوان الإنشاء ببغداد، وكان كاتباً مفلقاً، وله شعر جيد.
وفي صفر منها توفي الفخر محمود بن علي القوفاني الفقيه الشافعي بالكوفة، عائداً من الحج، وكان من أعيان أصحابه محمد بن يحيى.
وفي رجب منها توفي أبو الغنائم محمد بن علي بن المعلم الشاعر الهرثي، والهرث بضم الهاء والثاء المثلثة قرية من أعمال واسط، عن إحدى وتسعين سنة.
وفي رابع شعبان منها توفي الوزير مؤيد الدين أبو الفضل محمد بن علي بن القصاب بهمذان، وقد ذكرنا من كفايته ونهضته ما فيه كفاية.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة
ذكر إرسال الأمير أبي الهيجاء إلى همذانفي هذه السنة، في صفر، وصل إلى بغداد أمير كبير من أمراء مصر اسمه أبو الهيجاء، ويعرف بالسمين، لأنه كان كثير السمن، وكان من أكابر أمراء مصر، وكان في إقطاعه أخيراً البيت المقدس وغيره مما يجاوره، فلما ملك العزيز والعادل مدينة دمشق من الأفضل، أخذ القدس منه ففارق الشام، وعبر الفرات إلى الموصل، ثم انحدر إلى بغداد، لأنه طلب من ديوان الخلافة، فلما وصل إليها أكرم إكراماً كثيراً، ثم أمر بالتجهيز والمسير إلى همذان مقدماً على العساكر البغدادية، فسار إليها والتقي عندها بالملك أوزبك بن البهلوان وأمير علم وابنه، وابن سطمس وغيرهم، وهم قد كاتبوا الخليفة بالطاعة، فلما اجتمع بهم وثقوا به ولم يحذروه، فقبض على أوزبك وابن سطمس وابن قرا بموافقة من أمير علم، فلما وصل الخبر بذلك إلى بغداد أنكرت هذه الحال على أبي الهيجاء، وأمر بالإفراج عن الجماعة وسيرت لهم الخلع من بغداد تطيباً لقلوبهم، فلم يسكنوا بعد هذه الحادثة ولا أمنوا، ففارقوا أبا الهيجاء السمين، فخاف الديوان، فلم يرجع إليه، ولم يمكنه أيضاً المقام، فعاد يريد إربل لأنه من بلدها هو، فتوفي قبل وصوله إليها، وهو من الأكراد الحكمية من بلد إربل.
ذكر ملك العادل يافا من الفرنج
وملك الفرنج بيروت من المسلمين وحصر الفرنج تبنين ورحيلهم عنهافي هذه السنة، في شوال، ملك العادل أبو بكر بن أيوب مدينة يافا من الساحل الشامي وهي بيد الفرنج، لعنهم الله.
وسبب ذلك أن الفرنج كان قد ملكهم الكند هري، على ما ذكرناه قبل، وكان الصلح قد استقر بين المسلمين والفرنج أيام صلاح الدين يوسف بن أيوب، رحمه الله تعالى، فلما توفي وملك أولاده بعده، كما ذكرناه، جدد الملك العزيز الهدنة مع الكند هري وزاد في مدة الهدنة، وبقي ذلك إلى الآن.
وكان بمدينة بيروت أمير يعرف بأسامة، وهو مقطعها، فكان يرسل الشواني تقطع الطريق على الفرنج، فاشتكى الفرنج من ذلك غير مرة إلى الملك العادل بدمشق، وإلى الملك العزيز بمصر، فلم يمنعا أسامة من ذلك، فأرسلوا إلى ملوكهم الذين داخل البحر يشتكون إليهم ما يفعل بهم المسلمون، ويقولون: إن لم تنجدونا، وإلا أخذ المسلمون البلاد؛ فأمدهم الفرنج بالعساكر الكثيرة، وكان أكثرهم من ملك الألمان، وكان المقدم عليهم قسيس يعرف بالخنصلير، فلما سمع العادل بذلك أسل إلى العزيز بمصر يطلب العساكر، وأرسل إلى ديار الجزيرة الموصل يطلب العساكر، فجاءته الأمداد واجتمعوا على عين الجالوت، فأقاموا شهر رمضان وبعض شوال، ورحلوا إلى يافا، وملكوا المدينة، وامتنع من بها بالقلعة التي لها، فخرب المسلمون المدينة، وحصروا القلعة، فملكوها عنوة وقهراً بالسيف في يومها، وهو يوم الجمعة، وأخذ كل ما بها غنيمة وأسراً وسبياً، ووصل الفرنج من عكا إلى قيسارية ليمنعوا المسلمين عن يافا، فوصلهم الخبر بها بملكها فعادوا.
وكان سبب تأخرهم أن ملكهم الكندي هري سقط من موضع علا بعكا فمات، فاختلت أحوالهم فتأخروا لذلك.
وعاد المسلمون إلى عين الجالوت، فوصلهم الخبر بأن الفرنج على عزم قصد بيروت، فرحل العادل والعسكر في ذي القعدة إلى مرج العيون، وعزم على تخريب بيروت، فسار إليها جمع من العسكر، وهدموا سور المدينة سابع ذي الحجة، وشرعوا في تخريب دورها وتخريب القلعة، فمنعهم أسامة من ذلك، وتكفل بحفظها.
ورحل الفرنج من عكا إلى صيدا، وعاد عسكر المسلمين من بيروت، فالتقوا الفرنج بنواحي صيدا، وجرى بينهم مناوشة، فقتل من الفريقين جماعة، وحجز بينهم الليل، وسار الفرنج تاسع ذي الحجة، فوصلوا إلى بيروت، فلما قاربوها هرب منها أسامة وجميع من معه من المسلمين، فملكوها صفواً عفواً بغير حرب ولا قتال، فكانت غنيمة باردة؛ فأسل العادل إلى صيدا من خرب ما كان بقي منها، فإن صلاح الدين كان قد خرب أكثرها، وسارت العساكر الإسلامية إلى صور، فقطعوا أشجارها، وخربوا ما لها من قرى وأبراج، فلما سمع الفرنج بذلك رحلوا من بيروت إلى صور، وأقاموا عليها.
ونزل المسلمون عند قلعة هونين وأذن للعساكر الشرقية بالعود ظناً منه أن الفرنج يقيمون ببلادهم، وأراد أن يعطي العساكر المصرية دستوراً بالعود، فأتاه الخبر، منتصف المحرم، أن الفرنج قد نازلوا حصن تبنين، فسير العادل إليه عسكراً يحمونه ويمنعون عنه، ورحل الفرنج من صور، ونازلوا تبنين أول صفر سنة أربع وتسعين وقاتلوا من به، وجدوا في القتال، ونقبوه من جهاتهم، فلما علم العادل بذلك أرسل إلى العزيز بمصر يطلب منه أن يحضر هو بنفسه، ويقول له: إن حضرت، وإلا فلا يمكن حفظ هذا الثغر؛ فسار العزيز مجداً فيمن بقي معه من العساكر.
وأما من بحصن تبنين فإنهم لما رأوا النقوب قد خربت تل القلعة، ولم يبق إلا أن يملكوها بالسيف، نزل بعض من فيها إلى الفرنج يطلب الأمان على أنفسهم وأموالهم ليسلموا القلعة، وكان المرجع إلى القسيس الخنصلير من أصحاب ملك الألمان، فقال لهؤلاء المسلمين بعض الفرنج الذين من ساحل الشام: إن سلمتم الحصن استأسركم هذا وقتلكم؛ فاحفظوا نفوسكم؛ فعادوا كأنهم يراجعون من في القلعة ليسلموا، فلما صعد إليها أصروا على الامتناع، وقاتلوا قتال من يحمي نفسه، فحموها إلى أن وصل الملك العزيز إلى عسقلان في ربيع الأول، فلما سمع الفرنج بوصوله واجتماع المسلمين، وأن الفرنج ليس لهم ملك يجمعهم، وأن أمرهم إلى امرأة، وهي الملكة، اتفقوا وأرسلوا إلى ملك قبرس واسمه هيمري، فأحضروه، وهو أخو الملك الذي أسر بحطين، كما ذكرناه، فزوجوه بالملكة زوجة الكند هري، وكان رجلاً عاقلاً يحب السلامة والعافية، فلما ملكهم لم يعد إلى الزحف على الحصن، ولا قاتله.
واتفق وصول العزيز أول شهر ربيع الآخر، ورحل هو والعساكر إلى جبل الخليل الذي يعرف بجبل عاملة، فأقاموا أياماً، والأمطار متداركة، فبقي إلى ثالث عشر الشهر، ثم سار وقارب الفرنج، وأرسل رمالة النشاب، فرموهم ساعة وعادوا، ورتب العساكر ليزحف إلى الفرنج ويجد في قتالهم، فرحلوا إلى صور خامس عشر الشهر المذكور ليلاً، ثم رحلوا إلى عكا، فسار المسلمون فنزلوا اللجون، وتراسلوا في الصلح، وتطاول الأمر، فعاد العزيز إلى مصر قبل انفصال الحال.
وسبب رحيله أن جماعة من الأمراء، وهم ميمون القصري، وأسامة، وسرا سنقر، والحجاف، وابن المشطوب، وغيرهم، قد عزموا على الفتك به وبفخر الدين جركس مدبر دولته، وضعهم العادل على ذلك، فلما سمع بذلك سار إلى مصر وبقي العادل، وترددت الرسل بينه وبين الفرنج في الصلح، فاصطلحوا على أن تبقى بيروت بيد الفرنج، وكان الصلح في شعبان سنة أربع وتسعين، فلما انتظم الصلح عاد العادل إلى دمشق، وسار منها إلى ماردين، من أرض الجزيرة، فكان ما نذكره، إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة سيف الإسلام وملك ولدهفي شوال من هذه السنة توفي سيف الإسلام طغتكين بن أيوب: أخو صلاح الدين، وهو صاحب اليمن، بزبيد، وقد ذكرنا كيف ملك. وكان شديد السيرة، مضيقاً على رعيته، يشتري أموال التجار لنفسه ويبيعها كيف شاء.
وأراد ملك مكة، حرسها الله تعالى، فأرسل الخليفة الناصر لدين الله إلى أخيه صلاح الدين في المعنى، فمنعه من ذلك، وجمع من الأموال ما لا يحصى، حتى إنه من كثرته كان يسبك الذهب ويجعله كالطاحون ويدخره.
ولما توفي ملك بعده ابنه إسمعيل، وكان أهوج، كثير التخليط بحيث إنه ادعى أنه قرشي من بني أمية، وخطب لنفسه بالخلافة، وتلقب بالهادي، فلما سمع عمه الملك العادل ذلك ساءه وأهمه، وكتب إليه يولمه ويوبخه، ويأمره بالعود إلى نسبه الصحيح، وبترك ما ارتكبه مما يضحك الناس منه، فلم يلتفت إليه ولم يرجع وبقي كذلك، وانضاف إلى ذلك أنه أساء السيرة مع أجناده وأمرائه، فوثبوا عليه فقتلوه، وملكوا عليهم بعده أميراً من مماليك أبيه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الآخر، توفي أبو بكر عبد الله بن منصور بن عمران الباقلاني المقري الواسطي بها عن ثلاث وتسعين سنة وثلاثة أشهر وأيام، وهو آخر من بقي من أصحاب القلانسي.
وفي جمادى الآخرة توفي قاضي القضاة أبو طالب علي بن علي بن البخاري ببغداد ودفن بتربته في مشهد باب التين.
وفيها، في ربيع الآخر، توفي ملكشاه بن خوارزم شاه تكش بنيسابور، وكان أبوه قد جعله فيها، وأضاف إليه عساكر جميع بلاده التي بخراسان وجعله ولي عهده في الملك، وخلف ولداً اسمه هندوخان، فلما مات جعل فيها أبوه خوارزم شاه بعد ولده الآخر قطب الدين محمداً، وهو الذي ملك بعد أبيه، وكان بين الأخوين عداوة مستحكمة أفضت إلى أن محمداً لما ملك بعد أبيه هرب هندوخان بن ملكشاه منه على ما نذكره.
وفيها توفي شيخنا أبو القاسم يعيش بن صدقة بن علي الفراتي الضرير، الفقيه الشافعي، كان إماماً في الفقه، مدرساً صالحاً كثير الصلاح، سمعت عليه كثيراً، لم أر مثله، رحمه الله تعالى.
ولقد شاهدت منه عجباً يدل على دينه وإرادته، بعمله، وجه الله تعالى، وذلك أني كنت أسمع عليه ببغداد سنن أبي عبد الرحمن النسائي، وهو كتاب كبير، والوقت ضيق لأني كنت مع الحجاج قد عدنا من مكة، حرسها الله، فبينما نحن نسمع عليه مع أخي الأكبر مجد الدين أبي السعادات، إذ قد أتاه إنسان من أيان بغداد، وقال له: قد برز الأمر لتحضر لأمر كذا؛ فقال: أنا مشغول بسماع هؤلاء السادة، ووقتهم يفوت، والذي يراد مني لا يفوت؛ فقال: أنا لا أحسن أذكر هذا في مقابل أمر الخليفة. فقال: لا عليك! قل: قال أبو القاسم لا أحضر حتى يفرغ السماع؛ فسألناه ليمشي معه، فلم يفعل ذلك، وقال: اقرأوا؛ فقرأنا، فلما كان الغد حضر غلام لنا، وذكر أن أمير الحاج الموصلي قد رحل، فعظم الأمر علينا فقال: ولم يعظم عليكم العود إلى أهلكم وبلدكم؟ فقلنا: لأجل فراغ هذا الكتاب؛ فقال: إذا رحلتم أستعير دابة وأركبها، فأسير معكم وأنتم تقرأون، فإذا فرغتم عدت. فمضى الغلام ليتزود، ونحن نقرأ، فعاد وذكر أن الحاج لم يرحلوا، ففرغنا من الكتاب؛ فانظر إلى هذا الدين المتين يرد أمر الخليفة وهو يخافه ويرجوه، ويريد أن يسير معنا ونحن غرباء لا يخافنا ولا يرجونا.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وخمسمائة
ذكر وفاة عماد الدين
وملك ولده قطب الدين محمد
في هذه السنة، في المحرم، توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي ابن اقسنقر، صاحب سنجار ونصيبين، والخابور والرقة، وقد تقدم ذكره كيف ملكها سنة تسع وسبعين، وملك بعده ابنه قطب الدين محمد، وتولى تدبير دولته مجاهد الدين يرنقش مملوك أبيه، وكان ديناً خيراً عادلاً، حسن السيرة في رعيته، عفيفاً عن أموالها وأملاكهم، متواضعاً، يحب أهل العلم والدين، ويحترمهم، ويجلس معهم، ويرجع إلى أقوالهم، وكان رحمه الله شديد التعصب على مذهب الحنفية، كثير الذم للشافعية، فمن تعصبه أنه بني مدرسة للحنفية بسنجار، وشرط أن يكون النظر للحنفية من أولاده دون الشافعية، وشرط أن يكون البواب والفراش على مذهب أبي حنيفة، وشرط للفقهاء طبيخاً يطبخ لهم كل يوم، وهذا نظر حسن، رحمه الله.
ذكر ملك نور الدين نصيبينفي هذه السنة، في جمادة الأولى، سار نور الدين أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود صاحب الموصل، إلى مدينة نصيبين، فملكها، وأخذها من ابن عمه قطب الدين محمد.
وسبب ذلك أن عمه عماد الدين كان له نصيبين، فتطاول نوابه بها، واستولوا على عدة قرى من أعمال بين النهرين من ولاية الموصل، وهي تجاور نصيبين، فبلغ الخبر مجاهد الدين قايماز القائم بتدبير مملكة نور الدين بالموصل وأعمالها والمرجوع إليه فيها، فلم يعلم مخدومه نور الدين بذلك، لما علم من قلة صبره على احتمال مثل هذا، وخاف أن يجري خلف بينهم، فأرسل من عنده رسولاً إلى عماد الدين في المعنى، وقبح هذا الفعل الذي فعله النواب بغير أمره، وقال: أنني ما أعلمت نور الدين بالحال لئلا يخرج عن يدك، فإنه ليس كوالده، وأخاف أن يبدو منه ما يخرج الأمر فيه عن يدي؛ فأعاد الجواب: إنهم لم يفعلوا إلا ما أمرتهم به، وهذه القرى من أعمال نصيبين.
فترددت الرسل بينهما، فلم يرجع عماد الدين عن أخذها، فحينئذ أعلم مجاهد الدين نور الدين بالحال، فأرسل نور الدين رسولاً من مشايخ دولته ممن خدم جدهم الشهيد زنكي ومن بعده، وحمله رسالة فيها بعض الخشونة، فمضى الرسول فلحق عماد الدين وقد مرض، فلما سمع الرسالة لم يلتفت، وقال: لا أعيد ملكي؛ فأشار الرسول من عنده، حيث هو من مشايخ دولتهم، بترك اللجاج، وتسليم ما أخذه، وحذره عاقبة ذلك؛ فأغلظ عليه عماد الدين القول، وعرض بذم نور الدين واحتقاره، فعاد الرسول وحكى لنور الدين جلية الحال، فغضب لذلك، وعزم على المسير إلى نصيبين وأخذها من عمه.
فاتفق أن عمه مات، وملك بعده ابنه، فقوي طمعه، فمنعه مجاهد الدين فلم يمتنع وتجهز وسار إليها، فلما سمع قطب الدين صاحبها سار إليها من سنجار في عسكره، ونزل عليها ليمنع نور الدين عنها، فوصل نور الدين، وتقدم إلى البلد، وكان بينهما نهر، فجازه بعض أمرائه، وقاتل من بإزائه، فلم يثبتوا له، فعبر جميع العسكر النوري، وتمت الهزيمة على قطب الدين، فصعد هو ونائبه مجاهد الدين يرنقش إلى قلعة نصيبين، وأدركهم الليل، فخرجوا منها هاربين إلى حان، وراسلوا الملك العادل أبا بكر بن أيوب، صاحب حران وغيرها، وهو بدمشق، وبذلوا له الأموال الكثيرة لينجدهم ويعيد نصيبين إليهم.
وأقام نور الدين بنصيبين مالكاً لها، فتضعضع عسكره بكثرة الأمراض، وعودهم إلى الموصل، وموت كثير منهم، ووصل العادل إلى الديار الجزرية، فحينئذ فارق نور الدين نصيبين وعاد إلى الموصل في شهر رمضان، فلما فارقها تسلمها قطب الدين.
وممن توفي من أمراء الموصل: عز الدين جورديك، وشمس الدين عبد الله بن إبراهيم، وفخر الدين عبد الله بن عيسى المهرانيان، ومجاهد الدين قايماز، وظهير الدين يولق بن بلنكري، وجمال الدين محاسن وغيرهم، ولما عاد نور الدين إلى الموصل قصد العادل قلعة ماردين فحصرها، وضيق على أهلها، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك الغورية مدينة بلخ
من الخطا الكفرةفي هذه السنة ملك بهاء الدين سام بن محمد بن مسعود، وهو ابن أخت غياث الدين وشهاب الدين صاحبي غزنة وغيرها، وله باميان، مدينة بلخ، وكان صاحبها تركياً اسمه أزيه، وكان يحمل الخراج كل سنة إلى الخطا، بما وراء النهر، فتوفي هذه السنة، فسار بهاء الدين سام إلى المدينة، فملكها، وتمكن فيها، وقطع الحمل إلى الخطا، وخطب لغياث الدين، وصارت من جملة بلاد الإسلام بعد أن كانت في طاعة الكافر.
ذكر انهزام الخطا من الغوريةوفي هذه السنة عبر الخطا نهر جيحون إلى ناحية خراسان، فعاثوا في البلاد وأفسدوا، فلقيهم عسكر غياث الدين الغوري وقاتلهم فانزم الخطا.
وكان سبب ذلك أن خوارزم شاه تكش كان قد سار إلى بلد الري، وهمذان وأصفهان وما بينهما من البلاد، وملكها، وتعرض إلى عساكر الخليفة، وأظهر طلب السلطنة والخطبة ببغداد، فأرسل الخليفة إلى غياث الدين ملك الغور وغزنة يأمره بقصد بلاد خوارزم شاه ليعود عن قصد العراق، وكان خوارزم شاه قد عاد إلى خوارزم، فراسله غياث الدين يقبح له فعله، ويتهدده بقصد بلاده وأخذها، فأرسل خوارزم شاه إلى الخطا يشكو إليهم من غياث الدين، ويقول: إن لم تدركوه بإنفاذ العساكر، وإلا أخذ غياث الدين بلاده، كما أخذ مدين بلخ، وقصد بعد ذلك بلادهم، ويتعذر عليهم منعه، ويعجزون عنه، ويضعفون عن رده عما وراء النهر؛ فجهز ملك الخطا جيشاً كثيفاً، وجعل مقدمهم المعروف بطاينكوا، وهو كالوزير له، فساروا وعبروا جيحون في جمادى الآخرة، وكان الزمان شتاء، وكان شهاب الدين الغوري أخو غياث الدين ببلاد الهند، والعساكر معه، وغياث الدين به من النقرس ما يمنعه من الحركة، إنما يحمل في محفة، والذي يقود الجيش ويباشر الحروب أخوه شهاب الدين، فلما وصل الخطا إلى جيحون سار خوارزم شاه إلى طوس، عازماً على قصد هراة ومحاصرتها، وعبر الخطا النهر، ووصلوا إلى بلاد الغور مثل: كرزبان وسرقان وغيرهما، وقتلوا وأسروا ونهبوا وسبوا كثيراً لا يحصى، فاستغاث الناس بغياث الدين، فلم يكن عنده من العساكر ما يلقاهم بها، فراسل الخطا بهاء الدين سام ملك باميان يأمرونه بالإفراج عن بلخ، أو أنه يحمل ما كان من قبله يحمله من المال، فلم يجبهم إلى ذلك.
وعظمت المصيبة على المسلمين بما فعله الخطا، فانتدب الأمير محمد بن جربك الغوري، وهو مقطع الطالقان من قبل غياث الدين، وكان شجاعاً، وكاتب الحسين بن خرميل، وكان بقلعة كرزبان، واجتمع معهما الأمير حروش الغوري، وساروا بعساكرهم إلى الخطا، فبيتوهم، وكبسوهم ليلاً، ومن عادة الخطا أنهم لا يخرجون من خيامهم ليلاً، ولا يفارقونها، فآتاهم هؤلاء الغورية وقاتلوهم، وأكثروا القتل في الخطا، وانهزم من سلم منهم من القتل، وأين ينهزمون والعسكر الغوري خلفهم، وجيحون بن أيديهم؟ وظن الخطا أن غياث الدين قد قصدهم في عساكره، فلما أصبحوا، وعرفوا من قاتلهم، وعلموا أن غياث الدين بمكانه، قويت قلوبهم، وثبتوا واقتتلوا عامة نهارهم فقتل من الفريقين خلق عظيم، ولحقت المتطوعة بالغوريين، وأتاهم مدد من غياث الدين وهم في الحرب، فثبت المسلمون، وعظمت نكايتهم في الكفار.
وحمل الأمير حروش على قلب الخطا، وكان شيخاً كبيراً، فأصابه جراحة توفي منها، ثم إن محمود بن جربك، وابن خرميل حملا في أصحابهما، وتمادوا: لا يرم أحد بقوس، ولا يطعن برمح؛ وأخذوا اللتوت، وحملوا على الخطا فهزموهم وألحقوهم بجيحون، فمن صبر قتل، ومن ألقى نفسه في الماء غرق.
ووصل الخبر إلى ملك الخطا فعظم عليه وأرسل إلى خوارزم شاه يقول له: أنت قتلت رجالي، وأريد عن كل قتيل عشرة آلاف دينار؛ وكان القتلى اثني عشر ألفاً، وأنفذ إليه من رده إلى خوارزم، وألزموه بالحضور عنده، فأرسل حينئذ خوارزم شاه إلى غياث الدين يعرفه حاله مع الخطا، ويشكو إليه ويستعطفه غير مرة، فأعاد الجواب يأمره بطاعة الخليفة، وإعادة ما أخذه الخطا من بلاد الإسلام، فلم ينفصل بينهما حال.
ذكر ملك خوارزم شاه مدينة بخارىلما ورد رسول ملك الخطا على خوارزم شاه بما ذكرناه، أعاد الجواب: إن عسكرك إنما قصد انتزاع بلخ، ولم يأتوا إلى نصرتي، ولا اجتمعت بهم، ولا أمرتهم بالعبور، إن كنت فعلت ذلك، فأنا مقيم بالمال المطلوب مني، ولكن حيث عجزتم أنتم عن الغورية عدتم علي بهذا القول وهذا المطلب، وأما أنا فقد أصلحت الغورية، ودخلت في طاعتهم، ولا طاعة لكم عندي.
فعاد الرسول بالجواب، فجهز ملك الخطا جيشاً عظيماً وسيره إلى خوارزم فحصروها، فكان خوارزم شاه يخرج إليهم كل ليلة، ويقتل منهم خلقاً، وأتاه من المتطوعة خلق كثير، فلم يزل هذا فعله بهم حتى أتى على أكثرهم، فدخل الباقون إلى بلادهم، ورحل خوارزم شاه في أثارهم، وقصد بخاري فنازلها وحصرها، وامتنع أهلها منه، وقاتلوه مع الخطا، حتى إنهم أخذوا كلباً أعور وألبسوه قباء وقلنسوة، وقالوا: هذا خوارزم شاه، لأنه كان أعور، وطافوا به على السور، ثم ألقوه في منجنيق إلى العسكر، وقالوا: هذا سلطانكم. وكان الخوارزميون يسبونهم ويقولون: يا أجناد الكفار، أنتم قد ارتددتم عن الإسلام، فلم يزل هذا دأبهم حتى ملك خوارزم شاه البلد، بعد أيام يسيرة، عنوة وعفا عن أهله، وأحسن إليهم، وفرق فيهم مالاً كثيراً، وأقام به مدة ثم عاد إلى خوارزم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ذي الحجة، توفي أبو طالب يحيى بن سعيد بن زيادة، كاتب الإنشاء بديوان الخليفة، وكان عالماً فاضلاً، له كتابة حسنة، وكان رجلاً عاقلاً خيراً، كثير النفع للناس، وله شعر جيد.
وفيها حصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب قلعة ماردين في شهر رمضان، وقاتل من بها، وكان صاحبها حسام الدين يولق أرسلان بن إيلغازي بن ألبي ابن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق، كل هؤلاء ملوك ماردين، وقد تقدم من أخبارهم ما يعلم به محلهم، وكان صبياً والحاكم في بلده ودولته مملوك أبيه النظام يرنقش، وليس لصاحبه معه حكم البتة في شيء من الأمور، ولما حصر العادل ماردين ودام عليها سلم إليه بعض أهلها الربض بمخامرة بينهم، فنهب العسكر أهله نهباً قبيحاً، وفعلوا بهم أفعالاً عظيمة لم يسمع بمثلها، فلما تسلم الربض تمكن من حصر القلعة وقطع الميرة عنها، وبقي عليها إلى أن رحل عنها خمسة وتسعين على ما نذكره إن شاء الله.
وفيها توفي الشيخ أبو علي الحسن بن مسلم بن أبي الحسن القادسي الزاهد، المقيم ببغداد، والقادسية التي ينسب إليها قرية بنهر عيس من أعمال بغداد، وكان من عباد الله الصالحين العاملين، ودفن بقريته.
وأبو المجد علي بن أبي الحسن علي بن الناصر بن محمد الفقيه الحنفي مدرس أصحاب أبي حنيفة ببغداد، وكان من أولاد محمد بن الحنفية ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة
ذكر وفاة الملك العزيز
وملك أخيه الأفضل ديار مصرفي هذه السنة، في العشرين من المحرم، توفي الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، صاحب ديار مصر، وكان سبب موته أنه خرج إلى الصيد، فوصل إلى الفيوم متصيداً. فرأى ذئباً فركض فرسه في طلبه، فعثر الفرس فسقط عنه في الأرض ولحقته حمى، فعاد إلى القاهرة مريضاً، فبقي كذلك إلى أن توفي، فلما مات كان الغالب على أمره مملوك والده فخر الدين جهاركس، وهو الحاكم في بلده، فأحضر إنساناً كان عندهم من أصحاب الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وأراه العزيز ميتاً، وسيره إلى العادل وهو يحاصر ماردين، كما ذكرناه، ويستدعيه ليملكه البلاد، فسار القاصد مجداً، فلما كان بالشام رأى بعض أصحاب الأفضل علي بن صلاح الدين، فقال له: قل لصاحبك إن أخاه العزيز توفي، وليس في البلاد من يمنعها، فليسر إليها فليس دونها مانع.
وكان الأفضل محبباً إلى الناس يريدونه، فلم يلتفت الأفضل إلى هذا القول، وإذا قد وصله رسل الأمراء من مصر يدعونه إليهم لملكوه، وكان السب في ذلك أن الأمير سيف الدين يازكج مقدم الأسدية، والفرقة الأسدية والأمراء الأكراد يريدونه ويميلون إليه، وكان المماليك الناصرية الذين هم ملك أبيه يكرهونه، فاجتمع سيف الدين، مقدم الأسدية، وفخر الدين جهاركس، مقدم الناصرية، ليتفقوا على من يولونه الملك، فقال فخر الدين: نولي ابن الملك العزيز؛ فقال سيف الدين: إنه طفل، وهذه البلاد ثغر الإسلام، ولا بد من قيم بالملك يجمع العساكر، ويقاتل بها، والرأي أننا نجعل الملك في هذا الطفل الصغير، ونجعل معه بعض أولاد صلاح الدين يدبره إلى أن يكبر، فإن العساكر لا تطيع غيرهم، ولا تنقاد لأمير؛ فاتفقا على هذا، فقال جهاركس: فمن يتولى هذا؟ فأشار يازكج بغير الأفضل ممن بينه وبين جهاركس منازعة لئلا يتهم وينفر جهاركس عنه، فامتنع من ولايته، فلم يزل يذكر من أولاد صلاح الدين واحداً بعد آخر إلى أن ذكر آخرهم الأفضل، فقال جهاركس: هو بعيد عنا؛ وكان بصرخد مقيماً فيها من حين أخذت منه دمشق، فقال يازكج: نرسل إليه من يطلبه مجداً؛ فأخذ جهاركس يغالطه، فقال يازكج: تمضي إلى القاضي الفاضل ونأخذ رأيه؛ فاتفقا على ذلك، وأرسل يازكج يعرفه ذلك، ويشير بتمليك الأفضل، فلما اجتمعا عنده، وعرفاه صورة الحال، أشار بالأفضل، فأرسل يازكج في الحال القصاد وراءه، فسار عن صرخد لليلتين بقيتا من صفر، متنكراً في تسعة عشر نفساً، لأن البلاد كانت للعادل، ويضبط نوابه الطرق، لئلا يجوز إلى مصر ليجيء العادل ويملكها.
فلما قارب الأفضل القدس، وقد عدل عن الطريق المؤدي إليه، لقيه فارسان قد أرسلا إليه من القدس، فأخبراه أن من بالقدس قد صار في طاعته، وجد في السير، فوصل إلى بليس خامس ربيع الأول، ولقيه إخوته، وجماعته الأمراء المصرية، وجميع الأعيان، فاتفق أن أخاه الملك المؤيد مسعوداً صنع له طعاماً، وصنع له فخر الدين مملوك أبيه طعاماً، فابتدأ بطعام أخيه ليمين حلفها أخوه أنه يبدأ به، فظن جهاركس أنه فعل هذا انحرافاً عنه وسوء اعتقاد فيه، فتغيرت نيته، وعزم على الهرب، فحضر عند الأفضل وقال: إن طائفة من العرب قد اقتتلوا، ولئن مل تمض إليهم تصلح بينهم يؤد ذلك إلى فساد؛ فأذن له الأفضل في المضي إليهم ، ففارقه، وسار مجداً حتى وصل إلى البيت المقدس، ودخله، وتغلب عليه، ولحقه جماعة من الناصرية منهم قراجة الزره كش، وسرا سنقر، وأحضروا عندهم ميموناً القصري صاحب نابلس، وهو أيضاً من المماليك الناصرية، فقويت شوكتهم به، واجتمعت كلمتهم على خلاف الأفضل، وأرسلوا إلى الملك العادل وهو ماردين يطلبونه إليهم ليدخلوا معه إلى مصر ليملكوها، فلم يسر إليهم لأنه كانت أطماعه قد قويت في أخذ ماردين، وقد عجز من بها عن حفظها، فظن أنه يأخذها، والذي يريدونه منه لا يفوته.
وأما الأفضل فإنه دخل إلى القاهرة سابع ربيع الأول، وسمع بهرب جهاركس، فأمه ذلك، وترددت الرسل بينه وبينهم ليعودوا إليه، فلم يزدادوا إلا بعداً، ولحق بهم جماعة من الناصرية أيضاً، فاستوحش الأفضل من الباقين، فقبض عليهم، وهم شقيرة وأيبك فطيس، والبكي الفارس، وكل هؤلاء بطل مشهور ومقدم مذكور، سوى من ليس مثلهم في التقدم وعلو القدر، وأقام الأفضل بالقاهرة وأصلح الأمور، وقرر القواعد، والمرجع في جميع الأمور إلى سيف الدين يازكج.
ذكر حصر الأفضل مدينة دمشق
وعوده عنها
لما ملك الأفضل مصر، واستقر بها، ومعه ابن أخيه الملك العزيز، اسم الملك له لصغره، واجتمعت الكلمة على الأفضل بها، وصل إليه رسول أخيه الملك الظاهر غازي، صاح بحلب، ورسل ابن عمه أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه، صاحب حمص، يحثانة على الخروج إلى دمشق، واغتنام الفرصة بغيبة العادل عنها، وبذلا له المساعدة بالمال والنفس والرجال، فبرز من مصر، منتصف جمادى الأولى من السنة، على عزم المسير إلى دمشق، وأقام بظاهر القاهرة إلى ثالث رجب، ورحل فيه تعوق في مسيره، ولو بادر وعجل المسير لملك دمشق، لكنه تأخر، فوصل إلى دمشق ثالث عشر شعبان، فنزل عند جسر الخشب على فرسخ ونصف من دمشق، وكان العادل قد أرسل إليه نوابه بدمشق يعرفونه قصد الأفضل لهم، ففارق ماردين وخلف ولده الملك الكامل محمداً في جميع العساكر على حصارها، وسار جريدة فجد في السير، فسبق الأفضل، فدخل دمشق قبل الأفضل بيومين.
وأما الأفضل فإنه تقدم إلى دمشق من الغد، وهو رابع عشر شعبان، ودخل ذلك اليوم بعينه طائفة يسيرة من عسكره إلى عسقلان إلى دمشق من باب السلامة، وسبب دخولهم أن قوماً من أجناده، ممن بيوتهم مجاورة الباب، اجتمعوا بالأمير مجد الدين أخي الفقيه عيسى الهكاري، وتحدثوا معه في أن يقصد هو والعسكر باب السلامة ليفتحوه لهم، فأراد مجد الدين أن يختص بفتح الباب وحده، فلم يعلم الأفضل، ولا أخذ معه أحداً من الأمراء، بل سار وحده بمفرده، ومعه نحو خمسين فارساً من أصحابه، ففتح له الباب، فدخله هو ومن معه، فلما رآهم عامة البلد نادوا بشعار الأفضل واستسلم من به من الجند، ونزلوا عن الأسوار، وبلغ الخبر إلى الملك العادل، فكاد يستسلم، وتماسك.
وأما الذين دخلوا البلد فإنهم وصولا إلى باب البريد، فلما رأى عسكر العادل بدمشق قلة عددهم، وانقاطع مددهم، وثبوا بهم وأخرجوهم منه، وكان الأفضل قد نثب خيمة بالميدان الأخضر وقارب عسكره الباب الحديد، وهو من أبواب القلعة، فقدر الله تعالى أن أشير على الأفضل بالانتقال إلى ميدان الحصى، ففعل ذلك، فقويت نفوس من فيه، وضعفت نفوس العسكر المصري، ثم إن الأمراء الأكراد منهم تحالفوا فصاروا يداً واحدة يغضبون لغضب الدمشقيين، فرحلوا من موضعهم، وتأخروا في العشرين من شعبان، ووصل بعده الملك الظاهر، صاحب حلب، ثاني عشر شهر رمضان، وأرادوا الزحف إلى دمشق، فمنعهم الملك الظاهر مكراً بأخيه وحسداً له، ولم يشعر أخوه الأفضل بذلك.
وأما الملك العادل فإنه لما رأى كثرة العساكر وتتابع الأمداد إلى الأفضل عظم عليه، فأرسل إلى المماليك الناصرية بالبيت المقدس يستدعيهم إليه، فساروا سلخ شعبان، فوصل خبرهم إلى الأفضل، فسير أسد الدين، صاحب حمص، ومعه جماعة من الأمراء إلى طريقهم ليمنعوهم، فسلكوا غير طريقهم، فجاء أولئك ودخلوا دمشق خامس رمضان، فقوي العادل بهم قوة عظيمة، وأيس الأفضل ومن معه من دمشق، وخرج عسكر دمشق في شوال، فكبسوا العسكر المصري، فوجدوهم قد حذروهم، فعادوا عنهم خاسرين.
وأقام العسكر على دمشق ما بين قوة وضعف، وانتصار وتخاذل، حتى أرسل الملك العادل خلف ولده الملك الكامل محمد، وكان قد رحل عن ماردين، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وهو بحران، فاستدعاه إليه بعسكره، فسار على طريق البر، فدخل إلى دمشق ثاني عشر صفر سنة ست وتسعين وخمسمائة، فعند ذلك رحل العسكر عن دمشق إلى ذيل جبل الكسوة سابع عشر صفر، واستقر أن يقيموا بحوران حتى يخرج الشتاء، فرحلوا إلى رأس الماء، وهو موضع شديد البرد، فتغير العزم عن المقام، واتفقوا على أن يعود كل منهم إلى بلده، فعاد الظاهر، صاحب حلب، وأسد الدين، صاح بحمص، إلى بلادهما، وعاد الأفضل إلى مصر، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة يعقوب بن يوسف
وولاية ابنه محمد
في هذه السنة، ثامن عشر ربيع الآخر، وقيل جمادى الأولى، توفي أبو يوسف يعقوب بن أبي يعقوب يوسف ين عبد المؤمن، صاحب المغرب والأندلس، بمدينة سلا، وكان قد سار إليها من مراكش، وكان قد بنى مدينة محاذية لسلا، وسماها المهدية، من أحسن البلاد وأنزهها، فسار إلهيا يشاهدها، فتوفي بها؛ وكانت ولايته خمس عشرة سنة، وكان ذا جهاد للعدو، ودين، وحسن سيرة، وكان يتظاهر بمذهب الظاهرية، وأعرض عن مذهب مالك، فعظم أمر الظاهرية في أيامه، وكان بالمغرب منهم خلق كثير يقال لهم الحزمية منسوبون إلى ابن محمد بن حزم، رئيس الظاهرية، إلا أنهم مغمورون بالمالكية. ففي أيامه ظهروا وانتشروا، ثم في آخر أيامه استقضى الشافعية على بعض البلاد ومال إليهم، ولما مات قام ابنه أبو عبد الله محمد بالملك بعده، وكان أبوه قد ولاه عهده في حياته، فاستقام الملك له وأطاعه الناس، وجهز جمعاً من العرب وسيرهم إلى الأندلس احتياطاً من الفرنج.
ذكر عصيان أهل المهدية على يعقوب
وطاعتها لولده محمدكان أبو يوسف يعقوب، صاحب المغرب، لما عاد من إفريقية، كما ذكرناه سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، استعمل أبا سعيد عثمان، وأبا علي يونس بن عمر اينتي، وهما وأبوهما من أعيان الدولة، فولى عثمان مدينة تونس، وولى أخاه المهدية، وجعل قائد الجيش بالمهدية محمد بن عبد الكريم، وهو شجاع مشهور، فعظمت نكايته في العرب، فلم يبق منهم إلا من يخافه.
فاتفق أنه أتاه الخبر بأن طائفة من عوف نازلون بمكان، فخرج إليهم، وعدل عنهم حتى جازهم، ثم أقبل عائداً يطلبهم، وأتاهم الخبر بخروجه إليهم، فهربوا من بين يديه، فلقوه أمامهم، فهربوا وتركوا المال والعيال من غير قتال، فأخذ الجميع ورجع إلى المهدية وسلم العيال إلى الوالي، وأخذ من الأسلاب والغنيمة ما شاء، وسمل الباقي إلى الوالي وإلى الجند.
ثم إن العرب من بني عوف قصدوا أبا سعيد بن عمر اينتي، فوحدوا وصاروا من حزب الموحدين، واستجاروا به في رد عيالهم، فأحضر محمد بن عبد الكريم، وأمره بإعادة ما أخذ لهم من النعم، فقال: أخذه الجند، ولا أقدر على رده، فأغلظ له في القول، وأراد أن يبطش به، فاستمهله إلى أن يرجع إلى المهدية ويسترد من الجند ما يجده عندهم، وما عدم منه غرم العوض عنه من ماله، فأمهله، فعاد إلى المهدية وهو خائف، فلما وصلها جمع أصحابه وأعلمهم ما كان من أبي سعيد، وحالفهم على موافقته، فحلفوا له، فقبض على أبي علي يونس، وتغلب على المهدية وملكها، فأرسل إليه أبو سعيد في معنى إطلاق أخيه يونس، فأطلقه على اثني عشر ألف دينار، فلما أرسلها إليه أبو سعيد فرقها في الجند وأطلق يونس، وجمع أبو سعيد العساكر، وأراد قصده ومحاصرته، فأرسل محمد بن عبد الكريم إلى علي بن إسحاق الملثم فحالفه واعتضد به، فامتنع أبو سعيد من قصده.
ومات يعقوب، وولي ابنه محمد، فسير عسكراً مع عمه في البحر، وعسكراً آخر في البر مع ابن عمه الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن، فلما وصل عسكر البحر إلى بجاية، وعسكر البر إلى قسنطينة الهوى، هرب الملثم ومن معه من العرب من بلاد إفريقية إلى الصحراء، ووصل الأسطول إلى المهدية، فشكا محمد بن عبد الكريم ما لقي من أبي سعيد، وقال: أنا على طاعة أمير المؤمنين محمد، ولا أسلمها إلى أبي سعيد، وإنما أسلمها إلى من يصل من أمير المؤمنين؛ فأرسل محمد من يتسلمها منه، وعاد إلى الطاعة.
ذكر رحيل عسكر الملك العادل عن ماردين
في هذه السنة زال الحصار عن ماردين، ورحل عسكر الملك العادل عنها مع ولده الملك الكامل، وسبب ذلك أن الملك العادل لما حصر ماردين عظم ذلك على نور الدين، صاحب الموصل، وغيره من ملوك ديار بكر والجزيرة، وخافوا إن ملكها أن يبقي عليهم، إلا أن العجز عن منعه حملهم على طاعته؛ فلما توفي العزيز، صاحب مصر، وملك الأفضل مصر، كما ذكرناه، وبينه وبين العادل اختلاف، أرسل أحد عسكر مصر من عنده، وأرسل إلى نور الدين، صاحب الموصل، وغيره من الملوك يدعوهم إلى موافقته، فأجابوه إلى ذلك، فلما رحل الملك العادل عن ماردين إلى دمشق، كما ذكرناه، برز نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود، صاحب الموصل، عنها ثاني شعبان، وسار إلى دنيسر فنزل عليها، ووافقه ابن عمه قطب الدين محمد ابن زنكي بن مودود، صاحب سنجار، وابن عمه الآخر معز الدين سنجر شاه بن غازي بن مودود، صاحب جزيرة ابن عمر، فاجتمعوا كلهم بدنيسر إلى أن عيدوا عيد الفطر، ثم ساروا عنها سادس شوال ونزلوا بحرزم، وتقدم العسكر إلى تحت الجبل ليرتادوا موضعاً للنزول.
وكان أهل ماردين قد عدمت الأقوات عندهم، وكثرت الأمراض فيهم، حتى إن كثيراً منهم كان لا يطيق القيام، فلما رأى النظام، وهو الحاكم في دولة صاحبها، ذلك أرسل إلى ابن العادل في تسليم القلعة إليه إلى أجل معلوم ذكره على شرط أن يتركهم يدخل إليهم من الميرة ما ولد العادل بباب القلعة أميراً لا يترك يدخلها من الأطعمة إلا ما يكفيهم يوماً بيوم، فأعطى من بالقلعة ذلك الأمير شيئاً، فمكنهم من إدخال الذخائر الكثيرة.
فبينما هم كذلك إذ أتاهم خبر وصول نور الدين، صاحب الموصل، فقويت نفوسهم، وعزموا على الامتناع، فلما تقدم عسكره إلى ذيل جبل ماردين، قدر الله تعالى أن الملك الكامل بن العادل نزل بعسكر من ربض ماردين إلى لقاء نور الدين وقتاله، ولو أقاموا بالربض لم يمكن نور الدين ولا غيره الصعود إليهم، ولا إزالتهم، لكن نزلوا ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فلما أصحروا من الجبل اقتتلوا، وكان من عجيب الاتفاق أن قطب الدين، صاحب سنجار، قد واعد العسكر العادلي أن ينهزم إذا التقوا، ولم يعلم بذلك أحداً من العسكر، فقدر الله تعالى أنه لما نزل العسكر العادلي واصطفت العساكر للقتال ألجأت قطب الدين الضرورة بالزحمة إلى أن وقف في سفح شعب جبل ماردين ليس إليه طريق للعسكر العادلي، ولا يرى الحرب الواقعة بينهم وبين نور الدين، ففاته ما أراده من الانهزام؛ فلما التقى العسكران واقتتلوا، حمل ذلك اليوم نور الدين بنفسه، واصطلى الحرب، فألقى الناس أنفسهم بني يديه، فانهزم العسكر العادلي، وصعدوا في الجبل إلى الربض، وأسر منهم كثير، فحملوا إلى بين يدي نور الدين، فأحسن إليهم، ووعدهم الإطلاق إذا انفضوا، ولم يظن أن الملك الكامل ومن معه يرحلون عن ماردين سريعاً، فجاءهم أمر لم يكن في الحساب، فإن الملك الكامل لما صعد إلى الربض رأى أهل القلعة قد نزلوا إلى الذين جعلهم بالربض من العسكر، فقاتلوهم ونالوا منهم ونهبوا، فألقى الله الرعب في قلوب الجميع، فأعملوا رأيهم على مفارقة الربض ليلاً، فرحلوا إليه الاثنين سابع شوال، وتركوا كثيراً من أثقالهم ورحالهم وما أعدوه، فأخذه أهل القلعة، ولو ثبت العسكر العادلي بمكانه لم يمكن أحداً أن يقرب منهم.
ولما رحلوا نزل صاحب ماردين حسام الدين يولق بن إيلغازي إلى نور الدين، ثم عاد إلى حصنه، وعاد أتابك إلى دنيسر، ورحل عنها إلى رأس عين على عزم قصد حران وحصرها، فأتاه رسول من الملك الظاهر يطلب الخطبة والسكة وغير ذلك، فتغيرت نية نور الدين، وفتر عزمه عن نصرتهم، فعزم على العودة إلى الموصل، فهو يقدم إلى العرض رجلاً ويؤخر أخرى إذ أصابه مرض، فتحقق عزم العود إلى الموصل، فعاد إليها، وأرسل رسولاً إلى الملك الأفضل والملك الظاهر يعتذر عن عوده بمرضه، فوصل الرسول ثاني ذي الحجة إليهم وهم على دمشق.
وكان عود نور الدين من سعادة الملك العادل، فإنه كان هو وكل من عنده ينتظرون ما يجيء من أخباره، فإن من بحران استسلمونا فقدر الله تعالى أنه عاد، فلما عاد جاء الملك الكامل إلى حران، وكان قد سار عن ماردين إلى ميافارقين، فلما رجع نور الدين سار الكامل إلى حران، وسار إلى أبيه بدمشق على ما ذكرناه، فازداد به قوة، والأفضل ومن معه ضعفاً.
ذكر الفتنة بفيروزكوه من خراسانفي هذه السنة كانت فتنة عظيمة بعسكر غياث الدين، ملك الغور وغزنة، وهو بفيروزكوه، عمت الرعية والملوك والأمراء، وسببها أن الفخر محمد بن عمر بن الحسين الرازي، الإمام المشهور، الفقيه الشافعي، كان قدم إلى غياث الدين مفارقاً لبهاء الدين سام، صاحب باميان، وهو ابن أخت غياث الدين، فأكرمه غياث الدين، واحترمه، وبالغ في إكرامه، وبنى له مدرسة بهراة بالقرب من الجامع، فقصده الفقهاء من البلاد، فعظم ذلك على الكرامية، وهم كثيرون بهراة؛ وأما الغورية فكلهم كرامية، وكرهوه، وكان أشد الناس عليه الملك ضياء الدين، وهو ابن عم غياث الدين، وزوج ابنته، فاتفق أن حضر الفقهاء من الكرامية الحنفية والشافعية عند غياث الدين بفيروزكوه للمناظرة، وحضر فخر الدين الرازي والقاضي مجد الدين عبد المجيد ابن عمر، المعروف بابن القدوة، وهو من الكرامية الهيصمية، وله عندهم محل كبير لزهده وعلمه وبيته، فتكلم الرازي، فاعترض عليه ابن القدوة، طال الكلام، فقام غياث الدين فاستطال عليه الفخر، وسبه وشتمه، وبالغ في أذاه، وابن القدوة لا يزيد على أن يقول لا يفعل مولانا إلا وأخذك الله؛ أستغفر الله؛ فانفصلوا على هذا.
وقام ضياء الدين في هذه الحادثة وشكا إلى غياث الدين، وذم الفخر، ونسبه إلى الزندقة ومذهب الفلاسفة، فلم يصغ غياث الدين إليه، فلما كان الغد وعظ ابن عم المجد نب القدوة بالجامع، فلما صعد المنبر قال، بعد أن حمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله، ربنا آمنا بما أنزلت، واتبعنا الرسول، فاكتبنا مع الشاهدين؛ أيها الناس، إنا لا نقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما علم أرسطاطاليس، وكفريات ابن سينا، وفلسفة الفارابي، فلا نعلمها، فلأي حال يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله، وعن سنة نبيه! وبكى وضج الناس، وبكى الكرامية واستغاثوا، وأعانهم من يؤثر بعد الفجر الرازي عن السلطان، وثار الناس من كل جانب، وامتلأ البلد فتنة، وكادوا يقتتلون، يجري ما يهلك فيه خلق كثير، فبلغ ذلك السلطان، فأرسل جماعة من عنده إلى الناس وسكنهم، ووعدهم بإخراج الفخر من عندهم، وتقدم إليه بالعود إلى هراة، فعاد إليها.
ذكر مسير خوارزم شاه إلى الريفي هذه السنة، في ربيع الأول، سار خوارزم شاه علاء الدين تكش إلى الري وغيرها من بلاد الجبل، لأنه بلغه أن نائبه بها مياجق قد تغير عن طاعته، فسار إليه، فخافه مياجق، فجعل يفر من بين يديه، وخوارزم شاه في طلبه يدعوه إلى الحضور عنده، وهو يمتنع، فاستأمن: أكثر أصحابه إلى خوارزم شاه، وهرب هو، فحصل بقلعة من أعمال مازندران فامتنع بها، فسارت العساكر في طلبه فأخذ منها وأحضر بين يدي خوارزم شاه فأمر بحبسه بشفاعة أخيه أقجة.
وسيرت الخلع من الخليفة لخوارزم شاه ولولده قطب الدين محمد، وتقليد بما بيده من البلاد، فلبس الخلعة، واشتغل بقتال الملاحدة، فافتتح قلعة على باب قزوين تسمى أرسلان كشاه، وانتقل إلى حصار الموت، فقتل عليها صدر الدين محمد بن الوزان رئيس الشافعية بالري، وكان قد تقدم عنده تقدماً عظيماً، قتله الملاحدة، وعاد خوارزم شاه إلى خوارزم، فوثب الملاحدة على وزيره نظام الملك مسعود بن علي فقتلوه في جمادى الآخرة سنة ست وتسعين، فأمر تكش ولده قطب الدين بقصد الملاحدة، فقصد قلعة ترشيش وهي من قلاعهم، فحصرها فأذعنوا له بالطاعة، وصالحوه على مائة ألف دينار، ففارقها، وإنما صالحهم لأنه بلغه خبر مرض أبيه، وكانوا يراسلونه بالصلح فلا يفعل، فلما سمع بمرض أبيه لم يرحل حتى صالحهم على المال المذكور والطاعة ورحل.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، توفي مجاهد الدين قايماز، رحمه الله، بقلعة الموصل، وهو الحاكم في دولة نور الدين، والمرجوع إليه فيها، وكان ابتداء ولايته قلعة الموصل في ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وولي إربل سنة تسع وخمسين وخمسمائة، فلما مات زين الدين علي كوجك سنة ثلاث وستين بقي هو الحاكم فيها، ومعه من يختاره من أولاد زين الدين ليس لواحد منهم معه حكم.
======================

=========

 ====مجلد 33. من كتاب : الكامل في التاريخ ابن الأثير

 
وكان عاقلاً، ديناً، خيراً، فاضلاً، يعرف الفقه على مذهب أبي حنيفة، ويحفظ، من التاريخ والأشعار والحكايات، شيئاً كثيراً. وكان كثير الصوم، يصوم من كل سنة نحو سبعة أشهر، وله أوراد كثيرة حسنة كل ليلة، ويكثر الصدقة، وكان يكثر الصدقة، وكان له فراسة حسنة فيمن يستحق الصدقة ويعرف الفقراء المستحقين ويبرهم، وبنى عدة جوامع منها الجوامع منها الجامع الذي يظاهر الموصل بباب الجسر، وبنى الربط والمدارس والخانات في الطرق، وله من المعروف شيء كثير، رحمه الله، فلقد كان من محاسن الدنيا.
وفيها فارق غياث الدين، صاحب غزنة وبعض خراسان، مذهب الكرامية، وصار شافعي المذهب، وكان سبب ذلك أنه كان عنده إنسان يعرف بالفخر مبارك شاه يقول الشعر بالفارسية، متفنناً في كثير من العلوم، فأوصل إلى غياث الدين الشيخ وحيد الدين أبا الفتح محمد بن محمود المروروذي الفقيه الشافعي، فأوضح له مذهب الشافعي، وبين له فساد مذهب الكرامية، فصار شافعياً، وبنى المدارس للشافعية، وبنى بغزنة مسجداً لهم أيضاً، وأكثر مراعاتهم، فسعى الكرامية في أذى وحيد الدين فلم يقدرهم الله تعالى على ذلك.
وقيل إن غياث الدين وأخاه شهاب الدين لما ملكا في خراسان قيل لهما: إن الناس في جميع البلاد يزرون على الكرامية ويحتقرونهم. والرأي أن تفارقوا مذاهبهم، فصارا شافعيين؛ وقيل: إن شهاب الدين كان حنفياً، والله أعلم.
وفي هذه السنة توفي أبو القاسم يحيى بن علي بن فضلان الفقيه الشافعي، وكان إماماً فاضلاً، ودرس ببغداد، وكان من أعيان أصحاب محمد بن يحيى نجى النيسابوري.
ثم دخلت سنة ست وتسعين وخمسمائة
ذكر ملك العادل الديار المصريةقد ذكرنا سنة خمس وتسعين حصر الأفضل والظاهر ولدي صلاح الدين دمشق، ورحيلها إلى رأس الماء، على عزم المقام بحوران إلى أن يخرج الشتاء، فلما أقاموا برأس الماء وجد العسكر برداً شديداً، لأن البرد في ذلك المكان في الصيف موجود، فكيف في الشتاء، فتغير العزم عن المقام، واتفقوا على أن يعود كل إنسان منهم إلى بلده، ويعودوا إلى الاجتماع، فتفرقوا تاسع ربيع الأول، فعاد الظاهر وصاحب حمص إلى بلادهما، وسار الأفضل إلى مصر، فوصل بلبيس، فأقام بها، ووصلته الأخبار بأن عمه الملك العادل قد سار من دمشق قاصداً مصر ومعه المماليك الناصرية، وقد حلفوه على أن يكون ولد الملك العزيز هو صاحب البلاد، وهو المدبر للملك، إلى أن يكبر، فساروا على هذا.
وكان عسكره بمصر قد تفرق عن الأفضل من الخشبي، فسار كل منهم إلى إقطاعه ليربعوا دوابهم، فرام الأفضل جمعهم من أطراف البلاد، فأعجله الأمر عن ذلك، ولم يجتمع منهم إلا طائفة يسيرة ممن قرب إقطاعه، ووصل العادل، فأشار بعض الناس على الأفضل أن يخرب سور بلبيس ويقيم بالقاهرة، وأشار غيرهم بالتقدم إلى أطراف البلاد، ففعل ذلك، فسار عن بلبيس، ونزل موضعاً يقال له السائح إلى طرف البلاد، ولقاء العادل قبل دخول البلاد سابع ربيع الآخر، فانهزم الأفضل، ودخل القاهرة ليلاً.
وفي تلك الليلة توفي القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني كاتب الإنشاء لصلاح الدين ووزيره، فحضر الأفضل الصلاة عليه، وسار العادل فنزل على القاهرة وحصرها، فجمع الأفضل من عنده من الأمراء واستشارهم، فرأى منهم تخاذلاً، فأرسل رسولاً إلى عمه في الصلح وتسليم البلاد إليه، وأخذ العوض عنها، وطلب دمشق، فلم يجبه العادل، فنزل عنها إلى حران والرها فمل يجبه، فنزل إلى ميافارقين وحاني وجبل جور، فأجابه إلى ذلك، وتحالفوا عليه، وخرج الأفضل من مصر ليلة السبت ثامن عشر ربيع الآخر، واجتمع بالعادل، وسار إلى صرخد، ودخل العادل إلى القاهرة يوم السبت ثامن عشر ربيع الآخر.
ولما وصل الأفضل إلى صرخد أرسل من تسلم ميافارقين وحاني وجبل جور، فامتنع نجم الدين أيوب ابن الملك العادل من تسليم ميافارقين، وسلم ما عداها، فترددت الرسل بين الأفضل والعادل في ذلك، والعادل يزعم أن ابنه عصاه، فأمسك عن المراسلة في ذلك لعلمه أن هذا فعل بأمر العادل.
ولما ثبتت قدم العادل بمصر قطع خطبة الملك المنصور ابن الملك العزيز في شوال من السنة وخطب لنفسه، وحاقق الجند في إقطاعاتهم، واعتراضهم في أصحابهم ومن عليهم من العسكر المقرر، فتغيرت لذلك نياتهم، فكان ما نذكره سنة سبع وتسعين إن شاء الله.
ذكر وفاة خوارزم شاهفي هذه السنة، في العشرين من رمضان، توفي خوارزم شاه تكش بن ألب أرسلان، صاحب خوارزم وبعض خراسان والري وغيرها من البلاد الجبالية، بشهرستانة بين نيسابور وخوارزم. وكان قد سار من خوارزم إلى خراسان، وكان به خوانيق، فأشار عليه الأطباء بترك الحركة، فامتنع، وسار، فلما قارب شهرستانة اشتد مرضه ومات، ولما اشتد مرضه أرسلوا إلى ابنه قطب الدين محمد يستدعونه، ويعرفونه شدة مرض أبيه، فسار إليهم وقد مات أبوه، فولي الملك بعده، ولقب علاء الدين، لقب أبيه، وكان لقبه قطب الدين، وأمر فحمل أبوه ودفن بخوارزم في تربة عملها في مدرسة بناها كبيرة عظيمة، وكان عادلاً حسن السيرة، له معرفة حسنة وعلم، يعرف الفقه على مذهب أبي حنيفة، ويعرف الأصول.
وكان ولده علي شاه بأصفهان، فأرسل إليه أخوه خوارزم شاه محمد يستدعيه، فسار إليه، فنهب أهل أصفهان خزانته ورحله، فلما وصل إلى أخيه ولاه حرب أهل خراسان، والتقدم على جندها، وسلم إليه نيسابور، وكان هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه تكش يخاف عمه محمداً، فهرب منه، ونهب كثيراً من خزائن جده تكش لما مات، وكان معه، وسار إلى مرو.
ولما سمع غياث الدين ملك غزنة بوفاة خوارزم شاه أمر أن لا تضرب نوبته ثلاثة أيام، وجلس للعزاء على ما بينهما من العداوة والمحاربة، فعل ذلك عقلاً منه ومروءة، ثم إن هندوخان جمع جمعاً كثيراً يخرسان، فسير إليه عمه خوارزم شاه محمد جيشاً مقدمهم جقر التركي، فلما سمع هندوخان بمسيرهم هرب عن خراسان وسار إلى غياث الدين يستنجده على عمه، فأكرم لقاءه وإنزاله، وأقطعه، ووعده النصرة، فأقام عنده، ودخل جقر مدينة مرو، وبها والدة هندوخان وأولاده، فاستظهر عليهم، وأعلم صاحبه، فأمره بإرسالهم إلى خوارزم مكرمين؛ فلما سمع غياث الدين ذلك أرسل إلى محمد بن جربك، صاحب الطالقان، يأمره أن يرسل إلى جقر يتهدده، ففعل ذلك وسار من الطالقان، فأخذ مرو الروذ، والخمس قرى وتسمى بالفارسية بنج ده، وأرسل إلى جقر يأمره بإقامة الخطبة بمرو لغياث الدين، أو يفارق البلد، فأعاد الجواب يتهدد ابن جربك ويتوعده، وكتب إليه سراً يسأله أن يأخذ له أماناً من غياث الدين ليحضر خدمته، فكتب إلى غياث الدين بذلك، فلما قرأ كتابه علم أن خوارزم شاه ليس له قوة، فلهذا طلب جقر الانحياز إليه، فقوي طمعه في البلاد، وكتب إلى أخيه شهاب الدين يأمره بالخوارج إلى خراسان، ليتفقا على أخذ بلاد خوارزم شاه محمد.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في جمادى الآخرة، وثب الملاحدة الإسماعيلية على نظام الملك مسعود بن علي، وزير خوارزم شاه تكش، فقتلوه، وكان صالحاً كثير الخير، حسن السيرة، شافعي المذهب، بنى للشافعية بمرو جامعاً مشرفاً على جامع الحنفية، فتعصب شيخ الإسلام وهو مقدم الحنابلة بها، قديم الرياسة، وجمع الأوباش، فأحرقه. فأنفذ خوارزم شاه فأحضر شيخ الإسلام وجماعة ممن سعى في ذلك، فأغرمهم مالاً كثيراً.
وبنى الوزير أيضاَ مدرسة عظيمة بخوارزم وجامعاً وجعل فيها خزانة كتب، وله آثار حسنة بخراسان باقية، لوما مات خلف ولداً صغيراً، فاستوزره خوارزم شاه رعاية لحق أبيه، فأشير عليه أن يصلح له إلى أن أكبر، فإن كنت أصلح فأنا المملوك؛ فقال خوارزم شاه: لست أعفيك، وأنا وزيرك، فكن مراجعي في الأمور، فإنه لا يقف منها شيء. فاستحسن الناس هذا، ثم إن الصبي لم تطل أيامه، فتوقبل خوارزم شاه بيسير.
وفي هذه السنة، في ربيع الأول، توفي شيخنا أبو الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب بن سعد بن صدقة بن الخضر بن كليب الحراني المقيم ببغداد وله ست وتسعون سنة وشهران، وكان عالي الإسناد في الحديث، وكان ثقة صحيح السماع.
وفي ربيع الآخر منها توفي القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الكاتب المشهور، لم يكن في زمانه أحسن كتابة منه، ودفن بظاهر مصر بالقرافة، وكان ديناً كثير الصدقة والعبادة، وله وقوف كثيرة على الصدقة وفك الأسارى، وكان يكثر الحج والمجاورة مع اشتغاله بخدمة السلطان، وكان السلطان صلاح الدين يعظمه ويحترمه ويكرمه، ويرجع إلى قوله، رحمهما الله.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة
ذكر ملك الملك الظاهر صاحب حلب منبج
وغيرها من الشام وحصره هو وأخوه الأفضل مدينة دمشق وعودهما عنها
قد ذكرنا قبل ملك العادل ديار مصر، وقطعه خطبة الملك المنصور ولد الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، وأنه لما فعل ذلك لم يرضه الأمراء المصريون، وخبثت نياتهم في طاعته، فراسلوا أخويه: الظاهر بحلب، والأفضل بصرخد، وتكررت المكاتبات والمراسلات بينهم، يدعونهم إلى قصد دمشق وحصرها ليخرج الملك العادل إليهم، فإذا خرج إليهم من مصر أسلموه، وصاروا معهما، فيملكان البلاد.
وكثر ذلك، حتى فشا الخبر واتصل بالملك العادل، وانضاف إلى ذلك أن النيل لم يزد بمصر الزيادة التي تركب الأرض ليزرع الناس، فكثر الغلاء فضعفت قوة الجند، وكان فخر الدين جركس قد فارق مصر إلى الشامخ هو وجماعة من المماليك الناصرية لحصار بانياس ليأخذها لنفسه بأمر العادل، وكانت لأمير كبير تركي اسمه بشارة، قد اتهمنه العادل، فأمر جركس بذلك.
وكان أمير من أمراء العادل يعرف بأسامة قد حج هذه السنة، فلما عاد من الحج، وقارب صرخد، نزل الملك الأفضل، فلقيه وأكرمه، ودعاه إلى نفسه، فأجابه وحلف له، وعرفه الأفضل جلية الحال، وكان أسامة من بطانة العادل، وإنما حلف لينكشف له الأمر، فلما فارق الأفضل أرسل إلى العادل، وهو بمصر، يعرفه الخبر جميعه، فأرسل إلى ولده الذي بدمشق يأمره بحصر الأفضل بصرخد، وكتب إلى إياس جركس وميمون القصري، صاحب بلبيس، وغيرهما من الناصرية، يأمرهم الاجتماع مع ولده على حصر الأفضل.
وسمع الأفضل الخبر، فسار إلى أخيه الظاهر بحلب مستهل جمادى الأولى من السنة، ووصل إلى حلب عاشر الشهر، وكان الظاهر قد أرسل أميراً كبيراً من أمرائه إلى عمه العادل، فمنعه العادل من الوصول إليه، وأمره بأن يكتب رسالته، فلم يفعل وعاد لوقته، فتحرك الظاهر لذلك وجمع عسكره وقصد منبج فملكها للسادس والعشرين من رجب، وسار إلى قلعة نجم وحصرها، فتسلمها سلخ رجب.
وأما ابن العادل المقيم بدمشق فإنه سار إلى بصرى، وأرسل إلى جركس ومن معه، وهم على بانياس يحصرونها، يدعوهم إليه، فلم يجيبوه إلى ذلك بل غالطوه، فلما طال مقامه على بصرى عاد إلى دمشق، وأرسل الأمير أسامة إليهم يدعوهم إلى مساعدته، فاتفق أنه جرى بينه وبين البكى الفارس، بعض المماليك الكبار الناصرية، منافرة فأغلظ له البكى القول، وتعدى إلى الفعل باليد، وثار العسكر جميعه على أسامة، فاستذم بميمون، فأمنه وأعاده إلى دمشق، واجتمعوا كلهم عند الملك الظافر خضر بن صلاح الدين، وأنزلوه من صرخد، وأرسلوا إلى الملك الظاهر والأفضل يحثونهما على الوصول إليهم، والملك الظاهر يتربص ويتعوق، فوصل من منبج إلى حماة في عشرين يوماً، وأقام على حماة يحصرها وبها صاحبها ناصر الدين محمد بن تقي الدين إلى تاسع عشر شهر رمضان، فاصطلحا وحمل له ابن تقي الدين ثلاثين ألف دينار صورية، وساروا منها إلى حمص، ثم سارا منها إلى دمشق على طريق بعلبك، فنزلوا عليها عند مسجد القدم، فلما نزلوا على دمشق أتاهم المماليك الناصرية مع الملك الظافر خضر بن صلاح الدين، وكانت القاعدة استقرت بني الظاهر وأخيه الأفضل أنهم إذا ملكوا دمشق تكون بيد الأفضل، وكانت القاعدة استقرت بني الظاهر وأخيه الأفضل أنهم إذا ملكوا دمشق تكون بيد الأفضل، ويسيرون إلى مصر، فإذا ملكوها تسلم الظاهر دمشق، فيبقى الشام جميعه له، وتبقى مصر للأفضل، وسلم الأفضل صرخد إلى زين الدين قراجة مملوك والده ليحضر في خدمته، وأنزل والدته وأهله منها وسيرهم إلى حمص، فأقاموا عند أسد الدين شيركوه صاحبها.
وكان الملك العادل قد سار من مصر إلى الشام، فنزل على مدينة نابلس وسير جمعاً من العسكر إلى دمشق ليحفظها، فوصلوا قبل وصول الظاهر والأفضل، وحضر فخر الدين جركس وغيره من الناصرية عند الظاهر، وزحفوا إلى دمشق وقاتلوها رابع عشر ذي القعدة، واشتد القتال عليها، فالتصق الرجل بالسور، فأدركهم الليل، فعادوا وقد قوي الطمع في أخذها، ثم زحفوا إليها مرة ثانية وثالثة، فلم يبق إلا ملكها، لأن العسكر صعد إلى سطح خان ابن المقدم، وهو ملاصق السور، فلو لم يدركهم الليل لملكوا البلد؛ فلما أدركهم الليل، وهم عازمون على الزحف بكرة، وليس لهم عن البلد مانع، حسد الظاهر أخاه الأفضل، فأرسل إليه يقول له تكون دمشق له وبيده ويسير العساكر معه إلى مصر. فقال له الأفضل، قد علمت أن والدتي وأهلي، وهم أهلك أيضاً، على الأرض، ليس لهم موضع يأوون إليه، فاحسب أن هذا البلد لك تعيرناه ليسكنه أهلي هذه المدة إلى أن يملك مصر.
فلم يجبه الظاهر إلى ذلك، ولج، فلما رأى الأفضل ذلك الحال قال للناصرية وكل من جاء إليهم من الجند: إن كنتم جئتم إلي فقد أذنت لكم في العود إلى العادل، وإن كنتم جئتم إلى أخي الظاهر فأنتم وهو أخبر، وكان الناس كلهم يريدون الأفضل، فقالوا: ما نريد سواك، والعادل أحب إلينا من أخيك؛ فأذن لهم في العود، فهرب فخر الدين جركس وزين الدين قراجة الذي أعطاه الأفضل صرخد، فمنهم من دخل دمشق، ومنهم من عاد إلى إقطاعه، فلما انفسخ الأمر عليهم عادوا إلى تجديد الصلح مع العادل، فترددت الرسل بينهم واستقر الصلح على أن يكون للظاهر منبج، وأفامية وكفر طاب، وقرى معينة من المعرة، ويكون للأفضل سميساط، وسروج، ورأس عين، وحملين، ورحلوا عن دمشق أول المحرم سنة ثمان وتسعين، فقصد الأفضل حمص فأقام بها، وسار الظاهر إلى حلب، ووصل العادل إلى دمشق تاسع المحرم، وسار الأفضل إليه من حمص، فاجتمع به بظاهر دمشق، وعاد من عنده إلى حمص، وسار منها ليتسلم سميساط، فتسلمها، وتسلم باقي ما استقر له: رأس عين وسروج وغيرهما.
ذكر ملك غياث الدين وأخيه
ما كان لخوارزم شاه بخراسانقد ذكرنا مسير محمد بن خرميل من الطلقان. واستيلاء على مرو الروذ وسؤال جقر اتركي نائب علاء الدين محمد خوارزم شاه بمرو أن يكون في جملة عسكر غياث الدين، ولما وصل كتاب ابن خرميل إلى غياث الدين في معنى جقر، علم أن هذا إنما دعاه إلى الانتماء إليهم ضعف صاحبه، فأرسل إلى أخيه شهاب الدين يستدعيه إلى خراسان، فسار من غزنة في عساكره وجنوده وعدته وما يحتاج إليه.
وكان بهراة الأمير عمر بن محمد المرغني نائباً عن غياث الدين، وكان يكره خروج غياث الدين إلى خراسان، فأحضره غياث الدين واستشاره، فأشار بالكف عن قصدها، وترك المسير إليها، فأنكر عليه ذلك، و أراد إبعاده عنه، ثم تركه، ووصل شهاب الدين في عساكره وعساكر سجستان وغيرها في جمادى الأولى من هذه السنة، فلما وصلوا إلى ميمنة، وهي قرية بين الطالقان وكرزيان، وصل إلى شهاب الدين كتاب جقر مستحفظ مرو، يطلبه ليسلمها إليه، فاستأذن أخاه غياث الدين، فأذن له، فسار إليها، فخرج أهلها مع العسكر الخوارزمي وقاتلوه، فأمر أصحابه بالحملة عليهم والجد في قتالهم، فحملوا عليهم، فأدخلوهم البلد، وزحفوا بالفيلة إلى أن قاربوا السور، فطلب أهل البلد الأمان، فأمنهم وكف الناس عن التعرض إليهم، وخرج جقر إلى شهاب الدين فوعده الجميل.
ثم حضر غياث الدين إلى مرو بعد فتحها، فأخذ جقر وسيره إلى هراة مكرماً، وسلم مرو إلى هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه تكش، وقد ذكرنا هربه من عمه خوارزم شاه محمد بن تكش إلى غياث الدين، ووصاه بالإحسان إلى أهلها.
ثم سار غياث الدين إلى مدينة سرخس، فأخذها صلحاً، وسلمها إلى الأمير زنكي بن مسعود، وهو من أولاد عمه، وأقطعه معها نسا وأبيورد؛ ثم سار بالعساكر إلى طوس، فأراد الأمير الذي بها أن يمتنع فيها ولا يسلمها، فأغلق باب البلد ثلاثة أيام، فبلغ الخبز ثلاثة أمناء بدينار ركني، فضج أهل البلد عليه، فأرسل إلى غياث الدين يطلب الأمان، فأمنه، فخرج إليه، فخلع عليه وسيره إلى هراة؛ ولما ملكها أرسل إلى علي شاه بن خوارزم شاه تكش، وهو نائب أخيه علاء الدين. وكان مع علي شاه عسكر من خوارزم شاه، فاتفقوا على الامتناع من تسليم البلد، وحصنوه، وخربوا ما بظاهره من العمارة، وقطعوا الأشجار. وسار غياث الدين إلى نيسابور، فوصل إليها أوائل رجب، وتقدم عسكر أخيه شهاب الدين إلى القتال؛ فلما رأي غياث الدين ذلك قال لولده محمود: قد سبقنا عسكر غزنة بفتح مرو، ومن يريدون أن يفتحوا نيسابور، فيحصلون بالاسم، فاحمل إلى البلد، ولا ترجع حتى تصل إلى السور، فحمل، وحمل معه وجوه الغورية، فلم يردهم أحد من السور، حتى اصعدوا علم غياث الدين إليه، فلما رأى شهاب الدين علم أخيه على السور قال لأصحابه: اقصدوا بنا هذه الناحية، واصعدوا السور من هاهنا؛ وأشار إلى مكان فيه، فسقط السور منهدماً، فضج الناس بالتكبير، وذهل الخوارزميون وأهل البلد، ودخل الغورية البلد، وملكوه عنوة، ونهبوه ساعة من نهار، فبلغ الخبر إلى غياث الدين فأمر بالنداء: من نهب مالاً أو أذى أحداً فدمه حلال؛ فأعاد الناس ما نهبوه عن آخره.
ولقد حدثني بعض أصدقائنا من التجار، وكان بنيسابور في هذه الحادثة: نهب من متاعي شيء من جملته سكر، فلما سمع العسكر النداء ردوا جميع ما أخذوا مني، وبقي لي بساط وشيء من السكر، فرأيت السكر مع جماعة، فطلبته منهم، فقالوا: أما السكر فأكلناه، فنسألك ألا يسمع أحد، وإن أردت ثمنه أعطيناك؛ فقلت: أنتم في حل منه؛ ولم يكن البساط مع أولئك، قال: فمشيت إلى باب البلد مع النظارة، فرأيت البساط الذي لي قد ألقي عند باب البلد لم يجسر أحد على أن يأخذه، فأخذته وقلت: هذا لي؛ فطلبوا مني من يشهد به، فأحضرت من شهد لي وأخذته.
ثم إن الخوارزميين تحصنوا بالجامع، فأخرجهم أهل البلد، فأخذهم الغورية ونهبوا ما لهم، وأخذ علي شاه بن خوارزم شاه وأحضر عند غياث الدين رجلاً، فأنكر ذلك على من أحضره، وعظم الأمر فيه، وحضرت داية كانت لعلي شاه، وقالت لغياث الدين: أهكذا يفعل بأولاد الملوك؟ فقال: لا! بل هكذا، وأخذ بيده، وأقعده معه على السرير، وطيب نفسه، وسير جماعة الأمراء الخوارزمية إلى هراة تحت الاستظهار، وأحضر غياث الدين ابن عمه، وصهره على ابنته، ضياء الدين محمد بن أبي علي الغوري، وولاه حرب خراسان وخراجها، ولقبه علاء الدين، وجعل معه وجوه الغورية، ورحل إلى هراة، وسلم علي شاه إلى أخيه شهاب الدين، وأحسن إلى أهل نيسابور وفرق فيهم مالاً كثيراً.
ثم رحل بعده شهاب الدين إلى ناحية قهستان، فوصل إلى قرية، فذكر له أن أهلها إسماعيلية، فأمر بقتل المقاتلة، ونهب الأموال، وسبي الذراري، وخرب القرية فجعلها خاوية على عروشها، ثم سار إلى كناباد وهي من المدن التي جميع أهلها إسماعيلية، فنزل عليها وحصرها، فأرسل صاب قهستان إلى غياث الدين يشكو أخاه شهاب الدين، ويقول: بيننا عهد، فما الذي بدا منا حتى تحاصر بلدي؟ واشتد خوف الإسماعيلية الذين بالمدينة من شهاب الدين، فطلبوا الأمان ليخرجوا منها، فأمنهم، وأخرجهم وملك المدينة وسلمها إلى بعض الغورية، فأقام بها الصلاة، وشعار الإسلام، ورحل شهاب الدين فنزل على حصن آخر للإسماعيلية، فوصل إليه رسول أخيه غياث الدين، فقال الرسول: معي تقدم من السلطان، فلا يجري حرد إن فعلته؟ فقال: لا فقال: إنه يقول لك ما لك ولرعيتي، ارحل، قال: لا أرحل! قال: إذن أفعل ما أمرني. قال: افعل؛ فسل سيفه وقطع أطناب سرادق شهاب الدين، وقال: ارحل بتقدم السلطان، فرحل شهاب الدين والعسكر وهو كاره، وسار إلى بلد الهند، ولم يقم بغزنة غضباً لما فعله أخوه معه.
ذكر قصد نور الدين بلاد العادل
والصلح بينهما
في هذه السنة أيضاً تجهز نور الدين أرسلان شاه، صاحب الموصل، وجمع عساكره وسار إلى بلاد الملك العادل بالجزيرة: حران والرها؛ وكان سبب حركته أن الملك العادل لما ملك مصر، على ما ذكرناه قبل، اتفق نور الدين والملك الظاهر، صاحب حلب وصاحب ماردين وغيرهما، على أن يكونوا يداً واحدة، متفقين على منع العادل عن قصد أحدهم، فلما تجددت حركة الأفضل والظاهر أرسلا إلى نور الدين ليقصد البلاد الجزرية، فسار عن الموصل في شعبان من هذه السنة، وسار معه ابن عمه قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي، صاحب سنجار ونصيبين، وصاحب ماردين، ووصل إلى رأس عين، وكان الزمان قيظاً، فكثرت الأمراض في عسكره.
وكان بحران ولد العادل يلقب بالملك الفائز ومعه عسكر يحفظ البلاد، فلما وصل نور الدين إلى رأس عين جاءته رسل الفائز ومن معه من أكابر الأمراء يطلبون الصلح ويرغبون فيه، وكان نور الدين قد سمع بأن الصلح بدأ يتم بين الملك العادل والملك الظاهر والأفضل، وانضاف إلى ذلك كثرة الأمراض في عسكره، فأجاب إليه، وحلف الملك لفائز ومن عنده من أكابر الأمراء عل القاعدة التي استقرت، وحلفوا له أنهم يحلفون الملك العادل له، فإن امتنع كانوا معه عليه، وحلف هو للملك العادل.
وسارت الرسل من عنده ومن عند ولده في طلب اليمين من العادل، فأجاب إلى ذلك، وحلف له، واستقرت القاعدة، وأمنت البلاد وعاد نور الدين إلى الموصل في ذي القعدة من السنة.
ذكر ملك شهاب الدين نهروالهلما سار شهاب الدين من خراسان، على ما ذكرناه، لم يقم بغزنة، وقصد بلاد الهند، وأرسل مملوكه قطب الدين أيبك إلى نهرواله، فوصلها سنة ثمان وتسعين، فلقيه عسكر الهنود، فقاتلوه قتالاً شديداً، فهزمهم أيبك، واستباح معسكرهم، وما لهم فيه من الدواب وغيرها، وتقدم إلى نهرواله فملكها عنوة، وهرب ملكها، فجمع وحشد، فكثر جمعه.
وعلم شهاب الدين أنه لا يقدر على حفظها إلا بأن يقيم هو فيها ويخليها من أهلها، ويتعذر عليه ذلك، فإن البلد عظيم، هو أعظم بلاد الهند، وأكثرهم أهلاً، فصالح صاحبها على مال يؤديه إليه عاجلاً وآجلاً، وأعاد عساكره عنها وسلمها إلى صاحبها.
ذكر ملك ركن الدين ملطية من أخيه وأرزن الرومفي هذه السنة، في شهر رمضان، ملك ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان مدينة ملطية، وكانت لأخيه معز الدين قيصر شاه، فسار إليه وحصره أياماً وملكها، وسار منها إلى أرزن الروم، وكانت لولد الملك ابن محمد بن صلتق، وهم بيت قديم قد ملكوا أرزن الروم هذه مدة طويلة، فلما سار إليها وقاربها خرج صاحبها إليه ثقة به ليقرر معه الصلح على قاعدة يؤثرها ركن الدين، فقبض عليه واعتقله عنده وأخذ البلد، وكان هذا آخر أهل بيته الذين ملكوا، فتبارك الله الحي القيوم الذي لا يزول ملكه أبداً سرمداً.
ذكر وفاة سقمان صاحب آمد
وملك أخيه محمودفي هذه السنة توفي قطب الدين سقمان بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان، صاحب آمد وحصن كيفا، سقط من سطح جوسق كان له بظاهر حصن كيفا فمات، وكان شديد الكراهة لأخيه هذا، والنفور عنه، قد أبعده وأنزله حصن منصور في آخر بلادهم، واتخذ مملوكاً اسمه إياس، فزوجه أخته، وأحبه حباً شديداً، وجعله ولي عهده، فلما توفي ملك بعده عدة أيام، وتهدد وزيراً كان لقطب الدين، وغيره من أمراء الدولة، فأرسلوا إلى أخيه محمود سراً يستدعونه، فسار مجداً، فوصل إلى آمد وقد سبقه إليها إياس مملوك أخيه، فلم يقدم على الامتناع، فتسلم محمود البلاد جميعها وملكها، وحبس المملوك فبقي مدة محبوساً، ثم شفع له صاحب بلاد الروم، فأطلق من الحبس، وسار إلى الروم، فصار أميراً من أمراء الدولة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة اشتد الغلاء بالبلاد المصرية لعدم زيادة النيل، وتعذرت الأقوات حتى أكل الناس الميتة، وأكل بعضهم بعضاً، ثم لحقهم عليه وباء وموت كثير أفنى الناس.
وفي شعبان منها تزلزلت الأرض بالموصل، وديار الجزيرة كلها، والشام، ومصر، وغيرها، فأثرت في الشام آثاراً قبيحة، وخربت كثيراً من الدور بدمشق، وحمص، وحماة، وانخسفت قرية من قرى بصرى، وأثرت في الساحل الشامي أثراً كثيراً، فاستولى الخراب على طرابلس، وصور، وعكا، ونابلس، وغيرها من القلاع، ووصلت الزلزلة إلى بلاد الروم، وكانت بالعراق يسيرة لم تهدم دوراً.
وفيها ولد ببغداد طفل له رأسان، وذلك أن جبهته مفروقة بمقدار ما يدخل فيها ميل.
وفي هذه السنة، في شهر رمضان، توفي أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي الحنبلي الواعظ ببغداد، وتصانيفه مشهورة، وكان كثير الوقيعة في الناس لا سيما في العلماء المخالفين لمذهبه والموافقين له، وكان مولده سنة عشر وخمسمائة.
وفيه أيضاً توفي عيسى بن نصير النميري الشاعر، وكان حسن الشعر، وله أدب وفضل، وكان موته ببغداد.
وفيها توفي العماد أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد بن محمد بن أله، أوله باللام المشددة، وهو العماد الكاتب الأصفهاني، كتب لنور الدين محمود ابن زنكي ولصلاح الدين يوسف بن أيوب، رضي الله عنهما، وكان كاتباً مفلقاً، قادراً على القول.
وفيها جمع عبد الله بن حمزة العلوي المتغلب على جبال اليمن جموعاً كثيرة فيها اثنا عشر ألف فارس، ومن الرجالة ما لا يحصى كثرة، وكان قد انضاف إليه من جند المعز بن إسمعيل بن سيف الإسلام طغدكين بن أيوب، صاحب اليمن، خوفاً منه، وأيقنوا بملك البلاد، واقتسموها، وخافهم ابن سيف الإسلام خوفاً عظيماً، فاجتمع قواد عسكر ابن حمزة ليلاً ليتفقوا على رأي يكون العمل بمقتضاه، وكانوا اثني عشر قائداً فنزلت عليهم صاعقة أهلكتهم جميعهم، فأتى الخبر ابن سيف الإسلام في باقي الليلة بذلك، فسار إليهم مجداً فأوقع بالعسكر المجتمع، فلم يثبتوا له، وانهزموا بين يديه، ووضع السيف فيهم، فقتل منهم ستة آلاف قتيل أو أكثر من ذلك وثبت ملكه واستقر بتلك الأرض.
وفيها وقع في بني عنزة بأرض الشراة، بين الحجاز واليمن، وباء عظيم، وكانوا يسكنون في عشرين قرية، فوقع الوباء في ثماني عشرة قرية، فلم يبق منهم أحد. وكان الإنسان إذا قرب من تلك القرى يموت ساعة ما يقاربها، فتحاماها الناس، وبقيت إبلهم وأغنامهم لا مانع لها، وأما القريتان الأخريان فلم يمت فيهما أحد، ولا أحسوا بشيء مما كان فيه أولئك.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة
ذكر ملك خوارزم شاه
ما كان أخذه الغورية من بلادهقد ذكرنا في سنة سبع وتسعين ملك غياث الدين وأخيه شهاب الدين ما كان لخوارزم شاه محمد بن تكش بخراسان ومرو ونيسابور وغيرها، وعودهما عنها بعد أن أقطعا البلاد، ومسير شهاب الدين إلى الهند، فلما اتصل بخوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش عود العساكر الغورية عن خراسان، ودخول شهاب الدين الهند، أرسل إلى غياث الدين يعاتبه، ويقول: كنت أعتقد أن تخلف علي بعد أبي، وأن تنصرني على الخطا، وتردهم عن بلادي، فحيث لم تفعل فلا أقل من أن لا تؤذيني وتأخذ بلادي، والذي أريده أن تعيد ما أخذته مني إلي، وإلا استنصرت عليك بالخطا وغيرهم من الأتراك، إن عجزت عن أخذ بلادي، فإنني إنما شغلني عن منعكم عنها الاشتغال بعزاء والدي وتقرير أمر بلادي، وإلا فما أنا عاجز عنكم وعن أخذ بلادكم بخراسان وغيرها؛ فغالطه غياث الدين في الجواب لتميد الأيام بالمراسلات، ويخرج أخوه شهاب الدين من الهند بالعساكر، فإن غياث الدين كان عاجزاً باستيلاء النقرس عليه.
فلما وقف خوارزم شاه على رسالة غياث الدين أرسل إلى علاء الدين الغوري، نائب غياث الدين بخراسان، يأمره بالرحيل عن نيسابور، ويتهدده إن لم يفعل، فكتب علاء الدين إلى غياث الدين بذلك، ويعرفه ميل أهل البلد إلى الخوارزميين، فأعاد غياث الدين جوابه يقوي قلبه، ويعده النصرة والمنع عنه.
وجمع خوارزم شاه عساكره وسار عن خوارزم نصف ذي الحجة سنة سبع وتسعين وخمسمائة، فلا قارب نسا وأبيورد هرب هندوخان ابن أخي ملكشاه من مرو إلى غياث الدين بفيروزكوه، وملك خوارزم شاه مدينة مرو، وسار إلى نيسابور وبها علاء الدين، فحصره، وقاتله قتالاً شديداً، وطال مقامه عليها، وراسله غير مرة في تسليم البلد إليه، وهو لا يجيب إلى ذلك انتظاراً للمدد من غياث الدين، فبقي نحو شهرين، فلما أبطأ عنه النجدة أرسل إلى خوارزم شاه يطلب الأمان لنفسه ولمن معه من الغورية، وأنه لا يتعرض إليهم بحبس ولا غيره من الأذى، فأجابه إلى ذلك، وحلف لهم، وخرجوا من البلد وأحسن خوارزم شاه إليهم، ووصلهم بمال جليل وهدايا كثيرة، وطلب من علاء الدين أن يسعى في الصلح بينه وبين غياث الدين وأخيه، فأجابه إلى ذلك.
وسار إلى هراة، ومنها إلى إقطاعه، ولم يمض إلى غياث الدين تجنياً عليه لتأخر أمداده، ولما خرج الغورية من نيسابور أحسن خوارزم شاه إلى الحسين ابن خرميل، وهو من أعيان أمرائهم، زيادة على غيره، وبالغ في إكرامه، فقيل إنه من ذلك اليوم استحلفه لنفسه، وأن يكون معه بعد غياث الدين وأخيه شهاب الدين.
ثم سار خوارزم شاه إلى سرخس، وبها الأمير زنكي، فحصره أربعين يوماً، وجرى بين الفريقين حروب كثيرة، فضاقت الميرة على أهل البلد، لا سيما الحطب، فأرسل زنكي إلى خوارزم شاه يطلب منه أن يتأخر عن باب البلد حتى يخرج هو وأصحابه ويترك البلد له، فراسله خوارزم شاه في الاجتماع به ليحسن إليه وإلى من معه، فلم يجبه إلى ذلك، واحتج بقرب نسبه من غياث الدين، فأبعد خوارزم شاه عن باب البلد بعساكره، فخرج زنكي فأخذ من الغلات وغيرها التي في المعسكر ما أراد لا سيما من الحطب، وعاد إلى البلد وأخرج منه من كان قد ضاق به الأمر، وكتب إلى خوارزم شاه: العود أحمد؛ فندم حيث لم ينفعه الندم؛ ورحل عن البلد، وترك عليه جماعة من الأمراء يحصرونه.
فلما أبعد خوارزم شاه سار محمد بن جربك من الطالقان، وهو من أمراء الغورية، وأرسل إلى زنكي أمير سرخس يعرفه أنه يريد أن يكبس الخوارزميين لئلا ينزعج إذا سمع الغلبة، وسمع الخوارزميون الخبر، ففارقوا سرخس، وخرج زنكي ولقي محمد بن جربك وعسكر في مرو الروذ، وأخذ خراجها وما يجاورها، فسير إليهم خوارزم شاه عسكراً مع خاله، فلقيهم محمد بم جربك وقاتلهم، وحمل بلت في يده على صاحب علم الخوارزمية فضربه فقتله، وألقى علمهم، وكسر كوساتهم، فانقطع صوتها عن العسكر، ولم يروا أعلامهم، فانزموا، وركبهم الغورية قتلاً وأسراً نحو فرسخين فكانوا ثلاثة آلاف فارس وابن جربك في تسع مائة فارس، وغنم جميع معسكرهم؛ فلما سمع خوارزم شاه ذلك عاد إلى خوارزم، وأرسل إلى غياث الدين في الصلح، فأجابه عن رسالته مع أمير كبير من الغورية يقال له الحسين بن محمد المرغني، ومرغن من قرى الغور، فقبض عليه خوارزم شاه.
ذكر حصر خوارزم شاه هراة
وعوده عنهالما أرسل خوارزم شاه إلى غياث الدين في الصلح، وأجابه عن رسالته مع الحسين المرغني مغالطاً، قبض خوارزم شاه على الحسين، وسار إلى هراة ليحاصرها، فكتب الحسين إلى أخيه عمر بن محمد المرغني، أمير هراة، يخبره بذلك، فاستعد للحصار.
وكان سبب قصد خوارزم شاه حصار هراة أن رجلين أخوين، ممن كان يخدم محمداً سلطان شاه، اتصلا بغياث الدين، بعد وفاة سلطان شاه، فأكرمهما غياث الدين، وأحسن إليهما، يقال لأحدهما الأمير الحاجي، فكاتبا خوارزم شاه، وأطمعاه في البلد، وضمنا له تسليمه إليه، فسار لذلك، ونازل المدينة وحصرها، فسلم الأمر عمر المرغني، أمير البلد، مفتاح الأبواب إليهما، وجعلهما على القتال ثقة منه بهما، وظنا منه أنهما عدواً خوارزم شاه تكش وابنه محمد بعده، فاتفق أن بعض الخوارزمية أخبر الحسين المرغني المأسور عند خوارزم شاه بحال الرجلين، وأنهما هما اللذان يدبران خوارزم شاه ويأمرانه بما يفعل، فلم يصدقه، وأتاه بخط الأمير الحاجي، فأخذه وأرسله إلى أخيه عمر أمير هراة، فأخذهما واعتقلهما وأخذ أصحابهما.
ثم إن ألب غازي، وهو ابن أخت غياث الدين، جاء في عسكر من الغورية، فنزل على خمسة فراسخ من هراة، فكان يمنع الميرة عن عسكر خوارزم شاه؛ ثم إن خوارزم شاه سير عسكراً إلى أعمال الطالقان للغارة عليها، فلقيهم الحسن بن خرميل فقاتلهم، فظفر بهم فلم يفلت منهم أحد.
وسار غياث الدين عن فيروزكوه إلى هراة في عسكره، فنزل برباط رزين بالقرب من هراة، ولم يقدم على خوارزم شاه لقلة عسكره لان أكثر عساكره كانت مع أخيه بالهند وغزنة، فأقام خوارزم شاه على هراة أربعين يوماً، وعزم على الرحيل لأنه بلغه انهزام أصحابه بالطالقان وقرب غياث الدين، وكذلك أيضاً قرب ألب غازي؛ وسمع أيضاً أن شهاب الدين قد خرج من الهند إلى غزنة، وكان وصوله إليها في رجب من هذه السنة، فخاف أن يصل بعساكره فلا يمكنه المقام على البلد، فأرسل إلى أمير هراة عمر المرغني في الصلح فصالحه على مال حمله إليه وارتحل عن البلد.
وأما شهاب الدين، فإنه لما وصل إلى غزنة بلغه الخبر بما فعله خوارزم شاه بخراسان وملكه لها، فسار إلى خراسان، فوصل إلى بلخ ومنها إلى باميان ثم إلى مرو، عازماً على حرب خوارزم شاه، وكان نازلاً هناك، فالتقت أوائل عسكريهما، واقتتلوا، فقتل من الفريقين خلق كثير، ثم إن خوارزم شاه ارتحل عن مكانه شبه المنهزم، وقطع القناطر، وقتل الأمير سنجر، صاحب نيسابور، لأنه اتهمه بالمخامرة عليه، وتوجه شهاب الدين إلى طوس فأقام بها تلك الشتوة على عزم المسير إلى خوارزم ليحصرها، فأتاه الخبر بوفاة أخيه غياث الدين، فقصد هراة وترك ذلك العزم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة درس مجد الدين أبو علي يحيى بن الربيع، الفقيه الشافعي، بالنظامية ببغداد في ربيع الأول.
وفيها توفيت بنفشة جارية الخليفة المستضيء، بأمر الله، وكان كثير الميل إليها، والمحبة لها، وكانت كثير المعروف والإحسان والصدقة.
وفيها أيضاً توفي الخطيب عبد الملك بن زيد الدولعي، خطيب دمشق، وكان فقيهاً شافعياً، هو من الدولعية قرية من أعمال الموصل.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وخمسمائة
ذكر حصر عسكر العادل ماردين
وصلحه مع صاحبهافي هذه السنة، في المحرم، سير الملك العادل أبو بكر بن أيوب، صاحب دمشق ومصر، عسكراً مع ولده الملك الأشرف موسى إلى ماردين، فحصروها، وشحنوا على أعمالها، وانضاف إليه عسكر الموصل وسنجار وغيرهما، ونزلوا بخرزم تحت ماردين، ونزل عسكر من قلعة البارعية، وهي لصاحب ماردين، يقطعون الميرة عن العسكر العادلي، فسار إليهم طائفة من العسكر العادلي، فاقتتلوا، فانهزم عسكر البارعية.
وثار التركمان وقطعوا الطريق في تلك الناحية، وأكثروا الفساد، فتعذر سلوك الطريق إلى لجماعة من أرباب السلاح، فسار طائفة من العسكر العادلي إلى رأس عين لإصلاح الطرق، وكف عادية الفساد، وأقام ولد العادل، ولم يحصل له غرض، فدخل الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف، صاحب حلب، في الصلح بينهم، وأرسل إلى عمه العادل ي ذلك، فأجاب إليه على قاعدة أن يحمل هل صاحب ماردين مائة وخمسين ألف دينار، فجاء صرف الدينار أحد عشر قيراطاً من أميري، ويخطب له ببلاده، ويضرب اسمه على السكة، ويكون عسكره في خدمته أي وقت طلبه، وأخذ الظاهر عشرين ألف دينار من النقد المذكور، وقرية القرادي من أعمال شيختان، فرحل ولد العادل عن ماردين.
ذكر وفاة غياث الدين ملك الغور
وشيء من سيرتهفي هذه السنة، في جمادى الأولى، توفي غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام الغوري، صاحب غزنة وبعض خراسان وغيرها، وأخفيت وفاته، وكان أخوه شهاب الدين بطوس، عازماً على قصد خوارزم شاه، فأتاه الخبر بوفاة أخيه، فسار إلى هراة، فلما وصل إليها جلس للعزاء بأخيه في رجب، وأظهرت وفاته حينئذ.
وخلف غياث الدين من الولد ابناً اسمه محمود، لقب بعد موت أبيه غياث الدين، وسنورد من أخباره كثيراً.
ولا سار شهاب الدين من طوس استخلف بمرو الأمير محمد بن جربك، فسار إليه جماعة من الأمراء الخوارزمية، فخرج إليهم محمد ليلاً، وبيتهم، فمل ينج منهم إلا القليل، وأنفذ الأسرى والرؤوس إلى هراة، فأمر شهاب الدين بالاستعداد لقصد خوارزم على طريق الرمل، وجهز خوارزم شاه جيشاً وسيرهم مع بوفور التركي إلى قتال محمد بن جربك، فسمع بهم، فخرج إليهم، ولقيهم على عشرة فراسخ من مرو، فاقتتلوا قتالاً شديداً، قتل بين الفريقين خلق كثير، وانهزم الغورية ودخل محمد بن جربك مرو في عشرة فرسان، وجاء الخوارزميون فحصروه خمسة عشر يوماً، فضعف عن الحفظ، فأرسل في طلب الأمان، فحلفوا له إن خرج إليهم على حكمهم أنهم لا يقتلونه، فخرج إليهم، فقتلوه، وأخذوا كل ما معه.
وسمع شهاب الدين الخبر فعظم عليه، وتردد الرسل بينه وبين خوارزم شاه، فلم يستقر الصلح، وأراد العود إلى غزنة، فاستعمل على هراة ابن أخيه ألب غازي، وفك الملك علاء الدين محمد بن أبي علي الغوري على مدينة فيروزكوه، وجعل إليه حرب خراسان وأمر كل ما يتعلق بالملكة، وأتاه محمود ابن أخيه غياث الدين، فولاه مدينة بست واسفرار، وتلك الناحية، وجعله بمعزل من الملك جميعه، ولم يحسن الخلافة عليه بعد أبيه، ولا على غيره من أهله، فمن جملة فعله أن غياث الدين كانت له زوجة كانت مغنية، فهويها وتزوجها، فلا مات غياث الدين قبض عليها وضربها ضرباً مبرحاً، وضرب ولدها غياث الدين، وزوج أختها، وأخذ أموالهم وأملاكهم وسيرهم إلى بلد الهند، فكانوا في أقبح صورة؛ وكانت قد بنت مدرسة، ودفنت فيها أباها وأمها وأخاها، فهدمها، ونبش قبور الموتى، ورمى بعظامهم منها.
وأما سيرة غياث الدين وأخلاقه، فإنه كان مظفراً منصوراً في حروبه، لم تنهزم له راية قط، وكان قليل المباشرة للحروب، وإنما كان له دهاء ومكر، وكان جواداً، حسن الاعتقاد، كثير الصدقات والوقوف بخراسان، بنى المساجد والمدارس بخراسان لأصحاب الشافعي، وبنى الخانكاهات في الطرق، وأسقط المكوس، ولم يتعرض على مال أحد من الناس، ومن مات ببلده يسلم ماله إلى أهل بلده من التجار، فإن لم يجد أحداً، يسلمه إلى القاضي، ويختم عليه إلى أن يصل من يأخذه بمقتضى الشرع.
وكان إذا وصل إلى بلد عم إحسانه أهله والفقهاء وأهل الفضل، يخلع عليهم، ويفرض لهم الأعطيات كل سنة من خزانته، ويفرق الأموال في الفقراء، وكان يراعي كل من وصل إلى حضرته من العلويين والشعراء وغيرهم، وكان فيه فضل غزير، وأدب مع حسن خط وبلاغة، وكان رحمه الله، ينسخ المصاحف بخطه ويقفها في المدارس التي بناها، ولم يظهر منه تعصب على مذهب، ويقول: التعصب في المذاهب من الملك قبيح؛ إلا أنه كان شافعي المذهب، فهو يميل إلى الشافعية من غير أن يطمعهم في غيرهم، ولا أعطاهم ما ليس لهم.
ذكر أخذ الظاهر قلعة نجم من الأفضلفي هذه السنة أخذ الظاهر غازي قلعة نجم من أخيه الأفضل، وكانت في جملة ما أخذ من العادل ملا صالحه سنة سبع وتسعين، فلما كان هذه السنة أخذ العادل من الأفضل سروج وحملين ورأس عين، وبقي بيد سمساط، وقلعة نجم، فأرسل الظاهر إليه يطلب منه قلعة نجم، وضمن له أنه يشفع إلى عمه العادل في إعادة ما أخذ منه، فلم يعطه، فتهدده بأن يكون إلباً عليه؛ ولم تزل الرسل تتردد حتى سلمها إليه في شعبان، وطلب منه أن يعوضه قرى أو مالاً، فلم يفعل، وكان هذا من أقبح ما سمع عن ملك يزاحم أخاه في مثل قلعة نجم مع خستها وحقارتها، وكثرة بلاده وعدمها لأخيه.
وأما العادل، فإنه لما أخذ سروج ورأس عين من الأفضل أرسل والدته إليه لتسأل في رجهما، فلم يشفعها، وردها خائبة، ولقد عوقب البيت الصلاحي بما فعله أبوهم مع البيت الأتابكي، فإنه لما قصد حصار الموصل سنة ثمانين وخمسمائة أرسل صاحب الموصل والدته وابنة عمه نور الدين إليه يسألانه أن يعود، فلم يشفعهما، فجرى لأولاده هذا، وردت زوجته خائبة، كما فعل.
ولما رأى الأفضل عمه وأخاه قد أخذا ما كان بيده أرسل إلى ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان، صاحب ملطية وقونية، وما بينهما من البلاد، يبذل له الطاعة، وأن يكون في خدمته، ويخطب له ببلده، ويضرب السكة باسمه، فأجابه ركن الدين إلى ذلك، وأرسل له خلعة فلبسها الأفضل، وخطب له بسميساط في سنة ستمائة وصار في جملته.
ذكر ملك الكرج مدينة دوين
في هذه السنة استولى الكرج على مدينة دوي، من أذربيجان، ونهبوها، واستباحوها، وأكثروا القتل في أهلها؛ وكانت هي وجميع بلاد أذربيجان للأمير أبي بكر بن البهلوان، وكان على عادته مشغولاً بالشرب ليلاً نهاراً، لا يفيق، ولا يصحو، ولا ينظر في أمر مملكته ورعيته وجنده، قد ألقى الجميع عن قلبه، وسلك طريق من ليس له علاقة؛ وكان أهل تلك البلاد قد أكثرت الاستغاثة به، وإعلامه بقصد الكرج بلادهم بالغارة مرة بعد أخرى، فكأنهم ينادون صخرة صماء؛ فلما حصر الكرج، هذه السنة، مدينة دوين، سار منهم جماعة يستغيثون، فلم يغثهم وخوفه جماعة من أمرائه عاقبة إهماله وتوانيه وإصراره على ما هو فيه فلم يصغ إليهم؛ فلما طال الأمر على أهلها ضعفوا، وعجزوا، وأخذهم الكرج عنوة بالسيف، وفعلوا ما ذكرنا.
ثم إن الكرج بعد أن استقر أمرهم بها أحسنوا إلى من بقي من أهلها، فالله تعالى ينظر إلى المسلمين، ويسهل لثغورهم من يحفظها ويحميها، فإنها مستباحة، لا سيما هذه الناحية، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فلقد بلغنا من فعل الكرج بأهل دوين من القتل والسبي والأمر ما تقشعر منه الجلود.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أحضر الملك العادل محمداً ولد العزيز صاحب مصر إلى الرها، وسبب ذلك أنه لما قطع خطبته من مصر سنة ست وتسعين، كما ذكرناه، خاف شيعة أبيه أن يجتمعوا عليه، ويصير له معهم فتنة، فأخرجه سنة ثمان وتسعين إلى دمشق، ثم نقله هذه السنة إلى الرها، فأقام بها ومعه جميع إخوته وأخواته ووالدته ومن يخصه.
وفيها، في رجب، توفي الشيخ وجيه الدين محمد بن محمود المروروذي، الفقيه الشافعي، وهذا الذي كان السبب في أن صار وحيد الدين شافعياً.
وفي ربيع الأول منها توفي أبو الفتوح عبيد الله بن أبي المعمر الفقيه الشافعي المعروف بالمستملي ببغداد، وله خط حسن.
وفي ربيع الآخر توفيت زمرد خاتون أم الخليفة الناصر لدين الله، وأخرجت جنازتها ظاهرة، وصلى الخلق الكثير عليها، ودفنت في التربة التي بنتها لنفسها، وكانت كثيرة المعروف.
ثم دخلت سنة ستمائة
ذكر حصار خوارزم شاه هراة ثانيةفي هذه السنة، أول رجب، وصل خوارزم شاه محمد إلى مدينة هراة، فحصرها، وبها ألب غازي ابن أخت شهاب الدين الغوري ملك غزنة، بعد مراسلات جرت بينه وبين شهاب الدين في الصلح، فلم يتم. وكان شهاب الدين قد سار عن غزنة إلى لهاوور عازماً على غزو الهند، فأقام خوارزم شاه على حصار هراة إلى سلخ شعبان.
وكان القتال دائماً، والقتل بين الفريقين كثيراً، وممن قتل رئيس خراسان، وكان كير القدر يقيم بمشهد طوس؛ وكان الحسين بن خرميل بكرزيان، وهي إقطاعة، فأرسل إلى خوارزم شاه يقول له: أرسل إلي عسكراً لنسلم إليهم الفيلة وخزانة شهاب الدين؛ فأرسل إليه ألف فارس من أعيان عسكره إلى كرزيان، فخرج عليه هو والحسين بن محمد المرغني، فقتلوهم إلا القليل، فبلغ الخبر إلى خوارزم شاه، فسقط في يده وندم على إنفاذ العسكر، وأرسل إلى ألب غازي يطلب منه أن يخرج إليه من البلد ويخدمه خدمة سلطانية ليرحل عنه، فلم يجبه إلى ذلك، فاتفق أن ألب غازي مرض واشتد مرضه، فخاف أن يشتغل بمرضه فيملك خوارزم شاه البلد، فأجاب إلى ما طلب منه، واستحلفه على الصلح، وأهدى له هدية جليلة، وخرج من البلد ليخدمه، فسقط إلى الأرض ميتاً، ولم يشعر أحد بذلك، وارتحل خوارزم شاه عن البلد وأحرق المجانيق وسار إلى سرخس فأقام بها.
ذكر عود شهاب الدين من الهند
وحصره خوارزم وانهزامه من الخطافي هذه السنة، في رمضان، عاد شهاب الدين الغوري إلى خراسان من قصد الهند، وسبب ذلك أنه بلغه حصر خوارزم شاه هراة، وموت ألب غازي نائبه بها، فعاد حنقاً على خوارزم شاه، فلما بلغ ميمند عدل على طريق أخرى قاصداً إلى خوارزم، فأرسل إليه خوارزم شاه يقول له: ارجع إلي لأحاربك، وإلا سرت إلى هراة، ومنها إلى غزنة.
وكان خوارزم شاه قد سار من سرخس إلى مرو، فأقام بظاهرها، فأعاد إليه شهاب الدين جوابه: لعلك تنهزم كما فعلت تلك الدفعة، لكن خوارزم تجمعنا؛ ففرق خوارزم شاه عساكره، وأحرق ما جمعه من العلف، ورحل يسابق شهاب الدين إلى خوارزم، فسبقه إليها، فقطع الطريق، وأجرى المياه فيها، فتعذر على شهاب الدين سلوكها، وأقام أربعين يوماً يصلحها حتى أمكنه الوصول إلى خوارزم، والتقى العسكران بسوقرا، ومعناه الماء الأسود، فجرى بينهم قتال شديد كثير القتلى فيه بين الفريقين، وممن قتل من الغورية الحسني المرغني وغيره، وأسر جماعة من الخوارزمية، فأمر شهاب الدين بقتلهم فقتلوا.
وأرسل خوارزم شاه إلى الأتراك الخطا يستنجدهم، وهم حينئذ أصحاب ما وراء النهر، فاستعدوا، وساروا إلى بلاد الغورية، فلما بلغ شهاب الدين ذلك عاد من خوارزم، فلقي أوائلهم في صحراء أندخوي أول صفر سنة إحدى وستمائة، فقتل فيهم وأسر كثيراً، فلما كان اليوم الثاني دهمه من الخطا ما لا طاقة له بهمم، فانهزم المسلمون هزيمة قبيحة، وكان أول من انهزم الحسين بن خرميل صاب طالقان وتبعه الناس وبقي شهاب الدين في نفر يسير، وقتل بيده أربعة أفيال لأنها أعيت، وأخذ الكفار فيلين، ودخل شهاب الدين أندخوي فيمن معه، وحصره الكفار، ثم صالحوه على أن يعطيهم فيلاً آخر، ففعل، وخلص.
ووقع الخبر في جميع بلاده بأنه قد عدم، وكثرت الأراجيف بذلك، ثم وصل إلى الطالقان في سبعة نفر، وقد قتل أكثر عسكره، ونهبت خزائنه جميعها، فلم يبق منها شيء، فأخرج له الحسين بن خرميل، صاحب الطالقان، خياماً وجميع ما يحتاج إليه، وسار إلى غزنة، وأخذ معه الحسين بن خرميل، لأنه قيل له عنه إنه شديد الخوف لانهزامه، وإنه قال: إذا سار السلطان هربت إلى خوارزم شاه؛ فأخذه معه، وجعله أمير حاجب.
ولما وقع الخبر بقتله جمع تاج الدين الدز، وهو مملوك اشتراه شهاب الدين، أصحابه وقصد قلعة غزنة ليصعد إليها، فمنعه مستحفظها، فعاد إلى داره فأقام بها، وأفسد الخلج وسائر المفسدين في البلاد، وقطعوا الطرق، وقتلوا كثيراً، فلما عاد شهاب الدين إلى غزنة بلغه ما فعله الدز، فأراد قتله، فشفع فيه سائر المماليك، فأطلقه، ثم اعتذر، وسار شهاب الدين في البلاد، فقتل من المفسدين من تلك الأمم نفراً كثيراً.
وكان له أيضاً مملوك آخر اسمه أيبك بال تر، فسلم من المعركة، ولحق بالهند، ودخل المولتان، وقتل نائب السلطان بها، وملك البلد، وأخذ الأموال السلطانية، وأساء السيرة في الرعية، وأخذ أموالهم، وقال: قتل السلطان، وأنا السلطان؛ وكان يحمله على ذلك، ويحسنه له إنسان اسمه عمر ابن يزان، وكان زنديقاً، ففعل ما أمره، وجمع المفسدين، وأخذ الأموال، فأخاف الطريق، فبلغ خبره إلى شهاب الدين فسار إلى الهند، وأرسل إليه عسكراً، فأخذوه ومعه عمر بن يزان فقتلهما أقبح قتلة، وقتل من وافقهما، في جمادى الآخرة من سنة إحدى وستمائة؛ ولما رآهم قتلى قرأ: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا) الآية المائدة: 33، وأمر شاب الدين فنودي في جميع بلاده بالتجهز لقتال الخطا وعزوهم والأخذ بثأرهم.
وقيل: كان سبب انهزامه أنه لما عاد إلى الخطا من خوارزم فرق عسكره في المفازة التي في طريقه لقلة الماء، وكان الخطا قد نزلوا على طريق المفازة، فكلما خرج من أصحابه طائفة فتكوا فيهم بالقتل والأسر، ومن سلم من عسكره انهزم نحو البلاد، ولم يرجع إليه أحد يعلم الحال، وجاء شهاب الدين في ساقة العسكر في عشرين ألف فارس ولم يعلم الحال، فلما خرج من البرية لقيه الخطا مستريحين، وهو ومن معه قد تعبوا وأعيوا، وكان الخطا أضعاف أصحابه، فقاتلهم عامة نهاره، وحمى نفسه منهم، وحصروه في أندخوي، فجرى بينهم في عدة أيام أربعة عشر مصافاً منها مصاف واحد كان من العصر إلى الغد بكرة، ثم إنه بعد ذلك سير طائفة من عسكره ليلاً سراً، وأمرهم أن يرجعوا إليه بكرة كأنهم قد أتوه مدداً من بلاده، فلما فعلوا ذلك خافه الخطا، وقال لهم صاحب سمرقند، وكان مسلماً، وهو في طاعة الخطا، وقد خاف على الإسلام والمسلمين إن هم ظفروا بشهاب الدين، فقال لهم: إن هذا الرجل لا تجدونه قط أضعف منه لما خرج من المفازة، ومع ضعفه وتعبه وقلة من معه لم نظفر به، والأمداد أتته، وكأنكم بعساكره وقد أقبلت من كل طريق، وحينئذ نطلب الخلاص منه فلا نقدر عليه، والرأي لنا الصلح معه، فأجابوا إلى ذلك، فأرسلوا إليه في الصلح.
وكان صاحب سمرقند قد أرسل إليه وعرفه الحال سراً، وأمره بإظهار الامتناع من الصلح أولاً والإجابة إليه أخيراً؛ فلما أتته الرسل امتنع، وأظهر القوة بانتظار الأمداد، وطال الكلام، فاصطلحوا على أن الخطا لا يعبرون النهر إلى بلاده، ولا هو يعبره إلى بلادهم، ورجعوا عنه، وخلص هو وعاد إلى بلاده، والباقي نحو ما تقدم.
ذكر قتل طائفة من الإسماعيلية بخراسانفي هذه السنة وصل رسول إلى شهاب الدين الغوري من عند مقدم الإسماعيلية بخراسان برسالة أنكرها، فأمر علاء الدين محمد بن أبي علي متولي بلاد الغور بالمسير في عساكر إليهم ومحاصرة بلادهم، فسار في عساكر كثيرة إلى قهستان، وسمع به صاحب زوزن، فقصده وصار معه وفارق خدمة خوارزم شاه، ونزل علاء الدين على مدينة قاين، وهي للإسماعيلية، وحصرها، وضيق على أهلها، ووصل خبر قتل شهاب الدين، على ما نذكره، فصالح أهلها على ستين ألف دينار ركنية، ورحل عنهم، وقصد حصن كاخك فأخذه وقتل المقاتلة، وسبى الذرية، ورحل إلى هراة ومنها إلى فيروزكوه.
ذكر ملك القسطنطينية من الرومفي هذه السنة، في شعبان ملك الفرنج مدينة القسطنطينية من الروم، وأزالوا ملك الروم عنها، وكان سبب ذلك أن ملك الروم بها تزوج أخت ملك إفرنسيس، وهو من أكبر ملوك الفرنج، فرزق منها ولداً ذكراً، ثم وثب على الملك أخ له، فقبض عيه، وملك البلد منه، وسمل عينيه، وسجنه، فهرب ولده ومضى إلى خاله مستنصراً به عل عمه. فاتفق ذلك وقد اجتمع كثير من الفرنج ليخرجوا إلى بلاد الشام لاستنقاذ البيت المقدس من المسلمين، فأخذوا ولد الملك معهم، وجعلوا طريقهم على القسطنطينية قصداً لإصلاح الحال بينه وبين عمه، ولم يكن له طمع في سوى ذلك، فلما وصلوا خرج عمه في عساكر الروم محارباً لهم، فوقع القتال بينهم في رجب سنة تسع وتسعين وخمسمائة، فانهزمت الروم، ودخلوا البلد، فدخله الفرنج معهم، فهرب ملك الروم إلى أطراف البلاد، وقيل إن ملك الروم لم يقاتل الفرنج بظاهر البلد، وإنما حصروه فيها.
وكان بالقسطنطينية من الروم من يريد الصبي، فألقوا النار في البلد، فاشتغل الناس بذلك، ففتحوا باباً من أبواب المدينة، فدخلها الفرنج، وخرج ملكها هارباً، وجعل الفرنج الملك في ذلك الصبي، وليس له من الحكم شي، وأخرجوا أباه من السجن، إنما الفرنج هم الحكام في البلد، فثقلوا الوطأة على أهله، وطلبوا منهم أموالاً عجزوا عنها، وأخذوا أموال البيع وما فيها من ذهب ونقرة وغير ذلك حتى ما على الصلبان، وما هو عل صورة المسيح، عليه السلام، والحواريين، وما على الأناجيل من ذلك أيضاً، فعظم ذلك على الروم، وحملوا منه خطباً عظيماً، فعمدوا إلى ذلك الصبي الملك فقتلوه، وأخرجوا الفرنج من البلد، وأغلقوا الأبواب، وكان ذلك في جمادى الأولى سنة ستمائة، فأقام الفرنج بظاهره محاصرين للروم، وقاتلوهم، ولازموا قتالهم ليلاً ونهاراً، وكان الروم قد ضعفوا ضعفاً كثيراً، فأرسلوا إلى السلطان ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان، صاحب قونية وغيرها من البلاد، يستنجدونه، فلم يجد إلى ذلك سبيلاً.
وكان بالمدينة كثير من الفرنج، مقيمين، يقاربون ثلاثين ألفاً، ولعظم البلد لا يظهر أمرهم، فتواضعوا هم والفرنج الذين بظاهر البلد، ووثبوا فيه، وألقوا النار مرة ثانية، فاحترق نحو ربع البلد، وفتحوا الأبواب فدخلوها ووضعوا السيف ثلاثة أيام، وفتكوا بالروم قتلاً ونهباً، فأصبح الروم كلهم ما بين قتيل أو فقير لا يملك شيئاً، ودخل جماعة من أعيان الروم الكنيسة العظمة التي تدعى صوفيا، فجاء الفرنج إليها، فخرج إليهم جماعة من القسيسين والأساقفة والرهبان، بأيديهم الإنجيل والصليب يتوسلون بهما إلى الفرنج ليبقوا عليهم، فلم يلتفتوا إليهم، وقتلوهم أجمعين ونهبوا الكنيسة.
وكانوا ثلاثة ملوك: دوقس البنادقة، وهو صاحب المراكب البحرية، وفي مراكبه ركبوا إلى القسطنطينية، وهو شيخ أعمى، إذا ركب تقاد فرسه؛ والأخر يقال له المركيس، وهو مقدم الإفرنسيس، والآخر يقال له كند أفلند، وهو أكثرهم عدداً، فلما استولوا على القسطنطينية اقترعوا على الملك، فخرجت القرعة على كند أفلند، فأعادوا القرعة ثانية وثالثة، فخرجت ليه، فملكوه، والله يؤتي ملكه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، فلما خرجت القرعة عليه ملكوه عليها وعلى ما يجاورها، وتكون لدوقس البنادقة الجزائر البحرية مثل جزيرة إقريطش وجزيرة رودس وغيرهما، ويكون لمركيس الإفرنسيس البلاد التي هي شرقي الخليج مثل أزنيق ولاذيق، فلم يحصل لأحد منهم شيء غير الذي أخذ القسطنطينية، وأما الباقي فلم يسلم من به من الروم، وأما البلاد التي كانت لملك القسطنطينية، شرقي الخليج، المجاورة لبلاد ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان، ومن جملتها أزنيق ولاذيق، فإنها تغلب عليها بطريق كبير من بطارقة الروم، اسمه لشكري، وهي بيده إلى الآن.
ذكر انهزام نور الدين صاحب الموصل
من العساكر العادليةفي هذه السنة، في العشرين من شوال، انهزم نور الدين أرسلان شاه، صاحب الموصل، من العساكر العادلية، وسبب ذلك أن نور الدين كان بينه وبين عمه قطب الدين محمد بن زنكي، صاحب سنجار، وحشة مستحكمة أولاً ثم اتفقا، وسار معه إلى ميافارقين سنة خمس وتسعين، وقد ذكرناه، فلما كان الآن أرسل الملك العادل أبو بكر بن أيوب، صاحب مصر ودمشق وبلاد الجزيرة، إلى قطب الدين، واستماله، فمال إليه، وخطب له، فلما سمع نور الدين ذلك سار إلى مدينة نصيبين، وسلخ شعبان، وهي لقطب الدين، فحصرها، وملك المدينة، وبقيت القلعة فحصرها عدة أيام، فبينما هو يحاصرها وقد أشرف على أن يتسلمها أتاه الخبر أن مظفر الدين دوكبري بن زين الدين علي، صاحب إربل، قد قصد أعمال الموصل، فنهب نينوى، وأحرق غلاتها، فلما بلغه ذلك من نائبه المراتب بالموصل يحفظها، سار عن نصيبين إلى الموصل على عزم العبور إلى بلد إربل ونهبه جزاء بما فعل صاحبها ببلده، فوصل إلى مدينة بلد، وعاد مظفر الدين إلى بلده، وتحقق نور الدين أن الذي قيل له وقع فيه زيادة، فسار إلى تل أعفر من بلد وحصرها، وأخذها ورتب أمورها، وأقام عليها سبعة عشر يوماً.
وكان الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل بن أيوب قد سار من مدينة حران إلى رأس عين نجدة لقطب الدين، صاح بسنجار ونصيبين، وقد اتفق هو ومظفر الدين، صاح إربل، وصاحب الحصن وآمد، وصاحب جزيرة ابن عمر، وغيرهم، على ذلك، وعلى منع نور الدين من أخذ شيء من بلاده، وكلهم خائفون منه، ولم يمكنهم الاجتماع وهو على نصيبين، فلما فارقها نور الدين سار الأشرف إليها، وأتاه صاحب الحصن، وصاحب الجزيرة، وصاحب دارا، وساروا عن نصيبين نحو بلد البقعا قريباً من بوشرى، وسار نور الدين من تل أعفر إلى كفر زمار، وعزم على المطاولة ليتفرقوا، فأتاه كتاب من بعض مماليكه، يسمى جرديك، وقد أرسله يتجسس أخبارهم، فيقللهم في عينه، ويطمعه فيهم، ويقول: إن أذنت لي لقيتهم بمفردي؛ فسار حينئذ نور الدين إلى بوشرى فوصل إليها من الغد الظهر وقد تعبت دوابه وأصحابه، ولقوا شدة من الحر، فنزل بالقرب منهم أقل من ساعة.
وأتاه الخبر أن عساكر الخصم قد ركبوا، فركب هو وأصحابه وساروا نحوهم، فلم يروا لهم أثراً، فعاد إلى خيامه، ونزل هو وعساكره، وتفرق كثير منهم في القرى لتحصيل العلوفات وما يحتاجون إليه، فجاءه من أخبره بحركة الخصم وقصده، فركب نور الدين وعسكره، وتقدموا إليهم، وبينهم نحو فرسخين، فنزلوا وقد ازداد تعبهم، والخصم مستريح، فالتقوا، واقتتلوا، فلم تطل الحرب بينهم حتى انهزم عسكر نور الدين، وانهزم هو أيضاً، وطلب الموصل، فوصل إليها في أربعة أنفس، وتلاحق الناس، وأتى الأشرف ومن معه، فنزلوا في كفر زمار، ونهبوا البلاد نهباً عظيماً، وأهلكوا ما لم يصلح لهم لا سيما مدينة بَلدَ فإنهم أفحشوا في نهبها.
ومن أعجب ما سمعنا أن امرأة كانت تطبخ، فرأت النهب، فألقت سوارين كانا في يديها في النار وهربت، فجاء بعض الجند ونهب ما في البيت، فرأى فيه بيضاً، فأخذه وجعله في النار ليأكله، فحركها، فرأى السوارين فيها فأخذهما.
وطال مقامهم والرسل تتردد في الصلح، فوقف الأمر على إعادة تل أعفر، ويكون الصلح على القاعدة الأولى، وتوقف نور الدين في إعادة تل أعفر، فلما طال الأمر سلمها إليهم، وأصطلحوا أوائل سنة إحدى وستمائة، وتفرقت العساكر من البلاد.
ذكر خروج الفرنج بالشام إلى بلد الإسلام والصلح معهمفي هذه السنة خرج كثير من الفرنج في البحر إلى الشام، وسهل الأمر عليهم بذلك لملكهم قسطنطينية، وأرسلوا بعكا، وعزموا على قصد البيت المقدس، حرسه الله، واستنقاذه من المسلمين، فلما استراحوا بعكا ساروا فنهبوا كثيراً من بلاد الإسلام بنواحي الأردن، وسبوا، وفتكوا في المسلمين.
وكان الملك العادل بدمشق، فأرسل في جمع العساكر من بلاد الشام ومصر، وسار فنزل عند الطور بالقرب من عكا، لمنع الفرنج من قصد بلاد الإسلام، ونزل الفرنج بمرج عكا، وأغاروا على كفركنا، فأخذوا كل من بها وأموالهم، والأمراء يحثون العادل على قصد بلادهم ونهبها، فلم يفعل، فبقوا كذلك إلى أن انقضت السنة، وذلك سنة إحدى وستمائة، فاصطلح هو والفرنج على دمشق وأعمالها، وما بيد العادل من الشام، ونزل لهم عن جميع المناصفات في الصيدا والرملة وغيرهما، وأعطاهم ناصرة وغيرها، وسار نحو الديار المصرية. فقصد الفرنج مدينة حماة، فلقيهم صاحبها ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، فقاتلهم، وكان في قلة، فهزموه وتبعوه إلى البلد، فخرج العامة إلى قتالهم، فقتل الفرنج منهم جماعة وعاد الفرنج.
ذكر قتل كوكجة ببلاد الجبلقد ذكرنا قبل تغلب كوكجة مملوك البهلوان على الري، وهمذان، وبلد الجبل، وبقي إلى الآن، وكان قدج اصطنع مملوكاً آخر للبهلوان، اسمه إيدغمش، وقدمه، وأحسن إليه، ووثق به، فجمع إيدغمش الجموع من المماليك وغيرهم، ثم قصد كوكجة، فتصافا، واقتتل الفريقان، فقتل كوكجة في الحرب، واستولى إيدغمش على البلاد، وأخذ معه أوزبك بن البهلوان، له اسم الملك، وإيدغمش هو المدبر له والقيم بأمر المملكة، وكان شهماً، شجاعاً، ظالماً، وكان كوكجة عادلاً حسن السيرة، رحمه الله.
ذكر وفاة ركن الدين بن قلج أرسلان
وملك ابنه بعده
وفي هذه السنة، سادس ذي القعدة، توفي ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق، صاحب ديار الروم، ما بين ملطية وقونية، وكان موته بمرض القولنج في سبعة أيام، وكان قبل مرضه بخمسة أيام قد غدر بأخيه صاحب أنكورية، وتسمى أيضاً أنقرة، وهي مدين منيعة، وكان مشاقاً لركن الدين، فحصره عدة سنين حتى ضعف وقلت الأقوات عنده، فأذعن بالتسليم على عوض يأخذه، فعوضه قلعة في أطراف بلده وحلف له عليها، فنزل أخوه عن مدينة أنقرة، وسلمها، ومعه ولدان له، فوضع ركن الدين عليه من أخذه، وأخذ أولاده معه، فقتله، فلم يمض غير خمسة أيام حتى أصابه القولنج فمات.
واجتمع الناس على ولده قلج أرسلان، وكان صغيراً، فبقي في الملك إلى بعض سنة إحدى وستمائة، وأخذ منه، على ما نذكره هناك.
وكان ركن الدين شديداً على الأعداء، قيماً بأمر الملك، إلا أن الناس كانوا ينسبونه إلى فساد الاعتقاد؛ كان يقال إنه يعتقد أن مذهبه مذهب الفلاسفة، وكان كل من يرمى بهذا المذهب يأوي إليه، ولهذه الطائفة منه إحسان كثير، إلا أنه كان عاقلاً يحب ستر هذا المذهب لئلا ينفر الناس عنه.
حكي لي أنه كان عنده إنسان، وكان يرمى بالزندقة ومذهب الفلاسفة، وهو قريب منه، فحضر يوماً عنده فقيه، فتناظرا، فأظهر شيئاً من اعتقاد الفلاسفة، فقام الفقيه إليه ولطمه وشتمه بحضرة ركن الدين، وركن الدين ساكت، وخرج الفقيه فقال لكرن الدين: يجري علي مثل هذا في حضرتك ولا تنكره؟ فقال: لو تكلمت لقتلنا جميعاً، ولا يمكن إظهار ما تريده أنت؛ ففارقه.
ذكر قتل الباطنية بواسطفي هذه السنة قتل الباطنية بواسط، وسبب كونهم بها وقتلهم أنه ورد إليها رجل يعرف بالزكم محمد بن طالب بن عصية، وأصله من القارب، من قرى واسط، وكان باطنياً ملحداً، ونزل مجاوراً لدور بني الهروي، وغشيه الناس، وكثر أتباعه.
وكان ممن يغشاه رجل يعرف بحسن الصابوني، فاتفق أنه اجتاز بالسويقة، فكلمه رجل نجار في مذهبهم، فرد عليه الصابوني رداً غليظاً، فقام إليه النجار وقتله، وتسامع الناس بذلك، فوثبوا وقتلوا من وجدوا ممن ينتسب إلى هذا المذهب، وقصدوا دار ابن عصية وقد اجتمع إليه خلق من أصحابه، وأغلقوا الباب، وصعدوا إلى سطحها، ومنعوا الناس عنهم، فصعدوا إليهم من بعض الدور من على السطح، وتحصن من بقي في الدار بإغلاق الأبواب والممارق، فكسروها، ونزلوا فقتلوا من وجدوا في الدار وأحرقوا، وقتل ابن عصية، وفتح الباب، وهرب منهم جماعة فقتلوا؛ وبلغ الخبر إلى بغداد، وانحدر فخر الدين أبو البدر بن أمسينا الواسطي لإصلاح الحال، وتسكين الفتنة.
ذكر استيلاء محمود على مرباط
وغيرها من حضرموتفي هذه السنة استولى إنسان اسمه محمود بن محمد الحميري على مدينة مرباط وظفار وغيرهما من حضرموت، وإن ابتداء أمره أنه له مركب يكريه في البحر للتجار، ثم وزر لصاحب مرباط، وفيه كرم وشجاعة وحسن سيرة، فلما توفي صاحب مرباط ملك المدينة بعده، وأطاعه الناس محبة له لكرمه وسيرته، ودامت أيامه بها؛ فلما كان سنة تسع عشرة وستمائة خرب مرباط وظفار، وبنى مدينة جديدة على ساحل البحر بالقرب من مرباط، وعندها عين عذبة كبيرة أجراها إلى المدينة، وعمل عليها سوراً وخندقاً، وحصنها وسماها الأحمدية، وكان يحب الشعر، ويكثر الجائزة عليه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خرج أسطول من الفرنج إلى الديار المصرية، فنهبوا مدينة فوة، وأقاموا خمسة أيام يسبون وينهبون، وعساكر مصر مقابلهم، بينهم النيل، ليس لهم وصول إليهم لأنهم لم تكن لهم سفن.
وفيها كانت زلزلة عظيمة عمت أكثر البلاد مصر، والشام، والجزيرة، وبلاد الروم، وصقلية، وقبرس، ووصلت إلى الموصل والعراق وغيرهما، وخرب من مدينة صور سورها وأثرت في كثير من الشام.
وفيها، في رجب، اجتمع جماعة من الصوفية برباط شيخ الشيوخ ببغداد وفيهم صوفي اسمه أحمد بن إبراهيم الداري من أصحاب شيخ الشيوخ عبد الرحيم بن إسمعيل، رحمهم الله، ومعهم مغن يغني ويقول الشعر:
عويذلتي أقصري كفى بمشيبي عذل ... شباب كأن لم يكن وشيب كأن لم يزل
وحق ليالي الوصال أواخرها والأول ... وصفرة لون المحب عند استماع العذل
لئن عاد عيشي بكم ... حلا العيش لي واتصل
فتحرك الجماعة، عادة الصوفية في السماع، وطرب الشيخ المذكور، وتواجد، ثم سقط مغشياً عيه، فحركوه فإذا هو ميت، فصلي عليه ودفن، وكان رجلاً صالحاً.
وفيها توفي أبو الفتوح أسعد بن محمود العجلي، الفقيه الشافعي، بأصفهان في صفر، وكان إماماً فاضلاً.
وفي رمضان منها توفي قاضي هراة عمدة الدين الفضل بن محمود بن صاعد الساوي، وولي بعده ابنه صاعد.
ثم دخلت سنة إحدى وستمائة
ملك كيخسرو بلاد الروم من ابن أخيه
ذكر ملك كيخسرو بن قلج أرسلان بلاد الروم من ابن أخيهفي هذه السنة، في رجب، ملك غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بلاد الروم التي كانت بيد أخيه ركن الدين سليمان وانتقلت بعد موته إلى ابنه قلج أرسلان بن ركن الدين.
وكان سبب ملك غياث الدين لها أن ركن الدين كان قد أخذ ما كان لأخيه غياث الدين، وهو مدينة قونية، فهرب غياث الدين منه، وقصد الشام إلى الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، صاحب حلب، فلم يجد عنده قبولاً، وقصر به، فسار من عنده، وتقلب في البلاد إلى أن وصل إلى القسطنطينية، فأحسن إليه ملك الروم وأقطعه وأكرمه، فأقام عنده، وتزوج بابنة بعض البطارقة الكبار.
وكان لهذا البطريق قلعة من عمل القسطنطينية، فلما ملك الفرنج القسطنطينية هرب غياث الدين إلى حميه، وهو بقلعته، فأنزله عنده وقال له: نشترك في هذه القلعة، ونقنع بدخلها. فأقام عنده؛ فلما مات أخوه سنة ستمائة، كما ذكرناه، اجتمع الأماء على ولده، وخالفهم الأتراك الأوج، وهم كثير بتلك البلاد، وأنف من اتباعهم، وأرسل إلى غياث الدين يستدعيه إليه ليملكه البلاد، فسار إليه، فوصل في جمادى الأولى، واجتمع به، وكثر جمعه، وقصد مدينة قونية ليحصرها، وكان ولد ركن الدين والعساكر بها، فأخرجوا إليه طائفة من العسكر، فلقوا فهزموه، فبقي حيران لا يدري أين يتوجه، فقصد بلدة صغيرة يقال لها أوكرم بالقرب من قونية.
فقدر الله تعالى أن أهل مدينة أقصر وثبوا على الوالي فأخرجوه منها ونادوا بشعار غياث الدين، فلما سمع أهل قونية بما فعله أهل أقصرا قالوا: نحن أولى من فعل هذا؛ لأنه كان حسن السيرة فيهم لما كان مالكهم، فنادوا باسمه أيضاً، وأخرجوا من عندهم، واستدعوه، فحضر عندهم، وملك المدينة وقبض على ابن أخيه ومن معه، وآتاه الله الملك، وجمع له البلاد جميعها في ساعة واحدة، فسبحا من إذا أراد أمراً هيأ أسبابه.
وكان أخوه قيصر شاه الذي كان صاحب ملطية، لما أخذها ركن الدين منه سنة سبع وتسعين، خرج منها، وقصد الملك العادل أبا بكر بن أيوب، لأنه كان تزوج ابنته مستنصراً به، فأمره بالمقام بمدينة الرها، فأقام بها، فلما سمع بملك أخيه غياث الدين سار إليه، فلم يجد عنده قبولاً، إنما أعطاه شيئاً وأمره بمفارقة البلاد، فعاد إلى الرها وأقام بها، فلما استقر ملك غياث الدين سار إليه الأفضل صاحب سميساط، فلقيه بمدينة قيسارية، وقصده أيضاً نظام الدين صاحب خرت برت، وصار معه، فعظم شأنه وقوي أمره.
ذكر حصر صاحب آمد خرت برت
ورجوعه عنهاكانت خرت برت لعماد الدين بن قرا أرسلان، فمات، وملكها بعده ابنه نظام الدين أبو بكر، والتجأ إلى ركن الدين بن قلج أرسلان، وبعده إلى أخيه غياث الدين ليمتنع به من ابن عمه ناصر الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان، فامتنع به.
وكان صاح بآمد ملتجئاً إلى الملك العادل، وفي طاعته، وحضر مع ابنه الملك الأشرف قتال صاحب الموصل على شرط أنه يسير معه في عساكره، ويأخذ له خرت برت، وإنما طمع فيها بموت ركن الدين، فلما دخلت هذه السنة طلب ما كان استقر الأمر عليه، فسار معه الملك الأشرف وعساكر ديار الجزيرة من سنجار، وجزيرة ابن عمر، والموصل، وغيرها، وكان نزولهم عليها في شعبان؛ وفي رمضان تسلموا ربضها؛ وكان صاحبها قد اجتمع بغياث الدين، بعد أن ملك البلاد الرومية، وصار معه في طاعته، فلما نزل صاحب آمد على خرت برت خاطب صاحبها غياث الدين ينجده بعسكره يرحلهم عنه، فجهز عسكراً كثيراً عدتهم ستة آلاف فارس، وسيرهم مع الملك الأفضل علي بن صلاح الدين وهو صاحب سميساط، فلما وصل العسكر إلى ملطية فارق صاحب آمد ومن معه من خرت برت، ونزلوا إلى الصحراء، وحصروا البحيرة المعروفة ببحيرة سمنين وبها حصنان أحدهما لصاحب خرت برت، فحصره وزاحفه، ففتحه ثاني ذي الحجة.
ووصل صاحب خرت برت مع العسكر الرومي إلى خرت برت، فرحل صاحب آمد عن البحيرة وقوى الحصن الذي فتحه فيها، فأزاح علته، ورحل إلى خلف مرحلة ونزل، وترددت الرسل؛ والعسكر الرومي يطلب البحيرة، وصاحب آمد يمتنع من ذلك، فلما طال الأمر بقي الحصن بيد صاحب آمد، وانفصل العسكران، وعاد كل فريق إلى بلاده.
ذكر الفتن ببغدادفي سابع عشر رمضان جرت فتنة ببغداد بين أهل باب الأزج وأهل المأمونية، وسببها أن أهل باب الأزج قتلوا سبعاً وأرادوا أن يطوفوا به، فمنعهم أهل المأمونية، فوقعت الفتنة بينهما عند البستان الكبير، فجرح منه خلق كثير، وقتل جماعة، وركب صاحب الباب لتسكين الفتنة فجرح فرسه، فعاد.
فلما كان الغد سار أهل المأمونية إلى أهل باب الأزج، فوقعت بينهم فتنة شديدة وقتال بالسيوف والنشاب، واشتد الأمر، فنهبت الدور القريبة منهم، وسعى الركن ابن عبد القادر ويوسف العقاب في تسكين الناس، وركب الأتراك، فصاروا يبيتون تحت المنظرة، فامتنع أهل الفتنة من الاجتماع، فسكنوا.
وفي العشرين منه جرت فتنة بين أهل قطفتا والقرية، من محال الجانب الغربي، بسبب قتل سبع أيضاً، أراد أهل قطفتا أن يجتمعوا ويطوفوا به، فمنعهم أهل القرية أن يجوزوا به عندهم، فاقتتلوا، وقتل بينهم عدة قتلى، فأرسل إليهم عسكر من الديوان لتلافي الأمر ومنع الناس عن الفتنة، فامتنعوا.
وفي تاسع رمضان كانت فتنة بين أهل سوق السلطان والجعفرية، منشأها أن رجلين من المحلتين اختصما وتوعد كل واحد منهما صاحبه، فاجتمع أهل المحلتين. واقتتلوا في مقبرة الجعفرية، فسير إليهم من الديوان من تلافى الأمر وسكنه؛ فلما كثرت الفتن رتب أمير كبير من مماليك الخليفة، ومعه جماعة كثيرة، فطاف في البلد، وقتل جماعة من فيه شبهة، فسكن الناس.
ذكر غارة الكرج على بلاد الإسلامفي هذه السنة أغارت الكرج على بلاد الإسلام من ناحية أذربيجان، فأكثروا العيث والفساد والنهب والسبي، ثم أغاروا على ناحية خلاط من أرمينية، فأوغلوا في البلاد حتى بلغوا ملازكرد، ولم يخرج إليهم أحد من المسلمين يمنعهم، فجاسوا خلال البلاد ينهبون ويأسرون ويسبون، وكلما تقدموا تأخرت عساكر المسلمين عنهم، ثم إنهم رجعوا، فالله تعالى ينظر إلى الإسلام وأهله، وييسر لهم من يحمي بلادهم، ويحفظ ثغورهم، ويغزو أعداءهم.
وفيها أغارت الكرج على بلاد خلاط، فأتوا إلى أرجيش ونواحيها، فنهبوا، وسبوا، وخربوا البلاد، وساروا إلى حصن التين، من أعمال خلاط، وهو مجاور أرزن الروم، فجمع صاحب خلاط عسكره وسار إلى ولد قلج أرسلان، صاحب أرزن الروم، فاستنجده على الكرج، فسير عسكره جميعه معه، فتوجهوا نحو الكرج، فلقوهم، وتصافوا، واقتتلوا، فانهزمت الكرج، وقتل زكري الصغير، وهو من أكابر مقدميهم، وهو الذي كان مقدم هذا العسكر من الكرج والمقاتل بهم، وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والكراع وغير ذلك، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وأسروا كذلك، وعاد إلى بلاده.
ذكر الحرب بين أمير مكة وأمير المدينة
وفي هذه السنة أيضاً كانت الحرب بين الأمير قتادة الحسني، أمير مكة، وبين الأمير سالم بن قاسم الحسيني، أمير المدينة، ومع كل واحد منهما جمع كثير، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكانت الحرب بذي الحليفة، بالقرب من المدينة، وكان قتادة قد قصد المدينة ليحصرها ويأخذها، فلقيه سالم بعد أن قصد الحجرة، على ساكنها الصلاة والسلام، فصلى عندها، ودعا وسار فلقيه، فانهزم قتادة، وتبعه سالم إلى مكة فحصره بها، فأرسل قتادة إلى من مع سالم من الأمراء، فأفسدهم عليه، فمالوا إليه وحالفوه، فلما رأى سالم ذلك رحل عنه عائداً إلى المدينة وعاد أمر قتادة قوياً.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة، قطعت خطبة ولي العهد، وأظهر خط قرئ بالدار الوزير نصير الدين ناصر بن مهدي الرازي، وإذا هو خط ولي العهد الأمير أبي نصر ابن الخليفة إلى أبيه الناصر لدين الله أمير المؤمنين، يتضمن العجز عن القيام بولاية العهد، ويطلب الإقالة، وشهد عدلان أنه خطه، وأن الخليفة أقاله، وعمل بذلك محضر شهد فيه القضاة والعدول والفقهاء.
وفي هذه السنة ولدت امرأة ببغداد ولداً له رأسان وأربع أرجل ويدان، ومات في يومه.
وفيها أيضاً وقع الحريق في خزانة السلاح التي للخليفة، فاحترق فيها منه شيء كثير، وبقيت النار يومين، وسار ذكر هذا الحريق في البلدان، فحمل الملوك من السلاح إلى بغداد شيئاً كثيراً.
وفي هذه السنة وقع الثلج بمدينة هراة أسبوعاً كاملاً، فلما سكن جاء بعده سيل من الجبل من باب سرا، خرب كثيراً من البلد، ورمى من حصنه قطعة عظيمة، وجاء بعده برد شديد أهلك الثمار، فلم يكن بها تلك السنة شيء إلا اليسير.
وفيها، في شعبان، خرج عسكر من الغورية مقدمهم الأمير زنكي بن مسعود إلى مدينة مرو، فلقيهم نائب خوارزم شاه بمدينة سرخس، وهو الأمير جقر، وكمن لهم كميناً، فلما وصولا إليه هزمهم، وأخذ وجوه الغورية أسرى، فلم يفلت منهم إلا القليل، وأخذ أميرهم زنكي أسيراً، فقتل صبراً، وعلقت رؤوسهم بمرو أياماً.
وفيها، في ذي القعدة، سار الأمير عماد الدين عمر بن الحسين الغوري، صاحب بلخ، إلى مدينة ترمذ، وهي للأتراك الخطا، فافتتحها عنوة، وجعل بها ولده الأكبر، وقتل من بها من الخطا، ونقل العلويين منها إلى بلخ، وصارت ترمذ دار إسلام، وهي من أمنع الحصون وأقواها.
وفيها توفي صدر الدين السجزي شيخ خانكاه السلطان بهراة.
وفيها، في صفر، توفي أبو علي الحسن بن محمد بن عبدوس الشاعر الواسطي، وهو من الشعراء المجيدين، واجتمعت به بالموصل، وردها مادحاً لصاحبها نور الدين أرسلان شاه وغيره من المقدمين، وكان نعم الرجل، حسن الصحبة والعشرة.
وفيها اجتمع ببغداد رجلان أعميان على رجل أعمى أيضاً، وقتلاه بمسجد طمعاً في أن يأخذا منه شيئاً، فلم يجدا معه ما يأخذانه، وأدركهما الصباح، فهربا من الخوف يريدان الموصل، ورؤي الرجل مقتولاً، ولم يعلم قاتله، فاتفق أن بعض أصحاب الشحنة اجتاز من الحريم في خصومة جرت، فرأى الرجلين الضريرين، فقال لمن معه: هؤلاء الذين قتلوا الأعمى؛ يقوله مزحاً، فقال أحدهما: هذا والله قتله؛ فقال الآخر: بل أنت قتلته، فأخذا إلى صاحب الباب، فأقرا، فقتل أحدهما، وصلب الآخر على باب المسجد الذي قتلا فيه الرجل.
ثم دخلت سنة اثنتين وستمائة
ذكر الفتنة بهراةفي هذه السنة، في المحرم، ثار العامة بهراة، وجرت فيه فتنة عظيمة بين أهل السوقين: الحدادين والصفارين، قتل فيها جماعة، ونهبت الأموال، وخربت الديار، فخرج أمير البلد ليكفهم، فضربه بعض العامة بحجر ناله منه ألم شديد، واجتمع الغوغاء عليه، فرفع إلى القصر الفيروزي، واختفى أياماً إلى أن سكنت الفتنة ثم ظهر.
ذكر قتال شهاب الدين الغوري بني كوكر
قد ذكرنا انهزام شهاب الدين محمد بن سام الغوري، صاحب غزنة، من الخطا الكفار، وأن الخبر ظهر ببلاده أنه عدم من المعركة ولم يقف أصحابه له على خبر، فلما اشتهر هذا الخبر ثار المفسدون في أطراف البلاد، وكان ممن أفسد دانيال، صاحب جبل الجودي، فإنه كان قد أسلم، فلما بلغه الخبر ارتد عن الإسلام، وتابع بني كوكر، وكان في جملة الخارجين عليه بنو كوكر ومساكنهم في جبال بين لهاوور والمولتان حصينة منيعة، وكانوا قد أطاعوا شهاب الدين، وحملوا له الخراج، فلما بلغهم خبر عدمه ثاروا فيمن معهم من قبائلهم وعشائرهم، وأطاعهم صاحب جبل الجودي وغيره من القانطين بتلك الجبال، ومنعوا الطريق من لهاوور وغيرها إلى غزنة.
فلما فرغ شهاب الدين من قتل مملوكه أيبك باك، وقد ذكرناه، أرسل إلى نائبه بلهاوور والمولتان، وهو محمد بن أبي علي، يأمره بحمل المال لسنة ستمائة، وسنة إحدى وستمائة، ليتجهز به لحرب الخطا، فأجاب أن أولاد كوكر قد قطعوا الطريق، لا يمكنه إرسال المال، وحضر جماعة من التجار، وذكروا أن قفلا كبيراً أخذه أولاد كوكر، ولم ينج منه إلا القليل؛ فأمر شهاب الدين مملوكه أيبك، مقدم عساكر الهند، أن يراسل بني كوكر يدعوهم إلى الطاعة، ويتهددهم إن لم يجيبوا إلى ذلك، ففعل ذلك، فقال ابن كوكر: لأي معنى لم يرسل السلطان إلينا رسولاً؟ فقال له الرسول: وما قدركم أنتم حتى يرسل إليكم، وإنما مملوكه يبصركم رشدكم، ويهددكم. فقال ابن كوكر: لو كان شهاب الدين حياً لراسلنا، وقد كنا ندفع الأموال إليه، فحيث عدم فقل لأيبك يترك لنا لهاوور وما والاها، وفرشابور، ونحن نصالحه؛ فقال الرسول: أنفذ أنت جاسوساً تثق به فيأتيك بخبر شهاب الدين ن فرشابور؛ فلم يصغ إلى قوله، فرده، فعاد وأخبر بما سمع ورأى، فأمر شهاب الدين مملوكه قطب الدين أيبك بالعود إلى بلاده، وجمع العساكر، وقتال بني كوكر، فعاد إلى دهلي، وأمر عساكره بالاستعداد، فأقام شهاب الدين في فرشابور إلى نصف شعبان من سنة إحدى وستمائة، ثم عاد إلى غزنة فوصلها أول رمضان، وأمر بالنداء في العساكر بالتجهز لقتال الخطا، وأن المسير يكون أول شوال، فتجهزوا لذلك.
فاتفق أن الشكايات كثرت من بني كوكر وما يتعهدونه من إخافة السبل وأنهم قد أنفذوا شحنة إلى البلاد، ووافقهم أكثر الهنود، وخرجوا من طاعة أمير لهاوور والمولتان وغيرهما.
ووصل كتاب الوالي يذكر ما قد دهمه منهم، وأن عماله قد أخرجهم بنو كوكر، وجبوا الخراج، وأن ابن كوكر مقدمهم أرسل إليه ليترك له لهاوور والبلاد والفيلة ويقول أن يحضر شهاب وإلا قتله، ويقول: إن لم يحضر السلطان شهاب الدين بنفسه ومعه العساكر وإلا خرجت البلاد من يده.
وتحدث الناس بكثرة من معهم من الجموع، وما هم من القوة، فتغير عزم شهاب الدين حينئذ عن غزو الخطا، وأخرج خيامه وسار عن غزنة خامس ربيع الأول سنة اثنتين وستمائة، فلما سار وأبعد انقطعت أخباره عن الناس بغزنة وفرشابور، حتى أرجف الناس بانهزامه.
وكان شهاب الدين لما سار عن فرشابور أتاه خبر ابن كوكر أنه نازل في عساكره ما بين جيلم وسودرة، فجد السير إليه، فدهمه قبل الوقت الذي كان يقدر وصوله فيه، فاقتتلوا قتالاً شديداً يوم الخميس لخمس بقين من ربيع الآخر، من بكرة إلى العصر، واشتد القتال، فبينما هم في القتال أقبل قطب الدين أيبك في عساكره، فنادوا بشعار الإسلام، وحملوا حملة صادقة، فانهزم الكوكرية ومن انضم إليهم، وقتلوا بكل مكان، وقصدوا أجمة هناك، فاجتمعوا بها، وأضرموا ناراً، فكان أحدهم يقول لصاحبه: لا تترك المسلمين يقتلونك؛ ثم يلقي نفسه في النار فيلقي صاحبه نفسه بعده فيها، فعمهم الفناء قتلاً وحرقاً، ف (بعداً للقوم الظالمين) هود 44.
وكان أهلهم وأموالهم معهم لم يفارقوها، فغنم المسلمون منهم ما لم يسمع بمثله، حتى أن المماليك كانوا يباعون كل خمسة بدينار ركني ونحوه، وهرب ابن كوكر بعد أن قتل إخوته وأهله.
وأما ابن دانيال، صاحب جبل الجودي، فإنه جاء ليلاً إلى قطب الدين أيبك، فاستجار به، فأجاره، وشفع فيه إلى شهاب الدين، فشفعه فيه، وأخذ منه قلعة الجودي؛ فلما فرغ منهم سار نحو لهاوور ليأمن أهلها ويسكن روعهم، وأمر الناس بالرجوع إلى بلادهم والتجهز لحرب بلاد الخطا، وأقام شهاب الدين بلهاوور إلى سادس عشر رجب، وعاد نحو غزنة، وأرسل إلى بهاء الدين سام، صاحب باميان، ليتجهز للمسير إلى سمرقند، ويعمل جسراً ليعبر هو وعساكره عليه.
ذكر الظفر بالتيراهيةكان من جملة الخارجين المفسدين أيضاً على شهاب الدين التيراهية، فإنهم خرجوا إلى حدود سوران ومكرهان للغارة على المسلمين، فأوقع بهم نائب تاج الدين الدز، مملوك شهاب الدين بتلك الناحية، ويعرف بالحلحي، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وحمل رؤوس المعروفين فعلقت ببلاد الإسلام.
وكانت فتنة هؤلاء التيراهية على بلاد الإسلام عظيمة قديماً وحديثاً؛ وكانوا إذا وقع بأيديهم أسير من المسلمين عذبوه بأنواع العذاب.
وكان أهل فرشابور معهم في ضر شديد لأنهم يحيطون بتلك الولاية من جوانبها، لا سيما آخر أيام بيت سكتكين، فإن الملوك ضعفوا وقوي هؤلاء عليهم، وكانوا يغيرون على أطراف البلاد، وكانوا كفاراً لا دين لهم يرجعون إليه، ولا مذهب يعتمدون عليه، إلا أنهم كانوا إذا ولد لأحدهم بنت وقف على باب داره ونادى: من يتزوج هذه؟ من يقبلها؟ فإن أجابه أحد تركها، وإلا قتلها، ويكون للمرأة عدة أزواج، فإذا كان أحدهم عندها جعل مداسه على الباب، فإذا جاء غيره من أزواجها ورأى مداسه عاد.
ولم يزالوا كذلك حتى أسلم طائفة منهم آخر أيام شهاب الدين الغوري، فكفوا عن البلاد. وسبب إسلامهم أنهم أسروا إنساناً من فرشابور، فعذبوه فلم يمت، ودامت أيامه عندهم، فأحضره يوماً مقدمهم وسأله عن بلاد الإسلام، وقال له: لو حضرت أنا عند شهاب الدين ماذا كان يعطيني؟ فقال له المعلم: كان يعطيك الأموال والأقطاع ويرد إليك حكم جميع البلاد التي لكم؛ فأرسله إلى شهاب الدين في الدخول في الإسلام، فأعاده ومعه رسول بالخلع والمنشور بالأقطاع، فلما وصل إليه الرسول سار هو وجماعة من أهله إلى شهاب الدين، فأسلموا وعادوا، وكان للناس بهم راحة؛ فلما كانت هذه الفتنة واختلفت البلاد نزل أكثرهم من الجبال، فلم يكن لهذه الطائفة بهم قدرة ليمنعوهم، فأفسدوا وعملوا ما ذكرناه.
ذكر قتل شهاب الدين الغوريفي هذه السنة، أول ليلة من شعبان، قتل شهاب الدين أبو المظفر محمد ابن سام الغوري، ملك غزنة وبعض خراسان، بعد عوده من لهاوور، بمنزل يقال له دميل، وقت صلاة العشاء.
وكان سبب قتله أن نفراً من الكفار الكوكرية لزموا عسكره عازمين على قتله، كما فعل بهم من القتل والأسر والسبي، فلما كان هذه الليلة تفرق عنه أصحابه، وكان قد عاد ومعه من الأموال ما لا يحد، فإنه كان عازماً على قصد الخطا، والاستكثار من العساكر، وتفريق المال فيهم؛ وقد أمر عساكره بالهند باللحاق به، وأمر عساكره الخراسانية بالتجهز إلى أن يصل إليهم، فأتاه الله من حيث لم يحتسب، ولم يغن عنه ما جمع من مال وسلاح ورجال، لكن كان على نية صالحة من قتال الكفار.
فلما تفرق عنه أصحابه، وبقي وحده في خركاه، ثار أولئك النفر، فقتل أحدهم بعض الحراس بباب سرادق شهاب الدين، فلما قتلوه صاح، فثار أصحابه من حول السرادق لينظروا ما بصاحبهم، فأخلوا مواقفهم، وكثر الزحام، فاغتنم الكوكرية غفلتهم عن الحفظ، فدخلوا على شهاب الدين وهو في الخركاه، فضربوه بالسكاكين اثنتين وعشرين ضربة فقتلوه، فدخل عليه أصحابه، فوجدوه على مصلاه قتيلاً وهو ساجد، فأخذوا أولئك الكفار فقتلوهم، وكان فيهم اثنان مختونان.
وقيل إنما قتله الإسماعيلية لأنهم خافوا خروجه إلى خراسان، وكان له عسكر يحاصر بعض قلاعهم على ما ذكرناه.
فلما قتل اجتمع الأمراء عند وزيره مؤيد الملك بن خوجا سجستان، فتحالفوا على حفظ الخزانة والملك، ولزوم السكينة إلى أن يظهر من يتولاه، وأجلسوا شهاب الدين وخيطوا جراحه وجعلوه في المحفة وساروا به، ورتب الوزير الأمور، وسكن الناس بحيث لم ترق محجمة دم، ولم يوجد في أحد شيء.
وكانت المحفة محفوفة بالحشم، والوزير، والعسكر، والشمسة، على حاله في حياته، وتقدم الوزير إلى أمير داذ العسكر بإقامة السياسة، وضبط العسكر، وكانت الخزانة التي في صحبته ألفي حمل ومائتي حمل؛ وشغب الغلمان الأتراك الصغار لينهبوا المال، فمنعهم الوزير والأمراء الكبار من المماليك، وهو صونج صهر الدز وغيره، وأمروا كل من له إقطاع عند قطب الدين أيبك مملوك شهاب الدين ببلاد الهند بالعود إليه، وفرقوا فيهم أموالاً كثيرة فعادوا.
وسار الوزير ومعه من له إقطاع وأهل بغزنة، وعلموا أنه يكون بين غياث الدين محمود بن غياث الدين أخي شهاب الدين الأكبر، وبين بهاء الدين صاحب باميان، وهو ابن أخت شهاب الدين، حروب شديدة، وكان ميل الوزير والأتراك وغيرهم إلى غياث الدين محمود، وكان الأمراء الغورية يميلون إلى بهاء الدين سام، صاحب باميان، فأرسل كل طائفة إلى من يميلون إليه يعرفونه قتل شهاب الدين وجلية الأمور، وجاء بعض المفسدين من أهل غزنة، فقال للماليك: إن فخر الدين الرازي قتل مولاكم لأنه هو أوصل من قتله، بوضع من خوارزم شاه، فثاروا به ليقتلوه، فهرب، وقصد مؤيد الملك الوزير، فأعلمه الحال فسيره سراً إلى مأمنه.
ولما وصل العسكر والوزير إلى فرشابور اختلفوا، فالغورية يقولون نسير إلى غزنة على طريق مكرهان، وكان غرضهم أن يقربوا من باميان ليخرج صاحبها بهاء الدين سام فيملك الخزانة، وقال الأتراك بل نسير على طريق سوران، وكان مقصودهم أن يكونوا قريباً من تاج الدين الدز مملوك شهاب الدين، وهو صاحب كرمان، مدينة بين غزنة ولهاوور، وليست بكرمان التي تجاور بلاد فارس، ليحفظ الدز الخزانة، ويرسلوا من كرمان إلى غياث الدين يستدعونه إلى غزنة ويملكونه.
وكثر بينهم الاختلاف، حتى كادوا يقتتلون، فتوصل مؤيد الملك مع الغورية حتى أذنوا له وللأتراك بأخذ الخزانة والمحفة التي فيها شهاب الدين والمسير على كرمان، وساروا هم على طريق مكرهان؛ ولقي الوزير ومن معه مشقة عظيمة، وخرج عليهم الأمم الذين في تلك الجبال التيراهية وأوغان وغيرهم، فنالوا من أطراف العسكر إلى أن وصلوا إلى كرمان، فخرج إليهم تاج الدين الدز يستقبلهم، فلما عاين المحفة، وفيها شهاب الدين ميتاً، نزل وقبل الأرض على عادته في حياة شهاب الدين، وكشف عنه، فلما رآه ميتاً مزق ثيابه وصاح وبكى فأبكى الناس، وكان يوماً مشهوراً.
ذكر ما فعله الدزكان الدز من أول مماليك شهاب الدين وأكبرهم وأقدمهم، وأكبرهم محلاً عنده، بحيث إن أهل شهاب الدين كانوا يخدمونه ويقصدونه في أشغالهم؛ فلما قتل صاحبه طمع أن يملك غزنة، فأول ما عمل أنه سأل الوزير مؤيد الملك عن الأموال والسلاح والدواب، فأخبره بما خرج من ذلك وبالباقي معه، فأنكر الحال، وأساء أدبه في الجواب، وقال: إن الغورية قد كاتبوا بهاء الدين سام صاحب باميان ليملكوه غزنة، وقد كتب إلي غياث الدين محمود، وهو مولاي، يأمرني أنني لا أترك أحداً يقرب من غزنة، وقد جعلني نائبه فيها وفي سائر الولاية المجاورة لها لأنه مشتغل بأمر خراسان.
وقال للوزير: إنه قد أمرني أيضاً أن أتسلم الخزانة منك؛ فلم يقدر على الامتناع لميل الأتراك إليه، فسلمها إليه، وسار بالمحفة والمماليك والوزير إلى غزنة، فدفن شهاب الدين في التربة بالمدرسة التي أنشأها ودفن ابنته فيها، وكان وصوله إليها في الثاني والعشرين من شعبان من السنة.
ذكر بعض سيرة شهاب الدينكان رحمه الله شجاعاً مقدماً، كثير الغزو إلى بلاد الهند، عادلاً في رعيته، حسن السيرة فيهم، حاكماً بينهم بما يوجبه الشرع المطهر، وكان القاضي بغزنة يحضر داره كل إسبوع السبت والأحد والاثنين والثلاثاء، ويحضر معه أمير حاجب، وأمير داذ، وصاحب البريد، فيحكم القاضي، وأصحاب السلطان ينفذون أحكامه على الصغير والكبير، والشريف والوضيع؛ وإن طلب أحد الخصوم الحضور عنده أحضره وسمع كلامه، وأمضى عليه، أوله، حكم الشرع، فكانت الأمور جارية على أحسن نظام.
حكي لي عنه أنه لقيه صبي علوي، عمره نحو خمس سنين، فدعا له، وقال: لي خمسة إيام ما أكلت شيئاً؛ فعاد من الركوب لوقته، ومعه الصبي، فنزل في داره، وأطعمه العلوي أطيب الطعام بحضرته، ثم أعطاه مالاً، بعد أن أحضر أباه وسلمه إليه، وفرق في سائر العلويين مالاً عظيماً.
وحكي عنه أن تاجراً من مراغة كان بغزنة، وله على بعض مماليك شهاب الدين دين مبلغه عشرة آلاف دينار، فقتل المملوك في حرب كانت له، فرفع التاجر حاله، فأمر بأن يقر أقطاع المملوك بيد التاجر إلى أن يستوفي دينه، ففعل ذلك.
وحكي عنه أنه كان يحضر العلماء بحضرته، فيتكلمون في المسائل الفقهية وغيرها، وكان فخر الدين الرازي يعظ في داره، فحضر يوماً فوعظ، وقال في آخر كلامه: يا سلطان، لا سلطانك يبقى ولا تلبيس الرازي، وإن مردنا إلى الله! فبكى شهاب الدين حتى رحمه الناس لكثرة بكائه.
وكان رقيق القلب، وكان شافعي المذهب مثل أخيه؛ قيل: وكان حنفياً، والله أعلم.
ذكر مسير بهاء الدين سام إلى غزنةلما ملك غياث الدين باميان أقطعها ابن عمه شمس الدين محمد بن مسعود، وزوجه أخته، فأتاه منها ولد اسمه سام، فبقي فيها إلى أن توفي، وملك بعده ابنه الأكبر، واسمه عباس، وأمه تركية، فغضب غياث الدين وأخوه شهاب الدين منن ذلك، وأرسلا من أحضر عباساً عندهما، فأخذا الملك منه، وجعلا ابن أختهما سام ملكاً على باميان، وتقلب بهاء الدين، وعظم شأنه ومحله، وجمع الأموال ليملك لبلاد بعد خاليه، وأحبه الغورية حباً شديداً وعظموه.
فلما قتل خاله شهاب الدين سار بعض الأمراء الغورية إلى بهاء الدين سام فأخبره بذلك، فلما بلغه قتله كتب إلى من بغزنة من الأمراء الغورية يأمرهم بحفظ البلد، ويعرفهم أنه على الطريق سائر إليهم.
وكان والي قلعة غزنة، ويعرف بأمير داذ، وقد أرسل ولده إلى بهاء الدين سام يستدعيه إلى غزنة، فأعاد جوابه أنه ت جهز، ويصل إليه، ويعده الجميل والإحسان.
وكتب بهاء الدين إلى علاء الدين محمد بن أبي علي ملك الغور يستدعيه إليه؛ وإلى غياث الدين محمود بن غياث الدين، وإلى ابن خرميل، وإلي هراة، يأمرهما بإقامة الخطبة له، وحفظ ما بأيديهما من الأعمال، ولم يظن أن أحداً يخالفه، فأقام أهل غزنة ينتظرون وصوله، أو وصول غياث الدين محمود، والأتراك، ويقولون: لا نترك غير ابن سيدنا، يعنون غياث الدين، يدخل غزنة.
والغورية يتظاهرون بالميل إلى بهاء الدين ومنع غيره، فسار من باميان إلى غزنة في عساكره، ومعه ولداه علاء الدين محمد وجلال الدين، فلما سار عن باميان مرحلتين وجد صداعاً، فنزل يستريح، ينتظر خفته عنه، فازداد الصداع، وعظم الأمر عليه، فأيقن بالموت، فأحضر ولديه، وعهد إلى علاء الدين، وأمرهما بقصد غزنة، وحفظ مشايخ الغورية، وضبط الملك، وبالرفق بالرعايا، وبذلك الأموال، وأمرهما أن يصالحا غياث الدين على أن يكون له خراسان وبلاد الغور، ويكون لهما غزنة وبلاد الهند.
ذكر ملك علاء الدين غزنة وأخذها منهلما فرغ بهاء الدين من وصيته توفي، فسار ولداه إلى غزنة، فخرج أمراء الغورية وأهل البلد فلقوهما، وخرج الأتراك معهم على كره منهم، ودخلوا البلد وملكوه، ونزل علاء الدين وجلال الدين دار السلطنة مستهل رمضان، وكانوا قد وصلوا في ضر وقلة من العسكر، وأراد الأتراك منعهم، فنهاهم مؤيد الملك وزير شهاب الدين لقلتهم، ولإشتغال غياث الدين بابن خرميل، والي هراة، على ما نذكره، فلم يرجعوا عن ذلك.
وملا استقرا بالقلعة، ونزلا بدار السلطانية، راسلهما الأتراك بأن يخرجا من الدار وإلا قاتلوهما، ففرقا فيهم أموالاً كثيرة، واستحلفاهم فحلفوا، واستثنوا غياث الدين محموداً، وأنفذا خلعاً إلى تاج الدين الدز، وهو بإقطاعه، مع رسول، وطلباه إلى طاعتهما، ووعداه بالأموال والزيادة في الإقطاع، وإمارة الجيش، والحكم في جميع المماليك؛ فأتاه الرسول فلقيه وقد سار عن كرمان في جيش كثير من الترك والخلج والغز وغيرهم يريد غزنة، فأبلغه الرسالة، فلم يلتفت إليه، وقال له: قل لهما أن يعودا إلى باميان، وفيها كفاية، فإني قد أمرني مولاي غياث الدين أن أسير إلى غزنة وأمنعهما عنها، فإن عادا إلى بلدهما، وإلا فعلت بهما وبمن معهما ما يكرهون.
ورد ما معهما من الهدايا والخلع، لم يكن قصد الدز بهذا حفظ بيت صاحبه، وإنما أراد أن يجعل هذا طريقاً إلى ملك غزنة لنفسه.
فعاد الرسول وأبلغ علاء الدين رسالة الدز، فأرسل وزيره، وكان قبله وزير أبيه، إلى باميان وبلخ وترمذ وغيرها من بلادهم، ليجمع العساكر ويعود إليه، فأرسل الدز إلى الأتراك الذين بغزنة يعرفهم أن غياث الدين أمره أن يقصد غزنة ويخرج علاء الدين وأخاه منها، فحضروا عند ابن وزير علاء الدين، وطلبوا منه سلاحاً، ففتح خزانة السلاح، وهرب ابن الوزير إلى علاء الدين وقال له: قد كن كذا وكذا؛ فلم يقدر أن يفعل شيئاً.
وسمع مؤيد الملك، وزير شهاب الدين، فركب وأنكر على الخازن تسليم المفاتيح، وأمره فاسترد ما نهبه الترك جميعه، لأنه كان مطاعاً فيهم.
ووصل الدز إلى غزنة، فأخرج إليه علاء الدين جماعة من الغورية ومن الأتراك، وفيهم صونج صهر الدز، فأشار عليه أصحابه أن لا يفعل، وينتظر العسكر مع وزيره، فلم يقبل منهم، وسير العساكر، فالتقوا خامس رمضان، فلما لقوه خدمه الأتراك وعادوا معه على عسكر علاء الدين فقاتلوهم فهزموهم وأسروا مقدمهم، وهو محمد بن علي بن حردون، ودخل عسكر الدز المدينة فنهبوا بيوت الغورية والبامانية، وحصر الدز القلعة، فخرج جلال الدين منها في عشرين فارساً، وسار عن غزنة، فقالت له امرأة تستهزئ به: أين تمضي؟ خذ الجتر والشمسة معك! ما أقبح خروج السلاطين هكذا! فقال لها: إنك سترين اليوم، وأفعل بكم ما تقرون به بالسلطنة لي.
وكان قد قال لأخيه: احفظ القلعة إلى أن آتيك بالعساكر؛ فبقي الدز يحاصرها، وأراد من مع الدز نهب البلد، فنهاهم عن ذلك، وأرسل إلى علاء الدين يأمره بالخروج من القلعة، ويتهدده إن لم يخرج منها، وترددت الرسل إلى علاء الدين يأمره بالخروج من القلعة، ويتهدده إن لم يخرج منها، وترددت الرسل بينهما في ذلك، فأجاب إلى مفارقتها والعود إلى بلده، وأرسل من حلف له الدز أن لا يؤذيه، ولا يتعرض له، ولا لأحد ممن يحلف له.
وسار عن غزنة، فلما رآه الدز وقد نزل من القلعة عدل إلى تربة شهاب الدين مولاه، ونزل إليها، ونهب الأتراك ما كان منع علاء الدين، وألقوه عن فرسه، وأخذوا ثيابه، وتركوه عرياناً بسراويله.
فلما سمع الدز ذلك أرسل إليه بدواب وثياب ومال، واعتذر إليه، فأخذ ما لبسه ورد الباقي، فلما وصل إلى باميان لبس ثياب سوادي، وركب حماراً، فأخرجوا له مراكب ملوكية، وملابس جميلة، فلم يركب، ولم يلبس، وقال: أريد أن يراني الناس وما صنع بي أهل غزنة، حتى إذا عدت إليها وخربتها ونهبتها لا يلومني أحد. ودخل دار الإمارة وشرع في جمع العساكر.
ذكر ملك الدز غزنةقد ذكرنا استيلاء الدز على الأموال والسلاح والدواب وغير ذلك مما كان صحبة شهاب الدين وآخذه من الوزير مؤيد الملك، فجمع به العساكر من أنواع الناس، الأتراك والخلج والغز وغيرهم، وسار إلى غزنة وجرى له مع علاء الدين ما ذكرنا.
فلما خرج علاء الدين من غزنة أقام الدز بداره أربعة أيام يظهر طاعة غياث الدين، إلا أنه لم يأمر الخطيب بالخطبة له ولا لغيره، وإنما يخطب للخليفة، ويترحم على شهاب الدين الشهيد حسب.
فلما كان في اليوم الرابع أحضر مقدمي الغورية والأتراك، وذم من كاتب علاء الدين وأخاه، وقبض على أمير داذ والي غزنة، فلما كان الغد، وهو سادس عشر رمضان، أحضر القضاة والفقهاء والمقدمين وأحضر أيضاً رسول الخليفة، وهو الشيخ مجد الدين أبو علي بن الربيع، الفقيه الشافعي مدرس النظامية ببغداد، وكان قد ورد إلى غزنة رسولاً إلى شهاب الدين، فقتل شهاب الدين وهو بغزنة، فأرسل إليه وإلى قاخضي غزنة يقول له: إنني أريد أن أنتقل إلى دار السلطانية، وأن أخاطب بالملك، ولا بد من حضورك؛ والمقصود من هذا أن تستقر أمور الناس، فحضر عنده، فركب الدز، والناس في خدمته، وعليه ثياب الحزن، وجلس في الدار في غير المجلس الذي كان يجلس فيه شهاب الدين، فتغيرت لذلك نيات كثير من الأتراك، لأنهم كانوا يطيعونه ظناً منهم أنه يريد الملك لغياث الدين، فحيث رأوه يريد الانفراد تغيروا عن طاعته، حتى إن بعضهم بكى غيظاً من فعله؛ وأقطع الإقطاعات الكثيرة، وفرق الأموال الجليلة.
وكان عند شهاب الدين جماعة من أولاد ملوك الغور وسمرقند وغيرهم، فأنفوا من خدمة الدز، وطلبوا منه أن يقصد خدمة غياث الدين، فأذن لهم وفارقه كثير من أصحابه إلى غياث الدين وإلى علاء الدين وأخيه صاحبي باميان، وأرسل غياث الدين إلى الدز يشكره، ويثني عليه لإخراج أولاد بهاء الدين من غزنة، وسير له الخلع، وطلب منه الخطبة والسكة، فلم يفعل، وأعاد الجواب فغالطه، وطلب منه أن يخاطبه بالملك، وأن يعتقه من الرق لأن غياث الدين ابن أخي سيده لا وارث له سواه، وأن يزوج ابنه بابنة الدز، فلم يجبه إلى ذلك.
واتفق أن جماعة من الغوريين، من عسكر صاحب باميان، أغاروا على أعمال كرمان وسوران، وهي أقطاع الدز القديمة، فغنموا، وقتلوا، فأرسل صهره صونج في عسكر، فلقوا عسكر الباميان فظفر بهم، وقتل منهم كثيراً، وأنفذ رؤوسهم إلى غزنة فنصبت بها.
وأجرى الدز في غزنة رسوم شهاب الدين، وفرق في أهلها أموالاً جليلة المقدار، وألزم مؤيد الملك أن يكون وزيراً له، فامتنع من ذلك، فألح عليه، فأجابه على كره منه، فدخل على مؤيد الملك صديق له يهنئه، فقال: بماذا تهنئني؟ من بعد ركوب الجواد بالحمار؟ وأنشد:
ومن ركب الثور بعد الجوا ... د أنكر إطلاقه والغبب
بينا الدز يأتي إلى بابي ألف مرة حتى آذن له في الدخول أصبح على بابه! ولولا حفظ النفس مع هؤلاء الأتراك لكان لي حكم آخر.
ذكر حال غياث الدين بعد قتل عمهوأما غياث الدين محمود بن غياث الدين فإنه كان في إقطاعه، وهو بست وأسفزار، لما قتل عمه شهاب الدين، وكان الملك علاء الدين بن محمد بن أبي علي قد ولاه شهاب الدين بلاد الغور وغيرها من أرض الروان، فلما بلغه قتله سار إلى فيروزكوه خوفاً أن يسبقه إليها غياث الدين فيملك البلد ويأخذ الخزائن التي بها.
وكان علاء الدين حسن السيرة من أكابر بيوت الغورية، إلا أن الناس كرهوه لميلهم إلى غياث الدين، وأنف الأمراء من خدمته مع وجود ولد غياث الدين سلطانهم، ولأنه كان كرامياً مغالباً في مذهبه، وأهل فيروزكوه شافعية، وألزمهم أن يجعلوا الإقامة مثنى؛ فلما وصل إلى فيروزكوه أحضر جماعة من الأمراء منهم: محمد المرغني وأخوه، ومحمد بن عثمان، وهم من أكابر الأمراء، وحلفهم على مساعدته على قتال خوارزم شاه وبهاء الدين، صاحب باميان، ولم يذكر غياث الدين احتقاراً له، فحلفوا له ولولده من بعده.
وكان غياث الدين بمدينة بست لم يتحرك في شيء انتظاراً لما يكون من صاحب باميان، لأنهما كانا قد تعاهدا أيام الدين أن تكون خراسان لغياث الدين وغزنة والهند لبهاء الدين، وكان بهاء الدين صاحب باميان بعد موت شهاب الدين أقوى منه، فلهذا لم يفعل شيئاً، فلما بلغه خبر موت بهاء الدين جلس على التخت، وخطب لنفسه بالسلطنة عاشر رمضان، وحلف الأمراء الذين قصدوه، وهم إسمعيل الخلجي، وسونج أمير أشكار، وزنكي بن خرجوم، وحسين الغوري صاحب تكياباذ وغيرهم، وتلقب بألقاب أبيه غياث الدنيا والدين، وكتب إلى علاء الدين محمد بن أبي علي وهو بفيروزكوه يستدعيه إليه، ويستعطفه ليصدر عن رأيه، ويسلم مملكته إليه؛ وكتب إلى الحسين بن خرميل، والي هراة، مثل ذلك أيضاً، ووعده الزيادة في الإقطاع.
فأما علاء الدين فأغلظ له في الجواب، كتب إلى الأمراء الذين معه يتهددهم، فرحل غياث الدين إلى فيروزكوه، فأرسل علاء الدين عسكراً مع ولده، وفرق فيهم مالاً كثيراً، وخلع عليهم لمنعوا غياث الدين، فقوه قريباً من فيروزكوه، فلما تراءى الجمعان كشف إسمعيل الخلجي المغفر عن وجهه وقال: الحمد لله إذ الأتراك الذين لا يعرفون آباءهم لم يضيعوا حق التربية، وردوا ابن ملك باميان، وأنتم مشايخ الغورية الذين أنعم عليكم والد هذا السلطان، ورباكم، وأحسن إليكم كفرتم الإحسان، وجئتم تقاتلون ولده، أهذا فعل الأحرار؟ فقال محمد المرغني، وهو مقدم العسكر الذين يصدرون عن رأيه: لا والله! ثم ترجل عن فرسه، وألقى سلاحه، وقصد غياث الدين، وقبل الأرض بين يديه، وبكرى بصوت عال، وفعل سائر الأمراء كذلك، فانهزم أصحاب علاء الدين مع ولده.
فلما بلغه الخبر خرج عن فيروزكوه هارباً نحو الغور، وهو يقول: أنا أمشي أجاور بمكة؛ فأنفذ غياث الدين خلفه من رده إليه، فأخذه وحبسه، وملك فيروزكوه، وفرح به أهل البلد، وقبض غياث الدين على جماعة من أصحاب علاء الدين الكرامية، وقتل بعضهم.
ولما دخل غياث الدين فيروزكوه ابتدأ بالجامع فصلى فيه، ثم ركب إلى دار أبيه فسكنها، وأعاد رسوم أبيه، واستخدم حاشية، وقدم عليه عبد الجبار بن محمد الكيراني، وزير أبيه، واستوزره، وسلك طريق أبيه في الإحسان والعدل.
ولما فرغ غياث الدين من علاء الدين لم يكن له همة إلا ابن خرميل بهراة واجتذابه إلى طاعته، فكاتبه وراسله، واتخذه أباً، واستدعاه إليه.
وكان ابن خرميل قد بلغه موت شهاب الدين ثامن رمضان، فجمع أعيان الناس، منهم: قاضي هراة صاعد بن الفضل السياري، وعلي بن عبد الخلاق بن زياد مدرس النظامية بهراة، وشيخ الإسلام رئيس هراة، ونقيب العلويين ومقدمي المحال، وقال لهم: قد بلغني وفاة السلطان شهاب الدين أنا في نحر خوارزم شاه، وأخاف الحصار، وأريد أن تحلفوا لي على المساعدة على كل من نازعني. فأجابه القاضي وابن زياد: إننا نحلف على كل الناس إلا ولد غياث الدين؛ فحقدها عليهما، فلما وصل كتاب غياث الدين خاف ميل الناس إليه، فغالطه في الجواب.
وكان ابن خرميل قد كاتب خوارزم شاه يطلب منه أن يرسل إليه عسكراً ليصير في طاعته ويمتنع به على الغورية، فطلب منه خوارزم شاه إنفاذ ولده رهينة، ويرسل إليه عسكراً، فسير ولده إلى خوارزم شاه، فكتب خوارزم شاه إلى عسكره الذين بنيسابور وغيرها من بلاد خراسان يأمرهم بالتوجه إلى هراة، وأن يكونوا يتصرفون بأمر ابن خرميل ويتمثلون أمره.
هذا وغياث الدين يتابع الرسل إلى ابن خرميل، وهو يحتج بشيء بعد شيء انتظاراً لعسكر خوارزم شاه، ولا يؤيسه من طاعته، ولا يخطب له ويطيعه طاعة غير مستوية.
ثم إن الأمير علي بن أبي علي، صاحب كالوين، أطلع غياث الدين على حال ابن خرميل، فعزم غياث الدين على التوجه إلى هراة، فثبطه بعض الأمراء الذين معه، و أشاروا عليه بانتظار آخر أمره وترك محاقته.
واستشار ابن خرميل الناس في أمر غياث الدين، فقال له علي بن عبد الخلاق بن زياد، مدرس النظامية بهراة، وهو متولي وقوف خراسان التي بيد الغورية جميعها: ينبغي أن تخطب للسلطان غياث الدين، وتترك المغالطة؛ فأجابه: إنني أخافه على نفسي، فامض أنت وتوثق لي منه.
وكان قصده أن يبعده عن نفسه، فمضى برسالته إلى غياث الدين، وأطلعه على ما يريد ابن خرميل بفعله من الغدر به، والميل إلى خوارزم شاهن وحثه على قصد هراة، وقال له: أنا أسلمها إليك ساعة تصل إليها؛ ووافقه بعض الأمراء، وخالفه غيرهم،! وقال: ينبغي أن لا تترك له حجة، فترسل إليه تقليداً بولاية هراة، ففعل ذلك، وسيره مع ابن زياد وبعض أصحابه.
ثم إن غياث الدين كاتب أميران بن قيصر، صاحب الطالقان، يستدعيه إليه، فتوقف؛ و أرسل إلى صاحب مرو ليسير إليه، فتوقف أيضاً، فقال له أهل البلد: إن لم تسلم البلد إلى غياث الدين، وتتوجه إليه، وإلا سلمناك، وقيدناك، وأرسلناك إليه، فاضطر إلى المجيء إلى فيروزكوه، فخلع عليه غياث الدين، وأقطعه إقطاعاً، وأقطع الطالقان سونج مملوك أيبه المعروف بأمير أشكار.
ذكر استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغوريةقد ذكرنا مكاتبة الحسين بن خرميل، والي هراة، خوارزم شاه، ومراسلته في الانتماء إليه والطاعة له، ترك طاعة الغورية، وخداعه لغياث الدين، ومغالطته له بالخطبة له والطاعة، انتظاراً لوصول عسكر خوارزم شاه، ووصول رسول غياث الدين وابن زياد بالخلع إلى ابن خرميل، فلما وصلت الخلع إليه لبسها هو وأصحابه، وطالبه رسول غياث الدين بالخطبة، فقال: يوم الجمعة نخطب له.
فاتفق قرب عسكر خوارزم شاه منهم، فلما كان يوم الجمعة قيل له في معنى الخطبة، فقال: نحن في شغل أهم منها بوصول هذا العدو، فطالت المجادلات بينهم في ذلك، وهو مصر على الامتناع منها، ووصل عسكر خوارزم شاه، فلقيهم ابن خرميل، وأنزلهم على باب البلد، فقالوا له: قد أمرنا خوارزم شاه أن لا نخالف لك أمراً؛ فشكرهم على ذلك؛ وكان يخرج إليهم كل يوم، وأقام لهم الوظائف الكثيرة.
وأتاه الخبر أن خوارزم شاه نزل على بلخ فحاصرها، فلقيه صاحبها، وقاتله بظاهر البلد، فلم ينزل بالقرب منها، فنزل على أربعة فراسخ، فندم ابن خرميل على طاعة خوارزم شاه، وقال لخواصه: لقد أخطأنا حيث صرنا مع هذا الرجل، فإنني أراه عاجزاً.
وشرع في إعادة العسكر، فقال للأمراء: إن خوارزم شاه قد أرسل إلى غياث الدين يقول له: إنني على العهد الذي بيننا، وأنا أترك ما كان لأبيك بخراسان؛ والمصلحة أن ترجعوا حتى ننظر ما يكون. فعادوا، وأرسل إليهم الهدايا الكثيرة.
وكان غياث الدين حيث اتصل به وصول عسكر خوارزم شاه إلى هراة، فأخذ إقطاع ابن خرميل وأرسل إلى كرزبان وأخذ كل ما له بها من مال. وأولاد، ودواب، وغير ذلك. وأخذ أصحابه في القيود، وأتاه كتب من يميل إليه من الغوية يقولون له: إن رآك غياث الدين قتلك.
ولما سمع أهل هراة بما فعل غياث الدين بأهل ابن خرميل وماله عزموا على قبضه والمكاتبة إلى غياث الدين بإنفاذ من يتسلم البلد، وكتب القاضي صاعد، قاضي هراة، وابن زياد إلى غياث الدين بذلك؛ فلما سمع ابن خرميل بما فعله غياث الدين بأهله، وبما عزم عليه أهل هراة، خاف أن يعاجلوه بالقبض، فحضر عند القاضي، وأحضر أعيان البلد، وألان لهم القول، وتقرب إليهم، وأظهر طاعة غياث الدين، وقال: قد رددت عسكر خورازم شاه، وأريد أن أرسل رسولاً إلى غياث الدين بطاعتي، والذي أوثره منكم أن تكتبوا معه كتاباً بطاعتي. فاستحسنوا قوله، وكتبوا له بما طلب، وسير رسوله إلى فيروزكوه، وأمره، إذا جنه الليل، أن يرجع على طريق نيسابور يلحق عسكر خوارزم شاه ويجد السير فإذا لحقهم ردهم إليه.
ففعل الرسول ما أمره، ولحق العسكر على يومين من هراة، فأمرهم بالعود، فعادوا، فلما كان اليوم الرابع من سير الرسول وصلوا إلى هراة والرسول بين أيديهم، فلقيهم ابن خرميل، وأدخلهم البلد والطبول تضرب بين أيديهم، فلما دخلوا أخذ ابن زياد الفقيه فسلمه، وأخرج القاضي صاعداً من البلد، فسار إلى غياث الدين بفيروزكوه، وأخرج من عنده من الغورية، وكل من يعلم أنه يريدهم، و سلم أبواب البلد إلى الخوارزمية.
وأما غياث الدين فإنه برز عن فيروزكوه نحو هراة، وأرسل عسكراً، فأخذوا حشيراً كان لأهل هراة، فخرج الخوارزمية، فشنوا الغارة على هراة الروذ وغيرها، فأمر غياث الدين عسكره بالتقدم إلى هراة، وجعل المقدم عليهم علي بن أبي علي، وأقام هو بفيروزكوه لما بلغه أن خوارزم شاه على بلخ، فسار العسكر وعلى يزكه الأمير أميران بن قيصر الذي كان صاحب الطالقان، وكان منحرفاً عن غياث الدين حيث أخذ منع الطالقان، فأرسل إلى ابن خرميل يعرفه أنه على اليزك، ويأمره بالمجيء إليه، فإنه لا يمنعه، وحلف له على ذلك.
فسار ابن خرميل في عسكره، فكبس عسكر غياث الدين، فلم يلحقوا يركبون خيولهم حتى خالطوهم، فقتلوا فيهم، فكف ابن خرميل أصحابه عن الغورية خوفاً أن يهلكوا، وغنم أموالهم وأسر إسمعيل الخلجي، وأقام بمكانه، وأرسل عسكره فشنوا الغارة على البلاد باذغيس وغيرها.
وعظم الأمر على غياث الدين، فعزم على المسير إلى هراة بنفسه، فأتاه الخبر أن علاء الدين، صاحب باميان، قد عاد إلى غزنة على ما نذكره، فأقام ينتظر ما يكون منهم من الدز.
وأما بلخ فإن خوارزم شاه لما بلغه قتل شهاب الدين أخرج من كان عنده من الغوريين الذين كان أسرهم في المصاف على باب خوارزم، فخلع عليهم، وأحسن إليهم، وأعطاهم الأموال، وقال: إن غياث الدين أخي، ولا فرق بيني وبينه، فمن أحب منكم المقام عندي فليقم، ومن أحب أن يسير إليه فإنني أسيره، ولو أراد مني مهما أراد نزلت له عنه.
وعهد إلى محمد بن علي بن بشير، وهو من أكابر الأمراء الغورية، فأحسن إليه، وأقطعه استمالة للغورية، وجعله سفيراً بينه وبين صاحب بلخ، فسير أخاه علي شاه بين يديه في عسكره إلى بلخ، فلما قاربها خرج إليه عماد الدين عمر بن الحسني الغورية أميرها، فدفعه عن النزول عليها، فنزل على أربعة فراسخ عنها، فأرسل إلى أخيه خوارزم شاه يعلمه قوتهم، فسار إليها في ذي القعدة من السنة، فلما وصل إلى بلخ خرج صاحبها فقاتلهم، فلم يقو بهم لكثرتهم، فنزلوا فصار يوقع بهم ليلاً، فكانوا معه على أقبح صورة، فأقام صاحب بلخ محاصراً وهو ينتظر المداد من أصحابه أولاد بهاء الدين، صاحب باميان، وكانوا قد اشتغلوا عنه بغزنة على ما نذكره.
فأقام خوارزم شاه على بلخ أربعين يوماً، كل يوم يركب إلى الحرب، فيقتل من أصحابه كثير، ولا يظفر بشيء، فراسل صاحبها عماد الدين مع محمد بن علي بن بشير الغوري في بذل بذله له ليسلم إليه البلد، فلم يجبه إلى ذلك، وقال: لا أسلم البلد إلا إلى أصحابه؛ فعزم على المسير إلى هراة، فلما سار أصحابه أولاد بهاء الدين، صاحب باميان، إلى غزنة، المرة الثانية، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وأسرهم تاج الدين الدز، عاد عن ذلك العزم، وأرسل محمد بن علي بن بشير إلى عماد الدين نائبه يعرفه حال أصحابه وأسرهم، وأنه لم يبق عليه حجة، ولا له في التأخر عنه عذر. فدخل إليه، ولم يزل يخدعه تارة يرغبه، وتارة يرهبه، حتى أجاب إلى طاعة خوارزم شاه والخطبة له، وذكر اسمه على السكة، وقال: أنا أعلم أنه لا يفي لي؛ فأرسل من يستحلفه على ما أراد، فتم الصلح، وخرج إلى خوارزم شاه، فخلع عليه، وأعاده إلى بلده، وكان سلخ ربيع الأول سنة ثلاث وستمائة.
ثم سار خوارزم شاه إلى كرزبان ليحاصرها، وبها علي بن أبي علي، وأرسل إلى غياث الدين يقول: إن هذه كان قد أقطعها عمك لابن خرميل، فتنزل عنها؛ فامتنع، وقال، بيني وبينكم السيف؛ فأرسل اله خوارزم شاه مع محمد بن علي بن بشير فرغبه، وآيسه من نجدة غياث الدين، ولم يزل به حتى نزل عنها وسلمها، وعاد إلى فيروزكوه، فأمر غياث الدين بقتله، فشفع فيه الأمراء، فتركه، وسلم خوارزم شاه كرزبان إلى ابن خرميل. ثم أسل إلى عماد الدين، صاحب بلخ، يطلبه إليه، ويقول: قد حضر مهم ولا غنى عن حضورك، فأنت اليوم من أخص أوليائنا؛ فحضر عنده، فقبض عيه وسيره إلى خوارزم، ومضى هو إلى بلخ، فأخذها واستناب بها جعفراً التركي.
ذكر ملك خوارزم شاه ترمذ
وتسليمها إلى الخطالما أخذ خوارزم شاه مدينة بلخ سار عنها إلى مدينة ترمذ مجداً، وبها ولد عماد الدين كان صاحب بلخ، فأرسل إليه محمد بن بشير يقول له: إن أباك قد صار من أخص أصحابي وأكابر أمراء دولتي، وقد سلم إلى بلخ، وإنما ظهر لي منه ما أنكرته، فسيرته إلى خوارزم مكرماً محترماً، وأما أنت فتكون عندي أخاً.
ووعده، وأقطعه الكثير، فخدعه محمد بن علي، فرأى صاحبها أن خوارزم شاه قد حصره من جانب والخطا قد حصره من جانب آخر، وأصحابه قد أسرهم الدز بغزنة، فضعف نفسه، وأرسل من يستحلف له خوارزم شاه، فحلف له، وتسلم منه ترمذ وسلمها إلى الخطا، فلقد اكتسب بها خوارزم شاه سبة عظيمة، وذكراً قبيحاً في عاجل الأمر؛ ثم ظهر للناس، بعد ذلك، أنه إنما سلمها إليهم ليتمكن بذلك من ملك خراسان، ثم يعود إليهم فيأخذها وغيرها منها، لأنه لمتا ملك خراسان وقصد بلاد الخطا وأخذها وأفناهم علم الناس أنه فعل ذلك خديعة ومكراً، غفر الله له.
ذكر عود أولاد صاحب باميان إلى غزنةقد ذكرنا قبل وصول الدز التركي إلى غزنة، وإخراجه علاء الدين وجلال الدين ولدي بهاء الدين سام، صاحب باميان، منها، بعد أن ملكها، وأقام هو في غزنة من عاشر رمضان سنة اثنتين وستمائة إلى خامس ذي القعدة من السنة، يحسن السيرة، ويعدل في الرعية، وأقطع البلاد للأجناد، فبعضهم أقام، وبعضهم سار إلى غياث الدين بفيروزكوه، وبعضهم سار إلى علاء الدين، صاحب باميان، ولم يخطب لأحد، ولا لنفسه، وكان يعد الناس بأن رسولي عند مولاي غياث الدين، فإذا عاد خطبت؛ ففرح الناس بقوله.
وكان يفعل ذلك مكراً وخديعة بهم وبغياث الدين، لأنه لو لم يظهر ذلك لفارقه أكثر الأتراك وسائر الرعايا، وكان حينئذ يضعف عن مقاومة صاحب باميان، في العساكر الكثيرة، وأنهم قد عزموا على نهب غزنة، واستباحة الأموال والأنفس، فخاف الناس خوفاً شديداً، وجهز الدز كثيراً من عسكره وسيرهم إلى طريقهم، فلقوا أوائل العسكر، فقتل من الأتراك جماعة، و أدركهم العسكر، فلم يكن لهم قوة بهم، فانهزموا، وتبعهم عسكر علاء الدين يقتلون ويأسرون، فوصل المنهزمون إلى غزنة، فخرج عنها الدز منهزماً يطلب بلده كرمان، فأدركه بعض عسكر باميان، نحو ثلاثة آلاف فارس، فقاتلهم قتالاً شديداً، فردهم عنه، وأحضر من كرمان مالاً كثيراً، وسلاحاً، ففرقه في العسكر.
وأما علاء الدين وأخوه فإنهما تركا غزنة لم يدخلاها، وسارا في أثر الدز، فسمع بهم، فسار عن كرمان، فنهب الناس بعضهم بعضاً، وملك علاء الدين كرمان، وأمنوا أهلها، وعزموا على العود إلى غزنة ونهبها، فسمع أهلها بذلك، فقصدوا القاضي سعيد بن مسعود وشكوا إليه حالهم، فمشى إلى وزير علاء الدين المعروف بالصاحب، وأخبره بحال الناس، فطيب قلوبهم، و أخبرهم غيره ممن يثقون به أنهم مجمعون على النهب، فاستعدوا وضيقوا أبواب الدروب والشوارع، وأعدوا العرادات والأحجار، وجاءت التجار من العراق، والموصل، والشام، وغيرها، وشكوا إلى أصحاب السلطان، فلم يشكهم أحد، فقصدوا دار مجد الدين بن الربيع، رسول الخليفة، واستغاثوا به، فسكنهم، ووعدهم الشفاعة فيهم وفي أهل البلد، فأرسل إلى أمير كبير من الغورية يقال له سليمان بن سيس، وكان شيخاً كبيراً يرجعون إلى قوله، يعرفه الحال، ويقول له ليكتب إلى علاء الدين وأخيه يتشفع في الناس، ففعل، وبالغ في الشفاعة، وخوفهم من أهل البلد إن أصروا على النهب، فأجابوه إلى العفو عن الناس بعد مراجعات كثيرة.
وكانوا قد وعدوا من معهم من العساكر بنهب غزنة، فعوضوهم من الخزانة، فسكن الناس، وعاد العسكر إلى غزنة أواخر ذي القعدة ومعهم الخزانة التي أخذها الدز من مؤيد الملك لما عاد ومعه شهاب الدين قتيلاً، فكانت مع ما أضيف إليها من الثياب والعين تسع مائة حمل، ومن جملة ما كان فيها من الثياب الممزج، المنسوج بالذهب، اثنا عشر ألف ثوب.
وعزم علاء الدين أن يستوزر مؤيد الملك، فسمع أخوه جلال الدين، فأحضره وخلع عليه، على كراهة منه للخلعة، واستوزره؛ فلما سمع علاء الدين بذلك قبض على مؤيد الملك، وقيده، وحبسه، فتغيرت نيات الناس، واختلفوا، ثم إن علاء الدين وجلال الدين اقتسما الخزانة، وجرى بينهما من المشاحنة في القسمة ما لا يجري بين التجار، فاستدل بذلك الناس على أنهما لا يستقيم لهما حال لبخلهما، واختلافهما، وندم الأمراء على ميلهم إليهما، وتركهم غياث الدين مع ما ظهر من كرمه وإحسانه.
ثم إن جلال الدين وعمه عباساً سارا في بعض العسكر إلى باميان، وبقي علاء الدين بغزنة، فأساء وزيره عماد الملك السيرة مع الأجناد والرعية، ونهبت أموال الأتراك، حتى إنهم باعوا أمهات أولادهم وهن يبكين ويصرخن ولا يلتفت إليهن.
ذكر عود الدز إلى غزنةلما سار جلال الدين عن غزنة، وأقام بها أخوه علاء الدين، جمع الدز ومن معه من الأتراك عسكرًاً كثيراً وعادوا إلى غزنة، فوصلوا إلى كلوا فملكوها وقتلوا جماعة من الغورية، ووصل المنهزمون منها إلى كرمان، فسار الدز إليهم، وجعل على مقدمته مملوكاً كبيراً من مماليك شهاب الدين، اسمه أي دكز التتر، في ألفي فارس من الخلج والأتراك والغز والغورية وغيرهم.
وكان بكرمان عسكر لعلاء الدين مع أمير يقال له ابن المؤيد، ومعه جماعة من الأمراء، منهم أبو علي بن سليمان بن سيس، وهو وأبوه من أعيان الغورية، وكانا مشتغلين باللعب واللهو والشرب، لا يفتران عن ذلك، فقيل لهما: إن عسكر الأتراك قد قربوا منكم؛ فلم يلتفتا إلى ذلك، ولا تركا منا كانا عليه، فهجم عليهم أي دكز التتر ومن معه من الأتراك، فلم يمهلهم يركبون خيولهم، فقتلوا عن آخرهم، منهم من قتل في المعركة، ومنهم من قتل صبراً، ولم ينج إلا من تركه الأتراك عمداً.
ولما وصل الدز فرأى أمراء الغورية كلهم قتلى قال: كل هؤلاء قاتلونا؟ فقال أي دكز التتر: لا بل قتلناهم صبراً؛ فلامه على ذلك، ووبخه، وأحضر رأس ابن المؤيد بين يديه، فسجد شكراً لله تعالى، وأمر بالمقتولين فغسلوا ودفنوا، وكان في جملة القتلى أبو علي بن سليمان بن سيس.
ووصل الخبر إلى غزنة في العشرين من ذي الحجة من هذه السنة، فصلب علاء الدين الذي جاء بالخبر، فتغميت السماء، وجاء مطر شديد خرب بعض غزنة، وجاء بعه برد كبار مثل بيض الدجاج، فضج الناس إلى علاء الدين بإنزال المصلوب، فأنزله آخر النهار، فانكشفت الظلمة، وسكن ما كانوا فيه.
وملك الدز كرمان، وأحسن إلى أهلها، وكانوا في ضر شديد مع أولئك.
ولما صح الخبر عند علاء الدين أرسل وزيره الصاحب إلى أخيه جلال الدين في باميان يخبره بحال الدز، ويستنجده، وكان قد أعد العساكر ليسير إلى بلخ يرحل عنها خوارزم شاه، فلما أتاه هذا الخبر ترك بلخ وسار إلى غزنة، وكان أكثر عسكره من الغورية قد فارقوه، وفارقوا أخاه، وقصدوا غياث الدين، فلما كان أواخر ذي الحجة وصل الدز إلى غزنة، ونزل هو وعسكره بإزاء قلعة غزنة، وحصر علاء الدين، وجرى بينهم قتال شديد، وأمر الدز فنودي في البلد بالأمان، وتسكين الناس من أهل البلد، والغورية، وعسكر باميان، وأقام الدز محاصراً للقلعة، فوصل جلال الدين في أربعة آلاف من عسكر باميان وغيرهم، فرحل الدز إلى طريقهم، وكان مقامه إلى أن سار إليهم أربعين يوماً، فلما سار الدز سير علاء الدين من كان عنده من العسكر، وأمرهم أن يأتوا الدز من خلفه، ويكون أخوه من بين يديه، فلا يسلم من عسكره أحد. فلما خرجوا من القلعة سار سليمان بن سيس الغوري إلى غياث الدين بفيروزكوه، فلما وصل إليه أكرمه وعظمه، وجعله أمير داذ فيروزكوه، وكان ذلك في صفر سنة ثلاث وستمائة.
وأما الدز فإنه سار إلى طريق جلال الدين، فالتقوا بقرية بلق، فاقتتلوا قتالاً صبروا فيه، فانهزم جلال الدين وعسكره، وأخذ جلال الدين أسيراً، وأتى به إلى الدز، فلما رآه ترجل وقبل يده، وأمر الاحتياط عليه، وعاد إلى غزنة وجلال الدين معه وألف أسير من الباميانية، وغنم أصحابه أموالهم.
ولما عاد إلى غزنة أرسل إلى علاء الدين يقول له ليسلم القلعة إليه، وإلا قتل من عنده من الأسرى، فلم يسلمها، فقتل منهم أربع مائة أسير بإزاء القلعة، فلما رأى علاء الدين ذلك أرسل مؤيد الملك يطلب الأمان، فأمنه الدز، فلما خرج قبض عليه ووكل به وبأخيه من يحفظهما، وقبض على وزيره عماد الملك لسوء سيرته، وكان هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه تكش مع علاء الدين بقلعة غزنة، فلما خرج منها قبض عليه أيضاً، وكتب إلى غياث الدين بالفتح، وأرسل إليه الأعلام وبعض الأسرى.
ذكر قصد صاحب مراغة وصاحب إربل أذربيخانفي هذه السنة اتفق صاحب مراغة، وهو علاء الدين، هو ومظفر الدين كوكبري، صاحب إربل، على قصد أذربيجان وأخذها من صاحبها أبي بكر بن البهلوان، لاشتغاله بالشرب ليلاً ونهاراً، وتركه النظر في أحوال المملكة، وحفظ العساكر والرعايا، فسار صاحب إربل إلى مراغة، واجتمع هو وصاحبها علاء الدين، وتقدما نحو تبريز، فلا علم صاحبها أبو بكر أرسل إلى إيدغمش، صاحب بلاد الجبل، همذان وأصفهان والري وما بينها من البلاد، وهو مملوك أبيه البهلوان، وهو في طاعة أبي بكر، إلا أنه قد غلب على البلاد، فلا يلتفت إلى أبي بكر، فأرسل إليه أبو بكر يستنجده، ويعرفه الحال، وكان حينئذ ببلد الإسماعيلية، فلما أتاه الخبر سار إليه في العساكر الكثيرة.
فلما حضر عنده أرسل إلى صاحب إربل يقول له: إننا كنا نسمع عنك أنك تحب أهل العلم والخير وتحسن إليهم، فكنا نعتقد فيك الخير والدين، فلما كان الآن ظهر لنا منك ضد ذلك لقصدك بلاد الإسلام، وقتال المسلمين، ونهب أموالهم، وإثارة الفتنة، فإذا كنت كذلك فما لك عقل؛ تجيء إلينا، وأنت صاحب قرية، ونحن لنا من باب خراسان إلى خلاط وإلى إربل، واحسب أنك هزمت هذا، أما تعلم أن له مماليك، أنا أحدهم، ولو أخذ من كل قرية شحنة، أو من كل مدينة عشرة رجال، لاجتمع له أضعاف عسكر، فالمصلحة أنك ترجع إلى بلدك؛ وإنما أقول لك هذا إبقاء عليك.
ثم سار نحوه عقيب هذه الرسالة، فلما سمعها مظفر الدين وبلغه مسير إيدغمش عزم على العود؛ فاجتهد به صاحب مراغة ليقيم بمكانه، ويسلم عسكره إليه، وقال له: إنني قد كاتبني جميع أمرائه ليكونوا معي إذا قصدتهم؛ فلم يقبل مظفر الدين من قوله، وعاد إلى بلده، وسلك الطريق الشاقة، والمضايق الصعبة، والعقاب الشاهقة، خوفاً من الطلب.
ثم سار نحوه عقيب هذه الرسالة، فلما سمعها مظفر الدين وبلغه مسير إيدغمش عزم على العود، فاجتهد به صاحب مراغة ليقيم بمكانه، ويسلم عسكره إليه، وقال له: إنني قد كاتبني جميع أمرائه ليكونوا معي إذا قصدتهم؛ فلم يقبل مظفر الدين من قوله، وعاد إلى بلده، وسلك الطريق الشاقة، والمضايق الصعبة، والعقاب الشاهقة، خوفاً من الطلب.
ثم إن أبا بكر وإيدغمش قصد مراغة وحصراها، فصالحهما صاحبها على تسليم قلعة من حصونه إلى أبي بكر، وهي كانت سبب الاختلاف، وأقطعه أبو بكر مدينتي أستوا وأرمية وعاد عنه.
ذكر الغارة من ابن ليون على أعمال حلبوفي هذه السنة توالت الغارة من ابن ليون الأرمني، صاحب الدروب، على ولاية حلب، فنهب، وحرق، وأسر، وسبى، فجمع الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف، صاحب حلب، عساكره، واستنجد غيره من الملوك، فجمع كثيراً من الفارس والراجل، وسار عن حلب نحو ابن ليون.
وكان ابن ليون قد نزل في طرف بلاده مما يلي بلد حلب، فليس إليه طريق، لأن جميع بلاده لا طريق إليها إلا من جبال وعرة، ومضايق صعبة، فلا يقدر غيره على الدخول إليها، لا سيما من ناحية حلب، فإن الطريق منها متعذر جداً، فنزل الظاهر على خمسة فاراسخ من حلب، وجعل على مقدمته جماعة من عسكره مع أمير كبير من مماليك أبيه، يعرف بميمون القصري، ينسب إلى قصر الخلفاء العلويين بمصر، لأن أباه منهم أخذه، فأنفذ الظاهرة ميرة وسلاحاً إلى حصن له مجاور لبلاد ابن ليون، اسمه دربساك، وأنفذ إلى ميمون ليرسل طائفة من العسكر الذين عنده إلى طريق هذه الذخيرة ليسيروا معها إلى دربساك، ففعل ذلك، وسير جماعة كثيرة من عسكره، وبقي في قلة، فبلغ الخبر إلى ابن ليون، فجد، فوافاه وهو مخف من العسكر، فقاتله، واشتد القتال بينهم، فأرسل ميمون إلى الظاهر يعرفه، وكان بعيداً عنه، فطالت الحرب بينهم، وحمى ميمون نفسه وأثقاله على قلة من المسلمين وكثرة من الأرمن، فانهزم المسلمون، ونال العدو منهم، فقتل وأسر، وكذلك أيضاً فعل المسلمون بالأرمن من كثرة القتل.
وظفر الأرمن بأثقال المسلمين فغنموها وساروا بها، فصادفهم المسلمون الذين كانوا قد ساروا مع الذخائر إلى دربساك، فلم يشعروا بالحال، فلم يرعهم إلا العدو وقد خالطهم ووضع السيف فيهم، فاقتتلوا أشد قتال، ثم انهزم المسلمون أيضاً، وعاد الأرمن إلى بلادهم بما غنموا واعتصموا بجبالهم وحصونهم.
ذكر نهب الكرج أرمينةفي هذه السنة قصدت الكرج في جموعها ولاية خلاط من أرمينية، ونهبوا، وقتلوا، وأسروا وسبوا أهلها كثيراً، وجاسوا خلال الديار آمنين، ولم يخرج إليهم من خلاط من يمنعهم فبقوا متصرفين في النهب والسبي، والبلاد شاغرة لا مانع لها، لأن صاحبها صبي، والمدبر لدولته ليست له تلك الطاعة على الجند.
فلما اشتد البلاء على الناس تذامروا، وحرض بعضهم بعضاً، واجتمعت العساكر الإسلامية التي بتلك الولاية جميعها، وانضاف إليهم من المتطوعة كثير، فساروا جميعهم نحو الكرج وهم خائفون، فرأى بعض الصوفية الأخيار الشيخ محمداً البستي، وهو من الصالحين، وكان قد مات، فقال له الصوفي: أراك ها هنا؟ فقال: جئت لمساعدة المسلمين على عدوهم. فاستيقظ فرحاً بمحل البستي من الإسلام، وأتى إلى مدبر العسكر، والقيم بأمره، وقص عليه رؤياه، ففرح بذلك، وقوي عزمه على قصد الكرج، وسار بالعساكر إليهم فنزل منزلاً.
فوصلت الأخبار إلى الكرج؛ فعزموا على كبس المسلمين، فانتقلوا من موضعهم بالوادي إلى أعلاه، فنزلوا فيه ليكبسوا المسلمين إذا أظلم الليل، فأتى المسلمين الخبر، فقصدوا الكرج وأمسكوا عليهم رأس الوادي وأسفله، وهو واد ليس إليه غير هذين الطريقين، فلما رأى الكرج ذلك أيقنوا بالهلاك، وسقط في أيديهم، وطمع المسلمون فيهم، وضايقوهم، وقاتلوهم، فقتلوا منهم كثيراً، وأسروا مثلهم، ولم يفلت من الكرج إلا القليل، وكفى الله المسلمين شرهم بعد أن كانوا أشرفوا على الهلاك.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في جمادى الآخرة، توفي الأمير طاشتكين مجير الدين، أمير الحاج، بتستر، وكان قد ولاه الخليفة على جميع خوزستان، وكان أمير الحاج سنين كثيرة، وكان خيراً صالحاً، حسن السيرة، كثير العبادة، بتشيع.
ولما مات ولى الخليفة على خوزستان مملوكه سنجر، وهو صهر طاشتكين زوج ابنته.
وفيها قتل سنجر بن مقلد بن سليمان بن مهارش، أمير عبادة، بالعراق. وكان سبب قتله أنه سعى بأبيه مقلد إلى الخليفة الناصر لدين الله، فأمر بالتوكيل على أبيه، فبقي مدة ثم أطلقه الخليفة، ثم إن سنجر قتل أخاً له اسمه ........ فأوغر بهذه الأسباب صدور أهله وإخوته، فلما كان هذه السنة في شعبان نزل بأرض المعشوق، وركب في بعض الأيام، ومعه إخوته وغيرهم من أصحابه، فلما انفرد عن أصحابه ضربه أخوه علي بن مقلد بالسيف فسقط إلى الأرض، فنزل إخوته إليه فقتلوه.
وفيها تجهز غياث الدين خسروشاه، صاحب مدينة الروم، إلى مدينة طرابزون، وحصر صاحبها لأنه كان قد خرج عن طاعته، فضيق عليه. فانقطعت لذلك الطرق من بلاد الروم، والروس، قفجاق وغيرها، براً وبحراً، ولم يخرج منهم أحد إلى بلاد غياث الدين، فدخل بذلك ضرر عظيم على الناس، لأنهم كانوا يتجرون معهم، ويدخلون بلادهم، ويقصدهم التجار من الشام، والعراق، والموصل، والجزيرة وغيرها، فاجتمع منهم بمدينة سيواس خلق كثير، فحيث لم ينفتح الطريق تأذوا أذى كثيراً، فكان السعيد منهم من عاد إلى رأس ماله.
وفيها تزوج أبو بكر بن البهلوان، صاحب أذربيجان وأران، بابنة ملك الكرج، وسبب ذلك أن الكرج تابعة الغارات منهم على بلاده لما رأوا من عجزه وانهماكه في الشرب واللعب وما جانسهما، وإعراضه عن تدبير الملك وحفظ البلاد، فلما رأى هو أيضاً ذلك، ولم يكن عنده من عدل إلى الذب عنها بأيره، فخطب ابنة ملكهم، فتزوجها، فكف الكرج عن النهب والإغارة والقتل، فكان كما قيل: أغمد سيفه، وسل أيره.
وفيها حمل إلى أزبك خروف وجهه صورة آدمي، وبدنه بدن خروف، وكان هذا من العجائب.
وفيها توفي القاضي أبو حامد محمد بن المانداي الوسطي بها.
وفيها، في شوال، توفي فخر الدين مبارك شاه بن الحسن المروروذي، وكان حسن الشعر بالفارسية والعربية، وله منزلة عظيمة عند غياث الدين الكبير، صاحب غزنة وهراة وغيرهما، وكان له دار ضيافة، فيها كتب وشطرنج، فالعلماء يطالعون الكتب، والجهال يلعبون بالشطرنج.
وفيها، في ذي الحجة توفي أبو الحسن علي بن علي بن سعادة الفارقي، الفقيه الشافعي، ببغداد، وبقي مدة طويلة معيداً بالنظامية، وصار مدرساً بالمدرسة التي أحدثتها أم الخليفة الناصر لدين الله، وكان مع علمه صالحاً، طلب للنيابة في القضاء ببغداد، فامتنع فألزم بذلك، فوليه يسيراً، ثم في بعض الأيام مشى إلى جامع ابن المطلب، فنزل، ولبس مئزر صوف غليظ، وغير ثيابه، وأمر الوكلاء وغيرهم بالانصراف عنه، وأقام به حتى سكن الطلب عنه، وعاد إلى منزله بغير ولاية.
وفيها وقع الشيخ أبو موسى المكي، المقيم بمقصورة جامع السلطان ببغداد، من سطح الجامع، فمات، وكان رجلاً صالحاً كثير العبادة.
وفيها أيضاً توفي العفيف أبو المكارم عرفة بن علي بن بصلا البندنيجي ببغداد، وكان رجلاً صالحاً، منقطعاً إلى العبادة، رحمه الله.
ثم دخلت سنة ثلاث وستمائة
ذكر ملك عباس باميان
وعودها إلى ابن أخيهفي هذه السنة ملك عباس باميان من علاء الدين وجلال الدين ولدي أخيه بهاء الدين.
وسبب ذلك أن عسكر باميان لما انهزموا من الدز، وعادوا إليها، أخبروا أن علاء الدين وجلال الدين أسرا، وأن الدز ومن معه غنموا ما في العسكر فأخذ وزير أبيهما، المعروف بالصاحب، من الأموال كثيراً، ومن الجواهر وغيرها من التحف، وأخذ فيلاً، وسار إلى خوارزم شاه يستنجده على الدز ليسير معه عسكراً يستخلص به صاحبيه.
فلما فارق باميان، ورأى عمهما عباس خلو البلد منه ومن ابني أخيه، جمع أصحابه وقام في البلد فملكه، وصعد إلى القلعة فملكها، وأخرج أصحاب ابني أخيه علاء الدين وجلال الدين منها؛ فبلغ الخبر إلى الوزير السائر إلى خوارزم شاه، فعاد إلى باميان، وجمع الجموع الكثيرة، وحصر عباساً في القلعة، وكان مطاعاً في جميع ممالك بهاء الدين وولديه من بعده، وأقام عليه محاصراً، إلا أنه لم يكن معه من المال ما يقوم بما يحتاج إليه، إنما كان معه ما أخذه ليحمله إلى خوارزم.
فلما خلص جلال الدين من أسر الدز، على ما نذكره، سار إلى باميان، فوصل إلى أرصف، وهي مدينة باميان، وجاء إليه وزير أبيه الصاحب، واجتمع به، وساروا إلى القلاع، وراسلوا عباساً المتغلب عليها، ولاطفوه، فسلم الجميع إلى جلال الدين وقال: إنما حفظتها خوفاً أن يأخذها خوارزم شاه؛ فاستحسن فعله، وعاد إلى ملكه.
ذكر ملك خوارزم شاه الطالقانلما سلم خوارزم شاه ترمذ إلى الخطا سار عنها إلى ميهنة وأندخوي وكتب إلى سونج أمير أشكار، نائب غياث الدين محمود بالطالقان، يستميله، فعاد الرسول خائباً لم يجبه سونج إلى ما أراد منه، وجمع عسكره وخرج يحارب خوارزم شاه، فالتقوا بالقرب من الطالقان.
فلما تقابل العسكران حمل سونج وحده مجداً، حتى قارب عسكر خوارزم شاه، فألقى نفسه إلى الأرض، ورمى سلاحه عنه، وقبل الأرض، وسأل العفو، فظن خوارزم شاه أنه سكران، فلما علم أنه صاح ذمه وسبه، وقال: من يثق بهذا وأشباهه! ولم يلتفت إليه، وأخذ ما بالطالقان من مال وسلاح ودواب وأنفذه إلى غياث الدين مع رسول، وحمله رسالة تتضمن التقرب إليه والملاطفة له، واستناب بالطالقان بعض أصحابه، وسار إلى قلاع كالوين وبيوار، فخرج إليه حسام الدين علي بن أبي علي، صاحب كالوين، وقاتله على رؤوس الجبال، فأرسل إليه خوارزم شاه يتهدده إن لم يسلم إليه، فقال: أما أنا فمملوك، وأما هذه الحصون فهي أمانة بيدي، ولا أسلمها إلا إلى صاحبها؛ فاستحسن خوارزم شاه منه هذا، وأثنى عليه، وذم سونج.
ولما بلغ غياث الدين خبر سونج، وتسليمه الطالقان إلى خوارزم شاه، عظم عنده وشق عليه، فسلاه أصحابه، وهونوا الأمر.
ولما فرغ خوارزم شاه من الطالقان سار إلى هراة، فنزل بظاهرها، ولم يمكن ابن خرميل أحداً من الخوارزميين أن يتطرق بالأذى إلى أهلها، وإنما كانوا يجتمع منهم الجماعة بعد الجماعة، فيقطعون الطريق، وهذه عادة الخوارزميين.
ووصل رسول غياث الدين إلى خوارزم شاه بالهدايا، ورأى الناس عجباً، وذلك أن الخوارزميين لا يذكرون غياث الدين الكبير والد غياث الدين هذا، ولا يذكرون أيضاً شهاب الدين أخاه، وهما حيان، إلا بالغوري، وصاحب غزنة، وكان وزير خوارزم شاه الآن، مع عظم شأنه وقلة شأن غياث الدين هذا، لا يذكره إلا بمولانا السلطان مع ضعفه وعجزه وقلة بلاده.
وأما ابن خرميل فإنه سار من هراة في جمع من عسكر خوارزم شاه، فنزل على أسفزار في صفر، وكان صاحبها قد توجه إلى غياث الدين فحصرها وأرسل من بها يقسم بالله لئن سلموها أن يؤمنهم، وإن امتنعوا أقام عليهم إلى أن يأخذهم، فإذا أخذهم قهراً لا يبقى على كبير ولا صغير، فخافوا، فسلموها في ربيع الأول، فأمنهم ولم يتعرض إلى أهلها بسوء؛ فلما أخذها أرسل إلى حرب بن محمد، صاحب سجستان، يدعوه إلى طاعة خوارزم شاه والخطبة له ببلاده، فأجابه إلى ذلك، وكان غياث الدين قد راسله قبل ذلك في الخطبة والدخول في طاعته، فغالطه ولم يجبه إلى ما طلب.
ولما كان خوارزم شاه على هراة عاد إليها القاضي صاعد بن الفضل الذي كان ابن خرميل قد أخرجه من هراة في العام الماضي، وسار إلى غياث الدين، فعاد الآن من عنده، فلما وصل قال ابن خرميل لخوارزم شاه: إن هذا يميل إلى الغورية، ويريد دولتهم، ووقع فيه، فسجنه خوارزم شاه بقلعة زوزن، وولى القضاء بهراة الصفي أبا بكر محمد السرخسي، وكان ينوب عن صاعد وابنه في القضاء بهراة.
ذكر حال غياث الدين مع الدز وأيبك
لما عاد الدز إلى غزنة، وأسر علاء الدين وأخاه جلال الدين، كما ذكرناه، كتب إليه غياث الدين يطالبه بالخطبة له، فأجابه جواب مدافع، وكان جوابه في هذه المرة أشد منه فيما تقدم، فأعاد غياث الدين إليه يقول: إما أن تخطب لنا، وإما أن تعرفنا ما في نفسك؛ فلما وصل الرسول بهذا أحضر خطيب غزنة وأمره أن يخطب لنفسه بعد الترحم على شهاب الدين، فخطب لتاج الدين الدز بغزنة.
فلما سمع الناس ذلك ساءهم، وتغيرت نياتهم، ونيات الأتراك الذين معه، ولم يروه أهلاً أن يخدموه، وإنما كانوا يطيعونه ظناً منهم أنه ينصر دولة غياث الدين، فلما خطب له أرسل إلى غياث الدين يقول له: بماذا تشتط علي، وتتحكم في هذه الخزانة؟ نحن جمعناها بأسيافنا، وهذا الملك قد أخذته، وأنت قد اجتمع عندك الذين هم أساس الفتنة، وأقطعتهم الإقطاعات، ووعدتني بأمور لم تقف عليها، فإن أنت أعتقتني خطبت لك وحضرت خدمتك.
فلما وصل الرسول أجابه غياث الدين إلى عتق الدز، بعد الامتناع الشديد، والعزم على مصالحة خوارزم شاه على ما يريد، وقصد غزنة ومحاربته بها؛ فلما أجابه إلى العتق أشهد عليه به، وأشهد عليه أيضاً بعتق قطب الدين أيبك، مملوك شهاب الدين ونائبه ببلاد الهند، وأرسل إلى كل واحد منهما ألف قباء، وألف قلنسوة، ومناطق الذهب، وسيوفاً كثيرة وجترين، ومائة رأس من الخيل، وأرسل إلى كل واحد منهما رسولاً، فقبل الدز الخلع، ورد الجتر، وقال: نحن عبيد ومماليك، والجتر له أصحاب.
سار رسول أبيك إليه، وكان بفرشابور قد ضبط المملكة وحفظ البلاد، ومنع المفسدين من الفساد والأذى، والناس معه في أمن، فلما قرب الرسول منه لقيه على بعد، وترجل وقبل حافر الفرس، ولبس الخلعة، وقال: أما الجتر فلا يصلح للمماليك، وأما العتق فمقبول، وسوف أجاريه بعبودية الأبد.
وأما خوارزم شاه فإنه أرسل إلى غياث الدين يطلب منه أن يتصاهرا، ويطلب منه ابن خرميل صاحب هراة إلى طاعته، ويسير معه في العساكر إلى غزنة، فإذا ملكها من الدز اقتسموا المال أثلاثاً: ثلث لخوارزم شاه، وثلث لغياث الدين، وثلث للعسكر؛ فأجابه إلى ذلك، ولم يبق إلا الصلح، فوصل الخبر إلى خوارزم شاه بموت صاحب مازندران، فسار عن هراة إلى مرو، وسمع الدز بالصلح، فجزع لذلك جزعاً عظيماً ظهر أثره عليه، وأرسل إلى غياث الدين: ما حملك على هذا؟ فقال: حملني عليه عصيانك وخلافك علي. فسار الدز إلى نكياباذ فأخذها، وإلى بست وتلك الأعمال فملكها، وقطع خطبة غياث الدين منها، وأرسل إلى صاحب سجستان يأمره بإعادة الترحم على شهاب الدين، وقطع خطبة خوارزم شاه، وأرسل إلى ابن خرميل، صاحب هراة، بمثل ذلك، وتهددهما بقصد بلادهما، فخافهما الناس.
ثم إن الدز أخرج جلال الدين، صاحب باميان، من أسره، وسير معه خمسة آلاف فارس مع أي دكز التتر، مملوك شهاب الدين، إلى باميان ليعيدوه إلى ملكه ويزيلوا ابن عمه عنه، وزوجه ابنته؛ وسار ومعه أي دكز، فلا خلا به وبخه على لبسه خلعة الدز وقال له: أنتم ما رضيتم أن تلبسوا خلعة غياث الدين، وهو أكبر سناً منكم، وأشرف بيتاً، تلبس خلعة هذا المأبون! يعين الدز، ودعاه إلى العود معه إلى غزنة، وأعلمه أن الأتراك كلهم مجمعون على خلاف الدز.
فلم يجبه إلى ذلك، فقال أي دكز: فإنني لا أسير معك؛ وعاد إلى كابل، وهي إقطاعه، فلما وصل أي دكز إلى كابل لقيه رسول من قطب الدين أيبك إلى الدز يقبح له فعله، ويأمره بإقامة خطبة غياث الدينم، ويخبره أنه قد خطب له في بلاده، ويقول له إن لم يخطب له هو أيضاً بغزنة ويعود إلى طاعته، وإلا قصده وحاربه.
فلما علم أي دكز ذلك قويت نفسه على مخالفة الدز، وصمم العزم على قصد غزنة، ووصل أيضاً رسول أيبك إلى غياث الدين بالهدايا والتحف، ويشير عليه بإجابة خوارزم شاه إلى ما طلب الآن، وعند الفراغ من أمر غزنة تسهل أمور خوارزم شاه وغيره، وأنفذ له ذهباً عليه اسمه، فكتب أي دكز إلى أيبك يعرفه عصيان الدز على غياث الدين وما فعله في البلاد، وأنه على عزم مشاققه الدز، وهو ينتظر أمره؛ فأعاد أيبك جوابه يأمره بقصد غزنة، فإن حصلت له القلعة أقام بها إلى أن يأتيه، وأن لم تحصل له القلعة وقصده الدز انحاز إليه، أو إلى غياث الدين، أو يعود إلى كابل.
فسار إلى غزنة، وكان جلال الدين قد كتب إلى الدز يخبره خبر أي دكز وما عزم عليه، فكتب الدز إلى نوابه بقلعة غزنة يأمرهم بالاحتياط منه، فوصلها أي دكز أول رجب من السنة، وقد حذروه فلم يسلموا إليه القلعة، ومنعوه عنها، فأمر أصحابه بنهب البلد، فنهبوا عدة مواضع منه، فتوسط القاضي الحال بأن سلم إليه من الخزانة خمسين ألف دينار ركنية، وأخذ له من التجار شيئاً آخر، وخطب أي دكز بغزنة لغياث الدين، وقطع خطبة الدز، ففرح الناس بذلك.
وكان مؤيد الملك ينوب عن الدز بالقلعة، ووصل الخبر إلى الدز بوصول أي دكز إلى غزنة، ووصول رسول أيبك إليه، ففت في عضده، وخطب لغياث الدين في تكياباذ، وأسقط اسمه من الخطبة، فخطب له، ورحل إلى غزنة؛ فلما قاربها رحل أي دكز عنها إلى بلد الغور، فأقام في تمران، وكتب إلى غياث الدين يخبره بحاله، وأنفذ إليه المال الذي أخذه من الخزانة ومن أموال الناس، فأرسل إليه خلعاً وأعتقه، وخاطبه بملك الأمراء، ورد عليه المال الذي كان أخذه من الخزانة، وقال له: أما مال الخزانة فقد أعدناه إليك لتخرجه، وأما أموال التجار وأهل البلد فقد أرسلته مع رسولي ليعاد إلى أربابه لئلا نفتتح دولتنا بالظلم، وقد عوضتك عنه ضعفه.
وأرسل أموال الناس إلى غزنة، إلى قاضي غزنة، وأمره أن يرد المال المنفذ على أربابه، فأنهى القاضي الحال إلى الدز، وأشار عليه بالخطبة لغياث الدين، وقال: أنا أسعى في الوصلة بينكما والصهر والصلح، فأمر بذلك، فبلغ الخبر إلى غياث الدين، فأرسل إلى القاضي ينهاه عن المجيء إليه، وقال: لا تسأل في عبد أبق قد بان فساده واتضح عناده؛ فأقام بغزنة هو والدز، وسير غياث الدين، وقد أقطعها لبعض الأمراء، فهجموا على صاحبها، فنهبوا ماله، وأخذوا أولاده، فنجا وحده إلى غياث الدين، فاقتضى الحال أن سار غياث الدين إلى بست وتلك الولاية، فاستردها وأحسن إلى أهلها، وأطلق لهم خراج سنة لما نالهم من الدز من الأذى.
ذكر وفاة صاحب مازندران والخلف بين أولادهفي هذه السنة توفي حسام الدين أردشير، صاحب مازندران، وخلف ثلاثة أولاد، فملك بعده ابنه الأكبر، وأخرج أخاه الأوسط من البلاد، فقصد جرجان، وبها الملك علي شاه بن خوارزم شاه تكش، أخو خوارزم شاه محمد، وهو ينوب عن أخيه فيها، فشكا إليه ما صنع به أخوه من إخراجه من البلاد، وطلب منه أن ينجده عليه، ويأخذ له البلاد ليكون في طاعته، فكتب علي شاه إلى أخيه خوارزم شاه في ذلك، فأمر بالمسير معه إلى مازندران، وأخذ البلاد له، وإقامة الخطبة لخوارزم شاه فيها.
فساروا عن جرجان، فاتفق أن حسام الدين، صاحب مازندران، مات في ذلك الوقت، وملك البلاد بعده أخوه الأصغر، واستولى على القلاع والأموال، فدخل علي شاه البلاد، ومعه صاحب مازندران، فنهبوها وخربوها، وامتنع منهم الأخ الصغير بالقلاع، وأقام بقلعة كور، وهي التي فيها الأموال والذخائر، وحصروه فيها بعد أن ملكوا أسامة البلاد مثل: سارية وآمل وغيرهما من البلاد والحصون، وخطب لخوارزم شاه فيها جميعها، سوى القلعة التي فيها أخوه الأصغر، وهو يراسله، ويستميله، ويستعطفه، وأخوه لا يرد جواباً، ولا ينزل عن صنه.
ذكر ملك غياث الدين مدينة أنطاكيةفي هذه السنة، ثالث شعبان، ملك غياث الدين كيخسرو، صاحب قونية وبلد الروم، مدينة أنطاكية بالأمان، وهي للروم على ساحل البحر.
وسبب ذلك أنه كان حصرها قبل هذا التاريخ، وأطال المقام عليها، وهدم عدة أبراج من سورها، ولم يبق إلا فتحها عنوة، فأرسل من بها من الروم إلى الفرنج الذين بجزيرة قبرس، وهي قريبة منها، فاستنجدوهم، فوصل إليها جماعة منهم، فعند ذلك يئس غياث الدين منها، ورحل عنها، وترك طائفة من عسكره بالقرب منها، بالجبال التي بينها وبين بلاده، وأمرهم بقطع الميرة منها.
فاستمر الحال على ذلك مدة حتى ضاق بأهل البلد، واشتد الأمر عليهم، فطلبوا من الفرنج الخروج لدفع المسلمين عن مضايقتهم، فظن الفرنج أن الروم يريدون إخراجهم من المدينة بهذا السبب، فوقع الخلف بينهم، فاقتتلوا، فأرسل الروم إلى المسلمين، وطلبوهم ليسلموا إليهم البلد، فوصلوا إليهم، واجتمعوا على قتال الفرنج، فانهزم الفرنج ودخلوا الحصن فاعتصموا به، فأرسل المسلمون يطلبون غياث الدين، وهو بمدينة قونية، فسار إليهم مجداً في طائفة من عسكره، فوصلها ثاني شعبان، وتقرر الحال بينه وبين الروم، وتسلم المدينة ثالثة، وحصر الحصن الذي فيه الفرنج، وتسلمه وقتل كل من كان به من الفرنج.
ذكر عزل ولد بكتمر صاحب خلاط
وملك بلبان ومسير صاحب ماردين إلى خلاط وعودهوفي هذه السنة قبض عسكر خلاط على صاحبها ولد بكتمر، وملكها بلبان مملوك شاه أرمن بن سكمان، وكتب أهل خلاط إلى ناصر الدين أرتق ابن إيلغازي بن البي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق يستدعونه إليها.
وسبب ذلك أن ولد بكتمر كان صبياً جاهلاً، فقبض على الأمير شجاع الدين قتلغ؛ مملوك من مماليك شاه أرمن، وهو كان أتابكه، ومدبر بلاده، وكان حسن السيرة مع الجند والرعية، فلما قتله اختلفت الكلمة عليه من الجند والعامة، واشتغل هو باللهو واللعب وإدمان الشرب، فكاتب جماعة من عامة خلاط، وجماعة من جند ناصر الدين، صاحب ماردين يستدعونه إليهم؛ وإنما كاتبوه دون غيره من الملوك لأن أباه قطب الدين إيلغازي كان ابن أخت شاه أرمن بن سكمان، وكان شاه أرمن قد حلف له الناس في حياته لأنه لم يكن له ولد، فلما تجددت بعده هذه الحادثة تذاكروا تلك الأيمان، وقالوا: نستدعيه ونملكه، فإنه من أهل بيت شاه أرمن فكاتبوه وطلبوه إليهم.
ثم إن بعض مماليك شاه أرمن، اسمه بلبان، وكان قد جاهر ولد بكتمر بالعداوة والعصيان، سار من خلاط إلى ملازكرد وملكها، واجتمع الأجناد عليه، وكثر جمعه، وسار إلى خلاط فحصرها، واتفق وصول صاحب ماردين إليها، وهو يظن أن أحداً لا يمتنع عليه، خلاط قد اتهموني بالميل إليك، وهم ينفرون من العرب، والرأي أنك ترحل عائداً مرحلة واحدة وتقيم، فإذا تسلمت البلد سلمته إليك، لأنني لا يمكنني أن أملكه أنا.
ففعل صاحب ماردين ذلك، فلما أبعد عن خلاط أرسل إليه يقول له: تعود إلى بلدك، وإلا جئت إليك وأوقعت بك وبمن معك. وكان في قلة من الجيش، فعاد إلى ماردين.
وكان الملك الأشرف موسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، صاحب حران وديار الجزيرة، قد أرسل إلى صاحب ماردين، لما سمع أنه يريد قصد خلاط، يقول له: إن سرت إلى خلاط قصدت بلدك؛ وإنما خاف أن يملك خلاط فيقوى عليهم، فلما سار إلى خلاط جمع الأشرف العساكر وسار إلى ولاية ماردين، فأخذ دخلها، وأقام بدنيسر يجبي الأموال إليه، فلما فرغ منه عاد إلى حران، فكان مثل صاحب ماردين كما قيل: خرجت النعامة تطلب قرنين فعادت بلا أذنين.
وأما بلبان فإنه جمع العسكر وحشد، وحصر خلاط وضيق على أهلها، وبها ولد بكتمر، فجمع من عنده بالبلد من الأجناد والعامة، و خرج إليه، فالتقوا، فانهزم بلبان ومن معه من بين يديه، وعاد إلى الذي بيده من البلاد، وهو: ملازكرد وأرجيش وغيرهما من الحصون، وجمع العساكر، واستكثر منها، وعاود حصار خلاط وضيق على أهلها، فاضطرهم إلى خذلان ولد بكتمر لصغره، وجهله بالملك، واستغاله بلهوه ولعبه، ثم قبضوا عليه في القلعة، وأرسلوا إلى بلبان وحلفوه على ما أرادوا، سلموا إليه البلد وابن بكتمر، واستولى على جميع أعمال خلاط، وسجن ابن بكتمر في قلعة هناك، و استقر ملكه، فسبحان من إذا أراد أمراً هيأ أسبابه؛ بالأمس يقصدها شمس الدين محمد البهلوان وصلاح الدين يوسف بن أيوب، فلم يقدر أحدهما عليها، والآن يظهر هذا المملوك العاجز، القاصر عن الرجال والبلاد والأموال، فيملكها صفواً عفواً.
ثم إن نجم الدين أيوب بن العادل، صاحب ميافارقين، سار نحو ولاية خلاط؛ وكان قد استولى على عدة حصون من أعمالها منها: حصن موسى ومدينته، فلما قارب خلاط أظهر له بلبان العجز عن مقابلته، فطمع، وأوغل في القرب، فأخذ عليه بلبان الطريق وقاتله فهزمه، ولم يفلت من أصحابه إلا القليل وهم جرحى، وعاد إلى ميافارقين.
ذكر ملك الكرج مدينة قرس
وموت ملك الكرج
في هذه السنة ملك الكرج حصن قرس، من أعمال خلاط، وكانوا قد حصروه مدة طويلة، وضيقوا على من فيه، وأخذوا دخل الولاية عدة سنين، وكل من يتولى خلاط لا ينجدهم، ولا يسعى في راحة تصل إليهم.
وكان الوالي بها يواصل رسله في طلب النجدة، وإزاحة من عليه من الكرج، فلا يجاب له دعاء، فلما طال الأمر عليه، ورأى أن لا ناصر له، صالح الكرج على تسليم القلعة على مال كثير وإقطاع يأخذه منهم، وصارت دار شرك بعد أن كانت دار توحيد، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأل الله أن يسهل للإسلام وأهله نصراً من عنده، فإن ملومك زماننا قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم وظلمهم عن سد الثغور وحفظ البلاد.
ثم إن الله تعالى نظر إلى قلة ناصر الإسلام، فتولاه هو، فأمات ملكة الكرج، واختلفوا فيما بينهم وكفى الله شرهم إلى آخر السنة.
ذكر الحرب بين عسكر الخليفة
وصاحب لرستانفي هذه السنة، في رمضان، سار عسكر الخليفة من خوزستان مع مملوكه سنجر، وهو كان المتولي لتلك الأعمال؛ وليها بعد موت طاشتكين أمير الحاج، لأنه زوج ابنة طاشتكين، إلى جبال لرستان، وصاحبها يعرف بأبي طاهر، وهي جبال منيعة بني فارس وأصبهان وخوزستان، فقاتلوا أهلها وعادوا منهزمين.
وسبب ذلك أن مملوكاً للخليفة الناصر لدين الله اسمه قشتمر من أكاب مماليكه كان قد فارق الخدمة لتقصير رآه من الوزير نصير الدين العلوي الرازي، واجتاز بخوزستان، وأخذ منها ما أمكنه ولحق بأبي طاهر صاحب لرستان، فأكرمه وعظمه وزوجه ابنته، ثم توفي أبو طاهر فقوي أمر قشتمر، وأطاعه أهل تلك الولاية.
فأمر سنجر بجمع العساكر وقصده وقتاله، ففعل سنجر ما أمر به، وجمع العساكر وسار إليه، فأرسل قشتمر يعتذر، ويسأل أن لا يقصد ولا يخرج عن العبودية، فلم يقبل عذره، فجمع أهل تلك الأعمال، ونزل إلى العسكر، فلقيهم، فهزمهم، وأرسل إلى صاحب فارس بن دكلا وشمس الدين إيدغمش، صاحب أصبهان وهمذان والري، يعرفهما الحال، ويقول: إنني لا قوة لي بعسكر الخليفة، وربما أضيف إليهم عساكر أخرى من بغداد وعادوا إلى حربي، وحينئذ لا أقدر بهم؛ وطلب منهما النجدة، وخوفهما من عسكر الخليفة إن ملك تلك الجبال، فأجاباه إلى ما طلب، فقوي جنانه، واستمر على حاله.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قتل صبي صبياً آخر ببغداد، وكانا يتعاشران، وعمر كل واحد منهما يقارب عشرين سنة، فقال أحدهما للآخر: الساعة أضربك بهذه السكين؛ يمازحه بذلك، وأهوى نحوه بها، فدخلت في جوفه فمات، فهرب القاتل ثم أخذ وأمر به ليقتل، فلما أرادوا قتله طلب دواة ورقعه بيضاء، وكتب فيها من قوله:
قدمت على الكريم بغير زاد ... من الأعمال بالقلب السليم
وسوء الظن أن تعتد زاداً ... إذا كان القدوم على كريم
وفيها حج برهان الدين صدر جهان محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن مارة البخاري رأس الحنفية ببخارى، وهو كان صاحبها على الحقيقة، يؤدي الخراج إلى الخطا، وينوب عنهم في البلد، فلما حج لم تحمد سيرته في الطريق، ولم يصنع معروفاً، وكان قد أكرم ببغداد عند قدومه من بخارى، فلما عاد لم يلتفت إليه لسوء سيرته مع الحاج، وسماه الحجاج صدر جهنم.
وفيها، في شوال، مات شيخنا أبو الحرم مكي بن ريان بن شبة النحوي المقري بالموصل، وكان عارفاً بالنحو واللغة والقراآت، لم يكن في زمانه مثله، وكان ضريراً، وكان يعرف سوى هذه العلوم من الفقه والحساب وغير ذلك معرفة حسنة؛ وكان من خيار عباد الله وصالحيهم، كثير التواضع، لا يزال الناس يشتغلون عليه من بكرة إلى الليل.
وفيها فارق أمير الحاج مظفر الدين سنقر مملوك الخليفة المعروف بوجه السبع الحاج بموضع يقال له المرجوم، ومضى في طائفة من أصحابه إلى الشام، وسار الحاج ومعهم الجند، فوصولا سالمين، ووصل هو إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب، فأقطعه إقطاعاً كثيراً بمصر، وأقام عنده إلى أن عاد إلى بغداد سنة ثمان وستمائة في جمادى الأولى؛ فإنه لما قبض الوزير أمن على نفسه، وأرسل يطلب العود، فأجيب إليه، فلما وصل أكرمه الخليفة وأقطعه الكوفة.
وفيها، في جمادى الآخرة، توفي أبو الفضل عبد المنعم بن عبد العزيز الإسكندراني، المعروف بابن النطروني، في مارستان بغداد، وكان قد مضى إلى المايورقي في رسالة بإفريقية، فحصل له منه عشرة آلاف دينار مغربية، فرقها جميعها في بلده على معارفه وأصدقائه، وكان فاضلاً خيراً، نعم الرجل، رحمه الله وله شعر حسن، وكان قيماً بعلم الأدب، وأقام بالموصل مدة، واشتغل على الشيخ أبي الحرم، واجتمعت به كثيراً عنده.
ثم دخلت سنة أربع وستمائة
ذكر ملك خوارزم شاه ما وراء النهر
وما كان بخراسان من الفتن وإصلاحهافي هذه السنة عبر علاء الدين محمد بن خوارزم شاه نهر جيحون لقتال الخطا.
وسبب ذلك أن الخطا كانوا قد طالت أيامهم ببلاد تركستان، وما وراء النهر، وثقلت وطأتهم على أهلها، ولهم في كل مدينة نائب يجبي إليهم الأموال، وهم يسكنون الخركاهات على عادتهم قبل أن يملكوا، وكان مقامهم بنواحي أوزكند، وبلاساغون، وكاشغر، وتلك النواحي، فاتفق أن سلطان سمرقند وبخارى، ويلقب خان خانان، يعني سلطان السلاطين، وهو من أولاد الخانية، عريق النسب في الإسلام والملك، أنف وضجر من تحكم الكفار على المسلمين، فارسل إلى خوارزم شاه يقول له: إن الله، عز وجل، قد أوجب عليك بما أعطاك من سعة الملك وكثرة الجنود أن تستنقذ المسلمين وبلادهم من أيدي الكفار، وتخلصهم مما يجري عليهم من التحكم في الأموال والأبشار، ونحن نتفق معك على محاربة الخطا، ونحمل إليك ما نحمله إليهم، ونذكر اسمك في الخطبة وعلى السكة؛ فأجابه إلى ذلك، وقال: أخاف أنكم لا تفون لي.
فسير إليه صاحب سمرقند وجوه أهل بخار وسمرقند، بعد أن حلفوا صاحبهم على الوفاء بما تضمنه، وضمنوا عنه الصدق والثبات على ما بذل، وجعلوا عنده رهائن، فشرع في إصلاح أمر خراسان، وتقرير قواعدها، فولى أخاه علي شاه طبرستان مضافة إلى جرجان، وأمره بالحفظ والاحتياط، وولى الأمير كزلك خان، وهو من أقارب أمه وأعبان دولته، بنيسابور، وجعل معه عسكراً، وولى الأمير جلدك مدينة الخام، وولى الأمير أمين الدين أبا بكر مدينة زوزن.
وكان أمين الدين هذا حمالاً، ثم صار أكبر الأمراء، وهو الذي ملك كرمان، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وأقر الأمير الحسين على هراة، وجعل معه فيها ألف فارس من الخوارزمية، وصالح غياث الدين محموداً على ما بيده من بلاد الغور، وكرمسير، واستناب في مرو وسرخس وغيرهما من خراسان نواباً، وأمرهم بحسن السياسة، والحفظ، والاحتياط، وجمع عساكره جميعها، وسار إلى خوارزم، وتجهز منها، وعبر جيحون، واجتمع بسلطان سمرقند، وسمع الخطا، فحشدوا، وجمعوا، وجاؤوا إليه فجرى بينهم وقعات كثيرة ومغاورات، فتارة له وتارة عليه.
ذكر قتل ابن خرميل وحصر هراةثم إن ابن خرميل، صاحب هراة، رأى سوء معاملة عسكر خوارزم شاه للرعية، وتعديهم إلى الأموال، فقبض عليهم وحبسهم، وبعث رسولاً إلى خوارزم شاه يعتذر، ويعرفه ما صنعوا، فعظم عليه، ولم يمكنه محاقته لاشتغاله بقتال الخطا، فكتب إليه يستحسن فعله، ويأمره بإنفاذ الجند الذين قبض عليهم لحاجتاه إليهم، وقال له: إنني قد أمرت عز الدين جلدك بن طغرل، صاحب الخام، أن يكون عندك لما أعلمه من عقله، وحسن سيرته؛ وأرسل إلى جلدك يأمره بالمسير إلى هراة وأمر إليه أن يحتال في القبض على حسين بن خرميل ولو أول ساعة يلقاه.
فسار جلدك في ألفي فارس، وكان أبوه طغرل، أيام السلطان سنجر، والياً بهراة، فهوى إليها بالأشواق يختارها على جميع خراسان، فلما قارب هراة أمر ابن خرميل الناس بالخروج لتلقيه؛ وكان للحسين وزير يعرف بخواجه الصاحب، وكان كبياً قد حنكته التجارب، فقال لابن خرميل: لا تخرج إلى لقائه، ودعه يدخل إليك منفرداً، فإنني أخاف أن يغدر بك، وأن يكون خوارزم شاه أمر بذلك. فقال: لا يجوز أن يقدم مثل هذا الأمير ولا ألتقيه، وأخاف أن يضطغن ذلك علي خوارزم شاه، وما أظنه يتجاسر علي.
فخرج إليه الحسين بن خرميل، فلما بصر كل واحد منهما بصاحبه ترجل للالتقاء، وكان جلدك قد أمر أصحابه بالقبض عليه، فاختلطوا بهما، وحالوا بين ابن خرميل وأصحابه، وقبضوا عليه، فانهزم أصحابه ودخلوا المدينة وأخبروا الوزير بالحال، فأمر بإغلاق الباب والطوع إلى الأسوار، واستعد للحصار، ونزل جلدك على البلد، وأرسل إلى الوزير يتهدده، إن لم يسلم البلد، بقتل ابن خرميل، فنادى الوزير بشعار غياث الدين محمود الغوري، وقال لجلدك: لا أسلم البلد إليك، ولا إلى الغادر ابن خرميل، وإنما هو لغياث الدين، ولأبيه قبله.
فقدموا ابن خرميل إلى السور، فخاطب الوزير، وأمره بالتسليم، فلم يفعل، فقتل ابن خرميل، وهذه عاقبة الغدر، فقد تقدم من أخباره عند شهاب الدين الغوري ما يدل على غدره، وكفرانه الإحسان ممن أحسن إليه.
فلما قتل ابن خرميل كتب جلدك إلى خوارزم شاه بجلية الحال، فأنفذ خوارزم شاه إلى كزلك خان، والي نيسابور، وإلى أمين الدين أبي بكر، صاحب زوزن، يأمرهم بالمسير إلى هراة وحصارها وأخذها، فسارا في عشرة آلاف فارس، فنزلوا على هراة، وراسلوا الوزير بالتسليم، فلم يلتفت إليهم، وقال: ليس لكم من المحل ما يسلم إليكم مثل هراة، لكن إذا وصل السلطان خوارزم شاه سلمتها إليه. فقاتلوه، وجدوا في قتاله، فلم يقدروا عليه.
وكان ابن خرميل قد حصن هراة، وعمل لها أربعة أسوار محكمة، وحفر خندقها، وشحنها بالميرة، فلما فرغ من كل ما أراد قال: بقيت أخاف على هذه المدينة شيئاً واحداً، وهو أن تسكر المياه التي لها أياماً كثيرة، ثم ترسل دفعة واحدة فتخرق أسوارها. فلما حصرها هؤلاء سمعوا قول ابن خرميل، فسكروا المياه حتى اجتمعت كثيراً، ثم أطلقوها على هراة فأحاطت بها ولم تصل إلى السور لأن أرض المدينة مرتفعة، فامتلأ الخندق ماء، وصار حولها وحلاً، فانتقل العسكر عنهم، ولم يمكنهم القتال لبعدهم عن المدينة، فأقاموا مدة حتى نشف الماء، فكان قول ابن خرميل من أحسن الحيل.
ونعود إلى قتال خوارزم شاه الخطا وأسره؛ وأما خوارزم شاه فإنه دام القتال بينه وبين الخطا، ففي بعض الأيام اقتتلوا، واشتد القتال، ودام بينهم، ثم انهزم المسلمون هزيمة قبيحة، وأسر كثير منهم، وقتل كثير منهم، وكان من جملة الأسرى خوارزم شاه، وأسر معه أمير كبير يقال له فلان بن شهاب الدين مسعود أسرهما رجل واحد.
ووصلت العساكر الإسلامية إلى خوارزم، ولم يروا السلطان معهم، فأرسلت أخت كزلك خان، صاحب نيسابور، وهو يحاصر هراة، وأعلمته الحال، فلما أتاه الخبر سار عن هراة ليلاً إلى نيسابور، وأحس به الأمير أمين الدين أبو بكر، صاح زوزن، فأراد هو ومن عنده من الأمراء منعه، مخافة أن يجري بينهم حرب يطمع بسببها أهل هراة فيهم، فيخرجون إليهم فيبلغون منهم ما يريدونه، فأمسكوا عن معارضته.
وكان خوارزم شاه قد خرب سور نيسابور لما ملكها من الغورية، فشرع كزلك خان يعمره، وأدخل إليها الميرة، واستكثر من الجند، وعزم على الاستيلاء على خراسان إن صح فقد السلطان.
وبلغ خبر عدم السلطان إلى أخيه علي شاه وهو بطبرستان، فدعا إلى نفسه، وقطع خطبة أخيه واستعد لطلب السلطنة، واختلطت خراسان اختلاطاً عظيماً.
وأما السلطان خوارزم شاه، فإنه لما أسر قال له ابن شهاب الدين مسعود: يجب أن تذع السلطنة في هذه الأيام، وتصير خادماً لعلي أحتال في خلاصك؛ فشرع يخدم ابن مسعود، ويقدم له الطعام، ويخلعه ثيابه وخفه، ويعظمه، فقال الرجل الذي أسرهما لابن مسعود: أرى هذا الرجل يعظمك، فمن أنت؟ فقال: أنا فلان، وهذا غلامي؛ فقام إليه وأكرمه، وقال: ولولا أن القوم عرفوا بمكانك عندي لأطلقتك؛ ثم تركته أياماً، فقال له ابن مسعود: إني أخاف أن يرجع المنهزمون، فلا يراني أهلي معهم، فيظنون أني قتلت، فيعملون العزاء والمأتم، وتضيق صدورهم لذلك، ثم يقتسمون مالي فأهلك، وأحب أن تقرر علي شيئاً من المال حتى أحمله إليك؛ فقرر عليه مالاً، وقال له: أريد أن تأمر رجلاً عاقلاً يذهب بكتابي إلى أهلي ويخبرهم بعاقبتي، ويحضر معه من يحمل المال.
ثم قال: إن أصحابكم لا يعرفون أهلنا، ولكن هذا غلامي أثق به، ويصدقه أهلي؛ فأذن له الخطائي بإنفاذه، فسيره وأرسل معه الخطائي فرساً، وعدة من الفرسان يحمونه، فساروا حتى قاربوا خوارزم، وعاد الفرسان عن خوارزم شاه، ووصل خوارزم شاه إلى خوارزم، فاستبشر به الناس وضربت البشائر، وزينوا البلد، وأتته الأخبار بما صنع كزلك بنيسابور، وبما صنع أخوه علي شاه بطبرستان.
ذكر ما فعله خوارزم شاه بخراسانلما وصل خوارزم شاه إلى خوارزم أتته الأخبار بما فعله كزلك خان وأخوه علي شاه وغيرهما، فسار إلى خراسان، وتبعته العساكر، فتقطعت، ووصل هو إليها في اليوم السادس ومعه ستة فرسان، وبلغ كزلك خان وصوله، فأخذ أمواله وعساكره وهرب نحو العراق، وبلغ أخاه علي شاه، فخافه، وسار على طريق قهستان ملتجئاً إلى غياث الدين محمود الغوري، صاحب فيروزكوه، فتلقاه، وأكرمه، وأنزله عنده.
أما خوارزم شاه فإنه دخل نيسابور، وأصلح أمرها، وجعل فيها نائباً، وسار إلى هراة، فنزل عليها مع عسكره الذين يحاصرونه، وأحسن إلى أولئك الأمراء، ووثق بهم لأنهم صبروا على امتثال أمره في تلك الحال ولم يتغيروا، ولم يبلغوا من هراة غرضاً بحسن تدبير ذلك الوزير؛ فأرسل خوارزم شاه إلى الوزير يقول له: إنك وعدت عسكري أنك تسلم المدينة إذا حضرت، وقد حضرت فسلم. فقال: لا أفعل، لأني أعرف أنكم غدارون، لا تبقون على أحد، ولا أسلم البلد إلا إلى غياث الدين محمود.
فغضب خوارزم شاه من ذلك، وزحف إليه بعسكره، فلم يكن فيه حيلة، فاتفق جماعة من أهل هراة وقالوا: هلك الناس من الجوع والقلة، وقد تعطلت علينا معايشنا، وقد مضى سنة وشهر، وكان الوزير يعد بتسليم البلد إلى خوارزم شاه إذا وصل إليه، وقد حضر خوارزم شاه ولم يسلم، ويجب أن نحتال في تسليم البلد والخلاص من هذه الشدة التي نحن فيها.
فانتهى ذلك إلى الوزير، فبعث إليهم جماعة من عسكره، وأمرهم بالقبض عليهم، فمضى الجند إليهم، فثارت فتنة في البلد عظم خطبها، فاحتاج الوزير إلى تداركها بنفسه، فمضى لذلك، فكتب من البلد إلى خوارزم شاه بالخبر، وزحف إلى البلد وأهله مختلطون، فخربوا برجين من السور، ودخلوا البلد فملكوه، وقبضوا على الوزير، فقتله خوارزم شاه، وملك البلد، وذلك سنة خمس وستمائة، وأصلح حاله، وسلمه إلى خاله أمير ملك، وهو من أعيان أمرائه، فلم يزل بيده حتى هلك خوارزم شاه.
وأما ابن شهاب الدين مسعود فإنه أقام عند الخطا مديدة، فقال له الذي استأسره يوماً: إن خوارزم شاه قد عدم فإيش عندك من خبره؟ فقال له: أما تعرفه؟ قال: لا! قال: هو أسيرك الذي كان عندك. فقال: لم لم تعرفني حتى كنت أخدمه، وأسير بين يديه إلى مملكته؟ قال: خفتكم عيه، فقال الخطائي: سر بنا إليه، فسار إليه، فأكرمهما، وأحسن إليهما، وبالغ في ذلك.
ذكر قتل غياث الدين محمودلا سلم خوارزم شاه هراة إلى خاله أمير ملك وسار إلى خوارزم، أمره أن يقصد غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد بن سام الغوري، صاحب الغور وفيروزكوه، وأن يقبض عليه وعلى أخيه علي شاه بن خوارزم شاه، ويأخذ فيروزكوه من غياث الدين.
فسار أمير ملك إلى فيروزكوه؛ وبلغ ذلك إلى محمود، فأرسل يبذل الطاعة ويطلب الأمان، فأعطاه ذلك، فنزل إليه محمود، فقبض عليه أمير ملك، وعلى علي شاه أخي خوارزم شاه، فسألاه أن يحملهما إلى خوارزم شاه ليرى فيهما رأيه، فأرسل إلى خوارزم شاه يعرفه الخبر، فأمره بقتلهما، فقتلا في يوم واحد، واستقامت خراسان كلها لخوارزم شاه، وذلك سنة خمس وستمائة أيضاً.
وغياث الدين هذا هو آخر ملوك الغورية، وقد كانت دولتهم من أحسن الدول سيرة، وأعدلها وأكثرها جهاداً، وكان محمود هذا عادلاً، حليماً، كريماً، من أحسن الملوك سيرة وأكرمهم أخلاقاً، رحمه الله تعالى.
ذكر عود خوارزم شاه إلى الخطالما استقر أمر خراسان لخوارزم شاه وعبر نهر جيحون، جمع له الخطا جمعاً عظيماً وساروا إليه، والمقدم عليهم شيخ دولتهم، القائم مقام الملك فيهم، المعروف بطاينكوه، وكان عمره قد جاوز مائة سنة، ولقي حروباً كثيرة، وكان مظفراً، حسن التدبير والعقل، واجتمع خوارزم شاه وصاحب سمرقند، وتصافوا هم والخطا سنة ست وستمائة، فجرت حروب لم يكن مثلها شدة وصبراً، فانهزم الخطا هزيمة منكرة، وقتل منه وأسر خلق لا يحصى.
وكان فيمن أسر طاينكوه مقدمهم، وجيء به إلى خوارزم شاه، فأكرمه، وأجلسه على سريرنه، وسيره إلى خوارزم، ثم قصد خوارزم شاه إلى بلاد ما وراء النهر، فملكها مدينة مدينة، وناحية ناحية، حتى بلغ إلى مدينة أوزكند، وجعل نوابه فيها وعاد إلى خوارزم ومعه سلطان سمرقند، وكان من أحسن الناس صورة، فكان أهل خوارزم يجتمعون حتى ينظروا إليه، فزوجه خوارزم شاه بابنته، ورده إلى سمرقند، وبعث معه شحنة يكون بسمرقند على ما كان رسم الخطا.
ذكر غدر صاحب سمرقند بالخوارزميينلما عاد صاحب سمرقند إليها، ومعه شحنة لخوارزم شاه، أقام معه نحو سنة، فرأى من سوء سيرة الخوارزميين، وقبح معاملتهم، ما ندم معه على مفارقة الخطا، فأرسل إلى ملك الخطا يدعوه إلى سمرقند ليسلمها إليه، ويعود إلى طاعته، وأمر بقتل كل من في سمرقند من الخوارزمية ممن سكنها قديماً وحديثاً، وأخذ أصحاب خوارزم شاه، فكان يجعل الرجل منهم قطعتين ويعلقهم في الأسواق كمنا يعلق القصاب اللحم، وأساء غاية الإساءة، ومضى إلى القلعة ليقتل زوجته ابنة خوارزم شاه، فأغلقت الأبواب، ووقفت بجواريها تمنعه، وأرسلت إليه تقول: أنا امرأة وقتل مثلي قبيح ولم يكن مني إليك ما استوجب به هذا منك، ولعل تركي أحمد عاقبة، فاتق الله في! فتركها وكل بها من يمنعها التصرف في نفسها.
ووصل الخبر إلى خوارزم شاه فقامت قيامته، وغضب غضباً شديداً، وأمر بقتل كل من بخوارزم من الغرباء، فمنعته أمه عن ذلك، وقالت: إن هذا البلد قد أتاه الناس من أقطار الأرض، ولم يرض كلهم بما كان من هذا الرجل، فأمر بقتل أهل سمرقند، فنهته أمه، فانتهى، وأمر عساكره بالتجهيز إلى ما وراء النهر، وسيرهم أرسالاً، كلما تجهز جماعة عبروا جيحون، فعبر منهم خلق كثير لا يحصى، ثم عبر هو بنفسه في آخرهم، ونزل على سمرقند، وأنفذ إلى صاحبها يقول له: قد فعلت ما لم يفعله مسلم، واستحللت من دماء المسلمين ما لا يفعله عاقل لا مسلم ولا كافر، وقد عفا الله عما سلف، فأخرج من البلاد وامض حيث شئت؛ فقال: لا أخرج وافعل ما بدا لك.
فأمر عساكره بالزحف، فأشار عليه بعض من معه بأن يأمر بعض الأمراء، إذا فتحوا البلد، أن يقصدوا الدرب الذي يسكنه التجار، فيمنع من نهبه والتطرق إليهم بسوء، فإنهم غرباء، وكلهم كارهون لهذا الفعل. فأمر بعض الأمراء بذلك، وزحف، ونصب السلاليم على السور، فلم يكن بأسرع من أن أخذوا البلد، وأذن لعسكره بالنهب، وقتل من يجدونه من أهل سمرقند، فنهب البلد، وقتل أهله، ثلاثة أيام، فيقال إنهم قتلوا منهم مائتي ألف إنسان، وسلم ذلك الدرب الذي فيه الغرباء، فلم يعدم منهم الفرد ولا الآدمي الواحد.
ثم أمر بالكف عن النب والقتل، ثم زحف إلى القلعة فرأى صاحبها ما ملأ قلبه هيبة وخوفاً، فأرسل يطلب الأمان، فقال: لا أمان لك عندي؛ فزحفوا عليها. فملكوها، وأسروا صاحبها، وأحضروه عند خوارزم شاه، فقبل الأرض وطلب العفو، فلم يعف عنه، وأمر بقتله، فقتل صبراً، وقتل معه جماعة من أقاربه، ولم يترك أحداً ممن ينسب إلى الخانية، ورتب فيها وفي سائر البلاد نوابه، ولم يبق أحد معه في البلاد حكم.
ذكر الوقعة التي أفنت الخطالما فعل خوارزم شاه بالخطا ما ذكرناه مضى من سلم منهم إلى ملكهم، فإنه لم يحضر الحرب، فاجتمعوا عنده؛ وكان طائفة عظيمة من التتر قد خرجوا من بلادهم، حدود الصين قديماً، ونزلوا وراء بلاد تركستان، وكان بينهم وبين الخطا عداوة وحروب، فلما سمعوا بما فعله خوارزم شاه بالخطا قصدوهم مع ملكهم كشلي خان، فلما رأى ملك الخطا ذلك أرسل إلى خوارزم شاه يقول له: أما ما كان منك من أخذ بلادنا وقتل رجالنا فعفو عنه، وقد أتى من هذا العدو من لا قبل لنا به، وإنهم إن انتصروا علينا، وملكونا، فلا دافع لهم عنك، والمصلحة أن تسير إلينا بعساكرك وتنصرنا على قتالهم، ونحن نحلف لك أننا إذا ظفرنا بهم لا نتعرض إلى ما أخذت من البلاد، ونقنع بما في أيدينا.
وأرسل إليه كشلي خان ملك التتر يقول: إن هؤلاء الخطا أعداؤك وأعداء آبائك وأعداؤنا، فساعدنا عليهم، ونحلف أننا إذا انتصرنا عليهم لا نقرب بلادك، ونقنع بالمواضع التي ينزلونها، فأجاب كلاً منهما: إنني معك، ومعاضدك على خصمك.
وسار بعسكره إلى أن نزل قريباً من الموضع الذي تصافوا فيه، فلم يخالطهم مخالطة يعلم بها أنه من أحدهما، فكانت كل طائفة منهم تظن أنه معها، وتواقع الخطا والتتر، فانهزم الخطا هزيمة عظيمة، فمال حينئذ خوارزم شاه، وجعل يقتل، ويأسر، وينهب، ولم يترك أحداً ينجو منهم، فلم يسلم منهم إلا طائفة يسيرة مع ملكهم في موضع من نواحي الترك يحيط به جبل ليس إليه طريق إلا من جهة واحدة، تحصنوا فيه؛ وانضم إلى خوارزم شاه منهم طائفة، وساروا في عسكره، وأنفذ خوارزم شاه إلى كشلي خان ملك التتر يمن عليه بأنه حضر لمساعدته، ولولاه لما تمكن من الخطا، فاعترف له كشلي خان بذلك مدة، ثم أرسل إليه يطلب منه المقاسمة على بلاد الخطا، وقال: كما أننا اتفقنا على إبادتهم ينبغي أن نقتسم بلاهم؛ فقال: ليس لك عندي غير السيف، ولستم بأقوى من الخطا شوكة، ولا أعز ملكاً، فإن قنعت بالمساكتة، وإلا سرت إليك، وفعلت بك شراً مما فعلت بهم.
وتجهز وسار حتى نزل قريباً منهم، وعلم خوارزم شاه أنه لا طاقة له به، فكان يراوغه، فإذا سار إلى موضع قصد خوارزم شاه أهله وأثقالهم فينهبها، وإذا سمع أن طائفة سارت عن مواطنهم سار إليها فأوقع بها، فأرسل إليه كشلي خان يقول له: ليس هذا فعل الملوك! هذا فعل اللصوص، وإلا إن كنت سلطاناً، كما تقول، فيجب أن نلتقي، فإما أن تهزمني وتملك البلاد التي بيدي، وإما أفعل أنا بك ذلك.
فكان يغالطه ولا يجيبه إلى ما طلب، لكنه أمر أهل الشاش وفرغاته وأسفيجاب وكاسان، وما حولها من المدن التي لم يكن في الدنيا أنزه منها، ولا أحسن عمارة، بالجلاء منها، واللحاق ببلاد الإسلام، ثم خربها جميعها خوفاً من التتر أن يملكوها.
ثم اتفق خروج هؤلاء التتر الآخر الذين خربوا الدنيا وملكهم جنكزخان النهرجي على كشلي خان ملك التتر الأول، فاشتغل بهم كشلي خان عن خوارزم شاه، فخلا وجهه، فعبر النهر إلى خراسان.
ذكر ملك نجم الدين ابن الملك العادل خلاطفي هذه السنة ملك الملك الأوحد نجم الدين أيوب ابن مالك العادل أبي بكر ابن أيوب مدينة خلاط.
وسبب ذلك أنه كان بمدينة ميافارقين من أبيه، فلما كان من ملك بلبان خلاط ما ذكرناه، قصد هو مدينة موش، وحصرها، وأخذها، وأخذ معها ما يجاورها. وكان بلبان لم تثبت قدمه حتى منعه، فلما ملكها طمع في خلاط، فسار إليها، فزهمه بلبان، كما ذكرناه أيضاً، فعاد إلى بلده، وجمع وحشد، وسير إليه أبوه جيشاً، فقصد خلاط، فسار إليه بلبان، فتصافا واقتتلا، فانهزم بلبان، وتمكن نجم الدين من البلاد، وازداد منها.
ودخل بلبان خلاط واعتصم بها، وأرسل رسولاً إلى مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان، وهو صاحب أرزن الروم، يستنجده على نجم الدين، فحضر بنفسه ومعه عسكره، فاجتمعا، وهزما نجم الدين، وحصرا موش، فأشرف الحصن على أن يملك، فغدر ابن قلج أرسلان بصاحب خلاط وقتله طمعاً في البلاد، فلما قتله سار إلى خلاط، فمنعه أهلها عنها، فسار إلى ملازكرد، فرده أهلها أيضاً، وامتنعوا عليه، فلما لم يجد في شيء من البلاد مطمعاً عاد إلى بلده.
فأرسل أهل خلاط إلى نجم الدين يستدعونه إليهم ليملكوه، فحضر عندهم، وملك خلاط وأعمالها سوى اليسير منها، وكره الملوك المجاورون له ملكه لها خوفاً من أبيه، وكذلك أيضاً خافه الكرج وكرهوه، فتابعوا الغارات على أعمال خلاط وبلادها، ونجم الدين مقيم بخلاط لا يقدر على مفارقتها، فلقي المسلمون من ذلك أذى شديداً.
واعتزل جماعة من عسكر خلاط، واستولوا على حصن وان، وهو من أعظم الحصون وأمنعها، وعصوا على نجم الدين، واجتمع إليهم جمع كثير، وملكوا مدينة أرجيش، فأرسل نجم الدين إلى أبيه الملك العادل يعرفه الحال، ويطلب منه أن يمده بعسكر، فسير إليه أخاه الملك الأشرف موسى بن العادل في عسكر، فاجتمعا في عسكر كثير، وحصرا قلعة وان وبها الخلاطية، وجدوا في قتالهم، فضعف أولئك عن مقاومتهم، فسلموها صلحاً وخرجوا منها، وتسلمها نجم الدين، واستقر ملكه بخلاط وأعمالها، وعاد أخوه الأشرف إلى بلده حران والرها.
ذكر غارات الفرنج بالشام
وفي هذه السنة كثر الفرنج الذين بطرابلس وحصن الأكراد، وأكثروا الإغارة على بلد حمص وولاياتها، ونازلوا مدينة حمص، وكان جمعهم كثيراً لم يكن لصاحبها أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه بهم قوة ولا يقدر على دفعهم ومنعهم، فاستنجد الظاهر غازي، صاحب حلب، وغيره من ملوك الشام، فلم ينجده إلا الظاهر، فإنه سير له عسكراً أقاموا عنده، ومنعوا الفرنج عن ولايته. ثم إن الملك العادل خرج من مصر بالعساكر الكثيرة، وقصد مدينة عكا، فصالحه صاحبها الفرنجي على قاعدة استقرت من إطلاق أسرى من المسلمين وغير ذلك، ثم سار إلى حمص، فنزل على بحيرة قدس، وجاءته عساكر الشرق وديار الجزيرة، ودخل إلى بلاد طرابلس، وحاصر موضعاً يسمى القليعات، وأخذه صلحاً، وأطلق صاحبه، وغنم ما فيه من دواب وسلاح، وخربه، وتقدم إلى طرابلس، فنهب، وأحرق، وسبى، وغنم وعاد، وكانت مدة مقامه في بلد الفرنج اثني عشر يوماً، وعاد إلى بحير قدس.
وترددت الرسل بينه وبين الفرنج في الصلحخ، فلم تستقر قاعدة، ودخل الشتاء، وطلبت العساكر الشرقية العود إلى بلادهم قبل البرد الشديد، فنزل طائفة من العسكر بحمص عند صاحبها، وعاد إلى دمشق فشتى بها، وعادت عساكر ديار الجزيرة إلى أماكنها.
وكان سبب خروجه من مصر بالعساكر أن أهل قبرس من الفرنج أخذوا عدة قطع من أسطول مصر، وأسروا من فيها، فأرسل العادل إلى صاحب عكا في رد ما أخذ، ويقول: نحن صلح، فلم غدرتم بأصحابنا؟ فاعتذر بأن أهل قبرس ليس لي عليهم حكم، و أن مرجعهم إلى الفرنج الذين بالقسطنطينية، ثم إن أهل قبرس ساروا إلى القسطنطنية بسبب غلاء كان عندهم وتعذرت عليهم الأقوات، وعاد حكم قبرس إلى صاحب عكا، وأعاد العادل مراسلته فلم ينفصل حال، فخرج بالعساكر، وفعل بعكا ما ذكرنا، فأجابه حينئذ صاحبها إلى ما طلب وأطلق الأسرى.
ذكر الفتنة بخلاط وقتل كثير من أهلهالما تم ملك خلاط وأعمالها للملك الأوحد بن العادل سار عنها إلى ملازكرد ليقرر قواعدها أيضاً، ويفعل ما ينبغي أن يفعله فيها، فلما فارق خلاط وثب أهلها على من بها من العسكر فأخرجوه من عندهم، وعصوا، وحصروا القلعة وبها أصحاب الأوحد، ونادوا بشعار شاه أرمن، وإن كان ميتاً، يعنون بذلك رد الملك إلى أصحابه ومماليكه.
فبلغ الخبر إلى الملك الأوحد، فعاد إليهم وقد وافاه عسكر من الجزيرة فقوي بهم، وحصر خلاط، فاختلف أهلها، فمال إليه بعضهم حسداً للآخرين، فملكها، وقتل بها خلقاً كثيراً من أهلها، وأسر جماعة من الأعيان، فسيرهم إلى ميافارقين؛ وكان كل يوم يرسل إليهم يقتل منهم جماعة، فلم يسلم إلا القليل، وذل أهل خلاط بعد هذه الواقعة، وتفرقت كلمة الفتيان وكان الحكم إليهم، وكفي الناس شرهم، فإنهم كانوا قد صاروا يقيمون ملكاً ويقتلون آخر، والسلطنة عندهم لا حكم لها وإنما الحكم لهم وإليهم.
ذكر ملك أبي بكر بن البهلوان مراغةفي هذه السنة ملك الأمير نصرة الدين أبو بكر بن البهلوان، صاحب أذربيجان، مدينة مراغة.
وسبب ذلك أن صاحبها علاء الدين قراسنقر مات هذه السنة، وولي بعده ابن له طفل، وقام بتدبير دولته وتربيته خادم كان لأبيه، فعصى عليه أمير كان مع أبيه وجمع جمعاً كثيراً، فأرسل إليه الخادم من عنده من العسكر، فقاتلهم ذلك الأمير، فانهزموا، واستقر ملك ولد علاء الدين، إلا أنه لم تطل أيامه حتى توفي في أول سنة خمس وستمائة، وانقرض أهل بيته، ولم يبق منهم أحد.
فلما توفي سار نصرة الدين أبو بكر من تبريز إلى مراغة فملكها واستولى عل جميع مملكة آل قراسنقر، ما عدا قلعة روين دز فإنها اعتصم بها الخادم، وعنده الخزائن والذخائر، فامتنع بها على الأمير أبي بكر.
ذكر عزل نصير الدين وزير الخليفةكان نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي هذا من أهل الري، من بيت كبير، فقدم بغداد لما ملك مؤيد الدين بن القصاب وزير الخليفة الري، ولقي من الخليفة قبولاً، فجعله نائب الوزارة، ثم جعله وزيراً، وحكمه وجعل ابنه صاحب المخزن.
فلما كان في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة عزل، وأغلق بابه، وكان سبب عزله أنه أساء السيرة مع أكابر مماليك الخليفة، فمنهم أمير الحاج مظفر الدين سنقر المعروف بوجه السبع، فإنه هرب من يده إلى الشام سنة ثلاث وستمائة، فارق الحاج بالمرخوم، وأرسل يعتذر من هربه ويقول: إنني هربت من يد الوزير؛ ثم أتبعه الأمير جمال الدين قشتمر، وهو أخص المماليك وآثرهم عنده، ومضى إلى لرستان وأرسل يعتذر ويقول: إن الوزير يريد أن لا يبقي في خدمة الخليفة أحداً من مماليكه، ولا شك أنه يريد أن يدعي الخلافة؛ وقال الناس في ذلك فأكثروا، وقالوا الشعر، فمن ذلك قول بعضهم:
ألا مبلغ عني الخليفة أحمداً ... توق وقيت السوء ما أنت صانع
وزيرك هذا بين أمرين فيهما ... فعالك، يا خير البرية، ضائع
فإن كان حقاً من سلالة أحمد ... فهذا وزير في الخلافة طامع
وإن كان فيما يدعي غير صادق ... فأضيع ما كانت لديه الصنائع
فعزله، وقيل في سبب ذلك غيره؛ ولما عزل أرسل إلى الخليفة يقول: إنني قدمت إلى هاهنا وليس لي دينار ولا درهم، وقد حصل لي من الأموال والأعلاق النفيسة وغير ذلك ما يزيد على خمسة آلاف دينار؛ ويسأل أن يؤخذ منه الجميع ويفرج عنه ويمكن من المقام بالمشهد أسوة ببعض العلويين.
فأجابه: إننا ما أنعمنا عليك بشيء فنوينا استعادته منك، ولو كان ملء الأرض ذهباً، ونفسك في أمان الله وأماننا، ولم يبلغنا عنك ما تستوجب به ذلك، غير أن الأعداء قد أكثروا فيك، فاختر لنفسك موضعاً تنتقل إليه موفوراً محترماً.
فاختار أن يكون تحت الاستظهار من جانب الخليفة لئلا يتمكن منه العدو فتذهب نفسه، ففعل به ذلك.
وكان حسن السيرة، قريباً إلى الناس، حسن اللقاء لهم والانبساط معهم، عفيفاً عن أموالهم غير ظالم لهم، فلما قبض عاد أمير الحاج من مصر وكان في الخدمة العادلية، وعاد أيضاً قشتمر، وأقيم في النيابة ي الوزارة فخر الدين أبو البدر محمد بن أحمد بن أمسينا الواسطي إلا أنه لم يكن متحكماً.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ليلة الأربعاء لخمس بقين من رجب زلزلت الأرض وقت السحر، وكنت حينئذ بالموصل، ولم تكن بها شديدة، وجاءت الأخبار من كثير من البلاد بأنها زلزلت ولم تكن بالقوية.
وفيها أطلق الخليفة الناصر لدين الله جميع حق البيع وما يؤخذ من أرباب الأمتعة من المكوس من سائر المبيعات، وكان مبلغاً كثيراً. وكان سبب ذلك أن بنتاً لعز الدين نجاح شرابي الخليفة توفيت، فاشتري لها بقر لتذبح ويتصدق بلحمها عنها، فرفعوا في حساب ثمنها مؤونة البقر، فكانت كثيرة، فوقف الخليفة على ذلك، وأمر بإطلاق المؤونة جميعها.
وفيها في شهر رمضان، أمر الخليفة ببناء دور في المحال ببغداد ليفرط فيها الفقراء، وسميت دور الضيافة، يطبخ فيها اللحم الضأن، والخبز الجيد، عمل ذلك في جانبي بغداد، وجعل في كل دار من يوثق بأمانته، وكان يعطي كل إنسان قدحاً مملوءاً من الطبيخ واللحم، ومناً من الخبز، فكان يفرط كل ليلة على طعامه خلق لا يحصون كثرة.
وفيها زادت دجلة زيادة كثيرة، ودخل الماء في خندق بغداد من ناحية باب كلواذى، فخيف على البلد من الغرق، فاهتم الخليفة بسد الخندق، وركب فخر الدين نائب الوزارة وعز الدين الشرابي ووقفا ظاهر البلد، فلم يبرحا حتى سد الخندق.
وفيها توفي الشيخ حنبل بن عبد الله بن الفرنج المكبر بجامع الرصافة، وكان عالي الإسناد، روى عن ابن الحصين مسند أحمد بن حنبل، وله إسناد حسن، وقدم الموصل، وحدث بها وبغيرها.
ثم دخلت سنة خمس وستمائة
ذكر ملك الكرج أرجيش وعودهم عنهافي هذه السنة سارت الكرج في جموعها إلى ولاية خلاط، وقصدوا مدينة أرجيش، فحصروها وملكوها عنوة، ونهبوا جميع ما بها من الأموال والأمتعة وغيها، وأسروا وسبوا أهلها، وأحرقوها، وخربوها بالكلية، ولم يبق بها من أهلها أحد؛ فأصبحت خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس.
وكان نجم الدين أيوب، صاحب أرمينية، بمدينة خلاط، وعنده كثير من العساكر، فلم يقدم على الكرج لأسباب: منها كثرتهم، وخوفه من أهل خلاط لما كان أسلف إليهم من القتل والأذى؛ خاف أن يخرج منها فلا يمكن من العود إليها؛ فلما لم يخرج إلى قتال الكرج، عادوا إلى بلادهم سالمين، لم يذعروهم ذاعر، وهذا جميعه، وإن كان عظيماً شديداً على الإسلام وأهله، فإنه يسير بالنسبة إلى ما كان مما نذكره سنة أربع عشرة إلى سنة سبع عشرة وستمائة.
ذكر قتل سنجر شاه وملك ابنه محمودفي هذه السنة قتل سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر، صاحب جزيرة ابن عمر، وهو ابن عم نور الدين، صاحب الموصل؛ قتله ابنه غازي؛ ولقد سلك ابنه في قتله طريقاً عجيباً يدل على مكر ودهاء.
وسبب ذلك أن سنجر كان سيء السيرة مع الناس كلهم من الرعية والجند والحريم والأولاد، وبلغ من قبح فعله مع أولاده أنه سير ابنيه محموداً ومودوداً إلى قلعة فرح من بلد الزوزان، وأخرج ابنه هذا إلى دار بالمدينة أسكنه فيها، ووكل به من يمنعه من الخروج.
وكانت الدار إلى جانب بستان لبعض الرعية، فكان يدخل إليه منها الحيات، والعقارب، وغيرهما من الحيوان المؤذي، ففي بعض الأيام اصطاد حية وسيرها في منديل إلى أبيه لعله يرق له، فلم يعطف عليه، فأعمل الحيلة حتى نزل من الدار التي كان بها واختفى، ووضع إنساناً كان يخدمه، فخرج من الجزيرة وقصد الموصل، وأظهر أنه غازي بن سنجر، فلما سمع نور الدين بقربه منها أرسل نفقة، وثياباً، وخيلاً، وأمره بالعود، وقال: إن أباك يتجنى لنا الذنوب التي لم نعملها، ويقبح ذكرنا، فإذا صرت عند جعل ذلك ذريعة للشناعات والبشاعات، ونقع معه في صراع لا ينادي وليده؛ فسار إلى الشام.
وأما غازي بن سنجر فإنه تسلق إلى دار أبيه، واختفى عند بعض سراريه، وعلم به أكثر من بالدار، فسترت عليه بغضاً لأبيه، وتوقعاً للخلاص منه لشدته عليهن، فبقي كذلك، وترك أبوه الطلب له ظناً منه أنه بالشام، فاتفق أن أباه، في بعض الأيام، شرب الخمر بظاهر البلد مع ندمائه، فكان يقترح على المغنين أن يغنوا في الفراق وما شاكل ذلك، ويبكي، ويظهر في قوله قرب الأجل، ودنوا الموت، وزوال ما هو فيه، فلم يزل كذلك إلى أخر النهار، وعاد إلى داره، وسكر عند بعض حظاياه، ففي الليل دخل الخلاء؛ وكان ابنه عند تلك الحظية، فدخل إليه داره فضربه بالسكين أربع عشرة ضربة، ثم ذبحه، وتركه ملقى، ودخل الحمام وقعد يلعب مع الجواري، فلو فتح باب الدار وأحضر الجند واستحلفهم لملك البلد، لكنه أمن واطمأن، ولم يشك في الملك.
فاتفق أن بعض الخدم الصغار خرج إلى الباب وأعلم أستاذ دار سنجر الخبر، فأحضر أعيان الدولة وعرفهم ذلك، وأغلق الأبواب على غازي، واستحلف الناس لمحمود بن سنجر شاه، وأرسل إليه فأحضره من فرح ومعه أخوه مودود، فلما حلف الناس وسكنوا فتحوا باب الدار على غازي، ودخلوا عليه ليأخذوه، فمانعهم عن نفسه، فقتلوه وألقوه على باب الدار، فأكلت الكلاب بعض لحمه، ثم دفن باقيه.
ووصل محمود إلى البلد وملكه، ولقب بمعز الدين، لقب أبيه، فلما استقر أخذ كثيراً من الجواري اللواتي لأبيه فغرقهن في دجلة.
ولقد حدثني صديق لنا أنه رأى بدجلة في مقدار غلوة سهم سبع جوار مغرقات، منهن ثلاث قد أحرقت وجوههن بالنار، فلم أعلم سبب ذلك الحريق حتى حدثتني جارية اشتريتها بالموصل من جواريه، أن محموداً كان يأخذ الجارية فيجعل وجهها في النار، فإذا احترقت ألقاها في دجلة، وباع من لم يغرقه منهن، فتفرق أهل تلك الدار أيدي سبا.
وكان سنجر شاه قبيح السيرة، ظالماً، غاشماً، كثير المخاتلة والمواربة، والنظر في دقيق الأمور وجليلها، لا يمتنع من قبيح يفعله مع رعيته، وغيرهم، من أخذ الأموال والأملاك، والقتل، والإهانة؛ وسلك معهم طريقاً وعراً من قطع الألسنة والأنوف والآذان، وأما اللحى فإنه حلق منها ما لا يحصى. وكان جل فكره في ظلم يفعله.
وبلغ من شدة ظلمه أنه كان إذا استدعى إنساناً ليحسن إليه لا يصل إلا وقد قارب الموت من شدة الخوف؛ واستعلى في أيامه السفهاء، ونفقت سوق الأشرار والساعين بالناس، فخرب البلد، وتفرق أهله، لا جزم سلط الله عليه أقرب الخلق إليه فقتله ثم قتل ولده غازي، وبعد قليل قتل ولده محمود أخاه مودوداً، وجرى في داره من التحريق والتغريق والتفريق ما ذكرنا بعضه، ولو رمنا شرح قبح سيرته لطال، والله تعالى بالمرصاد لكل ظالم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، ثاني المحرم، توفي أبو الحسن ورام بن أبي فراس الزاهد بالحلة السيفية، وهو منها، وكان صالحاً.
وفي صفر توفي الشيخ مصدق بن شبيب النحوي، وهو من أهل واسط.
وفي شعبان توفي القاضي محمد بن أحمد بن المنداي، والواسطي، بها، وكان كثير الرواية للحديث، وله إسناد عال، وهو آخر من حدث بمسند أحمد بن حنبل عن ابن الحصين.
وفيه توفي القوام أبو الفوارس نصر بن ناصر بن مكي المدائني، صاحب المخزن ببغداد، وكان أديباً، فاضلاً، كامل المروءة يحب الأدب وأهله، ويحب الشعر، ويحسن الجوائز عليه، ولما توفي ولي بعده أبو الفتوح المبارك ابن الوزير عضد الدين أبي الفرج بن رئيس الرؤساء، وأكرم، وأعلي محله، فبقي متولياً إلى سابع ذي القعدة وعزل لعجزه.
وفيها كانت زلزلة عظيمة بنيسابور وخراسان، وكان أشدها بنيسابور وخرج أهلها إلى الصحراء أياماً حتى سكنت وعادوا إلى مساكنهم.
؟؟
ثم دخلت سنة ست وستمائة
ذكر ملك العادل الخابور ونصيبين
وحصره سنجار وعوده عنها واتفاق نور الدين أرسلان شاه ومظفر الدينفي هذه السنة ملك العادل أبو بكر بن أيوب بلد الخابور ونصيبين، وحصر مدينة سنجار، والجميع من أعمال الجزيرة، وهو بيد قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود.
وسبب ذلك أن قطب الدين المذكور كان بينه وبين ابن عمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود، صاحب الموصل، عداوة مستحكمة، وقد تقدم ذكر ذلك، فلما كان سنة خمس وستمائة حصلت مصاهرة بين نور الدين والعادل، فإن ولداً للعادل تزوج بابنة لنور الدين، وكان لنور الدين وزراء يحبون أن يشتغل عنهم، فحسنوا له مراسلة العادل والاتفاق معه على أن يقتسما بالبلاد التي لقطب الدين، وبالولاية التي لولد سنجر شاه بن غازي بن مودود، وهي جزيرة ابن عمر وأعمالها، فيكون ملك قطب الدين للعادل، وتكون الجزيرة لنور الدين.
فوافق هذا القول هوى نور الدين، فأرسل إلى العادل في المعنى، فأجابه إلى ذلك مستبشراً، وجاءه ما لم يكن يرجوه لأنه علم أنه متى ملك هذه البلاد أخذ الموصل وغيرها؛ وأطمع نور الدين أيضاً في أن يعطي هذه البلاد، إذا ملكها، لولده الذي هو زوج ابنة نور الدين، ويكون مقامه في خدمته بالموصل، واستقرت القاعدة على ذلك، وتحالفا عليها، فبادر العادل إلى المسير من دمشق إلى الفرات في عساكره، وقصد الخابور فأخذه.
فلما سمع نور الدين بوصوله كأنه خاف واستشعر، فأحضر من يرجع إلى رأيهم وقولهم، وعرفهم وصول العادل، واستشارهم فيما يفعله، فأما من أشاروا عليه بذلك فسكتوا، وكان فيهم من لم يعلم هذه الحال، فعظم الأمر، وأشار بالاستعداد للحصار، وجمع الرجال، وتحصيل الذخائر وما يحتاج إليه. فقال نور الدين: نحن فعلنا ذلك؛ وخبره الخبر. فقال: بأي رأي تجيء إلى عدو لك هو أقوى منك، وأكثر جمعاً، وهو بعيد منك، متى تحرك لقصدك تعلم به، فلا يصل إلا وقد فرغت من جميع ما تريده، تسعى حتى يصير قريباً منك، ويزداد قوة إلى قوته.
ثم إن الذي استقر بينكما أنه له يملكه أولاً بغير تعب ولا مشقة، وتبقى أنت لا يمكنك أن تفارق الموصل إلى الجزيرة وتحصرها والعادل هاهنا، هذا إن وفى لك بما استقرت القاعدة عليه لا يجوز أن تفارق الموصل، وإن عاد إلى الشام، لأنه قد صار له ملك خلاط وبعض ديار بكر وديار بكر وديار الجزيرة جميعها، والجميع بيد أولاده، متى سرت عن الموصل أمكنهم أمكنهم أن يحلوا بينك وبينها، فما زدت على أن آذيت نفسك وابن عمك، وقويت عدوك، وجعلته شعارك، وقد فات الأمر، وليس يجوز إلا أن تقف معه على ما استقر بينكما لئلا يجعل كل حجة ويبتدئ بك.
هذا والعادل قد ملك الخابور ونصيبين، وسار إلى سنجار فحصرها، وكان في عزم صاحبها قطب الدين أن يسلمها إلى العادل بعوض يأخذه عنها، فمنعه من ذلك أمير كان معه، اسمه أحمد بن يرنقش، مملوك أبيه زنكي، وقام بحفظ المدينة والذب عنها، وجهز نور الدين عسكراً مع ولده الملك القاهر ليسيروا إلى الملك العادل.
فبينما الأمر على ذلك إذ جاءهم أمر لم يكن لهم في حساب، وهو أن مظفر الدين كوكبري، صاحب إربل، أرسل وزيره إلى نور الدين يبذل من نفسه المساعدة على منع العادل عن سنجار، وأن الاتفاق معه على ما يريده، فوصل الرسول ليلاً فوقف مقابل دار نور الدين وصاح، فعبر إليه سفينة عبر فيها، واجتمع بنور الدين ليلاً وأبلغه الرسالة، فأجاب نور الدين إلى ما طلب من الموافقة، وحلف له على ذلك، وعاد الوزير من ليلته، فسار مظفر الدين، واجتمع هو ونور الدين، ونزلا بعساكرهما بظاهر الموصل.
وكان سبب ما فعله مظفر الدين أن صاحب سنجار أرسل ولده إلى مظفر الدين يستشفع به إلى العادل ليبقي عليه سنجار؛ وكان مظفر الدين يظن أنه لو شفع في نصف ملك العادل لشفعه، لأثره الجميل في خدمته، وقيامه في الذب عن ملكه غير مرة كما تقدم؛ فشفع إليه فلم يشفعه العادل، وظنا منه أنه بعد اتفاقه مع نور الدين لا يبالي بمظفر الدين، فلما رد العادل شفاعته راسل نور الدين في الموافقة عليه.
ولما وصل إلى الموصل، واجتمع بنور الدين، أرسلا إلى الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، وهو صاحب حلب، وإلى كيخسرو بن قلج أرسلان، صاحب بلاد الروم، بالاتفاق معهما، فكلاهما أجاب إلى ذلك، فتواعدوا على الحركة وقصد بلاد العادل إن إمتنع من الصلح والإبقاء على صاحب سنجار، وأرسلا أيضاً إلى الخليفة الناصر لدين الله ليرسل رسولاً إلى العادل في الصلح أيضاً؛ فقويت حينئذ نفس صاحب سنجار على الامتناع، ووصلت رسل الخليفة، وهو هبة الله بن المبارك بن الضحاك، أستاذ الدار، والأمير آق باش، وهو من خواص مماليك الخليفة وكبارهم، فوصلا إلى الموصل، وسارا منها إلى العادل وهو يحاصر سنجار، وكان من معه لا يناصحونه في القتال لا سيما أسد الدين شيركوه، صاحب حمص والرحبة، فإنه كان يدخل إليها الأغنام وغيرها من الأقوات ظاهراً، ولا يقاتل عليها، وكذلك غيره.
فلما وصلت رسل الخليفة إلى العادل أجاب أولاً إلى الرحيل، ثم امتنع عن ذلك، وغالط، وأطال الأمر لعله يبلغ منها غرضاً، فلم ينل منها ما أمله، وأجاب إلى الصلح على أن يكون له ما أخذ وتبقى سنجار لصاحبها.
واستقرت القاعدة على ذلك، وتحالفوا على هذا كلهم، وعلى أن يكونوا يداً واحدة على الناكث منهم؛ ورحل العادل عن سنجار إلى حران، وعاد مظفر الدين إلى إربل، وبقي كل واحد من الملوك في بلده، وكان مظفر الدين عند مقامه بالموصل قد زوج ابنتين له بولدين لنور الدين وهما عز الدين مسعود، وعماد الدين زنكي.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، عزل فخر الدين بن أمسينا عن نيابة الوزارة للخليفة، وألزم بيته، ثم نقل إلى المخزن على سبيل الاستظهار عليه، وولي بعده نيابة الوزارة مكين الدين محمد بن محمد بن عبد الكريم بن برز القمي، كاتب الإنشاء، ولقب مؤيد الدين، ونقل إلى دار الوزارة مقابل باب النوبي.
وفيها، في شوال، توفي مجد الدين يحيى بن الربيع، الفقيه الشافعي، مدرس النظامية ببغداد.
وفيها توفي فخر الدين أبو الفضل محمد بن عمر ابن خطيب الري، الفقيه الشافعي، صاحب التصانيف المشهورة في الفقه والأصولين وغيرهما، وكان إمام الدين في عصره، وبلغني أن مولده سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.
وفيها، سلخ ذي الحجة، توفي أخي مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم الكاتب، مولده في أحد الربيعين سنة أربع وأربعين، وكان عالماً في عدة علوم مبرزاً فيها، منها: الفقه، والأصولان، والنحو، والحديث، واللغة، وله تصانيف مشهورة في التفسير والحديث، والنحو، والحساب، وغريب الحديث، وله رسائل مدونة، وكان كاتباً مفلقاً يضرب به المثل، ذا دين متين، ولزوم طريق مستقيم، رحمه الله ورضي عنه، فلقد كان من محاسن الزمان، ولعل من يقف على ما ذكرته يتهمني في قولي، ومن عرفه من أهل عصرنا يعلم أني مقصر.
وفيها توفي المجد المطرزي، النحوي الخوارزمي، وكان إماماً في النحو، له في تصانيف حسنة.
وفيها توفي المؤيد بن عبد الرحيم بن الإخوة بأصفهان، وهو من أهل الحديث، رحمه الله.
ثم دخلت سنة سبع وستمائة
ذكر عصيان سنجر مملوك الخليفة بخوزستان
ومسير العساكر إليهكان قطب الدين سنجر، مملوك الخليفة الناصر لدين الله، قد ولاه الخليفة خوزستان، بعد طاشتكين أمير الحاج كما ذكرناه، فلما كان سنة ست وستمائة بدا منه تغير عن الطاعة، فروسل في القدوم إلى بغداد، فغالط ولم يحضر؛ وكان يظهر الطاعة، ويبطن التغلب على البلاد، فبقي الأمر كذلك إلى الأول من هذه السنة، فتقدم الخليفة إلى مؤيد الدين، نائب الوزارة، وإلى عز الدين بن نجاح الشرابي، خاص الخليفة، بالمسير بالعساكر إليه بخوزستان وإخراجه عنها، فسارا في عساكر كثيرة إلى خوزستان، فلما تحقق سنجر قصدهم إليه فارق البلاد، ولحق بصاحب شيراز، وهو أتابك عز الدين سعد ابن دكلا، ملتجئاً إليه، فأكرمه وقام دونه.
ووصل عسكر الخليفة إلى خوزستان في ربيع الآخر بغير ممانعة، فلما استقروا في البلاد راسلوا سنجر يدعونه إلى الطاعة، فلم يجب إلى ذلك، فساروا إلى أرجان عازمين على قصد صاحب شيراز، فأدركهم الشتاء، فأقاموا شهوراً والرسل مترددة بينهم وبين صاحب شيراز، فلم يجبهم إلى تسليمه، فلما دخل شوال رحلوا يريدون شيراز، فحينئذ أرسل صاحبها إلى الوزير والشرابي يشفع فيه، ويطلب العهد له على أن لا يؤذى، فأجيب إلى ذلك، وسلمه إليهم هو وماله وأهله، فعادوا إلى بغداد وسنجدر معهم تحت الاستظهار، وولى الخليفة بلاد خوزستان مملوكه ياقوتاً أمير الحاج.
ووصل الوزير إلى بغداد في المحرم سنة ثمان وستمائة هو والشرابي والعساكر، وخرج أهل بغداد إلى تلقيهم، فدخلوها وسنجر معهم راكباً على بغل بإكاف، وفي رجله سلسلتان، في يد كل جندي سلسلة، وبقي محبوساً إلى أن دخل صفر، فجمع الخلق الكثير من الأمراء والأعيان إلى دار مؤيد الدين نائب الوزارة، فأحضر سنجر، وقرر بأمور نسبت إليه منكرة، فأقر بها، فقال مؤيد الدين للناس: قد عرفتم ما تقتضيه السياسة من عقوبة هذا الرجل، وقد عفا أمير المؤمنين عنه، وأمر بالخلع عليه، فلبسها وعاد إلى داره، فعجب الناس من ذلك.
وقيل إن أتابك سعد نهب مال سنجر وخزانته ودوابه، وكل ماله ولأصحابه، وسيرهم، فلما وصل سنجر إلى الوزير والشرابي طلبوا المال، فأرسل شيئاً يسيراً، والله أعلم.
ذكر وفاة نور الدين أرسلان شاه
وشيء من سيرتهفي هذه السنة، أواخر رجب، توفي نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر، صاحب الموصل، وكان مرضه قد طال، ومزاجه قد فسد، وكانت مدة ملكه سبع عشرة سنة واحد وأحد عشر شهراً، وكان شهماً شجاعاً، ذا سياسة للرعايا، شديداً على أصحابه، فكانوا يخافونه خوفا شديداً، وان ذلك مانعاً من تعدي بعضهم على بعض؛ وكان له همة عالية، أعاد ناموس البيت الأتابكي وجاهه، وحرمته، بعد أن كانت قد ذهبت، وخافه الملوك؛ وكان سريع الحركة في طلب الملك إلا أنه لم يكن له صبرا، فلهذا لم يتسع ملكه، ولو لم يكن له من الفضيلة إلا أنه لما رحل الكامل بن العادل عن ماردين، كما ذكرناه سنة خمس وتسعين وخمسمائة، عف عنها، وأبقاها على صاحبها، ولو قصدها وحصرها لم يكن فيها قوة الامتناع، لأن من كانوا بها كانوا قد هلكوا وضجروا، ولم يبق لهم رمق، فأبقاها على صاحبها.
ولما ملك استغاث به إنسان من التجار، فسأل عن حاله، فقيل إنه قد أدخل قماشه إلى البلد ليبيعه، فلم يتم له البيع، ويريد إخراجه، وقد منع من ذلك، فقال: من منعه؟ فقيل: ضامن البز يريد منه ما جرت به العادة من المكس؛ وكان القيم بتدبير مملكته مجاهد الدين قايماز، وهو إلى جانبه، فسأله عن العادة كيف هي؟ فقال: إن اشترط صاحبه إخراج متاعه مكن من العادة مدبرة، إنسان لا يبيع متاعه لأي شيء يؤخذ منه ماله؟ فقال مجاهد الدين: لا شك في فساد العادة مدبة، إنسان لا يبيع متاعه لأي شيء يؤخذ منه ماله؟ فقال مجاهد الدين: لا شك في فساد هذه العادة مدبرة، إنسان لا يبيع متاعه لأي شيء يؤخذ منه ماله؟ فقال مجاهد الدين: لا شك في فساد هذه العادة؛ فقال: إذا قلت أنا وأنت إنها عادة فاسدة، فما المانع من تركها؟ وتقدم بإخراج مال الرجل، وأن لا يؤخذ إلا ممن باع.
وسمعت أخي مجد الدين أبا السعادات، رحمه الله، وكان من أكثر الناس اختصاصاً به، يقول: ما قلت له يوماً في فعل خير فامتنع منه بل بادر إليه بفرح واستبشار؛ واستدعى في بعض الأيام أخي المذكور، فركب إلى داره، فلما كان بباب الدار لقيته امرأة وبيدها رقعة، وهي تشكو، وتطلب عرضها على نور الدين، فأخذها، فلما دخل إليه جاراه في مهم له، فقال: قبل كل شيء تقف على هذه الرقعة، وتقضي شغل صاحبتها؛ فقال: لا حاجة إلى الوقوف عليها، عرفنا إيش فيها. فقال: والله لا أعلم إلا أنني رأيت امرأة بباب الدار، وهي متظلمة، شاكية.
فقال: نعم عرفت حالها؛ ثم انزعج فظهر منه الغيظ والغضب، وعنده رجلان هما القيمان بأمور دولته، فقال لأخي: أبصر إلى أي شيء قد دفعت مع هذين. هذه المرأة كان لها ابن، وقد مات من مدة في الموصل، وهو غريب، وخلف قماشاً ومملوكين، فاحتاط نواب بيت المال على القماش، وأحضروا المملوكين إلينا، فبقيا عندنا ننتظر حضور من يستحق التركة ليأخذها، فحضرت هذه المرأة ومعها كتاب حكمي بأن المال الذي مع ولدها لها، فتقدم منا بتسليم مالها إليها، وقلت لهذين: اشتريا المملوكين منها، وأنصفاها في الثمن؛ فعادا وقالا: لم يتم بيننا بيع، لأنها طلبت ثمناً كبيراً، فأمرتهما بإعادة المملوكين إليها من مدة شهرين وأكثر، وإلى الآن ما عدت سمعت لها حديثاً، وظننت أنها أخذت مالها، ولا شك أنها لم يسلما المملوكين إليها، وقد استغاثت بهما، فلم ينصفاها، فجاءت إليك، وكل من رأى هذه المرأة تشكو وتستغيث يظن أني أنا منعتها أن تتسلم أنت المملوكين وتسلمها إليها؛ فأخذت المرأة مالها، وعادت شاكرة داعية، وله من هذا الجنس كثير لا نطول بذكره.
ذكر ولاية ابنه الملك القاهرلما حضر نور الدين الموت أمر أن يرتب في الملك بعده ولده الملك القاهر عز الدين مسعود، وحلف له الجند وأعيان الناس، وكان قد عهد إليه قبل موته بمدة، فجدد العهد له عند وفاته، وأعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكي قلعة عقر الحميدية، وقلعة شوش، وولايتهما، وسيره إلى العقر، وأمر أن يتولى تدبير مملكتهما، ويقوم بحفظهما، والنظر في مصالحهما، فتاه الأمير بدر الدين لؤلؤ ملا رأى من عقله وسداده، وحسن سياسته وتدبيره، وكمال خلال السيادة فيه، وكان عمر القاهر حينئذ عشر سنين.
وملا اشتد مرضه وأيس من نفسه أمره الأطباء بالانحدار إلى الحامة المعروفة بعين القيارة، وهي بالقرب من الموصل، فانحدر إليها، فلم يجد بها راحة، وازداد ضعفاً، فأخذه بدر الدين وأصعده في الشبارة إلى الموصل، فتوفي في الطريق ليلاً ومعه الملاحون والأطباء، بينه وبينهم ستر.
وكان مع بدر الدين، عند نور الدين، مملوكان، فلما توفي نور الدين قال لهما: لا يسمع أحد بموته؛ وقال للأطباء والملاحين: لا يتكلم أحد، فقد نام السلطان؛ فسكتوا، ووصلوا إلى الموصل في الليل، فأمر الأطباء والملاحين بمفارقة الشبارة لئلا يروه ميتاً، وأبعدوا، فحمله هو والمملوكان، وأدخله الدار، وتركه في الموضع الذي كان فيه ومعه المملوكان، ونزل على بابه من يثق به لا يمكن أحداً من الدخول والخروج، وقعد مع الناس يمضي أموراً كان يحتاج إلى إتمامها.
فلما فرغ من جميع ما يريده أظهر موته وقت العصر، ودفن ليلاً بالمدرسة التي أنشأنها مقابل داره، وضبط البلد تلك الليلة ضبطاً جيداً بحيث إن الناس في الليل لم يزالوا مترددين لم يعدم من أحد ما مقداره الحبة الفرد، واستقر الملك لولده، وقام بدر الدين بتدبير الدولة والنظر في مصالحها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في شهر ربيع الآخر، درس القاضي أبو زكرياء يحيى بن القاسم ابن المفرج، قاضي تكريت، بالمدرسة النظامية ببغداد، استدعي من تكريت إليها.
وفيها نقصت دجلة بالعراق نقصاً كثيراً، حتى كان الماء يجري ببغداد في نحو خمسة أذرع، وأمر الخليفة أن يكرى دجلة، فجمع الخلق الكثير، وكانوا كلما حفروا شيئاً عاد الرمل فغطاه، وكان الناس يخوضون دجلة فوق بغداد، وهذا مل يعهد مثله.
وحج بالناس هذه السنة علاء الدين محمد ولد الأمير مجاهد الدين ياقوت أمير الحاج، وكان أبوه قد ولاه الخليفة خوزستان، وجعله هو أمير الحاج، وجعل معه من يدبر الحاج، لأنه كان صبياً.
وفيها، في العشرين من ربيع الآخر، توفي ضياء الدين أبو أحمد عب الوهاب ابن علي بن عبد الله الأمير البغدادي ببغداد، وهو سبط صدر الدين إسمعيل شيخ الشيوخ، وعمره سبع وثمانون سنة وشهور، وكان صوفياً، فقيهاً، محدثاً، سمعنا منه الكثير، رحمه الله؛ وكان من عباد الله الصالحين كثير العبادة والصلاح.
وفيها توفي شيخنا أبو حفص عمر بن محمد بن المعمر بن طبرزد البغدادي، وكان عالي الإسناد.
ثم دخلت سنة ثمان وستمائة
ذكر استيلاء منكلي على بلاد الجبل وأصفهان
وغيرها وهرب إيدغمشفي هذه السنة، في شعبان قدم إيدغمش، صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد، إلى بغداد، هارباً من منكلي.
وسبب ذلك أن إيدغمش كان قد تمكن في البلاد، وعظمك شأنه، وانتشر صيته، وكثر عسكره، حتى إنه حصر صاحبه أبا بكر البهلوان، صاحب هذه البلاد: أذربيجان وأران، كما ذكرناه.
فلما كان الآن خرج عليه مملوك اسمه منكلي، ونازعه في البلاد، وكثر أتباعه، وأطاعه المماليك البهلوانية، فاستولى عليها، وهرب منه شمس الدين إيدغمش إلى بغداد، فلما وصل إليها أمر الخليفة بالاحتفال له في اللقاء، فخرج الناس كافة، وكان يوم وصوله مشهوداً، ثم قدمت زوجته في رمضان في محمل، فأكرمت وأنزلت عند زوجها، وأقام ببغداد إلى سنة عشر وستمائة، فسار عنها، فكان من أمره ما نذكره.
ذكر نهب الحاج بمنىوفي هذه السنة نهب الحاج بمنى؛ وسبب ذلك أن باطنياً وثب على بعض أهل الأمير قتادة، صاحب مكة، فقتله بمنى ظناً منه أنه قتادة، فلما سمع قتادة ذلك جمع الأشراف والعرب والعبيد وأهل مكة، وقصدوا الحاج، ونزلوا عليهم من الجبل، ورموهم بالحجارة والنبل وغير ذلك، وكان أمير الحاج ولد الأمير ياقوت المقدم ذكره، وهو صبي لا يعرف كيف يفعل، فخاف وتحير، وتمكن أمير مكة من نهب الحاج، فنهبوا منهم من كان في الأطراف، وأقاموا على حالهم إلى الليل.
فاضطرب الحاج، وباتوا بأسوإ حال من شدة الخوف من القتل والنهب. فقال بعض الناس لأمير الحاج لينتقل بالحجاج إلى منزلة حجاج الشام، فأمر بالرحيل، فرفعوا أثقالهم على الجمال تؤخذ بأحمالها، والتحق من سلم بحجاج الشام، فاجتمعوا بهم، ثم رحلوا إلى الزاهر، ومنعوا من دخول مكة، ثم أذن لهم في ذلك، فدخلوها وتمموا حجهم وعادوا.
ثم أرسل قتادة ولده وجماعة من أصحابه إلى بغداد، فدخلوها ومعهم السيوف مسلولة والأكفان، فقلبوا العتبة، واعتذروا مما جرى على الحجاج.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أظهر الإسماعيلية، ومقدمهم الجلال بن الصباح، الانتقال عن فعل المحرمات واستحلالها، وأمر بإقامة الصلوات وشرائع الإسلام ببلادهم من خراسان والشام، وأرسل مقدمهم رسلاًِ إلى الخليفة، وغيره من ملوك الإسلام، يخبرهم بذلك، وأرسل والدته إلى الحج، فأكرمت ببغداد إكراماً عظيماً، وكذلك بطريق مكة.
وفيها، سلخ جمادى الآخرة، توفي أبو حامد محمد بن يونس بن ميعة، الفقيه الشافعي، بمدينة الموصل، وكان إماماً فاضلاً، إليه انتهت رياسة الشافعية، لم يكن في زمانه مثله، وكان حسن الأخلاق، كثير التجاوز عن الفقهاء والإحسان إليهم، رحمه الله.
وفي شهر ربع الأول توفي القاضي أبو الفضائل علي بن يوسف بن أحمد بن الآمدي الواسطي، قاضيها، وكان نعم الرجل.
وفي شعبان توفي المعين أبو الفتوح عبد الواحد بن أبي أحمد بن علي الأمين، شيخ الشيوخ ببغداد، وكان موته بجزيرة كاس، مضى إليها رسولاً من الخليفة، وكان من أصدقائنا، وبيننا وبينه مودة متأكدة، وصحبة كثيرة، وكان من عباد الله الصالحين، رحمه الله ورضي عنه؛ وله كتابة حسنة، وشعر جيد، وكان عالماً بالفقه وغيره، ولما توفي رتب أخوه زين الدين عبد الرزاق ابن أبي أحمد، وكان ناظراً على المارستان العضدي، فتركه واقتصر على الرباط.
وفي ذي الحجة توفي محمد بن يوسف بن محمد بن عبيد الله النيسابوري الكاتب الحسن الخط، وكان يؤدي طريقه ابن البواب، وكان فقيهاً، حاسباً، متكلماً.
وتوفي عمر بن مسعود أبي العز أبو القاسم البزاز البغدادي بها، وكان من الصالحين، يجتمع إليه الفقراء كثيراً، ويحسن إليهم.
وتوفي أيضاً أبو سعيد الحسن بن محمد بن الحسن بن حمدون الثعلبي العدوي، وهو ولد مصنف التذكرة، وكان عالماً.
ثم دخلت سنة تسع وستمائة
ذكر قدوم ابن منكلي بغدادفي هذه السنة، في المحرم، قدم محمد بن منكلي المستولي على بلاد الجبل إلى بغداد. وسبب ذلكم أن أباه منكلي لما استولى على بلاد الجبل وهرب إيدغمش صاحبها منها إلى بغداد خاف أن يساعده الخليفة، ويرسل معه العساكر، فيعظم الأمر عليه، لأنه لم يكن قد تمكن في البلاد، فأرسل ولده محمداً ومعه جماعة من العسكر، فيعظم الأمر عليه، لأنه لم يكن قد تمكن في البلاد، فأرسل ولده محمداً ومعه جماعة من العسكر، فخرج الناس ببغداد على طبقاتهم يلتقونه، وأنزل وأكرم، وبقي ببغداد إلى أن قتل إيدغمش، فخلع عليه وعلى من معه، وأكرموا، وسيرهم إلى أبيه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض الملك العادل أبو بكر بن أيوب، صاحب مصر والشام، على أمير اسمه أسامة، كان له إقطاع كثير من جملته حصن كوكب من أعمال الأردن بالشام، وأخذ منه حصن كوكب وخربه وعفى أثره، ومن بعده بني حصناً بالقرب من عكا على جبل يسمى الطور، وهو معروف هناك، وشحنه بالرجال والذخائر والسلاح. وفيها توفي الفقيه محمد بن إسمعيل بن أبي الصيف اليمني، فقيه الحرم الشريف بمكة.
ثم دخلت سنة عشر وستمائة
ذكر قتل إيدغمشفي هذه السنة، في المحرم قتل إيدغمش الذي كان صاحب همذان، وقد ذكرنا سنة ثمان أنه قدم إلى بغداد وأقام بهتا، فأنعم عليه الخليفة، وشرفه بالخلع، وأعطاه الكوسات وما يحتاج إليه، وسيره إلى همذان، فسار في جمادى الآخرة عن بغداد قاصداً إلى همذان، فوصل إلى بلاد ابن ترجم واجتمعا، وأقام ينتظر وصول عساكر بغداد إليه ليسير معه على قاعدة استقرت بينهم.
وكان الخليفة قد عزل سليمان بن ترجم عن الإمارة على عشيرته من التركمان الإيوانية، وولى أخاه الأصغر، فأرسل سليمان إلى منكلي يعرفه بحال إيدغمش، ومضى هو على وجهه، فأخذوه فقتلوه، وحملوا رأسه إلى منكلي، وتفرق من معه من أصحابه في البلاد لا يلوي أخ على أخيه.
ووصل الخبر بقتله إلى بغداد، فعظم على الخليفة ذلك، وأرسل إلى منكلي ينكر عليه ما فعل، فأجاب جواباً شديداً، وتمكن من البلاد، وقوي أمره، وكثرت جموع عساكره، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله.
ذكر عدة حوادثحج بالناس في هذه السنة أبو فراس بن جعفر بن فراس الحلي، نيابة عن أمير الحاج ياقوت، ومنع ابن ياقوت عن الحج لما جرى للحاج في ولايته.
وفيها، في المحرم، توفي الحكيم المهذب علي بن أحمد بن هبل، الطبيب المشهور، كان أعلم أهل زمانه بالطب، روى الحديث، وكن مقيماً بالموصل، وبها مات، وكان كثير الصدقة، حسن الأخلاق، وله تصنيف حسن في الطب.
وفيه توفي الضيا أحمد بن علي البغدادي، الفقيه الحنبلي، صاحب ابن المني.
وفيه توفي أيضاً أحمد بن مسعود التركستاني، الفقيه الحنفي ببغداد، وهو مدرس مشهد أبي حنيفة.
وفيها، في جمادى الأولى، توفي معز الدين أبو المعاني سعد بن علي المعروف بابن حديد الذي كان وزير الخليفة الناصر لدين الله، وكان قد ألزم بيته، ولما توفي حمل تابوته إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، بالكوفة، وكان حسن السيرة في وزارته، كثير الخير والنفع للناس.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وستمائة
ذكر ملك خوارزم شاه كرمان ومكران والسندهذه الحادثة لا أعلم الحقيقة أي سنة كانت، إنما هي إما هذه السنة، أو قبلها، أو بعدها بقليل، لأن الذي أخبر بها كان من أجناد الموصل، وسافر إلى تلك البلاد وأقام بها عدة سنين، وسار مع الأمير أبي بكر الذي فتح كرمان ثم عاد فأخبرني بها على شك من وقتها، وقد حضرها فقال: خوارزم شاه محمد بن تكش كان من جملة أمراء أبيه أمير اسمه أبو بكر، ولقبه تاج الدين.
وكان في ابتداء أمره جمالاً يكري الجمال في الأسفار، ثم جاءته السعادة، فاتصل بخوارزم شاه، وصار سيروان جماله، فرأى منه جلداً وأمانة، فقدمه إلى أن صار من أعيان أمراء عسكره، فولاه مدينة زوزن، وكان عاقلاً ذا رأي، وحزم، وشجاعة، فتدم عند خوارزم شاه تقدماً كثيراً، فوثق به أكثر من جميع أمراء دولته، فقال أبو بكر لخوارزم شاه: إن بلاد كرمان مجاورة لبلدي، فلو أضاف السلطان إلي عسكراً لملكتها في أسرع وقت. فسير معه عسكراً كثيراً فمضى إلى كرمان، وصاحبها اسمه حرب بن محمد بن أبي الفضل الذي كان صاحب سجستان أيام السلطان سنجر، فقاتله، فلم يكن له به قوة، وضعف، فملك أبو بكر بلاده في أسرع وقت، وسار منها إلى نواحي مكران فملكها كلها إلى السند، من حدود كابل، وسار إلى هرمز، مدينة على ساحل بحر مكران، فأطاعه صاحبها، واسمه ملنك، وخطب بها لخوارزم شاه، وحمل عنها مالاً، وخطب له بقلهات، وبعض عمان، لأن أصحابها كانوا يطيعون صاحب هرمز.
وسبب طاعتهم له، مع بعد الشقة، والبحر يقطع بينهم، أنهم يتقربون إليه بالطاعة ليأمن أصحاب المراكب التي تسير إليهم عنده، فإن هرمز مرسى عظيم، ومجمع للتجار من أقاصي الهند والصين واليمن، وغيرها من البلاد، وكان بين صاحب هرمز وبين صاحب كيش حروب ومغاورات، وكل منهما ينهى أصحاب المراكب أن ترسي ببلد خصمه، وهم كذلك إلى الآن؛ وكان خوارزم شاه يصيف بنواحي سمرقند لأجل التتر أصحاب كشلي خان، لئلا يقصد بلاده؛ وكان سريع السير، إذا قصد سبق خبره إليها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قتل مؤيد الملك الشحري، وكان قد وزر لشهاب الدين الغوري، ولتاج الدين الدز بعده، و كان حسن السيرة، جميل الاعتقاد، محسناً إلى العلماء وأهل الخير وغيرهم، يزورهم ويبرهم، ويحضر الجمعة ماشياً وحده.
وكان سبب قتله أن بعض عسكر الدز كرهوه، وكان كل سنة يتقدم إلى البلاد الحارة بين يدي الدز، أول الشتاء، فسار هذه السنة كعادته، فجاء أربعون نفراً أتراكاً وقالوا له: السلطان يقول لك تحضر جريدة في عشرة نفر لمهم تجدد؛ فسار معهم جريدة في عشرة مماليك، فلما وصلوا إلى نهوند، بالقرب من ماء السند، قتلوه وهربوا، ثم إنهم ظفر بهم خوارزم شاه محمد فقتلهم.
وفيها، في رجب، توفي الركن أبو منصور عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجليلي، البغدادي، وكان قد ولي عدة ولايات، وكان يتهم بمذهب الفلاسفة، حتى إنه رأى أبوه يوماً عليه قميصاً بخارياً، فقال: ما هذا القميص؟ فقال: بخاري؛ فقال أبوه: هذا عجب! ما زلنا نسمع: مسلم والبخاري، وأما كافر والبخاري فما سمعنا.
وأخذت كتبه قبل موته بعدة سنين، وأظهرت في ملأ من الناس، ورؤي فيها من تبخير النجوم ومخاطبة زحل بالإلهية، وغير ذلك من الكفريات، ثم أحرقت بباب العامة، وحبس، ثم أفرج عنه بشفاعة أبيه، واستعمل بعد ذلك.
وفيها أيضاً توفي أبو العباس أحمد بن هبة الله بن العلاء المعروف بابن الزاهد ببغداد، وكان عالماً بالنحو واللغة.
وفي شعبان منها توفي أبو المظفر محمد بن علي بن البل اللوري الواعظ، ودفن برباط على نهر عيسى، ومولده سنة عشر وخمسمائة.
وفي شوال منها توفي عبد العزيز بن محمود بن المبارك بن محمود بن الأخضر، وكان من فضلاء المحدثين، وله سبع وثمانون سنة.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وستمائة
ذكر قتل منكلي وولاية أغملش
ما كان بيده من الممالكفي هذه السنة في جمادى الأولى، انهزم منكلي صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد، ومضى هاباً، فقتل.
وسبب ذلك أنه كان قد ملك البلاد، كما ذكرناه، وقتل إيدغمش فأرسل إليه من الديوان الخليفي رسول ينكر ذلك عليه، وكان قد أوحش الأمير أوزبك ابن البهلوان، صاحب أذربيجان، وهو صاحبه ومخدومه، فأرسل إليه يحرضه على منكلي ويعده النصرة، وأرسل أيضاً إلى جلال الدين الإسماعيلي، صاحب قلاع الإسماعيلية ببلاد العجم، الموت وغيرها، يأمره بمساعدة أوزبك على قتال منكلي، واستقرت القواعد بينهم على أن يكون للخليفة بعض البلاد، ولأوزبك بعضها، ويعطي جلال الدين بعضها، فلما استقرت القواعد بينهم على ذلك جهز الخليفة عسكراً كثيراً، وجعل مقدمهم مملوكه مظفر الدين سنقر، الملقب بوجه السبع، وأرسل إلى مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي كوجك، وهو إذ ذاك صاحب إربل وشهرزور وأعمالها، يأمره أن يحضر بعساكره، ويكون مقدم العساكر جميعها، وإليه المرجع في الحرب.
فحضر، وحضر معه عسكر الموصل وديار الجزيرة، وعسكر حلب، فاجتمعت عساكر كثيرة وساروا إلى همذان، فاجتمعت العساكر كلها فانزاح منكلي من بين أيديهم وتعلق بالجبال، وتبعوه، فنزلوا بسفح جبل هو في أعلاه بالقرب من مدينة كرج، وضاقت الميرة والأقوات على العسكر الخليفي جميعه ومن معهم، فلو أقام منكلي بموضعه لم يمكنهم المقام عليه أكثر من عشرة أيام، لكنه طمع فنزل ببعض عسكره من الجبل مقابل الأمير أوزبك، فحملوا عليه، فلم يثبت أوزبك، ومضى منهزماً، فعاد أصحاب منكلي وصعدوا الجبل، وعاد أوزبك إلى خيامه، فطمع منكلي حينئذ، ونزل من الغد في جميع عسكره، واصطفت العساكر للحرب، واقتتلوا أشد قتال يكون، فانهزم منكلي وصعد الجبل، فلو أقام بمكانه لم يقدر أحد على الصعود إليه، وكان قصاراهم العود عنه، لكنه اتخذ الليل جملاً، وفارق موضعه ومضى منهزماً، فتبعه نفر يسير ن عسكره، وفارقه الباقون وتفرقوا أيدي سبا.
واستولى عسكر الخليفة وأوزبك على البلاد، فأعطى جلال الدين، ملك الإسماعيلية، من البلاد ما كان استقر له، وأخذ الباقي أوزبك، فسلمه إلى أغلمش مملوك أخيه، وكان قد توجه إلى خوارزم شاه علاء الدين محمد، وبقي عنده، ثم عاد عنه، وشهد الحرب وأبلى فيها، فولاه أوزبك البلاد، وعاد كل طائفة من العسكر إلى بلادهم.
وأما منكلي فإنه مضى منهزماً إلى مدينة ساوة، وبها شحنة هو صديق له. فأرسل إليه يستأذنه في الدخول إلى البلد، فأذن له، وخلج إليه فلقيه، وقبل الأرض بين يديه، وأدخله البلد، وأنزله في داره، ثم أخذ سلاحه، وأراد أن يقيده ويرسله إلى أغلمش، فسأله أن يقتله هو ولا يرسله، فقتله، وأرسل رأسه إلى أوزبك، وأرسله أوزبك إلى بغداد، وكان يوم دخولها يوماً مشهوداً إلا أنه لم تتم المسرة للخليفة بذلك، فإنه وصل ومات ولده في تلك الحال، فأعيد ودفن.
ذكر وفاة ابن الخليفةفي هذه السنة في العشرين من ذي القعدة، توفي ولد الخليفة، وهو الأصغر، وكان يلقب الملك المعظم، و اسمه أبو الحسن لعي، وكان أحب ولدي الخليفة إليه، وقد رشحه لولاية العهد بهده، وعزل ولده الأكبر عن ولاية العهد واطرحه لأجل هذا الولد.
وكان رحمه الله، كريماً كثير الصدقة والمعروف، حسن السيرة، محبوباً إلى الخاص والعام، وكان سبب موته أنه أصابه إسهال فتوفي، وحزن عليه الخليفة حزناً لم يسمع بمثله، حتى إنه أرسل إلى أصحاب الأطراف ينهاهم عن إنفاذ رسول إليه يعزيه بولده، ولم يقرأ كتاباً ولا سمع رسالة، وانقطع، وخلا بهمومه وأحزانه، ورؤي عليه من الحزن والجزع ما لم يسمع بمثله.
ولما توفي أخرج نهاراً، ومشى جميع الناس بين يدي تابوته إلى تربة جدته عند قبر معروف الكرخي، فدفن عندها، ولما أدخل التابوت أغلقت الأبواب، وسمع الصراخ العظيم من داخل التربة، فقيل إن ذلك صوت الخليفة.
وأما العامة ببغداد فإنهم وجدوا عليه وجداً شديداً، ودامت المناحات عليه في أقطار بغداد ليلاً ونهاراً، ولم يبق ببغداد محلة إلا وفيها النوح، ولم تبق امرأة إلا وأظهرت الحزن، وما سمع ببغداد مثل ذلك في قديم الزمان وحديثه.
وكان موته وقت وصول رأس منكلي إلى بغداد، فإن الموكب أمر بالخروج إلى لقاء الرأس، فخرج الناس كافة، فلما دخلوا بالرأس إلى رأس درب حبيب وقع الصوت بموت ابن الخليفة، فأعيد الرأس، وهذا دأب الدنيا، لا يصفو أبداً فرحها من ترح، وقد تخلص مصائبها من شائبة الفرح.
ذكر ملك خوارزم شاه غزنة وأعمالهافي هذه السنة، في شعبان، ملك خوارزم شاه محمد بن تكش مدينة غزنة وأعمالها.
وسبب ذلك أن خوارزم شاه لما استولى على عامة خراسان وملك باميان وغيرها، أرسل إلى تاج الدين، صاحب غزنة، وقد تقدمت أخباره حتى ملكها، يطلب منه أن يخطب له، ويضرب السكة باسمه، ويرسل إليه فيلاً واحداً ليصالحه ويقر بيده غزنة، ولا يعارضه فيها، فأحضر الأمراء وأعيان دولته واستشارهم.
وكان فيهم أكبر أمير اسمه قتلغ تكين، وهو من مماليك شهاب الدين الغوري أيضاً، وإليه الحكم في دولة الدز، وهو النائب عنه بغزنة، فقال: أرى أن تخطب له، وتعطيه ما طلب، وتستريح من الحرب والقتال، وليس لنا بهذا السلطان قوة.
فقال الجماعة مثل قوله، فأجاب إلى ما طلب منه، وخطب لخوارزم شاه، وضرب السكة باسمه، وأرسل إليه فيلاً، وأعاد رسوله إليه، ومضى إلى الصيد.
فأرسل قتلغ تكين، والي غزنة، إلى خوارزم شاه يطلبه ليسلم إليه غزنة، فسار مجداً، وسبق خبره، فسلم إليه قتلغ تكين غزنة وقلعتها، فلما دخل إليها قتل من بها من عسكر الغورية لا سيما الأتراك، وفوصل الخبر إلى الدز بذلك فقال: ما فعل قتلغ تكين، وكيف ملك القلعة مع وجوده فيها؟ فقيل: هو الذي أحضره وسلم إليه؛ فمضى هارباً هو ومن معه إلى لهاوور، وأقام خوارزم شاه بغزنة، فلما تمكن منها أحضر قتلغ تكين فقال له: كيف حالك مع الدز؟ وكان عالماً به، وإنما أراد أن تكون له الحجة عليه. فقال: كلانا مماليك شهاب الدين، ولم يكن الدز يقيم بغزنة إلا أربعة أشهر الصيف، وأنا الحكم فيها، والمرجع إلي في كل الأمور.
فقال له خوارزم شاه: إذا كنت لا ترعى لرفيقك ومن أحسن إليك صحبته وإحسانه، فكيف يكون حالي أنا معك، وما الذي تصنع مع ولدي إذا تركته عندك؟ فقبض عليه، وأخذ منه أموالاً جمة حملها ثلاثون دابة من أصناف الأموال والأمتعة، وأحضر أربع مائة مملوك، فلما أخذ ماله قتله وترك ولده جلال الدين بغزنة مع جماعة من عسكره وأمرائه وقيل إن ملك خوارزم شاه غزنة كان سنة ثلاث عشرة وستمائة.
ذكر استيلاء الدز على لهاوور وقتلهلما هرب الدز من غزنة إلى لهاوور لقيه صاحبها ناصر الدين قباجة، وهو من مماليك شهاب الدين الغوري أيضاً، وله من البلاد لهاوور، وملتان، وأوجه، وديبل، وغير ذلك، إلى ساحل البحر، ومعه نحو خمسة عشر ألف فارس؛ وكان قد بقي مع الدز نحو ألف وخمسمائة فارس، فوقع بينهما مصاف، واقتتلوا، فانهزمت ميمنة الدز وميسرته، وأخذت الفيلة التي معه، ولم يبق له غير فيلين معه في القلب.
فقال الفيال: إذا أخاطر بسعادتك؛ وأمر أحد الفيلين أن يحمل على العلم الذي لقباجة يأخذه، وأمر الفيل الآخر الذي له أيضاً أن يأخذ الجتر الذي له، فأخذه أيضاً، والفيلة المعلمة تفهم ما يقال لها؛ هذا رأيناه، فحمل الفيلان، وحمل معهما الدز فيمن بقي عنده من العسكر، وكشف رأسه، وقال بالعجمية ما معناه: إما ملك، وإما هلك! واختلط الناس بعضهم ببعض، وفعل الفيلان ما أمرهما الفيال من أخذ العلم والجتر، فانهزم قباجة وعسكره، وملك الدز مدينة لهاوور.
ثم سار إلى بلاد الهند ليملك مدينة دهلة وغيرها مما بيد المسلمين، وكان صاحب دهلة أمير اسمه الترمش، ولقبه شمس الدين، وهو من مماليك قطب الدين أيبك، مملوك شهاب الدين أيضاً، وكان قد ملك الهند بعد سيده، فلما سمع به الترمش سار إليه في عساكره كلها، فلقيه عند مدينة سماتا، فاقتتلوا، فانهزم الدز وعسكره، وأخذ وقتل.
وكان الدز محمود السيرة في ولايته، كثير العدل والإحسان إلى الرعية، لا سيما التجار والغرباء، ومن محاسن أعماله أنه كان له أولاد، ولهم معلم يعلمهم، فضرب المعلم أحدهم فمات، فاحضره الدز وقال له: يا مسكين! ما حملك على هذا؟ فقال: والله ما أردت إلا تأديبه. فاتفق أن مات. فقال: صدقت؛ وأعطاه نفقة، وقال له: تغيب، فإن أمه لا تقدر على الصبر، فربما أهلكتك، ولا أقدر أمنع عنك. فلما سمعت أم الصبي بموته طلبت الأستاذ لتقتله، فلم تجده، فسلم، وكان هذا من أحسن ما يحكى عن أحد من الناس.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة توفي الوجيه المبارك بن أبي الأزهر سعيد بن الدهان الواسطي النحوي، الضرير، كان نحريراً فاضلاً، قرأ على الكمال عبد الرحمن بن الأنباري وعلى غيره، وكان حنبلياً، فصار حنفياً، ثم صار شافعياً، فقال فيه أبو البركات بن زيد التكريتي:
ألا مبلغاً عني الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي لديه الرسائل
تمذهبت للنعمان من بعد حنبل ... وفارقته إذ غورتك المآكل
وما اخترت رأي الشافعي تديناً ... ولكنما تهوى الذي هو حاصل
وعما قليل أنت لا شك صائر ... إلى مالك، فافطن لما أنا قاتل
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وستمائة
ذكر وفاة الملك الظاهر صاحب حلبفي هذه السنة، في جمادى الآخر، توفي الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، وهو صاحب مدينة حلب ومنبج وغيرهما من بلاد الشام، وكان مرضه إسهالاً، وكان شديد السيرة، ضابطاً لأموره كلها، كثير الجمع للأموال من غير جهاتها المعتادة، عظيم العقوبة على الذنب، لا يرى الصفح، وله مقصد يقصده كثير من أهل البيوتات من أطراف البلاد، والشعراء، وأهل الدين وغيرهم، فيكرمهم، ويجري عليهم الجاري الحسن.
ولما اشتدت علته عهد بالملك بعده لولد له صغير اسمه محمد، ولقبه الملك العزيز غياث الدين، عمره ثلاث سنين، وعدل عن ولد كبير لأن الصغير كانت أمه ابنة عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، صاحب مصر ودمشق وغيرهما من البلاد، فعهد بالملك له ليبقى عمه البلاد عليه، ولا ينازعه فيها.
ومن أعجب ما يحكى أن الملك الظاهر، قبل مرضه، أرسل رسولاً إلى عمه العادل بمصر، يطلب منه أن يحلف لولده الصغير، فقال العادل: سبحان الله! أي حاجة إلى هذه اليمين؟ الملك الظاهر مثل بعض أولادي. فقال الرسول: قد طلب هذا واختاره، ولا بد من إجابته إليه. فقال العادل: كم من كبش في المرعى وخروف عند القصاب؛ وحِلف.
فاتفق في تلك الأيام أن توفي الملك الظاهر والرسول في الطريق، ولما عهد الظاهر إلى ولده بذلك جعل أتابكه ومربيه خادماً رومياً، اسمه طغرل، ولقبه شهاب الدين، وهو من خيار عباد الله، كثير الصدقة والمعروف.
ولما توفي الظاهر أحسن شهاب الدين هذا السيرة في الناس، وعدل فيهم، وأزال كثيراً من السنن الجارية، وأعاد أملاكاً كانت قد أخذت من أربابها، وقام بتربية الطفل أحسن قيام، وحفظ بلاده، واستقامت الأمور بحسن سيرته وعدله، وملك ما كان يتعذر على الظاهر ملكه، فمن ذلك تل باشر، كان الملك الظاهر لا يقدر أن يتعرض إليه، فلما توفي ملكها كيكاوش، ملك الروم، كما نذكره إن شاء الله تعالى، انتقلت إلى شهاب الدين، وما أقبح بالملوك وأبناء الملوك أن يكون هذا الرجل الغريب المنفرد أحسن سيرة، وأعف عن أموال الرعية، وأقرب إلى الخير منهم، ولا أعلم اليوم في ولاة أمور المسلمين أحسن سيرة منه، فالله يبقيه، ويدفع عنه، فلقد بلغني عنه كل حسن وجميل.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في المحرم، وقع بالبصرة برد كثير، وهو مع كثرته عظيم القدر؛ قيل. كان أصغره مثل النازنجة الكبيرة، وقيل في أكبره ما يستحي الإنسان أن يذكره، فكسر كثيراً من رؤوس النخيل.
وفي المحرم أيضاً سير الخليفة الناصر لدين الله ولدي ابنه المعظم علي إلى تستر، وهما المؤيد والموفق، وسار معهما مؤيد الدين النائب عن الوزارة، وعز الدين الشرابي، فأقاما بها يسيراً، ثم عاد الموفق مع الوزير والشرابي إلى بغداد أواخر ربيع الآخر.
وفيها، في صفر، هبت ببغداد ريح سوداء شديدة، كثيرة الغبار والقتام، وألقت رملاً كثيراً، وقلعت كثيراً من الشجر، فخاف الناس وتضرعوا، ودامت من العشاء الآخرة إلى ثلث الليل وانكشفت.
وفيهما توفي التاج زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن سعيد بن عصمة الكندي أبو اليمن، البغدادي المولد والمنشإ، انتقل إلى الشام فأقام بدمشق، وكان إماماً في النحو واللغة، وله الإسناد العالي في الحديث؛ وكان ذا فنون كثيرة من أنواع العلوم، رحمه الله.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وستمائة
ذكر ملك خوارزم شاه بلد الجبلفي هذه السنة سار خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش إلى بلاد الجبل فملكها.
وكان سبب حركته، في هذا الوقت، أشياء، أحدها: أنه كان قد استولى على ما وراء النهر، وظفر بالخطا، وعظم أمره، وعلا شأنه، وأطاعه القريب والبعيد؛ ومنها: أنه كان يهوى أن يخطب له ببغداد. ويلقب بالسلطان. وكان الأمر بالضد لأنه كان لا يجد من ديوان الخلافة قبولاً، وكان سبيله إذا ورد إلى بغداد أن يقدم غيره عليه، ولعل في عسكره مائة مثل الذي يقدم سبيله عليه، فكان إذا سمع ذلك يغضبه؛ ومنها: أن أغلمش لما ملك بلاد الجبل خطب له فيها جميعها، كما ذكرناه، فلما قتله الباطنية غضب له، وخرج لئلا تخرج البلاد عن طاعته، فسار مجداً في عساكر تطبق الأرض، فوصل إلى الري فملكها.
وكان أتابك سعد بن دكلا، صاحب بلاد فارس، لما بلغه مقتل أغلمش جمع عساكره وسار نحو بلاد الجبل طمعاً في تملكها لخلوها عن حام وممانع، فوصل إلى أصفهان، فأطاعه أهلها، وسار منها يريد الري، ولم يعلم بقدوم خوارزم شاه، فلقيه مقدمه خوارزم شاه فظنها عساكر تلك الديار قد اجتمعت لقتاله ومنعه عن البلاد، فقاتلهم، وجد في محاربتهم حتى كاد يهزمهم.
فبينما هو كذلك إذ هو قد ظهر له جتر خوارزم شاه، فسأل عنه، فأخبر به فاستلم، وانهزمت عساكره، وأخذ أسيراً، وحمل إلى بين يدي خوارزم شاه، فأكرمه، ووعده الإحسان والجميل، وأمنه على نفسه، واستحلفه على طاعته، واستقرت القاعدة بينهما على أن يسلم بعض البلاد إليه، ويبقي بعضها، وأطلقه وسير معه جيشاً إلى بلاد فارس ليسلم إليهم ما استقرت القاعدة عليه؛ فلما قدم على ولده الأكبر رآه قد تغلب على بلاد فارس، فامتنع من التسليم إلى أبيه.
ثم إنه ملك البلاد، كما نذكره، وخطب فيها لخوارزم شاه، وسار خوارزم شاه إلى ساوة فملكها، وأقطعها لعماد الملك عارض جيشه، وهو من أهلها، ثم سار إلى قزوين وزنجان وأبهر، فملكها كلها بغير ممانع ولا مدافع، ثم سار إلى همذان فملكها، وأقطع البلاد لأصحابه، وملك أصفها، وكذلك قم وقاشان، واستوعب ملك جميع البلاد، واستقرت القاعدة بينه وبين أوزبك بن البهلوان، صاحب أذربيجان وأران، بأن يخطب له أوزبك في بلاده ويدخل في طاعته.
ثم إنه عزم على المسير إلى بغداد، فقدم بين يديه أميراً كبيراً في خمسة عشر ألف فارس، وأقطعه حلوان، فسار حتى وصل إليها؛ ثم أتبعه بأمير آخر، فلما سار عن همذان يومين أو ثلاثة سقط عليهم من الثلج ما لم يسمع بمثله، فهلكت دوابهم، ومات كثير منهم، طمع فيمن بقي بنو ترجم الأتراك، وبنو هكار الأكراد، فتخطفوهم، فلم يرجع منهم إلى خوارزم شاه إلا اليسير، فتطير خوارزم شاه من ذلك الطريق، وعزم على العود إلى خراسان خوفاً من التتر، لأنه طن أنه يقضي حاجته، ويفرغ من إرادته في المدة اليسيرة، فخاب ظنه، ورأى البيكار بين يديه طويلاً، فعزم على العود، فولى همذان أميراً من أقاربه من جهة والدته، يقال له طائيسي، وجعل في البلاد جميعها ابنه ركن الدين، وجعل معه متولياً لأمر دولته عماد الملك الساوي، وكان عظيم القدر عنده، وكان يحرص على قصد العراق.
وعاد خوارزم شاه إلى خراسان، فوصل إلى مرو في المحرم سنة خمس عشرة وستمائة، وسار من وجهه إلى ما وراء النهر؛ ولما قدم إلى نيسابور جلس يوم الجمعة عند المنبر، وأمر الخطيب بترك الخطبة للخليفة الناصر لدين الله، وقال: إنه قد مات؛ وكان ذلك في ذي القعدة سنة أربع عشرة وستمائة؛ ولما قدم مرو قطع الخطبة بها، وكذلك ببلخ وبخارى وسرخس، وبقي خوارزم وسمرقند وهراة لم تقطع الخطبة فيها إلا عن قصد لتركها، لأن البلاد كانت لا تعارض من أشباه هذا، إن أحبوا خطبوا، وإن أرادوا قطعوا، فبقيت كذلك إلى أن كان منه ما كان.
وهذه من جملة سعادات هذا البيت الشريف العباسي لم يقصد أحد بأذى إلا لقيه فعله، وخبث نيته، لا جرم لم يمهل خوارزم شاه هذا حتى جرى له ما نذكره مما لم يسمع بمثله في الدنيا قديماً ولا حديثاً.
ذكر ما جرى لأتابك سعد مع أولاده
لما قتل أغلمش، صاحب بلاد الجبل، همذان وأصفهان وما بينهما من البلاد، جمع أتابك سعد بن دكلا، صاحب فارس، عساكره وسار عن بلاده إلى أصفهان فملكها وأطاعه أهلها، فطمع في تلك البلاد جميعها، فسار عن أصفهان إلى الري، فلما وصل إليها لقي عساكر خوارزم شاه قد وصلت، كما ذكرناه، فعزم على محاربة مقدمة العسكر، فقاتلها حتى كاد يهزمها، فظهرت عساكر خوارزم شاه، ورأى الجتر، فسقط في يده، وألقى نفسه، وضعفت قوته وقوة عسكره، فولوا الأدبار، وأخذ أتابك سعد أسيراً، وأحضر بين يدي خوارزم شاه، فأكرمه، وطيب نفسه، ووعده الإحسان واستصحبه معه، إلى أن وصل إلى أصفهان، فسيره منها إلى بلاده، وهي تجاورها، وسير معه عسكراً مع أمير كبير ليتسلم منه ما كان استقر بينهما، فإنهما اتفقا على أن يكون لخوارزم شاه بعض البلاد ولأتابك سعد بعضها، وتكون الخطبة لخوارزم شاه في البلاد جميعها.
وكان أتابك سعد قد استخلف ابناً له على البلاد، فلما سمع الابن بأسر أبيه خطب لنفسه بالمملكة وقطع خطبة أبيه، فلما وصل أبوه ومعه عسكر خوارزم شاه امتنع الابن من تسليم البلاد إلى أبيه، وجمع العساكر وخرج يقاتله، فلما تراءى الجمعان انحازت عساكر فارس إلى صاحبها أتابك سعد، وتركوا ابنه في خاصته، فحمل على أبيه، فلما رآه أبوه ظن أنه لم يعرفه، فقال له: أنا فلان! فقال: إياك أردت؛ فحينئذ امتنع منه وولى الابن منهزماً.
ووصل أتابك سعد إلى البلاد فدخلها مالكاً لها وأخذ ابنه أسيراً، فسجنه إلى الآن، إلا أنني سمعت الآن، وهو سنة عشرين وستمائة، أنه قد خفف حبسه ووسع عليه.
ولما عاد خوارزم شاه إلى خراسان غدر سعد بالأمير الذي عنده فقتله، ورجع عن طاعة خوارزم شاه، واشتغل خوارزم شاه بالحادثة العظمى التي شغلته عن هذا وغيره، ولكن الله انتقم له بابنه غياث الدين، كما ذكرناه سنة عشرين وستمائة، لأن سعداً كفر إحسان خوارزم شاه وكفر الإحسان عظيم العقوبة.
مدينة دمياط وعودها إلى المسلمينكان من أول هذه الحادثة إلى آخرها أربع سنين غير شهر، وإنما ذكرناها هاهنا لأن ظهورهم كن فيها، وسقناها سياقة متتابعة ليتلو بعضها بعضاً، فنقول: في هذه السنة وصلت أمداد الفرنج في البحر من رومية الكبرى وغيرها من بلاد الفرنج في الغرب والشمال، إلا أن المتولي لها كان صاحب رومية، لأنه يتنزل عند الفرنج بمنزلة عظيمة، لا يرون مخالفة أمره ولا العدول عن حكمه فيما سرهم وساءهم، فجهز العساكر من عنده مع جماعة من مقدمي الفرنج، وأمر غيره من ملوك الفرنج إما أن يسير بنفسه، أو يرسل جيشاً، ففعلوا ما أمرهم، فاجتمعوا بعكا من ساحل الشام.
وكان الملك العادل أبو بكر بن أيوب بمصر، فسار منها إلى الشام، فوصل إلى الرملة، ومنها إلى لد، وبرز الفرنج من عكا ليقصدوه، فسار العادل نحوهم، فوصل إلى نابلس عازماً على أن يسبقهم إلى أطراف البلاد مما يلي عكا ليحميها منهم، فساروا هم فسبقوه، فنزل على بيسان من الأردن، فتقدم الفرنج إليه في شعبان عازمين على محاربته لعلمهم أنه في قلة من العسكر، لأن العساكر كانت متفرقة في البلاد.
فلما رأى العادل قربهم منه لم ير أن يلقاهم في الطائفة التي معه، خوفاً من هزيمة تكون عليه، وكان حازماً، كثير الحذر، ففارق بيسان نحو دمشق ليقيم بالقرب منها، ويرسل إلى البلاد ويجمع العساكر، فوصل إلى مرج الصفر فنزل فيه.
وكان أهل بيسان، وتلك الأعمال، لما رأوا الملك العادل عندهم اطمأنوا، فلم يفارقوا بلادهم ظناً منهم أن الفرنج لا يقدمون عليه، فلما أقدموا سار على غفلة من الناس، فلم يقدر على النجاة إلا القليل، فأخذ الفرنج كل ما في بيسان من ذخائر قد جمعت، وكانت كثيرة، وغنموا شيئاً كثيراً، ونهبوا البلاد من بيسان إلى بانياس، بثوا السرايا في القرى فوصلت إلى خسفين، ونوى وأطراف البلاد، ونازلوا بانياس، وأقاموا عليها ثلاثة أيام، ثم عادوا عنها إلى مرج عكا ومعهم من الغنائم والسبي والأسرى ما لا يحصى كثرة، سوى ما قتلوا، وأحرقوا، وأهلكوا، فأقاموا أياماً استراحوا خلالها.
ثم جاؤوا إلى صور، وقصدوا بلد الشقيف، ونزلوا بينهم وبين بانياس مقدار فرسخين، فنهبوا البلاد: صيدا والشقيف، وعادوا إلى عكا؛ وكان هذا من نصف رمضان إلى العيد، والذي سلم من تلك البلاد كان مخفاً حتى قدر على النجاة.
ولقد بلغني أن العادل لما سار إلى مرج الصفر رأى في طريقه رجلاً يحمل شيئاً، وهو يمشي تارة، وتارة يقعد ليستريح، فعدل العادل إليه وحده، فقال له: يا شيخ لا تعجل، وارفق بنفسك! فعرفه الرجل، فقال: يا سلطان المسلمين! أنت لا تعجل، فإنا إذا رأيناك قد سرت إلى بلادك وتركتنا مع الأعداء كيف لا نعجل! وبالجملة الذي فعله العادل هو الحزم والمصلحة لئلا يخاطر باللقاء على حال تفرق من العساكر؛ ولما نزل العادل على مرج الصفر سير ولده الملك المعظم عيسى، وهو صاحب دمشق في قطعة صالحة من الجيش إلى نابلس ليمنع الفرنج عن البيت المقدس.
ذكر حصر الفرنج قلعة الطور وتخريبهالما نزل الفرنج بمرج عكا تجهزوا، وأخذوا معهم آلة الحصار من مجانيق وغيرها، وقصدوا قلعة الطور، وهي قلعة منيعة على رأس جبل بالقرب من عكا العادل قد بناها عن قريب، فتقدموا إليها وحصروها وزحفوا إليها، وصعدوا في جبلها حتى وصلوا إلى سورها وكادوا يملكونه.
فاتفق أن بعض المسلمين ممن فيها قتل بعض ملوكهم، فعادوا عن القلعة فتركوها، وقصدوا عكا، وكانت مدة مقامهم على الطور سبعة عشر يوماً.
ولما فارقوا الطور أقاموا قريباً، ثم ساروا في البحر إلى ديار مصر، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فتوجه الملك المعظم إلى قلعة الطور فخربها إلى أن ألحقها بالأرض لأنها بالقرب من عكا ويتعذر حفظها.
ذكر حصر الفرنج دمياط إلى أن ملكوهالما عاد الفرنج من حصار الطور أقاموا بعكا إلى أن دخلت سنة خمس عشرة وستمائة، فساروا في البحر إلى دمياط، فوصلوا في صفر، فأرسلوا على بر الجيزة، بينهم وبين دمياط النيل، فإن بعض النيل يصب في البحر المالح عند دمياط، وقد بني في النيل برج كبير منيع، وجعلوا فيه سلاسل من حديد غلاظ، ومدوها في النيل إلى سور دمياط لتمنع المراكب الواصلة في البحر المالح أن تصعد في النيل إلى ديار مصر، ولولا هذا البرج وهذه السلاسل لكانت مراكب العدو لا يقدر أحد على منعها عن أقاصي ديار مصر وأدانيها.
فلما نزل الفرنج على بر الجيزة، وبينهم وبين دمياط النيل، بنوا عليه سوراً، وجعلوا خندقاً يمنعهم من يريدهم، وشرعوا في قتال من بدمياط، وعملوا آلات، ومرمات، وأبراجاً متحركة يزحفون بها في المراكب إلى هذا البرج ليقاتلوه ويملكوه.
وكان البرج مشحوناً بالرجال، وقد نزل الملك الكامل ابن الملك العادل، وهو صاحب ديار مصر، بمنزلة تعرف بالعادلية، بالقرب من دمياط، والعساكر متصلة من عنده إلى دمياط، ليمنع العدو من العبور إلى أرضهم.
وأدام الفرنج قتال البرج وتابعوه، فلم يظفروا منه بشيء، وكسرت مرماتهم وآلاتهم، ومع هذا فهم ملازمون لقتاله، فبقوا كذلك أربعة أشهر ولم يقدروا على أخذه؛ فلما ملكوه قطعوا السلاسل لتدخل مراكبهم من البحر المالح في النيل ويتحكموا في البر، فنصب الملك الكامل عوض السلاسل جسراً عظيماً امتنعوا به من سلوك النيل، ثم أنهم قاتلوا عليه أيضاً قتالاً شديداً، كثيراً، متتابعاً حتى قطعوه، فلا قطع أخذ الملك الكامل عدة مراكب كبار وملأها وخرقها وغرقها في النيل، فمنعت المراكب من سلوكه.
فلما رأى الفرنج ذلك قصدوا خليجاً هناك يعرف بالأزرق، كان النيل يجري فيه قديماً، فحفروا ذلك الخليج وعمقوه فوق المراكب التي جعلت في النيل، وأجروا الماء فيه إلى البحر المالح، وأصعدوا مراكبهم فيه إلى موضع يقال له بورة، على أرض الجيزة أيضاً، مقابل المنزلة التي فيها الملك الكامل ليقاتلوه من هناك، فإنهم لم يكن لهم إليه طريق يقاتلونه فيها؛ كانت دمياط تحجز بينهم وبينه، فلما صاروا في بورة حاذوه فقاتلوه في الماء، وزحفوا غير مرة، فلم يظفروا بطائل.
ولم يتغير على أهل دمياط شيء لأن الميرة والأمداد متصلة بهم، والنيل يحجز بينهم وبين الفرنج، فهم ممتنعون لا يصل إليهم أذى، وأبوابها مفتحة، وليس عليها من الحصر ضيق ولا ضرر.
فاتفق، كما يريد الله عز وجل، أن الملك العادل توفي في جمادى الآخرة من سنة خمس عشرة وستمائة، على ما نذكره إن شاء الله، فضعفت نفوس الناس لأنه السلطان حقيقة، وأولاده، وإن كانوا ملوكاً إلا أنهم يحكمه، والأمر إليه، وهو ملكهم البلاد، فاتفق موته والحال هكذا من مقاتلة العدو.
وكان من جملة الأمراء بمصر أمير يقال له عماد الدين أحمد بن علي، ويعرف بابن المشطوب، وهو من الأكراد الهكارية، وهو أكبر أمير بمصر، وله لفيف كثير، وجميع الأمراء، وأرادوا أن يخلعوا الملك الكامل من الملك ويملكوا أخاه الملك الفائز بن العادل ليصير الحكم إليهم عليه وعلى البلاد، فبلغ الخبر إلى الكامل، ففارق المنزلة ليلاً جريدة، وسار إلى قرية يقال لها أشموم طناح، فنزل عندها، وأصبح العسكر وقد فقدوا سلطانهم، فركب كل إنسان منهم هواه، ولم يقف الأخ على أخيه، ولم يقدروا على أخذ شيء من خيامهم وذخائرهم وأموالهم وأسلحتهم إلا اليسير الذي يخف حمله، وتركوا الباقي بحاله من ميرة، وسلاح، ودواب، وخيام وغير ذلك، ولحقوا بالكامل.
وأما الفرنج فإنهم أصبحوا من الغد، فلم يروا من المسلمين أحداً على شاطئ النيل كجاري عادتهم، فبقوا لا يدرون ما الخبر، وإذ قد أتاهم من أخبرهم الخبر على حقيقة، فعبروا حينئذ النيل إلى بر دمياط آمنين بغير منازع ولا ممانع، وكان عبورهم في العشرين من ذي القعدة سنة خمس عشرة وستمائة، فغنموا ما في معسكر المسلمين، فكان عظيماً يعجز العادين.
وكان الملك الكامل يفارق الديار المصرية لأنه لم يثق بأحد من عسكره، وكان الفرنج ملكوا الجميع بغير تعب ولا مشقة، فاتفق من لطف الله تعالى بالمسلمين أن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل وصل إلى أخيه الكامل بعد هذه الحركة بيومين، والناس في أمر مريج، فقوي به قلبه، واشتد ظهره، وثبت جنانه، وأقام بمنزلته، وأخرجوا ابن المشطوب إلى الشام، فاتصل بالملك الأشرف وصار من جنده.
فلما عبر الفرنج إلى أرض دمياط اجتمعت العرب على اختلاف قبائلها، ونهبوا البلاد المجاورة لدمياط، وقطعوا الطريق، وأفسدوا، وبالغوا في الإفساد، فكانوا أشد على المسلمين من الفرنج، وكان أضر شيء على أهل دمياط أنها لم يكن بها من العسكر أحد لأن السلطان ومن معه من العساكر كانوا عندها يمنعون العدو عنها، فأتتهم هذه الحركة بغتة، فلم يدخلها أحد من العسكر، وكان ذلك من فعل ابن المشطوب، لا جرم لم يمهله الله، وأخذه أخذة رابية، على ما نذكره إن شاء الله.
وأحاط الفرنج بدمياط، وقاتلوها براً وبحراً، وعملوا عليهم خندقاً يمنعهم من يريدهم من المسلمين، وهذه كانت عادتهم، وأداموا القتال، واشتد الأمر على أهلها، وتعذرت عليهم الأقوات وغيرها، وسئموا القتال وملازمته، لأن الفرنج كانوا يتناوبون القتال عليهم لكثرتهم، وليس بدمياط من الكثرة ما يجعلون القتال بينهم مناوبة، ومع هذا فقد صبروا صبراً لم يسمع بمثله، وكثر القتل فيهم والجراح والموت والأمراض، ودام الحصار عليهم إلى السابع والعشرين من شعبان سنة ست عشرة وستمائة، فعجز من بقي من أهلها عن الحفظ لقلتهم، وتعذر القوت عندهم، فسلموا البلد إلى الفرنج، في هذا التاريخ، بالأمان، فخرج منهم قوم وأقام آخرون لعجزهم عن الحركة، فتفرقوا أيدي سبا.
ذكر ملك المسلمين دمياط من الفرنجلما ملك الفرنج دمياط أقاموا بها، وبثوا سراياهم في كل ما جاورهم من البلاد، ينهبون ويقتلون، فجلا أهلها عنها، وشرعوا في عمارتها وتحصينها، وبالغوا في ذلك حتى إنها بقيت لا ترام.
وأما الملك الكامل فإنه أقام بالقرب منهم في أطراف بلاده يحميها منهم.
ولما سمع الفرنج في بلادهم بفتح دمياط على أصحابهم أقبلوا إليهم يهرعون من كل فج عميق، وأصبحت دار هجرتهم، وعاد الملك المعظم صاحب دمشق إلى الشام فخرب البيت المقدس، وإنما فعل ذلك لأن الناس كافة خافوا الفرنج، وأشرف الإسلام وجميع أهله وبلاده على خطة خسف في شرق الأرض وغربها: أقبل التتر من المشرق حتى وصلوا إلى نواحي العراق وأذربيجان وأران وغيرها، على ما نذكره إن شاء الله تعالى؛ وأقبل الفرنج من المغرب فملكوا مثل دمياط في الديار المصرية، مع عدم الحصون المانعة بها من الأعداء، وأشرف سائر البلاد بمصر والشام على أن تملك، وخافهم الناس كافة، وصاروا يتوقعون البلاء صباحاً ومساء.
وأراد أهل مصر الجلاء عن بلادهم خوفاً من العدو، (ولات حين مناص)، والعدو قد أحاط بهم من كل جانب، ولو مكنهم الكامل من ذلك لتركوا البلاد خاوية على عروشها، وإنا منعوا منه فثبتوا.
وتابع الملك الكامل كتبه إلى أخويه المعظم صاحب دمشق، والملك الأشرف موسى بن العادل، صاحب ديار الجزيرة وأرمينية وغيرهما، يستنجدهما، ويحثهما على الحضور بأنفسهما، فإن لم يكن فيرسلان العساكر إليه، فسار صاحب دمشق إلى الأشرف بنفسه بحران فرآه مشغولاً عن إنجادهم بما دهمه من اختلاف الكلمة عليه، وزوال الطاعة عن كثير ممن كان يطيعه؛ ونحن نذكر ذلك سنة خمس عشرة وستمائة إن شاء الله عند وفاة الملك القاهر، صاحب الموصل، فليطلب من هناك، فعذره، وعاد عنه، وبقي الأمر كذلك مع الفرنج.
فأما الملك الأشرف فزال الخلف من بلاده، ورجع الملوك الخارجون عن طاعته إليه، واستقامت له الأمور إلى سنة ثماني عشرة وستمائة؛ والملك الكامل مقابل الفرنج.
فلما دخلت سنة ثماني عشرة وستمائة علم بزوال مانع الملك الأشرف عن إنجاده، فأرسل يستنجده وأخاه، صاحب دمشق، فسار صاحب دمشق المعظم إلى الأشرف يحثه على المسير، ففعل، وسار إلى دمشق فيمن معه من العساكر، وأمر الباقين باللحاق به إلى دمشق وأقام بها ينتظرهم، فأشار عليه بعض أمرائه وخواصه بإنفاذ العساكر والعود إلى بلاده خوفاً من اختلاف يحدث بعده، فلم يقبل قولهم، وقال: قد خرجت للجهاد، ولا بد من إتمام ذلك العزم؛ فسار إلى مصر.
وكان الفرنج قد ساروا عن دمياط في الفارس والراجل، وقصدوا الملك الكامل، ونزلوا مقابله، بينهما خليج من النيل يسمى بحر أشموم، وهم يرمون بالمنجنيق والجرخ إلى عسكر المسلمين، وقد تيقنوا هم وكل الناس أنهم يملكون الديار المصرية.
وأما الأشراف فإنه سار حتى وصل مصر، فلما سمع أخوه الكامل بقربه منهم توجه إليه، فلقيه، واسبتشر هو وسائر المسلمين باجتماعهما، لعل الله يحدث بذلك نصراً وظفراً.
وأما الأشرف فإنه سار حتى وصل مصر، فلما سمع أخوه الكامل بقربه منهم توجه إليه، فلقيه، واسبتشر هو وسائر المسلمين باجتماعهما، لعل الله يحدث بذلك نصراً وظفراً.
وأما الملك المعظم، صاحب دمشق، فإنه سار أيضاً إلى ديار مصر، وقصد دمياط ظناً منه أن أخويه وعسكريهما قد نازلوها، وقيل بل أخبر في الطريق أن الفرنج قد توجهوا إلى دمياط، فسابقهم إليها ليلقاهم من بين أيديهم، وأخواه من خلفهم، والله أعلم.
ولما اجتمع الأشراف بالكامل استقر الأمر بينهما على التقدم إلى خليج من النيل يعرف ببحر المحلة فتقدموا إليه، فقاتلوا الفرنج، وازدادوا قرباً، وتقدمت شواني المسلمين من النيل، وقاتلوا شواني الفرنج، فأخذوا منها ثلاث قطع بمن فيها من الرجال، وما فيها من الأموال والسلاح، ففرح المسلمون بذلك، واسبتشروا، وتفاءلوا، وقويت نفوسهم، واستطالوا على عدوهم.
هذا يجري والرسل مترددة بينهم في تقرير قاعدة الصلح، وبذل المسلمون لهم تسليم البيت المقدس، وعسقلان، وطبرية، وصيدا، وجبلة، واللاذقية، وجميع ما فتحه صلاح الدين من الفرنج بالساحل وقد تقدم ذكره ما عدا الكرك، ليسلموا دمياط، فلم يرضوا وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار عوضاً عن تخريب القدس ليعمروه بها، فلم يتم بينهم أمر وقالوا: لا بد من الكرك.
فبينما الأمر في هذا، وهم يمتنعون، اضطر المسلمون إلى قتالهم، وكان الفرنج لاعتدادهم بنفوسهم لم يستصحبوا معهم ما يقوتهم عدة أيام، ظناً منهم أن العساكر الإسلامية لا تقوم لهم، وأن القرى والسواد جميعه يبقى بأيديهم، ويأخذون منه ما أرادوا من الميرة، لأمر يريده الله تعالى بهم، فعبر طائفة من المسلمين إلى الأرض التي عليها الفرنج، ففجروا النيل، فركب الماء أكثر تلك الأرض، ولم يبق للفرنج جهة يسلكون منها غير جهة واحدة فيها ضيق، فنصب الكامل حينئذ الجسور على النيل، عند أشموم، وعبرت العساكر عليها، فملك الطريق الذي يسلكه الفرنج إن أرادوا العود إلى دمياط، فلم يبق لهم خلاص.
واتفق في تلك الحال أنه وصل إليهم مركب كبير للفرنج من أعظم المراكب يسمى مرمة، وحوله عدة حراقات تحميه، والجميع مملوء من الميرة والسلاح، وما يحتاجون إليه، فوقع عليها شواني المسلمين، وقاتلوهم، فظفروا بالمرمة وبما معها من الحراقات وأخذوها، فلما رأى الفرنج ذلك سقط في أيديهم، ورأوا أنهم قد ضلوا الصواب بمفارقة دمياط في أرض يجهلونها.
هذا وعساكر المسلمين محيطة بهم يرمونهم بالنشاب، ويحملون على أطرافهم، فلما اشتد الأمر على الفرنج أحرقوا خيامهم، ومجانيقهم، وأثقالهم، وأرادوا الزحف إلى المسلمين ومقاتلتهم، لعلم يقدرون على العود إلى دمياط، فرأوا ما أملوه بعيداً، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، لكثرة الوحل والمياه حولهم، والوجه الذي يقدرون على سلوكه قد ملكه المسلمون.
فلما تيقنوا أنهم قد أحيط بهم من سائر جهاتهم، وأن ميرتهم قد تعذر عليهم وصولها، وأن المنايا قد كشرت لهم عن أنيابها، ذلت نفوسهم، وتكسرت صلبانهم، وضل عنهم شيطانهم، فراسلوا الملك الكامل والأشرف يطلبون الأمان ليسلموا دمياط بغير عوض، فبينما المراسلات مترددة إذ أقبل جمع كبير، لهم رهج شديد، وجلبة عظيمة، من جهة دمياط، فظنه المسلمون نجدة أتت للفرنج، فاستشعروا، وإذا هو الملك المعظم، صاحب دمشق، قد وصل إليهم، وكان قد جعل طريقه على دمياط، لما ذكرناه، فاشتدت ظهور المسلمين، وازداد الفرنج خذلاناً وكان قد جعل طرقه على دمياط، لما ذكرناه، فاشتدت ظهور المسلمين، وازداد الفرنج خذلاناً ووهناً، وتمموا الصلح على تسليم دمياط، واستقرت القاعدة والأيمان سابع رجب من سنة ثماني عشرة وستمائة، وانتقل ملوك الفرنج، وكنودهم وقمامصتهم إلى الملك الكامل والأشرف رهائن على تسليم دمياط ملك عكا، ونائب بابا صاحب رومية، وكند ريش، وغيرهم، وعدتهم عشون ملكاً، وراسلوا قسوسهم ورهبانهم إلى دمياط في التسليم، فلم يمتنع من هبا، وسلموها إلى المسلمين تاسع رجب المذكور، وكان يوماً مشهوداً.
ومن العجب أن المسلمين لما تسلموها وصلت للفرنج نجدة في البحر، فلو سبقوا المسلمين إليها لامتنعوا من تسليمها، ولكن سبقهم المسلمون ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، ولم يبق بها من أهلها إلا آحاد، وتفرقوا أيدي سبا، وبعضهم سار عنها باختياره، وبعضهم مات، وبعضهم أخذه الفرنج.
ولما دخلها المسلمون رأوها وقد حصنها الفرنج تحصيناً عظيماً بحيث بقيت لا ترام، ولا يوصل إليها، وأعاد الله، سبحانه وتعالى، الحق إلى نصابه، ورده إلى أربابه، وأعطى المسلمين ظفراً مل يكن في حسابهم، فإنهم كانت غاية أمانيهم أن يسلموا البلاد التي أخذت منهم بالشام ليعيدوا دمياط، فرزقهم الله إعادة دمياط، وبقيت البلاد بأيديهم على حالها، فالله المحمود المشكور على ما أنعم به على الإسلام والمسلمين من كف عادية هذا العدو، وكفاهم شر التتر، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة في المحرم، كانت ببغداد فتنة بين أهل المأمونية وبني أهل باب الأزج بسبب قتل سبع؛ وزاد الشر بينهم، واقتتلوا، فجرح بينهم كثير، فحضر نائب الباب وكفهم عن ذلك، فلم يقبلوا ذلك، وأسمعوه ما يكره، فأرسل من الديوان أمير من مماليك الخليفة، فرد أهل كل محلة إلى محلتهم، وسكنت الفتنة.
وفيها كثر الفأر ببلدة دجيل من أعمال بغداد، فكان الإنسان لا يقدر أن يجلس إلا ومعه عصاً يردج الفأر عنه، وكان يرى الكثير منه ظاهراً يتبع بعضه بعضاً.
وفيها زادت دجلة زيادة عظيمة لم يشاهد في قديم الزمان مثلها، وأشرفت بغداد على الغرق، فركب الوزير والأمراء والأعيان كافة، وجمعوا الخلق العظيم من العامة وغيرهم لعمل القورج حول البلد، وقلق الناس لذلك، وانزعجوا، وعاينوا الهلاك، وأعدوا السفن لينجوا فيها، وظهر الخليفة للناس وحثهم على العمل؛ وكان مما قال لهم: لو كان يفدى ما أرى بمال أو غيره لفعلت، ولو دفع بحرب لفعلت، ولكن أمر الله لا يرد.
ونبع الماء من البلاليع والآبار من الجانب الشرقي، وغرق كثير منه، وغرق مشهد أبي حنيفة، وبعض الرصافة، وجامع المهدي، وقرية الملكية، والكشك، وانقطعت الصلاة بجامع السلطان. وأما الجانب الغربي، فتهدم أكثر القرية، ونهر عيسى، والشطيات، وخربت البساتين، ومشهد باب التبن، ومقبرة أحمد ابن حنبل، والحريم الطاهري، وبعض باب البصرة والدور التي على نهر عيسى، وأكثر محلة قطفتا.
وفيها توفي أحمد بن أبي الفضائل عبد المنعم بن أبي البركات محمد بن طاهر ابن سعيد بن فضل الله بن سعيد بن أبي الخير الميهني، الصوفي، أبو الفضل شيخ رباط الخليفة ببغداد، وكان صالحاً من بيت التصوف والصلاح.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وستمائة
ذكر وفاة الملك القاهر وولاية ابنه
نور الدين وما كان من الفتن بسبب موته إلى أن استقرت الأمورفي هذه السنة توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود بن زنكي بن آقسنقر، صاحب الموصل، ليلة الاثنين لثلاث بقين من شهر ربيع الأول، وكانت ولايته سبع سنين وتسعة أشهر.
وكان سبب موته أنه أخذته حمى، ثم فارقته الغد، وبقي يومين موعوكاً، ثم عاودته الحمى مع فيء كثير، وكرب شديد، وقلق متتابع، ثم برد بدنه، وعرق، وبقي كذلك إلى وسط الليل، ثم توفي.
وكان كريماً حليماً، قليل الطمع في أموال الرعية، كافاً عن أذى يوصله إليهم، مقبلاً على لذاته كأنما ينهبها ويبادر بها الموت؛ وكن عنده رقة شديدة، ويكثر ذكر الموت.
حكى لي بعض من كان يلازمه قال: كنا ليلة، قبل وفاته بنصف شهر، عنده، فقال لي: قد وجدت ضجراً من القعود، فقم بنا نتمشى إلى الباب العمادي؛ قال: فقمنا، فخرج من داره نحو الباب العمادي، فوصل التربة التي عملها لنفسه عند داره، فوقف عندها مفكراً لا يتكلم، ثم قال لي: والله ما نحن في شيء! أليس مصيرنا إلى هاهنا، وندفن تحت الأرض؟ وأطال الحديث في هذا ونحوه، ثم عاد إلى الدار، فقلت له: ألا نمشي إلى الباب العمادي؟ فقال: ما بقي عندي نشاط إلى هذا ولا إلى غيره، ودخل داره وتوفي بعد أيام.
وأصيب أهل بلاده بموته، وعظم عليهم فقده، وكان محبوباً إليهم، قريباً من قلوبهم، ففي كل دار لأجله رنة وعويل؛ ولما حضرته الوفاة أوصى بالملك لولده الأكبر نور الدين أرسلان شاه، وعمره حينئذ نحو عشر سنين، وجعل الوصي عليه والمدبر لدولته بدر الدين لؤلؤ، وهو الذي كان يتولى دولة القاهر ودولة أبيه نور الدين قبله، وقد تقدم من أخباره ما يعرف به محله، وسيرد منها أيضاً ما يزيد الناظر بصيرة فيه.
فلما قضى نحبه قام بدر الدين بأمر نور الدين، وأجلسه في مملكة أبيه، وأرسل إلى الخليفة يطلب له التقليد والتشريف، وأرسل إلى الملوك، وأصحاب الأطراف المجاورين لهم، يطلب منهم تجديد العهد لنور الدين على القاعدة التي كانت بينهم وبين أبيه، فلم يصبح إلا وقد فرغ من كل ما يحتاج إليه، وجلس للعزاء، وحلف الجند والرعايا، وضبط المملكة من التزلزل والتغير مع صغر السلطان وكثرة الطامعين في الملك، فإنه كان معه في البلد أعمام أبيه، وكان عمه عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بولايته، وهي قلعة عقر الحميدية، يحدث نفسه بالملك، لا يشك في أن الملك يصير إليه بعد أخيه، فرقع بدر الدين ذلك الخرق، ورتق ذلك الفتق، وتابع الإحسان والخلع على الناس كافة، وغير ثياب الحداد عنهم، فلم يخص بذلك شريفاً دون مشروف، ولا كبيراً دون صغير، وأحسن السيرة، وجلس لكف ظلامات الناس، وإنضاف بعضهم من بعض.
وبعد أيام وصل التقليد من الخليفة لنور الدين بالولاية، ولبدر الدين بالنظر في أمر دولته، والتشريفات لهما أيضاً، وأتتهما رسل الملوك بالتعزية، وبذل ما طلب منهم من العهود، واستقرت القواعد لهما.
ذكر ملك عماد الدين زنكي قلاع الهكارية والزوزانقد ذكرنا عند وفاة نور الدين سنة سبع وستمائة أنه أعطى ولده الأصغر زنكي قلعتي العقر وشوش، وهما بالقرب من الموصل، فكان تارة يكون بالموصل، وتارة بولايته، متجنياً لكثرة تلونه، وكان بقلعة العمادية مستحفظ من مماليك جده عز الدين مسعود بن مودود، قيل إنه جرى له منع زنكي مراسلات في معنى تسليم العمادية إليه، فنمى الخبر بذلك إلى بدر الدين، فبادره بالعزل مع أمير كبير وجماعة من الجند لم يمكنه الامتناع، وسلم القلعة إلى نائب بدر الدين كذلك، وجعل بدر الدين في غير العمادية من القلاع نواباً له.
وكان نور الدين بن القاهر لا يزال مريضاً من جروح كانت به، وغيرها من الأمراض، وكان يبقى المدة الطويلة لا يركب، ولا يظهر للناس، فأرسل زنكي إلى من بالعمادية من الجند يقول: إن ابن أخي توفي، ويريد بدر الدين أن يملك البلاد، وأنا أحق بملك آبائي وأجدادي؛ فلم يزل حتى استدعاه الجند منها، وسلموا إليه، ثامن عشر رمضان سنة خمس عشرة وستمائة، وقبضوا على النائب البدري وعلى من معه.
فوصل الخبر إلى بدر الدين ليلاً فجد في الأمر، ونادى في العسكر لوقته بالرحيل، فساروا مجدين إلى العمادية وبها زنكي ليحصروه فيها، فلم يطلع الصبح إلا وقد فرغ من تسيير العساكر، فساروا إلى العمادية وحصروها، وكان الزمان شتاء، والبرد شديد، والثلج هناك كثير، فلم يتمكنوا من قتال من بها، لكنهم أقاموا يحصرونها، وقام مظفر الدين كوكبري بن زين الدين، صاحب إربل، في نصر عماد الدين، وتجرد لمساعدته، فراسله بدر الدين يذكره الأيمان والعهود التي من جملتها أنه لا يتعرض إلى شيء من أعمال الموصل، ومنها قلاع الهكارية والزوزان بأسمائها، ومتى تعرض إليها أحد من الناس، من كان، منعه بنفسه وعساكره، وأعان نور الدين وبدر الدين على منعه، ويطالبه بالوفاء بها.
ثم نزل عن هذا، ورضي منه بالسكوت لا لهم ولا عليهم، فلم يفعل، وأظهر معاضدة عماد الدين زنكي، فحينئذ لم يمكن مكاثرة زنكي بالرجال والعساكر لقرب هذا الخصم من الموصل وأعمالها، إلا أن العسكر البدري محاصر للعمادية وبها زنكي.
ثم إن بعض الأمراء من عسكر الموصل، ممن لا علم له بالحرب، وكان شجاعاً وهو جديد الإمارة أراد أن يظهر شجاعته ليزداد بها تقدماً، أشار على من هناك من العسكر بالتقدم إليها ومباشرتا بالقتال، وكانوا قد تأخروا عنها شيئاً يسيراً لشدة البرد والثلج، فلم يوافقوه، وقبحوا رأيه، فتركهم ورحل متقدماً إليهم ليلاً، فاضطروا إلى اتباعه خوفاً عليه من أذى يصيبه ومن معه، فساروا إليه على غير تعبئة لضيق المسلك، ولأنه أعجلهم عن ذلك، وحكم الثلج عليهم أيضاً.
فسمع زنكي ومن مه، فنزلوا، ولقوا أوائل الناس، وأهل مكة أخبر بشعابها، فلم يثبتوا لهم، وانهزموا وعادوا إلى منزلتهم، ولم يقف العسكر عليهم، فاضطروا إلى العود، فلما عادوا راسل زنكي باقي قلاع الهكارية والزوزان، واستدعاهم إلى طاعته، فأجابوه، وسلموا إليه، فجعل فيها الولاة، وتسلمها وحكم فيها.
ذكر اتفاق بدر الدين مع الملك الأشرفلما رأى بدر الدين خروج القلاع عن يده، واتفاق مظفر الدين وعماد الدين عليه، ولم ينفع معهما اللين ولا الشدة، وإنهما لا يزالان يسعيان في أخذ بلاده، ويتعرضان إلى أطرافها بالنهب والأذى، أرسل إلى الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل، وهو صاحب ديار الجزيرة كلها، إلا القليل، وصاحب خلاط وبلادها، يطلب منه الموافقة والمعاضدة، وانتمى إليه، وصار في طاعته منخرطاً في سلك موافقته، فأجابه الأشرف بالقبول لذلك والفرح به والاستبشار، وبذل له المساعدة والمعاضدة، والمحاربة دونه، واستعادة ما أخذ من القلاع التي كانت له.
وكان الملك الأشرف حينئذ بحلب، نازلاً بظاهرها، لما ذكرناه من تعرض كيكاوس، ملك بلاد الروم التي بيد المسلمين، قونية وغيرها، إلى أعمالها، وملكه بعض قلاعها، فأرسل إلى مظفر الدين يقبح هذه الحالة، ويقول له: إن هذه القاعدة تقررت بين جميعنا بحضور رسلك، وإننا نكون على الناكث إلى أن يرجع الحق، ولا بد من إعادة ما أخذ من بلد الموصل لندوم على اليمين التي استقرت بيننا، فإن امتنعت، وأصررت على معاضدة زنكي ونصرته، فأنا أجيء بنفسي وعساكري، وأقصد بلادك وغيرها، وأسترد ما أخذتموه وأعيده إلى أصحابه، والمصلحة أنك توافق، وتعود إلى الحق، لنجعل شغلنا جمع العساكر، وقصد الديار المصرية، وإجلاء الفرنج عنها قبل أن يعظم خطبهم ويستطير شرهم.
فلم تحصل الإجابة منه إلى شيء من ذلك؛ وكان ناصر الدين محمود، صاحب الحصن وآمد، قد امتنع عن موافقة الأشرف ذلك جهز عسكراً وسيره إلى نصيبين نجدة لبدر الدين إن احتاج إليهم.
ذكر انهزام عماد الدين من العسكر البدريلما عاد العسكر البدري من حصار العمادية وبها زنكي، كما ذكرناه، قويت نفسه، وفارقها، وعاد إلى قلعة العقر التي له ليتسلط على أعمال الموصل بالصحراء، فإن بلد الجبل كان قد فرغ منه، وأمده مظفر الدين بطائفة كثيرة من العسكر.
فلما اتصل الخبر ببدر الدين سير طائفة من عسكره إلى أطراف بلد الموصل يحمونها، فأقاموا على أربعة فراسخ من الموصل، ثم إنهم اتفقوا بينهم على المسير إلى زنكي، وهو عند العقر في عسكره، ومحاربته، ففعلوا ذلك، ولم يأخذوا أمر بدر الدين بل أعلموه بمسيرهم جريدة ليس معهم إلا سلاحهم، ودواب يقاتلون عليها، فساروا ليلتهم، وصبحوا زنكي بكرة الأحد لأربع بقين من المحرم من سنة ست عشرة وستمائة، فالتقوا واقتتلوا تحت العقر، وعظم الخطب بينهم، فأنزل الله نصره على العسكر البدري، فانهزم عماد الدين وعسكره، وسار إلى إربل منهزماً، وعاد العسكر البدري إلى منزلته التي كان بها، وحضرت الرسل من الخليفة الناصر لدين الله ومن الملك الأشرف في تجديد الصلح، فاصطلحوا، وتحالفوا بحضور الرسل.
ذكر وفاة نور الدين صاحب الموصل
وملك أخيهولما تقرر الصلح توفي نور الدين أرسلان شاه ابن مالك القاهرة، صاحب الموصل، وكان لا يزال مريضاً بعدة أمراض، فرتب بدر الدين في الملك بعده أخاه ناصر الدين محموداً وله من العمر نحو ثلاث سنين، ولم يكن للقاهر ولد غيره، وحلف له الجند، وركبه، فطابت نفوس الناس، لأن نور الدين كان لا يقدر على الركوب لمرضه، فلما ركبوا هذا علموا أن لهم سلطاناً من البيت الأتابكي، فاستقروا واطمأنوا، وسكن كثير من الشغب بسببه.
ذكر انهزام بدر الدين من مظفر الدينلما توفي نور الدين، وملك أخوه ناصر الدين، تجدد لمظفر الدين ولعماد الدين طمع لصغر سن ناصر الدين، فجمعا الرجال، وتجهز للحركة، فظهر ذلك، وقصد بعض أصحابهم طرف ولاية الموصل بالنهب والفساد.
وكان بدر الدين قد سير ولده الأكبر في جمع صالح من العسكر إلى الملك الأشرف بحلب، نجدة له بسبب اجتماع الفرنج بمصر، وهو يريد أن يدخل بلاد الفرنج التي بساحل الشام ينهبها، ويخربها، ليعود بعض من بدمياط إلى بلادهم، فيخف الأمر على الملك الكامل، صاحب مصر؛ فلما رأى بدر الدين تحرك مظفر الدين وعماد الدين، وأن بعض عسكره بالشام، أرسل إلى عسكر الملك الأشرف الذي بنصيبين يستدعيهم ليعتضد بهم، وكان المقدم عليهم مملوك الأشرف، اسمه أيبك، فساروا إلى الموصل رابع رجب سنة ست عشرة.
فلما رآهم بدر الدين استقلهم لأنهم كانوا أقل من العسكر الذي له بالشام، أو مثلهم، فألح أيبك على عبور دجلة وقصد بلاد إربل، فمنعه بدر الدين من ذلك، وأمره بالاستراحة، فنزل بظاهر الموصل أياماً، وأصر على عبور دجلة، فعبرها بدر الدين موافقة له، ونزلوا على فرسخ من الموصل، شرقي دجلة، فلما سمع مظفر الدين ذلك جمع عسكره وسار إليهم ومعه زنكي، فعبر الزاب وسبق خبره، فسمع به بدر الدين فعبأ أصحابه، وجعل أيبك في الجالشية، ومعه شجعان أصحابه، وأكثر معه منهم، بحيث إنه لم يبق معه إلا اليسير، وجعل في ميسرته أميراً كبيراً، وطلب الانتقال عنها إلى الميمنة، فنقله.
فلما كان وقت العشاء الآخرة أعاد ذلك الأمير الطلب بالانتقال من الميمنة إلى الميسرة، والخصم بالقرب منهم، فمنعه بدر الدين، وقال: متى انتقلت أنت ومن معك في هذا الليل، ربما ظنه الناس هزيمة فلا يقف أحد؛ فأقام بمكانه، وهو في جمع كبير من العسكر، فلما انتصف الليل سار أيبك، فأمره بدر الدين بالمقام إلى الصبح لقرب العدو منهم، فلم يقبل لجهله بالحرب، فاضطر الناس لاتباعه، فتقطعوا في الليل والظلمة، والتقوا هم والخصم في العشرين من رجب على ثلاثة فراسخ من الموصل، فأما عز الدين فإنه تيامن والتحق بالميمنة، وحمل في اطلابه هو والميمنة على ميسرة مظفر الدين، فهزمها وبها زنكي.
وكان الأمير الذي انتقل إلى الميمنة قد أبعد عنها، فلم يقاتل ، فلما رأى أيبك قد هزم الميسرة تبعها والتحق به وانهزمت ميسرة بدر الدين فبقي هو في النفر الذين معه، وتقدم إليه مظفر الدين فيمن معه في القلب لم يتفرقوا، فلم يمكنه الوقوف، فعاد إلى الموصل، وعبر دجلة إلى القلعة، ونزل منها إلى البلد؛ فلما رآه الناس فرحوا به، وساروا معه، وقصد باب الجسر، والعدو بإزائه، بينهما دجلة، فنزل مظفر الدين فيمن سلم معه من عسكره وراء تل حصن نينوى، فأقام ثلاثة أيام.
فلما رأى اجتماع العسكر البدري بالموصل، وأنهم لم يفقد منهم إلا اليسير، وبلغه الخبر أن بدر الدين يريد العبور إليه ليلاً بالفارس والراجل، على الجسور وفي السفن، ويكبسه، رحل ليلاً من غير أن يضرب كوساً أو بوقاً، وعادوا نحو إربل، فلما عبروا الزاب نزلوا، ثم جاءت الرسل وسعوا في الصلح، فاصطلحوا على أن كل من بيده شيء هو له، وتقررت العهود والأيمان على ذلك.
ذكر ملك عماد الدين قلعة كواشى وملك بدر الدين تل يعفر وملك الملك الأشرف سنجار
كواشى هذه من أحصن قلا الموصل وأعلاها وأمنعها، وكان الجند الذين بها، لما رأوا ما فعل أهل العمادية وغيرها من التسليم إلى زنكي، وأنهم قد تحكموا في القلاع، لا يقدر أحد على الحكم عليهم، أحبوا أن يكونا كذلك، فأخرجوا نواب بدر الدين عنهم، وامتنعوا بها، وكانت رهائنهم بالموصل، وهم يظهرون طاعة بدر الدين، ويبطنون المخالفة، فترددت الرسل في عودهم إلى الطاعة، فلم يفعلوا، وراسلوا زنكي في المجيء إليهم، فسار إليهم وتسلم القلعة، وأقام عندهم، فرسول مظفر الدين يذكر بالأيمان القريبة العهد، ويطلب منه إعادة كواشى، فلم تقع الإجابة إلى ذلك، فأرسل حينئذ بدر الدين إلى الملك الأشرف، وهو بحلب، يستنجده، فسار وعبر الفرات إلى حران، واختلفت عليه الأمور من عدة جهات منعته من سرعة السير.
وسبب هذا الاختلاف أن مظفر الدين كان يراسل الملوك أصحاب الأطراف ليستميلهم، ويحسن لهم الخروج على الأشرف، ويخوفهم منه، إن خلا وجهه، فأجابه إلى ذلك عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان، صاحب بلاد الروم، وصاحب آمد، وحصن كيفا، وصاحب ماردين، واتفقوا كلهم على طاعة كيكاوس، وخطبوا له في بلادهم، ونحن نذكر ما كان بينه وبين الأشراف عند منبج لما قصد بلاد حلب، فهو موغر الصدر عليه.
فاتفق أن كيكاوس مات في ذلك الوقت، وكفي الأشرف وبدر الدين شره، ولا جد إلا ما أقعص عنك الرجال، وكان مظفر الدين قد راسل جماعة من الأمراء الذين مع الأشرف، واستمالهم، فأجابوه، منهم: أحمد بن علي بن المشطوب، الذي ذكرنا أنه فعل على دمياط ما فعل، وهو أكبر أمير معه، ووافقه غيره، منهم: عز الدين محمد بن بدر الحميدي وغيرهما، وفارقوا الأشرف، ونزلوا بدنيسر، تحت ماردين، ليجتمعوا مع صاحب آمد، ويمنعوا الأشراف من العبور إلى الموصل لمساعدة بدر الدين.
فلما اجتمعوا هناك عاد صاحب آمد إلى موافقة الأشرف، وفارقهم، واستقر الصلح بينهما، وسلم إليه الأشرف مدينة حاني، وجبل جور، وضمن له أخذ دارا وتسليمها إليه، فلما فارقهم صاحب آمد انحل أمرهم، فاضطر بعض أولئك الأمراء إلى العود إلى طاعة الأشرف، وبقي ابن المشطوب وحده، فسار إلى نصيبين ليسير إلى إربل، فخرج إليه شحنة نصيبين فيمن عنده من الجند، فاقتتلوا، فانهزم ابن المشطوب، وتفرق من معه من الجمع، ومضى منهزماً، فاجتاز بطرف بلد سنجار، فسير إليه صاحبها فروخ شاه بن زنكي ابن مودود بن زنكي عسكراً فهزموه وأخذوه أسيراً وحملوه إلى سنجار، وكان صاحبها موافقاً للأشرف وبدر الدين.
فلما صار عند ابن المشطوب حسن عنده مخالفة الأشرف، فأجابه إلى ذلك وأطلقه، فاجتمع معه من يريد الفساد، فقصدوا البقعا من أعمال الموصل، ونهبوا فيها عدة قرى، وعادوا إلى سنجار، ثم ساروا وهو معهم إلى تل يعفر، وهي لصاحب سنجار، ليقصدوا بلد الموصل وينهبوا في تلك الناحية، فلما سمع بدر الدين بذلك سير إليه عسكراً، فقاتلوهم، فمضى منهزماً، وصعد إلى تل يعفر، واحتمى بها منعم، ونازلوه وحصروه فيها، فسار بدر الدين من الموصل إليه يوم الثلاثاء لتسع بقين من ربيع الأول سنة سبع عشرة وستمائة، وجد في حصره، وزحف إليها مرة بعد أخرى، فملكها سابع عشر ربيع الآخر من هذه السنة، وأخذ ابن المشطوب معه إلى الموصل فسجنه بها، ثم أخذه منه الأشرف فسجنه بحران إلى أن توفي في ربيع الآخر سنة تسع عشرة وستمائة، ولقاه الله عقوبة ما صنع بالمسلمين بدمياط.
وأما الملك الأشرف، فإنه لما أطاعه صاحب الحصن وآمد، وتفرق الأمراء عنه كما ذكرناه، رحل من حران إلى دنيسر، فنزل علها، واستولى على بلد ماردين، وشحن عليه، وأقطعه، ومنع الميرة عن ماردين، وحضر معه صاحب آمد وترددت الرسل بينه وبين صاحب ماردين في الصلح، فاصطلحوا على أن يأخذ الأشرف رأس عين، وكان هو قد أقطعها لصاحب ماردين، ويأخذ منه أيضاً ثلاثين ألف دينار، ويأخذ منه صاحب آمد الموزر، من بلد شبختان.
فلما تم الصلح سار الأشرف من دنيسر إلى نصيبين يريد الموصل، فبينما هو في الطريق لقيه رسل صاحب سنجار يبذل تسليمها إليه، ويطلب العوض عنها مدينة الرقة.
وكان السبب في ذلك أخذ تل يعفر منه، فانخلع قلبه، وانضاف إلى ذلك أن ثقاته ونصحاءه خانوه، وزادوه رعباً وخوفاً، لأنه تهددهم، فتغدوا به قبل أن يتعشى بهم، ولأنه قطع رحمه، وقتل أخاه الذي ملك سنجار بعد أبيه؛ وقتله كما نذكره إن شاء الله، وملكها، فلقاه الله سوء فعله، ولم يمتنعه بها، فلما تيقن رحيل الأشرف تحير في أمره، فأرسل في التسليم إليه، فأجابه الأشرف إلى العوض، وسلم إليه الرقة، وتسلم سنجار مستهل جمادى الأولى سنة سبع عشرة وستمائة، وفارقها صاحبها وإخوته بأهليهم وأموالهم، وكان هذا آخر ملوك البيت الأتابكي بسنجار، فسبحا الحي الدائم الذي ليس لملكه آخر. وكان مدة ملكهم لها أربعاً وتسعين سنة، وهذا دأب الدنيا بأبنائها، فتعساً لها من دار ما أغدرها بأهلها!
ذكر وصول الأشرف إلى الموصل
والصلح مع مظفر الدينلما ملك الملك الأشرف سنجار سار يري الموصل ليجتاز منها، فقدم بين يديه عساكره، فكان يصل كل يوم منهم جمع كثير، ثم وصل هو في آخرهم يوم الثلاثاء تاسع عش جمادى الأولى من السنة المذكورة، وكان يوم وصوله مشهوداً، وأتاه رسل الخليفة ومظفر الدين في الصلح، وبذل تسليم القلاع المأخوذة جميعها إلى بدر الدين، ما عدا قلعة العمادية فإنها تبقى بيد زنكي، وإن المصلحة قبول هذا لتزول الفتن، ويقع الاشتغال بجهاد الفرنج.
وطال الحديث في ذلك نحو شهرين، ثم رحل الأشرف يريد مظفر الدين صاحب إربل، فوصل إلى قرية السلامية، بالقرب من نهر الزاب، وكان مظفر الدين نازلاً عليها من جانب إربل، فأعاد الرسل، وان العسكر قد طال بيكاره، والناس قد ضجروا، وناصر الدين صاحب آمد يميل إلى مظفر الدين، فأشار بالإجابة إلى ما بذل، وأعانه عليه غيره، فوقعت الإجابة إليه، واصطلحوا على ذلك، وجعل لتسليمها أجل، وحمل زنكي إلى الملك الأشرف يكون عنده رهينة إلى حين تسليم القلاع.
وسملت قلعة العقر، وقلعة شوش أيضاً، وهما لزنكي، إلى نواب الأشرف، رهناً على تسليم ما استقر من القلاع، فإذا سلمت أطلب زنكي، وأعيد عليه قلعة العقر، وقلعة شوس، وحفوا على هذا، وسلم الأشرف زنكي القلعتين وعاد إلى سنجار، وكان رحيله عن الموصل ثاني شهر رمضان من سنة سبع عشرة وستمائة، فأرسلوا إلى القلاع لتسلم إلى نواب بدر الدين، فلم يسلم إليه غير قلعة جل صورا، من أعمال الهكارية، وأما باقي القلاع فإن جندها أظهروا الامتناع من ذلك، ومضى الأجل ولم يسلم غير جل صورا.
ولزم عماد الدين زنكي لشهاب الدين غازي ابن الملك العادل، وخدمه، وتقرب إليه، فاستعطف له أخاه الملك الأشرف، فمال إليه وأطلقه، وأزال نوابه من قلعة العقر وقلعة شوش، وسلمهما إليه.
وبلغ بدر الدين عن الملك الأشرف ميل إلى قلعة تل يعفر، وإنها كانت لسنجار من قديم الزمان وحديثه وطال الحديث في ذلك، فسلمها إليه بدر الدين.
ذكر عود قلاع الهكارية والزوزان إلى بدر الدينلما ملك زنكي قلاع الهكارية والزوزان لم يفعل مع أهلها ما ظنوه من الإحسان والإنعام، بل فعل ضده، وضيق عليهم، وكان يبلغهم أفعال بدر الدين مع جنده ورعاياه، وإحسانه إليهم، وبذله الأموال لهم، وكانوا يريدون العود إليه، ويمنعهم الخوف منه لما أسلفوه من ذلك، فلما كان الآن أعلنوا بما فعل معهم، فأرسلوا إلى بدر الدين في المحرم سنة ثماني عشرة وستمائة في التسليم إليه، وطلبوا منه اليمين، والعفو عنهم، وذكروا شيئاً من إقطاع يكون لهم، فأجابهم إلى ذلك، وأرسل إلى الملك الأشرف يستأذنه في ذلك، فلم يأذن له.
وعاد زنكي من عند الأشرف، فجمع جموعاً، وحصر قلعة العمادية، فلم يبلغ منهم غرضاً، وأعادوا مراسلة بدر الدين في التسليم إليه، فكتب إلى الملك الأشرف في المعنى، وبذل هل قلعة جديدة نصيبين، وولاية بني النهرين ليأذن له في أخذها، فأذن له، فأرسل إليها كلها النواب وتسلموها، وأحسن إلى أهلها، ورحل زنكي عنها، ووفى له بدر الدين بما بذله لهم.
فلما سمع جند باقي القلاع بما فعلوا وما وصلهم من الإحسان والزيادة، رغبوا كلهم في التسليم إليه، فسير إليهم النواب، واتفقت كلمة أهلها على طاعته والانقياد إليه؛ والعجب أن العساكر اجتمعت من الشام، والجزيرة، وديار بكر، وخلاط، وغيرها، في استعادة هذه القلاع، فلم يقدروا على ذلك، فلما تفرقوا حضر أهلها وسألوا أن تؤخذ منهم، فعادت صفواً عفواً بغير منة، ولقد أحسن من قال:
لا سهل إلا ما جعلت سهلاً ... وإن تشأ تجعل بحزن وحلا
فتبارك الله الفعال لما يريد، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وهو على كل شيء قدير.
ذكر قصد كيكاوس ولاية حلب
وطاعة صاحبها للأشرف وانهزام كيكاوسفي هذه السنة سار عز الدين كيكاوس بن كيخسرو ملك الروم إلى ولاية حلب، قصداً للتغلب عليها، ومعه الأفضل بن صلاح الدين يوسف.
وسبب ذلك أنه كان بحلب رجلان فيما شر كثير وسعاية بالناس، فكانا ينقلان إلى صاحبها الملك الظاهر بن صلاح الدين عن رعيته، فأوغرا صدره، فلقي الناس منهما شدة؛ فلما توفي الظاهر وولي الأمر شهاب الدين طغرل أبعدهما وغيرهما ممن يفعل مثل فعلهما، وسد هذا الباب على فاعله، ولم يطرق إليه أحداً من أهله؛ فلما رأى الرجلان كساد سوقهما لزما بيوتهما، وثار بهما الناس، وآذوهما، وتهددوهما لما كانا أسلفاه من الشر، فخافا، ففارقا حلب، وقصدا كيكاوس فأطمعاه فيها، وقررا في نفسه أنه متى قصدها لا تثبت بين يديه، وأنه يملكها، ويهون عليه ملك ما بعدها.
فلما عزم على ذلك أشار عليه ذوو الرأي من أصحابه، وقالوا له: لا يتم لك هذا إلا بأن يكون معك أحد من بيت أيوب ليسهل على أهل البلاد وجندها الانقياد إليه؛ وهذا الأفضل بن صلاح الدين هو في طاعتك، والمصلحة أنك تستصحبه معك، وتقرر بينكما قاعدة فيما تفتحانه من البلاد، فمتى كان معك أطاعك الناس وسهل عليك ما تريد.
فأحضر الأفضل من سميساط إليه، وأكرمه وحمل إليه شيئاً كثيراً من الخيل والخيام والسلاح وغير ذلك، واستقرت القواعد بينهما أن يكون ما يفتحه نم حلب وأعمالها للأفضل، وهو في طاعة كيكاوس، والخطبة له في ذلك أجمع، ثم يقصدون ديار الجزيرة، فما يفتحونه مما بيد الملك الأشرف مثل: حران والرها من البلاد الجزرية، تكون لكيكاوس. وجرت الأيمان على ذلك، وجمعوا العساكر وساروا، فملكوا قلعة رغبان، فتسلمها الأفضل، فمال الناس حينئذ إليهما.
ثم سارا إلى قلعة تل باشر، وفيها صاحبها ولد بدر الدين دلدرم الياروقي، فحصروه، وضيقوا عليه، وملكوها منه، فأخذها كيكاوس لنفسه، ولم يسلمها إلى الأفضل، فاستشعر الأفضل من ذلك، وقال: هذا أول الغدر؛ وخاف أنه إن ملك حلب يفعل به هكذا، فلا يحصل إلا أن يكون قد قلع بيته لغيره،، ففترت نيته، وأعرض عما كان يفعله؛ وكذلك أيضاً أهل البلاد، فكانوا يظنون أن الأفضل يملكها، فيسهل عليهم الأمر، فلما رأوا ضد ذلك وقفوا.
وأما شهاب الدين أتابك ولد الظاهر، صاحب حلب، فإنه ملازمه قلعة حلب لا ينزل منها، ولا يفارقها البتة، وهذه كانت عادته مذ مات الظاهر، خوفاً من ثائر يثور به، فلما حدث هذا الأمر خاف أن يحصروه، وربما سلم أهل البلد والجند المدينة إلى الأفضل لميلهم إليه، فأرسل إلى الملك الأشرف ابن الملك العادل، صاحب الديار الجزرية وخلاط وغيرها، يستدعيه إليه لتكون طاعتهم له، ويخطبون له، ويجعل السكة باسمه، ويأخذ من أعمال حلب ما اختار، ولأن ولد الظاهر هو ابن أخته، فأجاب إلى ذلك، وسار إليهم في عساكره التي عنده، وأرسل إلى الباقين يطلبهم إليه، وسره ذلك للمصلحة العامة لجميعهم، وأحضر إليه العرب من طيء وغيرهم، ونزل بظاهر حلب.
ولما أخذ كيكاوس تل باشر كان الأفضل يشير بمعاجلة حلب قبل اجتماع العساكر بها، وقبل أن يحتاطوا ويتجهزوا، فعاد عن ذلك، وصار يقول: الرأي أننا نقصد منبج وغيرها لئلا يبقى لهم وراء ظهورنا شيء، قصداً للتمادي ومرور الزمان في لا شيء؛ فتوجهوا من تل باشر إلى جهة منبج، وتقدم الأشرف نحوهم، وسارت العرب في مقدمته؛ وكان طائفة من عسكر كيكاوس، نحو ألف فارس، قد سبقت مقدمته له، فالتقوا هم والعرب ومن معهم من العسكر الأشرفي، فاقتتلوا، فانهزم عسكر كيكاوس، وعادوا إليه منهزمين، وأكثر العرب الأسر منهم والنهب لجودة خيلهم ودبر خيل الروم.
فلما وصل إليه أصحابه منهزمين لم يثبت، بل ولى على أعقابه يطوي المراحل إلى بلاده خائفاً يترقب. فلما وصل إلى أطرافها أقام.
وإنما فعل هذا لأنه صبي غر لا معرفة له بالحرب، وإلا، فالعساكر ما برحت تقع مقدماتها بعضها على بعض، فسار حينئذ الأشرف، فملك رعبان، وحصر تل باشر، وبها جمع من عسكر كيكاوس، فقاتلوه حتى غلبوا، فأخذت القلعة منهم، وأطلقهم الأشرف، فلما وصولا إلى كيكاوس جعلهم في دار وأحرقها عليهم، فهلكوا، فعظم ذلك على الناس كافة، واستقبحوه، واستضعفوه، لا جرم لم يمهله الله تعالى لعدم الرحمة في قلبه، ومات عقيب هذه الحادثة.
وسلم الأشرف تل باشر وغيرها من بلد حلب إلى شهاب الدين أتابك، صاحب حلب، وكان عازماً على اتباع كيكاوس، ودخول بلاده، فأتاه الخبر بوفاة أبيه الملك العادل، فاقتضت المصلحة العود إلى حلب، لأن الفرنج بديار مصر، ومثل ذلك السلطان العظيم إذا توفي ربما جرى خلل في البلاد لا تعرف العاقبة فيه، فعاد إليها، وكفي كل منهما أذى صاحبه.
ذكر وفاة الملك العادل وملك أولاده بعدهتوفي الملك العادل أبو بكر بن أيوب سابع جمادى الآخرة من سنة خمس عشرة وستمائة؛ وقد ذكرنا ابتداء دولتهم عند ملك عمه أسد الدين شيركوه ديار مصر سنة أربع وستين وخمسمائة؛ ولما ملك أخوه صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر، بعد عمه، وسار إلى الشام استخلفه بمصر ثقة به، واعتماداً عليه، وعلماً بما هو عليه من توفر العقل وحسن السيرة.
فلما توفي أخوه صلاح الدين ملك دمشق وديار مصر، كما ذكرناه، وبقي مالكاً للبلاد إلى الآن، فلما ظهر الفرنج، كما ذكرناه سنة أربع عشرة وستمائة، قصد هو مرج الصفر، فلما سار الفرنج إلى ديار مصر انتقل هو إلى عالقين، فأقام به، ومرض، وتوفي، وحمل إلى دمشق، فدفن بالتربة التي له بها.
وكان عاقلاً، ذا رأي سديد، ومكر شديد، وخديعة، صبوراً حليماً، ذا أناة، يسمع ما يكره، ويغضي عليه حتى كأنه لم يسمعه، كثير الحرج وقت الحاجة لا يقف في شيء وإذا لم تكن حاجة فلا.
وكان عمره خمساً وسبعين سنة وشهوراً لأن مولده كان في المحرم من سنة أربعين وخمسمائة، وملك دمشق في شعبان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة من الأفضل ابن أخيه، وملك مصر في ربيع الآخر من سنة ست وتسعين منه أيضاً.
ومن أعجب ما رأيت من منافاة الطوالع أنه لم يملك الأفضل مملكة قط إلا وأخذها منه عمه العادل، فأول ذلك أن صلاح الدين أقطع ابنه الأفضل حران، والها، وميافارقين، سنة ست وثمانين، بعد وفاة تقي الدين، فسار إليها، فلما وصل إلى حلب أرسل أبوه الملك العادل بعده، فرده من حلب، وأخذ هذه البلاد منه.
ثم ملك الأفضل بعد وفاة أبيه مدينة دمشق فأخذها منه؛ ثم ملك مصر بعد وفاة أخيه الملك العزيز فأخذها أيضاً منه، ثم ملك صرخد فأخذها منه.
وأعجب من هذا أنني رأيت بالبيت المقدس سارية من الرخام ملقاة في بيعة صهيون، ليس مثلها، فقال القس الذي بالبيعة: هذه كان قد أخذها الملك الأفضل لينقلها إلى دمشق، ثم إن العادل أخذها بعد ذلك من الأفضل؛ طلبها منه فأخذها. وهذا غاية، وهو من أعجب ما يحكى.
وكان العادل قد قسم البلاد في حياته بني أولاده، فجعل بمصل ملك الكامل محمداً، وبدمشق، والقدس، وطبرية، والأردن والكرك وغيرها من الحصون المجاورة لها، ابنه المعظم عيسى؛ وجعل بعض ديار الجزيرة وميافارقين وخلاط وأعمالها لابنه الملك الأشرف موسى، وأعطى الرها لولده شهاب الدين غازي، وأعطى قلعة جعبر لولده الحافظ أرسلان شاه؛ فلما توفي ثبت كل منهم في المملكة التي أعطاه أبوه، واتفقوا اتفاقاً حسناً لم يجر بنيهم من الاختلاف ما جرت العادة أن يجري بين أولاد الملوك بعد آبائهم، بل كانوا كالنفس الواحدة، كل منهم يثق بالآخر بحيث يحضر عنده منفرداً من عسكره ولا يخافه، فلا جرم زاد ملكهم، ورأوا من نفاذ الأمر والحكم ما لم يره أبوهم.
ولعمري إنهم نعم الملوك، فيهم الحلم، والجهاد، والذب عن الإسلام، وفي نوبة دمياط كفاية؛ وأما الملك الأشرف فليس للمال عنده محل، بل يمطره مطراً كثيراً لعفته عن أموال الرعية، دائم الإحسان، لا يسمع سعاية ساع.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ذي القعدة، رحل الملك الكامل بن العادل عن أرض دمياط، لأنه بلغه أن جماعة من الأمراء قد اجتمعوا على تمليك أخيه الفائز عوضه، فخافهم، ففارق منزلته، فانتقل الفرنج إليها، وحصروا حينئذ دمياط براً وبحراً، وتمكنوا من ذلك، وقد تقدم مستقضى سنة أربع عشرة وستمائة.
وفيها، في المحرم، توفي شرف الدين محمد بن علوان بن مهاجر، الفقيه الشافعين وكان مدرساً في عدة مدارس بالموصل، وكان صالحاً كثير الخير والدين، سليم القلب، رحمه الله.
وفيها توفي عز الدين نجاح الدين الشرابي خاص الخليفة، وأقرب الناس إليه، وكان الحاكم في دولته، كثير العدل والإحسان والمعروف والعصبية للناس؛ وأما عقله وتدبيره فإليه كانت النهاية وبه يضرب المثل.
وفيها توفي علي بن نصر بن هرون أبو الحسن الحلي، النحوي، الملقب بالحجة، قرأ على ابن الخشاب وغيره.
ثم دخلت سنة ست عشرة وستمائة
ذكر وفاة كيكاوس وملك كيقباذ أخيهفي هذه السنة توفي الملك الغالب عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان، صاحب قونية، وأقصرا وملطية وما بينهما من بلد الروم، وكان قد جمع عساكره، وحشد، وسار إلى ملطية على قصد بلاد الملك الأشرف لقاعدة استقرت بينه وبين ناصر الدين، صاحب آمد، ومظفر الدين، صاحب إربل، وكانوا قد خطبوا له، وضربوا اسمه على السكة في بلادهم، واتفقوا على الملك الأشرف وبدر الدين بالموصل.
فسار كيكاوس إلى ملطية ليمنع الملك الأشرف بها عن المسير إلى الموصل نجدة لصاحبها بدر الدين، لعل مظفر الدين يبلغ من الموصل غرضاً، وكان قد علق به السل، فلما اشتد مرضه عاد عنها، فتوفي وملك بعده أخوه كيقباذ، وكان محبوساً، قد حبسه أخوه كيكاوس لما أخذ البلاد منه، وأشار عليه بعض أصحابه بقتله، فلم يفعل، فلما توفي لم يخلف ولداً يصلح للملك لصغرهم، فأخرج الجند كيقباذ وملكوه. ومن (بغي عليه لنصرنه الله).
وقيل بل أرسل كيكاوس لما اشتد مرضه، فأحضره عنده من السجن، ووصى له بالملك وحلف الناس له؛ فلما ملك خالفه عمه صاحب أرزن الروم، وخاف أيضاً من الروم المجاورين لبلاده، فأرسل إلى الملك الأشرف وصالحه، وتعاهدا على المصافاة والتعاضد، وتصاهرا، وكفي الأشرف شر تلك الجهة، وتفرغ باله لإصلاح ما بين يديه، ولقد صدق القائل: (لا جد إلا ما أقعص عنك الرجال). وكأنه بقوله أراد: (وجدك طعان بغير سنان).
وهذا ثمرة حسن النية، فإنه حسن النية لرعيته وأصحابه، كاف عن أذى يتطرق إليهم منه، غير قاصد إلى البلاد المجاورة لبلاده بأذى وملك مع ضعف أصحابها وقوته، لا جرم تأتيه البلاد صفواً عفواً.  ؟؟

 
ذكر موت صاحب سنجار

 
وملك ابنه ثم قتل ابنه وملك أخيه وفي هذه السنة، ثامن صفر، توفي قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود ابن زنكي، صاحب سنجار، وكان كريماً، حسن السيرة في رعيته، حسن المعاملة مع التجار، كثير الإحسان إليهم، وأما أصحابه فكانوا معه في أرغد عيش يعمهم بإحسانه، ولا يخافون أذاه، وكان عاجزاً عن حفظ بلده، مسلماً الأمور إلى نوابه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب { متن الدرة المضيئة في السيرة}الدرة المضية

    كتاب { متن الدرة المضيئة في السيرة}الدرة المضية بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي  ----------------- قال الشيخ الإمام الحبر الحافظ أبو...