الجمعة، 20 مايو 2022

27 و28.. من كتاب : الكامل في التاريخ ابن الأثير


================
مجلد 27. و28. من كتاب : الكامل في التاريخ ابن الأثير
وفيها، في ذي الحجة، توفي محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن الوليد أبو علي المتكلم، كان أحد رؤساء المعتزلة وأئمتهم، ولزم بيته خمسين سنة لم يقدر على أن يخرج منه من عامة بغداد، وأخذ الكلام عن أبي الحسين البصري وعبد الجبار الهمذاني القاضي، ومن جملة تلاميذه ابن برهان، وهو أكبر منه.
وفي هذه السنة توفي القاضي أبو الحسن هبة الله بن محمد بن السيبي، قاضي الحريم، بنهر معلى، ومولده سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، وكان يذاكر الإمام المقتدي بأمر الله، وولي ابنه أبو الفرج عبد الوهاب بين يدي قاضي القضاة ابن الدامغاني.
وفيها، في جمادى الأولى، توفي أبو العز بن صدقة، وزير شرف الدولة، ببغداد، وكان قد قبض عليه شرف الدولة وسجنه بالرحبة، فهرب منها إلى بغداد، فمات بعد وصوله إلى مأمنه بأربعة أشهرر، وكان كريماً متواضعاً لم تغيره الولاية عن إخوانه.
وفيها، في رجب، توفي قاضي القضاة أبو عبد الله بن الدامغاني، ومولده سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، ودخل بغداد سنة تسع عشرة وأربعمائة، وكان قد صحب القاضي أبا العلاء بن صاعد، وحضر ببغداد مجلس أبي الحسين القدوري، وولي قضاء القضاة بعده القاضي أبو بكر بن المظفر بن بكران الشامي، وهو من أكبر أصحاب القاضي أبي الطيب الطبري.
وفيها توفي عبد الرحمن بن مأمون بن علي أبو سعد المتولي مدرس النظامية، وهو من أصحاب القاضي حسين المروروذي وتمم كتاب الإبانة.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وأربعمائة
ذكر قتل سليمان بن قتلمشلما قتل سليمان بن قتلمش شرف الدولة مسلم بن قريش على ما ذكرناه، أرسل إلى ابن الحتيتي العباسي، مقدم أهل حلب، يطلب منه تسليمها إليه، فأنفذ إليه، واستمهله إلى أن يكابت السلطان ملكشاه، وأرسل ابن الحتيتي إلى تتش، صاحب دمشق، يعده أن يسلم إليه حلب، فسار تتش طالباً لحلب، فعلم سليمان بذلك، فسار نحوه مجداً، فوصل إلى تتش وقت السحر على غير تعبئة، فلم يعلم به حتى قرب منه، فعبأ أصحابه.
وكان الأمير أرتق بن أكسب مع تتش، وكان منصوراً لم يشهد حرباً إلا وكان الظفر له، وقد ذكرنا فيما تقدم حضوره مع ابن جهير على آمد، وإطلاقه شرف الدولة من آمد، فلما فعل ذلك خاف أن ينهي ابن جهير ذلك إلى السلطان، ففارق خدمته، ولحق بتاج الدولة تتش، فأقطعه البيت المقدس، وحضر معه هذه الحرب، فأبلى فيها بلاء حسناً، وحرض العرب على القتال، فانهزم أصحاب سليمان، وثبت وهو في القلب، فلما رأى انهزام عساكره أخرج سكيناً معه فقتل نفسه، وقيل بل قتل في المعركة، واستولى تتش على عسكره.
وكان سليمان بن قتلمش، في السنة الماضية، في صفر، قد أنفذ جثة شرف الدولة إلى حلب على بغل ملفوفة في إزار، وطلب من أهلها أن يسلموها إليه. وفي هذه السنة في صفر أرسل تتش جثة سليمان في إزار ليسلموها إليه، فأجابه ابن الحتيتي أنه يكاتب السلطان، ومهما أمره فعل، فحصر تتش البلد، وأقام عليه، وضيق على أهله.
وكان ابن الحتيتي قد سلم كل برج من أبراجها إلى رجل من أعيان البلد ليحفظه، وسلم برجاً فيها إلى إنسان يعرف بابن الرعوي. ثم إن ابن الحتيتي أوحشه بكلام أغلظ له فيه، وكان هذا الرجل شديد القوة، ورأى ما الناس فيه من الشدة، فدعاه ذلك إلى أن أرسل إلى تتش يستدعيه،وواعده ليلة يرفع الرجال إلى السورفي الحبال، فأتى تتش للميعاد الذي ذكره، فأصعد الرجال في الحبال والسلاليم، وملك تتش المدينة، واستجار ابن الحتيتي بالأمير أرتق فشفع فيه، وأما القلعة فكان بها سالم بن مالك بن بدران، وهو ابن عم شرف الدولة مسلم بن قريش، فأقام تتش يحصر القلعة سبعة عشر يوماً، فبلغه الخبر بوصول مقدمة أخيه السلطان ملكشاه، فرحل عنها.
ذكر ملك السلطان حلب وغيرها
كان ابن الحتيتي قد كاتب السلطان ملكشاه يستدعيه ليسلم إليه حلب، لما خاف تاج الدولة تتش، فسار إليه من أصبهان في جمادى الآخرة، وجعل على مقدمته الأمير برسق، وبوزان، وغيرهما من الأمراء، وجعل طريقه على الموصل، فوصلها في رجب، وسار منها، فلما وصل إلى حران سلمها إليه ابن الشاطر، فأقطعها السلطان لمحمد بن شرف الدولة، وسار إلى الرها، وهي بيد الروم، فحصرها وملكها، وكانوا قد اشتروها من ابن عطير، وتقدم ذكر ذلك، وسار إلى قلعة جعبر، فحصرها يوماً وليلة وملكها، وقتل من بها من بني قشير، وأخذ جعبر من صاحبها، وهو شيخ أعمى، وولدين له، وكانت الأذية بهم عظيمة يقطعون الطرق ويلجأون إليها.
ثم عبر الفرات إلى مدينة حلب، فملك في طريقه مدينة منبج، فلما قارب حلب رحل عنها أخوه تتش، وكان قد ملك المدينة، كما ذكرناه، وسار عنها يسلك البرية، ومعه الأمير أرتق، فأشار بكبس عسكر السلطان، وقال: إنهم قد وصلوا، وبهم وبدوابهم من التعب ما ليس عندهم معه امتناع، ولو فعل لظفر بهم.
فقال تتش: لا أكسر جاه أخي الذي أنا مستظل بظله، فإنه يعود بالوهن علي أولاً.
وسار إلى دمشق، ولما وصل السلطان إلى حلب تسلم المدينة، وسلم إليه سالم بن مالك القلعة على أن يعوضه عنها قلعة جعبر، وكان سالم قد امتنع بها أولاً، فأمر السلطان أن يرمى إليه رشقاً واحداً بالسهام، فرمى الجيش، فكادت الشمس تحتجب لكثرة السهام، فصانع عنها بقلعة جعبر وسلمها، وسلم السلطان إليه قلعة جعبر، فبقيت بيده وبيد أولاده إلى أن أخذها منهم نور الدين محمود بن زنكي، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأرسل إليه الأمير نصر بن علي بن منقذ الكناني، صاحب شيزر، فدخل في طاعته، وسلم إليه اللاذقية، وكفر طاب، وأفامية، فأجابه إلى المسالمة، وترك قصده، وأقر عليه شيزر.
ولما ملك السلطان حلب سلمها إلى قسيم الدولة آقسنقر، فعمرها، وأحسن السيرة فيها.
وأما ابن الحتيتي فإنه كان واثقاً بإحسان السلطان ونظام الملك إليه، لأنه استدعاهما، فلما ملك السلطان البلد طلب أهله أن يعفيهم من ابن الحتيتي، فأجابهم إلى ذلك، واستصحبه معه، وأرسله إلى ديار بكر، فافتقر، وتوفي بها على حال شديدة من الفقر، وقتل ولده بأنطاكية، قتله الفرنج لما ملكوها.
ذكر وفاة بهاء الدولة منصور بن مزيد
وولاية ابنه صدقةفي هذه السنة، في ربيع الأول، توفي بهاء الدولة أبو كامل منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي، صاحب الحلة، والنيل، وغيرهما مما يجاورها، ولما سمع نظام الملك خبر وفاته قال: مات أجل صاحب عمامة، وكان فاضلاً قرأ على علي بن برهان، فبرع بذكائه في الذي استفاد منه، وله شعر حسن، فمنه:
فإن أنا لم أحمل عظيماً ولم أقد ... لهاماً، ولم أصبر على فعل معظم
ولم أجر الجاني، وأمنع حوزه، ... غداة أنادي للفخار وأنتمي
وله في صاحب له يكنى أبا مالك يرثيه:
فإن كان أودى خدننا، ونديمنا، ... أبو مالك، فالنائبات تنوب
فكل ابن أنثى لا محالة ميت، ... وفي كل حي للمنون نصيب
ولو رد حزن، أو بكاء لهالك، ... بكيناه ما هبت صباً وجنوب
ولما توفي أرسل الخليفة إلى ولده سيف الدولة صدقة نقيب العلويين أبا الغنائم يعزيه، وسار سيف الدولة إلى السلطان ملكشاه، فخلع عليه، وولاه ما كان لأبيه، وأكثر الشعراء مراثي بهاء الدولة.
ذكر وقعة الزلاقة بالأندلس
وهزيمة الفرنجقد تقدم ملك الفرنج طليطلة، وما فعله المعتمد بن عباد برسول الأذفونش، ملك الفرنج، وعود المعتمد إلى إشبيلية. فلما عاد إليها، وسمع مشايخ قرطبة بما جرى، ورأوا قوة الفرنج، وضعف المسلمين، واستعانة بعض ملوكهم بالفرنج على بعض، اجتمعوا وقالوا: هذه بلاد الأندلس قد غلب عليها الفرنج، ولم يبق منها إلا القليل، وإن استمرت الأحوال على ما نرى عادت نصرانية كما كانت.
وساروا إلى القاضي عبد الله بن محمد بن أدهم، فقالوا له: ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصغار والذلة، وعطائهم الجزية بعد أن كانوا يأخذونها، وقد رأينا رأياً نعرضه عليك. قال: ما هو؟ قالوا: نكتب إلى عرب إفريقية ونبذل لهم، فإذا وصلوا إلينا قاسمناهم أموالنا، وخرجنا معهم مجاهدين في سبيل الله. قال: نخاف، إذا وصلوا إلينا يخربون بلادنا، كما فعلوا بإفريقية، ويتركون الفرنج ويبدأون بكم، والمرابطون أصلح منهم وأقرب إلينا.
قالوا له: فكاتب أمير المسلمين، وارغب إليه ليعبر إلينا، ويرسل بعض قواده.
وقدم عليهم المعتمد بن عباد، وهم في ذلك، فعرض عليه القاضي ابن أدهم ما كانوا فيه، فقال له ابن عباد: أنت رسولي إليه في ذلك، فامتنع، وإنما أراد أن يبريء نفسه من تهمة، فألح عليه المعتمد، فسار إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فأبلغه الرسالة، وأعلمه ما فيه المسلمون من الخوف من الأذفونش.
وكان أمير المسلمين بمدينة سبتة، ففي الحال أمر بعبور العساكر إلى الأندلس، وأرسل إلى مراكش في طلب من بقي من عساكره، فأقبلت إليه تتلو بعضها بعضاً، فلما تكاملت عنده عبر البحر وسار، فاجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية، وكان قد جمع عساكره أيضاً، وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير. وقصده المتطوعة من سائر بلاد الأندلس.
ووصلت الأخبار إلى الأذفونش، فجمع فرسانه وسار من طليطلة، وكتب إلى أمير المسلمين كتاباً كتبه به بعض أدباء المسلمين، يغلظ له القول، ويصف ما عنده من القوة والعدد والعُدد، وبالغ الكاتب في الكتاب. فأمر أمير المسلمين أبا بكر بن القصيرة أن يجيبه، وكان كاتباً مفلقاً، فكتب فأجاد، فلما قرأه على أمير المسلمين قال: هذا كتاب طويل، أحضر كتاب الأذفونش واكتب في ظهره الذي يكون ستراً له.
فلما عاد الكتاب إلى الأذفونش ارتاع لذلك، وعلم أنه بلي برجل له عزم وحزم، فازداد استعداداً، فرأى في منامه كأنه راكب فيل، وبين يديه طبل صغير، وهو ينقر فيه، فقص رؤياه على القسيسين، فلم يعرفوا تأويلها، فأحضر رجلاً مسلماً، عالماً بتعبير الرؤيا، فقصها عليه، فاستعفاه من تعبيرها، فلم يعفه، فقال: تأويل هذه الرؤيا من كتاب الله العزيز، وهو قوله تعالى: " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " السورة، وقوله تعالى: " فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير " ، ويقتضي هلاك هذا الجيش الذي تجمعه.
فما اجتمع جيشه رأى كثرته فأعجبته، فأحضر ذلك المعبر، وقال له: بهذا الجيش ألقى إله محمد، صاحب كتابكم. فانصرف المعبر، وقال لبعض المسلمين: هذا الملك هالك وكل من معه، وذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاث مهلكات " الحديث، وفيه: " وإعجاب المرء بنفسه " .
وسار أمير المسلمين، والمعتمد بن عباد، حتى أتوا أرضاً يقال لها الزلاقة، من بلد بطليوس، وأتى الأذفونش فنزل موضعاً بينه وبينهم ثمانية عشر ميلاً، فقيل لأمير المسلمين: إن ابن عباد ربما لم ينصح، ولا يبذل نفسه دونك. فأرسل إليه أمير المسلمين يأمره أن يكون في المقدمة، ففعل ذلك، وسار، وقد ضرب الأذفونش خيامه في لحف جبل، والمعتمد في سفح جبل آخر، يتراءون، وينزل أمير المسلمين وراء الجبل الذي عنده المعتمد، وظن الأذفونش أن عساكر المسلمين ليس إلا الذي يراه.
وكان الفرنج في خمسين ألفاً، فتيقنوا الغلب، وأرسل الأذفونش إلى المعتمد في ميقات القتال، وقصده الملك، فقال: غداً الجمعة، وبعده الأحد، فيكون اللقاء يوم الاثنين، فقد وصلنا على حال تعب، واستقر الأمر على هذا، وركب ليلة الجمعة سحراً، وصبح بجيشه جيش المعتمد بكرة الجمعة، غدراً، وظناً منه أن ذلك المخيم هو جميع عسكر المسلمين، فوقع القتال بينهم فصبر المسلمون، فأشرفوا على الهزيمة.
وكان المعتمد قد أرسل إلى أمير المسلمين يعلمه بمجيء الفرنج للحرب، فقال: احملوني إلى خيام الفرنج، فسار إليها، فبينما هم في القتال وصل أمير المسلمين إلى خيام الفرنج، فنهبها، وقتل من فيها، فلما رأى الفرنج ذلك لم يتمالكوا أن انهزموا، وأخذهم السيف، وتبعهم المعتمد من خلفهم، ولقيهم أمير المسلمين من بين أيديهم، ووضع فيهم السيف، فلم يفلت منهم أحد، ونجا الأذفونش في نفر يسير، وجعل المسلمون من رؤوس القتلى كوماً كثيرةً، فكانوا يؤذنون عليها إلى أن جيفت فأحرقوها.
وكانت الوقعة يوم الجمعة في العشر الأول من شهر رمضان سنة تسع وسبعين، وأصاب المعتمد جراحات في وجهه، وظهرت ذلك اليوم شجاعته. ولم يرجع من الفرنج إلى بلادهم غير ثلاثمائة فارس، وغنم المسلمون كل ما لهم من مال وسلاح ودواب وغير ذلك.
وعاد ابن عباد إلى إشبيلية، ورجع أمير المسلمين إلى الجزيرة الخضراء، وعبر إلى سبتة، وسار إلى مراكش، فأقام بها إلى العام المقبل، وعاد إلى الأندلس، وحضر معه المعتمد بن عباد في عسكره، وعبد الله بن بلكين الصنهاجي، صاحب غرناطة، في عسكره، وساروا حتى نزلوا على ليط، وهو حصن منيع بيد الفرنج، فحصروه حصراً شديداً فلم يقدروا على فتحه، فرحلوا عنه بعد مدة، ولم يخرج إليهم أحد من الفرنج لما أصابهم في العام الماضي، فعاد ابن عباد إلى إشبيلية، وعاد أمير المسلمين إلى غرناظة، وهي طريقه، ومعه عبد الله بن بلكين، فغدر به أمير المسلمين، وأخذ غرناطة منه وأخرجه منها، فرأى في قصوره من الأموال والذخائر ما لم يحوه ملك قبله بالأندلس، ومن جملة ما وجده سبحة فيها أربعمائة جوهرة، قومت كل جوهر بمائة دينار، ومن الجواهر ما له قيمة جليلة، إلى غير ذلك من الثياب والعدد وغيرها، وأخذ معه عبد الله، وأخاه تميماً ابني بلكين إلى مراكش، فكانت غرناطة أول ما ملكه من بلاد الأندلس.
وقد ذكرنا فيما تقدم سبب دخول صنهاجة إلى الأندلس، وعود من عاد منهم إلى المعز بإفريقية، وكان آخر من بقي منهم بالأندلس عبد الله هذا، وأخذت مدينته، ورحل إلى العدوة.
ولما رجع أمير المسلمين إلى مراكش أطاعه من كان لم يطعه من بلاد السوس، وورغة، وقلعة مهدي، وقال له علماء الأندلس إنه ليس طاعته بواجبة حتى يخطب للخليفة، ويأتيه تقليد منه بالبلاد، فأرسل إلى الخليفة المقتدي بأمر الله ببغداد، فأتاه الخلع، والأعلام، والتقليد، ولقب بأمير المسلمين، وناصر الدين.
ذكر دخول السلطان إلى بغدادفي هذه السنة دخل السلطان ملكشاه بغداد في ذي الحجة، بعد أن فتح حلب وغيرها من بلاد الشام، والجزيرة، وهي أول قدمة قدمها، ونزل بدار المملكة، وركب من الغد إلى الحلبة، ولعب بالجوكان والكرة، وأرسل إلى الخليفة هدايا كثيرة، فقبلها الخليفة، ومن الغد أرسل نظام الملك إلى الخليفة خدمة كثيرة، فقبلها، وزار السلطان ونظام الملك مشهد موسى بن جعفر، وقبر معروف، وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة، وغيرها من القبور المعروفة، فقال ابن زكرويه الواسطي يهنيء نظام الملك بقصيدة منها:
زرت المشاهد زورة مشهودة، ... أرضت مضاجع من بها مدفون
فكأنك الغيث استهل بتربها، ... وكأنها بك روضة ومعين
فازت قداحك بالثواب وأنجحت ... ولك الإله على النجاح ضمين
وهي مشهورة.
وطلب نظام الملك إلى دار الخلافة ليلاً، فمضى في الزبزب، وعاد من ليلته، ومضى السلطان ونظام الملك إلى الصيد في البرية، فزارا المشهدين: مشهد أمير المؤمنين علي، ومشهد الحسين، عليه السلام، ودخل السلطان البر، فاصطاد شيئاً كثيراً من الغزلان وغيرها، وأمر ببناء منارة القرون بالسبيعي، وعاد السلطان إلى بغداد، ودخل الخليفة، فخلع عليه الخلع السلطانية.
ولما خرج من عنده لم يزل نظام الملك قائماً يقدم أميراً أميراً إلى الخليفة، وكلما قدم أميراً يقول: هذا العبد فلان بن فلان، وأقطاعه كذا وكذا، وعدة عسكره كذا وكذا، إلى أن أتى على آخر الأمراء، وفوض الخليفة إلى السلطان أمر البلاد والعباد، وأمره بالعدل فيهم، وطلب السلطان أن يقبل يد الخليفة، فلم يجبه، فسأل أن يقبل خاتمه، فأعطاه إياه فقبله، ووضعه على عينه، وأمره الخليفة بالعود فعاد.
وخلع الخليفة أيضاً على نظام الملك، ودخل نظام الملك إلى المدرسة النظامية، وجلس في خزانة الكتب، وطالع فيها كتباً، وسمع الناس عليه بالمدرسة جزء حديث، وأملى جزءاً آخر.
وأقام السلطان ببغداد إلى صفر سنة ثمانين، وسار منها إلى أصبهان.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة، في المحرم، جرى بين أهل الكرخ وأهل باب البصرة فتنة قتل فيها جماعة، من جملتهم القاضي أبو الحسن ابن القاضي أبي الحسين بن الغريق الهاشمي، الخطيب، أصابه سهم فمات منه، ولما قتل تولى ابنه الشريف أبو تمام ما كان إليه من الخطابة، وكان العميد كمال الملك الدهستاني ببغداد، فسار بخيله ورجله إلى القنطرة العتيقة، وأعان أهل الكرخ، ثم جرت بينهم ثانية في شوال منها، فأعان الحجاج على أهل الكرخ، فانهزموا، وبلغ الناس إلى درب اللؤلؤ، وكاد أهل الكرخ يهلكون، فخرج أبو الحسن بن برغوث العلوي إلى مقدم الأحداث من السنة، فسأله العفو، فعاد عنهم ورد الناس.
وفيها زاد الماء بدجلة تاسع عشر حزيران، وجاء المطر يومين ببغداد.
وفيها، في ربيع الأول، أرسل العميد كمال الملك إلى الأنبار، فتسلمها من بني عقيل، وخرجت من أيديهم.
وفيها، في ربيع الآخر، فرغت المنارة بجامع القصر وأذن فيها.
وفيها، في جمادى الأولى، ورد الشريف أبو القاسم علي بن أبي يعلى الحسني الدبوسي إلى بغداد، في تجمل عظيم، لم ير مثله لفقيه، ورتب مدرساً بالنظامية بعد أبي سعد المتولي.
وفيها أمر السلطان أن يزاد في إقطاع وكلاء الخليفة نهر برزى من طريق خراسان، وعشرة آلاف دينار من معاملة بغداد.
وفيها أقطع السلطان ملكشاه محمد بن شرف الدولة مسلم مدينة الرحبة وأعمالها، وحران، وسروج، والرقة، والخابور، وزوجه بأخته زليخا خاتون، فتسلم البلاد جميعها ما عدا حران، فإن محمد بن الشاطر امتنع من تسليمها، فلما وصل السلطان إلى الشام نزل عنها ابن الشاطر، فسلمها السلطان إلى محمد.
وفيها وقع ببغداد صاعقتان، فكسرت إحداهما أسطوانتين، وأحرقت قطناً في صناديق، ولم تحترق الصناديق، وقتلت الثانية رجلاً.
وفيها كانت زلازل بالعراق، والجزيرة، والشام، وكثير من البلاد، فخربت كثيراً من البلاد، وفارق الناس مساكنهم إلى الصحراء، فلما سكنت عادوا.
وفيها عزل فخر الدولة بن جهير عن ديار بكر، وسلمها السلطان إلى العميد أبي علي البلخي، وجعله عاملاً عليها.
وفيها أسقط اسم الخليفة المصري من الحرمين الشريفين، وذكر اسم الخليفة المقتدي بأمر الله.
وفيها أسقط السلطان المكوس والاجتيازات بالعراق.
وفيها حصر تميم بن المعز بن باديس ،صاحب إفريقية، مدينتي قابس وسفاقس في وقت واحد، وفرق عليهما العساكر.
وفيها، في ربيع الأول، توفي أبو الحسن بن فضال المجاشعي، النحوي، المقري.
وفي ربيع الآخر توفي شيخ الشيوخ أبو سعد الصوفي، النسابوري، وهو الذي تولى بناء الرباط بنهر المعلى، وبنى وقوفه، وهو رباط شيخ الشيوخ الآن، وبنى وقوف المدرسة النظامية، وكان عالي الهمة، كثير التعصب لمن يلتجيء إليه، وجدد تربة معروف الكرخي بعد أن احترقت، وكانت له منزلة كبيرة عند السلطان، وكان يقال: نحمد الله الذي أخرج رأس أبي سعد من مرقعة، ولو أخرجه من قباء لهلكنا.
وفيها توفي أبو علي محمد بن أحمد الشيري، البصري، وكان خيراً، حافظاً للقرآن، ذا مال كثير، وهو آخر من روى سنن أبي داود السجستاني عن أبي عمر الهاشمي.
وفيها توفي الشريف أبو نصر الزينبي، العباسي، نقيب الهاشميين، وهو محدث مشهور عالي الإسناد.
ثم دخلت سنة ثمانين وأربعمائة
ذكر زفاف ابنة السلطان إلى الخليفةفي المحرم نقل جهاز ابنة السلطان ملكشاه إلى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملاً مجللة بالديباج الرومي، وكان أكثر الأحمال الذهب والفضة وثلاث عماريات، وعلى أربع وسبعين بغلاً مجللة بأنواع الديباج الملكي، وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضة، وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقاً من فضة لا يقدر ما فيها من الجواهر والحلي، وبين يدي البغال ثلاثة وثلاثون فرساً من الخيل الرائقة، عليها مراكب الذهب مرصعة بأنواع الجوهر، ومهد عظيم كثير الذهب.
وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة كوهرائين، والأمير برسق، وغيرهما، ونثر أهل نهر معلى عليهم الدنانير والثياب، وكان السلطان قد خرج عن بغداد متصيداً، ثم أرسل الخليفة الوزير أبا شجاع إلى تركان خاتون، زوجة السلطان، وبين يديه نحو ثلاثمائة موكبية، ومثلها مشاعل، ولم يبق في الحريم دكان إلا وقد أشعل فيها الشمعة والاثنتان وأكثر من ذلك.
وأرسل الخليفة مع ظفر خادمه محفة لم ير مثلها حسناً، وقال الوزير لتركان خاتون: سيدنا ومولانا أمير المؤمنين يقول: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وقد أذن في نقل الوديعة إلى داره. فأجابت بالسمع والطاعة، وحضر نظام الملك فمن دونه من أعيان دولة السلطان، وكل منهم معه من الشمع والمشاعل الكثير، وجاء نساء الأمراء الكبار ومن دونهم كل واحدة منهن منفردة في جماعتها وتجملها، وبين أيديهن الشمع الموكبيات والمشاعل يحمل ذلك جميعه الفرسان.
ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان، بعد الجميع، في محفة مجللة، عليها من الذهب والجواهر أكثر شيء، وقد أحاط بالمحفة مائتا جارية من الأتراك بالمراكب العجيبة، وسارت إلى دار الخلافة، وكانت ليلة مشهودة لم ير ببغداد مثلها.
فلما كان الغد أحضر الخليفة أمراء السلطان لسماط أمر بعمله حكي أن فيه أربعين ألف منا من السكر، وخلع عليهم كلهم، وعلى كل من له ذكر في العسكر، وأرسل الخلع إلى الخاتون زوجة السلطان، وإلى جميع الخواتين، وعاد السلطان من الصيد بعد ذلك.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ولد للسلطان ابن من تركان خاتون، وسماه محموداً، وهو الذي خطب له بالمملكة بعد.
وفيها سلم السلطان ملكشاه مدينة حلب والقلعة إلى مملوكة آقسنقر، فوليها، وأظهر فيها العدل وحسن السيرة، وكان زوج دادو السلطان ملكشاه، وهي التي تحضنه وتربيه، وماتت بحلب سنة أربع وثمانين.
وفيها استبق ساعيان أحدهما للسلطان، فضلي، والآخر للأمير قماج، مرعوشي، فسبق ساعي السلطان، وقد تقدم ذكر الفضلي والمرعوشي أيام معز الدولة بن بويه.
وفيها جعل السلطان ولي عهده ولده أبا شجاع أحمد، ولقبه ملك الملوك، عضد الدولة، وتاج الملة، عدة أمير المؤمنين، وأرسل إلى الخليفة بعد مسيره من بغداد، ليخطب له ببغداد بذلك، فخطب له في شعبان، ونثر الذهب على الخطباء.
وفيها، في شعبان، انحدر سعد الدولة كوهرائين إلى واسط لمحاربة مهذب الدولة بن أبي الجبر، صاحب البطائح، ولما فارق بغداد كثرت فيها الفتن.
وفيها، في ذي القعدة، ولد للخليفة من ابنة السلطان ولد سماه جعفراً، وكناه أبا الفضل، وزين البلد لأجل ذلك.
وفيها استولى العميد كمال الملك أبو الفتح الدهستاني، عميد العراق، على مدينة هيت، أخذها صلحاً ومضى إليها، وعاد عنها في ذي القعدة.
وفيها وقعت فتنة بين أهل الكرخ وغيرها من المحال، قتل فيها كثير من الناس.
وفيها كسفت الشمس كسوفاً كلياً.
وفيها توفي الأمير أبو منصور قتلغ أمير الحاج، وحج أميراً اثنتي عشرة سنة، وكانت له في العرب عدة وقعات، وكانوا يخافونه، ولما مات قال نظام الملك: مات اليوم ألف رجل، وولي إمارة الحاج نجم الدولة خمارتكين.
وفيها، في جمادى الأولى، توفي إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن سعد أبو القاسم الساوي، سمع الحديث الكثير من أبي سعد الصيرفي وغيره، وروى عنه الناس، وكان ثقة، وطاهر بن الحسين أبو الوفا البندنيجي، الهمذاني، كان شاعراً، أديباً، وكان يمدح لا لعرض الدنيا، ومدح نظام الملك بقصيدتين كل واحدة منهما تزيد على أربعين بيتاً، إحداهما ليس فيها نقطة، والأخرى جميع حروفها منقوطة.
وفيها توفيت فاطمة بنت علي المؤدب، المعروفة ببنت الأقرع، الكاتبة، كانت من أحسن الناس خطاً على طريقة ابن البواب، وسمعت الحديث وأسمعته.
وفيها، في ذي القعدة، توفي غرس النعمة أبو الحسن محمد بن الصابي، صاحب التاريخ، وظهر له مال كثير، وكان له معروف وصدقة.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وأربعمائة؟
ذكر الفتنة ببغدادفي هذه السنة، في صفر، شرع أهل باب البصرة في بناء القنطرة الجديدة، ونقلوا الآجر في أطباق الذهب والفضة وبين أيديهم الدبادب، واجتمع إليهم أهل المحال، وكثر عندهم أهلباب الأزج في خلق لا يحصى.
واتفق أن كوهرائين سار في سميرية، وأصحابه يسيرون على شاطيء دجلة بسيره، فوقف أهل باب الأزج على امرأة كانت تسقي الناس من مزملة لها على دجلة، فحملوا عليها، على عادة لهم، وجعلوا يكسرون الجرار، ويقولون: الماء للسبيل! فلما رأت سعد الدولة كوهرائين استغاثت به، فأمر بإبعادهم عنها، فضربهم الأتراك بالمقارع، فسل العامة سيوفهم وضربوا وجه فرس حاجبه سليمان، وهو أخص أصحابه، فسقط عن الفرس، فحمل كوهرائين الحنق على أن خرج من السميرية إليهم راجلاً، فحمل أحدهم عليه، فطعنه بأسفل رمحه، فألقاه في الماء والطين، فحمل أصحابه على العامة، فقاتلوهم، وحرصوا على الظفر بالذي طعنه، فلم يصلوا إليه، وأخذ ثمانية نفرر، فقتل أحدهم، وقطع أعصاب ثلاثة نفر، وأرسل قباءه إلى الديوان وفيه أثر الطعنة والطين يستنفر على أهل باب الأزج. ثم إن أهل الكرخ عقدوا لأنفسهم طاقاً آخر على باب طاق الحراني، وفعلوا كفعل أهل البصرة.
ذكر إخراج الأتراك من حريم الخلافةفي هذه السنة، في ربيع الآخر، أمر الخليفة بإخراج الأتراك الذين مع الخاتون زوجته ابنة السلطان من حريم دار الخلافة.
وسبب ذلك أن تركياً منهم اشترى من طواف الفاكهة، فتماكسا، فشتم الطواف التركي، فأخذ التركي صنجة من الميزان وضرب بها رأس الطواف فشجه، فاجتمعت العامة، وكاد يكون بينهم وبين الأتراك شر، واستغاثوا، وشنعوا، فأمر الخليفة بإخراج الأتراك، فأخرجوا عن آخرهم، في ساعة واحدة، على أقبح صورة، وقت العشاء الآخرة.
ذكر ملك الروم مدينة زويلة
وعودهم عنهافي هذه السنة فتح الروم مدينة زويلة من إفريقية، وهي بقرب المهدية.
وسبب ذلك أن الأمير تميم بن المعز بن باديس، صاحبها، أكثر غزو بلادهم في البحر، فخربها، وشتت أهلها، فاجتمعوا من كل جهة، واتفقوا على إنشاء الشواني لغزو المهدية، ودخل معهم البيشانيون، والجنوبيون، وهما من الفرنج، فأقاموا يعمرون الأسطول أربع سنين، واجتمعوا بجزيرة قوصرة في أربع مائة قطعة، فكتب أهل قوصرة كتاباً على جناح طائر يذكرون وصولهم وعددهم وحكمهم على الجزيرة، فأراد تميم أن يسير عثمان بن سعيد المعروف بالمهر، مقدم الأسطول الذي له، ليمنعهم من النزول، فمنعه من ذلك بعض قواده، واسمه عبد الله بن منكوت، لعداوة بينه وبين المهر، فجاءت الروم، وأرسلوا، وطلعوا إلى البر، ونهبوا، وخربوا، وأحرقوا، ودخلوا زويلة ونهبوها، وكانت عساكر تميم غائبة في قتال الخارجين عن طاعته.
ثم صالح تميم الروم على ثلاثين ألف دينار، ورد جميع ما حووه من السبي، وكان تميم يبذل المال الكثير في الغرض الحقير، فكيف في الغرض الكبير، حكي عنه أنه بذل للعرب، لما استولوا على حصن له يسمى قناطة ليس بالعظيم، اثني عشر ألف دينار حتى هدمه، فقيل له: هذا سرف في المال، فقال: هو شرف في الحال.
ذكر وفاة الناصر بن علناس
وولاية ولده المنصورفي هذه السنة مات الناصر بن علناس بن حماد، وولي بعده ابنه المنصور، فاقتفى آثار أبيه في الحزم والعزم والرئاسة، ووصله كتب الملوك ورسلهم بالتعزية بأبيه والتهنئة بالملك، منهم: يوسف بن تاشفين، وتميم بن المعز، وغيرهما.
ذكر وفاة إبراهيم ملك غزنة وملك ابنه مسعودفي هذه السنة توفي الملك المؤيد إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة، وكان عادلاً، كريماً، مجاهداً، وقد ذكرنا من فتوحه ما وصل إلينا، وكان عاقلاً، ذا رأي متين، فمن آرائه أن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي جمع عساكره وسار يريد غزنة، ونزل باسفرار، فكتب إبراهيم بن مسعود كتاباً إلى جماعة من أعيان أمراء ملكشاه يشكرهم، ويعتد لهم بما فعلوا من تحسين قصد ملكشاه بلاده ليتم لنا ما استقر بيننا من الظفر به، وتخليصهم من يده، ويعدهم الإحسان على ذلك، وأمر القاصد بالكتب أن يتعرض لملكشاه في الصيد، ففعل ذلك، فأخذ، وأحضر عند السلطان، فسأله عن حاله، فأنكره، فأمر السلطان بجلده، فجلد، فدفع الكتب إليه بعد جهد ومشقة، فلما وقف ملكشاه عليها تحيل من أمرائه وعاد، ولم يقل لأحد من أمرائه في هذا الأمر شيئاً خوفاً أن يستوحشوا منه.
وكان يكتب بخطه، كل سنة، مصحفاً، ويبعثه مع الصدقات إلى مكة، وكان يقول: لو كنت موضع أبي مسعود، بعد وفاة جدي محمود، لما انفصمت عرى مملكتنا، ولكني الآن عاجز عن أن أسترد ما أخذوه، واستولى عليه ملوك قد اتسعت مملكتهم، وعظمت عساكرهم.
ولما توفي ملك بعده ابنه مسعود، ولقبه جلال الدين، وكان قد زوجه أبوه بابنة السلطان ملكشاه، وأخرج نظام الملك في هذا الإملاك والزفاف مائة دينار.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة حج الوزير أبو شجاع، وزير الخليفة، واستناب ابنه ربيب الدولة أبا منصور، ونقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي.
وفيها أسقط السلطان ما كان يؤخذ من الحجاج من الخفارة.
وفيها جمع آقسنقر، صاحب حلب، عسكره وسار إلى قلعة شيزر فحصرها، وصاحبها ابن منقذ، وضيق عليها، ونهب ربضها، ثم صالحه صاحبها وعاد إلى حلب.
وفيها توفي أبو بكر أحمد بن أبي حاتم عبد الصمد بن أبي الفضل الغورجي، الهروي، والقاضي محمود بن محمد بن القاسم أبو عامر الأزدي، المهلبي، راوياً جامع الترمذي عن أبي محمد الجراحي، رواه عنهما أبو الفتح الكروخي.
وتوفي عبد الله بن محمد بن علي بن محمد أبو إسماعيل، الأنصاري، الهروي، شيخ الإسلام، ومولده سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، وكان شديد التعصب في المذاهب، ومحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الباقرحي، ومولده في شعبان، وهو من أهل الحديث والرواية.
وفي المحرم توفيت ابنة الغالب بالله بن القادر ودفنت عند قبر أحمد، وكانت ترجع إلى دين، ومعروف كثير، لم يبلغ أحد في فعل الخير ما بلغت.
وفي شعبان توفي عبد العزيز الصحراوي الزاهد.
وفيها توفي الملك أحمد ابن السلطان ملكشاه بمرو، وكان ولي عهد أبيه في السلطنة، وكان عمره إحدى عشرة سنة، وجلس الناس ببغداد للعزاء سبعة أيام في دار الخلافة، ولم يركب أحد فرساً، وخرج النساء ينحن في الأسواق، واجتمع الخلق الكثير في الكرخ للتفرج والمناحات، وسود أهل الكرخ أبواب عقودهم إظهاراً للحزن عليه.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة
ذكر الفتنة ببغداد بين العامةفي هذه السنة، في صفر، كبس أهل باب البصرة الكرخ، فقتلوا رجلاً وجرحوا آخر، فأغلق أهل الكرخ الأسواق، ورفعوا المصاحف، وحملوا ثياب الرجلين وهي بالدم، ومضوا إلى دار العميد كمال الملك أبي الفتح الدهستاني مستغيثين، فأرسل إلى النقيب طراد بن محمد يطلب منه إحضار القاتلين، فقصد طراد دار الأمير بوزان بقصر ابن المأمون، فطالبه بوزان بهم، ووكل به، فأرسل الخليفة إلى بوزان يعرفه حال النقيب طراد، ومحله، ومنزلته، فخلى سبيله واعتذر إليه، فسكن العميد كمال الملك الفتنة، وكف الناس بعضهم عن بعض، ثم سار إلى السلطان، فعاد الناس إلى ما كانوا فيه من الفتنة، ولم ينقض يوم إلا عن قتلى وجرحى.
ذكر ملك السلطان ملكشاه ما وراء النهرفي هذه السنة ملك السلطان ملكشاه ما وراء النهر.
وسبب ذلك أن سمرقند كان قد ملكها أحمد خان بن خضر خان، أخو شمس الملك، الذي كان قبله، وهو ابن أخي تركان خاتون، زوجة السلطان ملكشاه، وكان صبياً ظالماً، قبيح السيرة، يكثر مصادرة الرعية، فنفروا منه، وكتبوا إلى السلطان سراً يستغيثون به، ويسألونه القدوم عليهم ليملك بلادهم، وحضر الفقيه أبو طاهر بن علك الشافعي عند السلطان شاكياً، وكان يخاف من أحمد خان لكثرة ماله، فأظهر السفر للتجارة والحج، فاجتمع بالسلطان، وشكا إليه، وأطمعه في البلاد. فتحركت دواعي السلطان إلى ملكها، فسار من أصبهان.
وكان قد وصل إليه، وهو فيها، رسول ملك الروم، ومعه الخراج المقرر عليه، فأخذه نظام الملك معهم إلى ما وراء النهر، وحضر فتح البلاد، فلما وصل إلى كاشغر أذن له نظام الملك في العود إلى بلاده، وقال: أحب أن يذكر عنا في التواريخ أن ملك الروم حمل الجزية وأوصلها إلى باب كاشغر لينهي إلى صاحبه سعة ملك السلطان ليعظم خوفه منه، ولا يحدث نفسه بخلاف الطاعة. وهذا يدل على همة عالية تعلو على العيوق.
ولما سار السلطان من أصبهان إلى خراسان جمع العساكر من البلاد جميعها، فعبر النهر بجيوش لا يحصرها ديوان، ولا تدخل تحت الإحصاء، فلما قطع النهر قصد بخارى، وأخذ ما على طريقه، ثم سار إليها وملكها وما جاورها من البلاد، وقصد سمرقند ونازلها، وكانت الملطفات قد قدمها إلى أهل البلد يعدهم النصر، والخلاص مما هم فيه من الظلم، وحصر البلد، وضيق عليه، وأعانه أهل البلد بالإقامات، وفرق أحمد خان، صاحب سمرقند، أبراج السور على الأمراء ومن يثق به من أهل البلد، وسلم برجاً يقال به برج العيار إلى رجل علوي كان مختصاً به، فنصح في القتال.
فاتفق أن ولداً لهذا العلوي أخذ أسيراً ببخارى، فهدد الأب بقتله، فتراخى عن القتال، فسهل الأمر على السلطان ملكشاه، ورمى من السور عدة ثلم بالمنجنيقات، وأخذ ذلك البرج، فلما صعد عسكر السلطان إلى السور هرب أحمد خان، واختفى في بيوت بعض العامة فغمز عليه وأخذ وحمل إلى السلطان وفي رقبته حبل، فأكرمه السلطان، وأطلقه وأرسله إلى أصبهان، ومعه من يحفظه، ورتب بسمرقند الأمير العميد أبا طاهر عميد خوارزم.
وسار السلطان قاصداً كاشغر، فبلغ إلى يوزكند، وهو بلد يجري على بابه نهر، وأرسل منها رسلاً إلى ملك كاشغر يأمره بإقامة الخطبة، وضرب السكة باسمه ويتوعده إن خالف بالمسير إليه. ففعل ذلك وأطاع، وحضر عند السلطان، فأكرمه وعظمه، وتابع الإنعام عليه، وأعاده إلى بلده.
ورجع السلطان إلى خراسان، فلما أبعد عن سمرقند لم يتفق أهلها وعسكرها المعروفون بالجكلية مع العميد أبي طاهر، نائب السلطان عندهم، حتى كادوا يثبون عليه، فاحتال حتى خرج من عندهم، ومضى إلى خوارزم.
ذكر عصيان سمرقندكان مقدم العسكر المعروف بالجكلية، واسمه عين الدولة، قد خاف السلطان لهذا الحادث، فكاتب يعقوب تكين أخا ملك كاشغر، ومملكته تعرف بآب نباشي، وبيده قلعتها، واستحضره، فحضر عنده بسمرقند، واتفقا، ثم إن يعقوب علم أن أمره لا يستقيم معه، فوضع عليه الرعية الذين كان أساء إليهم، حتى ادعوا عليه دماء قوم كان قتلهم، وأخذ الفتاوى عليه فقتله، واتصلت الأخبار بالسلطان ملكشاه بذلك، فعاد إلى سمرقند.
ذكر فتح سمرقند الفتح الثانيلما اتصلت الأخبار بعصيان سمرقند بالسلطان ملكشاه، وقتل عين الدولة، مقدم الجكلية، عاد إلى سمرقند، فلما وصل إلى بخارى هرب يعقوب المستولي على سمرقند، ومضى إلى فرغانة، ولحق بولايته.
ووصل جماعة من عسكره إلى السلطان مستأمنين، فلقوه بقرية تعرف بالطواويس، ولما وصل السلطان إلى سمرقند ملكها، ورتب بها الأمير أبر، وسار في أثر يعقوب حتى نزل بيوزكند، وأرسل العساكر إلى سائر الأكناف في طلبه.
وأرسل السلطان إلى ملك كاشغر، وهو أخو يعقوب، ليجد في أمره، ويرسله إليه، فاتفق أن عسكر يعقوب شغبوا عليه، ونهبوا خزائنه، واضطروه إلى أن هرب على فرسه، ودخل إلى أخيه بكاشغر مستجيراً به. فسمع السلطان بذلك، فأرسل إلى ملك كاشغر يتوعده، إن لم يرسله إليه، أن يقصد بلاده، ويصير هو العدو، فخاف أن يمنع السلطان، وأنف أن يسلم أخاه بعد أن استجار به وإن كانت بينهما عداوة قديمة، ومنافسة في الملك عظيمة، لما يلزمه فيه العار، فأداه اجتهاده إلى أن قبض على أخيه يعقوب، وأظهر أنه كان في طلبه، فظفر به، وسيره مع ولده، وجماعة من أصحابه، وكلهم بيعقوب، وأرسل معهم هدايا كثيرة للسلطان، وأمر ولده أنه إذا وصل إلى قلعة بقرب السلطان أن يسمل يعقوب ويتركه، فإن رضي السلطان بذلك، وإلا سلمه إليه.
فلما وصلوا إلى القلعة عزم ابن ملك كاشغر أن يسمل عمه، وينفذ فيه ما أمره به أبوه، فتقدم بكتفه وإلقائه على الأرض، ففعلوا به ذلك، فبينما هم على تلك الحال، وقد أحموا الميل ليسلموه، إذ سمعوا ضجة عظيمة، فتركوه، وتشاوروا بينهم، وظهر عليهم انكسار، ثم أرادوا بعد ذلك سمله، ومنع منه بعض، فقال لهم يعقوب: أخبروني عن حالكم، وما يفوتكم الذي تريدونه مني، وإذا فعلتم بي شيئاً ربما ندمتم عليه.
فقيل له: إن طغرل بن ينال أسرى من ثمانين فرسخاً في عشرات ألوف من العساكر، وكبس أخاك بكاشغر، فأخذه أسيراً، ونهب عسكره، وعاد إلى بلاده، فقال لهم: هذا الذي تريدون تفعلونه بي ليس مما تتقربون به إلى الله تعالى وإنما تفعلونه اتباعاً لأمر أخي، وقد زال أمره، ووعدهم الإحسان فأطلقوه.
فلما رأى السلطان ذلك ورأى طمع طغرل بن ينال، ومسيره إلى كاشغر، وقبض صاحبها، وملكه لها مع قربه منه، خاف أن ينحل بعض أمره وتزول هيبته، وعلم أنه متى قصد طغرل سار من بين يديه، فإن عاد عنه رجع إلى بلاده، وكذلك يعقوب أخو صاحب كاشغر، وأنه لا يمكنه المقام لسعة البلاد وراءه وخوف الموت بها، فوضع تاج الملك على أن يسعى في إصلاح أمر يعقوب معه، ففعل ما أمره به السلطان، فاتفق هو ويعقوب، وعاد إلى خراسان، وجعل يعقوب مقابل طغرل يمنعه من القوة، وملك البلاد، وكل منهما يقوم في وجه الآخر.
ذكر عود ابنة السلطان إلى أبيهاوفي هذه السنة أرسل السلطان إلى الخليفة يطلب ابنته طلباً لا بد منه.
وسبب ذلك أنها أرسلت تشكو من الخليفة، وتذكر أنه كثير الاطراح لها، والإعراض عنها، فأذن لها في المسير، فسارت في ربيع الأول، وسار معها ابنها من الخليفة أبو الفضل جعفر بن المقتدي بأمر الله، ومعهما سائر أرباب الدولة، ومشى، مع محفتها، سعد الدولة كوهرائين، وخدم دار الخلافة الأكابر، وخرج الوزير وشيعهم إلى النهروان وعاد.
وسارت الخاتون إلى أصبهان، فأقامت بها إلى ذي القعدة، وتوفيت، وجلس الوزير ببغداد للعزاء سبعة أيام، وأكثر الشعراء مراثيها ببغداد، وبعسكر السلطان.
ذكر فتح عسكر مصر عكا
وغيرها من الشامفي هذه السنة خرجت عساكر مصر إلى الشام في جماعة من المقدمين، فحصروا مدينة صور، وكان قد تغلب عليها القاضي عين الدولة بن أبي عقيل، وامتنع عليهم، ثم توفي، ووليها أولاده، فحصرهم العسكر المصري فلم يكن لهم من القوة ما يمتنعون بها، فسلموها إليهم.
ثم سار العسكر عنها إلى مدينة صيدا، ففعلوا بها كذلك.
ثم ساروا إلى مدينة عكا، فحصروها، وضيقوا على أهلها، فافتتحوها.
وقصدوا مدينة جبيل، فملكوها أيضاً، وأصلحوا أحوال هذه البلاد، وقرروا قواعدها، وساروا عنها إلى مصر عائدين، واستعمل أمير الجيوش على هذه البلاد الأمراء والعمال.
ذكر الفتنة بين أهل بغداد ثانيةوفي هذه السنة، في جمادى الأولى، كثرت الفتن ببغداد بين أهل الكرخ وغيرها من المحال، وقتل بينهم عدد كثير، واستولى أهل المحال على قطعة كبيرة من نهر الدجاج، فنهبوها، وأحرقوها، فنزل شحنة بغداد، وهو خمارتكين النائب عن كوهرائين، على دجلة في خيله ورجله، ليكف الناس عن الفتنة، فلم ينتهوا، وكان أهل الكرخ يجرون عليه وعلى أصحابه الجرايات والإقامات.
وفي بعض الأيام وصل أهل باب البصرة إلى سويقة غالب، فخرج من أهل الكرخ من لم تجر عادته بالقتال، فقاتلوهم حتى كشفوهم. فركب خدم الخليفة، والحجاب، والنقباء، وغيرهم من أعيان الحنابلة، كابن عقيل، والكلوذاني، وغيرهما، إلى الشحنة، وساروا معه إلى أهل الكرخ، فقرأ عليهم مثالاً من الخليفة يأمرهم بالكف، ومعاودة السكون، وحضور الجماعة والجمعة، والتدين بمذهب أهل السنة، فأجابوا إلى الطاعة.
فبينما هم كذلك أتاهم الصارخ من نهر الدجاج بأن السنة قد قصدوهم، والقتال عندهم، فمضوا مع الشحنة، ومنعوا من الفتنة، وسكن الناس وكتب أهل الكرخ على أبواب مساجدهم: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ومن عند هذا اليوم ثار أهل الكرخ، وقصدوا شارع ابن أبي عوف ونهبوه، وفي جملة ما نهبوا دار أبي الفضل بن خيرون المعدل، فقصد الديوان مستنفراً، ومعه الناس، ورفع العامة الصلبان وهجموا على الوزير في حجرته، وأكثروا من الكلام الشنيع، وقتل ذلك اليوم رجل هاشمي من أهل باب الأزج بسهم أصابه، فثار العامة هناك بعلوي كان مقيماً بينهم، فقتلوه وحرقوه، وجرى من النهب، والقتل، والفساد أمور عظيمة، فأرسل الخليفة إلى سيف الدولة صدقة بن مزيد، فأرسل عسكراً إلى بغداد، فطلبوا المفسدين والعيارين، فهربوا منهم، فهدمت دورهم، وقتل منهم ونفي وسكنت الفتنة، وأمن الناس.
ذكر حيلة لأمير المسلمين ظهرت ظهوراً غريباً
كان بالمغرب إنسان اسمه محمد بن إبراهيم الكزولي، سيد قبيلة كزولة ومالك جبلها، وهو جبل شامخ، وهي قبيلة كثيرة، وبينه وبين أمير المسلمين يوسف بن تاشفين مودة واجتماع، فلما كان هذه السنة أرسل يوسف إلى محمد بن إبراهيم يطلب الاجتماع به، فركب إليه محمد، فلما قاربه خافه على نفسه، فعاد إلى جبله، واحتاط لنفسه، فكتب إليه يوسف، وحلف له أنه ما أراد به إلا الخير، ولم يحدث نفسه بغدر. فلم يركن محمد إليه.
فدعا يوسف حجاماً، وأعطاه مائة دينار، وضمن له مائة دينار أخرى، إن هو سار إلى محمد بن إبراهيم واحتال على قتله. فسار الحجام، ومعه مشاريط مسمومة، فصعد الجبل، فلما كان الغد خرج ينادي لصناعته بالقرب من مساكن محمد، فسمع محمد الصوت، فقال: هذا الحجام من بلدنا؟ فقيل: إنه غريب، فقال: أراه يكثر الصياح، وقد ارتبت بذلك، ائتوني به. فأحضر عنده، فاستدعى حجاماً آخر وأمره أن يحجمه بمشاريطه التي معه، فامتنع الحجام الغريب، فأمسك وحجم فمات، وتعجب الناس من فطنته.
فلما بلغ ذلك يوسف ازداد غيظه، ولج في السعي في أذى يوصله إليه، فاستمال قوماً من أصحاب محمد، فمالوا إليه، فأرسل إليهم جراراً من عسل مسموم، فحضروا عند محمد وقالوا: قد وصل إلينا قوم معهم جرار من عسل أحسن ما يكون، وأردنا إتحافك به، وأحضروها بين يديه، فلما رآه أمر بإحضار خبز، وأمر أولئك الذين أهدوا إليه العسل أن يأكلوا منه، فامتنعوا، واستعفوه من أكله، فلم يقبل منهم، وقال: من لم يأكل قتل بالسيف، فأكلوا، فماتوا عن آخرهم.
فكتب إلى يوسف بن تاشفين: إنك قد أردت قتلي بكل وجه، فلم يظفرك الله بذلك، فكف عن شرك، فقد أعطاك الله المغرب بأسره، ولم يعطني غير هذا الجبل، وهو في بلادك كالشامة البيضاء في الثور الأسود، فلم تقنع بما أعطاك الله، عز وجل. فلما رأى يوسف أن سره قد انكشف وأنه لا يمكنه في أمره شيء لحصانة جبله أعرض عنه وتركه.
ذكر ملك العرب مدينة سوسة
وأخذها منهمفي هذه السنة نقض ابن علوي ما بينه وبين تميم بن المعز بن باديس أمير إفريقية من العهد، وسار في جميع من عشيرته العرب، فوصل إلى مدينة سوسة من بلاد إفريقية، وأهلها غارون لم يعلموا به، فدخلها عنوة، وجرى بينه وبين من بها من العسكر والعامة قتال، فقتل من الطائفتين جماعة وكثر القتل في أصحابه والأسر، وعلم أنه لا يتم له مع تميم حال، ففارقها، وخرج منها إلى حلته من الصحراء.
وكان بإفريقية هذه السنة غلاء شديد، وبقي كذلك إلى سنة أربع وثمانين، وصلحت أحوال أهلها، وأخصبت البلاد، ورخصت الأسعار، وأكثر أهلها الزرع.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قطعت الحرامية الطريق على قفل كبير بولاية حلب، فركب آقسنقر في جماعة من عسكره وتبعهم، ولم يزل حتى أخذهم وقتلهم، فأمنت الطرق بولايته.
وفيها ورد العميد الأغر أبو المحاسن عبد الجليل بن علي الدهستاني إلى بغداد عميداً، وعزل أخوه كمال الملك على ما ذكرناه.
وفيها درس الإمام أبو بكر الشاشي في المدرسة التي بناها تاج الملك مستوفي السلطان بباب إبرز من بغداد، وهي المدرسة التاجية المشهورة.
وفيها عمرت منارة جامع حلب.
وفيها توفي الخطيب أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن عبد الواحد بن أبي الحديد السلمي، خطيب دمشق، في ذي الحجة.
وفيها توفي أحمد بن محمد بن صاعد بن محمد أبو نصر النيسابوري رئيسها، ومولده سنة عشر وأربعمائة، وكان من العلماء، وعاصم بن الحسن بن محمد بن علي بن عاصم العاصمي البغدادي من أهل الكرخ، كان ظريفاً كيساً، له شعر حسن، فمنه:
ماذا على متلون الأخلاق ... لو زارني، فأبثه أشواقي
وأبوح بالشكوى إليه تذللاً، ... وأفض ختم الدمع من آماقي
فعساه يسمح بالوصال لمدنف ... ذي لوعة، وصبابة، مشتاق
أسر الفؤاد، ولم يرق لموثق ... ما ضره لو جاد بالإطلاق
إن كان قد لسبت عقارب صدغه ... قلبي، فإن رضابه درياقي
وقال أيضاً:
فديت من ذبت شوقاً من محبته، ... وصرت من هجره فوق الفراش لقا
سمعته يتغنى، وهو مصطبح، ... أفديه مصطبحاً منه، ومغتبقا
وأخلفتك ابنة البكري ما وعدت، ... وأصبح الحبل منه واهياً خلقا
والصحيحأنه توفي سنة ثلاث وثمانين.
وفيها، في جمادى الآخرة، توفي الشريف أبو القاسم العلوي، الدبوسي، المدرس بالنظامية ببغداد، وكان فاضلاً فصيحاً.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة
ذكر وفاة فخر الدولة ابن جهيرفي هذه السنة، في المحرم، توفي فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير الذي كان وزير الخليفة بمدينة الموصل، ومولده بها سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وتزوج إلى أبي العقارب شيخها، ونظر في إملاك جارية قرواش، المعروفة بسرهنك، ثم خدم بركة بن المقلد، حتى قبض على أخيه قرواش وحبسه، ومضى بهدايا إلى ملك الروم، فاجتمع هو ورسول نصر الدولة بن مروان، فتقدم فخر الدولة عليه، فنازعه رسول ابن مروان، فقال فخر الدولة لملك الروم: أنا أستحق التقدم عليه لأن صاحبه يؤدي الخراج إلى صاحبي.
فلما عاد إلى قريش بن بدران أراد القبض عليه، فاستجار بأبي الشداد، وكانت عقيل تجير على أمرائها، وسار إلى حلب، فوزر لمعز الدولة أبي ثمال ابن صالح. ثم مضى إلى ملطية، ومنها إلى ابن مروان، فقال له: كيف أمنتني وقد فعلت برسولي ما فعلت عند ملك الروم؟ فقال: حملني على ذلك نصح صاحبي. فاستوزره، فعمر بلاده.
ووزر بعد نصر الدولة لولده، ثم سار إلى بغداد، وولي وزارة الخليفة، على ما ذكرناه، وتولى أخذ ديار بكر من بني مروان، على ما ذكرناه أيضاً، ثم أخذها منه السلطان، فسار إلى الموصل فتوفي بها.
ذكر نهب العرب البصرةوفي هذه السنة، في جمادى الأولى، نهب العرب البصرة نهباً قبيحاً.
وسبب ذلك أنه ورد إلى بغداد، في بعض السنين، رجل أشقر من سواد النيل يدعي الأدب، والنجوم، ويستجري الناس، فلقبه أهل بغداد تليا، وكان نازلاً في بعض الخانات، فسرق ثياباً من الديباج وغيره، وأخفاها في خلفا، وسار بهم، فرآها الذين يحفظون الطريق، فمنعوه من السفر اتهاماً له، وحملوه إلى المقدم عليهم، فأطلقه لحرمة العلم.
فسار إلى أمير من أمراء العرب من بني عامر، وبلاده متاخمة الأحساء، وقال له: أنت تملك الأرض، وقد فعل أجدادك بالحاج كذا وكذا، وأفعالهم مشهورة، مذكورة في التواريخ، وحسن له نهب البصرة وأخذها، فجمع من العرب ما يزيد على عشرة آلاف مقاتل، وقصد البصرة، وبها العميد عصمة، وليس معه من الجند إلا اليسير، لكون الدنيا آمنة من ذاعر، ولأن الناس في جنة من هيبة السلطان، فخرج إليهم في أصحابه، وحاربهم، ولم يمكنهم من دخول البلد، فأتاه من أخبره أن أهل البلد يريدون أن يسلموه إلى العرب، فخاف، ففارقهم، وقصد الجزيرة التي هي مكان القلعة بنهر معقل.
فلما عاد أهل البلد بذلك فارقوا ديارهم وانصرفوا، ودخل العرب حينئذ البصرة، وقد قويت نفوسهم، ونهبوا ما فيها نهباً شنيعاً، فكانوا ينهبون نهاراً، وأصحاب العميد عصمة ينهبون ليلاً، وأحرقوا مواضع عدة، وفي جملة ما أحرقوا داران للكتب إحداهما وقفت قبل أيام عضد الدولة ابن بويه، فقال عضد الدولة: هذه مكرمة سبقنا إليها، وهي أول دار وقفت في الإسلام. والأخرى وقفها الوزير أبو منصور بن شاه مردان، وكان بها نفائس الكتب وأعيانها، وأحرقوا أيضاً النحاسين وغيرها من الأماكن.
وخربت وقوف البصرة التي لم يكن لها نظير، من جملتها: وقوف على الحمال الدائرة على شاطيء دجلة، وعلى الدواليب التي تحمل الماء وترقيه إلى قنى الرصاص الجارية إلى المصانع، وهي على فراسخ من البلد، وهي من عمل محمد بن سليمان الهاشمي وغيره.
وكان فعل العرب بالبصرة أول خرق جرى في أيام السلطان ملكشاه. فلما فعلوا ذلك، وبلغ الخبر إلى بغداد، انحدر سعد الدولة كوهرائين، وسيف الدولة صدقة بن مزيد إلى البصرة لإصلاح أمورها، فوجدوا العرب قد فارقوها.
ثم إن تليا أخذ بالبحرين، وأرسل إلى السلطان، فشهره ببغداد سنة أربع وثمانين على جمل، وعلى رأسه طرطور، وهو يصفع بالدرة، والناس يشتمونه، ويسبهم، ثم أمر به فصلب.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قدم الإمام أبو عبد الله الطبري بغداد، في المحرم، بمنشور من نظام الملك بتوليته تدريس المدرسة النظامية، ثم ورد بعده، في شهر ربيع الآخر من السنة، أبو محمد عبد الوهاب الشيرازي، وهو أيضاً معه منشور بالتدريس، فاستقر أن يدرس يوماً، والطبري يوماً.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وأربعمائة
ذكر عزل الوزير أبي شجاع
ووزارة عميد الدولة بن جهيرفي هذه السنة، في ربيع الأول، عزل الوزير أبو شجاع من وزارة الخليفة.
وكان سبب عزله أن إنساناً يهودياً ببغداد يقال له أبو سعد بن سمحا كان وكيل السلطان ونظام الملك، فلقيه إنسان يبيع الحصر، فصفعه صفعة أزالت عمامته عن رأسه، فأخذ الرجل، وحمل إلى الديوان، وسئل عن السبب في فعله، فقال: هو وضعني على نفسه، فسار كوهرائين ومعه ابن سمحا اليهودي إلى العسكر يشكوان، وكانا متفقين على الشكاية من الوزير أبي شجاع.
فلما سارا خرج توقيع الخليفة بإلزام أهل الذمة بالغيار، ولبس ما شرط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه فهربوا كل مهرب، أسلم بعضهم، فممن أسلم أبو سعد العلاء بن الحسن بن وهب بن موصلايا الكاتب، وابن أخيه أبو نصر هبة الله بن الحسن بن علي صاحب الخبر، أسلما على يدي الخليفة.
ونقل أيضاً عنه إلى السلطان ونظام الملك أنه يكسر أغراضهم ويقبح أفعالهم، حتى إنه لما ورد الخبر بفتح السلطان سمرقند قال: وما هذا مما يبشر به، كأنه قد فتح بلاد الروم، هل أتى إلا إلى قوم مسلمين موحدين، فاستباح منهم ما لا يستباح من المشركين! فلما وصل كوهرائين وابن سمحا إلى العسكر وشكوا من الوزير إلى السلطان ونظام الملك، وأخبراهما بجميع ما يقول عنهما، ويكسر من أغراضهما، أرسلا إلى الخليفة في عزله، فعزله، وأمره بلزوم بيته، وكان عزله يوم الخميس، فلما أمر بذلك أنشد:
تولاها وليس له عدو، ... وفارقها وليس له صديق
فلما كان الغد، يوم الجمعة، خرج من داره إلى الجامع راجلاً، واجتمع الخلق العظيم عليه، فأمر أن لا يخرج من بيته، ولما عزل استنيب في الوزراة أبو سعد بن موصلايا، كاتب الإنشاء، وأرسل الخليفة إلى السلطان ونظام الملك يستدعي عميد الدولة بن جهير ليستوزره، فسير إليه، فاستوزره في ذي الحجة من هذه السنة، وركب إليه نظام الملك، فهنأه بالوزارة في داره، وأكثر الشعراء تهنئته بالعود إلى الوزارة.
ذكر ملك أمير المسلمين بلاد الأندلس التي للمسلمينفي هذه السنة، في رجب، ملك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، صاحب بلاد المغرب، من بلاد الأندلس ما هو بيد المسلمين: قرطبة وإشبيلية، وقبض على المعتمد بن عباد صاحبها، وملك غيرها من الأندلس.
ولقد جرى للرشيد بن المعتمد حادثة شبيهة بحادثة الأمين محمد بن هارون الرشيد. قال أبو بكر عيسى بن اللبانة الداني، من مدينة دانية: كنت يوماً عند الرشيد بن المعتمد في مجلس أنسه سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، فجرى ذكر غرناطة، وملك أمير المسلمين لها، وقد ذكرنا أخذها في وقعة الزلاقة، فلما ذكرناها تفجع، وتلهف، واسترجع، وذكر قصرها، فدعونا لقصره بالدوام، ولملكه بتراخي الأيام. فأمر عند ذلك أبا بكر الإشبيلي بالغناء فغنى:
يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت، وطال عليها سالف الأبد
فاستحالت مسرته، وتجهمت أسرته. ثم أمر بالغناء من ستارته فغني:
إن شئت أن لا ترى صبراً لمصطبر، ... فانظر إلى أي حال أصبح الطلل
فتأكد تطيره، واشتد اربداد وجهه وتغيره، وأمر مغنية أخرى بالغناء، فغنت:
يا لهف نفسي على مال أفرقه ... على المقلين من أهل المروءات
إن اعتذاري إلى من جاء يسألني ... ما ليس عندي من إحدى المصيبات
قال ابن اللبانة: فتلافيت الحال بأن قمت فقلت:
محل مكرمة لا هد مبناه، ... وشمل مأثرة لا شته الله
البيت كالبيت لكن زاد ذا شرفاً، ... إن الرشيد مع المعتد ركناه
ثاو على أنجم الجوزاء مقعده، ... وراحل في سبيل الله مثواه
حتم على الملك أن يقوى وقد وصلت ... بالشرق والغرب يمناه ويسراه
بأس توقد، فاحمرت لواحظه ... ونائل شب، فاخضرت عذاراه
فلعمري قد بسطت من نفسه، وأعدت عليه بعض أنسه. على أني وقعت فيما وقع فيه الكل بقولي البيت كالبيت. وأمر إثر ذلك بالغناء فغني:
ولما قضينا من منى كل حاجة، ... ولم يبق إلا أن تزم الركائب
فأيقنا أن هذه الطير، تعقب الغير. فلما أراد أمير المسلمين ملك الأندلس سار من مراكش إلى سبتة، وأقام بها، وسير العساكر مع سير بن أبي بكر وغيره إلى الأندلس، فعبروا الخليج فأتوا مدينة مرسية، فملكوها وأعمالها، وأخرجوا صاحبها أبا عبد الرحمن بن طاهر منها، وساروا إلى مدينة شاطبة ومدينة دانية فملكوهما.
وكانت بلنسية قد ملكها الفرنج قديماً، بعد أن حصروها سبع سنين، فلما سمعوا بوقعة الزلاقة فارقوها، فملكها المسلمون أيضاً، وعمروها وسكنوها، فصارت الآن للمرابطين.
وكانوا قد ملكوا غرناطة نوبة الزلاقة، فقصدوا مدينة إشبيلية، وبها صاحبها المعتمد بن عباد، فحصروه بها، وضيقوا عليه، فقاتل أهلها قتالاً شديداً، وظهر من شجاعة المعتمد، وشدة بأسه، وحسن دفاعه عن بلده ما لم يشاهد من غيره ما يقاربه، فكان يلقي نفسه في المواقف التي لا يرجى خلاصه منها، فيسلم بشجاعته، وشدة نفسه، ولكن إذا نفدت اامدة، لم تغن العدة.
وكانت الفرنج قد سمعوا بقصد عساكر المرابطين بلاد الأندلس، فخافوا أن يملكوها ثم يقصدوا بلادهم، فجمعوا فأكثروا، وساروا ليساعدوا المعتمد، ويعينوه على المرابطين، فسمع سير بن أبي بكر، مقدم المرابطين، بمسيرهم، ففارق إشبيلية وتوجه إلى لقاء الفرنج، فلقيهم، وقاتلهم، وهزمهم، وعاد إلى إشبيلية فحصرها، ولم يزل الحصار دائماً، والقتال مستمراً إلى العشرين من رجب من هذه السنة، فعظم الحرب ذلك اليوم، واشتد الأمر على أهل البلد، ودخله المرابطون من واديه، ونهب جميع ما فيه، ولم يبقوا على سبد ولا لبد، وسلبوا الناس ثيابهم، فخرجوا من مساكنهم يسترون عوراتهم بأيديهم، وسبيت المخدرات، وانتهكت الحرمات، فأخذ المعتمد أسيراً، ومعه أولاده الذكور والإناث، بعد أن استأصلوا جميع مالهم، فلم يصحبهم من ملكهم بلغة زاد.
وقيل: إن المعتمد سلم البلد بأمان، وكتب نسخة الأمان والعهد، واستحلفهم به لنفسه، وأهله، وماله، وعبيده، وجميع ما يتعلق بأسبابه. فلما سلم إليهم إشبيلية لم يفوا له، وأخذوهم أسراء، ومالهم غنيمة، وسير المعتمد وأهله إلى مدينة أغماث، فحبسوا فيها، وفعل أمير المسلمين بهم أفعالاً لم يسلكها أحد ممن قبله، ولا يفعلها أحد ممن يأتي بعده، إلا من رضي لنفسه بهذه الرذيلة، وذلك أنه سجنهم فلم يجر عليهم ما يقوم بهم، حتى كانت بنات المعتمد يغزلن للناس بأجرة ينفقونها على أنفسهم، وذكر ذلك المعتمد في أبيات ترد عند ذكر وفاته، فأبان أميرر المسلمين بهذا الفعل عن صغر نفس ولؤم قدرة.
وأغمات هذه مدينة في سفح جبل بالقرب من مراكش، وسيرد من ذكر المعتمد عند موته، سنة ثمان وثمانين، ما يعرف به محله.
قال أبو بكر بن اللبانة: زرت المعتمد بعد أسره بأغمات، وقلت أبياتاً عند دخولي إليه، منها:
لم أقل في الثقاف كان ثقافاً، ... كنت قلباً به، وكان شغافا
يمكث الزهر في الكمام، ولكن ... بعد مكث الكمام يدنو قطافا
وإذا ما الهلال غاب بغيم ... لم يكن ذلك المغيب انكسافا
إنما أنت درة للمعالي، ... ركب الدهر فوقها أصدافا
حجب البيت منك شخصاً كريماً، ... مثلما تحجب الدنان السلافا
أنت للفضل كعبة، ولو أني ... كنت أستطيع لالتزمت الطوافا
قال: وجرت بيني وبينه مخاطبات ألذ من غفلات الرقيب، وأشهى من رشفات الحبيب، وأدل على السماح، من فجر على صباح.
ولما أخذ المعتمد وأهله قتل ولداه الفتح ويزيد بين يديه صبراً، فقال في ذلك:
يقولون صبراً! لا سبيل إلى الصبر، ... سأبكي، وأبكي ما تطاول من عمري
أفتح لقد فتحت لي باب رحمة، ... كما بيزيد، الله قد زاد في أجري
هوى بكما المقدار عني، ولم أمت، ... فأدعى وفياً، قد نكصت إلى الغدر
ولو عدتما لاخترتما العود في الثرى ... إذا أنتما أبصرتماني في الأسر
أبا خالد أورثتني البث خالداً، ... أبا نصر مذ ودعت ودعني نصري
وكان المعتمد يكاتبه فضلاء البلاد، وهو محبوس، بالنثر والنظم، يتوجعون له، ويذمون الزمان وأهله، حيث مثله منكوب، فمن ذلك ما قاله عبد الجبار بن أبي بكر بن حمديس، وكتبه إليه يذكر مسيرهم عن إشبيلية إلى أغمات:
جرى لك جد بالكرام عثور، ... وجار زمان كنت منه تجير
لقد أصبحت بيض الظبى في غمودها ... إناثاً لترك الضرب، وهي ذكور
ولما رحلتم بالندى في أكفكم، ... وقلقل رضوى منكم وثبير
رفعت لساني بالقيامة قد أتت، ... ألا فانظروا كيف الجبال تسير
وقال شاعره ابن اللبانة في حادثته أيضاً:
تبكي السماء بدمع رائح غادي ... على البهاليل من أبناء عباد
على الجبال التي هدت قوعدها ... وكانت الأرض منها تحت أوتاد
عريسة دخلتها النائبات على ... أساود منهم فيها وآساد
وكعبة كانت الآمال تعمرها، ... فاليوم لا عاكف فيها، ولا باد
ولما استقصى عسكر أمير المسلمين ملوك الأندلس، وأخذ بلادهم، جمع ملوكهم وسيرهم إلى بلاد الغرب، وفرقهم فيها " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة " .
ولما فرغ سير من إشبيلية سار إلى المرية فنازلها، وكان صاحبها محمد بن معن بن صمادح، فقال لولده: ما دام المعتمد بإشبيلية فلا نبالي بالمرابطين. فلما سمع بملكهم لها، وما جرى للمعتمد، مات في تلك الأيام غماً وكمداً، فلما مات سار ولده الحاجب وأهله في مراكب، ومعهم كل مالهم، وقصدوا بلاد بني حماد، فأحسنوا إليهم.
وكان عمر بن الأفطس، صاحب بطليوس، ممن أعان سير على المعتمد، فلما فتحت إشبيلية رجع ابن الأفطس إلى بلده، فسار إليه سير، وحاربه، فغلبه، وأخذ بلده منه، وأخذه أسيراً هو وولده الفضل، فقتلهما، فقال عمر حين أرادوا قتله: قدموا ولدي قبلي للقتل ليكون في صحيفتي! فقتل ولده قبله، وقتل هو بعده، واحتوى سير على ذخائرهم وأموالهم.
ولم يترك من ملوك الأندلس سوى بني هود، فإنه لم يقصد بلادهم، وهي شرق الأندلس، وكان صاحبها حينئذ المستعين بالله بن هود، وهو من الشجعان الذين يضرب المثل بهم، وكان قد أعد كل ما يحتاج إليه في الحصار، وترك عنده ما يكفيه عدة سنين بمدينة روطة، وكانت قلعة حصينة، وكانت رعيته تخافه، ولم يزل يهادي أمير المسلمين، قبل أن يقصد بلاد الأندلس ويملكها، ويواصله، ويكثر مراسلته، فرعى له ذلك، حتى إنه أوصى ابنه علي بن يوسف عند موته بترك التعرض لبلاد بني هود، وقال: اتركهم بينك وبين العدو، فإنهم شجعان.
ذكر ملك الفرنج جزيرة صقليةفي هذه السنة استولى الفرنج، لعنهم الله، على جميع جزيرة صقلية، أعادها الله تعالى إلى الإسلام والمسلمين.
وسبب ذلك أن صقلية كان الأمير عليها سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة أبا الفتوح يوسف بن عبد الله بن محمد بن أبي الحسين، ولاه عليها العزيز العلوي، صاحب مصر وإفريقية، فأصابه هذه السنة فالج، فتعطل جانبه الأيسر، وضعف جانبه الأيمن، فاستناب ابنه جعفراً، فبقي كذلك ضابطاً للبلاد، حسن السيرة في أهلها إلى سنة خمس وأربعمائة، فخالف عليه أخوه علي، وأعانه جمع من البربر والعبيد، فأخرج إليه أخوه جعفر جنداً من المدينة، فاقتتلوا سابع شعبان، وقتل من البربر والعبيد خلق كثير، وهرب من بقي منهم وأخذ علي أسيراً، فقتله أخوه جعفر، وعظم قتله على أبيه، فكان بين خروجه وقتله ثمانية أيام.
وأمر جعفر حينئذ أن ينفى كل بربري بالجزيرة، فنفوا إلى إفريقية، وأمر بقتل العبيد، فقتلوا عن آخرهم وجعل جنده كلهم من أهل صقلية. فقل العسكر بالجزيرة، وطمع أهل الجزيرة في الأمراء، فلم يمض إلا يسير حتى ثار به أهل صقلية، وأخرجوه، وخلعوه، وأرادوا قتله.
وسبب ذلك أنه ولى عليهم إنساناً صادرهم، وأخذ الأعشار من غلاتهم، واستخف بقوادهم وشيوخ البلد، وقهر جعفر إخوته، واستطال عليهم، فلم يشعر إلا وقد زحف إليه أهل البلد كبيرهم وصغيرهم، فحصروه في قصره في المحرم سنة عشر وأربعمائة، وأشرفوا على أخذه، فخرج إليهم أبوه يوسف في محفة، وكانوا له محبين، فلطف بهم ورفق، فبكوا رحمة له من مرضه، وذكروا له ما أحدث ابنه عليهم، وطلبوا أن يستعمل ابنه أحمد المعروف بالأكحل، ففعل ذلك.
وخاف يوسف على ابنه جعفر منهم، فسيره في مركب إلى مصر، وسار أبوه يوسف بعده، ومعهما من الأموال ستمائة ألف دينار وسبعون ألفاً، وكان ليوسف من الدواب ثلاثة عشر ألف حجرة، سوى البغال وغيرها، ومات بمصر وليس له إلا دابة واحدة.
ولما ولي الأكحل أخذ أمره بالحزم والاجتهاد، وجمع المقاتلة، وبث سراياه في بلاد الكفرة، فكانوا يحرقون، ويغنمون، ويسبون، ويخربون البلاد، وأطاعه جميع قلاع صقلية التي للمسلمين.
وكان للأكحل ابن اسمه جعفر كان يستنيبه إذا سافر، فخالف سيرة أبيه، ثم إن الأكحل جمع أهل صقلية وقال: أحب أن أشيلكم على الإفريقيين الذين قد شاركوكم في بلادكم، والرأي إخراجهم، فقالوا: قد صاهرناهم وصرنا شيئاً واحداً، فصرفهم. ثم أرسل إلى الإفريقيين، فقال لهم مثل ذلك، فأجابوه إلى ما أراد، فجمعهم حوله، فكان يحمي أملاكهم، ويأخذ الخراج من أملاك أهل صقلية، فسار من أهل صقلية جماعة إلى المعز ابن باديس، وشكوا إليه ما حل بهم، وقالوا: نحب أن نكون في طاعتك، وإلا سلمنا البلاد إلى الروم، وذلك سنة سبع وعشرين وأربعمائة، فسير معهم ولده عبد الله في عسكر، فدخل المدينة، وحصر الأكحل في الخلاصة. ثم اختلف أهل صقلية، وأراد بعضهم نصرة الأكحل، فقتله الذين أحضروا عبد الله بن المعز.
ثم إن الصقليين رجع بعضهم على بعض، وقالوا: أدخلتم غيركم عليكم، والله لا كانت عاقبة أمركم فيه إلى خير! فعزموا على حرب عسكر المعز، فاجتمعوا وزحفوا في المراكب إلى إفريقية، وولى أهل الجزيرة عليهم حسناً الصمصام، أخا الأكحل، فاضطربت أحوالهم، واستولى الأراذل، وانفرد كل إنسان ببلد، وأخرجوا الصمصام، فانفرد القائد عبد الله بن منكوت بمازر وطرابنش وغيرهما، وانفرد القائد علي بن نعمة، المعروف بابن الحواس، بقصريانة وجرجنت وغيرهما، وانفرد ابن الثمنة بمدينة سرقوسة، وقطانية، وتزوج بأخت ابن الحواس.
ثم إنه جرى بينها وبين زوجها كلام فأغلظ كل منهما لصاحبه، وهو سكران، فأمر ابن الثمنة بفصدها في عضديها، وتركها لتموت، فسمع ولده إبراهيم، فحضر، وأحضر الأطباء، وعالجها إلى أن عادت قوتها، ولما أصبح أبوه ندم، واعتذر إليها بالسكر، فأظهرت قبول عذره.
ثم إنها طلبت منه بعد مدة أن تزو أخاها، فأذن لها، وسير معها التحف والهدايا، فلما وصلت ذكرت لأخيها ما فعل بها، فحلف أنه لا يعيدها إليه، فأرسل ابن الثمنة يطلبها، فلم يردها إليه، فجمع ابن الثمنة عسكره، وكان قد استولى على أكثر الجزيرة، وخطب له بالمدينة، وسار، وحصر ابن الحواس بقصريانة، فخرج إليه فقاتله، فانهزم ابن الثمنة، وتبعه إلى قرب مدينتة قطانية، وعاد عنه بعد أن قتل من أصحابه فأكثر.
فلما رأى ابن الثمنة أن عساكره قد تمزقت، سولت له نفسه الانتصار بالكفار لما يريده الله تعالى، فسار إلى مدينة مالطة، وهي بيد الفرنج قد ملكوها لما خرج بردويل الفرنجي الذي تقدم ذكره سنة اثنتين وسبعين وثلاث مائة، واستوطنها الفرنج إلى الآن، وكان ملكها حينئذ رجار الفرنجي في جمع من الفرنج، فوصل إليهم ابن الثمنة وقال: أنا أملككم الجزيرة! فقالوا: إن فيها جنداً كثيراً، ولا طاقة لنا بهم، فقال: إنهم مختلفون، وأكثرهم يسمع قولي، ولا يخالفون أمري. فساروا معه في رجب سنة أربع وأربعين وأربعمائة، فلم يلقوا من يدافعهم، فاستولوا على ما مروا به في طريقهم، وقصد بهم إلى قصريانة فحصروها، فخرج إليهم ابن الحواس، فقاتلهم، فهزمه الفرنج، فرجع إلى الحصن، فرحلوا عنه، وساروا في الجزيرة، واستولوا على مواضع كثيرة، وفارقها كثير من أهلها من العلماء والصالحين، وسار جماعة من أهل صقلية إلى المعز بن باديس، وذكروا له ما الناس فيه بالجزيرة من الخلف، وغلبة الفرنج على كثير منها، فعمر أسطولاً كبيراً، وشحنه بالرجال والعدد، وكان الزمان شتاء، فساروا إلى قوصرة، فهاج عليهم البحر، فغرق أكثرهم، ولم ينج إلا القليل.
وكان ذهاب هذا الأسطول مما أضعف المعز، وقوى عليه العرب، حتى أخذوا البلاد منه.
فملك حينئذ الفرنج أكثر البلاد على مهل وتؤدة، لا يمنعهم أحد، واشتغل صاحب إفريقية بما دهمه من العرب، ومات المعز سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، وولي ابنه تميم، فبعث أيضاً أسطولاً وعسكراً إلى الجزيرة، وقدم عليه ولديه أيوب وعلياً، فوصلوا لى صقلية، فنزل أيوب والعسكر المدينة، ونزل علي جرجنت، ثم انتقل أيوب إلى جرجنت، فأمر علي بن الحواسأن ينزل في قصره، وأرسل هدية كثيرة.
فلما أقام أيوب فيها أحبه أهلها، فحسده ابن الحواس، فكتب إليهم ليخرجوه، فلم يفعلوا، فسار إليه في عسكره، وقاتله، فشد أهل جرجنت من أيوب، وقاتلوا معه، فبينما ابن الحواس يقاتل أتاه سهم غرب فقتله، فملك العسكر عليهم أيوب.
ثم وقع بعد ذلك بين أهل المدينة وبين عبيد تميم فتنة أدت إلى القتال، ثم زاد الشر بينهم، فاجتمع أيوب وعلي أخوه، ورجعا في الأسطول إلى إفريقية سنة إحدى وستين، وصحبهم جماعة من أعيان صقلية والأسطولية، ولم يبق للفرنج ممانع، فاستولوا على الجزيرة، ولم يثبت بين أيديهم غير قصريانة وجرجنت، فحصرهما الفرنج، وضيقوا على المسلمين بهما، فضاق الأمر على أهلهما حتى أكلوا الميتة، ولم يبق عندهم ما يأكلونه. فأما جرجنت فسلموها إلى الفرنج، وبقيت قصريانة بعدها ثلاث سنين، فلما اشتد الأمر عليهم أذعنوا إلى التسليم، فتسلمها الفرنج، لعنهم الله، سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وملك رجار جميع الجزيرة وأسكنها الروم والفرنج مع المسلمين، ولم يترك لأحد من أهلها حماماً، ولا دكاناً، ولا طاحوناً.
ومات رجار، بعد ذلك، قبل التسعين والأربعمائة، وملك بعده ولده رجار، فسلك طريق ملوك المسلمين من الجنائب والحجاب، والسلاحية، والجاندارية، وغير ذلك، وخالف عادة الفرنج، فإنهم لا يعرفون شيئاً منه، وجعل له ديوان المظالم ترفع إليه شكوى المظلومين، فينصفهم ولو من ولده، وأكرم المسلمين، وقربهم ومنع عنهم الفرنج، فأحبوه، وعمر أسطولاً كبيراً، وملك الجزائر التي بين المهدية وصقلية، مثل مالطة، وقوصرة، وجربة، وقرقنة، وتطاول إلى سواحل إفريقية، فكان منه ما نذكره إن شاء الله.
ذكر وصول السلطان إلى بغدادفي هذه السنة، في شهر رمضان، وصل السلطان إلى بغداد، وهي المرة الثانية، ونزل بدار المملكة، ونزل أصحابه متفرقين، ووصل إليه أخوه تاج الدولة تتش، وقسيم الدولة آقسنقر، صاحب حلب، وغيرهما من زعماء الأطراف، وعمل الميلاد ببغداد، وتأنقوا في عمله، فذكر الناس أنهم لم يروا ببغداد مثله أبداً، وأكثر الشعراء وصف تلك الليلة، فممن قال المطرز:
وكل نار على العشاق مضرمة ... من نار قلبي، أو من ليلة السذق
نار تجلت بها الظلماء، واشتبهت ... بسدفة الليل فيه غرة الفلق
وزارت الشمس فيها البدر واصطلحا ... على الكواكب بعد الغيظ والحنق
مدت على الأرض بسطاً من جواهرها ... ما بين مجتمع مار ومفترق
مثل المصابيح إلا أنها نزلت ... من السماء بلا رجم ولا حرق
أعجب بنار ورضوان يسعرها ... ومالك قائم منها على فرق
في مجلس ضحكت روض الجنان له ... لما جلا ثغره عن واضح يقق
وللشموع عيون كلما نظرت ... تظلمت من يديها أنجم الغسق
من كل مرهفة الأعطاف كالغصن ... المياد، لكنه عار من الورق
إني لأعجب منها، وهي وادعة ... تبكي، وعيشتها من ضربة العنق
وفي هذه المرة أمر بعمارة جامع السلطان، فابتديء في عمارته في المحرم سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وعمل قبلته بهرام منجمه، وجماعة من أصحاب الرصد، وابتدأ بعده نظام الملك، وتاج الملوك، والأمراء الكبار بعمل دور لهم يسكنونها إذا قدموا بغداد، فلم تطل مدتهم بعدها، وتفرق شملهم بالموت، والقتل، وغير ذلك في باقي سنتهم، ولم تغن عنهم عساكرهم وما جمعوا شيئاً، فسبحان الدائم الذي لا يزول أمره.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وصل ابن أبي هاشم من مكة مستغيثاً من التركمان.
وفي آخرها مرض نظام الملك ببغداد، فعالج نفسه بالصدقة، فكان يجتمع بمدرسته من الفقراء والمساكين من لا يحصى، وتصدق عنه الأعيان، والأمراء من عسكر السلطان، فعوفي، وأرسل له الخليفة خلعاً نفيسة.
وفيها، في تاسع شعبان، كان بالشام، وكثير من البلاد، زلازل كثيرة، وكان أكثرها بالشام، ففارق الناس مساكنهم، وانهدم بأنطاكية كثير من المساكن، وهلك تحتها عالم كثير، وخرب من سورها تسعون برجاً، فأمر السلطان ملكشاه بعمارتها.
وفيها، في شوال، توفي أبو طاهر عبد الرحمن بن محمد بن علك الفقيه الشافعي، وهو من رؤساء الفقهاء الشافعية، وهو الذي تقدم ذكره في فتح سمرقند، ومشى أرباب الدولة السلطانية كلهم في جنازته، إلا نظام الملك، فإنه اعتذر بعلو السن، وأكثر البكاء عليه، ودفن عند الشيخ أبي إسحاق بباب ابرز، وزار السلطان قبره.
وتفوي محمد بن عبد الله بن الحسين أبو بكر الناصح الحنفي، قاضي الري، وكان من أعيان الفقهاء الحنفية يميل إلى الاعتزال، وكان موته في رجب.
وفيها في شعبان توفي أبو الحسن علي بن الحسين بن طاووس المقري بمدينة صور.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وأربعمائة
ذكر الحرب بين المسلمين والفرنج بجيانفي هذه السنة جمع أذفونش عساكره، وجموعه، وغزا بلاد جيان من الأندلس، فلقيه المسلمون وقاتلوه، واشتدت الحرب، فكانت الهزيمة أولاً على المسلمين، إن الله تعالى رد لهم الكرة على الفرنج، فهزموهم، وأكثروا القتل فيهم، ولم ينج إلا الأذفونش في نفر يسير، وكانت هذه الوقعة من أشهر الوقائع، بعد الزلاقة، وأكثر الشعراء ذكرها في أشعارهم.
ذكر استيلاء تتش على حمص وغيرها من ساحل الشاملما كان السلطان ببغداد قدم إليه أخوه تاج الدولة تتش من دمشق، وقسيم الدولة آقسنقر من حلب، وبوزان من الرها، فلما أذن لهم السلطان في العود إلى بلادهم أمر قسيم الدولة وبوزان أن يسيرا مع عساكرهما في خدمة أخيه تاج الدولة، حتى يستولي على ما للخليفة المستنصر العلوي، بساحل الشام، من البلاد، ويسير، وهم معه، إلى مصر ليملكها.
فساروا أجمعون إلى الشام، ونزل على حمص، وبها ابن ملاعب صاحبها، وكان الضرر به وبأولاده عظيماً على المسلمين، فحصروا البلد، وضيقوا على من به، فملكه تاج الدولة، وأخذ ابن ملاعب وولديه، وسار إلى قلعة عرقة فملكها عنوة، وسار إلى قلعة أفامية فملكها أيضاً، وكان بها خادم للمصري، فنزل بالأمان فأمنه، ثم سار إلى طرابلس فنازلها، فرأى صاحبها جلال الملك ابن عمار جيشاً لا يدفع إلا بحيلة، فأرسل إلى الأمراء الذين مع تاج الدولة، وأطمعهم ليصلحوا حاله، فلم ير فيهم مطمعاً.
وكان مع قسيم الدولة آقسنقر وزير له اسمه زرين كمر، فراسله ابن عمار فرأى عنده ليناً، فأتحفه وأعطاه، فسعى مع صاحبها قسيم الدولة في إصلاح حاله ليدفع عنه، وحمل له ثلاثين ألف دينار، وتحفاً بمثلها، وعرض عليه المناشير التي بيده من السلطان بالبلد، والتقدم إلى النواب بتلك البلاد بمساعدته، والشد بيده، فأغلظ له تاج الدولة، وقال: هل أنت تابع لي؟ فقال آقسنقر: أنا أتابعك إلا في معصية السلطان، ورحل من الغد عن موضعه، فاضطر تاج الدولة إلى الرحيل، فرحل غضبان، وعاد بوزان أيضاً إلى بلاده، فانتقض هذا الأمر.
ذكر ملك السلطان اليمنوكان ممن حضر أيضاً عند السلطان ببغداد جبق أمير التركمان، وهو صاحب قرميسين وغيرها، فأمره السلطان أن يسير هو ومعه جماعة من أمراء السلطان ذكرهم، إلى الحجاز واليمن، ويكون أمرهم إلى سعد الدولة كوهرائين، ليفتحوا البلاد هناك، فاستعمل عليهم سعد الدولة أميراً اسمه ترشك، فساروا حتى وردوا اليمن، فاستولوا عليها، وأساءوا السيرة في أهلها، ولم يتركوا فاحشة ولا سيئة إلا ارتكبوها، وملكوا عدن، وظهر على ترشك الجدري، فتوفي في سابع يوم من وصوله إليها، وكان عمره سبعين سنة، فعاد أصحابه إلى بغداد، وحملوه، فدفنوه عند قبر أبي حنيفة، رحمة الله عليه.
ذكر مقتل نظام الملكفي هذه السنة، عاشر رمضان، قتل نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الوزير بالقرب من نهاوند، وكان هو والسلطان في أصبهان، وقد عاد إلى بغداد، فلما كان بهذا المكان، بعد أن فرغ من إفطاره، وخرج في محفته إلى خيمة حرمه، أتاه صبي ديلمي من الباطنية، في صورة مستميح، أو مستغيث، فضربه بسكين كانت معه، فقضى عليه وهرب، فعثر بطنب خيمة، فأدركوه فقتلوه، وركب السلطان إلى خيمه، فسكن عسكره وأصحابه.
وبقي وزير السلطان ثلاثين سنة سوى ما وزر للسلطان ألب أرسلان، صاحب خراسان، أيام عمه طغرلبك، قبل أن يتولى السلطنة، وكان علت سنه، فإنه كان مولده سنة ثمان وأربعمائة.
وكان سبب قتله أن عثمان بن جمال الملك بن نظام الملك كان قد ولاه جده نظام الملك رئاسة مرو، وأرسل السلطان إليها شحنة يقال له قودن، وهو من أكبر مماليكه، ومن أعظم الأمراء في دولته، فجرى بينه وبين عثمان منازعة في شيء، فحملت عثمان حداثة سنه، وتمكنه، وطمعه بجده، على أن قبض عليه، وأخرق به، ثم أطلقه، فقصد السلطان مستغيثاً شاكياً، فأرسل السلطان إلى نظام الملك رسالة مع تاج الدولة ومجد الملك البلاساني وغيرهما من أرباب دولته يقول له: إن كنت شريكي في الملك، ويدك مع يدي في السلطنة، فلذلك حكم، وإن كنت نائبي، وبحكمي، فيجب أن تلزم حد التبعية والنيابة، وهؤلاء أولادك قد استولى كل واحد منهم على كورة عظيمة، وولي ولاية كبيرة، ولم يقنعهم ذلك، حتى تجاوزوا أمر السياسة وطمعوا إلى أن فعلوا كذا وكذا، وأطال القول، وأرسل معهم الأمير يلبرد، وكان من خواصه وثقاته، وقال له: تعرفني ما يقول، فربما كتم هؤلاء شيئاً.
فحضروا عند نظام الملك وأوردوا عليه الرسالة، فقال لهم: قولوا للسلطان إن كنت ما علمت أني شريكك في الملك فاعلم، فإنك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيري ورأيي، أما يذكر حين قتل أبوه فقمت بتدبير أمره، وقمعت الخوارج عليه من أهله، وغيرهم، منهم: فلان وفلان، وذكر جماعة من خرج عليه، وهو ذلك الوقت يتمسك بي ويلزمني، ولا يخالفني، فلما قدت الأمور إليه، وجمعت الكلمة عليه، وفتحت له الأمصار القريبة والبعيدة، وأطاعه القاصي والداني، أقبل يتجنى لي الذنوب، ويسمع في السعايات؟ قولوا له عني: إن ثبات تلك القلنسوة معذوق بهذه الدواة، وإن اتفاقهما رباط كل رغيبة وسبب كل غنيمة، ومتى أطبقت هذه زالت تلك، فإن عزم على تغيير فليتزود للاحتياط قبل وقوعه، وليأخذ الحذر من الحادث أمام طروقه، وأطال فيما هذا سبيله، ثم قال لهم: قولوا للسلطان عني مهما أردتم، فقد أهمني ما لحقني من توبيخه وفت في عضدي.
فلما خرجوا من عنده اتفقوا على كتمان ما جرى عن السلطان، وأن يقولوا له ما مضمونه العبودية والتنصل، ومضوا إلى منازلهم، وكان الليل قد انتصف، ومضى يلبرد إلى السلطان فأعلمه ما جرى، وبكر الجماعة إلى السلطان، وهو ينتظرهم، فقالوا له من الاعتذار والعبودية ما كانوا اتفقوا عليه، فقال لهم السلطان: إنه لم يقل هذا، وإنما قال كيت وكيت، فأشاروا حينئذ بكتمان ذلك رعاية لحق نظام الملك، وسابقته، فوقع التدبير عليه، حتى تم عليه من القتل ما تم. ومات السلطان بعده بخمسة وثلاثين يوماً، وانحلت الدولة، ووقع السيف، وكان قول نظام الملك شبه الكرامة له، وأكثر الشعراء مراثيه، فمن جيد ما قيل فيه قول شبل الدولة مقاتل بن عطية:
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... يتيمة صاغها الرحمن من شرف
عزت، فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردها، غيرة منه، إلى الصدف
ورأى بعضهم نظام الملك بعد قتله في المنام، فسأله عن حاله، فقال: كان يعرض علي جميع عملي لولا الحديدة التي أصبت بها، يعني القتل.
ذكر ابتداء حاله وشيء من أخبارهأما ابتداء حاله، فكان من أبناء الدهاقين بطوس، فزال ما كان لأبيه من مال، وملك، وتوفيت أمه وهو رضيع، فكان أبوه يطوف به على المرضعات فيرضعنه حسبة، حتى شب، وتعلم العربية، وسر الله فيه يدعوه إلى علو الهمة، والاشتغال بالعلم، فتفقه، وصار فاضلاً، وسمع الحديث الكثير، ثم اشتغل بالأعمال السلطانية، ولم يزل الدهر يعلو به ويخفض حضراً وسفراً.
وكان يطوف بلاد خراسان، ووصل إلى غزنة في صحبة بعض المتصرفين، ثم لزم أبا علي بن شاذان متولي الأمور ببلخ لداود والد السلطان ألب أرسلان، فحسنت حاله معه، وظهرت كفايته وأمانته، وصار معروفاً عندهم بذلك، فلما حضرت أبا علي بن شاذان الوفاة أوصى الملك ألب أرسلان به، وعرفه حاله، فولاه شغله، ثم صار وزيراً له إلى أن ولي السلطنة بعد عمه طغرلبك، واستمر على الوزارة لأنه ظهرت منه كفاية عظيمة، وآراء سديدة قادت السلطنة إلى ألب أرسلان، فلما توفي ألب أرسلان قام بأمر ابنه ملكشاه، وقد تقدم ذكر هذه الجمل مستوفى مشروحاً.
وقيل إن ابتداء أمره أنه كان يكتب للأمير تاجر، صاحب بلخ، وكان الأمير يصادره في رأس كل سنة، ويأخذ ما معه، ويقول له: قد سمنت يا حسن! ويدفع إليه فرساً ومقرعة ويقول: هذا يكفيك، فلما طال ذلك عليه أخفى ولديه فخر الملك، ومؤيد الملك، وهرب إلى جغري بك داود، والد ألب أرسلان، فوقف فرسه في الطريق، فقال: اللهم إني أسألك فرساً تخلصني عليه! فسار غير بعيد، فلقيه تركماني وتحته فرس جواد، فقال لنظام الملك: انزل عن فرسك، فنزل عنه، فأخذه التركماني وأعطاه فرسه، فركبه وقال له: لا تنسني يا حسن. قال نظام الملك: فقويت نفسي بذلك، وعملت أنه ابتداء سعادة. فسار نظام الملك إلى مرو، ودخل على داود، فلما رآه أخذ بيده، وسلمه إلى والده ألب أرسلان، وقال له: هذا حسن الطوسي، فتسلمه، واتخذه والداً ولا تخالفه.
وكان الأمير تاجر لما سمع بهرب نظام الملك سار في أثره إلى مرو، فقال لداود: هذا كاتبي ونائبي قد أخذ أموالي، فقال له داود: حديثك مع محمد، يعني ألب أرسلان، فكان اسمه محمد، فلم يتجاسر تاجر على خطابه، فتركه وعاد.
وأما أخباره، فإنه كان عالماً، ديناً، جواداً، عادلاً، حليماً، كثير الصفح عن المذنبين طويل الصمت، كان مجلسه عامراً بالقراء، والفقهاء، وأئمة المسلمين، وأهل الخير والصلاح، أمر ببناء المدارس في سائر الأمصار والبلاد، وأجرى لها الجرايات العظيمة، وأملى الحديث بالبلاد: ببغداد وخراسان وغيرهما، وكان يقول: إني لست من أهل هذا الشأن، لما تولاه، ولكني أحب أن أجعل نفسي على قطار نقلة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان إذا سمع المؤذن أمسك عن كل ما هو فيه وتجنبه، فإذا فرغ لا يبدأ بشيء قبل الصلاة، وكان، إذا غفل المؤذن ودخل الوقت يأمره بالأذان، وهذا غاية حال المنقطعين إلى العبادة في حفظ الأوقات، ولزوم الصلوات.
وأسقط المكوس والضرائب، وأزال لعن الأشعرية من المنابر، وكان الوزير عميد الملك الكندري قد حسن للسلطان طغرلبك التقدم بلعن الرافضة، فأمره بذلك، فأضاف إليهم الأشعرية، ولعن الجميع، فلهذا فارق كثير من الأئمة بلادهم، مثل إمام الحرمين، وأبي القاسم القشيري، وغيرهما، فلما ولي ألب أرسلان السلطنة أسقط نظام الملك ذلك جميعه، وأعاد العلماء إلى أوطانهم.
وكان نظام الملك إذا دخل عليه الإمام أبو القاسم القشيري، والإمام أبو المعالي الجويني، يقوم لهما، ويجلس في مسنده، كما هو، وإذا دخل أبو علي الفارمذي يقوم إليه، ويجلسه في مكانه، ويجلس هو بين يديه، فقيل له في ذلك، فقال: إن هذين وأمثالهما إذ دخلوا علي يقولون لي: أنت كذا وكذا، يثنون علي بما ليس في، فيزيدني كلامهم عجباً وتيهاً، وهذا الشيخ يذكر لي عيوب نفسي، وما أنا فيه من الظلم، فتنكسر نفسي لذلك، وأرجع عن كثير مما أنا فيه.
وقال نظام الملك: كنت أتمنى أن يكون لي قرية خالصة، ومسجد أتفرد فيه لعبادة ربي، ثم بعد ذلك تمنيت أن يكون لي قطعة أرض أتقوت بريعها، ومسجد أعبد الله فيه، وأما الآن فأنا أتمنى أن يكون لي رغيف كل يوم، ومسجد أعبد الله فيه.
وقيل: كان ليلة يأكل الطعام، وبجانبه أخوه أبو القاسم، وبالجانب الآخر عميد خراسان، وإلى جانب العميد إنسان فقير، مقطوع اليد، فنظر نظام الملك، فرأى العميد يتجنب الأكل مع المقطوع، فأمره بالانتقال إلى الجانب الآخر، وقرب المقطوع إليه فأكل معه.
وكانت عادته أن يحضر الفقراء طعامه، ويقربهم إليه، ويدنيهم. وأخباره مشهورة كثيرة، قد جمعت لها المجاميع السائرة في البلاد.
ذكر وفاة السلطان وذكر بعض سيرتهسار السلطان ملكشاه، بعد قتل نظام الملك، إلى بغداد، ودخلها في الرابع والعشرين من شهر رمضان، ولقيه وزير الخليفة عميد الدولة بن جهير، وظهرت من تاج الملك كفاية عظيمة، وكان السلطان قد أمر أن تفصل خلع الوزارة لتاج الملك، وكان هو الذي سعى بنظام الملك، فلما فرغ من الخلع، ولم يبق غير لبسها والجلوس في الدست، اتفق أن السلطان خرج إلى الصيد، وعاد ثالث شوال مريضاً، وأنشب الموت أظفاره فيه، ولم يمنع عنه سعة ملكه، وكثرة عساكره.
وكان سبب مرضه أنه أكل لحم صيد فحم وافتصد، ولم يستوف إخراج الدم، فثقل مرضه، وكانت حمى محرقة، فتوفي ليلة الجمعة، النصف من شوال.
ولما ثقل نقل أرباب دولته أموالهم إلى حريم دار الخلافة، ولما توفي سترت زوجته تركان خاتون المعروفة بخاتون الجلالية موته وكتمته، وأعادت جعفر ابن الخليفة من ابنة السلطان إلى أبيه المقتدي بأمر الله، وسارت من بغداد والسلطان معها محمولاً، وبذلت الأموال للأمراء سراً، واستحلفتهم لابنها محمود، وكان تاج الملك يتولى ذلك لها، وأرسلت قوام الدولة كربوقا الذي صار صاحب الموصل إلى أصبهان بخاتم السلطان، فاستنزل مستحفظ القلعة، وتسلمها، وأظهر أن السلطان أمره بذلك، ولم يسمع بسلطان مثله لم يصل عليه أحد، ولم يلطم عليه وجه.
وكان مولده سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وكان من أحسن الناس صورة ومعنى، وخطب له من حدود الصين إلى آخر الشام، ومن أقاصي بلاد الإسلام في الشمال إلى آخر بلاد اليمن، وحمل إليه ملوك الروم الجزية، ولم يفته مطلب، وانقضت أيامه على أمن عام، وسكون شامل، وعدل مطرد.
ومن أفعاله أنه لما خرج عليه أخوه تكش بخراسان اجتاز بمشهد علي بن موسى الرضا بطوس، فزاره، فلما خرج قال لنظام الملك: بأي شيء دعوت؟ قال: دعوت الله أن ينصرك، فقال: أما أنا فلم أدع بهذا بل قلت: اللهم انصر أصلحنا للمسلمين، وأنفعنا للرعية.
وحكي عنه أن سوادياً لقيه وهو يبكي، فاستغاث به، وقال: كنت ابتعت بطيخاً بدريهمات لا أملك سواها، فغلبني عليه ثلاثة نفر من الأتراك، فأخذوه مني. فقال السلطان له: اقعد! ثم أحضر فراشاً وقال: قد اشتهيت بطيخاً، وكان ذلك عند أول استوائه، وأمره بطلبه من العسكر، فغاب ثم عاد ومعه البطيخ، فأمره بإحضار من وجده عنده، فأحضره، فسأله السلطان من أين له ذلك البطيخ؟ فقال غلماني جاؤوني به، فأمر أن يجيء بهم إليه، فمضى، وأمرهم بالهرب، وعاد فقال: لم أجدهم، فقال للسوادي: خذ مملوكي هذا فقد وهبته لك عوضاً عن بطيخك، ويحضر الذين أخذوه، والله لئن أطلقته لأضربن عنقك. فأخذه السوادي، فاشترى الغلام نفسه منه بثلاثمائة دينار، فعاد السوادي إلى الس، وقال: قد بعته نفسه بثلاثمائة دينار، فقال: أرضيت بذلك؟ قال: نعم! قال: امض مصاحباً.
وقال عبد السميع بن داود العباسي: شاهدت ملكشاه وقد أتاه رجلان من أرض العراق السفلى، من قرية الحدادية، يعرفان بابني غزال، فلقياه، فوقف لهما، فقالا: إن مقطعنا الأمير خماراتكين قد صادرنا بألف وستمائة دينار، وقد كسر ثنيتي أحدنا، وأراهما الس، وقد قصدناك لتقتص لنا منه، فإن أخذت بحقنا كما أوجب الله عليك، وإلا فالله يحكم بيننا.
قال فرأيت السلطان وقد نزل عن دابته وقال: ليمسك كل واحد منكما بطرف كمي، واسحباني إلى خواجه حسن، يعني نظام الملك، فامتنعا من ذلك، واعتذرا، وأقسم عليهما إلا فعلا، فأخذ كل واحد منهما بكم من كميه ومشى معهما إلى نظام الملك، فبلغه الخبر، فخرج مسرعاً فلقيه وقبل الأرض، وقال: يا سلطان العالم! ما حملك على هذا؟ فقال: كيف يكون حالي غداً عند الله إذا طولبت بحقوق المسلمين، وقد قلدتك هذا الأمر لتكفيني مثل هذا الموقف، فإن نال الرعية أذى فأنت المطالب، فانظر لي ولنفسك.
فقبل الأرض، ومشى في خدمته، وعاد من وقته، وكتب بعزل الأمير خمارتكين عن إقطاعه، ورد المال عليهما، وأعطاهما مائة دينار من عنده، وأمرهما بإثبات البينة أنه قلع ثنيتيه ليقلع ثنيتيه عوضهما، فرضيا وانصرفا.
وقيل إنه ورد بغداد ثلاث دفعات، فخافه الناس من غلاء الأسعار، وتعدي الجند، فكانت الأسعار أرخص منها قبل قدومه، وكان الناس يخترقون عساكره ليلاً ونهاراً، فلا يخافون أحداً، ولم يتعد عليهم أحد، وأسقط المكوس والمؤن من جميع البلاد، وعمر الطرق، والقناطر، والربط التي في المفاوز، وحفر الأنهار الخراب، وعمر الجامع ببغداد، وعمل المصانع بطريق مكة، وبنى البلد بأصبهان، وبنى منارة القرون بالسبيعي بطريق مكة، وبنى مثلها بما وراء النهر، واصطاد مرة صيداً كثيراً، فأمره بعده، فكان عشرة آلاف رأس، فأمر بصدقة عشرة آلاف دينار، وقال: إنني خائف من الله تعالى كيف أزهقت أرواح هذه الحيوانات بغير ضرورة ولا مأكلة، وفرق من الثياب والأموال بين أصحابه ما لا يحصى، وصار بعد ذلك كلما صاد شيئاً تصدق بعدده دنانير، وهذا فعل من يحاسب نفسه على حركاته وسكناته، وقد أكثر الشعراء مراثيه أيضاً.
وقيل إن بعض أمراء السلطان كان نازلاً بهراة مع بعض العلماء اسمه عبد الرحمن في داره، فقال يوماً ذلك الأمير للسلطان، وهو سكران: إن عبد الرحمن يشرب الخمر، ويعبد الأصنام من دون الله تعالى، ويحلل الحرام، فلم يجبه ملكشاه، فلما كان الغد صحا ذلك الأمير، فأخذ السلطان السيف، وقال له: اصدقني عن فلان، وإلا قتلتك! فطلب منه الأمان، فأمنه، فقال: إن عبد الرحمن له دار حسناء، وزوجة جميلة، فأردت أن تقتله فأفوز بداره وزوجته، فأبعده السلطان، وشكر الله تعالى على التوقف عن قبول سعايته، وتصدق بأموال جليلة المقدار.
ذكر ملك ابنه الملك محمود
وما كان من حال ابنه الأكبر بركيارق إلى أن ملكلما مات السلطان ملكشاه كتمت زوجته تركان خاتون موته، كما ذكرناه، وأرسلت إلى الأمراء سراً فأرضتهم، واستحلفتهم لولدها محمود، وعمره أربع سنين وشهور، وأرسلت إلى الخليفة المقتدي في الخطبة لولدها أيضاً، فأجابها، وشرط أن يكون اسم السلطنة لولدها، والخطبة له، ويكون المدبر لزعامة الجيوش، ورعاية البلد، هو الأمير أنر، ويصدر عن رأي تاج الملك، ويكون ترتيب العمال، وجباية الأموال إلى تاج الملك أيضاً، وكان تاج الملك هو الذي يدبر الأمر بين يدي خاتون.
فلما جاءت رسالة الخليفة إلى خاتون بذلك امتنعت من قبوله، فقيل لها: إن ولدك صغير، ولا يجيز الشرع ولايته، وكان المخاطب لها في ذلك الغزالي، فأذعنت له، وأجابت إليه، فخطب لولدها، ولقب ناصر الدنيا والدين، وكانت الخطبة يوم الجمعة الثاني والعشرين من شوال من السنة، وخطب له بالحرمين الشريفين.
ولما مات السلطان ملكشاه أرسلت تركان خاتون إلى أصبهان في القبض على بركيارق ابن السلطان، وهو أكبر أولاده، خافته أن ينازع ولدها في السلطنة، فقبض عليه، فلما ظهر موت ملكشاه وثب المماليك النظامية على سلاح كان لنظام الملك بأصبهان، فأخذوه وثاروا في البلد، وأخرجوا بركيارق من الحبس، وخطبوا له بأصبهان وملكوه، وكانت والدة بركيارق زبيدة ابنة ياقوتي بن داود، وهي ابنة عم ملكشاه، خائفة على ولدها من خاتون أم محمود، فأتاها الفرج بالمماليك النظامية.
وسارت تركان خاتون من بغداد إلى أصبهان، فطالب العسكر تاج الملك بالأموال، فوعدهم، فلما وصلوا إلى قلعة برجين صعد إليها لينزل الأموال منها، فلما استقر فيها عصى على خاتون، ولم ينزل خوفاً من العسكر، فساروا عنه، ونهبوا خزائنه، فلم يجدوا بها شيئاً، فإنه كان قد علم ما جرى، فاستظهر وأخفاه.
ولما وصلت تركان خاتون إلى أصبهان لحقها تاج الملك، واعتذر بأن مستحفظ القلعة حبسه، وأنه هرب منه إليها، فقبلت عذره.
وأما بركيارق فإنه لما قاربت خاتون وابنها محمود أصبهان خرج منها هو ومن معه من النظامية، وساروا نحو الري، فلقيهم أرغش النظامي في عساكره، ومعه جماعة من الأمراء، وصاروا يداً واحدة، وإنما حمل النظامية على الميل إلى بركيارق كراهتهم لتاج الملك لأنه عدو نظام الملك، والمتهم بقتله، فلما اجتمعوا حصروا قلعة طبرك وأخذوها عنوة، فسيرت خاتون العساكر إلى قتال بركيارق، فالتقى العسكران بالقرب من بروجرد، فانحاز جماعة من الأمراء الذين في عسكر خاتون إلى بركيارق، منهم: الأمير يلبرد، وكمشتكين الجاندار، وغيرهما، فقوي بهم، وجرت الحرب بينهم أواخر ذي الحجة، واشتد القتال، فانهزم عسكر خاتون وعادوا إلى أصبهان، وسار بركيارق في أثرهم فحصرهم بأصبهان.
ذكر قتل تاج الملككان تاج الملك مع عسكر خاتون، وشهد الوقعة، فهرب إلى نواحي بروجرد، فأخذ وحمل إلى عسكر بركيارق، وهو يحاصر أصبهان، وكان يعرف كفايته، فأراد أن يستوزره، فشرع تاج الملك في إصلاح كبار النظامية، وفرق فيهم مائتي ألف دينار سوى العروض، فزال ما في قلوبهم.
فلما بلغ عثمان نائب نظام الملك الخبر ساءه، فوضع الغلمان الأصاغر على الاستغاثة، وأن لا يقنعوا إلا بقتل قاتل صاحبهم، ففعلوا، فانفسخ ما دبره تاج الملك، وهجم النظامية عليه فقتلوه، وفصلوا أجزاء، وكان قتله في المحرم سنة ست وثمانين، وحملت إلى بغداد إحدى أصابعه.
وكان كثير الفضائل، جم المناقب، وإنما غطى محاسنه ممالأته على قتل نظام الملك، وهو الذي بنى تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وعمل المدرسة التي إلى جانبها، ورتب بها الشيخ أبا بكر الشاسي، وكان عمره حين قتل سبعاً وأربعين سنة.
؟؟
ذكر ما فعله العرب بالحجاج والكوفةسار الحجاج هذه السنة من بغداد، فقدموا الكوفة، ورحلوا منها، فخرجت عليهم خفاجة، وقد طمعوا بموت السلطان، وبعد العسكر، فأوقعوا بهم، وقتلوا أكثر الجند الذين معهم، وانهزم باقيهم، ونهبوا الحجاج، وقصدوا الكوفة فدخلوها، وأغاروا عليها، وقتلوا في أهلها، فرماهم الناس بالنشاب، فخرجوا بعد أن نهبوا، وأخذوا ثياب من لقوه من الرجال والنساء، وفصل الخبر إلى بغداد، فسيرت العساكر منها، فلما سمع بنو خفاجة انهزموا، فأدركهم العسكر، فقتل منهم خلق كثير، ونهبت أموالهم، وضعفت خفاجة بعد هذه الوقعة.
ذكر عدة حوادثفيها، في ربيع الأول، عاد السلطان من بغداد إلى أصبهان، وأخذ معه الأمير أبا الفضل جعفر ابن الخليفة المقتدي بأمر الله من ابنة السلطان، وتفرق الأمراء إلى بلادهم، ثم عاد إلى بغداد، فتوفي كما ذكرناه.
وفيها، في جمادى الأولى، احترق نهر المعلى، فاحترق عقد الحديد إلى خربة الهراس، إلى باب دار الضرب، واحترق سوق الصاغة والصيارف، والمخلطين، والريحانيين، وكان الحريق من الظهر إلى العصر، فاحترق منها الأمر العظيم في الزمان القليل، واحترق من الناس خلق كثير، ثم ركب عميد الدولة بن جهير، وزير الخليفة، وجمع السقائين، ولم يزل راكباً حتى طفئت النار.
وفي هذه السنة توفي عبد الباقي بن محمد بن الحسين بن ناقيا الشاعر البغدادي، سمع الحديث، وكان يتهم بأنه يطعن على الشرائع، فلما مات كانت يده مقبوضة، فلم يطق الغاسل فتحها، فبعد جهد فتحت فإذا فيها مكتوب:
نزلت بجار لا يخيب ضيفه، ... أرجي نجاتي من عذاب جهنم
وإني على خوفي من الله واثق ... بإنعامه، والله أكرم منعم
وفيها توفي هبة الله بن عبد الوارث بن علي بن أحمد أبو القاسم الشيرازي الحافظ، أحد الرحالين في طلب الحديث شرقاً وغرباً، وقدم الموصل من العراق، وهو الذي أظهر سماع الجعديات لأبي محمد الصريفيني، ولم يكن يعرف ذلك.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وأربعمائة
ذكر وزارة ابن نظام الملك لبركيارقكان عز الملك أبو عبد الله الحسين بن نظام الملك مقيماً بخوارزم، حاكماً فيها وفي كل ما يتعلق بها، إليه المرجع في كل أمورها السلطانية، فلما كان قبل أن يقتل أبوه حضر عنده خدمة له وللسلطان، فقتل أبوه، ومات السلطان، فأقام بأصبهان إلى الآن.
فلما حصرها بركيارق، وكان أكثر عسكره النظامية، خرج من أصبهان هو وغيره من إخوته، فلما اتصل ببركيارق احترمه، وأكرمه، وفوض أمور دولته إليه، وجعله وزيراً له.
ذكر حال تتش بن ألب أرسلانكان تتش بن ألب أرسلان صاحب دمشق وما جاورها من بلاد الشام، فلما كان قبل موت أخيه السلطان ملكشاه، سار من دمشق إليه ببغداد، فلما كان بهيت بلغه موته، فأخذ هيت، واستولى عليها، وعاد إلى دمشق يتجهز لطلب السلطنة، فجمع العساكر، وأخرج الأموال وسار نحو حلب، وبها قسيم الدولة آقسنقر، فرأى قسيم الدولة اختلاف أولاد صاحبه ملكشاه، وصغرهم، فعلم أنه لا يطيق دفع تتش، فصالحه، وصار معه، وأرسل إلى باغي سيان، صاحب أنطاكية، وإلى بوزان، صاحب الرها وحران، يشير عليهما بطاعة تاج الدولة تتش حتى يروا ما يكون من أولاد ملكشاه، ففعلوا، وصاروا معه، وخطبوا له في بلادهم، وقصدوا الرحبة، فحصروها، وملكوها في المحرم من هذه السنة، وخطب لنفسه بالسلطنة.
ثم ساروا إلى نصيبين، فحصروها، فسب أهلها تاج الدولة، ففتحها عنوة وقهراً، وقتل من أهلها خلقاً كثيراً، ونهبت الأموال، وفعل فيها الأفعال القبيحة، ثم سلمها إلى الأمير محمد بن شرف الدولة العقيلي، وسار يريد الموصل، وأتاه الكافي بن فخر الدولة بن جهير، وكان في جزيرة ابن عمر، فأكرمه، واستوزره.
ذكر وقعة المضيع وأخذ الموصل من العرب
كان إبراهيم بن قريش بن بدران، أمير بني عقيل، قد استدعاه السلطان ملكشاه سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة ليحاسبه، فلما حضر عنده اعتقله، وأنفذ فخر الدولة بن جهير إلى البلاد، فملك الموصل وغيرها، وبقي إبراهيم مع ملكشاه، وسار معه إلى سمرقند، وعاد إلى بغداد، فلما مات ملكشاه أطلقته تركان خاتون من الاعتقال، فسار إلى الموصل.
وكان ملكشاه قد أقطع عمته صفية مدينة بلد، وكانت زوجة شرف الدولة، ولها منه ابنها علي، وكانت قد تزوجت بعد شرف الدولة بأخيه إبراهيم، فلما مات ملكشاه قصدت الموصل، ومعها ابنها علي، فقصدها محمد بن شرف الدولة، وأراد أخذ الموصل، فافترقت العرب فرقتين: فرقة معه، وأخرى مع صفية وابنها علي، واقتتلوا بالموصل عند الكناسة، فظفر علي، وانهزم محمد، وملك علي الموصل.
فلما وصل إبراهيم إلى جهينة، وبينه وبين الموصل أربعة فراسخ، سمع أن الأمير علياً ابن أخيه شرف الدولة قد ملكها، ومعه أمه صفية، عمة ملكشاه، فأقام مكانه، وراسل صفية خاتون، وترددت الرسل، فسلمت البلد إليه، فأقام به.
فلما ملك تتش نصيبين أرسل إليه يأمره أن يخطب له بالسلطنة، ويعطيه طريقاً إلى بغداد لينحدر، ويطلب الخطبة بالسلطنة، فامتنع إبراهيم من ذلك، فسار تتش إليه، وتقدم إبراهيم أيضاً نحوه، فالتقوا بالمضيع، من أعمال الموصل، في ربيع الأول، وكان إبراهيم في ثلاثين ألفاً، وكان تتش في عشرة آلاف، وكان آقسنقر على ميمنته، وبوزان على ميسرته، فحمل العرب على بوزان، فانهزم، وحمل آقسنقر على العرب فهزمهم، وتمت الهزيمة على إبراهيم والعرب، وأخذ إبراهيم أسيراً وجماعة من أمراء العرب، فقتلوا صبراً، ونهبت أموال العرب وما معهم من الإبل والغنم والخيل وغير ذلك، وقتل كثير من نساء العرب أنفسهن خوفاً من السبي والفضيحة.
وملك تتش بلادهم الموصل وغيرها، واستناب بها علي بن شرف الدولة مسلم، وأمه صفية عمة تتش، وأرسل إلى بغداد يطلب الخطبة، وساعده كوهرائين على ذلك، فقيل لرسوله: إنا ننتظر وصول الرسل من العسكر، فعاد إلى تتش بالجواب.
ذكر ملك تتش ديار بكر وأذربيجان
وعوده إلى الشامفلما فرغ تاج الدولة تتش من أمر العرب، وملك الموصل وغيرها من بلادهم، سار إلى ديار بكر في ربيع الآخر، فملك ميافارقين وسائر ديار بكر من ابن مروان، وسار منها إلى أذربيجان. فانتهى خبره إلى ابن أخيه ركن الدين بركيارق، وكان قد استولى على كثير من البلاد، منها: الري، وهمذان، وما بينهما، فلما تحقق الحال سار في عساكره ليمنع عمه عن البلاد، فلما تقارب العسكران قال قسيم الدولة آقسنقر لبوزان: إنما أطعنا هذا الرجل لننظر ما يكون من أولاد صاحبنا، والآن فقد ظهر ابنه، ونريد أن نكون معه. فاتفقا على ذلك وفارقا تتش، وصارا مع بركيارق.
فلما رأى تاج الدولة تتش ذلك علم أنه لا قوة له بهم، فعاد إلى الشام، واستقامت البلاد لبركيارق، فلما قوي أمره سار كوهرائين إلى العسكر يعتذر من مساعدته لتاج الدولة تتش، وأعانه برسق، وتعصب عليه كمشتكين الجاندار، فأخذ إقطاعه، وأعطي الأمير يلبرد زيادة، وولي شحنكية بغداد عوض كوهرائين، وتفرق عن كوهرائين أصحابه، فكان ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر حصر عسكر مصر صور
وملكهم لهافي هذه السنة، في جمادى الآخرة، ملك عسكر المستنصر بالله العلوي، صاحب مصر، مدينة صور.
وسبب ذلك ما ذكرناه سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة: إن أمير الجيوش بدراً، وزير المستنصر، سير العساكر إلى مدينة صور، وغيرها، من ساحل الشام، وكان من بها قد امتنع من طاعتهم، فملكها، وقرر أمورها، وجعل فيها الأمراء.
وكان قد ولى مدينة صور الأمير الذي يعرف بمنير الدولة الجيوشي، فعصى على المستنصر وأمير الجيوش، وامتنع بصور، فسيرت العساكر من مصر إليه، وكان أهل صور قد أنكروا على منير الدولة عصيانه على سلطانه، فلما وصل العسكر المصري إلى صور وحصروها وقاتلوها ثار أهلها، ونادوا بشعار المستنصر وأمير الجيوش، وسلموا البلد، وهجم العسكر المصري بغير مانع ولا مدافع، ونهب من البلد شيء كثير، وأسر منير الدولة ومن معه من أصحابه، وحملوا إلى مصر، وقطع على أهل البلد ستون ألف دينار، فأجحفت بهم.
ولما وصل منير الدولة إلى مصر ومعه الأسرى قتلوا جميعهم ولم يعف عن واحد منهم.
ذكر قتل إسماعيل بن ياقوتيفي هذه السنة، في شعبان، قتل إسماعيل بن ياقوتي بن داود، وهو خال بركيارق، وابن عم ملكشاه.
وسبب قتله أنه كان بأذربيجان أميراً عليها، فأرسلت إليه تركان خاتون، زوجة ملكشاه، تطمعه أن تتزوج به، وتدعوه إلى محاربة بركيارق، فأجابها إلى ذلك، وجمع خلقاً كثيراً من التركمان وغيرهم، وصار أصحاب سرهنك ساوتكين في خيله، وأرسلت إليه تركان خاتون كربوقا، وغيره من الأمراء، في عسكر كثير مدداً له، فجمع بركيارق عساكره، وسار إلى حرب خاله إسماعيل، فالتقوا عند الكرج، فانحاز الأمير يلبرد إلى بركيارق، وصار معه، فانهزم إسماعيل وعسكره، وتوجه إلى أصبهان، فأكرمته تركان خاتون، وخطبت له، وضربت اسمه على الدينار بعد ابنها محمود بن ملكشاه.
وكاد الأمر في الوصلة يتم بينهما، فامتنع الأمراء من ذلك لا سيما الأمير أنر، وهو مدبر الأمر، وصاحب الجيش، وآثروا خروج إسماعيل عنهم، وخافوه، وخاف هو أيضاً منهم، ففارقهم، وراسل أخته زبيدة والدة بركيارق في اللحاق بهم، فأذنت له في ذلك، فوصل إليهم، وأقام عندهم أياماً يسيرة، فخلا به كمشتكين الجاندار، وآقسنقر، وبوزان، وبسطوه في القول، فأطلعهم على سره، وأنه يريد السلطنة، وقتل بركيارق، فوثبوا عليه فقتلوه، وأعلموا أخته خبره فسكتت عنه.
ذكر أخذ الحجاجفي هذه السنة انقطع الحج من العراق لأسباب أوجبت ذلك، وسار الحاج من دمشق مع أمير أقامه تاج الدولة تتش صاحبها، فلما قضوا حجهم وعادوا سائرين سير أمير مكة، وهو محمد بن أبي هاشم، عسكراً فلحقوهم بالقرب من مكة، ونهبوا كثيراً من أموالهم وجمالهم، فعادوا إليها، ولقوه، وسألوه أن يعيد عليهم ما أخذ منهم، وشكوا إليه بعد ديارهم، فأعاد بعض ما أخذ منهم، فلما أيسوا منه ساروا من مكة عائدين على أقبح صورة، فلما أبعدوا عنها ظهر عليهم جموع من العرب في عدة جهات، فصانعوهم على مال أخذوه من الحاج، بعد أن قتل منهم جماعة وافرة، وهلك فيه قوم بالضعف والانقطاع، وعاد السالم على أقبح صورة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في جمادى الأولى، قدم إلى بغداد أردشيرين بن منصور أبو الحسين الواعظ، العبادي، وأكثر الوعظ بالمدرسة النظامية، وهو مروزي، وقدم بغداد قاصداً للحج، وكان له قبول عظيم، بحيث أن الغزالي وغيره من الأئمة ومشايخ الصوفية الكبار يحضرون مجلسه، وذرع في بعض المجالس الأرض التي فيها الرجال، فكان طولها مائة وخمس وسبعين ذراعاً، وعرضها مائة وعشرين ذراعاً، وكانوا يزدحمون ازدحاماً كثيراً، وكان النساء أكثر من ذلك، وكان له كرامات ظاهرة، وعبادات كثيرة.
وكان سبب منعه من الوعظ أنه نهى أن يتعامل الناس ببيع القراضة بالصحيح، وقال هو ربا، فمنع من الوعظ، وأخرج من البلد.
وفيها وقعت الفتنة ببغداد بني العامة، وقصد كل فريق الفريق الآخر، وقطعوا الطرقات بالجانب الغربي، وقتل أهل النصرية مصلحياً، فأرسل كوهرائين فأحرقها، واتصلت الفتنة بين أهل الكرخ وباب البصرة، وكان للعميد الأغر أبي المحاسن الدهستاني في إطفاء هذه الفتنة أثر حسن.
وفيها، في شعبان، سار سيف الدولة صدقة بن مزيد إلى السلطان بركيارق، فلقيه بنصيبين، وسار معه إلى بغداد، فوصلها في ذي القعدة ومعه وزيره عز الملك بن نظام الملك، وخرج عميد الدولة والناس إلى لقائه من عقرقوف.
وفيها ولد للمستظهر بالله ولد سمي الفضل، وكني أبا منصور، ولقب عمدة الدين، وهو المسترشد بالله.
وفيها، في رمضان، قتل الأمير يلبرد، قتله بركيارق، وكان من الأمراء الكبار مع أبيه، فزاده بركيارق إقطاع كوهرائين، وشحنكية بغداد، فلما وصل إلى دقوقا أعيد منها لأنه تكلم، فيما يتعلق بوالدة السلطان بركيارق، بكلام شنيع، فلما وصل إليه أصبح مقتولاً.
وفيها، في المحرم، توفي علي بن أحمد بن يوسف أبو الحسن القرشي، الهكاري، المعروف بشيخ الإسلام، وكان فاضلاًن عابداً، كثير السماع، إلا أن الغرائب في حديثه كثيرة لا يدرى ما سببها، والأمير أبو نصر علي بن هبة الله بن علي بن جعفر العجلي، المعروف بابن ماكولا، مصنف كتاب الإكمال، قتله غلمانه الأتراك بكرمان، ومولده سنة اثنتين وأربعمائة، وكان حافظاً.
وفيها، في صفر، توفي أبو محمد عامر الضرير، وكان فقيهاً شافعياً، مقرئاً، نحوياً، وكان يصلي في رمضان بالإمام المقتدي بأمر الله.
وفي جمادى الأولى توفي الأمير أبو الفضل جعفر بن المقتدي، وأمه ابنة السلطان ملكشاه، وإليه تنسب الجعفريات.
وفي رجب توفي الشيخ أبو سعد عبد الواحد بن أحمد بن المحسن الوكيل بالمخزن، وكان فقيهاً شافعياً، كثير الإحسان إلى أهل العلم، وكان محموداً في ولايته.
وفيها توفي كمال الملك الدهستاني الذي كان عميد بغداد.
وفي رمضان توفي المشطب بن محمد الحنفي بالكحيل من أرض الموصل، وكان الخليفة قد أرسله إلى بركيارق، وكان بالموصل، ومعه تاج الرؤساء أبو نصر بن الموصلايا، وكان شيخاً كبيراً، عالماً، مكرماً عند الملوك، وحمل إلى العراق، ودفن عند أبي حنيفة.
وفيه توفي القاضي أبو علي يعقوب بن إبراهيم المرزباني، قاضي باب الأزج، وولي مكانه القاضي ابو المعالي عزيزي، وكان أبو المعالي شافعياً، أشعرياً، مغالياً، وله مع أهل باب الأزج أقاصيص وحكايات عجيبة.
وفيها توفي نصر بن الحسن بن القاسم بن الفضل أبو الليث، وأبو الفتح التنكتي، له كنيتان، سافر في البلاد شرقاً وغرباً، روى صحيح مسلم وغيره، وكان ثقة، ومولده سنة ست وأربعمائة.
وفي ذي الحجة منها توفي أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الحنبلي، الفقيه وكان وافر العلم، غزير الدين، حسن الوعظ والسمت.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وأربعمائة
ذكر الخطبة للسلطان بركيارقفي هذه السنة، يوم الجمعة رابع عشر المحرم، خطب ببغداد للسلطان بركيارق بن ملكشاه، وكان قدمها أواخر سنة ست وثمانين، وأرسل إلى الخليفة المقتدي بأمر الله يطلب الخطبة، فأجيب إلى ذلك، وخطب له، ولقب ركن الدين.
وحمل الوزير عميد الدولة بن جهير الخلع إلى بركيارق، فلبسها، وعرض التقليد على الخليفة ليعلم عليه، فعلم فيه، وتوفي فجأة على ما نذكره، إن شاء الله تعالى، وولي ابنه الإمام المستظهر بالله الخلافة، فأرسل الخلع والتقليد إلى السلطان بركيارق، فأقام ببغداد إلى ربيع الأول من السنة، وسار عنها إلى الموصل.
ذكر وفاة المقتدي بأمر اللهفي هذه السنة، يوم السبت خامس عشر المحرم، توفي الإمام المقتدي بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن الذخيرة بن القائم بأمر الله أمير المؤمنين فجأة، وكان قد أحضر عنده تقليد السلطان بركيارق ليعلم فيه، فقرأه، وتدبره، وعلم فيه، ثم قدم إليه طعام، فأكل منه، وغسل يديه، وعنده قهرمانته شمس النهار، فقال لها: ما هذه الأشخاص التي دخلت علي بغير إذن؟ قالت: فالتفت فلم أر شيئاً، ورأيته قد تغيرت حالته، واسترخت يداه ورجلاه، وانحلت قوته، وسقط إلى الأرض، فظننتها غشية قد لاحقته، فحللت أزرار ثوبه، فوجدته وقد ظهرت عليه أمارات الموت، ومات لوقته.
قالت: فتماسكت، وقلت لجارية عندي: ليس هذا وقت إظهار الجزع والبكاء، فإن صحت قتلتك، وأحضرت الوزير فأعلمته الحال، فشرعوا في البيعة لولي العهد، وجهزوا المقتدي، وصلى عليه ابنه المستظهر، بالله، ودفنوه، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة وثمانية أشهر وسبعة أيام، وكانت خلافته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر غير يومين، وأمه أم ولد أرمنية تسمى أرجوان، وتدعى قرة العين، أدركت خلافته، وخلافة ابنه المستظهر بالله، وخلافة ابن ابنه المسترشد بالله.
ووزر له فخر الدولة أبو نصر بن جهير، ثم أبو شجاع، ثم عميد الدولة أبو منصور بن جهير.
وقضاته: أبو عبد الله الدامغاني، ثم أبو بكر الشامي.
وكانت أيامه كثيرة الخير، واسعة الرزق، وعظمت الخلافة أكثر مما كان من قبله، وانعمرت ببغداد عدة محال في خلافته منها: البصلية، والقطيعة، والحلبة، والمقتدية، والأجمة، ودرب القيار، وخربة ابن جردة، وخربة الهراس، والخاتونيتين.
وأمر بنفي المغنيات والمفسدات من بغداد، وبيع دورهن، فنفين، ومنع الناس أن يدخل أحد الحمام إلا بمئزر، وقلع الهرادي، والأبراج التي للطيور، ومنع من اللعب بها لأجل الاطلاع على حرم الناس، ومنع من إجراء ماء الحمامات إلى دجلة، وألزم أربابها بحفر آبار للمياه، وأمر أن من يغسل السمك المالح يعبر إلى النجمي فيغسله هناك، ومنع الملاحين أن يحملوا الرجال والنساء مجتمعين، وكان قوي النفس، عظيم الهمة من رجال بني العباس.
ذكر خلافة المستظهر باللهلما توفي المقتدي بأمر الله، أحضر ولده أبو العباس أحمد المستظهر بالله، وأعلم بموته، وحضر الوزير فبايعه، وركب إلى السلطان بركيارق، فأعلمه الحال، وأخذ بيعته للمستظهر بالله.
فلما كان اليوم الثالث من موت المقتدي أظهر ذلك، وحضر عز الملك ابن نظام الملك وزير بركيارق، وأخوه بهاء الملك، وأمراء السلطان، وجمع أرباب المناصب: النقيبان طراد العباسي، والمعمر العلوي في أصحابهما، وقاضي القضاة، والغزالي، والشاشي، وغيرهما من العلماء، فجلسوا في العزاء، وبايعوا، وكان للمستظهر بالله لما بويع ست عشرة سنة وشهران.
ذكر قتل قسيم الدولة آقسنقر
وملك تتش حلب والجزيرة وديار بكر وأذربيجان وهمذان والخطبة له ببغدادفي هذه السنة، في جمادى الأولى، قتل قسيم الدولة آقسنقر، جد ملوكنا بالموصل الآن، أولاد الشهيد زنكي بن آقسنقر.
وسبب قتله أن تاج الدولة تتش لما عاد من أذربيجان منهزماً لم يزل يجمع العساكر، فكثرت جموعه، وعظم حشده، فسار في هذا التاريخ عن دمشق نحو حلب ليطلب السلطنة، فاجتمع قسيم الدولة آقسنقر، وبوزان، وأمدهما ركن الدين بركيارق بالأمير كربوقا الذي صار بعد صاحب الموصل، فلما اجتمعوا ساروا إلى طريقه، فلقوه عند نهر سبعين قريباً من تل السلطان، بينه وبين حلب ستة فراسخ، واقتتلوا، واشتد القتال، فخامر بعض العسكر الذين مع آقسنقر، فانهزموا، وتبعهم الباقون، فتمت الهزيمة، وثبت آقسنقر، فأخذ أسيراً، وأحضر عند تتش، فقال له: لو ظفرت بي ما كنت صنعت؟ قال: كنت أقتلك! فقال له: أنا أحكم عليك بما كنت تحكم علي، فقتله صبراً.
وسار نحو حلب، وكان قد دخل إليها كربوقا، وبوزان، فحفظاها منه، وحصرها تتش ولج في قتالها حتى ملكها، سلمها إليه المقيم بقلعة الشريف، ومنها دخل البلد، وأخذهما أسيرين، وأرسل إلى حران والرها ليسلموه من بهما وكانتا لبوزان، فامتنعوا من التسليم غليه، فقتل بوزان، وأرسل رأسه إليهم وتسلم البلدين.
وأم كربوقا فإنه أرسله إلى حمص، فسجنه بها إلى أن أخرجه الملك رضوان بعد قتل أبيه تتش.
وكان قسيم الدولة أحسن الأمراء سياسة لرعيته، وحفظاً لهم، وكانت بلاده بين رخص عام، وعدل شامل، وأمن واسع، وكان قد شرط على أهل كل قرية من بلاده، متى أخذ عندهم قفل، أو أحد من الناس، غرم أهلها جميع ما يؤخذ من الأموال من قليل وكثير، فكانت السيارة، إذا بلغوا قرية من بلاده، ألقوا رحالهم وناموا، وحرسهم أهل القرية إلى أن يرحلوا، فأمنت الطرق.
وأما وفاؤه، وحسن عهده، فيكفيه فخراً أنه قتل في حفظ بيت صاحبه وولي نعمته.
فلما ملك تتش حران والرها سار إلى الديار الجزرية فملكها جميعها، ثم ملك ديار بكر وخلاط، وسار إلى أذربيجان فملك بلادها كلها، ثم سار منها إلى همذان فملكها، ورأى بها فخر الملك بن نظام الملك، وكان بخراسان، فسار منها إلى السلطان بركيارق ليخدمه، فوقع عليه الأمير قماج، وهو من عسكر محمود ابن السلطان ملكشاه بأصبهان، فنهب فخر الملك، فهرب منه ونجا بنفسه، فجاء إلى همذان فصادفه تتش بها، فأراد قتله، فشفع فيه باغي سيان، وأشار عليه أن يستوزره لميل الناس إلى بيته، فاستوزره، وأرسل إلى بغداد يطلب الخطبة من الخليفة المستظهر بالله، وكان شحنته ببغداد ايتكين جب، فلازم الخدمة بالديوان، وألح في طلبها، فأجيب إلى ذلك، بعد أن سمعوا أن بركيارق قد انهزم من عسكر عمه تتش، على ما نذكره.
ذكر انهزام بركيارق من عمه تتش
وملكه أصبهان بعد ذلكفي هذه السنة، في شوال، انهزم بركيارق من عسكر عمه تتش. وكان بركيارق بنصيبين، فلما سمع بمسير عمه إلى أذربيجان، سار هو من نصيبين، وعبر دجلة من بلد فوق الموصل، وسار إلى إربل، ومنها إلى بلد سرخاب بن بدر إلى أن لقي بينه وبين عمه تسعة فراسخ، ولم يكن معه غير ألف رجل، وكان عمه في خمسين ألف رجل، فسار الأمير يعقوب بن آبق من عسكر عمه، فكبسه وهزمه، ونهب سواده، ولم يبق معه إلا برسق، وكمشتكين الجاندار، واليارق، وهم من الأمراء الكبار، فسار إلى أصبهان.
وكانت خاتون أم أخيه محمود قد ماتت، على ما نذكره، فمنعه من بها من الدخول إليها، ثم أذنوا له خديعة منهم ليقبضوا عليه، فلما قاربها خرج أخوه الملك محمود فلقيه، ودخل البلد، واحتاطوا عليه، فاتفق أن أخاه محموداً حم وجدر، فأراد الأمراء أن يكحلوا بركيارق، فقال لهم أمين الدولة ابن التلميذ الطبيب: إن الملك محموداً قد جدر، وما كأنه يسلم منه، وأراكم تكرهون أن يليكم، ويملك البلاد تاج الدولة، فلا تعجلوا على بركيارق، فإن مات محمود أقيموه ملكاً، وإن سلم محمود فأنتم تقدرون على كحله. فمات محمود سلخ شوال، فكان هذا من الفرج بعد الشدة، وجلس بركيارق للعزاء بأخيه.
وكان مولد محمود في صفر سنة ثمانين وأربعمائة. وقصده مؤيد الملك بن نظام الملك، فاستوزره في ذي الحجة، وكان أخوه عز الملك بن نظام الملك قد مات لما كان مع بركيارق بالموصل، وحمل إلى بغداد، فدفن بالنظامية، وكان أصبح الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً وسيرة، وكان قد أجرى الناس على ما بأيديهم من توقيعات أبيه في الإطلاقات من خاصته، منها ببغداد مائتا كر غلة، وثمانية عشر ألف دينار أميري.
ثم إن بركيارق جدر، بعد أخيه، وعوفي وسلم، فلما عوفي كاتب مؤيد الملك وزيره الأمراء العراقيين، والخراسانيين، واستمالهم، فعادوا كلهم إلى بركيارق، فعظم شأنه وكثر عسكره.
ذكر وفاة أمير الجيوش بمصرفي هذه السنة، في ذي القعدة، توفي أمير الجيوش بدر الجمالي، صاحب الجيش بمصر، وقد جاوز ثمانين سنة، وكان هو الحاكم في دولة المستنصر، والمرجوع إليه.
وكان قد استعمله على الشام سنة خمس وخمسين وأربعمائة، وجرى بينه وبين الرعية والجند بدمشق ما خاف منه عى نفسه، فخرج عنها هارباً، وجمع وحشد، وقدم إلى الشام فاستولى عليه بأسره سنة ست وخمسين، ثم خالفه أهل دمشق مرة أخرى، فهرب منهم سنة ستين، وخرب العامة والجند قرص الإمارة، ثم مضى أمير الجيوش إلى مصر، وتقدم بها، وصار صاحب الأمر.
قال علقمة بن عبد الرزاق العليمي: قصدت بدراً الجمالي بمصر، فرأيت أشراف الناس وكبراءهم وشعراءهم على بابه، قد طال مقامهم ولم يصلوا إليه، قال: فبينا أنا كذلك إذ خرج بدر يريد الصيد، فخرج علقمة في أثره، وأقام إلى أن رجع من صيده، فلما قاربه وقف على نشز من الأرض، وأومأ برقعة في يده، وأنشأ يقول:
نحن التجا قنا، ... درٌ وجود يمينك المبتاع
قلب، وفتشها بسمعك إنما ... هي جوهر تختاره الأسماع
كسدت علينا بالشآم، وكلما ... قل النفاق تعطل الصناع
فأتاك يحملها إليك تجارها ... ومطيها الآمال والأطماع
حتى أناخوها ببابك، والرجا ... من دونك السمسار والبياع
فوهبت ما لم يعطه في دهره ... هرم، ولا كعب، ولا القعقاع
وسبقت هذا الناس في طلب العلى ... فالناس، بعدك كلهم أتباع
يا بدر أقسم لو بك اعتصم الورى، ... ولجوا إليك جميعهم، ما ضاعوا
وكان على يد بدر بازي فألقاه وانفرد عن الجيش، وجعل يسترد الأبيات وهو ينشدها إلى أن استقر في مجلسه، ثم قال لجماعة غلمانه وخاصته: من أحبني فليخلع على هذا الشاعر، فخرج من عنده ومعه سبعون بغلاً، يحمل الخلع والتحف، وأمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج من عنده وفرق كثيراً من ذلك على الشعراء، ولما مات بدر قام بما كان إليه ابنه الأفضل.
ذكر وفاة المستنصر وولاية ابنه المستعليفي هذه السنة، ثامن عشر ذي الحجة، توفي المستنصر بالله أبو تميم معد بن أبي الحسن علي الظاهر لإعزاز دين الله العلوي، صاحب مصر والشام، وكانت خلافته ستين سنة وأربعة أشهر، وكان عمره سبعاً وستين سنة، وهو الذي خطب به البساسيري ببغداد، وقد ذكرنا ذلك.
وكان الحسن بن الصباح، رئيس هذه الطائفة الإسماعيلية، قد قصده في زي تاجر، واجتمع به وخاطبه في إقامة الدعوة له ببلاد العجم، فعاد ودعا الناس إليه سراً، ثم أظهرها، وملك القلاع، كما ذكرناه، وقال للمستنصر: من إمامي بعدك؟ فقال: ابني نزار، وهو أكبر أولاده، والإسماعيلية إلى يومنا هذا يقولون بإمامة نزار.
ولقي المستنصر شدائد وأهوالاً، وانفتقت عليه بديار مصر، أخرج فيها أمواله وذخائره إلى أن بقي لا يملك غير سجادته التي يجلس عليها، وهو مع هذا صابر خاشع، وقد أتينا على ذكر هذا سنة سبع وستين وأربعمائة وغيرها.
ولما مات ولي بعده ابنه أبو القاسم أحمد المستعلي بالله، ومولده في المحرم سنة سبع وستين وأربعمائة، وكان قد عهد في حياته بالخلافة لابنه نزار، فخلعه الأفضل وبايع المستعلي بالله.
وسبب خلعه أن الأفضل ركب مرة، أيام المستنصر، ودخل دهليز القصر من باب الذهب راكباً، ونزار خارج، والمجاز مظلم، فلم يره الأفضل، فصاح به نزار: انزل، يا أرمني، كلب، عن الفرس، ما أقل أدبك! فحقدها عليه، فلما مات المستنصر خلعه خوفاً منه على نفسه، وبايع المستعلي، فهرب نزار إلى الإسكندرية، وبها ناصر الدولة أفتكين، فبايعه أهل الإسكندرية وسموه المصطفى لدين الله، فخطب الناس، ولعن الأفضل، وأعانه أيضاً القاضي جلال الدولة بن عمار، قاضي الإسكندرية، فسار إليه الأفضل، وحاصره بالإسكندرية، فعاد عنه مقهوراً، ثم ازداد عسكراً، وسار إليه، فحصره وأخذه، وأخذ أفتكين فتقله، وتسلم المستعلي نزاراً فبنى عليه حائطاً فمات، وقتل القاضي جلال الدولة بن عمار ومن أعانه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الآخر، رأى بعض اليهود بالغرب رؤيا أنهم سيطيرون، فأخبر اليهود بذلك، فوهبوا أموالهم وذخائرهم، وجعلوا ينتظرون الطيران، فلم يطيروا، وصاروا ضحكة بين الأمم.
وفي هذا الشهر كانت بالشام زلازل كثيرة متتابعة يطول مكثها، إلا أنه لم يكن الهدم كثيراً.
وفيها كانت الفتنة بين أهل نهر طابق وأهل باب الأرجا، فاحترقت نهر طابق، وصارت تلولاً، فلما احترقت عبر يمن، صاحب الشرطة، فقتل رجلاً مستوراً، فنفر الناس منه، وعزل في اليوم الثالث.
وفيها توفي محمد بن أبي هاشم الحسيني، أمير مكة، وقد جاوز سبعين سنة، ولم يكن له ما يمدح به، وكان قد نهب بعض الحجاج سنة ست وثمانين وقتل منهم خلقاً كثيراً.
وفيها، في ربيع الأول، قتل السلطان بركيارق عمه تكش وغرقه، وقتل ولده معه، وكان ملكشاه قد أخذه، لما خرج عليه، وكحله، وحبسه بقلعة تكريت، فلما ملك بركيارق أحضره إليه ببغداد، وسار بمسيره، فظفر بملطفات إليه من أخيه تتش يحثه على اللحاق به، وقيل إنه أراد المسير إلى بلخ لأن أهلها كانوا يريدونه، فقتله، فلما غرق بقي بسر من رأى، فحمل إلى بغداد، فدفن عند قبر أبي حنيفة.
وفيها، في جمادى الآخرة، كانت وقعة بين الأمير أنر وتورانشاه، ابن قاورت بك، وكانت تركان خاتون الجلالية، والدة محمود بن ملكشاه، قد أرسلته في عسكر ليأخذ بلاد فارس من تورانشاه، ولم يحسن الأمير أنر تدبير بلاد فارس، فاستوحش منه الأجناد، واجتمعوا مع تورانشاه وهزموا أنر، ومات تورانشاه، بعد الكسرة بشهر، من سهم أصابه فيها.
وفيها استولى أصبهبذ بن ساوتكين على مكة، حرسها الله، عنوة، وهرب منها الأمير قاسم بن أبي هاشم العلوي صاحبها، وأقام بها إلى شوال، وجمع الأمير قاسم وكبسه بعسفان، وجرى بينهما حرب في شوال من هذه السنة، فانهزم أصبهبذ، ودخل قاسم إلى مكة، ومضى أصبهبذ إلى الشام وقدم إلى بغداد.
وفيها، في رجب، أحرق شحنة بغداد، وهو أيتكين، جب باب البصرة، وسبب ذلك أن النقيب طراداً الزينبي كان له كاتب يعرف بابن سنان، فقتل، فأنفذ النقيب إلى الشحنة يستدعي منه من يقيم السياسة، فأنفذ حاجبه محمداً، فرجمه أهل باب البصرة، وأدموه، فرجع إلى صاحبه فشكا إليه منهم، فأمر أخاه بقصدهم ومعاقبتهم على فعلهم، فسار إليهم في جماعة كثيرة، وتبعهم أهل الكرخ، فأحرقوا ونهبوا، فأرسل الخليفة إلى الشحنة يأمره بالكف عنهم فكف.
وفيها، في رمضان، توفيت تركان خاتون الجلالية بأصبهان، وهي ابنة طفغاج خان، وهو من نسل افراسياب التركي، وكانت قد برزت من أصبهان لتسير إلى تاج الدولة تتش لتتصل به، فمرضت وعادت وماتت، وأوصت إلى الأمير أنر وإلى الأمير سرمز شحنة أصبهان بحفظ المملكة على ابنها محمود، ولم يكن بقي بيداها سوى قصبة أصبهان، ومعها عشرة آلاف فارس أتراك.
وفيها، في ذي القعدة، توفي أبو الحسين بن الموصلايا، كاتب ديوان الزمام ببغداد.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وأربعمائة
ذكر دخول جمع من الترك إفريقية
وما كان منهم
في هذه السنة غدر شاهملك التركي بيحيى بن تميم بن المعز بن باديس، وقبض عليه.
وكان شاهملك هذا من أولاد بعض الأمراء الأتراك ببلاد الشرق، فناله في بلده أمر اقتضى خروجه منه، فسار إلى مصر في مائة فارس، فأكرمه الأفضل أمير الجيوش، وأعطاه إقطاعاً ومالاً، ثم بلغه عنه أسباب أوجبت إخراجه من مصر، فخرج هو وأصحابه هاربين، فاحتالوا حتى أخذوا سلاحاً وخيلاً وتوجهوا إلى المغرب، فوصلوا إلى طرابلس الغرب، وأهل البلد كارهون لواليها، فأدخلوهم البلد، وأخرجوا الوالي، وصار شاهملك أمير البلد.
فسمع تميم الخبر، فأرسل العساكر إليها، فحصروها، وضيقوا على الترك ففتحوها، ووصل شاهملك معهم إلى المهدية، فسر به تميم وبمن معه، قال: ولد لي مائة ولد أنتفع بهم، وكانوا لا يخطيء لهم سهم.
فلم تطل الأيام حتى جرى منهم أمر غير تميماً عليهم، فعلم شاهملك ذلك، وكان داهياً، خبيثاً، فخرج يحيى بن تميم إلى الصيد في جماعة من أعيان أصحابه نحو مائة فارس، ومعه شاهملك، وكان أبوه تميم قد تقدم إليه أن لا يقرب شاهملك، فلم يقبل. فلما أبعدوا في طلب الصيد غدر به شاهملك فقبض عليه، وسار به وبمن أخذ معه من أصحابه إلى مدينة سفاقس.
وبلغ الخبر تميماً، فركب، وسير العساكر في أثرهم، فلم يدركوهم، ووصل شاهملك بيحيى بن تميم إلى سفاقس، فركب صاحبها، واسمه حمو، وكان قد خالف على تميم، ولقي يحيى، ومشى في ركابه راجلاً، وقبل يده وعظمه، واعترف له بالعبودية، فأقام عنده أياماً، ولم يذكره أبوه بكلمة، وكان قد جعله ولي عهده، فلما أخذ أقام أبوه مقامه ابناً له آخر اسمه المثنى.
ثم إن صاحب سفاقس خاف يحيى على نفسه أن يثور معه الجند وأهل البلد ويملكوه عليهم، فأرسل إلى تميم كتاباً يسأله في إنفاذ الأتراك وأولادهم إليه ليرسل ابنه يحيى، ففعل ذلك بعد امتناع، وقدم يحيى، فحجبه أبوه عنه مدة، ثم أعاده إلى حاله، ورضي عنه، ثم جهز تميم عسكراً إلى سفاقس، ويحيى معهم، فساروا إليها وحصروها براً وبحراً، وضيقوا على الأتراك بها، وأقاموا عليها شهرين، واستولوا عليها، وفارقها الأتراك إلى قابس.
وكان تميم لما رضي عن ابنه يحيى عظم ذلك على ابنه الآخر المثنى، وداخله الحسد، فلم يملك نفسه، فنقل عنه إلى أبيه ما غير قلبه عليه، فأمر بإخراجه من المهدية بأهله وأصحابه، فركب البحر ومضى إلى سفاقس، فلم يمكنه عامله من الدخول إليها، وقصد مدينة قابس، وبها أمير يقال له مكين بن كامل الدهسماني، فأنزله وأكرمه، فحسن له المثنى الخروج معه إلى سفاقس والمهدية، وأطمعه فيهما، وضمن الإنفاق على الجند من ماله، فجمع مكين من يمكنه جمعه، وسار إلى سفاقس، ومعهما شاهملك التركي وأصحابه، فنزلوا على سفاقس وقاتلوها.
وسمع تميم، فجرد إليها جنداً، فلما علم المثنى ومن معه أنهم لا طاقة لهم بها ساروا عنها إلى المهدية، فنزلوا عليها وقاتلوها، وكان الذي يتولى القتال في المهدية يحيى بن تميم، وظهرت منه شهامة، وشجاعة، وحزم، وحسن تدبير، فلم يبلغ أولئك منها غرضاً، فعادوا خائبين، وقد تلف ما كان مع المثنى من مال وغيره، وعظم أمر يحيى، وصار وهو المشار إليه.
ذكر قتل أحمد خان صاحب سمرقندفي هذه السنة، في المحرم، قتل أحمد خان، صاحب سمرقند، وكان قد كرهه عسكره واتهموه بفساد الاعتقاد، وقالوا: هو زنديق.
وكان سبب ذلك أن السلطان ملكشاه، لما فتح سمرقند وأسر أحمد خان هذا، قد وكل به جماعة من الديلم، فحسنوا له معتقدهم، وأخرجوه إلى الإباحة، فلما عاد إلى سمرقند كان يظهر منه أشياء تدل على انحلاله من الدين، فلما كرهه أصحابه، وعزموا على قتله، قالوا لمستحفظ قلعة كاسان، وهو طغرل ينال بك، ليظهر العصيان ليسير أحمد خان معهم من سمرقند إلى قتاله، فيتمكنوا من قتله، فعصى طغرل ينال بك، فسار أحمد خان والعسكر إلى قتاله، فلما نازل القلعة تمكن العسكر منه، وقبضوا عليه، وعادوا إلى سمرقند، وأحضروا القضاة والفقهاء، وأقاموا خصوصاً ادعوا عليه الزندقة، فجحد، فشهد عليه جماعة بذلك، فأفتى الفقهاء بقتله، فخنقوه، وأجلسوا ابن عمه مسعوداً مكانه وأطاعوه.
ذكر ما فعله يوسف بن آبق ببغداد
في هذه السنة، في صفر، سير الملك تتش يوسف بن آبق التركماني شحنة لبغداد، ومعه جمع من التركمان، فمنع من دخول بغداد، وورد إليه صدقة بن مزيد صاحب الحلة وكان يكره تتش، ولم يخطب له في بلاده، فلما سمع ابن آبق بوصوله عاد إلى طريق خراسان ونهب باجسرا، وقاتله العسكر ببعقوبا، فهزمهم ونهبهم أفحش نهب وأكثر معه من التركمان وعاد إلى بغداد.
وكان صدقة قد رجع إلى الحلة، فدخل يوسف بن آبق إلى بغداد، وأراد نهبها والإيقاع بأهلها، فمنعه أمير كان معه من ذلك، ثم وصل إليه الخبر بقتل تتش، فرحل عن بغداد إلى الموصل، وسار من هناك إلى حلب.
ذكر الحرب بين بركيارق وتتش وقتل تتشفي هذه السنة، في صفر، قتل تتش بن ألب أرسلان.
وكان سبب ذلك أنه لما هزم السلطان بركيارق، كما ذكرناه، سار من موضع الوقعة إلى همذان، وقد تحصن بها أمير آخر، فرحل تتش عنها، فتبعه أمير آخر لأجل أثقاله، فعاد عليه تتش فكسره، فعاد إلى همذان، واستأمن إليه، وصار معه.
وبلغ تتش مرض بركيارق، فسار إلى أصبهان، فاستأذنه أمير آخر في قصد جرباذقان لإقامة الضيافة وما يحتاج إليه، فأذن له، فسار إليها، ومنها إلى أصبهان، وعرفهم خبر تتش.
وعلم تتش خبره، فنهب جرباذقان، وسار إلى الري، وراسل الأمراء الذين بأصبهان يدعوهم إلى طاعته، ويبذل لهم البذول الكثيرة، وكان بركيارق مريضاً بالجدري، فأجابوه يعدونه بالانحياز إليه، وهم ينتظرون ما يكون من بركيارق. فلما عوفي أرسلوا إلى تتش: ليس بيننا غير السيف، وساروا مع بركيارق من أصبهان، وهم في نفر يسير، فلما بلغوا جرباذقان أقبلت إليهم العساكر من كل مكان، حتى صاروا في ثلاثين ألفاً، فالتقوا بموضع قريب من الري، فانهزم عسكر تتش وثبت هو، فقتل، قيل قتله بعض أصحاب آقسنقر، صاحب حلب، أخذاً بثأر صاحبه.
وكان قد قبض على فخر الملك بن نظام الملك، وهو معه، فأطلق، واستقام الأمر والسلطنة لبركيارق، وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه، بالأمس ينهزم من عمه تتش، ويصل إلى أصبهان في نفر يسير، فلا يتبعه أحد، ولو تبعه عشرون فارساً لأخذوه لأنه بقي على باب أصبهان عدة أيام، ثم لما دخلها أراد الأمراء كحله، فاتفق أن أخاه حم ثاني يوم وصوله، وجدر، فمات، فقام في الملك مقامه، ثم جدر هو وأصابه مع سرسام، فعوفي، وبقي مذ كسره عمه إلى أن عوفي وسار عن أصبهان أربعة أشهر لم يتحرك عمه، ولا عمل شيئاً، ولو قصده وهو مريض أو وقت مرض أخيه لملك البلاد:
ولله سر في علاك، وإنما ... كلام العدى ضربٌ من الهذيان
ذكر حال الملك رضوان وأخيه دقاق بعد قتل أبيهمااكن تاج الدولة تتش قد أوصى أصحابه بطاعة ابن الملك رضوان، وكتب إليه من بلد الجبل، قبل المصاف الذي قتل فيه، يأمره أن يسير إلى العراق، ويقيم بدار المملكة، فسار في عدد كثير منهم: إيلغازي بن أرتق، وكان قد سار إلى تتش، فتركه عند ابنه رضوان، ومنهم: الأمير وثاب بن محمود بن صالح بن مرداس، وغيرهما، فلما قارب هيت بلغه قتل أبيه، فعاد إلى حلب، ومعه والدته، فملكها، وكان بها أبو القاسم الحسن بن علي الخوارزمي، قد سلمها إليه تتش وحكمه في البلد والقلعة.
ولحق رضوان زوج أمه جناح الدولة الحسين بن أيتكين، وكان مع تتش، فسلم من المعركة، وكان مع رضوان أيضاً أخواه الصغيران: أبو طالب وبهرام، وكانوا كلهم مع أبي القاسم كالأضياف لتحكمه في البلد، واستمال جناح الدولة المغاربة، وكانوا أكثر جند القلعة، فلما انتصف الليل نادوا بشعار الملك رضوان، واحتاطوا على أبي القاسم، وأرسل إليه رضوان يطيب قلبه، فاعتذر، فبل عذره، وخطب لرضوان على منابر حلب وأعمالها، ولم يكن يخطب له بل كانت الخطبة لأبيه، بعد قتله، نحو شهرين.
وسار جناح الدولة في تدبير المملكة سيرة حسنة، وخالف عليهم الأمير باغي بن سيان بن محمد بن ألب التركماني، صاحب أنطاكية، ثم صالحهم، وأشار على الملك رضوان بقصد ديار بكر، لخلوها من وال يحفظها، فساروا جميعاً، وقدم عليهم أمراء الأطراف الذين كان تتش رتبهم فيها، وقصدوا سروج فسبقهم إليها الأمير سقمان بن أرتق جد أصحاب الحصن اليوم، وأخذها، ومنعهم عنها، وأمر أهل البلد فخرجوا إلى رضوان وتظلموا إليه من عساكره وما يفسدون من غلاتهم، ويسألونه الرحيل، فرحل عنهم إلى الرها.
وكان بها رجل من الروم يقال له الفارقليط، وكان يضمن البلد من بوزان، فقاتل المسلمين بمن معه، واحتمى بالقلعة، وشاهدوا من شجاعته ما لم يكونوا يظنونه، ثم ملكها رضوان، وطلب باغي سيان القلعة من رضوان، فوهبها له، فتسلمها وحصنها، ورتب رجالها، وأرسل إليهم أهل حران يطلبونهم ليسلموا إليهم حران، فسمع ذلك قراجة أميرها، فاتهم ابن المفتي، وكان ابن المفتي هذا قد اعتمد عليه تتش في حفظ البلد، فأخذه، وأخذ معه بني أخيه، فصلبهم.
ووصل الخبر إلى رضوان، وقد اختلف جناح الدولة وباغي سيان، وأضمر كل واحد منهما الغدر بصاحبه، فهرب جناح الدولة إلى حلب، فدخلها، واجتمع بزوجته أم الملك رضوان، وسار رضوان وباغي سيان، فعبرا الفرات إلى حلب، فسمعا بدخول جناح الدولة إليها، ففارق باغي سيان الملك رضوان، وسار إلى أنطاكية، ومعه أبو القاسم الخوارزمي، وسار رضوان إلى حلب.
وأما دقاق بن تتش فإنه كان سيره أبوه إلى عمه السلطان ملكشاه ببغداد، وخطب له ابنة السلطان، وسار بعد وفاة السلطان مع خاتون الجلالية وابنها محمود إلى أصبهان، وخرج إلى السلطان بركيارق سراً، وصار معه، ثم لحق بأبيه، وحضر معه الوقعة التي قتل فيها.
فلما قتل أبوه أخذه غلام لأبيه اسمه أيتكين الحلبي، وسار به إلى حلب، وأقام عند أخيه الملك رضوان، فراسله الأمير ساوتكين الخادم الوالي بقلعة دمشق سراً، يدعوه ليملكه دمشق، فهرب من حلب سراً، وجد في السير، فأرسل أخوه رضوان عدة من الخيالة، فلم يدركوه، فلما وصل إلى دمشق فرح به الخادم، وأظهر الاستبشار، ولقيه، فلما دخلها أرسل إليه باغي سيان يشير عليه بالتفرد بملك دمشق عن أخيه رضوان.
واتفق وصول معتمد الدولة طغدكين إلى دمشق، ومعه جماعة من خواص تتش وعسكره، وقد سلموا، فإنه كان قد شهد الحرب مع صاحبه، وأسر، فبقي إلى الآن، وخلص من الأسر، فلما وصل إلى دمشق لقيه الملك دقاق وأرباب دولته، وبالغوا في إكرامه، وكان زوج والدة دقاق فمال إليه لذلك، وحكمه في بلاده، وعملوا على قتل الخادم ساوتكين، فقتلوه، وسار إليهم باغي سيان من أنطاكية، ومعه أبو القاسم الخوارزمي، فجعله وزيراً لدقاق، وحكمه في دولته.
ذكر وفاة المعتمد بن عبادفي هذه السنة توفي المعتمد بن عباد، الذي كان صاحب الأندلس، مسجوناً بأغمات، من بلد المغرب، وقد ذكرنا كيف أخذت بلاده منه سنة أربع وثمانين وأربعمائة، فبقي مسجوناً إلى الآن، وتوفي، وكان من محاسن الدنيا كرماً، وعلماً، وشجاعة، ورئاسة تامة، وأخباره مشهورة، وآثاره مدونة.
وله أشعار حسنة، فمنها ما قاله لما أخذ ملكه وحبس:
سلت علي يد الخطوب سيوفها ... فجذذن من جسدي الحصيف الأمتنا
ضربت بها أيدي الخطوب، وإنما ... ضربت رقاب الآملين بها المنى
يا آملي العادات من نفحاتنا، ... كفوا، فإن الدهر كف أكفنا
وله قصيدة يصف القيد في رجله:
تعطف في ساقي تعطف أرقم، ... يساورها عضاً بأنياب ضيغم
وإني من كان الرجال بسيبه، ... ومن سيفه في جنة وجهنم
وقال في يوم عيد:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا، ... فساءك العيد في أغمات، مأسورا
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً، ... فردك الدهر منهياً، ومأمورا
من بات بعدك في ملك يسر به، ... فإنما بات بالأحلام مسرورا
وكان شاعره أبو بكر بن اللبانة يأتيه وهو مسجون، فيمدحه لا لجدوى ينالها منه، بل رعاية لحقه وإحسانه القديم إليه. فلما توفي أتاه، فوقف على قبره، يوم عيد، والناس عند قبور أهليهم، وأنشد بصوت عال:
ملك الملوك أسامع فأنادي، ... أم قد عداك عن الجواب عوادي
لما خلت منك القصور، ولم تكن ... فيها، كما قد كنت في الأعياد
فمثلت في هذا الثرى لك خاضعاً ... وتخذت قبرك موضع الإنشاد
وأخذ في إتمام القصيدة، فاجتمع الناس كلهم عليه يبكون. ولو أخذنا في تفصيل مناقبه ومحاسنه لطال الأمر، فلنقف عند هذا.
ذكر وفاة الوزير أبي شجاع
في هذه السنة توفي الوزير أبو شجاع محمد بن الحسين بن عبد الله، وزير الخليفة، في جمادى الآخرة، وأصله من روذراور، وولد بالأهواز، وقرأ الفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وكان عالماً بالعربية، وله تصانيف منها: ذيل تجارب الأمم، وكان عفيفاً، عادلاً، حسن السيرة، كثير الخير والمعروف، وكان موته بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مجاوراً فيها.
ولما حضره الموت أمر فحمل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف بالحضرة وبكى، وقال: يا رسول الله! قال الله عز وجل: " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً " ، وقد جئت معترفاً بذنوبي وجرائمي أرجو شفاعتك.
وبكى فأكثر، وتوفي من يومه، ودفن عند قبر إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكر الفتنة بنيسابورفي هذه السنة، في ذي الحجة، جمع أمير كبير من أمراء خراسان جمعاً كثيراً، وسار بهم إلى نيسابور، فحصرها، فاجتمع أهلها وقاتلوه أشد قتال، ولازم حصارهم نحو أربعين يوماً، فلما لم يجد له مطمعاً فيها سار عنها في المحرم سنة تسع وثمانين، فلما فارقها وقعت الفتنة بها بين الكرامية وسائر الطوائف من أهلها، فقتل بينهم قتلى كثيرة.
وكان مقدم الشافعية أبا القاسم ابن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، ومقدم الحنفية القاضي محمد بن أحمد بن صاعد، وهما متفقان على الكرامية، ومقدم الكرامية محمشاد، فكان الظفر للشافعية والحنفية على الكرامية، فخربت مدارسهم، وقتل كثير منهم ومن غيرهم، وكانت فتنة عظيمة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الآخر، شرع الخليفة في عمل سور على الحريم، وأذن الوزير عميد الدولة بن جهير للعامة في التفرج والعمل، فزينوا البلد، وعملوا القباب، وجدوا في عمارته.
وفيها، في رمضان، جرح السلطان بركيارق، جرحه إنسان ستري له، من أهل سجستان، في عضده، ثم أخذ الرجل، وأعانه رجلان أيضاً من أهل سجستان، فلما ضرب الرجل الجارح اعترف أن هذين الرجلين وضعاه، واعترفا بذلك، فضربا الضرب الشديد، ليقرا على من أمرهما بذلك، فلم يقرا، فقربا إلى الفيل ليجعلا تحت قوائمه، وقدم أحدهما، فقال: اتركوني أنا أعرفكم، فتركوه، فقال لصاحبه: يا أخي لا بد من هذه القتلة، فلا تفضح أهل سجستان بإفشاء الأسرار، فقتلا.
وفيها توجه الإمام أبو حامد الغزالي إلى الشام، وزار القدس، وترك التدريس في النظامية، واستناب أخاه، وتزهد، ولبس الخشن، وأكل الدون، وفي هذه السفرة صنف إحياء علوم الدين، وسمعه منه الخلق الكثير بدمشق، وعاد إلى بغداد بعدما حج في السنة التالية، وسار إلى خراسان.
وفيها، في ربيع الأول، خطب لولي العهد أبي الفضل منصور بن المستظهر بالله.
وفيها عزل بركيارق وزيره مؤيد الملك بن نظام الملك، واستوزره أخاه فخر الملك، وسبب ذلك أن بركيارق لما هزم عمه تتش، وقتله، أرسل خادماً ليحضر والدته زبيدة خاتون من أصبهان، فاتفق مؤيد الملك مع جماعة من الأمراء، وأشاروا عليه بتركها، فقال: لا أريد الملك إلا لها، وبوجودها عندي، فلما وصلت إليه وعلمت الحال تنكرت على مؤيد الملك، وكان مجد الملك أبو الفضل البلاساني قد صحبها في طريقها، وعلم أنه لا يتم له أمر مع مؤيد الملك، وكان بين مؤيد الملك وأخيه فخر الملك تباعد بسبب جواهر خلفها أبوهم نظام الملك، فلما علم فخر الملك تنكر أم السلطان على أخيه مؤيد الملك أرسل وبذل أموالاً جزيلة في الوزارة، فأجيب إلى ذلك، وعزل أخوه وولي هو.
وفي هذه السنة، في جمادى الأولى، توفي أبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب التميمي، الفقيه الحنبلي، وكان عارفاً بعدة علوم، وكان قريباً من السلاطين.
وفيها، في رجب، توفي أبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون المعروف بابن الباقلاني، وهو مشهور، ومولده سنة ست وأربعمائة.
وفيها، في شعبان، توفي قاضي القضاة أبو بكر محمد بن المظفر الشامي، وكان من أصحاب أبي الطيب الطبري، ولم يأخذ على القضاء أجراً، وأقر الحق مقره، ولم يحاب أحداً من خلق الله، ادعى عنده بعض الأتراك على رجل شيئاً، فقال: ألك بينة؟ قال: نعم! فلان، والمشطب الفقيه الفرغاني، فقال: لا أقبل شهادة المشطب لأنه يلبس الحرير، فقال التركي: فالسلطان ونظام الملك يلبسان الحرير، فقال: لو شهدا عندي على باقة بقل لم أقبل شهادتهما، وولي القضاء بعده أبو الحسن علي ابن قاضي القضاة أبي عبد الله محمد الدامغاني.
وفيها مات القاضي أبو يوسف عبد السلام بن محمد القزويني، ومولده سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وكان مغالياً في الاعتزال، وقيل كان زيدي المذهب.
وفيها توفي القاضي أبو بكر بن الرطبي، قاضي دجيل، وكان شافعي المذهب، وولي بعده أخوه أبو العباس أحمد بن الحسن بن أحمد أبو الفضل الحداد الأصبهاني، صاحب أبي نعيم الحافظ، روى عنه حلية الأولياء، وهو أكبر من أخيه أبي المعالي، وأبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن حميد الحميدي الأندلسي، ولد قبل العشرين وأربعمائة، وسمع الحديث ببلده، ومصر، والحجاز، والعراق، وهو مصنف الجمع بين الصحيحين، وكان ثقة فاضلاً، وتوفي في ذي الحجة، ووقف كتبه فانتفع بها الناس.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وأربعمائة
ذكر قتل يوسف بن آبقفي هذه السنة، في المحرم، قتل يوسف بن آبق الذي ذكرنا أنه سيره تاج الدولة تتش إلى بغداد ونهب سوداها.
وكان سبب قتله أنه كان بحلب، بعد قتل تاج الدولة، وكان بحلب إنسان يقال له المجن، وهو رئيس الأحداث بها، وله أتباع كثيرون، فحضر عند جناح الدولة حسين، وقال له: إن يوسف بن آبق يكاتب باغي سيان، وهو على عزم الفساد، واستأذنه في قتله، فأذن له، وطلب أن يعينه بجماعة من الأجناد، ففعل ذلك، فقصد المجن الدار التي بها يوسف، فكبسها من الباب والسطح، وأخذ يوسف فقتله، ونهب كل ما كان في داره، وبقي بحلب حاكماً، فحدثته نفسه بالتفرد بالحكم عن الملك رضوان، فقال لجناح الدولة: إن الملك رضوان أمرني بقتلك، فخذ لنفسك، فهرب جناح الدولة إلى حمص، وكانت له، فلما انفرد المجن بالحكم تغير عليه رضوان، وأراد منه أن يفارق البلد، فلم يفعل، وركب في أصحابه، فلو هم بالمحاربة لفعل، ثم أمر أصحابه أن ينهبوا ماله، وأثاثه، ودوابه، ففعلوا ذلك، واختفى، فطلب فوجد بعد ثلاثة أيام، فأخذ وعوقب وعذب، ثم قتل هو وأولاده، وكان من السواد يشق الخشب، ثم بلغ هذه الحالة.
ذكر وفاة منصور بن مروانفي هذه السنة، في المحرم، توفي منصور بن نظام الدين بن نصر الدولة بن مروان، صاحب ديار بكر، وهو الذي انقرض أمر بني مروان على يده، حين حاربه فخر الدولة بن جهير، وكان جكرمش قد قبض عليه بالجزيرة، وتركه عند رجل يهودي، فمات في داره، وحملته زوجته إلى تربة آبائه، فدفنته ثم حجت، وعادت إلى بلد البشنوية، فابتاعت ديراً من بلد فنك بقرب جزيرة ابن عمر، وأقامت فيه تعبد الله.
كوان منصور شجاعاً، شديد البخل، له في البخل حكايات عجيبة. فتعساً لطالب الدنيا، المعرض عن الآخرة، ألا ينظر إلى فعلها بأبنائها، بينما منصور هذا ملك من بيت ملك آل أمره إلى أن مات في بيت يهودي، نسأل الله تعالى أن يحسن أعمالنا، ويصلح عاقبة أمرنا في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه.
ذكر ملك تميم مدينة قابس أيضاً
في هذه السنة ملك تميم بن المعز مدينة قابس، وأخرج منها أخاه عمراً.
وسبب ذلك أنها كان بها إنسان يقال له قاضي بن إبراهيم بن بلمونة فمات، فولى أهلها عليهم عمرو بن المعز، فأساء السيرة، وكان قاضي بن إبراهيم عاصياً على تميم، وتميم يعرض عنه، فسلك عمرو طريقه في ذلك، فأخرج تميم العساكر إلى أخيه عمرو ليأخذ المدينة منه، فقال له بعض أصحابه: يا مولانا لما كان فيها قاضي توانيت عنه وتركته، فلما وليها أخوك جردت إليه العساكر، فقال: لما كان فيها غلام من عبيدنا كان زواله سهلاً علينا، وأما اليوم، وابن المعز بالمهدية، وابن المعز بقابس، فهذا ما لا يمكن السكوت عليه.
وفي فتحها يقول ابن خطيب سوسة القصيدة المشهورة التي أولها:
ضحك الزمان، وكان يلقى عابسا ... لما فتحت بحد السيف قابسا
الله يعلم ما حويت ثمارها ... إلا وكان أبوك، قبل، الغارسا
من كان في زرق الأسنة خاطباً، ... كانت له قلل البلاد عرائسا
فابشر تميم بن المعز بفتكة ... تركتك من أكناف قابس قابسا
ولوا، فكم تركوا هناك مصانعاً ... ومقاصراً، ومخالداً، ومجالسا
فكأنها قلب، وهن وساوس، ... جاء اليقين، فذاد عنه وساوسا
ذكر ملك كربوقا الموصلفي هذه السنة، في ذي القعدة، ملك قوام الدولة أبو سعيد كربوقا مدينة الموصل، وقد ذكرنا أن تاج الدولة تتش أسره لما قتل آقسنقر وبوزان، فلما أسره أبقى عليه، طمعاً في استصلاح حميه الأمير أنر، ولم يكن له بلد يملكه إذا قتله، كما فعل الأمير بوزان، فإنه قتله واستولى على بلاده الرها وحران.
ولم يزل قوام الدولة محبوساً بحلب إلى أن قتل تتش، وملك ابنه الملك رضوان حلب فأرسل السلطان بركيارق رسولاً يأمره بإطلاقه وإطلاق أخيه التونتاش، فلما أطلقا سارا واجتمع عليهما كثير من العساكر البطالين، فأتيا حران فتسلماها، وكاتبهما محمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش، وهو بنصيبين، ومعه ثروان بن وهيب، وأبو الهيجاء الكردي، يستنصرون بهما على الأمير علي بن شرف الدولة، وكان بالموصل قد جعله بها تاج الدولة تتش بعد وقعة المضيع.
فسار كربوقا إليهم، فلقيه محمد بن شرف الدولة على مرحلتين من نصيبين، واستحلفهما لنفسه، فقبض عليه كربوقا بعد اليمين، وحمله معه، وأتى نصيبين، فامتنعت عليه، فحصرها أربعين يوماً، وتسلمها، وسار إلى الموصل فحصرها، فلم يظفر منها بشيء، فسار عنها إلى بلد، وقتل بها محمد بن شرف الدولة، وغرقه، وعاد إلى حصار الموصل، ونزل على فرسخ منها بقرية باحلافا، وترك التونتاش شرقي الموصل، فاستنجد علي بن مسلم صاحبها بالأمير جكرمش، صاحب جزيرة ابن عمر، فسار إليه نجدة له، فلما علم التونتاش بذلك سار إلى طريقه، فقاتله، فانهزم جكرمش، وعاد إلى الجزيرة منهزماً، وصار في طاعة كربوقا، وأعانه على حصر الموصل، وعدمت الأقوات بها وكل شيء، حتى ما يوقدونه، فأوقدوا القير، وحب القطن.
فلما ضاق بصاحبها علي الأمر وفارقها وسار إلى الأمير صدقة بن مزيد بالحلة، وتسلم كربوقا البلد بعد أن حصره تسعة أشهر، وخافه أهله لأنه بلغهم أن التونتاش يريد نهبهم، وأن كربوقا يمنعه من ذلك، فاشتغل التونتاش بالقبض على أعيان البلد، ومطالبتهم بودائع البلد، واستطال على كربوقا، فأمر بقتله، فقتل في اليوم الثالث، وأمن الناس شره، وأحسن كربوقا السيرة فيهم، وسار نحو الرحبة، فمنع عنها، فملكها ونهبها واستناب بها وعاد.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة اجتمع ستة كواكب في برج الحوت، وهي الشمس، والقمر، والمشتري، والزهرة، والمريخ، وعطارد، فحكم المنجمون بطوفان يكون في الناس يقارب طوفان نوح، فأحضر الخليفة المستظهر بالله ابن عيسون المنجم، فسأله، فقال: إن طوفان نوحان اجتمعت الكواكب السبعة في برج الحوت، والآن فقد اجتمع ستة منها، وليس منها زحل، فلو كان معها لكان مثل طوفان نوح، ولكن أقول إن مدينة، أو بقعة من الأرض يجتمع فيها عالم كثير من بلاد كثيرة، فيغرقون، فخافوا على بغداد، لكثرة من يجتمع فيها من البلاد، فأحكمت المسنيات، والمواضع التي يخشى منها الانفجار والغرق.
فاتفق أن الحجاج نزلوا بوادي المياقت، بعد نخلة، فأتاهم سيل عظيم فأغرق أكثرهم، ونجا من تعلق بالجبال، وذهب المال، والداوب، والأزواد، وغير ذلك، فخلع الخليفة على المنجم.
وفيها، في صفر، درس الشيخ أبو عبد الله الطبري الفقيه الشافعي بالمدرسة النظامية ببغداد، رتبه فيها فخر الملك بن نظام الملك، وزير بركيارق.
وفيها أغارت خفاجة على بلد سيف الدولة صدقة بن مزيد، فأرسل في أثرهم عسكراً، مقدمه ابن عمه قريش بن بدران بن دبيس بن مزيد، فأسرته خفاجة، وأطلقوه، وقصدوا مشهد الحسين بن علي، عليه السلام، فتظاهروا فيه بالفساد والمنكر، فوجه إليهم صدقة جيشاً، فكبسوهم، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً في المشهد، حتى عند الضريح، وألقى رجل منهم نفسه وهو على فرسه من على السور، فسلم هو والفرس.
وفي هذه السنة، في صفر، توفي القاضي أبو مسلم وادع بن سليمان قاضي معرة النعمان والمستولي على أمورها، وكان رجل زمانه همة وعلماً.
وفيها، في ربيع الأول، توفي أبو بكر محمد بن عبد الباقي المعروف بابن الخاضبة، المحدث، وكان عالماً.
وفيها، في رمضان، توفي أبو بكر عمر بن السمرقندي، ومولده سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة.
وفيها، في رمضان، توفي أبو الفضل عبد الملك بن إبراهيم المقدسي المعروف بالهمذاني، وكان عالماً في عدة علوم، وقد قارب ثمانين سنة.
ثم دخلت سنة تسعين وأربعمائة
ذكر قتل أرسلان أرغونفي هذه السنة، في المحرم، قتل أرسلان أرغون بن ألب أرسلان، أخو السلطان ملكشاه، بمرو، وكان قد ملك خراسان.
وسبب قتله أنه كان شديداً على غلمانه، كثير الإهانة لهم والعقوبة، وكانوا يخافونه خوفاً عظيماً، فاتفق أنه الآن طلب غلاماً له، فدخل عليه وليس معه أحد، فأنكر عليه تأخره عن الخدمة، فاعتذر، فلم يقبل عذره، وضربه، فأخرج الغلام سكيناً معه وقتله، وأخذ الغلام، فقيل له: لم فعلت هذا؟ فقال: لأريح الناس من ظلمه.
وكان سبب ملكه خراسان أنه كان له، أيام أخيه ملكشاه، من الإقطاع ما مقداره سبعة آلاف دينار، وكان معه ببغداد لما مات، فسار إلى همذان في سبعة غلمان، واتصل به جماعة، فسار إلى نيسابور، فلم يجد فيها مطمعاً، فتمم إلى مرو، وكان شحنة مرو أمير اسمه قودن من مماليك ملكشاه، وهو الذي كان سبب تنكر السلطان ملكشاه على نظام الملك، وقد تقدم ذلك في قتل نظام الملك، فمال إلى أرسلان أرغون، وسلم البلد إليه، فأقبلت العساكر إليه، وقصد بلخ، وبها فخر الملك بن نظام الملك، فسار عنها، ووزر لتاج الدولة تتش، على ما ذكرناه.
وملك أرسلان أرغون بلخ، وترمذ، ونيسابور، وعامة خراسان، وأرسل إلى السلطان بركيارق وإلى وزيره مؤيد الملك بن نظام الملك يطلب أن يقر عليه خراسان، كما كانت لجده داود، ما عدا نيسابور، ويبذل الأموال ولا ينازع في السلطنة. فسكت عنه بركيارق لاشتغاله بأخيه محمود وعمه تتش، فلما عزل السلطان بركيارق مؤيد الملك عن وزارته، ووليها أخوه فخر الملك، واستولى على الأمور مجد الملك البلاساني، قطع أرسلان أرغون مراسلة بركيارق، وقال: لا أرضى لنفسي مخاطبة البلاساني، فندب بركيارق حينئذ عمه بوربرس بن ألب أرسلان، وسيره في العساكر لقتاله.
وكان قد اتصل بأرسلان عماد الملك أبو القاسم بن نظام الملك، ووزر له، فلما وصلت العساكر إلى خراسان لقيهم أرسلان أرغون، وقاتلهم، وانهزم منهم، وسار منهزماً إلى بلخ، وأقام بوربرس والعساكر التي معه بهراة.
ثم جمع أرغون عساكر جمة وسار إلى مرو، فحصرها أياماً، وفتحها عنوة، وقتل فيها وأكثر، وقلع أبواب سورها وهدمه، فسار إليه بوربرس من هراة، فالتقيا وتصافا، فانهزم بوربرس سنة ثمان وثمانين.
وسبب هزيمته أنه كان معه من جملة العساكر التي سيرها معه بركيارق أمير آخر ملكشاه، وهو من أكابر الأمراء، والأمير مسعود بن تاجر، وكان أبوه مقدم عسكر داود، جد ملكشاه، ولمسعود منزلة كبيرة، ومحل عظيم، عند الناس كافة، وكان بين أمير آخر وبين أرسلان مودة قديمة، فأرسل إليه أرسلان أرغون يستميله، ويدعوه إلى طاعته، فأجابه إلى ذلك.
ثم إن مسعود بن تاجر قصد أمير آخر زائراً له، ومعه ولده، فأخذهما وقتلهما، فضعف أمر بوربرس، وانهزم من أرسلان أرغون، وتفرق عسكره، وأسر، وحمل إلى أرسلان أرغون، وهو أخوه، فحبسه بترمذ، ثم أمر به فخنق بعد سنة من حبسه، وقتل أكابر عسكر خراسان ممن كان يخافه ويخشى تحكمه عليه، وصادر وزيره عماد الملك بثلاثمائة ألف دينار، وقتله، وخرب أسوار مدن خراسان، منها: سور سبزوار، وسور مرو الشاهجان، وقلعة سرخس، وقهندز نيسابور، وسور شهرستان، وغير ذلك، خربه جميعه سنة تسع وثمانين، ثم إنه قتل هذه السنة كما ذكرنا.
ذكر استيلاء عسكر مصر على مدينة صورفي هذه السنة، في ربيع الأول، وصل عسكر كثير من مصر إلى ثغر صور، بساحل الشام، فحصرها وملكها.
وسبب ذلك أن الوالي بها، ويعرف بكتيلة، أظهر العصيان على المستعلي، صاحب مصر، والخروج عن طاعته، فسير إليه جيشاً، فحصروه بها، وضيقوا عليه وعلى من معه من جندي وعامي، ثم افتتحها عنوة بالسيف، وقتل بها خلق كثير، ونهب منها المال الجزيل، وأخذ الوالي أسيراً بغير أمان، وحمل إلى مصر فقتل بها.
ذكر ملك بركيارق خراسان
وتسليمها إلى أخيه سنجركان بركيارق قد جهز العساكر مع أخيه الملك سنجر، وسيرها إلى خراسان لقتال عمه أرسلان أرغون، وجعل الأمير قماج أتابك سنجر، ورتب في وزارته أبا الفتح علي بن الحسين الطغرائي، فلما وصلوا إلى الدامغان بلغهم خبر قتله، فأقاموا، حتى لحقهم السلطان بركيارق، وساروا إلى نيسابور، فوصل إليها خامس جمادى الأولى من السنة وملكها بغير قتال، وكذلك سائر البلاد الخراسانية، وساروا إلى بلخ.
وكان عسكر أرسلان أرغون قد ملكوا بعد قتله ابناً له صغيراً، عمره سبع سنين، فلما سمعوا بوصول السلطان أبعدوا إلى جبال طخارستان، وأرسلوا يطلبون الأمان، فأجابهم إلى ذلك، فعادوا ومعهم ابن أرسلان أرغون، فأحسن السلطان لقاءه، وأعطاه ما كان لأبيه من الإقطاع أيام ملكشاه، وكان وصوله إلى السلطان في خمسة عشر ألف فارس، فما انقضى يومهم حتى فارقوه، واتصلت كل طائفة منهم بأمير تخدمه، وبقي وحده مع خادم لأبيه، فأخذته والدة السلطان بركيارق إليها، وأقامت له من يتولى خدمته وتربيته.
وسار بركيارق إلى ترمذ فسلمت إليه، وأقام عند بلخ سبعة أشهر، وأرسل إلى ما وراء النهر، فأقيمت له الخطبة بسمرقند وغيرها، ودانت له البلاد.
ذكر خروج أمير أميران بخراسان مخالفاً
في هذه السنة لما كان السلطان بركيارق بخراسان خالف عليه أمير اسمه محمد بن سليمان، ويعرف بأمير أميران، وهو ابن عم ملكشاه، وتوجه إلى بلخ، واستمد من صاحب غزنة، فأمده بجيش كثير، وفيلة، وشرط عليه أن يخطب له في جميع ما يفتحه من خراسان، فقويت شوكته، ومد يده في البلاد، فسار إليه الملك سنجر بن ملكشاه جريدة، ولا يعلم به أمير أميران، فكبسه، فجرى بينهما قتال ساعة، ثم أسر، وحمل إلى بين يدي سنجر، فأمر به فكحل.
ذكر عصيان الأمير قودن ويارقطاش على السلطان واستعمال حبشي على خراسانفي هذه السنة عصى يارقطاش وقدون على السلطان بركيارق.
وسبب ذلك أن الأمير قودن كان قد صار في جملة الأمير قماج، فتوفي، والسلطان بمرو، فاستوحش قودن، وأظهر المرض، وتأخر بمرو بعد مسير السلطان إلى العراق، وكان من جملة أمراء السلطان أمير اسمه اكنجي، وقد ولاه السلطان خوارزم، ولقبه خوارزمشاه، فجمع عساكره وسار في عشرة آلاف فارس ليلحق السلطان، فسبق العسكر إلى مرو في ثلاثمائة فارس، وتشاغل بالشرب، فاتفق قودن وأمير آخر اسمه يارقطاش على قتله، فجمعا خمسمائة فارس وكبسوه وقتلوه، وساروا إلى خوارزم، وأظهروا أن السلطان قد استعملهما عليها فتسلماها.
وبلغ الخبر إلى السلطان، فتم المسير إلى العراق، لما بلغه من خروج الأمير أنر ومؤيد الملك عن طاعته، وأعاد أمير داذ حبشي بن التونتاق في جيش إلى خراسان لقتالهما، فسار إلى هراة، وأقام ينتظر اجتماع العساكر معه، فعاجلاه في خمسة عشر ألفاً، فعلم أمير داذ أنه لا طاقة له بهما، فعبر جيحون، فسارا إليه، وتقدم يارقطاش ليلحقه قودن، فعاجله يارقطاش وحده وقاتله، فانهزم يارقطاش وأخذ أسيراً.
وبلغ الخبر إلى قودن، فثار به عسكره، ونهبوا خزائنه وما معه، فبقي في سبعة نفر، فهرب إلى بخارى، فقبض عليه صاحبها، ثم أحسن إليه، وبقي عنده، وسار من هناك إلى الملك سنجر ببلخ، فقبله أحسن قبول، وبذل له قودن أن يكفيه أموره، ويقوم بجمع العساكر على طاعته، فقدر أنه مات عن قريب، وأما يارقطاش فبقي أسيراً إلى أن قتل أمير داذ، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ابتداء دولة محمد بن خوارزمشاه
في هذه السنة أمر بركيارق الأمير حبشي بن التونتاق على خراسان، كما ذكرنا، فلما صفت له، وقتل قودن، كما ذكرنا قبل، ولي خوارزم الأمير محمد بن أنوشتكين، وكان أبوه أنوشتكين مملوك أمير من السلجوقية، اسمه بلكباك، قد اشتراه من رجل من غرشستان فقيل له أنوشتكين غرشحه، فكبر، وعلا أمره، وكان حسن الطريقة، كامل الأوصاف، وكان مقدماً، مرجوعاً إليه، وولد له ولد سماه محمداً، وهو هذا، وعلمه، وخرجه، وأحسن تأديبه، وتقدم بنفسه، وبالعناية الأزلية.
فلما ولي أمير داذ حبشي خراسان كان خوارزمشاه اكنجي قد قتل، وقد تقدم ذكره، ونظر الأمير حبشي فيمن يوليه خوارزم، فوقع اختياره على محمد بن أنوشتكين، فولاه خوارزم، ولقبه خوارزمشاه، فقصر أوقاته على معدلة ينشرها، ومكرمة يفعلها، وقرب أهل العلم والدين، فازداد ذكره حسناً، ومحله علواً.
ولما ملك السلطان سنجر خراسان أقر محمداً خوارزمشاه على خوارزم وأعمالها، فظهرت كفايته وشهامته، فعظم سنجر محله وقدره.
ثم إن بعض ملوك الأتراك جمع جموعاً، وقصد خوارزم، ومحمد غائب عنها، وكان طغرلتكين بن اكنجي، الذي كان أبوه خوارزمشاه، قبل، عند السلطان سنجر، فهرب منه، والتحق بالأتراك على خوارزم، فلما سمع خوارزمشاه محمد الخبر بادر إلى خوارزم، وأرسل إلى سنجر يستمده، وكان بنيسابور، فسار في العساكر إليه، فلم ينتظره محمد، فلما قارب خوارزم هرب الأتراك إلى منقشلاغ، وطغرلتكين أيضاً رحل إلى حندخان، وكفي خوارزمشاه شرهم.
ولما توفي خوارزمشاه ولي بعده ابنه إتسز، فمد ظلال الأمن، وأفاض العدل، وكان قد قاد الجيوش أيام أبيه، وقصد بلاد الأعداء، وباشر الحروب، فملك مدينة منقشلاغ.
ولما ولي بعد أبيه قربه السلطان سنجر، وعظمه، واعتضد به، واستصحبه معه في أسفاره وحروبه، فظهرت منه الكفاية والشهامة، فزاده تقدماً وعلواً، وهو ابتداء ملك بيت خوارزمشاه تكش، وابنه محمد الذي ظهرت التتر عليه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر الحرب بين رضوان وأخيه دقاقفي هذه السنة سار الملك رضوان إلى دمشق، وبها أخوه دقاق، عازماً على أخذها منه، فلما قاربها، ورأى حصانتها وامتناعها، علم عجزه عنها، فرحل إلى نابلس، وسار إلى القدس ليأخذه، فلم يمكنه، وانقطعت العساكر عنه، فعاد ومعه باغي سيان، صاحب أنطاكية، وجناح الدولة.
ثم إن باغي سيان فارق رضوان، وقصد دقاق، وحسن له محاصرة أخيه بحلب، جزاء لما فعله، فجمع عساكر كثيرة وسار ومعه باغي سيان، فأرسل رضوان رسولاً إلى سقمان بن أرتق، وهو بسروج، يستنجده، فأتاه في خلق كثير من التركمان، فسار نحو أخيه، فالتقيا بقنسرين، فاقتتلا، فانهزم دقاق وعسكره، ونهبت خيامهم وجميع مالهم، وعاد رضوان إلى حلب، ثم اتفقا على أن يخطب لرضوان بدمشق قبل دقاق، وبأنطاكية، وقيل كانت هذه الحادثة سنة تسع وثمانين.
ذكر الخطبة للعلوي المصري بولاية رضوانفي هذه السنة خطب الملك رضوان في كثير من ولايته للمستعلي بأمر الله العلوي، صاحب مصر.
وسبب ذلك أنه كان عنده الأمير جناح الدولة، وهو زوج أمه، فرأى من رضوان تغيراً، فسار إلى حمص، وهي له، فلما رأى باغي سيان بعده عن رضوان صالحه، وقدم إليه بحلب، ونزل بظاهرها.
وكان لرضوان منجم يقال له الحكيم أسعد، وكان يميل إليه، فقدمه بعد مسير جناح الدولة، فحسن له مذاهب العلويين المصريين، وأتته رسل المصريين يدعونه إلى طاعتهم، ويبذلون له المال، وإنفاذ العساكر إليه ليملك دمشق، فخطب لهم بشيزر، وجميع الأعمال سوى أنطاكية، وحلب، والمعرة، أربع جمع، ثم حضر عنده سقمان بن أرتق، وباغي سيان، صاحب أنطاكية، فأنكرا ذلك واسعظماه، فأعاد الخطبة العباسية في هذه السنة، وأرسل إلى بغداد يعتذر مما كان منه.
وسار باغي سيان إلى أنطاكية، فلم يقم بها غير ثلاثة أيام حتى وصل الفرنج إليها وحصروها، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كانت فتنة عظيمة بخراسان بين أهل سبزوار وأهل خسروجرد، وقتال عظيم، فقتل بينهم جماعة كثيرة، وانهزم أهل خسروجرد.
وفيها قتل عثمان، وكيل دار نظام الملك، وكان سبب قتله أنه كان كاتب صاحب غزنة بالأخبار من قبل السلطان، فأخذ وحبس بترمذ مدة، ثم اطلع عليه وهو في الحبس، أنه كان يكاتبه أيضاً فقتل.
وفي صفر منها قتل عبد الرحمن السميرمي، وزير أم السلطان بركيارق، قتله باطني غيلة، وقتل الباطني بعده.
وفيها، في شعبان، ظهر كوكب كبير له ذؤابة، وأقام يطلع عشرين يوماً، ثم غاب ولم يظهر.
وفيها توفي النقيب الطاهر أبو الغنائم محمد بن عبد الله، وكان ديناً، سخياً، كريماً، متعصباً، حنفي المذهب، وولي النقابة بعده ولده أبو الفتوح حيذرة.
وفيها توفي أبو القاسم يحيى بن أحمد السيبي وهو ابن مائة سنة وسنتين، وهو صحيح الحواس، وكان مقرئاً، محدثاً، حاضر القلب.
وفيها قتل أرغش النظامي، مملوك نظام الملك، بالري وكان قد بلغ مبلغاً عظيماً بحيث أنه تزوج ابنة ياقوتي عم السلطان بركيارق، قتله باطني، وقتل قاتله.
وقتل برسق في شهر رمضان، وهو من أكابر الأمراء، قتله باطني، وكان برسق من أصحاب السلطان طغرلبك، وهو أول شحنة كان ببغداد.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وأربعمائة
ذكر ملك الفرنج مدينة أنطاكيةكان ابتداء ظهور دولة الفرنج، واشتداد أمرهم، وخروجهم إلى بلاد الإسلام، واستيلائهم على بعضها، سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، فملكوا مدينة طليطلة وغيرها من بلاد الأندلس، وقد تقدم ذكر ذلك.
ثم قصدوا سنة أربع وثمانين وأربعمائة جزيرة صقلية وملكوها، وقد ذكرته أيضاً، وتطرقوا إلى أطراف إفريقية، فملكوا منها شيئاً وأخذ منهم، ثم ملكوا غيره على ما تراه.
فلما كان سنة تسعين وأربعمائة خرجوا إلى بلاد الشام، وكان سبب خروجهم أن ملكهم بردويل جمع جمعاً كثيراً من الفرنج، وكان نسيب رجار الفرنجي الذي ملك صقلية، فأرسل إلى رجار يقول له: قد جمعت جمعاً كثيراً، وأنا واصل إليك، وسائر من عندك إلى إفريقية أفتحها، وأكون مجاوراً لك.
فجمع رجار أصحابه، واستشارهم في ذلك، وقالوا: وحق الإنجيل هذا جيد لنا ولهم وتصبح البلاد بلاد النصرانية. فرفع رجله وحبق حبقة عظيمة وقال: وحق ديني، هذه خير من كلامكم! قالوا: وكيف ذلك؟ قال: إذا وصلوا إلي أحتاج إلى كفلة كثيرة، ومراكب تحملهم إلى إفريقية، وعساكر من عندي أيضاً، فإن فتحوا البلاد كانت لهم، وصارت المؤونة لهم من صقلية، وينقطع عني ما يصل من المال من ثمن الغلات كل سنة، وإن لم يفلحوا رجعوا إلى بلادي، وتأذيت بهم، ويقول تميم غدرت بي، ونقضت عهدي، وتنقطع الوصلة والأسفار بيننا، وبلاد إفريقية باقية لنا، متى وجدنا قوة أخذناها.
وأحضر رسوله، وقال له: إذا عزمتم على جهاد المسلمين، فأفضل ذلك فتح بيت المقدس، تخلصونه من أيديهم ويكون لكم الفخر، وأما إفريقية فبيني وبين أهلها أيمان وعهود.
فتجهزوا، وخرجوا إلى الشام، وقيل: إن أصحاب مصر من العلويين، لما رأوا قوة الدولة السلجوقية، وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام إلى غزة، ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم ودخول أقسيس إلى مصر وحصرها، خافوا، وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوه، ويكونوا بينهم وبين المسلمين، والله أعلم.
فلما عزم الفرنج على قصد بلاد الشام، ساروا إلى القسططينية ليعبروا المجاز إلى بلاد المسلمين، ويسيروا في البر، فيكون أسهل عليهم، فلما وصلوا إليها منعهم ملك الروم من الاجتياز ببلاده، وقال: لا أمكنكم من العبور إلى بلاد الإسلام حتى تحلفوا لي أنكم تسلمون إلي أنطاكية، وكان قصده أن يحثهم على الخروج إلى بلاد الإسلام، ظناً منه أنهم أتراك لا يبقون منهم أحداً، لما رأى من صرامتهم وملكهم البلاد.
فأجابوه إلى ذلك، وعبروا الخليج عند القسطنطينية سنة تسعين، ووصلوا إلى بلاد قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، وهو قونية وغيرها، فلما وصلوا إليها لقيهم قلج أرسلان في جموعه، ومنعهم، فقاتلوه فهزموه في رجب سنة تسعين، واجتازوا في بلاده إلى بلاد ابن الأرمني، فسلكوها، وخرجوا إلى أنطاكية فحصروها.
ولما سمع صاحبها باغي سيان بتوجههم إليها، خاف من النصارى الذي بها، فأخرج المسلمين من أهلها، ليس معهم غيرهم، وأمرهم بحفر الخندق، ثم أخرج من الغد النصارى لعمل الخندق أيضاً، ليس معهم مسلم، فعملوا فيه إلى العصر، فلما أرادوا دخول البلد منعهم، وقال لهم: أنطاكية لكم تهبونها لي حتى أنظر ما يكون منا ومن الفرنج، فقالوا له: من يحفظ أبناءنا ونساءنا؟ فقال: أنا أخلفكم فيهم، فأمسكوا، وأقاموا في عسكر الفرنج، فحصروها تسعة أشهر، وظهر من شجاعة باغي سيان، وجودة رأيه، وحزمه، واحتياطه ما لم يشاهد من غيره، فهلك أكثر الفرنج موتاً، ولو بقوا على كثرتهم التي خرجوا فيها لطبقوا بلاد الإسلام، وحفظ باغي سيان أهل نصارى أنطاكية الذين أخرجهم، وكف الأيدي المتطرقة إليهم.
فلما طال مقام الفرنج على أنطاكية راسلوا أحد المستحفظين للأبراج، وهو زراد يعرف بروزبه، وبذلوا له مالاً وأقطاعاً، وكان يتولى حفظ برج يلي الوادي، وهو مبني على شباك في الوادي، فلما تقرر الأمر بينهم وبين هذا الملعون الزراد، جاؤوا إلى الشباك ففتحوه ودخلوا منه، وصعد جماعة كثيرة بالحبال، فلما زادت عدتهم على خمسمائة ضربوا البوق، وذلك عند السحر، وقد تعب الناس من كثرة السهر والحراسة، فاستيقظ باغي سيان، فسأل عن الحال، فقيل: إن هذا البوق من القلعة، ولا شك أنها قد ملكت، ولم يكن من القلعة، وإنما كان من ذلك البرج، فدخله الرعب، وفتح باب البلد، وخرج هارباً في ثلاثين غلاماً على وجهه، فجاء نائبه في حفظ البلد، فسأل عنه، فقيل إنه هرب، فخرج من باب آخر هارباً، وكان ذلك معونة للفرنج، ولو ثبت ساعة لهلكوا.
ثم إن الفرنج دخلوا البلد من الباب، ونهبوه، وقتلوا من فيه من المسلمين، وذلك في جمادى الأولى.
وأما باغي سيان فإنه لما طلع عليه النهار رجع إليه عقله، وكان كالولهان، فرأى نفسه وقد قطع عدة فراسخ، فقال لمن معه: أين أنا؟ فقيل: على أربعة فراسخ من أنطاكية، فندم كيف خلص سالماً، ولم يقاتل حتى يزيلهم عن البلد أو يقتل، وجعل يتلهف، ويسترجع على ترك أهله وأولاده والمسلمين، فلشدة ما لحقه سقط عن فرسه مغشياً عليه، فلما سقط إلى الأرض أراد أصحابه أن يركبوه، فلم يكن فيه مسكة قد قارب الموت فتركوه وساروا عنه، واجتاز به إنسان أرمني كان يقطع الحطب، وهو بآخر رمق، فقتله وأخذ رأسه وحمله إلى الفرنج بأنطاكية.
وكان الفرنج قد كاتبوا صاحب حلب، ودمشق، بأننا لا نقصد غير البلاد التي كانت بيد الروم، لا نطلب سواها، مكراً منهم وخديعة، حتى لا يساعدوا صاحب أنطاكية.
ذكر مسير المسلمين إلى الفرنج
وما كان منهملما سمع قوام الدولة كربوقا بحال الفرنج، وملكهم أنطاكية، جمع العساكر وسار إلى الشام، وأقام بمرج دابق، واجتمعت معه عساكر الشام، تركها وعربها سوى من كان بحلب، فاجتمع معه دقاق بن تتش وطغتكين أتابك، وجناح الدولة، صاحب حمص، وأرسلان تاش، صاحب سنجار، وسليمان بن أرتق، وغيرهم من الأمراء ممن ليس مثلهم. فلما سمعت الفرنج عظمت المصيبة عليهم، وخافوا لما هم فيه من الوهن، وقلة الأقوات عندهم، وسار المسلمون، فنازلوهم على أنطاكية، وأساء كربوقا السيرة، فيمن معه من المسلمين، وأغضب الأمراء وتكبر عليهم ظناً منه أنهم يقيمون معه على هذه الحال، فأغضبهم ذلك، وأضمروا له في أنفسهم الغدر، إذا كان قتال، وعزموا على إسلامه عند المصدوقة.
وأقام الفرنج بأنطاكية، بعد أن ملكوها، اثني عشر يوماً لي لهم ما يأكلونه، وتقوت الأقوياء بدوابهم، والضعفاء بالميتة وورق الشجر، فلما رأوا ذلك أرسلوا إلى كربوقا يطلبون منه الأمان ليخرجوا من البلد، فلم يعطهم ما طلبوا، وقال: لا تخرجون إلا بالسيف.
وكان معهم من الملوك بردويل، وصنجيل، وكندفري، والقمص، صاحب الرها، وبيمنت، صاحب أنطاكية، وهو المقدم عليهم. وكان معهم راهب مطاع فيهم، وكان داهية من الرجال، فقال لهم: إن المسيح، عليه السلام، كان له حربة مدفونة بالقسيان الذي بأنطاكية، وهو بناء عظيم، فإن وجدتموها فإنكم تظفرون، وإن لم تجدوها فالهلاك متحقق.
وكان قد دفن قبل ذلك حربة في مكان فيه، وعفى أثرها، وأمرهم بالصوم والتوبة، ففعلوا ذلك ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع أدخلهم الموضع جميعهم، ومعهم عامتهم، والصناع منهم، وحفروا في جميع الأماكن فوجدوها كما ذكر، فقال لهم: أبشروا بالظفر، فخرجوا في اليوم الخامس من الباب متفرقين من خمسة، وستة، ونحو ذلك، فقال المسلمون لكربوقا: ينبغي أن تقف على الباب، فتقتل كل من يخرج، فإن أمرهم الآن، وهم متفرقون، سهل. فقال: لا تفعلوا! أمهلوهم حتى يتكامل خروجهم فنقتلهم. ولم يمكن من معاجلتهم، فقتل قوم من المسلمين جماعة من الخارجين، فجاء إليهم هو بنفسه، ومنعهم، ونهاهم.
فلما تكامل خروج الفرنج، ولم يبق بأنطاكية أحد منهم، ضربوا مصافاً عظيماً، فولى المسلمون منهزمين، لما عاملهم به كربوقا أولاً من الاستهانة بهم، والإعراض عنهم، وثانياً من منعهم عن قتل الفرنج، وتمت الهزيمة عليهم، ولم يضرب أحد منهم بسيف، ولا طعن برمح، ولا رمى بسهم، وآخر من انهزم سقمان بن أرتق، وجناح الدولة، لأنهما كانا في الكمين، وانهزم كربوقا معهم. فلما رأى الفرنج ذلك ظنوه مكيدة، إذ لم يجر قتال ينهزم من مثله، وخافوا أن يتبعوهم، وثبت جماعة من المجاهدين، وقاتلوا حسبة، وطلباً للشهادة، فقتل الفرنج منهم ألوفاً، وغنموا ما في العسكر من الأقوات والأموال والأثاث والدواب والأسلحة، فصلحت حالهم، وعادت إليهم قوتهم.
ذكر ملك الفرنج معرة النعمانلما فعل الفرنج بالمسلمين ما فعلوا ساروا إلى معرة النعمان، فنازلوها، وحصروها، وقاتلهم أهلها قتالاً شديداً، ورأى الفرنج منهم شدة ونكاية، ولقوا منهم الجد في حربهم، والاجتهاد في قتالهم، فعملوا عند ذلك برجاً من خشب يوازي سور المدينة، ووقع القتال عليه، فلم يضر المسلمين ذلك، فلما كان الليل خاف قوم من المسلمين، وتداخلهم الفشل والهلع، وظنوا أنهم إذا تحصنوا ببعض الدور الكبار امتنعوا بها، فنزلوا من السور وأخلوا الموضع الذي كانوا يحفظونه، فرآهم طائفة أخرى، ففعلوا كفعلهم، فخلا مكانهم أيضاً من السور.
ولم تزل ننبع طائفة منهم التي تليها في النزول، حتى خلا السور، فصعد الفرنج إليه على السلاليم، فلما علوه تحير المسلمون، ودخلوا دورهم، فوضع الفرنج فيهم السيف ثلاثة أيام، فقتلوا ما يزيد على مائة ألف، وسبوا السبي الكثير، وملكوه، وأقاموا أربعين يوماً. وساروا إلى عرقة فحصروها أربعة أشهر، ونقبوا سورها عدة نقوب، فلم يقدروا عليها، وراسلهم منقذ، صاحب شيزر، فصالحهم عليها، وساروا إلى حمص وحصروها، فصالحهم صاحبها جناح الدولة، وخرجوا على طريق النواقير إلى عكا، فلم يقدروا عليها.
ذكر الحرب بين الملك سنجر ودولتشاهكان دولتشاه من أبناء الملوك السلجوقية، فاجتمع عليهم جمع من عساكر بيغو أخي طغرلبك، وكانوا بطخارستان، فأخذوا ولوالج وكمنج، فسار إليهم السلطان سنجر وعساكره. فوصل إلى بلخ، فدخلها في رجب من هذه السنة، وخرج منها لقتال دولتشاه، فلم يكن له من الجموع ما ثبت مقابل عسكر سنجر، فقاتلوا شيئاً من قتال، وانهزموا، وأخذوا دولتشاه أسيراً، وأحضر عند سنجر، فعفا عنه من القتل، وحبسه، ثم بعد ذلك كحله، وسير سنجر جيشاً إلى مدينة ترمذ، فملكوها، وأسلمها إلى طغرلتكين.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة فتح تميم بن المعز بن باديس، صاحب إفريقية، جزيرة جربة وجزيرة قرقنة، ومدينة تونس، وكان بإفريقية غلاء شديد هلك فيه كثير من الناس.
وفيها أرسل الخليفة رسولاً إلى السلطان بركيارق مستنفراً على الفرنج، ومبالغاً في تعظيم الأمر وتداركه قبل أن يزداد قوة.
وفي هذه السنة، في شعبان، توفي أبو الحسن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف، ومولده سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، وكان فاضلاً في الحديث.
وفيها توفي أبو الفضل عبد الوهاب بن أبي محمد التميمي الحنبلي، وكان فاضلاً، فصيحاً.
وفيها، في شوال، توفي طراد بن محمد الزينبي، وهو عالي الإسناد في الحديث، وولي نقابة العباسيين من بعده ابنه شرف الدين علي بن طراد.
وفيها، في ذي القعدة، توفي أبو الفتح المظفر بن رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة، وكان بيته مجمع الفضلاء وأهل الدين، ومن جملة من كان عنده إلى أن توفي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي.
وفيها توفي أبو الفرج سهل بن بشر بن أحمد الاسفراييني، وهو من أعيان المحدثين.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وأربعمائةذكر عصيان الأمير أُنر وقتله
لما سار السلطان بركيارق إلى خراسان ولى الأمير أنر بلاد فارس جميعها، وكانت قد تغلب عليها الشوانكارة على اختلاف بطونهم وقبائلهم، واستعانوا بصاحب كرمان إيران شاه بن قاورت، فاجتمعوا، وصافوا الأمير أنر، وكسروه، وعاد مفلولاً إلى أصبهان، وأرسل إلى السلطان يستأذنه في اللحاق به إلى خراسان، فأمره بالمقام ببلد الجبال، وولاه إمارة العراق، وكاتب العساكر المجاورة له بطاعته. فأقام بأصبهان، وسار منها إلى أقطاعه بأذربيجان، وعاد وقد انتشر أمر الباطنية بأصبهان، فندب نفسه لقتالهم، وحصر قلعة على جبل أصبهان.
واتصل به مؤيد الملك بن نظام الملك، وكان ببغداد، فسار منها إلى الحلة، فأكرمه صدقة، وسار من عنده إلى الأمير أنر، فلما اجتمع بالأمير أنر خوفه هو وغيره من السلطان بركيارق، وعظموا عليه الاجتماع به، وحسنوا له البعد عنه، وأشاروا عليه بمكاتبة غياث الدين محمد بن ملكشاه، وهو إذ ذاك بكنجة، فعزم على المخالفة للسلطان، وتحدث فيه، فظهر ذلك، فزاد خوفه من السلطان، فجمع من العساكر المعروفين بالشجاعة نحو عشرة آلاف فارس، وسار من أصبهان إلى الري، وأرسل إلى السلطان يقول: إنه مملوك، ومطيع، إن سلم إليه مجد الملك البلاساني، وإن لم يسلمه إليه فهو عاص خارج عن الطاعة.
فبينما هو يفطر، وكان عادته أن يصوم أياماً من الأسبوع، فلما قارب الفراغ من الإفطار هجم عليه ثلاثة نفر من الأتراك المولدين بخوارزم، وهم من جملة خيله، فصدم أحدهم المشعل فألقاه، وصدم الآخر الشمعة فأطفأها، وضربه الثالث بالسكين فقتله، وقتل معه جانداره، واختلط الناس في الظلمة، ونهبوا خزائنه، وتفرق عسكره، وبقي ملقى فلم يوجد ما يحمل عليه، ثم حمل إلى داره بأصبهان، ودفن بها.
ووصل خبر قتله إلى السلطان بركيارق، وهو بخوار الري، قد خرج من خراسان عازماً على قتاله، وهو على غاية الحذر من قتاله وعاقبة أمره، وفرح مجد الملك البلاساني بقتله، وكان له مثل يومه عن قريب، وكان عمر أنر سبعاً وثلاثين سنة، وكان كثير الصوم والصلاة والخير والمحبة للصالحين.
ذكر ملك الفرنج لعنهم الله البيت المقدسكان البيت المقدس لتاج الدولة تتش، وأقطعه للأمير سقمان بن أرتق التركماني، فلما ظفر الفرنج بالأتراك على أنطاكية، وقتلوا فيهم، ضعفوا، وتفرقوا، فلما رأى المصريون ضعف الأتراك ساروا إليه، ومقدمهم الأفضل بن بدر الجمالي، وحصروه وبه الأمير سقمان، وإيلغازي، ابنا أرتق، وابن عمهما سونج، وابن أخيهما ياقوتي، ونصبوا عليه نيفاً وأربعين منجنيقاً، فهدموا مواضع من سوره، وقاتلهم أهل البلد، فدام القتال والحصار نيفاً وأربعين يوماً، وملكوه بالأمان في شعبان سنة تسع وثمانين وأربعمائة.
وأحسن الأفضل إلى سقمان وإيلغازي ومن معهما، وأجزل لهم العطاء، وسيرهم فساروا إلى دمشق، ثم عبروا الفرات، فأقام سقمان ببلد الرها وسار إيلغازي إلى العراق، واستناب المصريون فيه رجلاً يعرف بافتخار الدولة، وبقي فيه إلى الآن. فقصد الفرنج، بعد أن حصروا عكا، فلم يقدروا عليها، فلما وصلوا إليه حصروه نيفاً وأربعين يوماً، ونصبوا عليه برجين أحدهما من ناحية صهيون، وأحرقه المسلمون، وقتلوا كل من به.
فلما فرغوا من إحراقه أتاهم المستغيث بأن المدينة قد ملكت من الجانب الآخر، وملكوها من جهة الشمال منه ضحوة نهار يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان، وركب الناس السيف، ولبث الفرنج في البلدة أسبوعاً يقتلون فيه المسلمين، واحتمى جماعة من المسلمين بمحراب داود، فاعتصموا به، وقاتلوا فيه ثلاثة أيام، فبذل لهم الفرنج الأمان، فسلموه إليهم، ووفى لهم الفرنج، وخرجوا ليلاً إلى عسقلان فأقاموا بها.
وقتل الفرنج، بالمسجد الأقصى، ما يزيد على سبعين ألفاً، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين، وعلمائهم، وعبادهم، وزهادهم، ممن فارق الأوطان وجاور بذلك الموضع الشريف، وأخذوا من عند الصخرة نيفاً وأربعين قنديلاً من الفضة، وزن كل قنديل ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنوراً من فضة وزنه أربعون رطلاً بالشامي، وأخذوا من القناديل الصغار مائة وخمسين قنديلاً نقرة، ومن الذهب نيفاً وعشرين قنديلاً، وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء.
وورد المستنفرون من الشام، في رمضان، إلى بغداد صحبة القاضي أبي سعد الهروي، فأوردوا في الديوان كلاماً أبكى العيون، وأوجع القلوب، وقاموا بالجامع يوم الجمعة، فاستغاثوا، وبكوا وأبكوا، وذكر ما دهم المسلمين بذلك البلد الشريف المعظم من قتل الرجال، وسبي الحريم والأولاد، ونهب الأموال، فلشدة ما أصابهم أفطروا، فأمر الخليفة أن يسير القاضي أبو محمد الدامغاني، وأبو بكر الشاشي، وأبو القاسم الزنجاني، وأبو الوفا بن عقيل، وأبو سعد الحلواني، وأبو الحسين بن سماك، فساروا إلى حلوان، فبلغهم قتل مجد الملك البلاساني، على ما نذكره، فعادوا من غير بلوغ أرب، ولا قضاء حاجة.
واختلف السلاطين على ما نذكره، فتمكن الفرنج من البلاد، فقال أبو المظفر الآبيوردي، في هذا المعنى، أبياتاً منها:
مزجنا دماء بالدموع السواجم، ... فلم يبق منا عرضة للمراجم
وشر سلاح المرء دمع يفيضه، ... إذا الحرب شبت نارها بالصوارم
فإيهاً، بني الإسلام، إن وراءكم ... وقائع يلحقن الذرى بالمناسم
أتهويمة في ظل أمن وغبطة، ... وعيش كنوار الخميلة ناعم
وكيف تنام العين ملء جفونها، ... على هفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم ... ظهور المذاكي، أو بطون القشاعم
تسومهم الروم الهوان، وأنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
وكم من دماء قد أبيحت، ومن دمى ... تواري حياءً حسنها بالمعاصم
بحيث السيوف البيض محمرة الظبى ... وسمر العوالي داميات اللهاذم
وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة ... تظل لها الولدان شيب القوادم
وتلك حروب من يغب عن غمارها ... ليسلم، يقرع بعدها سنجر نادم
سللن بأيدي المشركين قواضباً، ... ستغمد منهم في الطلى والجماجم
يكاد لهن المستجن بطيبةٍ ... ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدى ... رماحهم، والدين واهي الدعائم
ويجتنبون النار خوفاً من الردى، ... ولا يحسبون العار ضربة لازم
أترضى صناديد الأعاريب بالأذى، ... ويغضي على ذل كماة الأعاجم
ومنها:
فليتهم، إذ لم يذودوا حمية ... عن الدين، ضنوا غيرة بالمحارم
وإن زهدوا في الأجرن إذ حمس الوغى، ... فهلا أتوه رغبة في الغنائم
لئن أذعنت تلك الخياشم للبرى، ... فلا عطسوا إلا بأجدع راغم
دعوناكم، والحرب ترنو ملحةً ... إلينا، بألحاظ النسور القشاعم
تراقب فينا غارة عربية، ... تطيل عليها الروم عض الأباهم
فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه، ... رمينا إلى أعدائنا بالجرائم
ذكر الحرب بين المصريين والفرنجفي هذه السنة، في رمضان، كانت وقعة بين العساكر المصرية والفرنج، وسببها أن المصريين لما بلغهم ما تم على أهل القدس، جمع الأفضل أمير الجيوش العساكر، وحشد، وسار إلى عسقلان، وأرسل إلى الفرنج ينكر عليهم ما فعلوا، ويتهددهم، فأعادوا الرسول بالجواب ورحلوا على أثره، وطلعوا على المصريين، عقيب وصول الرسول، ولم يكن عند المصريين خبر من وصولهم، ولا من حركتهم، ولم يكونوا على أهبة القتال، فنادوا إلى ركوب خيولهم، ولبسوا أسلحتهم، وأعجلهم الفرنج، فهزموهم، وقتلوا منهم من قتل، وغنموا ما في المعسكر من مال وسلاح وغير ذلك.
وانهزم الأفضل، فدخل عسقلان، ومضى جماعة من المنهزمين فاستتروا بشجر الجميز، وكان هناك كثيراً، فأحرق الفرنج بعض الشجر، حتى هلك من فيه، وقتلوا من خرج منه، وعاد الأفضل في خواصه إلى مصر، ونازل الفرنج عسقلان، وضايقوها، فبذل لهم أهلها قطيعة اثني عشر ألف دينار، وقيل عشرين ألف دينار، ثم عادوا إلى القدس.
ذكر ابتداء ظهور السلطان محمد بن ملكشاهكان السلطان محمد وسنجر أخوين لأم وأب، أمهما أم ولد، ولما مات أبوه ملكشاه كان محمد معه ببغداد، فسار مع أخيه محمود، وتركان خاتون زوجة والده إلى أصبهان، ولما حصر بركيارق أصبهان خرج محمد متخفياً، ومضى إلى والدته، وهي في عسكر أخيه بركيارق، وقصد أخاه السلطان بركيارق، وسار معه إلى بغداد سنة ست وثمانين وأربعمائة، وأقطعه بركيارق كنجة وأعمالها، وجعل معه أتابكاً له الأمير قتلغ تكين، فلما قوي محمد قتله، واستولى على جميع أعمال أران الذي من جملته كنجة، فعرف ذلك الوقت شهامة محمد.
وكان السلطان ملكشاه قد أخذ تلك البلاد من فضلون بن أبي الأسوار الروادي، وسلمها إلى سرهنك ساوتكين الخادم، وأقطع فضلون أستراباذ، وعاد فضلون ضمن بلاده، ثم عصى فيها لما قوي، فأرسل السلطان إليه الأمير بوزان، فحاربه وأسره، وأقطع بلاده لجماعة منهم: باغي سيان، صاحب أنطاكية، ولما مات باغي سيان عاد ولده إلى ولاية أبيه في هذه البلاد، وتوفي فضلون ببغداد سنة أربع وثمانين وهو على غاية من الإضاقة في مسجد على دجلة.
وقد ذكرنا فيما تقدم تنقل الأحوال بمؤيد الملك عبيد الله بن نظام الملك، وأنه كان عند الأمير أنر، فحسن له عصيان السلطان بركيارق، فلما قتل أنر سار إلى الملك محمد، فأشار عليه بمخالفة أخيه، والسعي في طلب السلطنة واستوزر مؤيد الملك.
واتفق قتل مجد الملك البلاساني، واستيحاش العسكر من السلطان بركيارق، وفارقوه وساروا نحو السلطان محمد، فلقوه بخرقان، فصاروا معه، وساروا نحو الري.
وكان السلطان بركيارق لما فارقه عسكره سار مجداً إلى الري، فأتاه بها الأمير نيال بن أنوشتكين الحسامي، وهو من أكابر الأمراء، ووصل إليه أيضاً عز الملك منصور بن نظام الملك، وأمه ابنة ملك الأبخاز، ومعه عساكر جمة، فبلغه مسير أخيه محمد إليه في العساكر، فسار من الري إلى أصبهان، فلم يفتح أهلها له الأبواب، فسار إلى خوزستان، على ما نذكره.
وورد السلطان محمد إلى الري ثاني ذي القعدة، فوجد زبيدة خاتون والدة السلطان بركيارق قد تخلفت بعد ابنها، فأخذها مؤيد الملك وسجنها في القلعة، وأخذ خطها بخمسة آلاف دينار، وأراد قتلها، وأشار عليه ثقاته أن لا يفعل ذلك، فلم يقبل منهم، وقالوا له: العسكر محبون لولدها، وإنما استوحشوا منه لأجلها، ومتى قتلت عدلوا عليه، فلا تغتر بهؤلاء الجند، فإنهم غدروا بمن أحسن إليهم أوثق ما كان بهم، فلم يصغ إلى قولهم، ورفعها إلى القلعة، وخنقت، وكان عمرها اثنتين وأربعين سنة. فلما أسر السلطان بركيارق مؤيد الملك رأى خطه في تذكرته بخمسة آلاف دينار، فكان أعظم الأسباب في قتله.
ذكر الخطبة ببغداد للملك محمدلما قوي أمر السلطان محمد سار إليه سعد الدولة كوهرائين من بغداد، وكان قد استوحش من السلطان بركيارق، فاجتمع هو وكربوقا، صاحب الموصل، وجكرمش، صاحب الجزيرة، وسرخاب بن بدر، صاحب كنكور، وغيرها، فساروا إلى السلطان محمد، فلقوه بقم، فرد سعد الدولة إلى بغداد، وخلع عليه، وسار كربوقا وجكرمش في خدمته إلى أصبهان، ولما وصل كوهرائين إلى بغداد خاطب الخليفة في الخطبة للسلطان محمد، فأجاب إلى ذلك، وخطب له يوم الجمعة سابع عشر ذي الحجة، ولقب غياث الدنيا والدين.
ذكر قتل مجد الملك البلاسانيقد ذكرنا تحكم مجد الملك أبي الفضل أسعد بن محمد في دولة السلطان بركيارق، وتمكنه منها. فلما بلغ الغاية التي لا مزيد عليها جاءته نكبات الدنيا ومصائبها من حيث لا يحتسب.
وأما سبب قتله، فإن الباطنية لما توالى منهم قتل الأمراء الأكابر من الدولة السلطانية، نسبوا ذلك إليه، وأنه هو الذي وضعهم على قتل من قتلوه، وعظم ذلك قتل الأمير برسق، فاتهم أولاده زنكي واقبوري وغيرهما، مجد الملك بقتله، وفارقوا السلطان.
وسار السلطان إلى زنجان لأنه بلغه خروج السلطان عليه، على ما ذكرناه، فطمع حينئذ الأمراء، فأرسل أمير آخر، وبلكابك، وطغايرك ابن اليزن، وغيرهم، إلى الأمراء بني برسق يستحضرونهم إليهم ليتفقوا معهم على مطالبة السلطان بتسليم مجد الملك إليهم ليقتلوه، فحضروا عندهم، فأرسلوا إلى السلطان بركيارق، وهم بسجاس، مدينة قريبة من همذان، يلتمسون تسليمه إليهم، ووافقهم على ذلك العسكر جميعه، وقالوا: إن سلم إلينا فنحن العبيد الملازمون للخدمة، وإن منعنا فارقنا، وأخذنا قهراً. فمنع السلطان منه، فأرسل مجد الملك إلى السلطان يقول له: المصلحة أن تحفظ أمراء دولتك، وتقتلني أنت لئلا يقتلني القوم فيكون فيه وهن على دولتك. فلم تطب نفس السلطان بقتله، وأرسل إليهم يستحلفهم على حفظ نفسه، وحبسه في بعض القلاع. فلما حلفوا سلمه إليهم، فقتله الغلمان قبل أن يصل إليهم، فسكنت الفتنة.
ومن العجب أنه كان لا يفارقه كفنه سفراً وحضراً، ففي بعض الأيام فتح خازنه صندوقاً، فرأى الكفن، فقال: وما أصنع بهذا؟ إن أمري لا يؤول إلى كفن، والله ما أبقى إلا طريحاً على الأرض. فكان كذلك، ورب كلمة تقول لقائلها دعني.
ولما قتل حمل رأسه إلى مؤيد الملك بن نظام الملك. وكان مجد الملك خيراً، كثير الصلاة بالليل، كثير الصدقة، لا سيما على العلويين وأرباب البيوتات، وكان يكره سفك الدماء، وكان يتشيع إلا أنه كان يذكر الصحابة ذكراً حسناً، ويلعن من يسبهم. ولما قتل أرسل الأمراء يقولون للسلطان: المصلحة أن تعود إلى الري، ونحن نمضي إلى أخيك فنقاتله ونقضي هذا المهم. فسار بعد امتناع، وتبعه مائتا فارس لا غير، ونهب العسكر سرادق السلطان ووالدته وجميع أصحابه، وعاد إلى الري، وسار العسكر إلى السلطان محمد.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في شعبان، وصل الكيا أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بالهراس، الفقيه الشافعي، ولقبه عماد الدين شمس الإسلام، برسالة من السلطان بركيارق إلى الخليفة، وهو من أصحاب إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، ومولده سنة خمسين وأربعمائة، واعتنى بأمره مجد الملك البلاساني، وقام له الوزير عميد الدولة بن جهير لما دخل عليه.
وفيها قتل أبو القاسم ابن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني بنيسابور! وكان خطيبها، واتهم العامة الزروع جميعها، ولحق الناس بعده وباء جارف، فمات منهم خلق كثير عجزوا عن دفنهم لكثرتهم.
وفيها، في شعبان، توفي أبو الغنائم الفارقي، الفقيه الشافعي، بجزيرة ابن عمر، وكان إماماً فاضلاً زاهداً.
وفيها، في صفر، توفي أبو عبد الله الحسين بن طلحة النعالي، وعمره نحو تسعين سنة، وكان عالي الإسناد في الحديث، وقيل توفي سنة ثلاث وتسعين.
وفيها، في شعبان، توفي أبو غالب محمد بن علي بن عبد الواحد بن الصباغ الفقيه الشافعي، تفقه على ابن عمه أبي نصر، وكان حسن الخلق، متواضعاً.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة
ذكر إعادة خطبة السلطان بركيارق ببغدادفي هذه السنة أعيدت الخطبة للسلطان بركيارق ببغداد.
وسبب ذلك أن بركيارق سار في العام الماضي من الري إلى خوزستان، فدخلها وجميع من معه على حال سيئة، وكان أمير عسكره حينئذ ينال ابن أنوشتكين الحسامي، وأتاه غيره من الأمراء، وسار إلى واسط، فظلم عسكره الناس، ونهبوا البلاد، واتصل به الأمير صدقة بن مزيد، صاحب الحلة، ووثب على السلطان قوم ليقتلوه، فأخذوا وأحضروا بين يديه، فاعترفوا أن الأمير سرمز، شحنة أصبهان، وضعهم على قتله، فقتل أحدهم، وحبس الباقون، وسار إلى بغداد، فدخلها سابع عشر صفر، وخطب له ببغداد يوم الجمعة منتصف صفر قبل وصوله بيومين.
وكان سعد الدولة كوهرائين بالشفيعي، وهو في طاعة السلطان محمد، فسار إلى داي مرج، ومعه إيلغازي بن أرتق وغيره من الأمراء، فأرسل إلى مؤيد الملك والسلطان محمد يستحثهما على الوصول إليه، فأرسلا إليه كربوقا، صاحب الموصل، وجكرمش، صاحب جزيرة ابن عمر، فأما جكرمش فاستأذن كوهرائين في العود إلى بلده، وقال إنه قد اختلت الأحوال، فأذن له، وبقي مع كوهرائين جماعة من الأمراء، فاتفقوا على أن يصدروا عن رأي واحد لا يختلفون، ثم اتفقت آراؤهم على أن كتبوا إلى السلطان بركيارق يقولون له: اخرج إلينا، فما فينا من يقاتلك.
وكان الذي أشار بذا كربوقا، وقال لكوهرائين: إننا لم نظفر من محمد ومؤيد الملك بطائل، وكان منحرفاً عن مؤيد الملك. فسار بركيارق إليهم، فترجلوا، وقبلوا الأرض، وعادوا معه إلى بغداد، وأعاد إلى كوهرائين جميع ما كان أخذ له من سلاح ودواب وغير ذلك، واستوزر بركيارق ببغداد الأعز أبا المحاسن عبد الجليل بن علي بن محمد الدهستاني، وقبض على عميد الدولة ابن جهير، وزير الخليفة، وطالبه بالحاصل من ديار بكر والموصل لما تولاها هو وأبوه أيام ملكشاه، فاستقر الأمر على مائة ألف دينار وستين ألف دينار يحملها إليه، وخلع الخليفة السلطان بركيارق.
ذكر الوقعة بين السلطانين بركيارق ومحمد وإعادة خطبة محمد ببغدادفي هذه السنة سار بركيارق من بغداد على شهرزور، فأقام بها ثلاثة أيام، والتحق به عالم كثير من التركمان وغيرهم، فسار نحو أخيه السلطان محمد ليحاربه، فكاتبه رئيس همذان ليسير إليها ويأخذ أقطاع الأمراء الذين مع أخيه، فلم يفعل، وسار نحو أخيه، فوقعت الحرب بينهم رابع رجب، وهو المصاف الأول بين بركيارق وأخيه السلطان محمد بإسبيذروذ، ومعناه النهر الأبيض، وهو على عدة فراسخ من همذان.
وكان مع محمد نحو عشرين ألف مقاتل، وكان محمد في القلب، ومعه الأمير سرمز، وعلى ميمنته أمير آخُر، وابنه إباز، على ميسرته مؤيد الملك، والنظامية، وكان السلطان بركيارق في القلب، ووزيره الأعز أبو المحاسن، وعلى ميمنته كوهرائين وعز الدولة بن صدقة بن مزيد، وسرخاب بن بدر، وعلى ميسرته كربوقا وغيره، فحمل كوهرائين من ميمنة بركيارق على ميسرة محمد، وبها مؤيد الملك، والنظامية، فانهزموا، ودخل عسكر بركيارق في خيامهم، فنهبوهم، وحملت ميمنة محمد على ميسرة بركيارق، فانهزمت الميسرة، وانضافت ميمنة محمد إليه في القلب على بركيارق، ومن معه، فانهزم بركيارق، ووقف محمد مكانه، وعاد كوهرائين من طلب المنهزمين الذين انهزموا بين يديه، وكبا به فرسه، فأتاه خراساني فقتله، وأخذ رأسه، وتفرقت عساكر بركيارق، وبقي في خمسين فارساً.
وأما وزيره الأعز أبو المحاسن فإنه أخذ أسيراً، فأكرمه مؤيد الملك بن نظام الملك، ونصب له خيماً وخركاة، وحمل إليه الفرش والكسوة، وضمنه عمادة بغداد، وأعاده إليها، وأمره بالمخاطبة في إعادة الخطبة للسلطان محمد ببغداد، فلما وصل إليها خاطب في ذلك، فأجيب إليه وخطب له يوم الجمعة رابع عشر رجب.
ذكر قتل سعد الدولة كوهرائينفي هذه السنة، في رجب قتل سعد الدولة كوهرائين في الحرب المذكورة قبل، وكان ابتداء أمره أنه كان خادماً للملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بويه، انتقل إليه من امرأة من قرقوب بخوزستان، وكان إذا توجه إلى الأهواز حضر عندها، واستعرض حوائجها، وأصاب أهلها منه خيراً كثيراً، فأرسله أبو كاليجار مع ابنه أبي نصر إلى بغداد، فلما قبض عليه السلطان طغرلبك مضى معه إلى قلعة طبرك، فلما مات أبو نصر انتقل إلى خدمة السلطان ألب ارسلان، ووقاه بنفسه لما جرحه يوسف الخوارزمي.
وكان ألب أرسلان قد أقطعه واسط، وجعله شحنة لبغداد، فلما قتل ألب أرسلان أرسله ابنه ملكشاه إلى بغداد، فأحضر له الخلع والتقليد، ورأى ما لم يره خادم قبله من نفوذ الأمر، وتمام القدرة، وطاعة أعيان الأمراء، وخدمتهم إياه، وكان حليماً، كريماً، حسن السيرة، لم يصادر أحداً من أهل ولايته، ومناقبه كثيرة.
ذكر حال السلطان بركيارق بعد الهزيمةوانهزامه من أخيه سنجر أيضاً وقتل أمير داذ حبشي
لما انهزم السلطان بركيارق من أخيه السلطان محمد سار قليلاً، وهو في خمسين فارساً، ونزل عتمة، واستراح، وقصد الري، وأرسل إلى من كان يعلم أنه يريده، ويؤثر دولته، فاستدعاه، فاجتمع معه جمع صالح، فسار إلى اسفرايين، وكاتب أمير داذ حبشي نب التونتاق، وهو بدامغان، يستدعيه، فأجابه يشير عليه بالمقام بنيسابور حتى يأتيه، وكان حينئذ أكثر خراسان وطبرستان وجرجان، فلما وصل بركيارق إلى نيسابور قبض على رؤياتها، وخرج بهم، وأطلقهم بعد ذلك، وتمسك بعميد خراسان أبي محمد، وأبي القاسم بن أبي المعالي الجويني. فأما أبو القاسم فمات مسموماً في قبضه، وقد تقدم أنه قتل سنة اثنتين وتسعين.
وعاد بركيارق فاستدعى أمير داذ، فاعتذر بقصد السلطان سنجر بلاده في عساكر بلخ، ويسأل السلطان بركيارق أن يصل إليه ليعينه على الملك سنجر، فسار إليه في ألف فارس، فلم يعلم بقدومه إلا الأمراء الكبار من أصحاب سنجر، ولم يعلموا الأصاغر لئلا ينهزموا.
وكان مع أمير داذ عشرون ألف فارس، فيهم من رجالة الباطنية خمسة آلاف، ووقع المصاف بين بركيارق وأخيه سنجر خارج النوشجان، وكان الأمير بزغش في ميمنة سنجر، والأمير كندكز في ميسرته، والأمير رستم في القلب، فحمل بركيارق على رستم فطعنه فقتله، وانهزم أصحابه وأصحاب سنجر، واشتغل العسكر بالنهب، فحمل عليهم بزغش وكندكز، فقتلا المنهزمين، وانهزم الرجالة إلى مضيق بين جبلين، فأرسل عليهم الماء فأهلكهم، ووقعت الهزيمة على أصحاب بركيارق، وكان قد أخذ والدة أخيه سنجر لما انهزم أصحابه أولاً، فخافت أن يقتلها بأمه، فأحضرها وطيب قلبها، وقال: إنما أخذتك حتى يطلق أخي سنجر من عنده من الأسرى، ولست كفؤاً لوالدتي حتى أقتلك. فلما أطلق سنجر الأسرى أطلقها بركيارق.
وهرب أمير داذ إلى بعض القرى، وأخذه بعض التركمان، فأعطاه في نفسه مائة ألف دينار، فلم يطلقه، وحمله إلى بزغش فقتله.
وسار بركيارق إلى جرجان ثم إلى دامغان، وسار في البرية، ورؤي في بعض المواضع ومعه سبعة عشر فارساً، وجمازة واحدة، ثم كثر جمعه، وصار معه ثلاثة آلاف فارس، منهم: جاولي سقاووا، وغيره، وسار إلى أصبهان بمكاتبة من أهلها، فسمع السلطان محمد، فسبقه إليها، فعاد إلى سميرم.
ذكر فتح تميم بن المعز مدينة سفاقسفي هذه السنة فتح تميم بن المعز مدينة سفاقس، وكان صاحبها حمو دق عاد فتغلب عليها، واشتد أمره بوزير كان عنده قد قصده، وهو من كتاب المعز، كان حسن الرأي والتدبير، فاستقامت به دولته، وعظم شأنه، فأرسل إليه تميم يطلبه ليستخدمه، ووعده، وبالغ في استمالته، فلم يقبل، فسير تميم جيشاً إلى حصار سفاقس، وأمر الأمير الذي جعله مقدم الجيش أن يهدم ما حول المدينة ويحرقه، ويقطع الأشجار سوى ما يتعلق بذلك الوزير فإنه لا يتعرض له، ويبالغ في صيانته، ففعل ذلك، فلما رأى حمو ما فعل بأملاك الناس، ما عدا الوزير، اتهمه، فقتله، فانحل نظام دولته، وتسلم عسكر تميم المدينة، وخرج حمو منها، وقصد مكن بن كامل الدهماني، فأقام عنده، فأحسن إليه، ولم يزل عنده حتى مات.
ذكر عزل عميد الدولة من وزارة الخليفة ووفاتهلما أطلق مؤيد الدولة، وزير السلطان محمد، الأعز أبا المحاسن، وزير بركيارق، وضمنه عمادة بغداد، أمره أن يخاطب الخليفة بعزل وزيره عميد الدولة بن جهير، فسار من العسكر، وسمع عميد الدولة الخبر، فأمر أصبهبذ صباوة بن خمارتكين بالخروج إلى طريق الأعز وقتله.
وكان أصبهبذ قد حضر الحرب مع بركيارق، ولما انهزم العسكر قصد بغداد، فخرج إلى طريق الأعز أبي المحاسن، فلقيه قريباً من بعقوبا، فأوقع بمن معه، والتجأ الأعز إلى القرية واحتمى، فلما رأى أصبهبذ صباوة ذلك أرسل إليه يقول له: إنك وزير السلطان بركيارق، وأنا مملوكه، فإن كنت على خدمته فاخرج إلينا حتى نسير إلى بغداد ونقيم الخطبة للسلطان، وأنت الصاحب الذي لا يخالف، وإن لم تجب إلى هذا، فما بيننا غير السيف. فأجابه الأعز إلى ذلك، واجتمعا، فعرفه صباوة الذي أمره به عميد الدولة من قتله، وباتا تلك الليلة، وأرسل الأعز إلى الأمير إيلغازي بن أرتق، وكان قد ورد في صحبته، وفارقه نحو الراذان، فحضر في الليل، فانقطع حينئذ أمل صباوة منه، وفارقه.
وسار الأعز إلى بغداد وخاطب في عزل عميد الدولة، فعزل في رمضان، وأخذ من ماله خمسة وعشرون ألف دينار، وقبض عليه وعلى إخوته، وبقي معزولاً إلى سادس عشر شوال، فتوفي محبوساً في دار الخلافة، ومولده في المحرم سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وكان عاقلاً، كريماً، حليماً، إلا أنه كان عظيم الكبر، يكاد يعد كلامه عداً، وكان إذا كلم إنساناً كلمات يسيرة هنيء ذلك الرجل بكلامه.
ذكر ظفر المسلمين بالفرنج
في ذي القعدة من هذه السنة لقي كمشتكين بن الدانشمند طايلو، وإنما قيل له ابن الدانشمند لأن أباه كان معلماً للتركمان وتقلبت به الأحوال، حتى ملك، وهو صاحب ملطية وسيواس وغيرهما، بيمند الفرنجي، وهو من مقدمي الفرنج، قريب ملطية، وكان صاحبها قد كاتبه، واستقدمه إليه، فورد عليه في خمسة آلاف، فلقيهم ابن الدانشمند، فانهزم بيمند وأسر.
ثم وصل من البحر سبعة قمامصة من الفرنج، وأرادوا تخليص بيمند، فأتوا إلى قلعة تسمى أنكورية، فأخذوها وقتلوا من بها من المسلمين، وساروا إلى قلعة أخرى فيها إسماعيل بن الدانشمند، وحصروها، فجمع ابن الدانشمند جمعاً كثيراً، ولقي الفرنج، وجعل له كميناً، وقاتلهم، وخرج الكمين عليهم، فلم يفلت أحد من الفرنج، وكانوا ثلاثمائة ألف، غير ثلاثة آلاف هربوا ليلاً وأفلتوا مجروحين.
وسار ابن الدانشمند إلى ملطية، فملكها وأسر صاحبها، ثم خرج إليه عسكر الفرنج من أنطاكية، فلقيهم وكسرهم، وكانت هذه الوقائع في شهور قريبة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة زاد العيارين بالجانب الغربي من بغداد، في شعبان، وعظم ضررهم، فأمر الخليفة كمال الدولة يمن بتهذيب البلد، فأخذ جماعة من أعيانهم، وطلب الباقين فهربوا.
وفيها أيضاً انحلت الأسعار بالعراق، وكان كر الحنطة قد بلغ سبعين ديناراً، وربما زاد كثيراً في بعض الأوقات، وانقطعت الأمطار، ويبست الأنهار، وكثر الموت، حتى عجزوا عن دفن الموتى، فحمل في بعض الأوقات ستة أموات على نعش واحد، وعدمت الأدوية والعقاقير.
وفيها، في رجب، سار بيمند الفرنجي، صاحب أنطاكية، إلى قلعة أفامية، فحصرها، وقاتل أهلها أياماً، وأفسد زروعها ثم رحل عنها.
وفيها. في آخر رمضان، قتل الأمير بلكابك سرمز بأصبهان، بدار السلطان محمد، وكان كثير الاحتياط من الباطنية لا يفارقه لبس الدرع ومن يمنع عنه، ففي ذلك اليوم لم يلبس درعاً، ودخل دار السلطان في قلة، فقتله الباطنية، فقتل واحد ونجا آخر.
وفيها توفي أبو الحسن البسطامي الصوفي، ورباطه مشهور على دجلة غربي بغداد، بناه أبو الغنائم بن المحلبان.
وفيها مات أبو نصر بن أبي عبد الله بن جردة، وأصله من عكبرا، وإليه ينسب مسجد ابن جردة، وخرابة ابن جردة ببغداد.
وفيها توفي أبو علي يحيى نب جزلة الطبيب، وكان نصرانياً فأسلم، وهو مصنف كتاب المنهاج.
وفيها، في شوال، توفي عبد الرزاق الصوفي، الغزنوي، المقيم برباط عتاب، وحج عدة حجات على التجريد، ولم يخلف ما تكفن فيه، فقالت زوجته: إذا مت افتضحنا، قال: لم نفتضح؟ قالت: لأنك ليس لك ما تكفن فيه. فقال: إنما أفتضح إذا خلفت ما أكفن فيه.
وفيها، في رمضان، توفي عز الدولة أبو المكارم محمد بن سيف الدولة صدقة بن مزيد.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وأربعمائة
ذكر الحرب بين السلطانين بركيارق ومحمد
وقتل مؤيد الملكفي هذه السنة، ثالث جمادى الآخرة، كان المصاف الثاني بين السلطان بركيارق والسلطان محمد، وقد ذكرنا سنة ثلاث وتسعين انهزام السلطان بركيارق من أخيه السلطان محمد، وتنقله في البلاد، إلى أصبهان، وأنه لم يدخلها، وسار منها إلى خوزستان، وأتى عسكر مكرم، فأتاه الأميران زنكي والبكي ابنا برسق، وصارا معه، وأقام بها شهرين، وسار منها إلى همذان، فاتصل به الأمير إياز.
وكان سبب ذلك أن أمير آخر قد مات مذ قريب، فاتهم إياز مؤيد الملك بأنه سقاه السم، وقوى ذلك عنده أن وزير أمير آخر هرب عقيب موته، فازداد ظن إياز باتهامه، فظفر بالوزير، فقتله.
وكان إياز قد اتخذ أمير آخر ولداً، واتصل به العسكر، ووصى له بجميع ماله، فحين استوحش لهذا السبب كاتب السلطان بركيارق، واتصل به، ومعه خمسة آلاف فارس، وصار من جملة عسكره.
وسار السلطان محمد إلى لقاء أخيه، فلما تقارب العسكران استأمن الأمير سرخاب بن كيخسرو، صاحب آوة، إلى السلطان بركيارق، فأكرمه. ووقع المصاف ثالث جمادى الآخرة، وكان مع السلطان بركيارق خمسون ألفاً، ومع أخيه السلطان محمد خمسة عشر ألفاً، فالتقوا، فاقتتلوا يومهم أجمع، وكان النفر بعد النفر يستأمنون من عسكر محمد إلى بركيارق، فيحسن إليهم.
ومن العجب الدال على الظفر أن رجالة بركيارق احتاجوا إلى تراس، فوصل إليه يوم المصاف بكرة اثنا عشر حملاً سلاحاً من همذان منها ثمانية أحمال تراس، ففرقت فيهم، فلما وصلت نزل السلطان بركيارق، وصلى ركعتين شكراً لله تعالى.
ولم يزل القتال بينهم إلى آخر النهار، فانهزم السلطان محمد وعسكره، وأسر مؤيد الملك، أسره غلام لمجد الملك البلاساني وأحضر عند السلطان بركيارق، فسبه، وأوقفه على ما اعتمده معه من سب والدته مرة، ونسبته إلى مذهب الباطنية أخرى، ومن حمل أخيه محمد على عصيانه، والخروج عن طاعته إلى غير ذلك، ومؤيد الملك ساكت لا يعيد كلمة، فقتله بركيارق بيده، وألقي على الأرض عدة أيام، حتى سأل الأمير إياز في دفنه، فأذن فيه، فحمل إلى تربة أبيه بأصبهان فدفن معه.
وكان بخيلاً، سيء السيرة مع الأمراء، إلا أنه كان كثير المر والحيل في إصلاح أمر الملك، وكان عمره لما قتل نحو خمسين سنة.
وكان السلطان بركيارق قد استوزر في صفر الأعز أبا المحاسن عبد الجليل ابن علي الدهستاني، فلما قتل مؤيد الملك أرسل الوزير أبو المحاسن رسولاً إلى بغداد، وهو أبو إبراهيم الأسداباذي، لأخذ أموال مؤيد الملك، فنزل ببغداد بدار مؤيد الملك، وسلم إليه محمد الشرابي، وهو ابن خالة مؤيد الملك، فأخذت منه الأموال والجواهر بعد مكروه أصابه، وعذاب ناله، وأخذ له ذخائر من مواضع أخر ببلاد العجم منها: قطعة بلخش، وزنها واحد وأربعون مثقالاً.
ولما فرغ السلطان بركيارق من هذه الوقعة سار إلى الري. فوصل إليه هناك قوام الدولة كربوقا، صاحب الموصل، ونور الدولة دبيس بن صدقة بن مزيد.
ذكر حال السلطان محمد بعد الهزيمة
واجتماع بأخيه الملك سنجرلما انهزم السلطان محمد، سار طالباً خراسان إلى أخيه سنجر، وهما لأم واحدة، فأقام بجرجان، وراسل أخاه يطلب منه مالاً وكسوة، وغير ذلك، فسير إليه ما طلب، وترددت الرسل بينهما، حتى تحالفا واتفقا.
ولم يكن بقي مع السلطان محمد غير أميرين في نحو ثلاثمائة فارس، فلما استقرت القواعد بينهما سار الملك سنجر من خراسان في عساكره نحو أخيه السلطان محمد، فاجتمعا بجرجان، وسارا منها إلى دامغان، فخربها العسكر الخراساني، ومضى أهلها هاربين إلى قلعة كردكوه، وخرب العسكر ما قدروا عليه من البلاد، وعم الغلاء تلك الأصقاع، حتى أكل الناس الميتة والكلاب، وأكل الناس بعضهم بعضاً، وسارا إلى الري، فلما وصلا إليها انضم إليهما النظامية وغيرهم، فكثر جمعهما، وعظمت شوكتهما، وتمكنت من القلوب هيبتهما.
ذكر ما فعله السلطان بركيارق ودخوله بغدادلما كان السلطان بركيارق بالري، بعد انهزام أخيه محمد، اجتمعت عليه العساكر الكثيرة، فصار معه نحو مائة ألف فارس، ثم إنهم ضاقت عليهم الميرة، فتفرقت العساكر، فعاد دبيس بن صدقة إلى أبيه، وخرج الملك مودود بن إسماعيل بن ياقوتي بأذربيجان، فسير إليه قوام الدولة كربوقا في عشرة آلاف فارس، واستأذن الأمير إياز في أن يقصد داره بهمذان يصوم بها شهر رمضان، ويعود بعد الفطر، فأذن له، وتفرقت العساكر لمثل ذلك، وبقي في العدد القليل.
فلما بلغه أن أخويه قد جمعا الجموع، وحشدا الجنود، وأنهما لما بلغهما قلة من معه جدا في المسير إليه، وطويا المنازل ليعاجلاه، قبل أن يجمع جموعه وعساكره، فلما قارباه سار من مكانه، وقد طمع فيه من كان يهابه، وأيس منه من كان يرجوه، فقصد نحو همذان ليجتمع هو وإياز، فبلغه أن إياز قد راسل السلطان محمداً ليكون معه ومن جملة أعوانه، خوفاً على ولايته، وهي همذان وغيرها، فلما سمع ذلك عاد عنها، وقصد خوزستان، فلما قرب من تستر كاتب الأمراء بني برسق يستدعيهم إليه، فلم يحضروا لما علموا أن إياز لم يحضر، وللخوف من السلطان محمد، فسار نحو العراق، فلما بلغ حلوان أتاه رسول الأمير إياز يسأل التوقف ليصل إليه.
وسبب ذلك أن إياز راسل السلطان محمد في الانضمام إليه، والمصير في جملة عسكره، فلم يقبله، وسير العساكر إلى همذان، ففارقها منهزماً، ولحق بالسلطان بركيارق، فأقام السلطان بركيارق بحلوان، ووصل إليه إياز، وساروا جميعهم إلى بغداد.
وأخذ عسكر محمد ما تخلف للأمير إياز بهمذان من مال، ودواب، وبرك، وغير ذلك، فإنه أعجل عنه، وكان من جملته خمسمائة حصان عربية، قيل كان يساوي كل حصان منها ما بين ثلاثمائة دينار إلى خمسمائة دينار، ونهبوا داره، وصادروا جماعة من أصحابه، وصودر رئيس همذان بمائة ألف دينار.
ولما وصل إياز إلى بركيارق تكاملت عدتهم خمسة آلاف فارس، وقد ذهبت خيامهم وثقلهم، ووصل بركيارق إلى بغداد سابع عشر ذي القعدة، وأرسل الخليفة إلى طريقه يلتقيه أمين الدولة بن موصلايا في الموكب، ولما كان عيد الأضحى نفذ الخليفة منبراً إلى دار السلطان، وخطب عليه الشريف أبو الكرم، وصلى صلاة العيد، ولم يحضر بركيارق لأنه كان مريضاً.
وضاقت الأموال على بركيارق، فلم يكن عنده ما يخرجه على نفسه وعلى عساكره، فأرسل إلى الخليفة يشكو الضائقة وقلة المال، ويطلب أن يعان بما يخرجه، فتقرر الأمر بعد المراجعات على خمسين ألف دينار، حملها الخليفة إليه، ومد بركيارق وأصحابه أيديهم إلى أموال الناس، فعم ضررهم، وتمنى أهل البلاد زوالهم عنهم، ودعتهم الضرورة إلى أن ارتكبوا خطة شنعاء، وذلك أنه قدم عليهم أبو محمد عبيد الله بن منصور، المعروف بابن صليحة، قاضي جبلة من بلاد الشام وصاحبها، منهزماً من الفرنج، على ما نذكره، ومعه أموال جليلة المقدار، فأخذوها منه.
ذكر خلاف صدقة بن مزيد على بركيارقفي هذه السنة خرج الأمير صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد، صاحب الحلة، عن طاعة السلطان بركيارق، وقطع خطبته من بلاده، وخطب فيه للسلطان محمد.
وسبب ذلك أن الوزير الأعز أبا المحاسن الدهستاني، وزير السلطان بركيارق، أرسل إلى صدقة يقول له: قد تخلف عندك لخزانة السلطان ألف ألف دينار، وكذا وكذا دينار لسنين كثيرة، فإن أرسلتها، وإلا سيرنا العساكر إلى بلادك وأخذناها منك. فلنا سمع هذه الرسالة قطع الخطبة، وخطب لمحمد.
فلما وصل السلطان بركيارق إلى بغداد على هذه الحال أرسل إليه مرة بعد مرة يدعوه إلى الحضور عنده، فلم يجب إلى ذلك، فأرسل إليه الأمير إياز يشير عليه بقصد خدمة السلطان، ويضمن له كل ما يريده، فقال: لا أحضر، ولا أطيع السلطان، إلا إذا سلم وزيره أبا المحاسن إلي، وإن لم يفعل فلا يتصور مني الحضور عنده أبداً، ويكون في ذلك ما يكون، فإن سلمه إلي، فأنا العبد المخلص في العبودية بالحسن والطاعة. فلم يجب إلى ذلك، فتم على مقاطعته، وأرسل إلى الكوفة، وطرد عنها النائب بها عن السلطان واستضافها إليه.
ذكر وصول السلطان محمد إلى بغداد
ورحيل السلطان بركيارق عنهافي هذه السنة، في السابع والعشرين من ذي الحجة، وصل السلطان محمد وسنجر إلى بغداد، وكان السلطان محمد لما استولى على همذان وغيرها سار إلى بغداد، فلما وصل إلى حلوان سار إليه إيلغازي بن أرتق في عساكره، وخدمه، وأحسن في الخدمة، وكان عسكر محمد يزيد على عشرة آلاف فارس سوى الأتباع.
فلما وصلت الأخبار بذلك كان بركيارق على شدة من المرض، يرجف عليه خواصه بكرة وعشياً، فماج أصحابه، وخافوا، واضطربوا، وحاروا، وعبروا به في محفة إلى الجانب الغربي، فنزلوا بالرملة، ولم يبق في بركيارق غير روح يتردد، وتيقن أصحابه موته، وتشاوروا في كفنه، وموضع دفنه.
فبينما هم كذلك إذ قال لهم: إني أجد نفسي قد قويت، وحركتي قد تزايدت، فطابت نفوسهم، وساروا، وقد وصل العسكر الآخر، فتراءى الجمعان بينهما دجلة، وجرى بينهما مراماة وسباب، وكان أكثر ما يسبهم عسكر يا باطنية، يعيرونهم بذلك، ونهبوا البلاد في طريقهم إلى أن وصلوا إلى واسط.
ووصل السلطان محمد إلى بغداد، فنزل بدار المملكة، فبرز إليه توقيع الخليفة المستظهر بالله يتضمن الامتعاض من سوء سيرة بركيارق ومن معه، والاستبشار بقدومه، وخطب به بالديوان، ونزل الملك سنجر بدار كوهرائين، وكان محمد قد استوزر بعد مؤيد الملك خطير الملك أبا منصور محمد بن الحسين، وقدم إليه في المحرم سنة خمس وتسعين الأمير سيف الدولة صدقة، وخرج الخلق كلهم إلى لقائه.
ذكر حال قاضي جبلة
هو أبو محمد عبيد الله بن منصور المعروف بابن صليحة، وكان والده رئيسها أيام كان الروم مالكين لها على المسلمين، يقضي بينهم، فلما ضعف أمر الروم، وملكها المسلمون، وصارت تحت حكم جلال الملك أبي الحسن علي بن عمار، صاحب طرابلس، وكان منصور على عادته في الحكم فيها. فلما توفي منصور قام ابنه أبو محمد مقامه، وأحب الجندية، واختار الجند، فظهرت شهامته، فأراد ابن عمار أن يقبض عليه، فاستشعر منه، وعصى عليه، وأقام الخطبة العباسية، فبذل ابن عمار لدقاق بن تتش مالاً ليقصده ويحصره، ففعل، وحصره، فلم يظفر منه بشيء، وأصيب صاحبه أتابك طغتكين بنشابة في ركبتيه وبقي أثرها.
وبقي أبو محمد بها مطاعاً إلى أن جاء الفرنج، لعنهم الله، فحصروها، فأظهر أن السلطان بركيارق قد توجه إلى الشام، وشاع هذا، فرحل الفرنج، فلما تحققوا اشتغال السلطان عنهم عاودوا حصاره، فأظهر أن المصريين قد توجهوا لحربهم، فرحلوا ثانياً، ثم عادوا، فقرر مع النصارى الذين بها أن يراسلوا الفرنج، ويواعدوهم إلى برج من أبراج البلد ليسلموه إليهم ويملكوا البلد، فلما أتتهم الرسالة جهزوا نحو ثلاثمائة رجل من أعيانهم وشجعانهم، فتقدموا إلى ذلك البرج، فلم يزالوا يرقون في الحبال، واحداً بعد واحد، وكلما صار عند ابن صليحة، وهو على السور، رجل منهم قتله إلى أن قتلهم أجمعين، فلما أصبحوا رمى الرؤوس إليهم فرحلوا عنه.
وحصروه مرة أخرى، ونصبوا على البلد برج خشب، وهدموا برجاً من أبراجه، وأصبحوا وقد بناه أبو محمد، ثم نقب في السور نقوباً، وخرج من الباب وقاتلهم، فانهزم منهم، وتبعوه، فخرج أصحابه من تلك النقوب، فأتوا الفرنج من ظهورهم، فولوا منهزمين وأسر مقدمهم المعروف بكند اصطبل، فافتدى نفسه بمال جزيل.
ثم علم أنهم لا يقعدون عن طلبه، وليس له من يمنعهم عنه، فأرسل إلى طغتكين أتابك يلتمس منه إنفاذ من يثق به ليسلم إليه ثغر جبلة، ويحميه ليصل هو إلى دمشق بماله وأهله، فأجابه إلى ما التمس، وسير إليه ولده تاج الملوك بوري، فسلم إليه البلد، ورحل إلى دمشق، وسأله أن يسيره إلى بغداد، ففعل، وسيره ومعه من يحميه إلى أن وصل إلى الأنبار.
ولما صار بدمشق أرسل ابن عمار صاحب طرابلس إلى الملك دقاق، وقال: سلم إلي ابن صليحة عرياناً، وخذ ماله أجمع، وأنا أعطيك ثلاثمائة ألف دينار، فلم يفعل. فلما وصل إلى الأنبار أقام بها أياماً، ثم سار إلى بغداد، وبها السلطان بركيارق، فلما وصل أحضره الوزير الأعز أبو المحاسن عنده، وقال له: السلطان محتاج، والعساكر يطالبونه بما ليس عنده، ونريد منك ثلاثين ألف دينار، وتكون له منة عظيمة، تستحق بها المكافأة والشكر. فقال: السمع والطاعة، ولم يطلب أن يحط شيئاً، وقال: إن رحلي ومالي في الأنبار بالدار التي نزلتها، فأرسل الوزير إليها جماعة، فوجدوا فيها مالاً كثيراً، وأعلاقاً نفيسة، فمن جملة ذلك ألف ومائة قطعة مصاغ عجيب الصنعة، ومن الملابس والعمائم التي لا يوجد مثلها شيء كثير.
كان ينبغي أن نذكر هذه الحوادث التي بعد انهزام السلطان محمد إلى ها هنا، بعد قتل الباطنية، فإنها كانت أواخر السنة، وكان قتلهم في شعبان، وإنما قدمناها لنتبع بعض الحادثة بعضاً لا يفصل بينها شيء.
وأما تاج الملوك بوري، فإنه لما ملك جبلة، وتمكن منها، أساء السيرة هو وأصحابه مع أهلها، وفعلوا بهم أفعالاً أنكروها، فراسلوا القاضي فخر الملك أبا علي عمار بن محمد بن عمار، صاحب طرابلس، وشكوا إليه ما يفعل بهم، وطلبوا منه أن يرسل إليهم بعض أصحابه ليسلموا إليه البلد، ففعل ذلك، وسير إليهم عسكراً، فدخلوا جبلة، واجتمعوا بأهلها، وقاتلوا تاج الملوك ومن معه، فانهزم الأتراك، وملك عسكر ابن عمار جبلة وأخذوا تاج الملوك أسيراً، وحملوه إلى طرابلس، فأكرمه ابن عمار، وأحسن إليه، وسيره إلى أبيه بدمشق، واعتذر إليه، وعرفه صورة الحال، وأنه خاف أن يملك الفرنج جبلة.
ذكر قتل الباطنيةفي هذه السنة، في شعبان، أمر السلطان بركيارق بقتل الباطنية، وهم الإسماعيلية وهم الذين كانوا قديماً يسمون قرامطة، ونحن نبتديء بأول أمرهم الآن ثم بسبب قتلهم.
فأول ما عرف من أحوالهم، أعني هذه الدعوة الأخيرة التي اشتهرت بالباطنية، والإسماعيلية، في أيام السلطان ملكشاه، فإنه اجتمع منهم ثمانية عشر رجلاً، فصلوا صلاة العيد في ساوة، ففطن بهم الشحنة، فأخذهم وحبسهم، ثم سئل فيهم فأطلقهم، فهذا أول اجتماع كان لهم.
ثم إنهم دعوا مؤذناً من أهل ساوة كان مقيماً بأصبهان، فلم يجبهم إلى دعوتهم، فخافوه أن ينم عليهم، فقتلوه، فهو أول قتيل لهم، وأول دم أراقوه، فبلغ خبره إلى نظام الملك، فأمر بأخذ من يتهم بقتله، فوقعت التهمة على نجار اسمه طاهر، فقتل، ومثل به، وجروا برجله في الأسواق، فهو أول قتيل منهم، وكان والده واعظاً، وقدم إلى بغداد مع السلطان بركيارق سنة ست وثمانين فحظي منه، ثم قصد البصرة فولي القضاء بها، ثم توجه في رسالة إلى كرمان، فقتله العامة في الفتنة التي جرت، وذكروا أنه باطني.
ثم إن الباطنية قتلوا نظام الملك، وهي أول فتكة مشهورة كانت لهم، وقالوا: قتل نجاراً فقتلناه به.
وأول موضع غلبوا عليه وتحصنوا به بلد عند قاين، كان متقدمه على مذهبهم، فاجتمعوا عنده، وقووا به، فاجتازت بهم قافلة عظيمة من كرمان إلى قاين، فخرج عليهم ومعه أصحابه والباطنية فقتل أهل القفل أجمعين، ولم ينج منهم غير رجل تركماني، فوصل إلى قاين فأخبر بالقصة، فتسارع أهلها مع القاضي الكرماني إلى جهادهم، فلم يقدروا عليهم.
ثم قتل نظام الملك، ومات السلطان ملكشاه، فعظم أمرهم، واشتدت شوكتهم، وقويت أطماعهم.
وكان سبب قوتهم بأصبهان أن السلطان بركيارق لما حصر أصبهان، وبها أخوه محمود، وأمه خاتون الجلالية، وعاد عنهم ظهرت مقالة الباطنية بها، وانتشرت، وكانوا متفرقين في المحال، فاجتمعوا، وصاروا يسرقون من قدروا عليه من مخالفيهم ويقتلونهم، فعلوا هذا بخلق كثير، وزاد الأمر، حتى إن الإنسان كان إذا تأخر عن بيته عن الوقت المعتاد تيقنوا قتله، وقعدوا للعزاء به، فحذر الناس، وصاروا لا ينفرد أحد، وأخذوا في بعض الأيام مؤذناً، أخذه جار له باطني، فقام أهله للنياحة عليه، فأصعده الباطنية إلى سطح داره وأروه أهله كيف يلطمون ويبكون، وهو لا يقدر أن يتكلم خوفاً منهم.
ذكر ما فعل بهم العامة بأصبهانلما عمت هذه المصيبة الناس بأصبهان، أذن الله تعالى في هتك أستارهم، والانتقام منهم، فاتفق أن رجلاً دخل دار صديق له، فرأى فيها ثياباً، ومداسات، وملابس لم يعهدها، فخرج من عنده، وتحدث بما كان، فكشف الناس عنها، فعلموا أنها من المقتولين.
وثار الناس كافة يبحثون عمن قتل منهم، ويستكشفون، فظهروا على الدروب التي هم فيها، وإنهم كانوا إذا اجتاز بهم إنسان أخذوه إلى دار منها وقتلوه وألقوه في بئر في الدار قد صنعت لذلك.
وكان على باب درب منها رجل ضرير، فإذا اجتاز به إنسان يسأله أن يقوده خطوات إلى باب الدرب، فيفعل ذلك، فإذا دخل الدرب أخذ وقتل، فتجرد للانتقام منهم أبو القاسم مسعود بن محمد الخجندي، الفقيه الشافعي، وجمع الجم الغفير بالأسلحة، وأمر بحفر أخاديد، وأوقد فيها النيران، وجعل العامة يأتون بالباطنية أفواجاً ومنفردين، فيلقون في النار، وجعلوا إنساناً على أخاديد النيران وسموه مالكاً، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً.
ذكر قلاعهم التي استولوا عليها ببلاد العجمواستولوا على عدة حصون منها قلعة أصبهان، وهذه القلعة لم تكن قديماً، وإنما بناها السلطان ملكشاه.
وسبب بنائها أنه كان أتاه رجل من مقدمي الروم، فأسلم وصار معه، فاتفق أنه سار يوماً إلى الصيد، فهرب منه كلب حسن الصيد، وصعد هذا الجبل، فتبع السلطان والرومي معه، فوجده موضع القلعة، فقال له الرومي: لو أن عندنا مثل هذا الجبل لجعلنا عليه حصناً ننتفع به، فأمر ببناء القلعة، ومنع منها نظام الملك، فلم يقبل قوله، فلما فرغت جعل فيها دزداراً.
فلما انقضت أيام السلطان ملكشاه، وصارت أصبهان بيد خاتون أزالت الدزدار، وجعلت غيره فيها، وهو إنسان ديلمي اسمه زيار، فمات، وصار بالقلعة إنسان خوزي، فاتصل به أحمد بن عطاش، وكان الباطنية قد ألبسوه تاجاً، وجمعواً له أموالاً، وقدموه عليهم مع جهله، وإنما كان أبوه مقدماً فيهم، فلما اتصل بالدزدار بقي معه، ووثق به، وقلده الأمور، فلما توفي الدزدار استولى أحمد بن عطاش عليها، ونال المسلمين منها ضرر عظيم من أخذ الأموال، وقتل النفوس، وقطع الطريق، والخوف الدائم، فكانوا يقولون: إن قلعة يدل عليها كلب، ويشير بها كافر لا بد وأن يكون خاتمة أمرها الشر.
ومنها ألموت، وهي من نواحي قزوين، قيل إن ملكاً من ملوك الديلم كان كثير التصيد، فأرسل يوماً عقاباً، وتبعه، فرآه سقط على موضع هذه القلعة، فوجده موضعاً حصيناً، فأمر ببناء قلعة عليه، فسماها أله موت، ومعناه بلسان الديلم: تعليم العقاب، ويقال لذلك الموضع وما يجاوره طالقان.
وفيها قلاع حصينة أشهرها ألموت، وكانت هذه النواحي في ضمان شرفشاه الجعفري، وقد استناب فيها رجلاً علوياً، فيه بله وسلامة صدر.
وكان الحسن بن الصباح رجلاً شهماً، كافياً، عالماً بالهندسة، والحساب، والنجوم، والسحر، وغير ذلك، وكان رئيس الري إنسان يقال له أبو مسلم، وهو صهر نظام الملك، فاتهم الحسن بن الصباح بدخول جماعة من دعاة المصريين عليه، فخافه ابن الصباح، وكان نظام الملك يكرمه، وقال له يوماً من طريق الفراسة: عن قريب يضل هذا الرجل ضعفاء العوام، فلما هرب الحسن من أبي مسلم طلبه فلم يدركه.
وكان الحسن من جملة تلامذة ابن عطاش، الطبيب الذي ملك قلعة أصبهان، ومضى ابن الصباح فطاف البلاد، ووصل إلى مصر، ودخل على المستنصر صاحبها، فأكرمه، وأعطاه مالاً، وأمره أن يدعو الناس إلى إمامته، فقال له الحسن: فمن الإمام بعدك؟ فأشار إلى ابنه نزار، وعاد من مصر إلى الشام، والجزيرة، وديار بكر، والروم، ورجع إلى خراسان، ودخل كاشغر، وما وراء النهر، يطوف على قوم يضلهم، فلما رأى قلعة ألموت، واختبر أهل تلك النواحي، أقام عندهم، وطمع في إغوائهم، ودعاهم في السر، وأظهر الزهد، ولبس المسح، فتبعه أكثرهم، والعلوي صاحب القلعة حسن الظن فيه، يجلس إليه يتبرك به، فلما أحكم الحسن أمره، دخل يوماً على العلوي بالقلعة، فقال له ابن الصباح: اخرج من هذه القلعة، فتبسم العلوي، وظنه يمزح، فأمر ابن الصباح بعض أصحابه بإخراج العلوي، فأخرجوه إلى دامغان، وأعطاه ماله وملك القلعة.
ولما بلغ الخبر إلى نظام الملك بعث عسكراً إلى قلعة ألموت، فحصروه فيها، وأخذوا عليه الطرق، فضاق ذرعه بالحصر، فأرسل من قتل نظام الملك، فلما قتل رجع العسكر عنها.
ثم إن السلطان محمد بن ملكشاه جهز نحوها العساكر، فحصرها، وسيرد ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
ومنها طبس، وبعض قهستان، وكان سبب ملكهم لها أن قهستان كان قد بقي فيها بقايا من بني سيمجور، أمراء خراسان، أيام السامانية، وكان قد بقي من نسلهم رجل يقال له المنور، وكان رئيساً مطاعاً عند الخاصة والعامة، فلما ولي كلسارغ قهستان ظلم الناس وعسفهم، وأراد أختاً للمنور بغير حل، فحمل ذلك المنور على أن التجأ إلى الإسماعيلية، وصار معهم، فعظم حالهم في قهستان، واستولوا عليها ومن جملتها خور، وخوسف، وزوزن، وقاين، وتون، وتلك الأطراف المجاورة لها.
ومنها قلعة وسنمكوه، ملكوها، وهي بقرب أبهر، سنة أربع وثمانين، وتأذى بهم الناس، لاسيما أهل أبهر، فاستغاثوا بالسلطان بركيارق، فجعل عليها من يحاصرها، فحوصرت ثمانية أشهر، وأخذت منهم سنة تسع وثمانين، وقتل كل من بها عن آخرهم.
ومنها قلعة خالنجان على خمسة فراسخ من أصبهان، كانت لمؤيد الملك بن نظام الملك، وانتقلت إلى جاولي سقاوو، فجعل بها إنساناً تركياً، فصادقه نجار باطني، وأهدى له هدية جميلة، ولزمه حتى وثق به، وسلم إليه مفاتيح القلعة، فعمل دعوة للتركي وأصحابه، فسقاهم الخمر، فأسكرهم، واستدعى ابن عطاش، فجاء في جماعة من أصحابه، فسلم إليهم القلعة، فقتلوا من بها سوى التركي فإنه هرب، وقوي ابن عطاش بها، وصار له على أهل أصبهان القطائع الكثيرة.
ومن قلاعهم المذكورة أستوناوند، وهي بين الري وآمل، ملكوها بعد ملكشاه، نزل منها صاحبها، فقتل وأخذت منه.
ومنها أردهن، وملكها أبو الفتوح ابن أخت الحسن بن الصباح.
ومنها كردكوة وهي مشهورة.
ومنها قلعة الناظر بخوزستان، وقلعة الطنبور وبينها وبين أرجان فرسخان أخذها أبو حمزة الإسكاف، وهو من أهل أرجان، سافر إلى مصر، وعاد داعية لهم.
وقلعة خلادخان، وهي بين فارس وخوزستان، وأقام بها المفسدون نحو مائتي سنة يقطعون الطريق حتى فتحها عضد الدولة بن بويه، وقتل من بها.
فلما صارت الدولة لملكشاه أقطعها الأمير أنر، فجعل بها دزداراً، فأنفذ إليه الباطنية الذين بأرجان يطلبون مه بيعها فأبى، فقالوا له: نحن نرسل إليك من يناظرك حتى يظهر لك الحق، فأجابهم إلى ذلك، فأرسلوا إليه إنساناً ديلمياً يناظره، وكان للدزدار مملوك قد رباه، وسلم إليه مفاتيح القلعة، فاستماله الباطني، فأجابه إلى القبض على صاحبه، وتسليم القلعة إليهم، فقبض عليه، وسلم القلعة إليهم، ثم أطلقه، واستولوا بعد ذلك على عدة قلاع هذه أشهرها.
ذكر ما فعله جاولي سقاووا بالباطنيةفي هذه السنة قتل جاولي سقاوو خلقاً كثيراً منهم.
وسبب ذلك أن هذا الأمير كانت ولايته البلاد التي بين رامهرمز وأرجان.
فلما ملك الباطنية القلاع المذكورة بخوزستان وفارس، وعظم شرهم، وقطعوا الطريق بتلك البلاد، واقف جماعة من أصحابه، حتى أظهروا الشغب عليه، وفارقوه، وقصدوا الباطنية، وأظهروا أنهم معهم، وعلى رأيهم، فأقاموا عندهم حتى وثقوا بهم.
ثم أظهر جاولي أن الأمراء بني برسق يريدون قصده وأخذ بلاده، وأنه عازم على مفارقتها لعجزه عنهم، والمسير إلى همذان، فلما ظهر ذلك وسار قال من عند الباطنية من أصحابه ممن لهم الرأي: إننا نخرج إليه طريقه ونأخذه وما معه من الأموال، فساروا إليه في ثلاثمائة من أعيانهم وصناديدهم، فلما التقوا صار من معهم من أصحاب جاولي عليهم، ووضعوا السيف فيهم فلم يفلت منهم سوى ثلاثة نفر، صعدوا إلى الجبل وهربوا، وغنم جاولي ما معهم من دواب، وسلاح، وغير ذلك.
ذكر قتل صاحب كرمان الباطني
وملك غيرهكان تيرانشاه بن تورانشاه بن قاورت بك هو الذي قتل الأتراك الإسماعيلية، وليسوا منسوبين إلى هذه الطائفية الباطنية، إنما نسبوا إلى أمير اسمه إسماعيل، وكانوا من أهل السنة، قتل منهم ألفي رجل صبراً، وقطع أيدي ألفين، ووفد عليه إنسان يقال له: أبو زرعة، كان كاتباً بخوزستان، فحسن له مذهب الباطنية، فأجاب إليه.
وكان عنده فقيه حنفي يقال له: أحمد بن الحسين البلخي، كان مطاعاً في الناس، فأحضره عنده ليلاً، وأطال الجلوس معه، فلما خرج من عنده أتبعه بمن قتله، فلما أصبح الناس دخلوا عليه، وفيهم صاحب جيشه، فقال لتيرانشاه: أيها الملك من قتل هذا الفقيه؟ فقال: أنت شحنة البلد، تسألني من قتله؟ فقال: أنا أعرف قاتله! ونهض من عنده، ففارقه في ثلاثمائة فارس، وسار إلى أصبهان، فأرسل في أثره ألفي فارس ليردوه، فقاتلهم، وهزمهم، وسار إلى أصبهان، وبها السلطان محمد ومؤيد الملك، فأكرمه السلطان، وقال: أنت والد الملوك.
وامتعض عسكر كرمان بعد مسيره، واجتمعوا، وقاتلوا تيرانشاه، وأخرجوه عن مدينة بردسير التي هي مدينة كرمان، فلما فارقها اتفق القاضي والجند، وأقاموا أرسلانشاه بن كرمانشاه بن قاورت بك، وسار تيرانشاه إلى مدينة بم من كرمان، فحاربه أهلها ومنعوه منها، وأخذوا ما معه من أموال وجواهر، وقصد قلعة سميرم وتحصن بها، وفيها أمير يعرف بمحمد بهستون، فأرسل أرسلانشاه جيشاً حصروا القلعة، فقال محمد بهستون لتيرانشاه: انصرف عني، فلست أرى الغدر بك، وأنا رجل مسلم، ومقامك عندي يؤذيني، وأتهم بك في ديني. فلما عزم على الخروج أرسل محمد بهستون إلى مقدم الجيش الذي يحاصرونهم يعلمه بمسير تيرانشاه، فجرد عسكراً إلى طريقه، فخرجوا عليه، وأخذوه وما معه، وأخذوا أيضاً أبا زرعة، فأرسل أرسلانشاه فقتلهما، وتسلم جميع بلاد كرمان.
ذكر السبب في قتل بركيارق الباطنيةلما اشتد أمر الباطنية، وقويت شوكتهم، وكثر عددهم، صار بينهم وبين أعدائهم ذحول وإحن، فلما قتلوا جماعة من الأمراء الأكابر، وكان أكثر من قتلوا من هو في طاعة محمد، مخالف للسلطان بركيارق، مثل شحنة أصبهان سرمز، وأرغش، وكمش النظاميين، وصهره، وغيرهم، نسب أعداء بركيارق ذلك إليه، واتهموه بالميل إليهم.
فلما ظفر السلطان بركيارق، وهزم أخاه السلطان محمداً، وقتل مؤيد الملك وزيره، انبسط جماعة منهم في العسكر، واستغووا كثيراً منهم، وأدخلوهم في مذهبهم، وكادوا يظهرون بالكثرة والقوة، وحصل بالعسكر منهم طائفة من وجوههم، وزاد أمرهم، فصاروا يتهددون من لا يوافقهم بالقتل، فصار يخافهم من يخالفهم، حتى إنهم لم يتجاسر أحد منهم، لا أمير ولا متقدم، على الخروج من منزله حاسراً بل يلبس تحت ثيابه درعاً، حتى إن الوزير الأعز أبا المحاسن كان يلبس زردية تحت ثيابه، واستأذن السلطان بركيارق خواصه في الدخول عليه بسلاحهم، وعرفوه خوفهم ممن يقاتلهم، فأذن لهم في ذلك.
وأشاروا على السلطان أن يفتك بهم قبل أن يعجز عن تلافي أمرهم، وأعلموه ما يتهمه الناس به من الميل إلى مذهبهم، حتى إن عسكر أخيه السلطان محمد يشنعون بذلك، وكانوا في المصاف يكبرون عليهم، ويقولون يا باطنية. فاجتمعت هذه البواعث كلها، فأذن السلطان في قتلهم، والفتك بهم، وركب هو والعسكر معه، وطلبوهم، وأخذوا جماعة من خيامهم ولم يفلت منهم إلا من لم يعرف.
وكان ممن اتهم بأنه مقدمهم الأمير محمد بن دشمنزيار بن علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه، صاحب يزد، فهرب، وسار يومه وليلته، فلما كان اليوم الثاني وجد في العسكر قد ضل الطريق ولا يشعر، فقتل، وهذا موضع المثل: " أتتك بحائن رجلاه " ، ونهبت خيامه، فوجد عنده السلاح المعد، وأخرج الجماعة المتهمون إلى الميدان فقتلوا، وقتل منهم جماعة براء لم يكونوا منهم سعى بهم أعداؤهم، وفيمن قتل ولد كيقباذ، مستحفظ تكريت، فلم يغير والده خطبة بركيارق، ولكن شرع في تحصين القلعة وعمارتها، ونقض جامع البلد، وكان يقاربها، لئلا يؤتى منه، وجعل بيعة في البلد جامعاً، وصلى الناس فيه.
وكتب إلى بغداد بالقبض على أبي إبراهيم الأسداباذي الذي كان قد وصل إليها رسولاً من بركيارق ليأخذ مال مؤيد الملك، وكان من أعيانهم ورؤوسهم، فأخذ وحبس، فلما أرادوا قتله قال: هبوا أنكم قتلتموني، أتقدرون على قتل من بالقلاع والمدن؟ فقتل، ولم يصل عليه أحد، وألقي خارج السور، وكان له ولد كبير قتل بالعسكر معهم.
وقد كان أهل عانة نسبوا إلى هذا المذهب قديماً، فأنهي حالهم إلى الوزير أبي شجاع أيام المقتدي بأمر الله، فأحضرهم إلى بغداد، فسأل مشايخهم على الذي يقال فيهم، فأنكروا وجحدوا، فأطلقهم.
واتهم أيضاً الكيا الهراس، المدرس بالنظامية، بأنه باطني، ونقل ذلك عنه إلى السلطان محمد، فأمر بالقبض عليه، فأرسل المستظهر بالله من استخلصه، وشهد له بصحة الاعتقاد، وعلو الدرجة في العلم، فأطلق.
ذكر حصر الأمير بزغش قهستان وطبسفي هذه السنة جمع الأمير بزغش، وهو أكبر أمير مع السلطان سنجر، جموعاً كثيرة، وقواهم بالمال والسلاح، وسار إلى بلد الإسماعيلية، فنهبه، وخربه، وقتل فيهم فأكثر، وحصر طبس، وضيق عليها، ورماها بالمنجنيق، فخرب كثيراً من سورها، وضعف من بها، ولم يبق إلا أخذها، فأرسلوا إليها الرشا الكثيرة، واستنزلوه عما كان يريده منهم، فرحل عنهم وتركهم، فعاودوا عمارة ما انهدم من سورها، وملأوها ذخائر من سلاح وأقوات وغير ذلك، ثم عاودهم بزغش سنة سبع وتسعين، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ما ملك الفرنج من الشامفيها سار كندفري، ملك الفرنج بالشام، وهو صاحب البيت المقدس، إلى مدينة عكة، بشاحل الشام، فحصرها، فأصابه سهم فقتله، وكان قد عمر مدينة يافا وسلمها إلى قمص من الفرنج اسمه: طنكري، فلما قتل كندفري سار أخوه بغدوين إلى البيت المقدس في خمسمائة فارس وراجل، فبلغ الملك دقاق، صاحب دمشق، خبره، فنهض إليه في عسكره، ومعه الأمير جناح الدولة في جموعه، فقاتله، فنصر على الفرنج.
وفيها ملك الفرنج مدينة سروج من بلاد الجزيرة، وسبب ذلك أن الفرنج كانوا قد ملكوا مدينة الرها بمكاتبة من أهلها لأن أكثرهم أرمن، وليس بها من المسلمين إلا القليل، فلما كان الآن جمع سقمان بسروج جمعاً كثيراً من التركمان، وزحف إليهم، فلقوه وقاتلوه، فهزموه في ربيع الأول. فلما تمت الهزيمة على المسلمين سار الفرنج إلى سروج، فحصروها وتسلموها، وقتلوا كثيراً من أهلها وسبوا حريمهم، ونهبوا أموالهم، ولم يسلم إلا من مضى منهزماً.
ومنها ملك الفرنج مدينة حيفا، وهي بالقرب من عكة على ساحل البحر، ملكوها عنوة، وملكوا أرسوف بالأمان، وأخرجوا أهلها منها.
وفيها، في رجب، ملكوا مدينة قيسارية بالسيف، وقتلوا أهلها، ونهبوا ما فيها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في شهر رمضان، تقدم الخليفة المستظهر بالله بفتح جامع القصر، وأن يصلى فيه صلاة التراويح، ولم تكن جرت بذلك عادة، وأمر بالجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وهذا أيضاً لم تجر به عادة، وإنما ترك الجهر بالبسملة في جوامع بغداد لأن العلويين أصحاب مصر كانوا يجهرون بها، فترك ذلك مخالفة لهم لا اتباعاً لمذهب أحمد الإمام، وأمر أيضاً بالقنوت على مذهب الشافعي، فلما كانت الليلة التاسعة والعشرون ختم في جامع القصر، وازدحم الناس عنده، وكان زعيم الرؤساء أبو القاسم علي بن فخر الدولة بن جهير أخو عميد الدولة قد أطلق من الاعتقال، فاختلط الناس، وخرج إلى ظاهر بغداد من ثلمة في السور، وسار إلى سيف الدولة صدقة بن مزيد، فاستقبله وأنزله وأكرمه.
وفيها، في المحرم، توفي جمال الدولة أبو نصر بن رئيس الرؤساء بن المسلمة، وهو أستاذ دار الخليفة.
وفيه توفي القاضي أحمد بن محمد بن عبد الواحد أبو منصور بن الصباغ الفقيه الشافعي، وأخذ الفقه عن ابن عمه الشيخ أبي نصر بن الصباغ، وكان يصوم الدهر، وروى الحديث عن القاضي أبي الطيب الطبري وغيره.
وفيه توفي شرف الملك أبو سعد محمد بن منصور المستوفي، الخوارزمي، بأصبهان، وكان مستوفياً في ديوان السلطان ملكشاه، فبذل مائة ألف دينار حتى ترك الاستيفاء، وبنى مشهداً على قبر أبي حنيفة، رحمة الله عليه، ومدرسة بباب الطاق، ومدرسة بمرو جميعها للحنفيين.
وفيها، في صفر، توفي القاضي أبو المعالي عزيزي، وكان شافعياً، أشعرياً، وهو من جيلان، وله مصنفات كثيرة حسنة، وكان ورعاً، وله مع أهل باب الأزج أخبار ظريفة، وكان قاضياً عليهم، وكانوا يبغضونه ويبغضهم.
وتوفي أسعد بن مسعود بن علي بن محمد أبو إبراهيم العتبي من ولد عتبة بن غزوان نيسابوري، ولد سنة أربع وأربعمائة، وروى عن أبي بكر الحيري وغيره.
وتوفي في صفر محمد بن أحمد بن عبد الباقي بن الحسن بن محمد بن طوق أبو الفضائل الربعي الموصلي الفقيه الشافعي، تفقه على أبي إسحاق الشيرازي، وسمع الحديث من أبي الطيب الطبري وغيره، وكان ثقاً صالحاً.
وتوفي في ربيع الأول منها محمد بن علي بن عبيد الله بن أحمد بن صالح بن سليمان بن ودعان أبو نصر القاضي الموصلي، وهو صاحب الأربعين الودعانية وقد تكملوا فيها، فقيل إنه سرقها، وكانت تصنيف زيد بن رفاعة الهاشمي، والغالب عال حديثه المناكير.
وتوفي فيها، في ربيع الأول، نصر بن أحمد بن عبد الله بن البطر القاري أبو الخطاب، ومولده سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، سمع ابن رزقويه وغيره، وصارت إليه الرحلة لعلو إسناده، وكان سماعه صحيحاً.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وأربعمائة
ذكر وفاة المستعلي بالله
وولاية الآمر بأحكام اللهفي هذه السنة توفي المستعلي بالله أبو القاسم أحمد بن معد المستنصر بالله العلوي، الخليفة المصري، لسبع عشرة خلت من صفر، وكان مولده في العشرين من شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة، وكانت خلافته سبع سنين وقريب شهرين، وكان المدبر لدولته الأفضل.
ولما توفي ولي بعده ابنه أبو علي المنصور، ومولده ثالث عشر المحرم سنة تسعين وأربعمائة، وبويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه أبوه، وله خمس سنين وشهر وأربعة أيام، ولقب الآمر بأحكام الله، ولم يكن من تسمى بالخلافة قط أصغر منه ومن المستنصر، وكان المستنصر أكبر من هذا، ولم يقدر يركب وحده على الفرس لصغر سنه، وقام بتدبير دولته الأفضل ابن أمير الجيوش أحسن قيام، ولم يزل كذلك يدبر الأمر إلى أن قتل سنة خمس عشرة وخمسمائة.
ذكر الحرب بين السلطان بركيارق والسلطان محمد والصلح بينهمافي هذه السنة، في صفر، كان المصاف الثالث بين السلطانين بركيارق ومحمد.
قد ذكرنا سنة أربع وتسعين قدوم السلطان محمد إلى بغداد، ورحيل السلطان بركيارق عنها إلى واسط مريضاً، فأقام السلطان محمد ببغداد إلى سابع عشر المحرم من هذه السنة، وسار عنها هو وأخوه السلطان سنجر عائدين إلى بلادهما، وسنجر يقصد خراسان، والسلطان محمد يقصد همذان. فلما سار محمد عن بغداد وصلت الأخبار أن بركيارق قد اعترض خاص الخليفة بواسط وسمع منه في حق الخليفة ما يقبح نقله، فأرسله الخليفة وأعاد السلطان محمداً إلى بغداد، وذكر له ما نقل إليه، وعزم على الحركة مع محمد إلى قتال بركيارق، فقال السلطان محمد: لا حاجة إلى حركة أمير المؤمنين، فإني أقوم في هذا القيام المرضي. وسار عائداً، ورتب ببغداد أبا المعالي المفضل ابن عبد الرزاق في جباية الأموال وإيلغازي شحنة.
وكان لما دخل بغداد قد خلف عسكره بطريق خراسان، فنهبوا البلاد وخربوها، فأخذهم السلطان محمد معه، وجد السير إلى روذراور.
وأما السلطان بركيارق فقد تقدم سنة أربع وتسعين أنه سار من بغداد عند وصول محمد إليها قاصداً إلى واسط، فلما سمع عسكر واسط بقربه منهم، خافوا منه، وأخذوا نساءهم، وأولادهم، وأموالهم، وجمعوا السفن جميعها، وانحدروا إلى الزبيدية، فأقاموا هناك.
ووصل السلطان، وهو شديد المرض، يحمل في محفة، وقد هلك من دواب عسكره ومتاعهم الكثير، فإنهم كانوا يجدون السرير خوفاً أن يتبعهم السلطان محمد، أو الأمير صدقة، صاحب الحلة، فكانوا كلما جازوا قنطرة هدموها، ليمتنع من يجتاز بها من اتباعهم.
ولما وصلوا إلى واسط عوفي بركيارق، ولم يكن له ولأصحابه همة غير العبور من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي، فلم يجد هناك سفينة، وكان الزمان شاتياً، شديد البرد، والماء زائداً، وكان أهل البلد قد خافوهم، فلزموا الجامع وبيوتهم، فخلت الطرق والأسواق من مجتاز فيها، فخرج القاضي أبو علي الفارقي إلى العسكر، واجتمع بالأمير إياز، والوزير، واستعطفهما للخلق، وطلب إنفاذ شحنة لتطمئن القلوب، فأجابوه إلى ملتمسه، وقالوا له: نريد أن تجمع لنا من يعبر دوابنا في الماء، ونسبح معها، فجمع لهم من شباب واسط، وأعطاهم الأجرة الوافرة، فعبروا دوابهم من الخيل والبغال والجمال، وكان الأمير إياز بنفسه يسوق الدواب، ويفعل ما يفعله الغلمان، ولم يكن معهم غير سفينة واحدة انحدرت مع السلطان من بغداد، فعبروا أموالهم ورحالهم فيها. فلما صاروا في الجانب الشرقي اطمأنوا، ونهب العسكر البلد، فرجع القاضي وجدد الخطاب في الكف عنهم، فأجيب إلى ذلك، فأرسل معه من يمنع من النهب.
ثم إن عسكر واسط أرسلوا إلى السلطان بركيارق يطلبون الأمان ليحضروا الخدمة فأمنهم، فحضر أكثرهم عنده، وساروا معه إلى بلاد بني برسق، فحضروا أيضاً عنده وخدموه، واجتمعت العساكر عليه.
وبلغه مسير أخيه محمد عن بغداد، فسار يتبعه على نهاوند، فأدركه بروذراور، وكان العسكران متقاربين في العدة، كل واحد منهما أربعة آلاف فارس من الأتراك، فتصافوا، أول يوم، جميع النهار، ولم يجر بينهم قتال لشدة البرد، وعادوا في اليوم الثاني، ثم تواقفوا كذلك، ثم كان الرجل يخرج من أحد الصفين فيخرج إليه من يقاتله، فإذا تقاربا اعتنق كل واحد منهما صاحبه، وسلم عليه، ويعود عنه.
ثم خرج الأمير بلدجي وغيره من عسكر محمد إلى الأمير إياز والوزير الأعز، فاجتمعوا، واتفقوا على الصلح، لما قد عم الناس من الضرر، والملل، والوهن، فاستقرت القاعدة أن يكون بركيارق السلطان، ومحمد الملك، ويضرب له ثلاث نوب، ويكون له من البلاد جنزة وأعمالها، وأذربيجان، وديار بكر، والجزيرة، والموصل، وأن يمده السلطان بركيارق بالعساكر، حتى يفتح ما يمتنع عليه منها، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وانصرف الفريقان من المصاف رابع ربيع الأول، وسار بركيارق إلى مرج قراتكين قاصداً ساوة، والسلطان محمد إلى أسداباذ، وتفرق العسكران وقصد الملك أمير أقطاعه.
ذكر الحرب بين السلطان بركيارق ومحمد وانفساخ الصلح بينهمافي هذه السنة، في جمادى الأولى، كان المصاف الرابع بين السلطان بركيارق وأخيه محمد.
وكان سببه أن السلطان محمداً سار من روذراور، من الوقعة المذكورة، إلى أسداباذ، ومنها إلى قزوين، ونسب الأمراء الذين سعوا في الصلح إلى المخامرة عليه، والتقاعد به، فوضع رئيس قزوين أن يتوسل إليه بأولئك الأمراء ليحضر دعوته، فاستشفع الرئيس بهم إلى السلطان، فحضر دعوته، بعد أن امتنع، ووصى خواصه بحمل السلاح تحت أقبيتهم، وحضر الدعوة ومعه الأمير أيتكين، وبسمل، فقتل الأمير بسمل، وهو من أكابر الأمراء، وكحل الأمير أيتكين.
وكان الأمير ينال بن أنوشتكين الحسامي قد فارق بركيارق، وأقام مجاهداً للباطنية الذين في القلاع والجبال، فقصد الآن السلطان محمداً، وسار معه إلى الري يضرب النوب الخمس، واجتمعت إليه العساكر، وأقام ثمانية أيام، ووافاه أخوه السلطان بركيارق في اليوم التاسع، ووقع بينهما المصاف عند الري، وكانت عدة العسكريين متقاربة كل عسكر منهما عشرة آلاف فارس، فلما اصطفوا حمل الأمير سرخاب بن كيخسرو الديلمي، صاحب أبة، على الأمير ينال، فهزمه، وتبعه في الهزيمة جميع عسكر محمد، وتفرقوا، ومضى معظمهم نحو طبرستان، ولم يقتل في هذا المصاف غير رجل واحد قتل صبراً.
ومضى قطعة من المنهزمين نحو قزوين، ونهبت خزائن محمد، ومضى في نفر يسير إلى أصبهان، وحمل هو علمه بيده ليتبعه أصحابه، وسار في طلبه الأمير البكي بن برسق، والأمير إياز إلى قم، وتتبع السلطان بركيارق أصحاب أخيه محمد، وأخذ أموالهم.
ذكر حصار السلطان محمد بأصبهانلما انهزم السلطان محمد من الوقعة التي ذكرناها بالري، مضى إلى أصبهان في سبعين فارساً، والبلد في حكمه، وفيه نائبه، ومعه من الأمراء ينال، وغيره من الأمراء، ودخل المدينة في ربيع الأول، وأمر بتجديد ما تشعث من السور، وهذا السور هو الذي بناه علاء الدولة بن كاكويه سنة تسع وعشرين وأربعمائة، عند خوفه من طغرلبك، وأمر محمد بتعميق الخندق حتى صعد الماء فيه، وسلم إلى كل أمير باباً، وكان معه في البلد ألف ومائة فارس وخمس مائة راجل، ونصب المجانيق.
ولما علم السلطان بركيارق بمسير أخيه محمد إلى أصبهان سار يتبعه، فوصلها في جمادى الأولى، وعساكره كثيرة، تزيد على خمسة عشر ألف فارس، ومعها مائة ألف من الحواشي، وأقام يحاصر البلد، وضيق عليه.
وكان السلطان محمد يدور كل ليلة على سور البلد ثلاث دفعات، فلما زاد الأمر في الحصار، أخرج الضعفاء والفقراء من البلد، حتى خلت المحال، وعدمت الأقوات، وأكل الناس الخيل، والجمال، وغير ذلك، وقلت الأموال، فاضطر السلطان محمد إلى أن يستقرض من أعيان البلد، فأخذ مالاً عظيماً، ثم عاود الجند الطلب، فقسط على أهل البلد شيئاً آخر، وأخذه منهم بالشدة والعنف، فلم تزل الأسعار تغلو، حتى بلغ عشرة أمنان من الحنطة بدينار، وأربعة أرطال لحماً بدينار، وكل مائة رطل تبناً بأربعة دنانير، ورخصت الأمتعة وهانت لعدم الطالب.
وكانت الأسعار، في عسكر بركيارق، رخيصة. فبقي الحصار على البلد إلى عاشر ذي الحجة، فلما رأى السلطان محمد أنه لا قدرة له على الدفع عن البلد، وكلما جاء أمره يضعف، قوي عزمه على مفارقته وقصد جهة أخرى، يجمع فيها العساكر، ويعود يدفع الخصم عن الحصار، فسار عن البلد في مائة وخمسين فارساً، ومعه الأمير ينال، واستخلف بالبلد جماعة من الأمراء الكبار في باقي العسكر، فلما فارق العسكر والبلد لم يكن في دوابهم ما يدوم على السير، لقلة العلف في الحصار، فنزل على ستة فراسخ.
فلما سمع بركيارق بمسيره سير وراءه الأمير إياز في عسكر كثير، وأمره بالجد في السير في طلبه، فقيل: إن محمداً سبقهم، فلم يدركوه، فرجعوا، وقيل: بل أدركوه، فأرسل إلى الأمير إياز يقول: أنت تعلم أنني لي في رقبتك عهود وأيمان ما نقضت، ولم يكن مني إليك ما تبالغ في أذاي. فعاد عنه، وأرسل له خيلاً، وأخذ علمه، والجتر، وثلاثة أحمال دنانير، وعاد إلى بركيارق، فدخل عليه، وأعلام أخيه السلطان محمد منكوسة، فأنكر بركيارق ذلك، وقال: إن كان قد أساء، فلا ينبغي أن يعتمد معه هذا، فأخبره الخبر، فاستحسن ذلك منه.
فلما فارق محمد أصبهان اجتمع من المفسدين، والسوادية، ومن يريد النهب، ما يزيد على مائة ألف نفس، وزحفوا إلى البلد بالسلاليم، والدبابات، وطموا الخندق بالتبن، والتصقوا بالسور، وصعد الناس في السلاليم فقاتلهم أهل البلد قتال من يريد أن يحمي حريمه وماله، فعادوا خائبين، فحينئذ أشار الأمراء على بركيارق بالرحيل، فرحل ثامن عشر ذي الحجة من السنة، واستخلف على البلد القديم، الذي يقال له شهرستان، ترشك الصوابي في ألف فارس مع ابنه ملكشاه، وسار إلى همذان، وكان هذا من أعجب ما سطر أن سلطاناً محصوراً قد تقطعت مواده، وهو يخطب له في أكثر البلاد، ثم يخلص من الحصر الشديد، وينجو من العساكر الكثيرة التي كلها قد شرع إليه رمحه، وفوّق إليه سهمه.
ذكر قتل الوزير الأعز
ووزارة الخطير أبي منصورفي هذه السنة، ثاني عشر صفر، قتل الوزير الأعز أبو المحاسن عبد الجليل ابن محمد الدهستاني، وزير السلطان بركيارق على أصبهان، وكان مع بركيارق محاصراً لها، فركب هذا اليوم من خيمته إلى خدمة السلطان، فجاء شاب أشقر، قيل: إنه كان من غلمان أبي سعيد الحداد، وكان الوزير قتله في العام الماضي، فانتهز الفرصة فيه، وقيل: كان باطنياً، فجرحه عدة جراحات، فتفرق أصحابه عنه، ثم عادوا إليه، فجرح أقربهم منه جراحات أثخنته، وعاد إلى الوزير فتركه بآخر رمق.
وكان كريماً، واسع الصدر، حسن الخلق، كثير العمارة، ونفر الناس منه لأنه دخل في الوزارة، وقد تغيرت القوانين، ولم يبق دخل ولا مال، ففعل للضرورة ما خافه الناس بسببه.
وكان حسن المعاملة مع التجار، فاستغنى به خلق كثير، فكانوا يسألونه ليعاملهم، فلما قتل ضاع منهم مال كثير.
حكي أن بعض التجار باعه متاعاً بألف دينار، فقال له: خذ بها حنطة من الراذان خمسين كراً، كل كر بعشرين ديناراً، فامتنع التاجر من أخذها، وقال: لا أريد غير الدنانير. فلما كان من الغد دخل إليه التاجر، فقال له: يهنئك، يا فلان! فقال: وما هو؟ قال: خبر حنطتك، فقال: ما لي حنطة، ولا أريدها، قال: بلى، وقد بيعت كل كر بخمسين ديناراً، فقال: أنا لم أتقبل بها! فقال الوزير: ما كنت لأفسخ عقداً عقدته. قال: فخرجت، وأخذت ثمن الحنطة ألفين وخمسمائة دينار، وأضفت إليها مثلها وعاملته، فقتل فضاع الجميع.
وكان قد نفق عليه عمل الكيمياء، واختص به إنسان كيميائي، فكان يعده الشهر بعد الشهر، والحول بعد الحول، وقال له بعض أصحابه، وقد أحاله عليه بكر حنطة، فاستزاده: لو كان صادقاً في عمله، لما كان يستزيد من القدر القليل، وقتل ولم يصح له منه شيء.
ولما قتل الأعز أبو المحاسن وزر بعده الوزير الخطير أبو منصور الميبذي الذي كان وزير السلطان محمد.
وكان سبب فراقه لوزارة محمد أنه كان معه بأصبهان، وبركيارق يحاصره، وقد سلم إليه محمد باباً من أبوابها ليحفظها، فقال له الأمير ينال بن أنوشتكين: كنت قد كلفتنا، ونحن بالري، لنقصد همذان، وقلت: أنا أقيم بالعسكر من مالي، وأحصل لهم ما يقوم بهم، ولا بد من ذلك. فقال الخطير: أنا أفعل ذلك. فلما كان الليل فارق البلد، وخرج من الباب الذي كان مسلماً إليه، وقصد بلده ميبذ، وأقام بقلعتها متحصناً، فأرسل إليه السلطان بركيارق وحصره، فنزل منها مستأمناً، فحمل على بغل بإكاف إلى العسكر، فوصله في طريقه قتل الوزير الأعز، وكتاب السلطان له بالأمان، وطيب قلبه، فلما وصل إلى العسكر خلع عليه واستوزره.
حادثة يعتبر بهافي سنة ثلاث وتسعين بيع رحل بني جهير ودورهم بباب العامة، ووصل ثمن ذلك إلى مؤيد الملك، ثم قتل في سنة أربع وتسعين مؤيد الملك، وبيع ماله وبركة، وأخذ الجميع وحمل إلى الوزير الأعز، وقتل الوزير الأعز، هذه السنة، وبيع رحله، واقتسمت أمواله، وأخذ السلطان ومن ولي بعده أكثرها، وتفرقت أيدي سبا، وهذا عاقبة خدمة الملوك.
ذكر الفتنة بين إيلغازي وعامة بغدادفي هذه السنة، في رجب، كانت فتنة شديدة بين عسكر الأمير إيلغازي ابن أرتق، شحنة بغداد، وبين عامتها.
وسببها أن إيلغازي كان بطريق خراسان، فعاد إلى بغداد. فلما وصل أتى جماعة من أصحابه إلى دجلة، فنادوا ملاحاً ليعبر بهم، فتأخر، فرماه أحدهم بنشابة، فوقعت في مشعره فمات، فأخذ العامة القاتل، وقصدوا باب النوبي، فلقيهم ولد إيلغازي مع جماعة، فاستنقذوه، ورجمهم العامة بسوق الثلاثاء، فمضى إلى أبيه مستغيثاً، فأخذ حاجب الباب من له في هذه الحادثة عمل فلم يقنع إيلغازي ذلك، فعبر بأصحابه إلى محلة الملاحين، المعروفة بمربعة القطانين، ويتبعهم خلق كثير، فنهبوا ما وجدوا وقدروا عليه، فعطف عليهم العيارون فقتلوا أكثرهم.
ونزل من سلم في السفن ليعبروا دجلة، فلما توسطوها ألقى الملاحون أنفسهم في الماء وتركوهم فغرقوا، فكان الغريق أكثر من القتيل، وجمع إيلغازي التركمان، وأراد نهب الجانب الغربي، فأرسل الخليفة قاضي القضاة، والكيا الهراس، المدرس بالنظامية، فمنعاه من ذلك، فامتنع.
ذكر قصد صاحب البصرة مدينة واسط وعوده عنهافي هذه السنة، في العشرين من شوال، قصد الأمير إسماعيل، صاحب البصرة، مدينة واسط للاستيلاء عليها.
ونحن نبتديء بذكر إسماعيل، وتنقل الأحوال به إلى أن ملك البصرة، وهو إسماعيل بن سلانجق، وكان إليه في أيام ملكشاه شحنكية الري، ولما وليها كان أهل الري والرستاقية قد أعيوا من وليهم، وعجز الولاة عنهم، فسلك معهم طريقاً أصلحهم بها، وقتل منهم مقتلة عظيمة فتهذبوا بها، وأرسل من شعورهم إلى السلطان ما عمل منه مقاود وشكلاً للدواب، ثم عزل عنها.
ثم إن السلطان بركيارق أقطع البصرة للأمير قماج، فأرسل إليها هذا الأمير إسماعيل نائباً عنه، فلما فارق قماج بركيارق، وانتقل إلى خراسان، حدثته نفسه بالتغلب على البصرة، والاستبداد، فانحدر مهذب الدولة بن أبي الجبر من البطيحة إليه ليحاربه، ومعه معقل بن صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي، صاحب الجزيرة الدبيسية، فأقبلا في جمع كثير من السفن والخيل، ووصلوا إلى مطارا.
فبينما معقل يقاتل قريباً من القلعة التي بناها ينال بمطارا، وجددها إسماعيل وأحكمها، أتاه سهم غرب فقتله، فعاد ابن أبي الجبر إلى البطيحة، وأخذ إسماعيل سفنه، وذلك سنة إحدى وتسعين، فاستمد ابن أبي الجبر كوهرائين، فأمده بأبي الحسن الهروي، وعباس بن أبي الجبر، فلقياه، فكسرهما وأسرهما، وأطلق عباساً على مال أرسله أبوه، واصطلحا.
وأما الهروي فبقي في حبسه مدة، ثم أطلقه على خمسة آلاف دينار، فلم يصح له منها شيء.
وقوي حال إسماعيل، فبنى قلعة بالأبلة، وقلعة بالشاطيء مقابل مطارا، وصار مخوف الجانب وأمن البصريون به، وأسقط شيئاً من المكوس، واتسعت إمارته باشتغال السلاطين، وملك المشان، واستضافها إلى ما بيده.
فلما كان هذه السنة كاتبه بعض عسكر واسط بالتسليم إليه، فقوي طمعه في واسط، فأصعد في السفن إلى نهرابان، وراسلهم في التسليم، فامتنعوا من ذلك، وقالوا: راسلناك، وقد رأينا غير ذلك الرأي. فأصعد إلى الجانب الشرقي، فخيم تحت النخيل، وسفنه بين يديه، وخيم جند واسط حذاءه، وراسلهم، ووعدهم، وهم لا يجيبونه.
واتفقت العامة مع الجند، وشتموه أقبح شتم، فلما أيس منهم عاد إلى البصرة، وساروا بإزائه من الجانب الآخر، فوصل إلى العمر، وعبر طائفة من أصحابه فوق البلد، وهو يظن أن البلد خال، وأن الناس قد خرجوا منه، لما رأى كثرة من بإزائه، فيوقع الحريق في البلد، فإذا رجع الأتراك عاد هو من ورائهم، فكان ظنه خائباً لأن العامة كانوا على دجلة، أولهم في البلد، وآخرهم مع الأتراك بإزائه.
فلما عبر أصحابه عاد الأتراك عليهم، ومعهم العامة، فقتلوا منهم ثلاثين رجلاً، وأسروا خلقاً كثيراً، وألقى الباقون أنفسهم في الماء، فأتاه من ذلك مصيبة لم يظنها، وصار أعيان أصحابه مأسورين، وعاد إلى البصرة، وكان عوده من سعادته، فإنه كان قد قصد الأمير أبو سعد محمد بن مضر بن محمود البصرة ذلك الوقت، وله أعمال واسعة، منها: نصف عمان، وجنابة، وسيراف، وجزيرة بني نفيس.
وكان سبب قصده إياها أنه كان قد صار مع إسماعيل إنسان يعرف بجعفرك، وآخر اسمه زنجويه، والثالث بأبي الفضل الأبلي، فأطمعوه في أن يعمل مراكب يرسل فيها مقاتلة في البحر إلى أبي سعد هذا وغيره، فعمل نيفاً وعشرين قطعة، فلما علم أبو سعد الحال أرسل جماعة كثيرة من أصحابه في نحو خمسين قطعة، فأتوا إلى دجلة البصرة، وذلك في السنة الخالية، فأقاموا بها محاربين، وظفروا بطائفة من أصحاب إسماعيل، وقتلوا صاحب قلعة الأبلة، وكاتبوا بني برسق بخوزستان يطلبون أن يرسلوا عسكراً ليساعدوهم على أخذ البصرة، فتمادى الجواب، وركن الطائفتان إلى الصلح، على أن يسلم إليهم إسماعيل جعفرك ورفيقه، ويقطعهم مواضع ذكروها من أعمال البصرة.
فلما رجعوا لم يفعل شيئاً من ذلك، وأخذ مركبين لقوم من أصحاب أبي سعد، فحمله ذلك على أن سار بنفسه في قطع كثيرة تزيد على مائة قطعة بين كبيرة وصغيرة، ووصل إلى فوهة نهر الأبلة.
وخرج عسكر إسماعيل في عدة مراكب، ووقع القتال بينهم، وكان البحريون في نحو عشرة آلاف، وإسماعيل في سبعمائة، وأصعد البحريون في دجلة، فأحرقوا عدة مواضع، وتفرق عسكر إسماعيل، فبعضه بالأبلة، وبعضه بنهر الدير، وبعضه في مواضع أخر.
فلما ضعف إسماعيل عن مقاومة أبي سعد طلب من وكيل الخليفة، على ما يتعلق بديوانه من البلاد، أن يسعى في الصلح، فأرسل إليه في ذلك، فأعاد الجواب يذكر قبح ما عامله به إسماعيل مرة بعد أخرى، وتكررت الرسائل بينهم، فأجاب إلى الصلح، فاصطلحا، واجتمعا، وعاد أبو سعد إلى بلاده، وحمل كل واحد منهما لصاحبه هدية جميلة.
ذكر وفاة كربوقا وملك موسى التركماني الموصل وجكرمش بعده وملك سقمان الحصن
في هذه السنة، في ذي القعدة، توفي قوام الدولة كربوقا، عند مدينة خوي، وكان السلطان بركيارق قد أرسله في العام الماضي إلى أذربيجان، كما ذكرناه، فاستولى على أكثرها، وأتى إلى خوي، فمرض بها ثلاثة عشر يوماً، وكان معه أصبهبذ صباوة بن خمارتكين، وسنقرجه، فوصى إلى سنقرجه، وأمر الأتراك بطاعته، وأخذ له على عسكره العهد، ومات على أربعة فراسخ من خوي، ولف في زلية لعدم ما يكفن فيه ودفن بخوي.
وسار سنقرجه وأكثر العسكر إلى الموصل، فتسلمها، فأقام بها ثلاثة أيام، وكان أعيان الموصل قد كاتبوا موسى التركماني، وهو بحض كيفا ينوب عن كربوقا فيها، وسألوه أن يبادر إليهم ليسلموا إليه البلد، فسار مجداً، فسمع سنقرجه بوصوله، فظن أنه جاء إليه خدمة له، فخرج ليستقبله في أهل البلد، فلما تقاربا نزل كل واحد منهما لصاحبه عن فرسه، واعتنقا، وبكيا على قوام الدولة، فتسايرا.
فقال سنقرجه لموسى في جملة حديثه: أنا مقصودي من جميع ما كان لصاحبنا المخدة، والمنصب، والأموال، والولايات لكم وبحكمكم. فقال موسى: من نحن حتى يكون لنا مناصب ودسوت؟ الأمر في هذا إلى السلطان يرتب فيه من يريد، ويولي من يختار. وجرى بينهما محاورات، فجذب سنقرجه سيفه وضربه صفحاً على رأسه فجرحه، فألقى موسى نفسه إلى الأرض، وجذب سنقرجه فألقاه إلى الأرض، وكان مع موسى ولد منصور بن مروان الذي كان أبوه صاحب ديار بكر، فجذب سكيناً وضرب بها رأس سنقرجه فأبانه، ودخل موسى البلد، وخلع على أصحاب سنقرجه، وطيب نفوسهم فصارت الولاية له.
ولما سمع شمس الدولة جكرمش، صاحب جزيرة ابن عمر، الخبر قصد نصيبين وتسلمها، وسار موسى قاصداً إلى الجزيرة، فلما قارب جكرمش غدر بموسى عسكره، وصاروا مع جكرمش، فعاد موسى إلى الموصل، وقصده جكرمش، وحصره مدة طويلة، فاستعان موسى بالأمير سقمان بن أرتق، وهو يومئذ بديار بكر، وأعطاه حصن كيفا وعشرة آلاف دينار، فسار سقمان إليه، فرحل جكرمش عنه.
وخرج موسى لاستقبال سقمان، فلما كان موسى عند قرية تسمى كراثا، وثب عليه عدة من الغلمان القوامية، فقتلوه: رماه أحدهم بنشابة فقتله، فعاد أصحابه منهزمين، ودفن على تل هناك يعرف الآن بتل موسى، ورجع الأمير سقمان إلى الحصن، فملكها وهي بيد أولاده إلى يومنا هذا، سنة عشرين وستمائة، وصاحبها حينئذ غازي بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق.
وقصد جكرمش الموصل وحصرها أياماً، ثم تسلمها صلحاً، وأحسن السيرة فيها، وأخذ القوامية الذين قتلوا موسى، فقتلهم واستولى بعد ذلك على الخابور، وملك العرب والأكراد، فأطاعوه.
ذكر حال صنجيل الفرنجي
وما كان منه في حصار طرابلسكان صنجيل الفرنجي، لعنه الله، قد لقي قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، صاحب قونية، وكان صنجيل في مائة ألف مقاتل، وكان قلج أرسلان في عدد قليل، فاقتتلوا، فانهزم الفرنج وقتل منهم كثير، وأسر كثير، وعاد قلج أرسلان بالغنائم، والظفر الذي لم يحسبه.
ومضى صنجيل مهزوماً في ثلاثمائة، فوصل إلى الشام، فأرسل فخر الملك بن عمار، صاحب طرابلس، إلى الأمير ياخز، خليفة جناح الدولة على حمص، فإلى الملك دقاق بن تتش، يقول: من الصواب أن يعاجل صنجيل إذ هو في هذه العدة القريبة، فخرج الأمير ياخز بنفسه، وسير دقاق ألفي مقاتل، وأتتهم الأمداد من طرابلس، فاجتمعوا على باب طرابلس، وصافوا صنجيل هناك، فأخرج مائة من عسكره إلى أهل طرابلس، ومائة إلى عسكر دمشق، وخمسين إلى عسكر حمص، وبقي هو في خمسين.  // فأما عسكر حمص فإنهم انكسروا عند المشاهدة، وولوا منهزمين، وتبعهم عسكر دمشق.
وأما أهل طرابلس فإنهم قاتلوا المائة الذين قاتلوهم، فلما شاهد ذلك صنجيل حمل في المائتين الباقيتين، فكسروا أهل طرابلس، وقتلوا منهم سبعة آلاف رجل، ونازل صنجيل طرابلس وحصرها.
وأتاه أهل الجبل فأعانوه على حصارها، وكذلك أهل السواد، وأكثرهم نصارى، فقاتل من بها أشد قتال، فقتل من الفرنج ثلاثمائة، ثم إنه هادنهم على مال وخيل، فرحل عنهم إلى مدينة أنطرسوس، وهي من أعمال طرابلس، فحصرها، وفتحها، وقتل من بها من المسلمين، ورحل إلى حصن الطوبان، وهو يقارب رفنية، ومقدمه يقال له ابن العريض، فقاتلهم، فنصر عليه أهل الحصن، وأسر ابن العريض منه فارساً من أكابر فرسانه، فبذل صنجيل في فدائه عشرة آلاف دينار وألف أسير، فلم يجبه ابن العريض إلى ذلك.
ذكر ما فعله الفرنجفي هذه السنة أطلق الدانشمند بيمند الفرنجي، صاحب أنطاكية، وكان قد أسره، وقد تقدم ذكر ذلك، وأخذ مائة ألف دينار، وشرط عليه إطلاق ابنه باغي سيان الذي كان صاحب أنطاكية، وكانت في أسره.
ولما خلص بيمند من أسره عاد إلى أنطاكية، فقويت نفوس أهلها به، ولم يستقر حتى أرسل إلى أهل العواصم وقنسرين وما جاورها يطالبهم بالإتاوة، فورد على المسلمين من ذلك ما طمس المعالم التي بناها الدانشمند.
وفيها سار صنجيل إلى حصن الأكراد فحصره، فجمع جناح الدولة عسكره ليسير إليه ويكبسه، فقتله باطني بالمسجد الجامع، فقيل: إن الملك رضوان ربيبه وضع عليه من قتله، فلما قتل صبح صنجيل حمص من الغد، ونازلها، وحصر أهلها، وملك أعمالها.
ونزل القمص على عكة في جمادى الآخرة، وضيق عليها، وكاد يأخذها، ونصب عليها المنجنيقات والأبراج، وكان له في البحر ست عشرة قطعة، فاجتمع المسلمون من سائر السواحل، وأتوا إلى منجنيقاتهم، وأبراجهم، فأحرقوها، وأحرقوا سفنهم أيضاً، وكان ذلك نصراً عجيباً أذل الله به الكفار.
وفيها صار القمص الفرنجي، صاحب الرها، إلى بيروت من ساحل الشام، وحصرها وضايقها، وأطال المقام عليها، فلم ير فيها طمعاً فرحل عنها.
وفيها، في رجب، خرجت عساكر مصر إلى عسقلان ليمنعوا الفرنج عما بقي في أيديهم من البلاد الشامية، فسمع بهم بردويل، صاحب القدس، فسار إليهم في سبعمائة فارس، وقاتلهم، فنصر الله المسلمين، وانهزم الفرنج، وكثر القتل فيهم، وانهزم بردويل، فاختفى في أجمة قصب، فأحرقت تلك الأجمة، ولحقت النار بعض جسده، ونجا منها إلى الرملة، فتبعه المسلمون، وأحاطوا به فتنكر، وخرج منها إلى يافا، وكثر القتل والأسر في أصحابه.
ذكر عود قلعة خفتيذكان إلى سرخاب بن بدرفي هذه السنة عادت قلعة خفتيذكان إلى الأمير سرخاب بن بدر بن مهلهل.
وكان سبب أخذها منه أن القرابلي، وهو من قبيل من التركمان يقال لهم سلغر، كان قد أتى إلى بلد سرخاب، فمنعه من المراعي، وقتل جماعة من أصحابه، فمضى قرابلي إلى التركمان، واستجاش بهم، وجاء في عسكر كثير، فلقيه سرخاب وقاتله، فقتل قرابلي من أصحابه الأكراد قريباً من ألفي رجل، وانهزم سرخاب إلى بعض جباله في عشرين رجلاً.
فلما سمع المستحفظان بقلعة خفتيذكان ذلك، وكانا رجلين حدثتهما أنفسهما بالاستيلاء عليها، وكان بها ذخائره، وأمواله، وقدرها يزيد على ألفي دينار، فتملكاها، واجتاز بها السلطان بركيارق، فأنفذا إليه مائتي ألف دينار، واستولى التركمان على جميع بلاد سرخاب بن بدر، سوى دقوقا وشهرزور، فلما كان هذا الوقت قتل أحد المستحفظين الآخر، وأرسل إلى سرخاب يطلب منه الأمان ليسلم إليه القلعة، فأمنه على نفسه، وعلى ما حصل بيده من أموالها، فسلمها إليه ووفى له.
ذكر قتل قدرخان صاحب سمرقندقد ذكرنا قبل قدوم الملك سنجر مع أخيه السلطان محمد إلى بغداد وعوده إلى خراسان، فلما وصل إلى نيسابور خطب لأخيه محمد بخراسان جميعها، ولما كان ببغداد طمع قدرخان جبريل بن عمر، صاحب سمرقند، في خراسان لبعده عنها، وجمع عساكر تملأ الأرض، قيل: كانوا مائة ألف مقاتل فيهم مسلمون وكفار، وقصد بلاد سنجر.
وكان أمير من أمراء سنجر، اسمه كندغدي، قد كاتب قدرخان بالأخبار، وأعلمه مرض سنجر، بعد عوده إلى بلاده، وأنه قد أشفى على الهلاك، وقوى طمعه بالاختلاف الواقع بين السلطانين بركيارق ومحمد، وبشدة عداوة بركيارق لسنجر، وأشار عليه بالسرعة مهما الاختلاف واقع، وأنه متى أسرع ملك خراسان والعراق. فبادر قدرخان وأقدم، وقصد البلاد، فبلغ السلطان سنجر الخبر، وكان قد عوفي، فبادر وسار نحوه قاصداً قتاله ومنعه عن البلاد، وكان من جملة من معه كندغدي المذكور، وهو لا يتهمه بشيء مما فعل، فوصل إلى بلخ في ستة آلاف فارس، فبقي بينه وبين قدرخان نحو خمسة أيام، فهرب كندغدي إلى قدرخان، وحلف كل واحد منهما لصاحبه على الاتفاق والمناصحة، وسار من عنده إلى ترمذ، فملكها. وكان الباعث للكندغدي على ما فعل حسده للأمير بزغش على منزلته.
ثم تقدم قدرخان، فلما تدانى العسكران أرسل سنجر يذكر قدرخان العهود والمواثيق القديمة، فلم يصغ إلى قوله، وأذكى سنجر العيون والجواسيس على قدرخان، فكان لا يخفى عنه شيء من خبره، فأتاه من أخبره أنه نزل بالقرب من بلخ، وأنه خرج متصيداً في ثلاثمائة فارس، فندب سنجر، عند ذلك، الأمير بزغش لقصده، فسار إليه، فلحقه وهو على تلك الحال، فقاتله، فلم يصبر من مع قدرخان، فانهزموا، وأسر كندغدي وقدرخان، وأحضرهما عند سنجر، فأما قدرخان فإنه قبل الأرض واعتذر، فقال له سنجر: إن خدمتنا، أو لم تخدمنا، فما جزاؤك إلا السيف، ثم أمر به فقتل.
فلما سمع كندغدي الخبر نجا بنفسه، ونزل في قناة، ومشى فيها فرسخين تحت الأرض، على ما به من النقرس، وقتل فيها حيتين عظيمتين، وسبق أصحابه إلى مخرجها، وسار منها في ثلاثمائة فارس إلى غزنة. وقيل: بل جمع سنجر عساكر كثيرة، والتقى هو وقدرخان، وجرى بينهما مصاف، وقتال عظيم، أكثر فيه القتل فيهم، فانهزم قدرخان وعسكره، وحمل أسيراً إلى سنجر، فقتله، وحصر ترمذ، وبها كندغدي، فطلب الأمان، فأمنه سنجر، ونزل إليه، وسلم ترمذ، فأمره سنجر بمفارقة بلاده، فسار إلى غزنة، فلما وصل إليها أكرمه صاحبها علاء الدولة، وحل عنده المحل الكبير.
واتفق أن صاحب غزنة عزم على قصد أوتان، وهي جبال منيعة، على أربعين فرسخاً من غزنة، وقد عصى عليه قوم، وتحصنوا بمعاقلها، ووعور مسالكها، فقاتلهم عسكر علاء الدولة، فلم يظفروا منهم بطائل، فتقدم كندغدي منفرداً عنهم، فأبلى بلاء حسناً، ونصر عليهم، وأخذ غنائمهم، وحملها إلى علاء الدولة، فلم يقبل منها شيئاً، ووفرها عليه، فغضب العسكر، وحسدوه على ذلك، وعلى قربه من صاحبهم، ونفاقه عليه، فأشاروا بقبضه، وقالوا: إنا لا نأمن أن يقصد بعض الأماكن فيفعل في أمر الدولة ما لا يمكن تلافيه. فقال: قد تحققت قصدكم، ولكن بمن أقبض عليه؟ فإني أخاف أن آمركم بالقبض عليه، فينالكم منه ما تفتضحون به. فقالوا: الصواب أن توليه ولاية ويقبض عليه إذا سار إليها. فولاه حصنين جرت عادته أن يسجن فيهما من يخاف جانبه، فسار إليهما.
فلما قاربهما عرف ما يراد منه، فأحرق جميع ماله، ونحر جماله، وسار جريدة، وكان في مدة مقامه بغزنة يسأل عن الطرق وتشعبها، فإنه ندم على قصد تلك الجهة، فلما سار سأل راعياً عن الطريق التي يريدها، فدله، فأخذه معه خوفاً أن يكون قد غره، ولم يزل سائراً إلى أن وصل إلى قريب هراة، فمات هناك، وهو من مماليك تتش بن ألب أرسلان الذي كحله أخوه ملكشاه، وسجنه بتكريت، وقد تقدم ذكر حادثته.
ذكر ملك محمد خان سمرقندفي هذه السنة أحضر السلطان سنجر محمداً أرسلان خان بن سليمان بن داود بلراخان، من مرو، وملكه سمرقند، بعد قتل قدرخان، وكان محمد خان هذا من أولاد الخانية بما وراء النهر، وأمه ابنة السلطان ملكشاه، فدفع عسكر ملك آبائه، فقصد مرو، وأقام بها إلى الآن.
فلما قتل قدرخان ولاه سنجر أعماله، وسير معه العساكر الكثيرة، فعبروا النهر، فأطاعه العساكر بتلك البلاد جميعها، وعظم شأنه، وكثرت جموعه، إلا أنه انتصب له أمير اسمه هاغوبك، وزاحمه في الملك، فطمع فيه، فجرى له معه حروب احتاج في بعضها إلى الاستنجاد بعساكر سنجر، على ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى.
ولما ملك محمد خان البلاد أحسن إلى الرعايا بوصية من سنجر، وحقن الدماء، وصار بابه مقصداً، وجنابه ملجأ.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، خرج تاج الرؤساء ابن أخت أمين الدولة أبي سعد بن الموصلايا إلى الحلة السيفية، مستجيراً بسيف الدولة صدقة.
وسبب ذلك أن الوزير الأعز وزير السلطان بركيارق كان ينسب إليه أنه هو الذي يميل جانب الخليفة إلى السلطان محمد، فسار خائفاً، واعتزل خاله أمين الدولة الديوان، وجلس في داره، فلما قتل الوزير الأعز، على ما ذكرنا، عاد تاج الرؤساء من الحلة إلى بغداد، وعاد خاله إلى منصبه.
وفي ربيع الأول أيضاً ورد العميد المهذب أبو المجد، أخو الوزير الأعز، إلى بغداد، نائباً عن أخيه، ظناً منه أن إيلغازي لا يخالفهم، حيث كان بركيارق ومحمد قد اتفقا، كما ذكرناه، فقبض عليه إيلغازي، ولم يتغير عن طاعة محمد.
وفيها، في جمادى الأولى، ورد إلى بغداد ابن تكش بن ألب أرسلان، وكان قد استولى على الموصل، فخدعه من كان بها، حتى سار عنها إلى بغداد، فلما وصل إليها زوجه إيلغازي بن أرتق ابنته.
وفيها، في شهر رمضان، استوزر الخليفة سديد الملك أبا المعالي بن عبد الرزاق، ولقب عضد الدين.
وفيها، في صفر، قتل الربعيون بهيت قاضي البلد أبا علي بن المثنى، وكان ورعاً، فقيهاً، حنفياً، من أصحاب القاضي أبي عبد الله الدامغاني، وكان هذا القاضي على ما جرت به عادة القضاة هناك من الدخول بين القبائل، فنسبوه في ذلك إلى التحامل عليهم، فقتله أحدهم، فندم الباقون على قتله، وقد فات الأمر.
وفيها بنى سيف الدولة صدقة بن مزيد الحلة بالجامعين، وسكنها، وإنما كان يسكن هو وآباؤه قبله في البيوت العربية.
وفي جمادى الأولى قتل المؤيد بن شرف الدولة مسلم بن قريش أمير بني عقيل، قتله بنو نمير عند هيت قصاصاً.
وفيها توفي القاضي البندنيجي الضرير، الفقيه الشافعي، انتقل إلى مكة، فجاور بها أربعين سنة يدرس الفقه، ويسمع الحديث، ويشتغل بالعبادة.
وفيها توفي أبو عبد الله الحسين بن محمد الطبري بأصبهان، وكان يدرس فقه الشافعي بالمدرسة النظامية، وقد جاوز تسعين سنة، وهو من أصحاب أبي إسحاق.
وفيها توفي الأمير منظور بن عمارة الحسيني، أمير المدينة، على ساكنها السلام، وقام ولده مقامه، وهو من ولد المهنا، وقد كان قتل المعمار الذي أنفذه مجد الملك البلاساني لعمارة القبة التي على قبر الحسن بن علي والعباس، رضي الله عنهما، وكان من أهل قم، فلما قتل البلاساني قتله منظور بعد أن أمنه، وكان قد هرب منه إلى مكة، فأرسل إليه بأمانه.
؟؟
ثم دخلت سنة ست وتسعين وأربعمائة
ذكر استيلاء ينال على الري
وأخذها منه ووصوله إلى بغداد
كانت الخطبة بالري للسلطان بركيارق، فلما خرج السلطان محمد من أصبهان، على ما ذكرناه، ومعه ينال بن أنوشتكين الحسامي، استأذنه في قصد الري وإقامة الخطبة له بها، فأذن له، فسار هو وأخوه علي بن أنوشتكين، فوصلا إليها في صفر، فأطاع من بها من نواب بركيارق، وخطب لمحمد بالري، واستولى ينال على البلد، وعسف أهله، وصادرهم بمائتي ألف دينار، وأقام بها إلى النصف من ربيع الأول، فورد إليه الأمير برسق بن برسق من عند السلطان بركيارق، فوقع القتال بينهم على باب الري، فانهزم ينال وأخوه علي.
فأما علي فعاد إلى ولايته قزوين، وسلك ينال الجبال، فقتل من أصحابه كثير، وتشتتوا، فأتى إلى بغداد في سبعمائة رجل، فأكرمه الخليفة، واجتمع هو وإيلغازي وسقمان ابنا أرتق بمشهد أبي حنيفة، وتحالفوا على مناصحة السلطان محمد، وساروا إلى سيف الدولة صدقة، فحلف لهم أيضاً على ذلك، وعادوا.
ذكر ما فعله ينال بالعراققد ذكرنا وصول ينال بن أنوشتكين إلى بغداد قبل. فلما استقر ببغداد ظلم الناس بالبلاد جميعاً، وصادرهم، واستطال أصحابه على العامة بالضرب والقتل والتقسيط، وصادر العمال.
فأرسل إليه الخليفة قاضي القضاة أبا الحسن الدامغاني ينهاه عن ذلك، ويقبح عنده ما يرتكبه من الظلم والعدوان، وتردد أيضاً إلى إيلغازي، وكان ينال قد تزوج هذه الأيام بأخته، وهي التي كانت زوجة تاج الدولة تتش، حتى توسط الأمر معه، فمضوا إليه، وحلفوه على الطاعة، وترك ظلم الرعية، وكف أصحابه، ومنعهم، فحلف، ولم يقف على اليمين، ونكث ودام على الظلم وسوء السيرة.
فأرسل الخليفة إلى سيف الدولة صدقة، وعرفه ما يفعله ينال من نهب الأموال، وسفك الدماء، وطلب منه أن يحضر بنفسه ليكف ينال، فسار من حلته في رمضان، ووصل بغداد رابع شوال، وضرب خيامه بالنجمي، واجتمع هو وينال، وإيلغازي، ونواب ديوان الخليفة، وتقررت القواعد على مال يأخذه ويرحل عن العراق، فطلب ينال المهلة، فعاد صدقة عاشر شوال إلى حلته، وترك ولده دبيساً ببغداد ليمنعه من الظلم والتعدي عما استقر الأمر عليه، فبقي ينال إلى مستهل ذي القعدة، وسار إلى أوانا، فنهب، وقطع الطريق، وعسف الناس، وبالغ في الفعل القبيح، وأقطع القرى لأصحابه، فأرسل الخليفة إلى صدقة في ذلك، فأرسل ألف فارس، وساروا إليه ومعهم جماعة من أصحاب الخليفة، وإيلغازي، شحنة بغداد، فلما سمع ينال بقربهم منه عبر دجلة، وسار إلى باجسري وشعثها، وقصد شهرابان، فمنعه أهلها، فقاتلهم، فقتل بينهم قتلى، ورحل عنهم، وسار إلى أذربيجان قاصداً إلى السلطان محمد، وعاد دبيس بن صدقة، وإيلغازي، شحنة بغداذ، إلى مواضعهم.
ذكر وصول كمشتكين القيصري شحنة إلى بغداد والفتنة بينه وبين إيلغازي وسقمان وصدقة
في هذه السنة، منتصف ربيع الأول، ورد كمشتكين القيصري إلى بغداد، شحنة، أرسله إليها السلطان بركيارق، وقد ذكرنا في السنة المتقدمة رحيل بركيارق من أصبهان إلى همذان، فلما وصلها أرسل إلى بغداد كمشتكين شحنة، فلما سمع إيلغازي، وهو شحنة ببغداد، للسلطان محمد، أرسل إلى أخيه سقمان بن أرتق، صاحب حصن كيفا، يستدعيه إليه ليعتضد به على منعه، وسار إلى سيف الدولة صدقة بالحلة، واجتمع به، وسأله تجديد عهد في دفع من يقصده من جهة بركيارق، فأجابه إلى ذلك وحلف له، فعاد إيلغازي.
وورد سقمان في عساكر، ونهب في طريقه تكريت، وسبب تمكنه منها أنه أرسل جماعة من التركمان إلى تكريت، معهم أحمال جبن، وسمن، وعسل، فباعوا ما معهم، وأظهروا أن سقمان قد عاد عن الانحدار، فاطمأن أهل البلد، ووثب التركمان، تلك الليلة، على الحراس فقتلوهم، وفتحوا الأبواب، وورد إليها سقمان، ودخلها ونهبها، ولما وصل إلى بغداد نزل بالرملة.
وأما كمشتكين فوصل، أول ربيع الأول، إلى قرميسين، وأرسل إلى من له هوى مع بركيارق، وأعلمهم بقربه منهم، فخرج إليه جماعة منهم، فلقوه بالبندنيجين، وأعلموه الأحوال، وأشاروا عليه بالمعاجلة، فأسرع السير، فوصل إلى بغداد منتصف ربيع الأول، ففارق إيلغازي داره، واجتمع بأخيه سقمان، وأصعدا من الرملة، ونهبا بعض قرى دجيل، فسار طائفة من عسكر كمشتكين وراءهما، ثم عادوا عنهما، وخطب للسلطان بركيارق ببغداد، فأرسل كمشتكين القيصري إلى سيف الدولة صدقة، ومعه حاجب من ديوان الخليفة، في طاعة بركيارق، فلم يجب إلى ذلك، وكشف القناع ببغداد في مخالفته، وسار من الحلة إلى جسر صرصر، فقطعت خطبة بركيارق ببغداد، ولم يذكر على منابرها أحد من السلاطين، واقتصر الخطباء على الدعاء للخليفة لا غير.
ولما وصل سيف الدولة إلى صرصر أرسل إيلغازي وسقمان، وكانا بحربى، يعرفهما أنه قد أتى لنصرتهما، فعادا ونهبا دجيلاً، ولم يبقيا على قرية كبيرة ولا صغيرة، وأخذت الأموال، وافتضت الأبكار، ونهب العرب والأكراد الذين مع سيف الدولة بنهر ملك، إلا أنهم لم ينقل عنهم مثل التركمان من أخذ النساء والفساد معهن، لكنهم استقصوا في أخذ الأموال بالضرب والإحراق، وبطلت معايش الناس، وغلت الأسعار، فكان الخبز يساوي عشرة أرطال بقيراط، فصار ثلاثة أرطال بقيراط، وجميع الأشياء كذلك.
فأرسل الخليفة إلى سيف الدولة في الإصلاح، فلم تستقر قاعدة، وعاد إيلغازي وسقمان ومعهما دبيس بن سيف الدولة صدقة من دجيل، فخيموا بالرملة، فقصدهم جماعة كثيرة من العامة، فقاتلوهم، فقتل من العامة أربعة نفر، وأخذ منهم جماعة، فأطلقوا بعد أن أخذت أسلحتهم، وازداد الأمر شدة على الناس، فأرسل الخليفة قاضي القضاة أبا الحسن بن الدامغاني، وتاج الرؤساء بن الموصلايا إلى سيف الدولة يأمره بالكف عن الأمر الذي هو ملابسه، ويعرفه ما الناس فيه، ويعظم الأمر عليه، فأظهر طاعة الخليفة، إن أخرج القيصري من بغداد، وإلا فليس غير السيف، وأرعد وأبرق.
فلما عاد الرسول استقر الأمر على إخراج القيصري من بغداد، ففارقها ثاني عشر ربيع الآخر، وسار إلى النهروان، وعاد سيف الدولة إلى بلده، وأعيدت خطبة السلطان محمد ببغداد، وسار القيصري إلى واسط، فخاف الناس منه، وأرادوا الانحدار منها ليأمنوا، فمنعهم القيصري، وخطب لبركيارق بواسط ونهبوا كثيراً من سوادها.
فلما سمع صدقة ذلك سار إلى واسط، فدخلها، وعدل في أهلها، وكف عسكره عن أذاهم، ووصل إليه إيلغازي بواسط، وفارقها القيصري، ونزل متحصناً بدجلة، فقيل لسيف الدولة: إن هناك مخاضة، فسار إليها بعسكره وقد لبسوا السلاح، فلما رآهم عسكر القيصري تفرقوا عنه، وبقي في خواص أصحابه، فطلب الأمان من سيف الدولة، فأمنه، فحضر عنده، فأكرمه، وقال له: قد سمنت، قال: وتركتنا نسمن؟ أخرجتنا من بغداد، ثم من واسط، ونحن لا نعقل.
ثم بذل صدقة الأمان لجميع عسكر واسط، ومن كان مع القيصري، سوى رجلين، فعادا إليه فأمنهما، وعاد القيصري إلى بركيارق، وأعيدت خطبة السلطان محمد بواسط، وخطب بعده لسيف الدولة وإيلغازي، واستناب كل واحد منهما فيها ولده، وعادا عنها في العشرين من جمادى الأولى، وأمن أهل واسط مما كانوا يخافونه.
فأما إيلغازي فإنه أصعد إلى بغداد، وأما سيف الدولة صدقة فإنه عاد إلى الحلة، وأرسل ولده الأصغر منصوراً مع إيلغازي إلى المستظهر بالله يسأله الرضا عنه، فإنه كان قد سخط بسبب هذه الحادثة، فوصل إلى بغداد، وخاطب في ذلك، فأجيب إليه.
ذكر استيلاء صدقة على هيتكانت مدينة هيت لشرف الدولة مسلم بن قريش، أقطعه إياها السلطان ألب أرسلان، ولم تزل معه حتى قتل، فنظر فيها عمداء بغداد إلى أن مات السلطان ملكشاه، ثم أخذها أخوه تتش بن ألب أرسلان. فلما استولى السلطان بركيارق أقطعها لبهاء الدولة ثروان بن وهب بن وهيبة، وأقام هو جماعة من بني عقيل عند سيف الدولة صدقة، وكانا متصافيين، وكان صدقة يزوره كثيراً ثم تنافرا.
وكان سبب ذلك أن صدقة زوج بنتاً له من ابن عمه، وكان ثروان قد خطبها، فلم يجبه إلى ذلك، فتحالفت عقيل، وهم في حلة سيف الدولة، أن يكونوا يداً واحدة عليه، فأنكر صدقة ذلك، وحج ثروان عقيب ذلك وعاد مريضاً، فوكل به صدقة، وقال: لا بد من هيت، فأرسل ثروان حاجبه، وكتب خطه بتسليم البلد إليه.
وكان بهيت حينئذ محمد بن رافع بن رفاع بن ضبيعة بن مالك بن مقلد بن جعفر، وأرسل صدقة ابنه دبيساً مع الحاجب ليتسلمها فلم يسلم إليه محمد، فعاد دبيس إلى أبيه، فلما أخذ صدقة واسطاً، هذه النوبة، أصعد في عسكره إلى هيت، فخرج إليه منصور بن كثير ابن أخي ثروان، ومعه جماعة من أصحابه، فلقوا سيف الدولة، وحاربوه ساعة من النهار.
ثم إن جماعة من الربعيين فتحوا لسيف الدولة البلد، فدخله أصحابه، فلما رأى ذلك منصور ومن معه سلموا البلد إليه، فملكه يوم نزوله، وخلع على منصور وجماعة من وجوه أصحابه، وعاد إلى حلته، واستخلف عليه ابن عمه ثابت بن كامل.
ذكر الحرب بين بركيارق ومحمدفي هذه السنة، ثامن جمادى الآخرة، كان المصاف الخامس بين السلطان بركيارق والسلطان محمد.
وكانت كنجة وبلاد أران جميعها للسلطان محمد، وبها عسكره، ومقدمهم الأمير غزغلي، فلما طال مقام محمد بأصبهان محصوراً توجه غزغلي والأمير منصور بن نظام الملك وابن أخيه محمد بن مؤيد الملك بن نظام الملك قاصدين لنصرته، ليراهم بعين الطاعة.
وكان آخر ما تقام فيه الخطبة لمحمد زنجان مما يلي أذربيجان، فوصلوا إلى الري في العشرين من ذي الحجة سنة خمس وتسعين، ففارقه عسكر بركيارق، ودخلوه وأقاموا به ثلاثة أيام.
ووصلهم الخبر بخروج السلطان محمد من أصبهان، وأنه وصل إلى ساوة، فساروا إليه، ولحقوه بهمذان ومعه ينال وعلي ابنا أنوشتكين الحسامي، فبلغ عددهم ستة آلاف فارس، فأقاموا بها إلى أواخر المحرم، فأتاهم الخبر بأن السلطان بركيارق قد أتاهم، فتلونوا في رأيهم، فسار ينال وعلي ابنا أنوشتكين إلى الري، على ما ذكرناه، وعزم السلطان محمد على التوجه إلى شروان، فوصل إلى أردبيل، فأرسل إليه الملك مودود بن إسماعيل بن ياقوتي، صاحب بعض أذربيجان، وكانت قبله لأبيه إسماعيل بن ياقوتي، وهو خال السلطان بركيارق، وكانت أخته زوجة السلطان محمد، وهو مطالب السلطان بركيارق بثأر أبيه، وقد تقدم مقتله أول دولة بركيارق، وقال له: ينبغي أن تقدم إلينا لتجتمع كلمتنا على طاعتك، وقتال خصمنا، فسار إليه مجداً، وتصيد في طريقه بين أردبيل وبيلقان، وانفرد عن عسكره، فوثب عليه نمر، وهو غافل، فجرح السلطان محمداً في عضده، فأخذ سكيناً وشق بها جوف النمر فألقاه عن فرسه ونجا.
ثم إن مودود بن إسماعيل توفي في النصف من ربيع الأول، وعمره اثنتان وعشرون سنة، ولما بلغ بركيارق اجتماع السلطان محمد والملك مودود سار غير متوقف، فوصل بعد موت مودود، وكان عسكر مودود قد اجتمعوا على طاعة السلطان محمد، وحلفوا له، وفيهم سكمان القبطي، ومحمد بن باغي سيان، الذي كان أبوه صاحب أنطاكية، وقزل أرسلان بن السبع الأحمر، فلما وصل بركيارق وقعت الحرب بينهما على باب خوي من أذربيجان عند غروب الشمس، ودامت إلى العشاء الآخرة.
فاتفق أن الأمير إياز أخذ معه خمسمائة فارس مستريحين، وحمل بهم، وقد أعيا العسكر من الجهتين، على عسكر السلطان محمد، فكسرهم، وولوا الأدبار لا يلوي أحد على أحد.
فأما السلطان بركيارق فإنه قصد جبلاً بين مراغة وتبريز، كثير العشب والماء، فأقام به أياماً، وسار إلى زنجان.
وأما السلطان محمد فإنه سار مع جماعة من أصحابه إلى أرجيش، من بلاد أرمينية، على أربعين فرسخاً من الوقعة، وهي من أعمال خلاط، من جملة أقطاع الأمير سكمان القبطي، وسار منها إلى خلاط، واتصل به الأمير علي صاحب أرزن الروم، وتوجه إلى آني، وصاحبها منوجهر أخو فضلون الروادي، ومنها سار إلى تبريز من أذربيجان. وسنذكر باقي أخبارهم سنة سبع وتسعين عند صلحهم إن شاء الله.
وكان الأمير محمد بن مؤيد الملك بن نظام الملك مع السلطان محمد في هذه الوقعة، فمر منهماً، ودخل ديار بكر، وانحدر منها إلى جزيرة ابن عمر، وسار منها إلى بغداد، وكان في حياة أبيه يقيم ببغداد في سوق المدرسة، فاتصلت الشكاوى منه إلى أبيه، فكتب إلى كوهرائين بالقبض عليه، فاستجار بدار الخلافة، وتوجه سنة اثنتين وتسعين إلى مجد الملك البلاساني، ووالده حينئذ بكنجة عند السلطان محمد، قبل أن يخطب لنفسه بالسلطنة، وتوجه بعد قتل مجد الملك إلى والده، وقد صار وزير السلطان محمد، وخطب لمحمد بالسلطنة، وبقي بعد قتل والده، واتصل بالسلطان محمد، وحضر معه هذه الحرب فانهزم.
ذكر عزل سديد الملك وزير الخليفة ونظر أبي سعد بن الموصلايا في الوزارةفي هذه السنة، منتصف رجب، قبض على الوزير سديد الملك أبي المعالي، وزير الخليفة، وحبس في دار بدار الخلافة، وكان أهله قد وردوا عليه من أصبهان، فنقلوا إليه، وكان محبسه جميلاً.
وسبب عزله جهله بقواعد ديوان الخلافة، فإنه قضى عمره في أعمال السلاطين، وليس لهم هذه القواعد، ولما قبض عاد أمين الدولة بن الموصلايا إلى النظر في الديوان.
ومن عجيب ما جرى من الكلام الذي وقع بعد أيام أن سديد الملك كان يسكن في دار عميد الدولة بن جهير، وجلس فيها مجلساً عاماً يحضره الناس لوعظ المؤيد عيسى الغزنوي، فأنشدوا أبياتاً ارتجلها:
سديد الملك سدت، وخضت بحراً ... عميق اللج، فاحفظ فيه روحك
وأحي معالم الخيرات، واجعل ... لسان الصدق في الدنيا فتوحك
وفي الماضين معتبر، فأسرج ... مروحك في السلامة، أو جموحك
ثم قال سديد الملك: من شرب من مرقة السلطان احترقت شفتاه، ولو بعد زمان، ثم أشار إلى الدار وقرأ: " وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم " ، فقبض على الوزير بعد أيام.
ذكر ملك الملك دقاق مدينة الرحبةفي هذه السنة، في شعبان، ملك الملك دقاق بن تتش، صاحب دمشق، مدينة الرحبة، وكانت بيد إنسان اسمه قايماز من مماليك السلطان ألب أرسلان، فلما قتل كربوقا استولى عليها، فسار دقاق وطغتكين أتابكه إليه، وحصراه بها، ثم رحل عنه.
وتوفي قايماز هذه السنة في صفر، وقام مقامه غلام تركي اسمه حسن، فأبعد عنه كثيراً من جنده، وخطب لنفسه، وخاف من دقاق، فاستظهر، وأخذ جماعة من السالارية الذين يخافهم، فقبض عليهم، وقتل جماعة من أعيان البلد، وحبس آخرين وصادرهم. فتوجه دقاق إليه وحصره، فسلم العامة البلد إليه، واعتصم حسن بالقلعة، فأمنه دقاق، فسلم القلعة إليه، فأقطعه إقطاعاً كثيراً بالشام، وقرر أمر الرحبة، وأحسن إلى أهلها، وجعل فيها من يحفظها، ورحل عنها إلى دمشق.
ذكر أخبار الفرنج بالشامكان الأفضل أمير الجيوش بمصر قد أنفذ ملوكاً لأبيه، لقبه سعد الدولة، ويعرف بالطواشي، إلى الشام لحرب الفرنج، فلقيهم بين الرملة ويافا، ومقدم الفرنج يعرف ببغدوين، لعنه الله تعالى، وتصافوا واقتتلوا، فحملت الفرنج حملة صادقة، فانهزم المسلمون.
وكان المنجمون يقولون لسعد الدولة: إنك تموت متردياً، فكان يحذر من ركوب الخيل، حتى إنه ولي بيروت وأرضها مفروشة بالبلاط، فقلعه خوفاً أن يزلق به فرسه، أو يعثر، فلم ينفعه الحذر عند نزول القدر، فلما كانت هذه الوقعة انهزم، فتردى به فرسه، فسقط ميتاً، وملك الفرنج خيمه وجميع ما للمسلمين.
فأرسل الأفضل بعده ابنه شرف المعالي في جمع كثير، فالتقوا هم والفرنج بيازوز،، بقرب الرملة، فانهزم الفرنج، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وعاد من سلم منهم مغلولين، فلما رأى بغدوين شدة الأمر، وخاف القتل والأسر، ألقى نفسه في الحشيش واختفى فيه، فلما أبعد المسلمون خرج منه إلى الرملة. وسار شرف المعالي بن الأفضل من المعركة، ونزل على قصر بالرملة، وبه سبعمائة من أعيان الفرنج، وفيهم بغدوين، فخرج متخفياً إلى يافا، وقاتل ابن الأفضل من بقي خمسة عشر يوماً، ثم أخذهم، فقتل منهم أربعمائة صبراً، وأسر ثلاثمائة إلى مصر.
ثم اختلف أصحابه في مقصدهم، فقال يوم: نقصد البيت المقدس ونتملكه، وقال قوم: نقصد يافا ونملكها.
==============

===================
مجلد 28. كتاب : الكامل في التاريخ ابن الأثير
فبينما هم في هذا الاختلاف، إذ وصل إلى الفرنج خلق كثير في البحر، قاصدين زيارة البيت المقدس، فندبهم بغدوين للغزو معه، فساروا إلى عسقلان، وبها شرف المعالي، فلم يكن يقوى بحربهم، فلطف الله بالمسلمين، فرأى الفرنج البحرية حصانة عسقلان، وخافوا البيات، فرحلوا إلى يافا، وعاد ولد الأفضل إلى أبيه، فسير رجلاً يقال له تاج العجم في البر، وهو من أكبر مماليك أبيه، وجهز معه أربعة آلاف فارس، وسير في البحر رجلاً يقال له القاضي ابن قادوس، في الأسطول على يافا، ونزل تاج العجم على عسقلان، فاستدعاه ابن قادوس إليه ليتفقا على حرب الفرنج، فقال تاج العجم: ما يمكنني أن أنزل إليك إلا بأمر الأفضل، ولم يحضر عنده، ولا أعانه، فأرسل القادوسي إلى قاضي عسقلان، وشهودها، وأعيانها، وأخذ خطوطهم بأنه أقام على يافا عشرين يوماً، واستدعى تاج العجم، فلم يأته، ولا أرسل رجلاً، فلما وقف الأفضل على الحال أرسل من قبض على تاج العجم، وأرسل رجلاً، لقبه جمال الملك، فأسكنه عسقلان، وجعله متقدم العساكر الشامية.
وخرجت هذه السنة وبيد الفرنج، لعنهم الله، البيت المقدس، وفلسطين، ما عدا عسقلان، ولهم أيضاً يافا، وأرسوف، وقيسارية، وحيفا، وطبرية، واللاذقية، وأنطاكية، ولهم بالجزيرة الرها، وسروج.
وكان صنجيل يحاصر مدينة طرابلس الشام، والمواد تأتيها، وبها فخر الملك بن عمار، وكان يرسل أصحابه في المراكب يغيرون على البلاد التي بيد الفرنج، ويقتلون من وجدوا، وقصد بذلك أن يخلو السواد ممن يزرع لتقل المواد من الفرنج فيرحلوا عنه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، سادس المحرم، توفيت بنت أمير المؤمنين القائم بأمر الله، التي كانت زوجة السلطان طغرلبك، وكانت موصوفة بالدين، وكثرة الصدقة، وكان الخليفة المستظهر بالله قد ألزمها بيتها، لأنه بلغ عنها أنها تسعى في إزالة دولته.
وفيها، في شعبان أيضاً، استوزر المستظهر بالله زعيم الرؤساء أبا القاسم بن جهير، واستقدمه من الحلة من عند سيف الدولة صدقة، وقد ذكرنا في السنة المتقدمة سبب مسيره إليها، فلما قدم إلى بغداد وخرج كل أرباب الدولة فاستقبلوه، وخلع عليه الخلع التامة، وأجلس في الديوان ولقب قوام الدين.
وفيه أيضاً قتل أبو المظفر بن الخجندي بالري، وكان يعظ الناس، فقتله رجل علوي حين نزل من كرسيه، وقتل العلوي ودفن الخجندي بالجامع، وأصل بيت الخجندي من مدينة خجندة، بما وراء النهر، وينسبون إلى المهلب بن أبي صفرة، وكان نظام الملك قد سمع أبا بكر محمد بن ثابت الخجندي يعظ بمرو، فأعجبه كلامه، وعرف محله من الفقه والعلم، فحمله إلى أصبهان، وصار مدرساً بمدرسته بها، فنال جاهاً عريضاً، ودنيا واسعة، وكان نظام الملك يتردد إليه ويزوره.
وفيها جمع ساغربك، بما وراء النهر، جموعاً كثيرة، وهو من أولاد الخانية، وقصد محمد خان الذي ملكه السلطان سنجر سمرقند، ونازعه في ملكها، فضعف محمد خان عنه، فأرسل إلى السلطان سنجر يستنجده، فسار إلى سمرقند، فأبعد عنه ساغربك، وخافه، واحتمى منه، وأرسل يطلب الأمان من سنجر، والعفو، فأجابه إلى ما طلب، وحضر ساغربك عنده، وقرر الصلح بينه وبين محمد خان، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وعاد إلى خراسان، فوصل إلى مرو في ربيع الأول سنة سبع وتسعين وأربعمائة.
وفيها توفي أبو المعالي الصالح، ساكن باب الطاق، وكان مقلاً من الدنيا، له كرامات ظاهرة.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وأربعمائة
ذكر ملك بلك بن بهرام مدينة عانةفي هذه السنة، في المحرم، استولى بلك بن بهرام بن أرتق، وهو ابن أخي إيلغازي بن أرتق، على مدينة عانة، والحديثة، وكان له مدينة سروج، فأخذها الفرنج منه، فسار عنها إلى عانة وأخذها من بني يعيش بن عيسى بن خلاط، فقصد بنو يعيش سيف الدولة صدقة بن مزيد، ومعهم مشايخهم، فسألوه الإصعاد إليها، وأن يتسلمها منهم، ففعل وأصعد معهم.
فرحل التركمان وبهرام عنها، وأخذ صدقة رهائنهم، وعاد إلى حلته، فرجع بلك إليها ومعه ألفا رجل من التركمان، فمانعه أصحابه قليلاً، واستدل على المخاضة إليها، فخاضها وعبر، وملكهم ونهبهم، وسبى جميع حرمهم وانحدر طالباً هيت من الجانب الشامي، فبلغ إلى قريب منها، ثم رجع من يومه، ولما سمع صدقة جهز العساكر، ثم أعادهم عند عود بلك.
ذكر غارة الفرنج على الرقة وقلعة جعبرفي هذه السنة، في صفر، أغار الفرنج من الرها على مرج الرقة وقلعة جعبر، وكانوا لما خرجوا من الرها افترقوا فرقتين، وأبعدوا يوماً واحداً تكون الغارة على البلدين فيه، ففعلوا ما استقر بينهم، وأغاروا، واستاقوا المواشي، وأسروا من وقع بأيديهم من المسلمين، فكانت القلعة والرقة لسالم بن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب سلمها إليه السلطان ملكشاه سنة تسع وسبعين، وقد ذكرناه فيها.
ذكر الصلح بين السلطان بركيارق ومحمدفي هذه السنة، في ربيع الآخر، وقع الصلح بين السلطانين بركيارق ومحمد ابني ملكشاه.
وكان سببه أن الحروب تطاولت بينهما، وعم الفساد، فصارت الأموال منهوبة، والدماء مسفوكة، والبلاد مخربة، والقرى محرقة، والسلطنة مطموعاً فيها، محكوماً عليها، وأصبح الملوك مقهورين، بعد أن كانوا قاهرين، وكان الأمراء الأكابر يؤثرون ذلك ويختارونه ليدوم تحكمهم، وانبساطهم، وإدلالهم.
وكان السلطان بركيارق حينئذ بالري والخطبة له بها، وبالجبل، وطبرستان، وخوزستان، وفارس، وديار بكر، والجزيرة، وبالحرمين الشريفين.
وكان السلطان محمد بأذربيجان، والخطبة له فيها، وببلاد أرانية، وأرمينية، وأصبهان، والعراق، كلها ما عدا تكريت.
وأما أعمال البطائح فيخطب ببعضها لبركيارق، وببعضها لمحمد.
وأما البصرة فكان يخطب فيها لهما جميعاً.
وأما خراسان فإن السلطان سنجر كان يخطب له في جميعها، وهي من حدود جرجان إلى ما وراء النهر، ولأخيه السلطان محمد.
فلما رأى السلطان بركيارق المال عنده معدوماً، والطمع من العسكر زائداً، أرسل القاضي أبا المظفر الجرجاني الحنفي، وأبا الفرج أحمد بن عبد الغفار الهمذاني، المعروف بصاحب قراتكين، إلى أخيه محمد في تقرير قواعد الصلح، فسارا إليه، وهو بالقرب من مراغة، فذكرا له ما أرسلا فيه، ورغباه في الصلح وفضيلته، وما شمل البلاد من الخراب، وطمع عدو الإسلام في أطراف الأرض. فأجاب إلى ذلك، وأرسل فيه رسلاً، واستقر الأمر، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وتقررت القاعدة: أن السلطان بركيارق لا يعترض أخاه محمداً في الطبل، وأن لا يذكر معه على سائر البلاد التي صارت له، وأن لا يكاتب أحدهما الآخر بل تكون المكاتبة من الوزيرين، ولا يعارض أحد من العسكر في قصد أيهما شاء، وأن يكون للسلطان محمد من النهر المعروف بإسبيذروذ، إلى باب الأبواب، وديار بكر، والجزيرة، والموصل، والشام، ويكون له من بلاد العراق بلاد سيف الدولة صدقة.
فأجاب بركيارق إلى هذا، وزال الخلف، والشغب، وأرسل السلطان محمد إلى أصحابه بأصبهان يأمرهم بالانصراف عن البلد، وتسليمه إلى أصحاب أخيه، وسار السلطان بركيارق إلى أصبهان، فلما سلمها إليه أصحاب أخيه دعاهم إلى أن يكونوا معه، وفي خدمته، فامتنعوا، ورأوا لزوم خدمة صاحبهم، فسماهم أهل العسكرين جميعاً: أهل الوفاء، وتوجهوا من أصبهان، ومعهم حريم السلطان محمد، إليه، وأكرمهم بركيارق، وحمل لأهل أخيه المال الكثير، ومن الدواب ثلاثمائة جمل، ومائة وعشرين بغلاً، تحمل الثقل، وسير معهم العساكر يخدمونهم.
ولما وصلت رسل السلطان بركيارق إلى الخليفة المستظهر بالله بالصلح، وما استقرت القواعد عليه، حضر إيلغازي بالديوان، وسأل في إقامة الخطبة لبركيارق، فأجيب إلى ذلك، وخطب له بالديوان يوم الخميس تاسع عشر جمادى الأولى، وخطب له، من الغد، بالجوامع، وخطب له أيضاً بواسط.
ولما خطب إيلغازي ببغداد لبركيارق، وصار في جملته، أرسل الأمير صدقة إلى الخليفة يقول: كان أمير المؤمنين ينسب إلي كل ما يتجدد من إيلغازي من إخلال بواجب الخدمة، وشرط الطاعة، ومن اطراح المراقبة، والآن، فقد أبدى صفحته للسلطان الذي استنابه، وأنا غير صابر على ذلك، بل أسير لإخراجه عن بغداد.
فلما سمع إيلغازي ذلك شرع في جمع التركمان، وورد صدقة بغداد، فنزل مقابل التاج، وقبل الأرض، ونزل في مخيمه بالجانب الغربي، ففارق إيلغازي بغداد إلى يعقوبا، وأرسل إلى صدقة يعتذر من طاعته لبركيارق بالصلح الواقع، وأن إقطاعه حلوان وغيرها في جملة بلاده، وأن بغداد التي هو شحنة فيها قد صارت له، فذلك الذي أدخله في طاعته. فرضي عنه صدقة، وعاد إلى الحلة.
وفي ذي القعدة سيرت الخلع من الخليفة للسلطان بركيارق، وللأمير إياز، ولوزير بركيارق، وهو الخطير، والعهد بالسلطنة، وحلفوا جميعهم للخليفة وعادوا.
ذكر ملك الفرنج جبيل وعكا من الشامفي هذه السنة وصلت مراكب من بلاد الفرنج إلى مدينة اللاذقية، فيها التجار، والأجناد، والحجاج، وغير ذلك، واستعان بهم صنجيل الفرنجي على حصار طرابلس، فحصروها معه براً وبحراً، وضايقوها، وقاتلوها أياماً، فلم يروا فيها مطمعاً، فرحلوا عنها إلى مدينة جبيل، فحصروها، وقاتلوا عليها قتالاً شديداً. فلما رأى أهلها عجزهم عن الفرنج أخذوا أماناً، وسلموا البلد إليهم، فلم تف الفرنج لهم بالأمان، وأخذوا أموالهم، واستنقذوها بالعقوبات وأنواع العذاب.
فلما فرغوا من جبيل ساروا إلى مدينة عكا، استنجدهم الملك بغدوين، ملك الفرنج، صاحب القدس على حصارها، فنازلوها، وحصروها في البر والبحر.
وكان الوالي بها اسمه بنا، ويعرف بزهر الدولة الجيوشي، نسبة إلى ملك الجيوش الأفضل، فقاتلهم أشد قتال، فزحفوا إليه غير مرة، فعجز عن حفظ البلد، فخرج منه، وملك الفرنج البلد بالسيف قهراً، وفعلوا بأهله الأفعال الشنيعة، وسار الوالي به إلى دمشق، فأقام بها، ثم عاد إلى مصر، واعتذر إلى الأفضل فقبل عذره.
ذكر غزو سقمان وجكرمش الفرنجلما استطال الفرنج، خذلهم الله تعالى، بما ملكوه من بلاد الإسلام، واتفق لهم اشتغال عساكر الإسلام، وملوكه، بقتال بعضهم بعضاً، تفرقت حينئذ بالمسلمين الآراء، واختلفت الأهواء، وتمزقت الأموال.
وكانت حران لمملوك من مماليك ملكشاه اسمه قراجه، فاستخلف عليها إنساناً يقال له محمد الأصبهاني، وخرج في العام الماضي، فعصى الأصبهاني على قراجه، وأعانه أهل البلد لظلم قراجه.
وكان الأصبهاني جلداً، شهماً، فلم يترك بحران من أصحاب قراجه سوى غلام تركي يعرف بجاولي، وجعله أصفهسلار العسكر، وأنس به، فجلس معه يوماً للشرب، فاتفق جاولي مع خادم له على قتله فقتلاه وهو سكران. فعند ذلك سار الفرنج إلى حران وحصروها.
فلما سمع معين الدولة سقمان، وشمس الدولة جكرمش ذلك، وكان بينهما حرب، وسقمان يطالبه بقتل ابن أخيه، وكل منهما يستعد للقاء صاحبه، وأنا أذكر سبب قتل جكرمش له، إن شاء الله تعالى، أرسل كل منهما إلى صاحبه يدعوه إلى الاجتماع معه لتلافي أمر حران، ويعلمه أنه قد بذل نفسه لله تعالى، وثوابه، فكل واحد منهما أجاب صاحبه إلى ما طلب منه، وسارا، فاجتمعا على الخابور، وتحالفا، وسارا إلى لقاء الفرنج.
وكان مع سقمان سبعة آلاف فارس من التركمان، ومع جكرمش ثلاثة آلاف فارس من الترك، والعرب، والأكراد، فالتقوا على نهر البليخ، وكان المصاف بينهم هناك، فاقتتلوا، فأظهر المسلمون الانهزام، فتبعهم الفرنج نحو فرسخين، فعاد عليهم المسلمون فقتلوهم كيف شاؤوا، وامتلأت أيدي التركمان من الغنائم، ووصلوا إلى الأموال العظيمة، لأن سواد الفرنج كان قريباً، وكان بيمند، صاحب أنطاكية، وطنكري، صاحب الساحل، قد انفردا وراء جبل ليأتيا المسلمين من وراء ظهورهم، إذا اشتدت الحرب، فلما خرجا رأيا الفرنج منهزمين، وسوادهم منهوباً، فأقاما إلى الليل، وهربا، فتبعهما المسلمون، وقتلوا من أصحابهما كثيراً، وأسروا كذلك، وأفلتا في ستة فرسان.
وكان القمص بردويل، صاحب الرها، قد انهزم مع جماعة من قمامصتهم، وخاضوا نهر البليخ، فوجلت خيولهم، فجاء تركماني من أصحاب سقمان فأخذهم، وحمل بردويل إلى خيم صاحبه، وقد سار فيمن معه لاتباع بيمند، فرأى أصحاب جكرمش أن أصحاب سقمان قد استولوا على مال الفرنج، ويرجعون هم من الغنيمة بغير طائل، فقالوا لجكرمش: أي منزلة تكون لنا عند الناس، وعند التركمان إذا انصرفوا بالغنائم دوننا؟ وحسنوا له أخذ القمص، فأنفذ فأخذ القمص من خيم سقمان، فلما عاد سقمان شق عليه الأمر، وركب أصحابه للقتال، فردهم، وقال لهم: لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغمهم باختلافنا، ولا أؤثر شفاء غيظي بشماتة الأعداء بالمسلمين. ورحل لوقته، وأخذ سلاح الفرنج، وراياتهم، وألبس أصحابه لبسهم، وأركبهم خيلهم، وجعل يأتي حصون شيحان، وبها الفرنج، فيخرجون ظناً منهم أن اصحابهم نصروا، فيقتلهم ويأخذ الحصن منهم، فعل ذلك بعدة حصون.
وأما جكرمش فإنه سار إلى حران، فتسلمها، واستخلف بها صاحبه. وسار إلى الرها، فحصرها خمسة عشر يوماً، وعاد إلى الموصل ومعه القمص الذي أخذه من خيام سقمان، ففاداه بخمسة وثلاثين ديناراً، ومائة وستين أسيراً من المسلمين، وكان عدة القتلى من الفرنج يقارب اثني عشر ألف قتيل.
ذكر وفاة دقاق وملك ولدهفي هذه السنة، في شهر رمضان، توفي الملك دقاق بن تتش بن ألب أرسلان، صاحب دمشق، وخطب أتابكه طغتكين لولد له صغير، له سنة واحدة، وجعل اسم المملكة فيه، ثم قطع خطبته وخطب لبكتاش بن تتش، عم هذا الطفل، في ذي الحجة، وله من العمر اثنتا عشرة سنة.
ثم إن طغتكين أشار عليه بقصد الرحبة، فخرج إليها فملكها وعاد، فمنعه طغتكين من دخول البلد، فمضى إلى حصون له، وأعاد طغتكين خطبة الطف لولد دقاق.
وقيل إن سبب استيحاش بكتاش من طغتكين أن والدته خوفته منه، وقالت: إنه زوج والدة دقاق، وهي لا تتركه حتى يقتلك ويستقيم الملك لولدها، فخاف، ثم إنه حسن له من كان يحسد طغتكين مفارقة دمشق، وقصد بعلبك، وجمع الرجال، والاستنجاد بالفرنج، والعود إلى دمشق، وأخذها من طغتكين، فخرج من دمشق سراً في صفر سنة ثمان وتسعين، ولحقه الأمير أيتكين الحلبي، وهو من جملة من قرر مع بكتاش ذلك، وهو صاحب بصرى، فعاثا في نواحي حوران، ولحق بهما كل من يريد الفساد، وراسلا بغدوين ملك الفرنج يستنجدانه، فأجابهما إلى ذلك، وسار إليهما فاجتمعا به، وقررا القواعد معه، وأقاما عنده مدة، فلم يريا منه غير التحريض على الإفساد في أعمال دمشق، وتخريبها، فلما يئسا من نصره عادا من عنده، وتوجها في البرية إلى الرحبة، فملكها بكتاش وعاد عنها.
واستقام أمر طغتكين بدمشق واستبد بالأمر، وأحسن إلى الناس، وبث فيهم العدل، فسروا به سروراً كثيراً.
ذكر استيلاء صدقة على واسطفي هذه السنة، في شوال، انحدر سيف الدولة صدقة بن مزيد من الحلة إلى واسط في عسكر كثير، وأمر فنودي بها في الأتراك: من أقام فقد برئت منه الذمة، فسار جماعة منهم إلى بركيارق، وجماعة إلى بغداد، وصار مع صدقة جماعة منهم، ثم إنه أحضر مهذب الدولة بن أبي الجبر، صاحب البطيحة، فضمنه البلد لمدة، آخرها آخر السنة، بخمسين ألف دينار، وعاد إلى الحلة، وأقام مهذب الدولة بواسط إلى سادس ذي القعدة، وانحدر إلى بلده.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، أطلق سديد الملك أبو المعالي من الاعتقال، وهو الذي كان وزير الخليفة، ولما أطلق هرب إلى الحلة السيفية، ومنها إلى السلطان بركيارق، فولاه الإشراف على ممالكه.
وفيها توفي أمين الدولة أبو سعد العلاء بن الحسن بن الموصلايا، فجأة، وكان قد أضر، وكان بليغاً فصيحاً، وكان ابتداء خدمته للقائم بأمر الله سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، خدم الخلفاء خمساً وستين سنة، كل يوم تزداد منزلته، حتى تاب عن الوزارة، وكان نصرانياً، فأسلم سنة أربع وثمانين، وكان كثير الصدقة، جميل المحضر، صالح النية، ووقف أملاكه على أبواب البر، ومكاتباته مشهورة حسنة، ولما مات خلع على ابن أخته أبي نصر، ولقب نظام الحضرتين، وقلد ديوان الإنشاء.
وفيها كانت ببغداد بين العامة فتن كثيرة، وانتشر العيارون.
وفيها قتل أبو نعيم بن ساوة الطبيب الواسطي، وكان من الحذاق في الطب، وله فيه إصابات حسنة.
وفيها عزل السلطان سنجر وزيره المجير أبا الفتح الطغرائي، وسبب ذلك أن الأمير بزغش، وهو أصفهسلار العسكر السنجري، ألقي إليه ملطف فيه: لا يتم لك أمر مع هذا السلطان، ووقع إلى سنجر، لا يتم لك أمر مع الأمير بزغش، مع كثرة جموعه، فجمع بزغش أصحاب العمائم، وعرض عليهم الملطفين، فاتفقوا على كاتب الطغرائي، وظهرت عليه فقتل، وقبض سنجر على الطغرائي، وأراد قتله، فمنعه بزغش، وقال له: حق خدمة، فأبعده إلى غزنة. وفيها جمع بزغش كثيراً من عساكر خراسان، وأتاه كثير من المتطوعة، وسار إلى قتال الإسماعيلية، فقصد طبس، وهي لهم، فخربها وما جاورها من القلاع والقرى، وأكثر فيهم القتل، والنهب، والسبي، وفعل بهم الأفعال العظيمة، ثم إن أصحاب سنجر أشاروا بأن يؤمنوا، ويشرط عليهم أنهم لا يبنون حصناً، ولا يشترون سلاحاً، ولا يدعون أحداً إلى عقائدهم، فسخط كثير من الناس هذا الأمان، وهذا الصلح، ونقموه على سنجر، ثم إن بزغش، بعد عوده من هذه الغزاة، توفي، وكانت خاتمة أمره الجهاد، رحمه الله.
وفي هذه السنة توفي أبو بكر علي بن أحمد بن زكرياء الطريثثي، وكان صوفياً محدثاً مشهوراً.
وفي رجب توفي القاضي أبو الحسين أحمد بن محمد الثقفي، قاضي الكوفة، ومولده في ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وهو من ولد عروة بن مسعود، ومن تلاميذ القاضي الدامغاني، وولي القضاء بعده ابنه أبو البركات.
وفي ربيع الآخر توفي أبو عبد الله الحسين بن علي بن البسري البندار، المحدث، ومولده سنة أربع وأربعمائة.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وأربعمائة
ذكر وفاة السلطان بركيارقفي هذه السنة، ثاني عشر ربيع الآخر، توفي السلطان بركيارق بن ملكشاه، وكان قد مرض بأصبهان، بالسل، والبواسير، فسار منها في محفة طالباً بغداد، فلما وصل إلى بروجرد ضعف عن الحركة، فأقام بها أربعين يوماً، فاشتد مرضه، فلما أيس من نفسه خلع على ولده ملكشاه، وعمره حينئذ أربع سنين وثمانية أشهر، وخلع على الأمير إياز، وأحضر جماعة من الأمراء، وأعلمهم أنه قد جعل ابنه ولي عهده في السلطنة، وجعل الأمير إياز أتابكه، وأمرهم بالطاعة لهما، ومساعدتهما على حفظ السلطنة لولده، والذب عنها، فأجابوا كلهم بالسمع والطاعة، وبذل النفوس والأموال في حفظ ولده وسلطنته عليه، واستحلفهم على ذلك، فحلفوا، وأمرهم بالمسير إلى بغداد، فساروا، فلما كانوا على اثني عشر فرسخاً من بروجرد وصلهم خبر وفاته، وكان بركيارق قد تخلف على عزم العود إلى أصبهان فعاجلته منيته.
فلما سمع الأمير إياز بموته أمر وزيره الخطير المبيذي وغيره بأن يسيروا مع تابوته إلى أصبهان، فحمل إليها، ودفن في تربة جددتها له سريته، ثم ماتت بعد أيام، فدفنت بإزائه، وأحضر إياز السرادقات، والخيام، والجتر، والشمسة، وجميع ما يحتاج إليه السلطان، فجعله برسم ولده ملكشاه.
ذكر عمره وشيء من سيرتهلما توفي بركيارق كان عمره خمساً وعشرين سنة، ومدة وقوع اسم السلطنة عليه اثنتي عشرة سنة وأربعة أشهر، وقاسى من الحروب واختلاف الأمور عليه ما لم يقاسه أحد، واختلفت به الأحوال بين رخاء وشدة، وملك وزواله، وأشرف، في عدة نوب، بعد إسلام النعمة، على ذهاب المهجة.
ولما قوي أمره، في هذا الوقت، وأطاعه المخالفون، وانقادوا له، أدركته منيته، ولم يهزم في حروبه غير مرة واحدة، وكان أمراؤه قد طمعوا فيه للاختلاف الواقع، حتى إنهم كانوا يطلبون نوابه ليقتلوهم، فلا يمكنه الدفع عنهم، وكان متى خطب به ببغداد وقع الغلاء، ووقفت المعايش والمكاسب، وكان أهلها مع ذلك يحبونه، ويختارون سلطنه.
وقد ذكرنا من تغلب الأحوال به ما وقفت عليه، ومن أعجبها دخوله أصبهان هارباً من عمه تتش، فمكنه عسكر أخيه محمود صاحبها من دخولها ليقبضوا عليه، فاتفق أن أخاه محموداً مات، فاضطروا إلى أن يملكوه، وهذا من أحسن الفرج بعد الشدة.
وكان حليماً، كريماً، صبوراً، عاقلاً، كثير المداراة،، حسن القدرة، لا يبالغ في العقوبة، وكان عفوه أكثر من عقوبته.
ذكر الخطبة لملكشاه بن بركيارقفي هذه السنة خطب لملكشاه بن بركيارق بالديوان يوم الخميس سلخ ربيع الآخر، وخطب له بجوار بغداد من الغد، يوم الجمعة.
وكان سبب ذلك أن إيلغازي، شحنة بغداد، سار في المحرم إلى السلطان بركيارق، وهو بأصبهان، يحثه على الوصول إلى بغداد، ورحل مع بركيارق، فلما مات بركيارق سار مع ولده ملكشاه والأمير إياز إلى بغداد، فوصلوها سابع عشر ربيع الآخر، ولقوا في طريقهم برداً شديداً لم يشاهدوا مثله، بحيث أنهم لم يقدروا على الماء لجموده.
وخرج الوزير أبو القاسم علي بن جهير، فلقيهم من ديالى، وكانوا خمسة آلاف فارس، وحضر إيلغازي، والأمير طغايرك، بالديوان، وخاطبوا في إقامة الخطبة لملكشاه بن بركيارق، فأجيب إليها، وخطب له، ولقب بألقاب جده ملكشاه، وهي جلال الدولة، وغيره من الألقاب، ونثرت الدنانير عند الخطبة له.
ذكر حصر السلطان محمد جكرمش بالموصللما اصطلح السلطان بركيارق والسلطان محمد، كما ذكرناه في السنة الخالية، وسلم محمد مدينة أصبهان إلى بركيارق، وسار إليها، أقام محمد بتبريز من أذربيجان إلى أن وصل أصحابه الذين بأصبهان، فلما وصلوا استوزر سعد الملك أبا المحاسن لحسن أثره كان في حفظ أصبهان، وأقام إلى صفر من هذه السنة، وسار إلى مراغة، ثم إلى إربل يريد قصد جكرمش، صاحب الموصل، ليأخذ بلاده.
فلما سمع جكرمش بمسيره إليه جدد سور الموصل، ورم ما احتاج إلى إصلاح، وأمر أهل السواد بدخول البلد، وأذن لأصحابه في نهب من لم يدخل.
وحصر محمد المدينة، وأرسل إلى جكرمش يذكر له الصلح بينه وبين أخيه، وأن في جملة ما استقر أن تكون الموصل وبلاد الجزيرة له، وعرض عليه الكتب من بركيارق إليه بذلك، والأيمان على تسليمها إليه، وقال له: إن أطعت فأنا لا آخذها منك، بل أقرها بيدك، وتكون الخطبة لي بها. فقال جكرمش: إن كتب السلطان وردت إلي، بعد الصلح، تأمرني أن لا أسلم البلد إلى غيره.
فلما رأى محمد امتناعه باكره القتال، وزحف إليه بالنقابين، والدبابات، وقاتل أهل البلد أشد قتال، وقتلوا خلقاً كثيراً لمحبتهم لجكرمش لحسن سيرته فيهم، فأمر جكرمش ففتح في السور أبواب لطاف يخرج منها الرجالة يقاتلون، فكانوا يكثرون القتل في العسكر، ثم زحف محمد مرة، فنقب في السور أصحابه، وأدركهم الليل، فأصبحوا وقد عمره أهل البلد، وشحنوه بالمقاتلة، وكانت الأسعار عندهم رخيصة في الحصار: كانت الحنطة تساوي كل ثلاثين مكوكاً بدينار، والشعير خمسين مكوكاً بدينار.
وكان بعض عسكر جكرمش قد اجتمعوا بتل يعفر، فكانوا يغيرون على أطراف العسكر، ويمنعون الميرة عنهم، فدام القتال عليهم إلى عاشر جمادى الأولى، فوصل الخبر إلى جكرمش بوفاة السلطان بركيارق، فأحضر أهل البلد، واستشارهم فيما يفعله بعد موت السلطان، فقالوا: أموالنا وأرواحنا بين يديك، وأنت أعرف بشأنك، فاستشر الجند، فهم أعرف بذلك. فاستشار أمراءه، فقالوا: لما كان السلطان حياً قد كنا على الامتناع، ولم يتمكن أحد من طروق بلدنا، وحيث توفي فليس للناس اليوم سلطان غير هذا، والدخول تحت طاعته أولى.
فأرسل إلى محمد يبذل الطاعة، ويطلب وزيره سعد الملك ليدخل إليه، فحضر الوزير عنده، وأخذ بيده، وقال: المصلحة أن تحضر الساعة عند السلطان، فإنه لا يخالفك في جميع ما تلتمسه، وأخذ بيده وقام، فسار معه جكرمش، فلما رآه أهل الموصل قد توجه إلى السلطان، جعلوا يبكون، ويضجون، ويحثون التراب على رؤسهم، فلما دخل على السلطان محمد أقبل عليه، وأكرمه، وعانقه، ولم يمكنه من الجلوس، وقال: ارجع إلى رعيتك، فإن قلوبهم إليك، وهم متطلعون إلى عودك، فقبل الأرض وعاد ومعه جماعة من خواص السلطان، وسأل السلطان من الغد أن يدخل البلد ليزين له، فامتنع من ذلك، فعمل سماطاً، بظاهر الموصل، عظيماً، وحمل إلى السلطان من الهدايا والتحف ولوزيره أشياء جليلة المقدار.
ذكر وصول السلطان إلى بغداد وصلحه مع ابن أخيه والأمير إيازلما وصل خبر وفاة السلطان بركيارق إلى أخيه السلطان محمد، وهو يحاصر الموصل، جلس للعزاء، وأصلح جكرمش، صاحب الموصل، كما ذكرناه، وسار إلى بغداد ومعه سكمان القطبي، وهو ينسب إلى قطب الدولة إسماعيل بن ياقوتي بن داود، وإسماعيل ابن عم ملكشاه، وسار معه جكرمش وغيرهما من الأمراء.
وكان سيف الدولة صدقة، صاحب الحلة، قد جمع خلقاً كثيراً من العساكر، فبلغت عدتهم خمسة عشر ألف فارس، وعشرة آلاف راجل، وأرسل ولديه بدران ودبيساً إلى السلطان محمد يستحثه على المجيء إلى بغداد، فاستصحبهما معه إلى بغداد.
فلما سمع الأمير إياز بمسيره إليه خرج هو والعسكر الذي معه من الدور، ونصبوا الخيام بالزاهر، خارج بغداد، وجمع الأمراء، واستشارهم فيما يفعله، فبذلوا له الطاعة واليمين على قتاله وحربه، ومنعه عن السلطنة، والاتفاق معه على طاعة ملكشاه بن بركيارق.
وكان أشدهم في ذلك ينال وصباوة، فإنهما بالغا في الإطماع في السلطان محمد، والمنع له عن السلطنة، فلما تفرقوا قال له وزيره الصفي أبو المحاسن: يا مولانا إن حياتي مقرونة بثبات نعمتك ودولتك، وأنا أكثر التزاماً بك من هؤلاء، وليس الرأي ما أشاروا به، فإن كلامهم يقصد أن يسلك طريقاً، وأن يقيم سوقاً لنفسه بك، وأكثرهم يناوئك في المنزلة، وإنما يقعد بهم عن منازعتك قلة العدد والمال، والصواب مصالحة السلطان محمد وطاعته، وهو يقرك على إقطاعك، ويزيدك عليه مهما أردت.
فتردد الأمير إياز بين الصلح والمباينة، إلا أن حركته في المباينة ظاهرة، وجمع السفن التي ببغداد عنده، وضبط المشارع من متطرق إلى عسكره وإلى البلد.
ووصل السلطان محمد إلى بغداد يوم الجمعة لثمان بقين من جمادى الأولى، ونزل عند الجانب الغربي بأعلى بغداد، وخطب له بالجانب الغربي، ولملكشاه بن بركيارق بالجانب الشرقي، وأما جامع المنصور فإن الخطيب قال فيه: اللهم أصلح سلطان العالم! وسكت.
وخاف الناس من امتداد الشر والنهب، فركب إياز في عسكره، وهم عازمون على الحرب، وسار إلى أشرف على عسكر السلطان محمد، وعاد إلى مخيمه، فدعا الأمراء إلى اليمين مرة ثانية على المخالصة لملكشاه، فأجاب البعض، وتوقف البعض، وقالوا: قد حلفنا مرة، ولا فائدة في إعادة اليمين، لأننا إن وفينا بالأولى وفينا بالثانية، وإن لم نف بالأولى فلا نفي بالثانية.
فأمر إياز حينئذ وزيره الصفي أبا المحاسن بالعبور إلى السلطان محمد في الصلح، وتسليم السلطنة إليه، وترك منازعته فيها، فعبر يوم السبت لسبع بقين من الشهر إلى عسكر محمد، واجتمع بوزيره سعد الملك أبي المحاسن سعد بن محمد، فعرفه ما جاء فيه، فحضرا عند السلطان محمد وأدى الصفي رسالة صاحبه إياز، واعتذاره عما كان منه أيام بركيارق، فأجابه محمد جواباً لطيفاً سكن به قلبه وطيب نفسه، وأجاب إلى ما التمس منه من اليمين.
فلما كان الغد حضر قاضي القضاة، والنقيبان، والصفي وزير إياز، عند السلطان محمد، فقال له وزيره سعد الملك: إن إياز يخاف لما تقدم منه، وهو يطلب العهد لملكشاه ابن أخيك، ولنفسه، وللأمراء الذين معه. فقال السلطان: أما ملكشاه فإنه ولدي، ولا فرق بيني وبين أخي، وأما إياز والأمراء فأحلف لهم، إلا ينال الحسامي وصباوة، فاستحلفه الكيا الهراس، مدرس النظامية، على ذلك، وحضر الجماعة اليمين. فلما كان من الغد حضر الأمير إياز عند السلطان محمد، فلقيه وزير السلطان، والناس كافة، ووصل سيف الدولة صدقة، ذلك الوقت، ودخلا جميعاً إلى السلطان، فأكرمهما، وأحسن إليهما، وقيل بل ركب السلطان ولقيهما، ووقف أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، وأقام السلطان ببغداد إلى شعبان، وسار إلى أصبهان، وفعل فيها ما سنذكره، إن شاء الله تعالى.
ذكر قتل الأمير إيازفي هذه السنة، ثالث عشر جمادى الآخرة، قتل الأمير إياز، وقتله السلطان محمد.
وسبب ذلك أن إياز لما سلم السلطنة إلى السلطان محمد صار في جملته، واستحلفه لنفسه، فلما كان ثامن جمادى الآخرة عمل دعوة عظيمة في داره، وهي دار كوهرائين، ودعا السلطان إليها، وقدم له شيئاً كثيراً من جملته الحبل البلخش الذي أخذ من تركة مؤيد الملك بن نظام الملك، وقد تقدم ذكر ذلك، وحضر مع السلطان سيف الدولة صدقة بن مزيد.
وكان من الاتفاق الرديء أن إياز تقدم إلى غلمانه ليلبسوا السلاح من خزانته، ليعرضهم على السلطان، فدخل عليهم رجل من أبهر يتطايب معهم، ويضحكون منه، مع كونه يتصوف، فقالوا له: لا بد من أن نلبسك درعاً ونعرضك، فألبسوه الدرع تحت قميصه، وتناولوه بأيديهم، وهو يسألهم أن يكفوا عنه، فلم يفعلوا، فلشدة ما فعلوا هرب منهم، ودخل بين خواص السلطان معتصماً بهم، فرآه السلطان مذعوراً، وعليه لباس عظيم، فاستراب به، فقال لغلام له بالتركية ليلمسه من غير أن يعلم أحد، ففعل، فرأى الدرع تحت قميصه، فأعلم السلطان بذلك، فاستشعر، وقال: إذا كان أصحاب العمائم قد لبسوا السلاح، فكيف الأجناد! وقوي استشعاره لكونه في داره، وفي قبضته، فنهض وفارق الدار وعاد إلى داره.
فلما كان ثالث عشر الشهر استدعى السلطان الأمير صدقة، وإياز، وجكرمش، وغيرهم من الأمراء، فلما حضروا أرسل إليهم: إنه بلغنا أن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش قصد ديار بكر ليتملكها، وسير منها إلى الجزيرة، وينبغي أن تجتمع أراؤهم على من يسير إليه ليمنعه ويقاتله. فقال الجماعة: ليس لهذا غير الأمير إياز، فقال إياز: ينبغي أن نجتمع أنا وسيف الدولة صدقة بن مزيد على هذا الأمر، والدفع لهذا القاصد، فقيل ذلك للسلطان، فأعاد الجواب يستدعي إياز، وصدقة، والوزير سعد الملك ليحرر الأمر في حضرته، فنهضوا ليدخلوا إليه.
وكان قد أعد جماعة من خواصه ليقتلوا إياز إذا دخل إليه، فلما دخلوا ضرب أحدهم رأسه فأبانه. فأما صدقة فغطى وجهه بكمه، وأما الوزير فإنه غشي عليه، ولف إياز في مسح وألقي على الطريق عند دار المملكة، وركب عسكر إياز، فنهبوا ما قدروا عليه من داره، فأرسل السلطان من حماها من النهب، وتفرق أصحابه من يومهم، وكان زوال تلك النعمة العظيمة، والدولة الكبيرة، في لحظة، بسبب هزل ومزاح، فلما كان من الغد كفنه قوم من المتطوعة، ودفنوه في المقابر المجاورة لقبر أبي حنيفة، رحمه الله.
وكان عمره قد جاوز أربعين سنة، وهو من جملة مماليك السلطان ملكشاه، ثم صار بعد موته في جملة أمير آخر، فاتخذه ولداً، وكان غزير المروة، شجاعاً، حسن الرأي في الحرب.
وأما وزيره الصفي فإنه اختفى، ثم أخذ وحمل إلى دار الوزير سعد الملك، ثم قتل في رمضان وعمره ست وثلاثون سنة، وكان من بيت رئاسة بهمذان.
ذكر وفاة سقمان بن أرتقكان فخر الملك بن عمار، صاحب طرابلس، قد كاتب سقمان يستدعيه إلى نصرته على الفرنج، ويبذل له المعونة بالمال والرجال، فبينما هو يتجهز للمسير أتاه كتاب طغتكين، صاحب دمشق، يخبره أنه مريض قد أشفى من الموت، وأنه يخاف إن مات، وليس بدمشق من يحميها، أن يملكها الفرنج، ويستدعيه ليوصي إليه، وبما يعتمده في حفظ البلد. فلما رأى ذلك أسرع في السير عازماً على أخذ دمشق، وقصد الفرنج في طرابلس، وإبعادهم عنها، فوصل إلى القريتين.
واتصل خبره بطغتكين، فخاف عاقبة ما صنع، ولقوة فكره زاد مرضه،. ولامه أصحابه على ما فرط في تدبيره وخوفوه عاقبة ما فعل، وقالوا له: قد رأيت سيدك تاج الدولة لما استدعاه إلى دمشق ليمنعه كيف قتله حين وقعت عينه عليه.
فبينما هم يديرون الرأي بأي حيلة يردونه أتاهم الخبر بأنه وصل القريتين، ومات، وحمله أصحابه وعادوا به، فأتاهم فرج لم يحسبوه، وكان مرضه الذي مات به الخوانيق، يعتريه دائماً، فأشار عليه صاحباه بالعود إلى حصن كيفا، فامتنع، وقال: بل أسير، فإن عوفيت تممت ما عزمت عليه، ولا يراني الله تثاقلت عن قتال الكفار خوفاً من الموت، وإن أدركني أجلي كنت شهيداً سائراً في جهاد. فساروا، فاعتقل لسانه يومين، ومات في صفر، وبقي ابنه إبراهيم في أصحابه، وجعل في تابوت وحمل إلى الحصن، وكان حازماً داهياً، ذا رأي، كثير الخير، وقد ذكرنا سبب أخذه لحصن كيفا.
وأما ملكه ماردين، فإن كربوقا خرج من الموصل، قفصد آمد، وحارب صاحبها، فاستنجد صاحبها، وهو تركماني، بسقمان، فحضر عنده، وصاف كربوقا.
وكان عماد الدين زنكي بن آقسنقر، حينئذ، صبياً قد حضر مع كربوقا، ومعه جماعة كثيرة من أصحاب أبيه، فلما اشتد القتال ظهر سقمان، فألقى أصحاب آقسنقر زنكي ولد صاحبهم بين أرجل الخيل، وقالوا: قاتلوا عن ابن صاحبكم! فقاتلوا حينئذ قتالاً شديداً، فانهزم سقمان، وأسروا ابن أخيه ياقوتي بن أرتق، فسجنه كربوقا بقلعة ماردين، وكان صاحبها إنساناً مغنياً للسلطان بركيارق، فطلب منه ماردين وأعمالها، فأقطعه إياها، فبقي ياقوتي في حبسه مدة، فمضت زوجة أرتق إلى كربوقا وسألته إطلاقه فأطلقه، فنزل عند ماردين، وكانت قد أعجبته، فأقام ليعمل في تملكها والاستيلاء عليها.
وكان من عند ماردين من الأكراد قد طمعوا في صاحبها المغني، وأغاروا على أعمال ماردين عدة دفعات، فراسله ياقوتي يقول: قد صار بيننا مودة وصداقة، وأريد أن أعمر بلدك بأن أمنع عنه الأكراد، وأغير على الأماكن، وآخذ الأموال أنفقها في بلدك وأقيم في الربض، فأذن له في ذلك، فجعل يغير من باب خلاط إلى بغداد، فصار ينزل معه بعض أجناد القلعة، طلباً للكسب، وهو يكرمهم، ولا يعترضهم، فأمنوا إليه.
فاتفق أن في بعض الأوقات نزل معه أكثرهم، فلما عادوا من الغارة أمر بقبضهم وتقييدهم، وسبقهم إلى القلعة، ونادى من بها من أهليهم: إن فتحتم الباب، وإلا ضربت أعناقهم، فامتنعوا، فقتل إنساناً منهم، فسلم القلعة من بها إليه وبقي بها.
ثم إنه جمع جمعاً وسار إلى نصيبين، وأغار على بلد جزير ابن عمر، وهي لجكرمش، فلما عاد أصحابه بالغنيمة أتاهم جكرمش، وكان ياقوتي قد أصابه مرض عجز معه عن لبس السلاح، وركوب الخيل، فحمل إلى فرسه فركبه، وأصابه سهم فسقط منه، فأتاه جكرمش، وهو يجود بنفسه، فبكى عليه، وقال له: ما حملك على ما صنعت يا ياقوتي؟ فلم يجبه، فمات، ومضت زوجة أرتق إلى ابنها سقمان، وجمعت التركمان، وطلبت بثأر ابن ابنها، وحصر سقمان نصيبين، وهي لجكرمش، فسير جكرمش إلى سقمان مالاً كثيراً سراً، فأخذه ورضي، وقال: إنه قتل في الحرب، ولا يعرف قاتله.
وملك ماردين بعد ياقوتي أخوه علي، وصار في طاعة جكرمش، واستخلف بها أميراً اسمه علي أيضاً، فأرسل علي الوالي بماردين إلى سقمان يقول له: ابن أخيك يريد أن يسلم ماردين إلى جكرمش، فسار سقمان بنفسه وتسلمها، فجاء إليه علي ابن أخيه وطلب إعادة القلعة إليه، فقال: إنما أخذتها لئلا يخرب البيت، فأقطعه جبل جور، ونقله إليه.
وكان جكرمش يعطي علياً كل سنة عشرين ألف دينار، فلما أخذ عمه سقمان ماردين منه، أرسل علي إلى جكرمش يطلب منه المال، فقال: إنما كنت أعطيتك احتراماً لماردين، وخوفاً من مجاورتك، والآن فاصنع ما أنت صانع، فلا قدرة لك علي.
ذكر حال الباطنية هذه السنة بخراسانفي هذه السنة سار جمع كثير من الإسماعيلية من طريثيت، عن بعض أعمال بيهق، وشاعت الغارة في تلك النواحي، وأكثروا القتل في أهلها، والنهب لأموالهم، والسبي لنسائهم، ولم يقفوا على الهدنة المتقدمة.
وفي هذه السنة اشتد أمرهم، وقويت شوكتهم، ولم يكفوا أيديهم عمن يريدون قتله، لاشتغال السلاطين عنهم. فمن جملة فعلهم: أن قفل الحاج تجمع، هذه السنة، مما وراء النهر، وخراسان، والهند، وغيرها من البلاد، فوصلوا إلى جوار الري، فأتاهم الباطنية وقت السحر، فوضعوا فيهم السيف، وقتلوهم كيف شاؤوا، وغنموا أموالهم ودوابهم، ولم يتركوا شيئاً.
وقتلوا هذه السنة أبا جعفر بن المشاط، وهو من شيوخ الشافعية، أخذ الفقه عن الخجندي، وكان يدرس بالري، ويعظ الناس، فلما نزل من كرسيه أتاه باطني فقتله.
ذكر حال الفرنج هذه السنة مع المسلمين بالشامفي هذه السنة، في شعبان، كانت وقعة بين طنكري الفرنجي، صاحب أنطاكية، وبين الملك رضوان، صاحب حلب، انهزم فيها رضوان.
وسببها أن طنكري حصر حصن أرتاح، وبه نائب الملك رضوان، فضيق الفرنج على المسلمين، فأرسل النائب بالحصن إلى رضوان يعرفه ما هو فيه من الحصر الذي أضعف نفسه ويطلب النجدة، فسار رضوان في عسكر كثير من الخيالة، وسبعة آلاف من الرجالة، منهم ثلاثة آلاف من المتطوعة، فساروا حتى وصلوا إلى قنسرين، وبينهم وبين الفرنج قليل، فلما رأى طنكري كثرة المسلمين أرسل إلى رضوان يطلب الصلح، فأراد أن يجيب، فمنعه أصبهبذ صباوة، وكان قد قصده، وصار معه بعد قتل إياز، فامتنع من الصلح، واصطفوا للحرب، فانهزمت الفرنج من غير قتال، ثم قالوا: نعود ونحمل عليهم حملة واحدة، فإن كانت لنا، وإلا انهزمنا، فحملوا على المسلمين فلم يثبتوا، وانهزموا، وقتل منهم وأسر كثير.
وأما الرجالة فإنهم كانوا قد دخلوا معسكر الفرنج لما انهزموا، فاشتغلوا بالنهب، فقتلهم الفرنج، ولم ينج إلا الشريد فأخذ أسيراً، وهرب من في أرتاح إلى حلب، وملكه الفرنج، لعنهم الله تعالى، وهرب أصبهبذ صباوة إلى طغتكين أتابك بدمشق، فصار معه ومن أصحابه.
ذكر حرب الفرنج والمصريينفي ذي الحجة من هذه السنة كانت وقعة بين الفرنج والمسلمين كانوا فيها على السواء.
وسببها أن الأفضل، وزير صاحب مصر، كان قد سير ولده شرف المعالي في السنة الخالية إلى الفرنج، فقهرهم، وأخذ الرملة منهم، ثم اختلف المصريون والعرب، وادعى كل واحد منهما أن الفتح له، فأتاهم سرية الفرنج، فتقاعد كل فريق منهما بالآخر، حتى كاد الفرنج يظهرون عليهم، فرحل عند ذلك شرف المعالي إلى أبيه بمصر، فنفذ ولده الآخر، وهو سناء الملك حسين، في جماعة من الأمراء منهم جمال الملك، والنائب بعسقلان للمصريين، وأرسلوا إلى طغتكين أتابك بدمشق يطلبون منه عسكراً، فأرسل إليهم أصبهبذ صباوة ومعه ألف وثلاثمائة فارس.
وكان المصريون في خمسة آلاف، وقصدهم بغدوين الفرنجي، صاحب القدس، وعكة، ويافا، في ألف وثلاثمائة فارس، وثمانية آلاف راجل، فوقع المصاف بينهم بين عسقلان ويافا، فلم تظهر إحدى الطائفتين على الأخرى، فقتل من المسلمين ألف ومائتان، ومن الفرنج مثلهم، وقتل جمال الملك، أمير عسقلان.
فلما رأى المسلمون أنهم قد تكافأوا في النكاية قطعوا الحرب وعادوا إلى عسقلان، وعاد صباوة إلى دمشق، وكان مع الفرنج جماعة من المسلمين منهم بكتاش بن تتش، وكان طغتكين قد عدل في الملك إلى ولد أخيه دقاق، وهو طفل، وقد ذكرناه، فدعاه ذلك إلى قصد الفرنج، والكون معهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عظم فساد التركمان بطريق خراسان من أعمال العراق، قد كانوا قبل ذلك ينهبون الأموال، ويقطعون الطريق، إلا أنهم عندهم مراقبة. فلما كانت هذه السنة اطرحوا المراقبة، وعملوا الأعمال الشنيعة، فاستعمل إيلغازي بن أرتق، وهو شحنة العراق، على ذلك البلد ابن أخيه بلك بن بهرام بن أرتق، وأمره بحفظه وحياطته، ومنع الفساد عنه، فقام في ذلك القيام المرضي، وحمى البلاد، وكف الأيدي المتطاولة، وسار بلك إلى حصن خانيجار، وهو من أعمال سرخاب بن بدر، فحصره وملكه.
وفيها، في شعبان، جعل السلطان محمد قسيم الدولة سنقر البرسقي شحنة بالعراق، وكان موصوفاً بالخير، والدين، وحسن العهد، لم يفارق محمداً في حروبه كلها.
وفيها أقطع السلطان محمد الكوفة للأمير قايماز، وأوصى صدقة أن يحمي أصحابه من خفاجة، فأجاب إلى ذلك.
وفيها، في شهر رمضان، وصل السلطان محمد إلى أصبهان، فأمن أهلها، ووثقوا بزوال ما كان يشملهم من الخبط، والعسف، والمصادرة، وشتان بين خروجه منها هارباً متخفياًن وعوده إليها سلطاناً متمكناً، وعدل في أهلها، وأزال عنهم ما يكرهون، وكف الأيدي المتطرقة إليهم من الجند وغيرهم، فصارت كلمة العامي أقوى من كلمة الجندي، ويد الجندي قاصرة عن العامي من هيبة السلطان وعدله.
وفيها كثر الجدري في كثير من البلدان، لا سيما العراق، فإنه كان به كله، ومات به من الصبيان ما لا يحصى، وتبعه وباء كثير، وموت عظيم.
وتوفي في هذه السنة، في شوال، أحمد بن محمد بن أحمد أبو علي البرداني، الحافظ، ومولده سنة ست وعشرين وأربعمائة، سمع ابن غيلان، والبرمكي، والعشاري وغيرهم.
وتوفي أبو المعالي ثابت بن بندار بن إبراهيم البقال، ومولده سنة ست عشرة وأربعمائة، سمع أبا بكر البرقاني، وأبا علي بن شاذان، وكانت وفاته في جمادى الآخرة من هذه السنة.
وفي رابع جمادى الأولى توفي أبو الحسن محمد بن علي بن الحسن بن أبي الصقر، الفقيه الشافعي، ومولده سنة تسع وأربعمائة، وكان أديباً، شاعراً، فمن قوله:
من قال لي جاه، ولي حشمة، ... ولي قبول عند مولانا
ولم يعد ذاك بنفع على ... صديقه، لا كان من كانا
وفيها أيضاً توفي أبو نصر ابن أخت ابن الموصلايا، وكان كاتباً للخليفة جيد الكتابة، وكان عمره سبعين سنة، ولم يخلف وارثاً لأنه أسلم، وأهله نصارى، فلم يرثوه، وكان يبخل، إلا أنه كان كثير الصدقة، وأبو المؤيد عيسى بن عبد الله بن القاسم الغزنوي، كان واعظاً، شاعراً، كاتباً، قدم بغداد، ووعظ بها، ونصر مذهب الأشعري، وكان له قبول عظيم، وخرج منها، فمات باسفرايين.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وأربعمائة
ذكر خروج منكبرس على السلطان محمدفي هذه السنة، في المحرم، أظهر منكبرس ابن الملك بوربرس بن ألب أرسلان، وهو ابن عماد الملك السلطان محمد، العصيان للسلطان محمد والخلاف عليه.
وسبب ذلك: أنه كان مقيماً بأصبهان، فلحقته ضائقة شديدة، وانقطعت المواد عنه، فخرج منها وسار إلى نهاوند، فاجتمع عليه بها جماعة من العسكر، وظاهره على أمره جماعة من الأمراء، وتغلب على نهاوند، وخطب لنفسه بها، وكاتب الأمراء بني برسق يدعوهم إلى طاعته ونصرته.
وكان السلطان محمد قد قبض على زنكي بن برسق، فكاتب زنكي إخوته، وحذرهم من طاعة منكبرس، وما فيها من الأذى والخطر، وأمرهم بتدبير الأمر في القبض عليه.
فلما أتاهم كتاب أخيهم بذلك أرسلوا إلى منكبرس يبذلون له الطاعة والموافقة، فسار إليهم، وساروا إليه، فاجتمعوا به، وقبضوا عليه بالقرب من أعمالهم، وبلد خوزستان، وتفرق أصحابه، وأخذوا منكبرس إلى أصبهان، فاعتقله السلطان مع بني عمه تكش، وأخرج زنكي بن برسق، وأعاده إلى مرتبته، واستنزله وإخوته عن أقطاعهم، وهي ليشتر، وسابور خواست وغيرهما، ما بين الأهواز وهمذان، وأقطعهم عوضها الدينور وغيرها.
واتفق أن ظهر بنهاوند أيضاً، في هذه السنة، رجل من السواد ادعى النبوة، فأطاعه خلق كثير من السوادية، واتبعوه، وباعوا أملاكهم ودفعوا إليه أثمانها، فكان يخرج ذلك جميعه، وسمى أربعة من أصحابه: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً، وقتل بنهاوند، فكان أهلها يقولون: ظهر عندنا، في مدة شهرين، اثنان ادعى أحدهما النبوة، والآخر المملكة، فلم يتم لواحد منهما أمره.
ذكر الحرب بين طغتكين والفرنجفي هذه السنة، في صفر، كانت وقعة بين طغتكين أتابك، صاحب دمشق، وبين قمص كبير من قمامصة الفرنج.
وسبب ذلك: أنه تكررت الحروب، والمغاورات، بين عسكر دمشق وبغدوين، فتارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، ففي آخر الأمر بنى بغدوين حصناً بينه وبين دمشق نحو يومين، فخاف طغتكين من عاقبة ذلك، وما يحدث به من الضرر، فجمع عسكره وخرج إلى مقاتلتهم، فسار بغدوين ملك القدس، وعكا، وغيرهما، إلى هذا القمص ليعاضده، ويساعده إلى المسلمين، فعرفه القمص غناه عنه، وأنه قادر على مقارعة المسلمين إن قاتلوه، فعاد بغدوين إلى عكا.
وتقدم طغتكين إلى الفرنج، واقتتلوا، واشتد القتال، فانهزم أميران من عسكر دمشق، فتبعهما طغتكين وقتلهما، وانهزم الفرنج إلى حصنهم، فاحتموا به، فقال طغتكين: من أحسن قتالهم وطلب مني أمراً فعلته معه، ومن أتاني بحجر من حجارة الحصن أعطيته خمسة دنانير. فبذل الرجالة نفوسهم، وصعدوا إلى الحصن وخربوه، وحملوا حجارته إلى طغتكين، فوفى لهم بما وعدهم، وأمر بإلقاء الحجارة في الوادي، وأسروا من بالحصن، فأمر بهم فقتلوا كلهم، واستبقى الفرسان أسراء، وكانوا مائتي فارس، ولم ينج ممن كان في الحصن إلا القليل.
وعاد طغتكين إلى دمشق منصوراً، فزين البلد أربعة أيام، وخرج منها إلى رفنية، وهو من حصون الشام، وقد تغلب عليه الفرنج، وصاحبه ابن أخت صنجيل المقيم على حصار طرابلس، فحصره طغتكين، وملكه، وقتل به خمسمائة رجل من الفرنج.
ذكر الحرب بين عبادة وخفاجةفي هذه السنة كانت حرب شديدة بين عبادة وخفاجة.
وسببها: أن رجلاً من عبادة أخذ منه جماعة خفاجة جملين، فجاء إليهم وطالبهم بهما، فلم يعطوه شيئاً، فأخذ منهم غارة أحد عشر بعيرا، فلحقته خفاجة، وقتلوا من أصحابه رجلاً، وقطعوا يد آخر، وكان ذلك بالموقف من الحلة السيفية، ففرق بينهم أهلها. فسمعت عبادة الخبر، فتواعدت، وانحدرت إلى العراق للأخذ بثأرها، وساروا مع جماعة من أمرائهم، فبلغت عدتهم سبعمائة فارس، وكانت خفاجة دون هذه العدة، فراسلتهم خفاجة يبذلون الدية ويصطلحون، فلم تجبهم إلى ذلك عبادة، وأشار به سيف الدولة صدقة، فلم تقبل عبادة، فالتقوا بالقرب من الكوفة، ومع عبادة الإبل والغنم بين البيوت، فكمنت لهم خفاجة ثلاثمائة فارس، وقاتلوهم مطاردة من غير جد في القتال، فداموا كذلك ثلاثة أيام، ثم إنهم اشتد بينهم القتال، واختلطوا، حتى تركوا الرماح، وتضاربوا بالسيوف.
فبينما هم كذلك، وقد أعيا الفريقان من القتال، إذ طلع كمين خفاجة، وهم مستريحون، فانهزمت عبادة، وانتصرت عليهم خفاجة، وقتل من وجوه عبادة اثنا عشر رجلاً، ومن خفاجة جماعة، وغنمت خفاجة الأموال من الخيل، والإبل، والغنم، والعبيد، والإماء.
وكان الأمير صدقة بن مزيد قد أعان خفاجة سراً، فلما وصل المنهزمون إليه هنأهم صدقة بالسلامة، فقال له بعضهم: ما زلت أقاتل، وأضارب، وأنا طامع في الظفر بهم، حتى رأيت فرسك الشقراء تحت أحدهم، فعلمت أنهم أجلبوا علينا بخيلك ورجلك، وأننا لا طاقة لنا بهم، فنصروا علينا بمعونتك، وفلونا بحدك. فلم يجبه صدقة.
ذكر ملك صدقة البصرةفي هذه السنة، في جمادى الأولى، انحدر سيف الدولة من الحلة إلى البصرة فملكها. وقد ذكرنا فيما تقدم تمكن إسماعيل بن أرسلانجق من البصرة ونواحيها، وأقام بها عشر سنين نافذ الأمر، وازداد قوة وتمكناً بالاختلاف الواقع بين السلاطين، وأخذ الأموال السلطانية، وكان قد راسل صدقة، وأظهر له أنه في طاعته وموافقته. فلما استقر الأمر للسلطان محمد أراد أن يرسل إلى البصرة مقطعاً يأخذها من إسماعيل، فخاطب صدقة في معناه، حتى أقرت البصرة عليه، فأنفذ السلطان عميداً إليها ليتولى ما يتعلق بالسلطان هناك، فمنعه إسماعيل، ولم يمكنه من عمله، وفعل ما خرج به عن حد المجاملة، فأمر السلطان صدقة بقصده، وأخذ البصرة منه، فتحرك لذلك.
فاتفق ظهور منكبرس، وخلافه على السلطان، وأنه على قصد واسط، فسر إسماعيل بذلك، وزاد انبساطه، وأرسل صدقة حاجباً له، وكان قبله قد خدم أباه وجده، إلى إسماعيل يأمره بتسليم الشرطة وأعمالها إلى مهذب الدولة بن أبي الجبر لأنها كانت في ضمانه، فوصل إلى الشرطة، وأخذ منها أربعمائة دينار، فأحضره إسماعيل وحبسه، وأخذ الدنانير منه، فلما رأى صدقة مكاشفته سار من حلته، وأظهر أنه يريد قصد الرحبة، ثم جد السير إلى البصرة، فلم يشعر إسماعيل إلا بقربه منه، ففرق أصحابه في القلاع التي استجدها بمطارا ونهر معقل، وغيرهما، واعتقل وجوه العباسيين، والعلويين، وقاضي البصرة، ومدرسها، وأعيان أهلها.
ونازلهم صدقة، فجرى قتال بين طائفة من عسكره، وطائفة من البصريين، قتل فيه أبو النجم بن أبي القاسم الورامي، وهو ابن خال سيف الدولة صدقة، فلما مدح به سيف الدولة، ورثي به أبو النجم بن أبي القاسم، قول بعضهم:
تهن، يا خير من يحمي حريم حمىً، ... فتحاً أغثت به الدنيا مع الدين
ركبت للبصرة الغراء في نخبٍ ... غرٍ، كجيش علي يوم صفين
هوى أبو النجم كالنجم المنير بها، ... لكنه كان رجماً للشياطين
وأقام صدقة محاصراً لإسماعيل بالبصرة، فأشار على سيف الدولة صدقة بعض أصحابه بالعود عنها، وأعلموه أنهم لا يظفرون بطائل، فأشار عليهم بالمقام، وقالوا: إن رحلنا كانت كسرة، وكان رأي سيف الدولة المقام، وقال: إن تعذر علي فتح البصرة لم يطعني أحد، واستعجزني الناس.
ثم إن إسماعيل خرج من البلد، وقاتل صدقة، فسار بعض أصحاب صدقة إلى مكان آخر من البلد، ودخلوه، وقتلوا من السوادية، الذين جمعهم إسماعيل، خلقاً كثيراً وانهزم إسماعيل إلى قلعته بالجزيرة، فأدركه بعض أصحاب سيف الدولة وأراد قتله، ففداه أحد غلمانه بنفسه، فوقعت الضربة فيه فأثخنته، فنهبت البصرة، وغنم من معه من عرب البر، وغيرهم، ما فيها، ولم يسلم منهم إلا المحلة المجاورة لقبر طلحة والمربد، فإن العباسيين دخلوا المدرسة النظامية وامتنعوا بها، وحموا المربد، وعمت المصيبة لأهل البلد، سوى من ذكرنا، وامتنع إسماعيل بقلعته.
فاتفق أن المهذب بن أبي الجبر انحدر في سفن كثيرة، وأخذ القلعة التي لإسماعيل بمطارا، وقتل بها خلقاً من أصحاب إسماعيل، وحمل إلى صدقة كثيراً فأطلقهم.
فلما علم إسماعيل بذلك أرسل إلى صدقة يطلب الأمان على نفسه، وأهله، وأمواله، فأجابه إلى ذلك، وأجله سبعة أيام، فأخذ كل ما يمكنه حمله مما يعز عليه، وما لم يقدر على حمله أهلكه بالماء وغيره، ونزل إلى سيف الدولة، وأمن سيف الدولة أهل البصرة من كل أذى، ورتب عندهم شحنة، وعاد إلى الحلة ثالث جمادى الآخرة، وكان مقامه بالبصرة ستة عشر يوماً.
وأما إسماعيل فإنه لما سار صدقة إلى الحلة قصد هو الباسيان إلى أن وصله ماله في المراكب، وسار نحو فارس، وصار يتعنت أصحابه، وزوجته، وقبض على جماعة من خواصه وقال لهم: أنتم سقيتم ولدي أفراسياب السم حتى مات! وكان قد مات في صفر من هذه السنة، ففارقه كثير منهم، حتى زوجته فارقته وسارت إلى بغداد.
وأخذته الحمى، وقويت عليه، فلما بلغ رامهرمز انفرد في خيمته، ولم يظهر لأصحابه يوماً وليلة، فظهر لهم موته، فنهبوا ماله وتفرقوا، فأرسل الأمير برامهرمز فردهم وأخذ ما معهم من أمواله، ودفن بالقرب من إيذج، وكان عمره قد جاوز خمسين سنة، وكانت سيرته قد حسنت في أهل البصرة أخيراً.
ذكر حصر رضوان نصيبين وعوده عنهافي هذه السنة، في شهر رمضان، حصر الملك رضوان بن تتش نصيبين.
وسبب ذلك: أنه عزم على حرب الفرنج، واجتمع معه من الأمراء: إيلغازي بن أرتق، الذي كان شحنة بغداد، وأصبهبذ صباوة، وألبى أرسلان تاش، صاحب سنجار، وهو صهر جكرمش، صاحب الموصل، فقال إيلغازي: الرأي أننا نقصد بلاد جكرمش، وما والاها، فنملكها، ونتكثر بعسكرها والأموال. ووافقه ألبى، فسار إلى نصيبين في عشرة آلاف فارس، مستهل رمضان، وكان قد جعل فيها أميرين من أصحابه في عسكر، فتحصنوا بالبلد، وقاتلوا من وراء السور، فرمي ألي أرسلان بنشابة، فجرح جرحاً شديداً، فعاد إلى سنجار.
وأما جكرمش فإنه بلغه الخبر بنزولهم على نصيبين، وهو بالجامة، التي بالقرب من طنزة، يتداوى بمائها من مرضه، فرحل إلى الموصل، وقد أجفل إليها أهل السواد، فخيم على باب البلد، عازماً على حرب رضوان، واستعمل المخادعة، فكاتب أعيان عسكر رضوان، ورغبهم، حتى أفسد نياتهم، وتقدم إلى أصحابه بنصيبين بخدمة الملك رضوان، وبإخراج الإقامات إليه مع الاحتراز منه، وأرسل إلى رضوان يبذل له خدمته، والدخول في طاعته، ويقول له: إن السلطان محمداً قد حصرني، ولم يبلغ مني غرضاً، فترحل عن صلح، وإن قبضت على إيلغازي الذي قد عرفت أنت وغيرك فساده وشره فأنا معك، ومعينك بالرجال والأموال والسلاح.
فاتفق هذا، ورضوان قد تغيرت نيته مع إيلغازي، فازداد تغيراً، وعزم على قبضه، فاستدعاه يوماً، وقال له: هذه بلاد ممتنعة، وربما استولى الفرنج على حلب، والمصلحة مصالحة جكرمش، واستصحابه معنا، فإنه يسير بعساكر كثيرة ظاهرة التجمل، ونعود إلى قتال الفرنج، فإن ذلك مما يعود باجتماع شمل المسلمين. فقال له إيلغازي: إنك جئت بحكمك، وأنت الآن بحكمي لا أمكنك من المسير بدون أخذ هذه البلاد، فإن أقمت، وإلا بدأت بقتالك.
وكان إيلغازي قد قويت نفسه بكثرة من اجتمع عنده من التركمان، وكان الملك رضوان قد واعد قوماً من أصحابه ليقبضوا عليه، فلما جرى ما ذكرناه أمرهم رضوان فقبضوا عليه وقيدوه، فلما سمع التركمان الحال أظهروا الخلاف والامتعاض، ففارقوا رضوان والتجأوا إلى سور المدينة، وأصعد إيلغازي إلى قلعتها، وخرج من بنصيبين من العسكر فأعانوه، فلما رأى التركمان ذلك تفرقوا، ونهبوا ما قدروا عليه من المواشي وغيرها، ورحل رضوان من وقته وسار إلى حلب.
وكان جكرمش قد رحل من الموصل قاصداً لحرب القوم، فلما بلغ تل يعفر أتاه المبشرون بانصراف رضوان على اختلاف وافتراق، فرحل عند ذلك إلى سنجار، ووصلت إليه رسل رضوان تستدعي منه النجدة، ويعتد عليه ما فعل بإيلغازي، فأجابه مغالطة، ولم يف له بما وعده، ونازل سنجار ليشفي غيظه من ظهره ألبي بن أرسلان تاش بما اعتمده من معاداته، ومظاهرة أعدائه، وكان ألبي على شدة من المرض بالسهم الذي أصابه على نصيبين، فلما نزل جكرمش عليها أمر ألبي أصحابه أن يحملوه إليه، فحملوه في محفة، فحضر عنده، وأخذ يعتذر مما كان منه، وقال: جئت مذنباً، فافعل بي ما تراه. فرق له وأعاده إلى بلده، فلما عاد قضى نحبه، فلما مات عصى على جكرمش من كان بسنجار، وتمسكوا بالبلد، فقاتلهم بقية رمضان، وشوالاً، ولم يظفر منهم بشيء، فجاء تميرك أخو أرسلان تاش، عم ألبي، فأصلح حاله مع جكرمش، وبذل له الخدمة، فعاد إلى الموصل.
ذكر ملك طغتكين بصرىقد ذكرنا سنة سبع وتسعين حال بكتاش بن تتش، وخروجه من دمشق، واتصاله بالفرنج، ومعه أيتكين الحلبي، صاحب بصرى، وسيرهما إلى الرحبة، وعودهما عنها، فلما ضعفت أحوالهم سار طغتكين إلى بصرى فحصرها، وبها أصحاب أيتكين، فراسلوا طغتكين، وبذلوا له التسليم إليه، بعد أجل قرروه بينهم، فأجابهم إلى ذلك، فرحل عنهم إلى دمشق، فلما انقضى الأجل، هذه السنة، تسلمها، وأحسن إلى من بها، ووفى لهم بما وعدهم، وبالغ في إكرامهم، وكثر الثناء عليه، والدعاء له، ومالت النفوس إليه، وأحبوه.
ذكر ملك الفرنج حصن أفاميةفي هذه السنة ملك الفرنج حصن أفامية من بلد الشام.
وسبب ذلك: أن خلف بن ملاعب الكلابي كان متغلباً على حمص، وكان الضرر به عظيماً، ورجاله يقطعون الطريق، فكثر الحرامية عنده، فأخذها منه تتش بن ألب أرسلان وأبعده عنها، فتقلبت به الأحوال إلى أن دخل إلى مصر، فلم يلتفت إليه من بها، فأقام بها.
واتفق أن المتولي لأفامية من جهة الملك رضوان أرسل إلى صاحب مصر، وكان يميل إلى مذهبهم، يستدعي منهم من يسلم إليه الحصن، وهو من أمنع الحصون، وطلب ابن ملاعب منهم أن يكون هو المقيم به، وقال: إنني أرغب في قتال الفرنج، وأوثر الجهاد. فسلموه إليه، وأخذوا رهائنه، فلما ملكه خلع طاعتهم ولم يرع حقهم، فأرسلوا إليه يتهددونه بما يفعلونه بولده الذي عندهم. فأعاد الجواب: إنني لا أنزل من مكاني، وابعثوا إلي ببعض أعضاء ولدي حتى آكله، فأيسوا من رجوعه إلى الطاعة، وأقام بأفامية يخيف السبيل، ويقطع الطريق، واجتمع عنده كثير من المفسدين، فكثرت أمواله.
ثم إن الفرنج ملكوا سرمين، وهي من أعمال حلب، وأهلها غلاة في التشيع، فلما ملكها الفرنج تفرق أهلها، فتوجه القاضي الذي بها إلى ابن ملاعب وأقام عنده، فأكرمه، وأحبه، ووثق به، فأعمل القاضي الحيلة عليه، وكتب إلى أبي طاهر، المعروف بالصائغ، وهو من أعيان أصحاب الملك رضوان، ووجوه الباطنية ودعاتهم، ووافقهم على الفتك بابن ملاعب، وأن يسلم أفامية إلى الملك رضوان، فظهر شيء من هذا، فأتى إلى ابن ملاعب أولاده، وكانوا قد تسللوا إليه من مصر، وقالوا له: قد بلغنا عن هذا القاضي كذا وكذا، والرأي أن تعاجله، وتحتاط لنفسك، فإن الأمر قد اشتهر وظهر. فأحضره ابن ملاعب، فأتاه في كمه مصحف، لأنه رأى أمارات الشر، فقال له ابن ملاعب ما بلغه عنه، فقال له: أيها الأمير، قد علم كل أحد أني أتيتك خائفاً جائعاً، فأمنتني، وأغنيتني، وعززتني، فصرت ذات مال وجاه، فإن كان بعض من حسدني على منزلتي منك، وما غمرني من نعمتك سعى بي إليك، فأسألك أن تأخذ جميع ما معي، وأخرج كما جئت. وحلف له على الوفاء والنصح، فقبل عذره وأمنه.
وعاود القاضي مكاتبة أبي طاهر بن الصائغ، وأشار عليه أن يوافق رضوان على إنفاذ ثلاثمائة رجل من أهل سرمين، وينفذ معهم خيلاً من خيول الفرنج، وسلاحاً من أسلحتهم، ورؤوساً من رؤوس الفرنج، ويأتوا إلى ابن ملاعب ويظهروا أنهم غزاة ويشكوا من سوء معاملة الملك رضوان وأصحابه لهم، وأنهم فارقوه، فلقيهم طائفة من الفرنج، فظفروا بهم، ويحملوا جميع ما معهم إليه، فإذا أذن لهم في المقام اتفقت آراؤهم على إعمال الحيلة عليه، ففعل ابن الصائغ ذلك، ووصل القوم إلى أفامية، وقدموا إلى ابن ملاعب بما معهم من الخيل وغيرها، فقبل ذلك منهم، وأمرهم بالمقام عنده، وأنزلهم في ربض أفامية.
فلما كان في بعض الليالي نام الحراس بالقلعة، فقام القاضي ومن بالحصن من أهل سرمين، ودلوا الحبال وأصعدوا أولئك القادمين جميعهم، وقصدوا أولاد ابن ملاعب، وبني عمه، وأصحابه، فقتلوهم، وأتى القاضي وجماعة معه إلى ابن ملاعب، وهو مع امرأته، فأحس بهم، فقال: من أنت؟ فقال: ملك الموت جئت لقبض روحك! فناشده الله، فلم يرجع عنه، وجرحه، وقتله، وقتل أصحابه، وهرب ابناه، فقتل أحدهما، والتحق الآخر بأبي الحسن بن منقذ، صاحب شيزر، فحفظه لعهد كان بينهما.
ولما سمع ابن الصائغ خبر أفامية سار إليها، وهو لا يشك أنها له، فقال له القاضي: إن وافقتني، وأقمت معي، فبالرحب والسعة، ونحن بحكمك، وإلا فارجع من حيث جئت. فأيس ابن الصائغ منه، وكان أحد أولاد ابن ملاعب بدمشق عند طغتكين، غضبان على أبيه، فولاه طغتكين حصناً، وضمن على نفسه حفظ الطريق، وأخذ القوافل، فاستغاثوا إلى طغتكين منه، فأرسل إليه من طلبه، فهرب إلى الفرنج، واستدعاهم إلى حصن أفامية، وقال: ليس فيه غير قوت شهر، فأقاموا عليه يحاصرونه، فجاع أهله، وملكه الفرنج، وقتلوا القاضي المتغلب عليه، وأخذوا الصائغ فقتلوه، وكان هو الذي أظهر مذهب الباطنية بالشام.
هكذا ذكر بعضهم أن أبا طاهر الصائغ قتله الفرنج بأفامية، وقد قيل إن ابن بديع، رئيس حلب، قتله سنة سبع وخمسمائة، بعد وفاة رضوان، وقد ذكرناه هناك، والله أعلم.
ذكر نهب العرب البصرةقد ذكرنا استيلاء الأمير صدقة على البصرة، وأنه استناب بها مملوكاً كان لجده دبيس بن مزيد، اسمه التونتاش، وجعل معه مائة وعشرين فارساً. فاجتمعت ربيعة والمنتفق ومن انضم إليها من العرب، وقصدوا البصرة في جمع كثير، فقاتلهم التونتاش، فأسروه، وانهزم أصحابه، ولم يقدر من بها على حفظها، فدخلوها بالسيف أواخر ذي القعدة، وأحرقوا الأسواق، والدور الحسان، ونهبوا ما قدروا عليه، وأقاموا ينهبون ويحرقون اثنين وثلاثين يوماً، وتشرد أهلها في السواد، ونهبت خزانة كتب كانت موقوفة، وقفها القاضي أبو الفرج بن أبي البقاء.
وبلغ الخبر صدقة، فأرسل عسكراً، فوصلوا وقد فارقها العرب. ثم إن السلطان محمداً أرسل شحنة وعميداً إلى البصرة، وأخذها من صدقة، وعاد أهلها إليها وشرعوا في عمارتها.
ذكر حال طرابلس الشام مع الفرنجكان صنجيل الفرنجي، لعنه الله، قد ملك مدينة جبلة، وأقام على طرابلس يحصرها، فحيث لم يقدر أن يملكها، بنى بالقرب منها حصناً، وبنى تحته ربضاً، وأقام مراصداً لها، ومنتظراً وجود فرصة فيها، فخرج فخر الملك أبو علي بن عمار، صاحب طرابلس، فأحرق ربضه، ووقف صنجيل على بعض سقوفه المتحرقة، ومعه جماعة من القمامصة والفرسان، فانخسف بهم، فمرض صنجيل من ذلك عشرة أيام ومات، وحمل إلى القدس فدفن فيه.
ثم إن ملك الروم أمر أصحابه باللاذقية ليحملوا الميرة إلى هؤلاء الفرنج الذين على طرابلس، فحملوها في البحر، فأخرج إليها فخر الملك بن عمار أسطولاً، فجرى بينهم وبين الروم قتال شديد، فظفر المسلمون بقطعة من الروم، فأخذوها، وأسروا من كان بها وعادوا.
ولم تزل الحرب بين أهل طرابلس والفرنج خمس سنين إلى هذا الوقت، فعدمت الأقوات به، وخاف أهله على نفوسهم وأولادهم وحرمهم، فجلا الفقراء، وافتقر الأغنياء، وظهر من ابن عمار صبر عظيم، وشجاعة، ورأي سديد.
ومما أضر بالمسلمين فيها أن صاحبها استنجد سقمان بن أرتق، فجمع العساكر وسار إليه، فمات في الطريق، على ما ذكرناه، وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه.
وأجرى ابن عمار الجرايات على الجند والضعفى، فلما قلت الأموال عنده شرع يقسط على الناس ما يخرجه في باب الجهاد، فأخذ من رجلين من الأغنياء مالاً مع غيرهما، فخرج الرجلان إلى الفرنج وقالا: إن صاحبنا صادرنا، فخرجنا إليكم لنكون معكم، وذكرا لهم أنه تأتيه الميرة من عرقة والجبل، فجعل الفرنج جميعاً على ذلك الجانب يحفظه من دخول شيء إلى البلد، فأرسل ابن عمار وبذل للفرنج مالاً كثيراً ليسلموا الرجلين إليه، فلم يفعلوا، فوضع عليهما من قتلهما غيلة.
وكانت طرابلس من أعظم بلاد الإسلام وأكثرها تجملاً وثروة، فباع أهلها من الحلى، والأواني الغريبة، ما لا حد عليه، حتى بيع كل مائة درهم نقرة بدينار. وشتان بين هذه الحالة وبين حال الروم أيام السلطان ألب أرسلان، وقد ذكرت ظفره بهم سنة ثلاث وستين وأربعمائة، وقد كان بعض أصحابه، وهو كمشتكين دواتي، عميد الملك، هرب منه خوفاً لما قبض على صاحبه عميد الملك، وسار إلى الرقة فملكها، وصار مع كثير من التركمان، فيهم: الأفشين وأحمد شاه، فقتلاه، وأرسلا أمواله إلى ألب أرسلان، ودخل الأفشين بلاد الروم، وقاتل الفردوس، صاحب أنطاكية، فهزمه، وقتل من الروم خلقاً كثيراً.
وسار ملك الروم من القسطنطينية إلى ملطية، فدخل الأفشين بلاده، ووصل إلى عمورية، وقتل في غزاته مائة ألف آدمي، ولما عاد إلى بلاد الإسلام وتفرق من معه خرج عليه عسكر الرها، وهي حينئذ للروم، ومعهم بنو نمير من العرب، فقاتلهم، ومعه مائتا فارس، فهزمهم ونهبهم، ونهب بلاد الروم، فأرسل ملك الروم رسولاً إلى القائم بأمر الله يسأله الصلح، فأرسل إلى ألب أرسلان في ذلك، فصالح الروم على مائة ألف دينار، وأربعة آلاف ثوب أصنافاً، وثلاثمائة رأس بغالاً. فشتان بين الحالتين.
وأقول شتان بين حال أولئك المرذولين الذين استعجزهم، وبين حال الناس في زماننا هذا، وهو سنة ست عشرة وستمائة مع الفرنج أيضاً والتتر، وسترى ذلك مشروحاً، إن شاء الله تعالى، لتعلم الفرق، نسأل الله تعالى أن ييسر للإسلام وأهله قائماً يقوم بنصرهم، وأن يدفع عنهم بمن أحب من خلقه، وما ذلك على الله بعزيز.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ورد إلى بغداد إنسان من الملثمين، ملوك الغرب، قاصداً إلى دار الخلافة، فأكرم، وكان معه إنسان يقال له الفقيه، من الملثمين أيضاً، فوعظ الفقيه في جامع القصر، واجتمع له العالم العظيم، وكان يعظ وهو متلثم لا يظهر منه غير عينيه، وكان هذا الملثم قد حضر ابن الأفضل، أمير الجيوش بمصر، وقعته مع الفرنج، وأبلى بلاءً حسناً.
وكان سبب مجيئه إلى بغداد: أن المغاربة كانوا يعتقدون في العلويين، أصحاب مصر، الاعتقاد القبيح، فكانوا، إذا أرادوا الحج، يعدلون عن مصر، وكان أمير الجيوش بدر والد الأفضل أراد إصلاحهم، فلم يميلوا إليه، ولا قاربوه، فأمر بقتل من ظفر به منهم، فلما ولي ابنه الأفضل أحسن إليهم، واستعان بمن قاربه منهم على حرب الفرنج، وكان هذا من جملة من قاتل معه، فلما خالط المصريين خاف العود إلى بلاده، فقدم بغداد، ثم عاد إلى دمشق، ولم يكن للمصريين حرب مع الفرنج إلا وشهدها، فقتل في بعضها شهيداً، وكان شجاعاً فتاكاً مقداماً.
وفيها، في ربيع الآخر، ظهر كوكب في السماء له ذؤابة، كقوس قزح، آخذة من المغرب إلى وسط السماء، وكان يرى قريباً من الشمس قبل ظهوره ليلاً، وبقي يظهر عدة ليال، ثم غاب.
وفيها وصل الملك قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، صاحب بلاد الروم، إلى الرها ليحصرها، وبها الفرنج، فراسله أصحاب جكرمش المقيمون بحران ليسلموها إليه، فسار إليهم وتسلم البلد، وفرح به الناس لأجل جهاد الفرنج، فأقام بحران أياماً، ومرض مرضاً شديداً، أوجب عوده إلى ملطية، فعاد مريضاً، وبقي أصحابه بحران.
وفي هذه السنة توفي الشيخ أبو منصور الخياط المقري، إمام مسجد ابن جردة، وكان خيراً صالحاً.
وفيها قتل القاضي أبو العلاء صاعد بن أبي محمد النيسابوري الحنفي بجامع أصبهان، قتله باطني.
وفيها توفي أبو الفوارس الحسين بن علي بن الحسين بن الخازن، صاحب الخط الجيد، وعمره سبعون سنة، قيل إنه كتب خمسمائة ختمة.
وفيها، في المحرم، توفي القاضي أبو الفرج محمد بن عبيد الله بن الحسن، قاضي البصرة، وله ثلاث وثمانون سنة، وكان من الفقهاء الشافعية المشهورين، تفقه على الماوردي، وأبي إسحاق، وأخذ النحو عن الرقي، والدهان، وابن برهان، وكان عفيفاً، مقدماً عند الخلفاء والسلاطين.
وفيها، في المحرم، توفي سهل بن أحمد بن علي الأرغياني، أبو الفتح الحاكم، تفقه على الجويني، وبرز، ثم ترك المناظرة، وبنى رباطاً، واشتغل بالعبادة وقراءة القرآن.
وفيها، في صفر، توفي الأمير مهارش بن مجلي وله نحو ثمانين سنة، وهو الذي كان الخليفة القائم عنده بالحديثة، وكان كثير الصلاة والصوم، يحب الخير وأهله، ولما توفي ملك الحديثة بعده ابنه سليمان.
ثم دخلت سنة خمسمائة
ذكر وفاة يوسف بن تاشفين
وملك ابنه عليفي هذه السنة توفي أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، ملك الغرب والأندلس، وكان حسن السيرة، خيراً، عادلاً، يميل إلى أهل الدين والعلم، ويكرمهم، ويصدر عن رأيهم، ولما ملك الأندلس، على ما ذكرناه، جمع الفقهاء وأحسن إليهم، فقالوا له: ينبغي أن تكون ولايتك من الخليفة لتجب طاعتك على الكافة، فأرسل إلى الخليفة المستظهر بالله، أمير المؤمنين، رسولاً ومعه هدية كثيرة، وكتب معه كتاباً يذكر ما فتح الله من بلاد الفرنج، وما اعتمده من نصرة الإسلام، ويطلب تقليداً بولاية البلاد، فكتب له تقليد من ديوان الخلافة بما أراد، ولقب أمير المسلمين، وسيرت إليه الخلع، فسر بذلك سروراً كثيراً، وهو الذي بنى مدينة مراكش للمرابطين، وبقي على ملكه إلى سنة خمسمائة، فتوفي وملك بعده البلاد ولده علي بن يوسف، وتلقب أيضاً أمير المسلمين، فازداد في إكرام العلماء والوقوف عند إشارتهم، وكان إذا وعظه أحدهم خشع عند استماع الموعظة، ولان قلبه لها، وظهر ذلك عليه.
وكان يوسف بن تاشفين حليماً، كريماً، ديناً، خيراً، يحب أهل العلم والدين، ويحكمهم في بلاده، وكان يحب العفو والصفح عن الذنوب العظام، فمن ذلك أن ثلاثة نفر اجتمعوا، فتمنى أحدهم ألف دينار يتجر بها، وتمنى الآخر عملاً يعمل فيه لأمير المسلمين، وتمنى الآخر زوجته النفزاوية، وكانت من أحسن النساء، ولها الحكم في بلاده، فبلغه الخبر، فأحضرهم، وأعطى متمني المال ألف دينار، واستعمل الآخر، وقال للذي تمنى زوجته: يا جاهل! ما حملك على هذا الذي لا تصل إليه؟ ثم أرسله إليها، فتركته في خيمة ثلاثة أيام تحمل إليه كل يوم طعاماً واحداً، ثم أحضرته وقالت له: ما أكلت هذه الأيام؟ قال: طعاماً واحداً، فقالت: كل النساء شيء واحد. فأمرت له بمال وكسوة وأطلقته.
ذكر قتل فخر الملك بن نظام الملكفي هذه السنة قتل فخر الملك أبو المظفر علي بن نظام الملك، يوم عاشوراء، وكان أكبر أولاده، وقد ذكرنا سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وزارته للسلطان بركيارق، فلما فارق وزارته قصد نيسابور، وأقام عند الملك سنجر بن ملكشاه، ووزر له، وأصبح يوم عاشوراء صائماً، وقال لأصحابه: رأيت الليلة في المنام الحسين بن علي، عليه السلام ، وهو يقول: عجل إلينا، وليكن إفطارك عندنا، وقد اشتغل فكري به، ولا محيد عن قضاء الله وقدره! وقالوا: يحميك الله، والصواب أن لا تخرج اليوم والليلة من دارك، فأقام يومه يصلي، ويقرأ القرآن، وتصدق بشيء كثير.
فلما كان وقت العصر خرج من الدار التي كان بها يريد دار النساء، فسمع صياح متظلم، شديد الحرقة، وهو يقول: ذهب المسلمون، فلم يبق من يكشف مظلمة، ولا يأخذ بيد ملهوف! فأحضره عنده، رحمة له، فحضر فقال: ما حالك؟ فدفع إليه رقعة، فبينما فخر الملك يتأملها إذ ضربه بسكين فقضى عليه، فمات، فحمل الباطني إلى سنجر، فقرره، فأقر على جماعة من أصحاب السلطان كذباً، وقال: إنهم وضعوني على قتله، وأراد أن يقتل بيده وسعايته، فقتل من ذكر، وكان مكذوباً عليهم، ثم قتل الباطني بعدهم، وكان عمر فخر الملك ستاً وستين سنة.
ذكر ملك صدقة بن مزيد تكريت
في هذه السنة، في صفر، تسلم الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن مزيد قلعة تكريت، وقد ذكرنا فيما تقدم أنها كانت لبني مقن العقيليين، وكانت إلى آخر سنة سبع وعشرين وأربعمائة بيد رافع بن الحسين بن مقن، فمات، ووليها ابن أخيه أبو منعة خميس بن تغلب بن حماد، ووجد بها خمسمائة ألف دينار سوى المصاغ، وتوفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، ووليها ولده أبو غشام.
فلما كان سنة أربع وأربعين وثب عليه عيسى فحبسه، وملك القلعة والأموال، فلما اجتاز به طغرلبك سنة ثمان وأربعين صالحه على بعض المال فرحل عنه.
وخافت زوجته أميرة، بعد موته، أن يعود غشام فيملك القلعة، فقتلته، وكان قد بقي في الحبس أربع سنين، واستنابت في القلعة أبا الغنائم بن المحلبان، فسلمها إلى أصحاب السلطان طغرلبك، فسارت إلى الموصل، فقتلها ابن أبي غشام بأبيه، وأخذ شرف الدولة مسلم بن قريش مالها، ورد طغرلبك أمر القلعة إلى إنسان يعرف بأبي العباس الرازي، فمات بها بعد ستة أشهر، فملكها المهرباط، وهو أبو جعفر محمد بن أحمد نب خشنام من بلد الثغر، فأقام بها إحدى وعشرين سنة ومات، ووليها ابنه سنتين، وأخذتها منه تركان خاتون، ووليها لها كوهرائين.
ثم ملكها بعد وفاة ملكشاه قسيم الدولة آقسنقر، صاحب حلب، فلما قتل صارت للأمير كمشتكين الجاندار، فجعل فيها رجلاً يعرف بأبي المصارع، ثم عادت إلى كوهرائين إقطاعاً، ثم أخذها منه مجد الملك البلاساني، فولى عليها كيقباذ بن هزارسب الديلمي، فأقام بها اثنتي عشرة سنة، فظلم أهلها، وأساء السيرة، فلما اجتاز به سقمان بن أرتق سنة ست وتسعين ونهبها، كان كيقباذ ينهبها ليلاً، وسقمان ينهبها نهاراً.
فلما استقر السلطان محمد بعد موت أخيه بركيارق أقطعها للأمير آقسنقر البرسقي، شحنة بغداد، فسار إليها وحصرها مدة تزيد على سبعة أشهر، حتى ضاق على كيقباذ الأمر، فراسل صدقة بن مزيد ليسلمها إليه، فسار إليها في صفر هذه السنة وتسلمها منه، وانحدر البرسقي ولم يملكها.
ومات كيقباذ بعد نزوله من القلعة بثمانية أيام، وكان عمره ستين سنة، واستناب صدقة بها ورام بن أبي فراس بن ورام، وكان كيقباذ ينسب إلى الباطنية، وكان موته من سعادة صدقة فإنه لو أقام عنده لعرض صدقة لظنون الناس في اعتقاده ومذهبه.
ذكر الحرب بين عبادة وخفاجةفي هذه السنة، في ربيع الأول، كانت حرب بين عبادة وخفاجة، فظفرت عبادة، وأخذت بثأرها من خفاجة.
وكان سبب ذلك أن سيف الدولة صدقة أرسل ولده بدران في جيش إلى طرف بلاده مما يلي البطيحة ليحميها من خفاجة لأنهم يؤذون أهل تلك النواحي، فقربوا منه، وتهددوا أهل البلاد، فكتب إلى أبيه يشكو منهم، ويعرفه حالهم، فأحضر عبادة، وكانت خفاجة قد فعلت بهم العام الماضي ما ذكرناه، فلما حضروا عنده قال لهم ليتجهزوا مع عسكره ليأخذوا بثأرهم من خفاجة، فساروا في مقدم عسكره، فأدركوا حلة من خفاجة من بني كليب ليلاً، وهم غارون، لم يشعروا بهم، فقالوا: من أنتم؟ فقالت عبادة: نحن أصحاب لديون، فعلموا أنهم عبادة، فقاتلوهم، وصبرت خفاجة، فبينما هم في القتال إذ سمع طبل الجيش، فانهزموا، وقتلت منهم عبادة جماعة، وكان فيهم عشرة من وجوههم، وتركوا حرمهم، فأمر صدقة بحراستهن وحمايتهن، وأمر العسكر أن يؤثروا عبادة بما غنموه من أموال خفاجة، خلفاً لهم عما أخذ منهم في العام الماضي.
وأصاب خفاجة من مفارقة بلادها، ونهب أموالها، وقتل رجالها، أمر عظيم، وانتزحت إلى نواحب البصرة، وأقامت عبادة في بلاد خفاجة.
ولما انهزمت خفاجة وتفرقت ونهبت أموالها، جاءت امرأة منهم إلى الأمير صدقة، فقالت له: إنك سبيتنا، وسلبتنا قوتنا، وغربتنا، وأضعت حرمتنا، قابلك الله في نفسك، وجعل صورة أهلك كصورتنا، فكظم الغيظ واحتمل لها ذلك، وأعطاها أربعين جملاً، ولم يمض غير قليل حتى قابل الله صدقة في نفسه وأولاده، فإن دعاء الملهوف عند الله بمكان.
ذكر مسير جاولي سقاوو إلى الموصل
وأسر صاحبها جكرمشفي هذه السنة، في المحرم، أقطع السلطان محمد جاولي سقاوو الموصل، والأعمال التي بيد جكرمش، وكان جاولي قبل هذا قد استولى على البلاد التي بين خوزستان وفارس، وأقام بها سنين، وعمر قلاعها وحصنها، وأساء السيرة في أهلها، وقطع أيديهم وجدع أنوفهم وسمل أعينهم.
فلما تمكن السلطان محمد من السلطنة خافه جاولي، وأرسل السلطان إليه الأمير مودود بن التونتكين، فتحصن منه جاولي، وحصره مودود ثمانية أشهر، فأرسل جاولي إلى السلطان: إنني لا أنزل إلى مودود، فإن أرسلت غيره نزلت. فأرسل إليه خاتمه مع أمير آخر، فنزل جاولي، وحضر الخدمة بأصبهان، فرأى من السلطان ما يحب، وأمره السلطان بالمسير إلى الفرنج ليأخذ البلاد منهم، وأقطعه الموصل وديار بكر والجزيرة كلها.
وكان جكرمش لما عاد من عند السلطان إلى بلاده، كما ذكرناه، وعد من نفسه الخدمة، وحمل المال، فلما استقر ببلاده لم يف بما قال، وتثاقل في الخدمة وحمل المال، فأقطع بلاده لجاولي، فجاء إلى بغداد، وأقام بها إلى أول ربيع الأول، وسار إلى الموصل، وجعل طريقه على البوازيج، فملكها ونهبها أربعة أيام، بعد أن أمن أهلها، وحلف لهم أنه يحميهم، فلما ملكها سار إلى إربل.
وأما جكرمش فإنه لما بلغه مسيره إلى بلاده كتب في جمع العساكر، فأتاه كتاب أبي الهيجاء موسك الكردي الهذباني، صاحب إربل، يذكر استيلاء جاولي على البوازيج، ويقول له: إن لم تعجل المجيء لنجتمع عليه ونمنعه، وإلا اضطررت إلى موافقته والمصير معه. فبادر جكرمش وعبر إلى شرقي دجلة، وسار في عسكر الموصل قبل اجتماع عساكره، وأرسل إليه أبو الهيجاء عسكره مع أولاده، فاجتمعوا بقرية باكلبا من أعمال إربل.
ووافاهم جاولي وهو في ألف فارس، وكان جكرمش في ألفي فارس، ولا يشك أنه يأخذ جاولي باليد، فلما اصطفوا للحرب حمل جاولي من القلب على قلب جكرمش فانهزم من فيه، وبقي جكرمش وحده لا يقدر على الهزيمة لفالج كان به، فهو لا يقدر أن يركب، وإنما يحمل في محفة، فلما انهزم أصحابه قاتل عنه ركابي أسود قتالاً عظيماً، فقتل، وقاتل معه واحد من أولاد الملك قاورت بك بن داود، اسمه أحمد، فقاتل بين يديه، فطعن فجرح وانهزم، فمات بالموصل، ولم يقدر أصحاب جاولي على الوصول إلى جكرمش، حتى قتل الركابي الأسود فحينئذ أخذوه أسيراً وأحضروه عند جاولي، فأمر بحفظه وحراسته.
وكانت عساكر جكرمش التي استدعاها قد وصلت إلى الموصل بعد مسيره بيومين، فساروا جرائد ليدركوا الحرب، فلقيهم المنهزمون ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ذكر حصر جاولي سقاوو الموصل
وموت جكرمشلما انهزم العسكر، وأسر جكرمش، وصل الخبر إلى الموصل، فأقعدوا في الأمر زنكي بن جكرمش، وهو صبي عمره إحدى عشرة سنة، وخطبوا له، وأحضروا أعيان البلد، والتمسوا منهم المساعدة، فأجابوا إلى ذلك.
وكان مستحفظ القلعة مملوكاً لجكرمش اسمه غزغلي، فقام في ذلك المقام المرضي، وفرق الأموال التي جمعها جكرمش، والخيول، وغير ذلك على الجند، وكاتب سيف الدولة صدقة، وقلج أرسلان، والبرسقي، شحنة بغداد، بالمبادرة إليهم، ومنع جاولي عنهم، ووعدوا كلاً منهم أن يسلموا البلد إليه. فأما صدقة فلم يجبهم إلى ذلك، ورأى طاعة السلطان، وأما البرسقي وقلج أرسلان فنذكر حالهما.
ثم إن جاولي حصر الموصل، ومعه كرماوي بن خراسان التركماني، وغيره من الأمراء، وكثر جمعه، وأمر أن يحمل جكرمش كل يوم على بغل وينادى أصحابه بالموصل ليسلموا البلد ويخلصوا صاحبهم مما هو فيه، ويأمرهم هو بذلك، فلا يسمعون منه، وكان يسجنه في جب، ويوكل به من يحفظه لئلا يسرق، فأخرج في بعض الأيام ميتاً، وعمره نحو ستين سنة، وكان شأنه قد علا، ومنزلته قد عظمت، وكان قد شيد سور الموصل وقواه، وبنى عليه فصيلاً، وحفر خندقها، وحصنها غاية ما يقدر عليه.
وكان مع جكرمش رجل من أعيان الموصل يقال له أبو طالب بن كسيرات، وبنو كسيرات إلى الآن بالموصل من أعيان أهلها، وكان أبو طالب قد تقدم عند جكرمش، وارتفعت منزلته، واستولى على أموره، وحضر معه الحرب، فلما أسر جكرمش هرب أبو طالب إلى إربل، وكان أولاد أبي الهيجاء، صاحب إربل، قد حضروا الحرب مع جكرمش، وأسرهم جاولي، فأرسل إلى أبي الهيجاء يطلب ابن كسيرات، فأطلقه وسيره إليه، فأطلق جاولي ابن أبي الهيجاء، فلما حضر ابن كسيرات عند جاولي ضمن له فتح الموصل وبلاد جكرمش، وتحصيل الأموال، فاعتقله اعتقالاً جميلاً.
وكان قاضي الموصل أبو القاسم بن ودعان عدواً لأبي طالب، فأرسل إلى جاولي يقول له: إن قتلت أبا طالب سلمت الموصل إليك. فقتله وأرسل رأسه إليه، فأظهر الشماتة به، وأخذ كثيراً من أمواله وودائعه، فثار به الأتراك غضباً لأبي طالب ولتفرده بما أخذ من أمواله، فقتلوه، وكان بينهما شهر واحد، وقد رأينا كثيراً، وسمعنا ما لا نحصيه من قرب وفاة أحد المتعاديين بعد صاحبه.
ذكر الحرب بين ملك القسطنطينية والفرنجفي هذه السنة كانت وحشة مستحكمة بين ملك الروم، صاحب القسطنطينية، وبين بيمند الفرنجي، فسار بييمند إلى بلد ملك الروم ونهبه، وعزم على قصده، فأرسل ملك الروم إلى الملك قلج أرسلان بن سليمان، صاحب قونية وأقصرا وغيرهما من تلك البلاد، يستنجده، فأمده بجمع من عسكره، فقوي بهم، وتوجه إلى بيمند، فالتقوا وتصافوا واقتتلوا، وصبر الفرنج بشجاعتهم، وصبر الروم ومن معهم لكثرتهم، ودامت الحرب، ثم أجلت الوقعة عن هزيمة الفرنج، وأتى القتل على أكثرهم، وأسر كثير منهم، والذين سلموا عادوا إلى بلادهم بالشام، وعاد عسكر قلج أرسلان إلى بلادهم عازمين على المسير إلى صاحبهم بديار الجزيرة، فأتاهم خبر قتله، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فتركوا الحركة وأقاموا.
ذكر ملك قلج أرسلان الموصلقد ذكرنا أن أصحاب جكرمش كتبوا إلى الأمير صدقة، وقسيم الدولة البرسقي، والملك قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش السلجوقي، صاحب بلاد الروم يستدعون كلاً منهم إليهم ليسلموا البلد إليه. فأما صدقة فامتنع، ورأى طاعة السلطان، وأما قلج أرسلان فإنه سار في عساكره فلما سمع جاولي سقاوو بوصوله إلى نصيبين رحل عن الموصل، وأما البرسقي فإنه كان شحنة بغداد، فسار منها إلى الموصل، فوصلها بعد رحيل جاولي عنها، فنزل بالجانب الشرقي فلم يلتفت أحد إليه، ولا أرسلوا إليه كلمة واحدة، فعاد في باقي يومه.
ثم إن قلج أرسلان لما وصل إلى نصيبين أقام بها حتى كثر جمعه، فلما سمع جاولي بقربه رحل من الموصل إلى سنجار، وأودع رحله بها، واتصل به الأمير إيلغازي بن أرتق وجماعة من عسكر جكرمش، فصار معه أربعة آلاف فارس. فأتاه كتاب الملك رضوان يستدعيه إلى الشام، ويقول له: إن الفرنج قد عجز من بالشام عن منعهم، فسار إلى الرحبة.
وأرسل أهل الموصل وعسكر جكرمش إلى قلج أرسلان، وهو بنصيبين، فاستحلفوه لهم، فحلف، واستحلفهم على الطاعة له والمناصحة، وسار معهم إلى الموصل، فملكها في الخامس والعشرين من رجب، ونزل بالمعرقة، وخرج إليه ولد جكرمش وأصحابه، فخلع عليهم، وجلس على التخت، وأسقط السلطان محمداً، وخطب لنفسه بعد الخليفة، وأحسن إلى العسكر، وأخذ القلعة من غزغلي، مملوك جكرمش، وجعل له فيها دزداراً، ورفع الرسوم المحدثة في الظلم، وعدل في الناس وتألفهم، وقال: من سعى إلي بأحد قتلته، فلم يسع أحد بأحد، وأقر القاضي أبا محمد عبد الله نب القاسم بن الشهرزوري على القضاء بالموصل، وجعل الرئاسة لأبي البركات محمد بن محمد بن خميس، وهو والد شيخنا أبي الربيع سليمان.
وكان في جملة قلج أرسلان الأمير إبراهيم بن ينال التركماني، صاحب آمد، ومحمد بن جبق التركماني، صاحب حصن زياد، وهو خرتبرت.
فأما إبراهيم بن ينال فكان سبب ملكه لمدينة آمد أن تاج الدولة تتش، حين ملك ديار بكر، سلمها إليه، فبقيت بيده، وأما محمد بن جبق فكان سبب ملكه لحصن زياد أن هذا الحصن كان بيد الفلادروس الرومي، ترجمان ملك الروم، وكانت الرها وأنطاكية من أعماله، فلما ملك سليمان بن قتلمش، والد قلج أرسلان هذا، أنطاكية، وملك فخر الدولة بن جهير ديار بكر، ضعف الفلادروس عن إقامة ما يحتاج إليه حصن زياد من الميرة والإقامة، فأخذه جبق، وأسلم الفلادروس على يد السلطان ملكشاه، وأمره على الرها، فلم يزل عليها حتى مات وأخذها الأمير بزان بعده.
وكان بالقرب من حصن زياد حصن آخر بيد إنسان من الروم اسمه افرنجي، وكان يقطع الطريق، ويكثر قتل المسلمين، فأرسل إليه جبق هدية، وخطب إليه مودته، وأن يعين كل واحد منهما صاحبه، فأجابه إلى ذلك، فكان جبق يعين افرنجي على قطع الطريق وغيره، وكذلك افرنجي يعين جبق، فلما وثق كل واحد بصاحبه أرسل إليه جبق: إني أريد قصد بعض الأماكن، وطلب أن يرسل إليه أصحابه، فأرسلهم إليه، فلما ساروا معه في الطريق تقدم بكتفهم، وحملهم إلى قلعة افرنجي، وقال لأهليهم: والله لئن لم تسلموا إلي افرنجي لأضربن أعناقهم، ولآخذن الحصن عنوة، ولأقتلنكم على دم واحد. ففتحوا له الحصن، وسلموا إليه افرنجي، فسلخه، وأخذ أمواله وسلاحه، وكان عظيماً، ومات جبق، فولي بعده ابنه محمد.
ذكر قتل قلج أرسلان
وملك جاولي الموصلقد ذكرنا أن قلج أرسلان لما وصل إلى نصيبين سار جاولي عن الموصل إلى سنجار، ثم إلى الرحبة، فوصلها في رجب، وحصرها إلى الرابع والعشرين من شهر رمضان، وكان صاحبها حينئذ يعرف بمحمد بن السباق، وهو من بني شيبان، رتبه بها الملك دقاق لما فتحها، وأخذ ولده رهينة، وحمله معه إلى دمشق، فلما توفي أرسل هذا الشيباني قوماً سرقوا ولده وحملوه إليه، فلما وصل إليه خلع الطاعة للدمشقيين، وخطب في بعض الأوقات لقلج أرسلان. فلما وصل إليها جاولي وحصرها، أرسل إلى الملك رضوان يعرفه أنه على الاجتماع به ومساعدته على من يحاربه، ويشرط عليه أنه إذا تسلم البلاد سار معه ليكشف الفرنج عن بلاده، فلما استقرت القاعدة بينهما حضر عنده رضوان، فاشتد الحصار على أهل البلد، وضاقت عليهم الأمور.
واتفق جماعة كانوا بأحد الأبراج، وأرسلوا إلى جاولي، واستحلفوه على حفظهم وحراستهم، وأمروه أن يقصد البرج الذي هم فيه عند انتصاف الليل، ففعل ذلك، فرفع من في البرج أصحابه إليهم في الجبال، فضربوا بوقاتهم وطبولهم، فخذل من في البلد، ودخله أصحاب جاولي في اليوم الرابع والعشرين من شهر رمضان، ونهبوه إلى الظهر، ثم أمر برفع النهب، ونزل إليه محمد الشيباني صاحب البلد، وأطاعه، وصار معه.
ثم إن قلج أرسلان لما فرغ من أمر الموصل سار عنها إلى جاولي سقاوو ليحاربه، وجعل ابنه ملكشاه في دار الإمارة، وعمره إحدى عشرة سنة، ومعه أمير يدبره، وجماعة من العسكر، وكانت عدة عسكره أربعة آلاف فارس بالعدة الكاملة والخيل الجيدة.
وسمع العسكر بقوة جاولي، فاختلفوا، وكان أول من خالف عليه إبراهيم بن ينال، صاحب آمد، فإنه فارق خيامه وأثقاله وعاد من الخابور إلى بلده، وكذلك غيره، وعمل قلج أرسلان على المطاولة لما بلغه من قوة جاولي وكثرة جموعه، وأرسل إلى بلاده يطلب عساكره لأنها كانت عند ملك الروم نجدة له على قتال الفرنج، كما ذكرناه، فلما وصل إلى الخابور بلغت عدته خمسة آلاف.
وكان مع جاولي أربعة آلاف، من جملتهم الملك رضوان، وجماعة من عسكره، إلا أن شجعانه أكثر، واغتنم جاولي قلة عسكر قلج أرسلان، فقاتله قبل وصول عساكره إليه، فالتقوا في العشرين من ذي القعدة، فحمل قلج أرسلان على القوم بنفسه، حتى خالطهم، فضرب يد صاحب العلم فأبانها، ووصل إلى جاولي بنفسه، فضربه بالسيف، فقطع الكزاغند ولم يصل إلى بدنه، وحمل أصحاب جاولي على أصحابه فهزموهم، واستباحوا ثقلهم وسوادهم، فلما رأى قلج أرسلان انهزام عسكره علم أنه إن أسر فعل به فعل من يترك للصلح موضعاً، لا سيما وقد نازع السلطان في بلاده، واسم السلطنة، فألقى نفسه في الخابور، وحمى نفسه من أصحاب جاولي بالنشاب، فانحدر به الفرس إلى ماء عميق فغرق، وظهر بعد أيام فدفن بالشمسانية وهي من قرى الخابور.
وسار جاولي إلى الموصل، ولما وصل إليها فتح أهلها له بابها، ولم يتمكن من بها من أصحاب قلج أرسلان من منعهم، ونزل بظاهر البلد، وأخذ كل واحد من أصحاب جكرمش الذين حضروا الوقعة مع قلج أرسلان إلى جهة. فلما ملك جاولي الموصل أعاد خطبة السلطان محمد، وصادر جماعة من بها من أصحاب جكرمش، وسار إلى جزيرة ابن عمر، وبها حبشي بن جكرمش، ومعه أمير من غلمان أبيه اسمه غزغلي، فحصره مدة، ثم إنهم صالحوه، وحملوا إليه ستة آلاف دينار، وغيرها من الدواب والثياب، ورحل عنهم إلى الموصل، وأرسل ملكشاه بن قلج أرسلان إلى السلطان محمد.
ذكر أحوال الباطنية بأصبهان وقتل ابن عطاش
في هذه السنة ملك السلطان محمد القلعة التي كان الباطنية ملكوها بالقرب من أصبهان، واسمها شاه دز، وقتل صاحبها أحمد بن عبد الملك بن عطاش، وولده، وكانت هذه القلعة قد بناها ملكشاه، واستولى عليها بعده أحمد بن عبد الملك بن عطاش.
وسبب ذلك أنه اتصل بدزدار كان لها، فلما مات استولى أحمد عليها، وكان الباطنية بأصبهان قد ألبسوه تاجاً، وجمعوا له أموالاً، وإنما فعلوا ذلك به لتقدم أبيه عبد الملك في مذهبهم، فإنه كان أديباً بليغاً، حسن الخط، سريع البديهة، عفيفاً، وابتلي بحب هذا المذهب، وكان ابنه أحمد هذا جاهلاً لا يعرف شيئاً، وقيل لابن الصباح، صاحب قلعة ألموت: لماذا تعظم ابن عطاش مع جهله؟ قال: لمكان أبيه، لأنه أستاذي.
وصار لابن عطاش عدد كثير، وبأس شديد، واستفحل أمره بالقلعة، فكان يرسل أصحابه لقطع الطريق، وأخذ الأموال، وقتل من قدروا على قتله، فقتلوا خلقاً كثيراً لا يمكن إحصاؤهم، وجعلوا له على القرى السلطانية وأملاك الناس ضرائب يأخذونها ليكفوا عنها الأذى، فتعذر بذلك انتفاع السلطان بقراه، والناس بأملاكهم، وتمشى لهم الأمر بالخلف الواقع بين السلطانين بركيارق ومحمد.
فلما صفت السلطنة لمحمد، ولم يبق له منازع، لم يكن عنده أمر أهم من قصد الباطنية وحربهم، والانتصاف للمسلمين من جورهم وعسفهم، فرأى البداية بقلعة أصبهان التي بأيديهم، لأن الأذى بها أكثر، وهي متسلطة على سرير ملكه، فخرج بنفسه فحاصرهم في سادس شعبان.
وكان قد عزم على الخروج أول رجب، فساء ذلك من يتعصب لهم من العسكر، فأرجفوا أن قلج أرسلان بن سليمان قد ورد بغداد وملكها، وافتعلوا في ذلك مكاتبات، ثم أظهروا أن خللاً قد تجدد بخراسان، فتوقف السلطان لتحقيق الأمر، فلما ظهر بطلانه عزم عزيمة مثله، وقصد حربهم، وصعد جبلاً يقابل القلعة من غربيها، ونصب له التخت في أعلاه، واجتمع له من أصبهان وسوادها لحربهم الأمم العظيمة للذحول التي يطالبونهم بها، وأحاطوا بجبل القلعة ودوره أربعة فراسخ، ورتب الأمراء لقتالهم، فكان يقاتلهم كل يوم أمير، فضاق الأمر بهم، واشتد الحصار عليهم، وتعذرت عندهم الأقوات.
فلما اشتد الأمر عليهم كتبوا فتوى فيها ما يقول السادة الفقهاء أئمة الدين في قوم يؤمنون بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، وإن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، حق وصدق، وإنما يخالفون في الإمام: هل يجوز للسلطان مهادنتهم وموادعتهم، وأن يقبل طاعتهم، ويحرسهم من كل أذى؟ فأجاب أكثر الفقهاء بجواز ذلك، وتوقف بعضهم، فجمعوا للمناظرة، ومعهم أبو الحسن علي بن عبد الرحمن السمنجاني، وهو من شيوخ الشافعية، فقال، بمحضر من الناس، يجب قتالهم، ولا يجوز إقرارهم بمكانهم، ولا ينفعهم التلفظ بالشهادتين، فإنهم يقال لهم: أخبرونا عن إمامكم، إذا أباح لكم ما حظره الشرع، أو حظر عليكم ما أباحه الشرع أتقبلون أمره؟ فإنهم يقولون نعم، وحينئذ تباح دماؤهم بالإجماع. وطالت المناظرة في ذلك.
ثم إن الباطنية سألوا السلطان أن يرسل إليهم من يناظرهم، وعينوا على أشخاص من العلماء منهم القاضي أبو العلاء صاعد بن يحيى، شيخ الحنفية بأصبهان، وقاضيها، وغيره، فصعدوا إليهم وناظروهم، وعادوا كما صعدوا، وإنما كان قصدهم التعلل والمطاولة، فلج حينئذ السلطان في حصرهم، فلما رأوا عين المحاقة أذعنوا إلى تسليم القلعة على أن يعطوا عوضاً عنها قلعة خالنجان، وهي على سبعة فراسخ من أصبهان، وقالوا: إنا نخاف على دمائنا وأموالنا من العامة، فلا بد من مكان نحتمي به منهم، فأشير على السلطان بإجابتهم إلى ما طلبوا، فسألوا أن يؤخرهم إلى النوروز ليرحلوا إلى خالنجان ويسلموا قلعتهم، وشرطوا أن لا يسمع قول متنصح فيهم، وإن قال أحد عنهم شيئاً سلمه إليهم، وأن ما أتاه منهم رده إليهم، فأجابهم إليه، وطلبوا أن يحمل إليهم من الإقامة ما يكفيهم يوماً بيوم، فأجيبوا إليه في كل هذا، وقصدهم المطاولة انتظاراً لفتق أو حادث يتجدد.
ورتب لهم وزير السلطان سعد الملك ما يحمل إليهم كل يوم من الطعام والفاكهة، وجميع ما يحتاجون إليه، فجعلوا هم يرسلون، ويبتاعون من الأطعمة ما يجمعونه ليمتنعوا في قلعتهم، ثم إنهم وضعوا من أصحابهم من يقتل أميراً كان يبالغ في قتالهم، فوثبوا عليه وجرحوه، وسلم منهم، فحينئذ أمر السلطان بإخراب قلعة خالنجان، وجدد الحصار عليهم، فطلبوا أن ينزل بعضهم، ويرسل السلطان معهم من يحميهم إلى أن يصلوا إلى قلعة الناظر بأرجان، وهي لهم، وينزل بعضهم، ويرسل معهم من يوصلهم إلى طبس، وأن يقيم البقية منهم في ضرس من القلعة، إلى أن يصل إليهم من يخبرهم بوصول أصحابهم، فينزلون حينئذ، ويرسل معهم من يوصلهم إلى ابن الصباح بقلعة ألموت، فأجيبوا إلى ذلك، فنزل منهم إلى الناظر، وإلى طبس، وساروا، وتسلم السلطان القلعة وخربها.
ثم إن الذين ساروا إلى قلعة الناظر وطبس منهم من أخبر ابن عطاش بوصولهم، فلم يسلم السن الذي بقي بيده، ورأى السلطان منه الغدر، والعود عن الذي قرره، فأمر بالزحف إليه، فزحف الناس عامة ثاني ذي القعدة، وكان قد قل عنده من يمنع ويقاتل، فظهر منهم صبر عظيم، وشجاعة زائدة، وكان قد استأمن إلى السلطان إنسان من أعيانهم، فقال لهم: إني أدلكم على عورة لهم، فأتى بهم إلى جانب لذلك السن لهم لا يرام، فقال لهم: اصعدوا من هاهنا، فقيل إنهم قد ضبطوا هذا المكان وشحنوه بالرجال، فقال: إن الذي ترون أسلحة وكزاغندات قد جعلوها كهيئة الرجال لقلتهم عندهم.
وكان جميع من بقي ثمانين رجلاً، فزحف الناس من هناك، فصعدوا منه، وملكوا الموضع، وقتل أكثر الباطنية، واختلط جماعة منهم مع من دخل، فخرجوا معهم، وأما ابن عطاش فإنه أخذ أسيراً، فترك أسبوعاً، ثم إنه أمر به فشهر في جميع البلد، وسلخ جلده، فتجلد حتى مات، وحشي جدله تبناً، وقتل ولده، وحمل رأساهما إلى بغداد، وألقت زوجته نفسها من رأس القلعة فهلكت، وكان معها جواهر نفيسة لم يوجد مثلها، فهلكت أيضاً وضاعت، وكانت مدة البلوى بابن عطاش اثنتي عشرة سنة.
ذكر الخلف بين سيف الدولة صدقة ومهذب الدولة صاحب البطيحةفي هذه السنة اختلف سيف الدولة صدقة بن مزيد، ومهذب الدولة السعيد ابن أبي الجبر، صاحب البطيحة، وانضاف حماد بن أبي الجبر إلى صدقة، وأظهر معاداة ابن عمه مهذب الدولة، ثم اتفقوا.
وكان سبب ذلك أن صدقة لما أقطعه السلطان محمد مدينة واسط ضمنها منه مهذب الدولة، واستناب في الأعمال أولاده وأصحابه، فمدوا أيديهم في الأموال، وفرطوا فيها، وفرقوها، فلما انقضت السنة طالبه صدقة بالمال، وحبسه، ثم سعى في خلاصه بدران بن صدقة، وهو صهر مهذب الدولة، فأخرجه من الحبس وأعاده إلى بلده البطيحة.
وضمن حماد بن أبي الجبر واسط، فانحل على مهذب الدولة كثير من أمره، فآل الأمر إلى الاختلاف بعد الاتفاق، فإن المصطنع إسماعيل، جد حماد، والمختص محمداً، والد مهذب الدولة، أخوان، وهما ابنا أبي الجبر، وكانت إليهما رئاسة أهلهما وجماعتهما، فهلك المصطنع، وقام ابنه أبو السيد المظفر، والد حماد، مقامه وهلك المختص محمد، وقام ابنه مهذب الدولة مقامه، وصارا يتنازعان ابن الهيثم، صاحب البطيحة، ويقاتلانه إلى أن أخذه مهذب الدولة، أيام كوهرائين، وسلمه إلى كوهرائين، فحمله إلى أصبهان، فهلك في طريقها. فعظم أمر مهذب الدولة، وصيره كوهرائين أمير البطيحة، فصار ابن عمه وجماعة تحت حكمه.
وكان حماد شاباً، فأكرمه مهذب الدولة، وزوجه بنتاً له، وزاد في إقطاعه، فكثر ماله، فصار يحسد مهذب الدولة، ويضمر بغضه، وربما ظهر في بعض الأوقات، وكان مهذب الدولة يداريه بجهده، فلما هلك كوهرائين انتقل حماد عن مهذب الدولة، وأظهر ما في نفسه، فاجتهد مهذب الدولة في إعادته إلى ما كان، فلم يفعل، فسكت عنه، فجمع النفيس بن مهذب الدولة جمعاً وقصد حماداً، فهرب منه إلى سيف الدولة بالحلة، فأعاده صدقة ومعه جماعة من الجند، فحشد مهذب الدولة، فأرسل حماد إلى صدقة يعرفه ذلك، فأرسل إليه كثيراً من الجند، فقوي عزم مهذب الدولة على المحاربة لئلا يظن به العجز، فأشار عليه أهله بترك الخروج من موضعه لحصانته، فلم يفعل، وسير سفنه وأصحابه في الأنهر، فجعل حماد وأخوه له الكمناء، واندفعوا من بين أيديهم، فطمع أصحاب مهذب الدولة وتبعوهم، فخرج عليهم الكمناء، فلم يسلم منهم إلا من لم يحضر أجله، فقتل منهم وأسر خلق كثير، فقوي طمع حماد، وأرسل إلى صدقة يستنجده، فأرسل إليه مقدم جيشه سعيد بن حميد العمري، وغيره من المقدمين، وجمعوا السفن ليقاتلوا مهذب الدولة، فرأوا أمراً محكماً، فلم يمكنهم الدخول إليه.
وكان حماد بخيلاً، ومهذب الدولة جواداً، فأرسل إلى سعيد بن حميد الإقامات الوافرة، والصلات الكثيرة، واستماله، فمال إليه، واجتمع به، وتقرر الأمر على أن أرسل مهذب الدولة ابنه النفيس إلى صدقة، فرضي عنه، وأصلح بينهم وبين حماد ابن عمهم، وعادوا إلى حال حسنة من الاتفاق، وكان صلحهم في ذي الحجة سنة خمسمائة.
ذكر قتل وزير السلطان أحمد بن نظام الملكفي شوال من هذه السنة قبض السلطان محمد على وزيره سعد الملك أبي المحاسن، وأخذ ماله، وصلبه على باب أصبهان، وصلب معه أربعة نفر من أعيان أصحابه والمنتمين إليه، وأما الوزير فنسب إلى خيانة السلطان، وأما الآربعة فنسبوا إلى اعتقاد الباطنية، وكانت مدة وزارته سنتين وتسعة أشهر، وكان في ابتداء حاله يصحب تاج الملك أبا الغنائم، وتعطل بعده، ثم استعمله مؤيد الملك بن نظام الملك، فجعله على ديوان الاستيفاء، وخدم السلطان محمداً لما حصره أخوه السلطان بركيارق بأصبهان خدمة حسنة، ولما فارقها محمد حفظها الحفظ التام، وقام المقام العظيم، فاستوزره محمد، ووسع له في الإقطاع، وحكمه في دولته، ثم نكبه، وهذا آخر خدمة الملوك، وما أحسن ما قال عبد الملك بن مروان: أنعم الناس عيشاً من له ما يكفيه، وزوجة ترضيه، ولا يعرف أبوابنا هذه الخبيثة فتؤذيه.
ولما قبض الوزير استشار السلطان في من يجعله وزيراً، فذكر له جماعة، فقال السلطان: إن آبائي دروا على نظام الملك البركة، ولهم عليه الحق الكثير، وأولاده أغذياء نعمتنا، ولا معدل عنهم. فأمر لأبي نصر أحمد هذا بالوزارة، ولقب ألقاب أبيه: قوام الدين، نظام الملك، صدر الإسلام.
وكان سبب قدومه إلى باب السلطان أنه لما رأى انقراض دولة أهل بيته لزم داره بهمذان، فاتفق أن رئيس همذان، وهو الشريف أبو هاشم، آذاه، فسار إلى السلطان شاكياً منه ومتظلماً، فقبض السلطان على الوزير، وحكمه ومكنه، وقوي أمره، وهذا من الفرج بعد الشدة، فإنه حضر شاكياً، فصار حاكماً.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في صفر، عزل الوزير أبو القاسم علي بن جهير، وزير الخليفة، فقصد دار سيف الدولة صدقة ببغداد ملتجئاً إليها، وكانت ملجأ لكل ملهوف، فأرسل إليه صدقة من أخذه إليه إلى الحلة، وكانت وزارته ثلاث سنين وخمسة أشهر وأياماً، وأمر الخليفة بنقض داره التي بباب العامة، وفيها عبرة، فإن أباه أبا نصر بن جهير بناها بأنقاض أملاك الناس، وأخذ، بسببها، أكثر ما دخل فيها، فخربت عن قريب.
ولما عزل استنيب قاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني، ثم تقررت الوزارة في المحرم من سنة إحدى وخمسمائة أبي المعالي هبة الله بن محمد بن المطلب، وخلع عليه فيه.
وفيها، في شوال، توفي الأمير أبو الفوارس سرخاب بن بدر بن مهلهل، المعروف بابن أبي الشوك الكردي، وكانت له أموال كثيرة، وخيول لا تحصى، وولي الإمرة بعده أبو منصور بن بدر، وقام مقامه، وبقيت الإمارة في بيته مائة وثلاثين سنة، وقد تقدم من أخباره ما فيه كفاية.
وفي هذه السنة توفي أبو الفتح أحمد بن محمد بن أحمد بن سعيد الحداد الأصبهاني ابن أخت عبد الرحمن بن أبي عبد الله بن مندة، ومولده سنة ثمان وأربعمائة، وكان مكثراً من الحديث، مشهوراً بالرواية.
وفيها توفي أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج البغدادي في صفر، وهو مكثر من الرواية، وله تصانيف حسنة، وأشعار لطيفة، وهو من أعيان الزمان، وعبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب أبو محمد الشيرازي، الفقيه، ولي التدريس بالنظامية ببغداد سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، وكان يروي الحديث أيضاً، وأبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي المعروف بابن الطيوري البغدادي، ومولده سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وكان مكثراً من الحديث ثقة صالحاً عابداً، وأبو الكرم المبارك بن الفاخر بن محمد بن يعقوب النحوي، سمع الحديث من أبي الطيب الطبري، والجوهري، وغيرهما، وكان إماماً في النحو واللغة.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسمائة
ذكر قتل صدقة بن مزيدفي هذه السنة، في رجب، قتل الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد الأسدي، أمير العرب، وهو الذي بنى الحلة السيفية بالعراق، وكان قد عظم شأنه، وعلا قدره، واتسع جاهه، واستجار به صغار الناس وكبارهم، فأجابهم.
وكان كثير العناية بأمور السلطان محمد، والتقوية ليده، والشد منه على أخيه بركيارق، حتى إنه جاهر بركيارق بالعداوة، ولم يبرح على مصافاة السلطان محمد، وزاده محمد إقطاعاً من جملته مدينة واسط، وأذن له في أخذ البصرة. ثم أفسد ما بينهما العميد أبو جعفر محمد بن الحسين البلخي، وقال في جملة ما قال عنه: إن صدقة قد عظم أمره، وزاد حاله، وكثر إدلاله، ويبسط في الدولة حمايته على كل من يفر إليه من عند السلطان، وهذا لا تحتمله الملوك لأولادهم، ولو أرسلت بعض أصحابك لملك بلاده وأمواله.
ثم إنه تعدى ذلك حتى طعن في اعتقاده، ونسبه وأهل بلده إلى مذهب الباطنية، وكذب، وإنما كان مذهبه التشيع لا غير، ووافق أرغون السعدي أبا جعفر العميد وانتهى ذلك إلى صدقة، وكانت زوجة أرغون بالحلة وأهله، فلم يؤاخذهم بشيء مما كان له أيضاً هناك من بقايا خراج ببلده، فأمر صدقة أن يخلص ذلك إليه بأجمعه ويسلم إلى زوجته.
وأما سبب قتله فإن صدقة كان، كما ذكرنا، يستجير به كل خائف من خليفة وسلطان وغيرهما، وكان السلطان محمد قد سخط على أبي دلف سرخاب بن كيخسرو، صاحب ساوة وآبة، فهرب منه وقصد صدقة فاستجار به، فأجاره، فأرسل السلطان يطلب من صدقة أن يسلمه إلى نوابه، فلم يفعل، وأجاب: إنني لا أمكن منه بل أحامي عنه، وأقول ما قاله أبو طالب لقريش لما طلبوا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ونسلمه، حتى نصرع حوله، ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وظهر منه أمور أنكرها السلطان فتوجه إلى العراق ليتلافى هذا الأمر، فلما سمع صدقة استشار أصحابه في الذي يفعله، فأشار عليه ابنه دبيس بأن ينفذه إلى السلطان ومعه الأموال، والخيل، والتحف، ليستعطف له السلطان، وأشار سعيد بن حميد، صاحب جيش صدقة، بالمحاربة، وجمع الجند، وتفريق المال فيهم، واستطال في القول، فمال صدقة إلى قوله، وجمع العساكر، واجتمع إليه عشرون ألف فارس، وثلاثون ألف راجل، فأرسل إليه المستظهر بالله يحذره عاقبة أمره، وينهاه عن الخروج عن طاعة السلطان، ويعرض له توسط الحال، فأجاب صدقة: إنني على طاعة السلطان، لكن لا آمن على نفسي في الاجتماع به، وكان الرسول بذلك عن الخليفة نقيب النقباء علي بن طراد الزينبي.
ثم أرسل السلطان أقضى القضاة أبا سعيد الهروي إلى صدقة يطيب قلبه، ويزيل خوفه، ويأمره بالانبساط على عادته، ويعزمه عزمه على قصد الفرنج، ويأمره بالتجهز للغزاة معه. فأجاب: إن السلطان قد أفسد أصحابه قلبه علي، وغيروا حالي معه، وأزال ما كان عليه في حقي من الإنعام، وذكر سالف خدمته ومناصحته، وقال سعيد بن حميد، صاحب جيشه: لم يبق لنا في صلح السلطان مطمع، ولترون خيولنا بحلوان، وامتنع صدقة من الاجتماع بالسلطان.
ووصل السلطان إلى بغداد في العشرين من ربيع الآخر، ومعه وزيره نظام الملك بن أحمد بن نظام الملك، وسير البرسقي، شحنة بغداد، في جماعة من الأمراء إلى صرصر، فنزلوا عليها.
وكان وصول السلطان، جريدة، لا يبلغ عسكره ألفي فارس، فلما تيقن ببغداد مكاشفة صدقة، أرسل إلى الأمراء يأمرهم بالوصول إليه والجد في السير، وتعجيل ذلك، فوردوا إليه من كل جانب.
ثم وصل كتاب صدقة إلى الخليفة، في جمادى الأولى، يذكر أنه واقف عند ما يرسم له ويقرر من حاله مع السلطان، ومهما أمرته من ذلك امتثله، فأنفذ الخليفة الكتاب إلى السلطان، فقال السلطان: أنا ممتثل ما يأمر به الخليفة، ولا مخالفة عندي. فأرسل الخليفة إلى صدقة يعرفه إجابة السلطان إلى ما طلب منه، ويأمره بإنفاذ ثقته ليستوثق له، ويحلف السلطان على ما يقع الاتفاق عليه. فعاد صدقة عن ذلك الرأي، وقال: إذا رحل السلطان عن بغداد أمددته بالمال والرجال، وما يحتاج إليه في الجهاد، وأما الآن، وهو ببغداد، وعسكره بنهر الملك، فما عندي مال ولا غيره، وإن جاولي سقاوو، وإيلغازي بن أرتق، قد أرسلا إلي بالطاعة لي والموافقة معي على محاربة السلطان وغيره، ومتى أردتهما وصلا إلي في عساكرهما.
وورد إلى السلطان قرواش بن شرف الدولة، وكرماوي بن خراسان التركماني، وأبو عمران فضل بن ربيعة بن حازم بن الجراح الطائي، وأباؤه كانوا أصحاب البلقاء والبيت المقدس منهم: حسان بن المفرج الذي مدحه التهامي، وكان فضل تارة مع الفرنج، وتارة مع المصريين، فلما رآه طغتكين أتابك على هذه الحال طرده من الشام، فلما طرده التجأ إلى صدقة وعاقده، فأكرمه صدقة، وأهدى له هدايا كثيرة منها سبعة آلاف دينار عيناً.
فلما كانت هذه الحادثة بني صدقة والسلطان سار في الطلائع، ثم هرب إلى السلطان، فلما وصل خلع عليه وعلى أصحابه، وأنزله بدار صدقة ببغداد، فلما سار السلطان إلى قتال صدقة استأذنه فضل في إتيان البرية ليمنع صدقة من الهرب إن أراد ذلك، فأذن له، فعبر بالأنبار وكان آخر العهد به.
وأنفذ السلطان في جمادى الأولى إلى واسط الأمير محمد بن بوقا التركماني، فأخرج عنها نائب صدقة، وأمن الناس كلهم، إلا أصحاب صدقة، فتفرقوا، ولم ينهب أحد، وأنفذ خيله إلى بلد قوسان، وهو من أعمال صدقة، فنهبه أقبح نهب، وأقام عدة أيام، فأرسل صدقة إليه ثابت بن سلطان، وهو ابن عم صدقة، ومعه عسكر، فلما وصلوا إليها خرج منها الأتراك، وأقام ثابت بها، وبينه وبينهم دجلة.
ثم إن بوقا عبر جماعة من الجند ارتضاهم، وعرف شجاعتهم، فوقفوا على موضع مرتفع على نهر سالم، يكون ارتفاعه نحو خمسين ذراعاً، فقصدهم ثابت وعسكره فلم يقدروا أن يقربوا الترك من النشاب، والمدد يأتيهم من ابن بوقا، وجرح ثابت في وجهه، وكثرت الجراح في أصحابه، فانهزم هو ومن معه، وتبعهم الأتراك، فقتلوا منهم وأسروا، ونهب طائفة من الترك مدينة واسط، واختلط بهم رجالة ثابت، فنهبت معهم، فسمع ابن بوقا الخبر، فركب إليهم ومنعهم، وقد نهبوا بعض البلد، ونادى في الناس بالأمان، وأقطع السلطان، أواخر جمادى الأولى، مدينة واسط لقسيم الدولة البرسقي وأمر ابن بوقا بقصد بلد صدقة ونهبه، فنهبوا فيه ما لا يحد.
وأما السلطان محمد فإنه سار عن بغداد إلى الزعفرانية، ثاني جمادى الآخرة، فأرسل إليه الخليفة وزيره مجد الدين بن المطلب يأمره بالتوقف، وترك العجلة خوفاً على الرعية من القتل والنهب، وأشار قاضي أصبهان بذلك، واتباع أمر الخليفة، فأجاب السلطان إلى ذلك، فأرسل الخليفة إلى صدقة نقيب النقباء علي بن طراد، وجمال الدولة مختصاً الخادم، فسارا إلى صدقة فأبلغاه رسالة الخليفة يأمره بطاعة السلطان، وينهاه عن المخالفة، فاعتذر صدقة، وقال: ما خالفت الطاعة، ولا قطعت الخطبة في بلدي. وجهز ابنه دبيساً ليسير معهما إلى السلطان.
فبينما الرسل وصدقة في هذا الحديث، إذ ورد الخبر أن طائفة من عسكر السلطان قد عبروا من مطيراباذ، وأن الحرب بينهم وبين أصحاب صدقة قائمة على ساق، فتجلد صدقة لأجل الرسل، وهو يشتهي الركوب إلى أصحابه خوفاً عليهم، وكان الرسل إذا سمعوا ذلك ينكرونه لأنهم قد تقدموا إلى العسكر، عند عبورهم عليهم، أنه لا يتعرض أحد منهم إلى حرب، حتى نعود، فإن الصلح قد قارب. فقال صدقة للرسول: كيف أثق أرسل ولدي الآن، وكيف آمن عليه، وقد جرى ما ترون؟ فإن تكفلتم برده إلي أنفذته. فلم يتجاسروا على كفالته، فكتب إلى الخليفة يعتذر عن إنفاذ ولده بما جرى.
وكان سبب هذه الوقعة أن عسكر السلطان لما رأوا الرسل اعتقدوا وقوع الصلح، فقال بعضهم: الرأي أننا ننهب شيئاً قبل الصلح، فأجاب البعض وامتنع البعض، فعبر من أجاب النهر، ولم يتأخر من لم يجب لئلا ينسب إلى خور وجبن، ولئلا يتم على من عبر وهن، فيكون عاره وأذاه عليهم، فعبروا بعدهم أيضاً، فأتاهم أصحاب صدقة وقاتلوهم، فكانت الهزيمة على الأتراك، وقتل منهم جماعة كثيرة، وأسر جماعة من أعيانهم، وكثير من غيرهم، وغرق جماعة منهم: الأمير محمد بن باغي سيان الذي كان أبوه صاحب أنطاكية، وكان عمره نيفاً وعشرين سنة، وكان محباً للعلماء وأهل الدين، وبنى بإقطاعه من أذربيجان عدة مدارس. ولم يجسر الأتراك على أن يعرفوا السلطان بما أخذ منهم من الأموال والدواب خوفاً منه، حيث فعلوا ذلك بغير أمره.
وطمع العرب بهذه الهزيمة، وظهر منهم الفخر والتيه والطمع، وأظهروا أنهم باعوا كل أسير بدينار، وأن ثلاثة باعوا أسيراً بخمسة قراريط وأكلوا خبزاً وهريسة، وجعلوا ينادون: من يتغدى بأسير، ويتعشى بآخر؟ وظهر من الأتراك اضطراب عظيم.
وأعاد الخليفة مكاتبة صدقة بتحرير أمر الصلح، فأجاب أنه لا يخالف ما يؤمر به، وكتب صدقة أيضاً إلى السلطان يعتذر مما نقل عنه، ومن الحرب التي كانت بين أصحابه وبين الأتراك، وأن جند السلطان عبرت إلى أصحابه، فمنعوا عن أنفسهم بغير علمه، وأنه لم يحضر الحرب، ولم ينزع يداً من طاعة، ولا قطع خطبته من بلده.
ولم يكن صدقة كاتبه قبل هذا الكتاب، فأرسل الخليفة نقيب النقباء، وأبا سعد الهروي إلى صدقة، فقصدا السلطان أولاً، وأخذا يده بالأمان لمن يقصده من أقارب صدقة، فلما وصلا إلى صدقة وقالا له عن الخليفة: إن إصلاح قلب السلطان موقوف على إطلاق الأسرى، ورد جميع ما أخذ من العسكر المنهزم، فأجاب أولاً بالخضوع والطاعة، ثم قال: لوقدرت على الرحيل من بين يدي السلطان لفعلت، لكن ورائي من ظهري، وظهر أبي وجدي، ثلاثمائة امرأة، ولا يحملهن مكان، ولو علمت أنني إذا جئت السلطان مستسلماً قبلني واستخدمني لفعلت، لكنني أخاف أنه لا يقبل عثرتي، ولا يعفو عن زلتي.
وأما ما نهب فإن الخلق كثير، وعندي من لا أعرفه، وقد نهبوا ودخلوا البر، فلا طاقة لي عليهم، ولكن إذا كان السلطان لا يعارضني فيما في يدي، ولا فيمن أجرته، وأن يقر سرخاب بن كيخسرو على إقطاعه بساوة، وأن يتقدم إلى ابن بوقا بإعادة ما نهب من بلادي، وأن يخرج وزير الخليفة يحلفه بما أثق به من الأيمان على المحافظة فيما بيني وبينه، فحينئذ أخدم بالمال، وأدوس بساطه بعد ذلك.
فعادوا بهذا، ومعهم أبو منصور بن معروف، رسول صدقة، فردهم الخليفة، وأرسل السلطان معهم قاضي أصبهان أبا إسماعيل، فأما أبو إسماعيل فلم يصل إليه، وعاد من الطريق، وأصر صدقة على القول الأول. فحينئذ سار السلطان، ثامن رجب، من الزعفرانية، وسار صدقة في عساكر إلى قرية مطر، وأمر جنده بلبس السلاح، واستأمن ثابت بن سلطان بن دبيس بن علي بن مزيد، وهو ابن عم صدقة، إلى السلطان محمد، وكان يحسد صدقة، وهو الذي تقدم ذكره أنه كان بواسط، فأكرمه السلطان، وأحسن إليه، ووعده الإقطاع.
ووردت العساكر إلى السلطان منهم: بنو برسق، وعلاء الدولة أبو كاليجار كرشاسب بن علي بن فرامرز أبي جعفر بن كاكويه وآباؤه كانوا أصحاب أصبهان، وفرامرز هو الذي سلمها إلى طغرلبك، وقتل أبوه مع تتش.
وعبر عسكر السلطان دجلة، ولم يعبر هو، فصاروا مع صدقة على أرض واحدة، بينهما نهر، والتقوا تاسع رجب، وكانت الريح في وجوه أصحاب السلطان، فلما التقوا صارت في ظهورهم، وفي وجوه أصحاب صدقة، ثم إن الأتراك رموا بالنشاب، فكان يخرج في كل رشقة عشرة آلاف نشابة، فلم يقع سهم إلا في فرس أو فارس، وكان أصحاب صدقة كلما حملوا منعهم النهر من الوصول إلى الأتراك والنشاب، ومن عبر منهم لم يرجع، وتقاعدت عبادة وخفاجة، وجعل صدقة ينادي: يا آل خزيمة، يا آل ناشرة، يا آل عوف، ووعد الأكراد بكل جميل لما ظهر من شجاعتهم، وكان راكباً على فرسه المهلوب، ولم يكن لأحد مثله، فجرح الفرس ثلاث جراحات، وأخذه الأمير أحمديل بعد قتل صدقة، فسيره إلى بغداد في سفينة، فمات في الطريق.
وكان لصدقة فرس آخر قد ركبه حاجبه أبو نصر بن تفاحة، فلما رأى الناس وقد غشوا صدقة هرب عليه، فناداه صدقة، فلم يجبه، وحمل صدقة على الأتراك، وضربه غلام منهم على وجهه فشوهه، وجعل يقول: أنا ملك العرب، أنا صدقة! فأصابه سهم في ظهره، وأدركه غلام اسمه بزغش، كان أشل، فتعلق به، وهو لا يعرفه، وجذبه عن فرسه، فسقط إلى الأرض هو والغلام، فعرفه صدقة، فقال: يا بزغش ارفق، فضربه بالسيف فقتله، وأخذ رأسه وحمله إلى البرسقي، فحمله إلى السلطان، فلما رآه عانقه، وأمر لبزغش بصلة.
وبقي صدقة طريحاً إلى أن سار السلطان، فدفنه إنسان من المدائن. وكان عمره تسعاً وخمسين سنة، وكانت إمارته إحدى وعشرين سنة، وحمل رأسه إلى بغداد، وقتل من أصحابه ما يزيد على ثلاثة آلاف فارس، فيهم جماعة من أهل بيته، وقتل من بني شيبان خمسة وتسعون رجلاً، وأسر ابنه دبيس بن صدقة، وسرخاب بن كيخسرو الديلمي الذي كانت هذه الحرب بسببه، فأحضر بين يدي السلطان، فطلب الأمان، فقال: قد عاهدت الله أنني لا أقتل أسيراً، فإن ثبت عليك أنك باطني قتلتك، وأسر سعيد بن حميد العمري، صاحب جيش صدقة، وهرب بدران بن صدقة إلى الحلة، فأخذ من المال وغيره ما أمكنه، وسير أمه ونساءه إلى البطيحة إلى مهذب الدولة أبي العباس أحمد بن أبي الجبر، وكان بدران صهر مهذب الدولة على ابنته، ونهب من الأموال ما لا حد عليه.
وكان له من الكتب المنسوبة الخط شيء كثير، ألوف مجلدات، وكان يحسن يقرأ، ولا يكتب، وكان جواداً، حليماً، صدوقاً، كثير البر والإحسان، ما برح ملجأ لكل ملهوف، يلقى من يقصده بالبر والتفضل، ويبسط قاصديه، ويزورهم، وكان عادلاً، والرعايا معه في أمن ودعة، وكان عفيفاً لم يتزوج على امرأته، ولا تسرى عليها، فما ظنك بغير هذا؟ ولم يصادر أحداً من نوابه، ولا أخذهم بإساءة قديمة، وكان أصحابه يودعون أموالهم في خزانته، ويدلون عليه إدلال الولد على الوالد، ولم يسمع برعية أحبت أميرها كحب رعيته له.
وكان متواضعاً، محتملاً، يحفظ الأشعار، ويبادر إلى النادرة، رحمه الله، لقد كان من محاسن الدنيا.
وعاد السلطان إلى بغداد، ولم يصل إلى الحلة، وأرسل إلى البطيحة أماناً لزوجة صدقة، وأمرها بالظهور فأصعدت إلى بغداد، فأطلق السلطان ابنها دبيساً، وأنفذ معه جماعة من الأمراء إلى لقائها، فلما لقيها ابنها بكيا بكاء شديداً، ولما وصلت إلى بغداد أحضرها السلطان، واعتذر من قتل زوجها، وقال: وددت أنه حمل إلي حتى كنت أفعل معه ما يعجب الناس به من الجميل والإحسان، لكن الأقدار غلبتني. واستحلف ابنها دبيساً أنه لا يسعى بفساد.
ذكر وفاة تميم بن المعز صاحب إفريقية وولاية ابنه يحيىفي هذه السنة، في رجب، توفي تميم بن المعز بن باديس، صاحب إفريقية، وكان شهماً، شجاعاً، ذكياً، له معرفة حسنة، وكان حليماً، كثير العفو عن الجرائم العظيمة، وله شعر حسن، فمنه أنه وقعت حرب بين طائفتين من العرب، وهم عدي، ورياح، فقتل رجل من رياح، ثم اصطلحوا، وأهدروا دمه، وكان صلحهم مما يضر به وببلاده، فقال أبياتاً يحرض على الطلب بدمه، وهي:
متى كانت دماؤكم تطل ... أما فيكم بثأر مستقل
أغانم ثم سالم إن فشلتم، ... فما كانت أوائلكم تذل
وتمتم عن طلاب الثأر، حتى ... كأن العز فيكم مضمحل
وما كسرتم فيه العوالي، ... ولا بيض تفل، ولا تسل
فعمد إخوة المقتول فقتلوا أميراً من عدي، واشتد بينهم القتال، وكثرت القتلى، حتى أخرجوا بني عدي من إفريقية.
قيل: إنه اشترى جارية بثمن كثير، فبلغه أن مولاها الذي باعها ذهب عقله وأسف على فراقها، فأحضره تميم إلى بين يديه، وأرسل الجارية إلى داره، ومعها من الكسوات، والأواني الفضة، وغيرها، ومن الطيب، وغيره، شيء كثير، ثم أمر مولاها بالانصراف، وهو لا يعلم بذلك، فلما وصل إلى داره ورآها على تلك الحال وقع مغشياً عليه لكثرة سروره، ثم أفاق. فلما كان الغد أخذ الثمن، وجميع ما كان معها، وحمله إلى دار تميم، فانتهره، وأمره بإعادة جميع ذلك إلى داره.
وكان له في البلاد أصحاب أخبار يجري عليهم أرزاقاً سنية ليطالعوه بأحوال أصحابه لئلا يظلموا الناس، فكان بالقيروان تاجر له مال وثروة، فذكر في بعض الأيام التجار تميماً، ودعوا له، وذلك التاجر حاضر، فترحم على أبيه المعز، ولم يذكره، فرفع ذلك إلى تميم، فأحضره إلى قصره وسأله: هل ظلمتك؟ فقال: لا! قال: فهل ظلمك بعض أصحابي؟ قال: لا! قال: فلم أطلقت لسانك أمس بذمي؟ فسكت، فقال: لولا أن يقال شره في ماله لقتلتك، ثم أمر به فصفع في حضرته قليلاً، ثم أطلقه فخرج، وأصحابه ينتظرونه، فسألوه عن خبره، فقال: أسرار الملوك لا تذاع، فصارت بإفريقية مثلاً.
ولما توفي كان عمره تسعاً وسبعين سنة، وكانت ولايته ستاً وأربعين سنة وعشرة أشهر وعشرين يوماً، وخلف من الذكور ما يزيد على مائة، ومن البنات ستين بنتاً، ولما توفي ملك بعده ابنه يحيى بن تميم، وكانت ولادته بالمهدية لأربع بقين من ذي الحجة سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وكان عمره حين ولي ثلاثاً وأربعين سنة وستة أشهر وعشرين يوماً، ولما ولي فرق أموالاً جزيلة، وأحسن السيرة في الرعية.
ذكر ملك يحيى قلعة قليبيةلما ملك يحيى بن تميم بعد أبيه، جرد عسكراً كثيفاً إلى قلعة قليبية، وهي من أحصن قلاع إفريقية، فنزل عليها، وحصرها حصاراً شديداً، ولم يبرح حتى فتحها وحصنها، وكان أبوه تميم قد رام فتحها، فلم يقدر على ذلك، ولم يزل مظفراً، منصوراً، لم يهزم له جيش.
ذكر قدوم ابن عمار بغداد مستنفراً
في هذه السنة، في شهر رمضان، ورد القاضي فخر الملك أبو علي بن عمار، صاحب طرابلس الشام، إلى بغداد، قاصداً باب السلطان محمد، مستنفراً على الفرنج، طالباً تسيير العساكر لإزاحتهم، والذي حثه على ذلك أنه لما طال حصر الفرنج لمدينة طرابلس، على ما ذكرناه، ضاقت عليه الأقوات وقلت، واشتد الأمر عليه وعلى أهل البلد، فمن الله عليهم، سنة خمسمائة، بميرة في البحر من جزيرة قبرس، وأنطاكية، وجزائر البنادقة، فاشتدت قلوبهم وقووا على حفظ البلد، بعد أن كانوا استسلموا.
فلما بلغ فخر الملك انتظام الأمور للسلطان محمد وزوال كل مخالف رأى لنفسه وللمسلمين قصده والانتصار به، فاستناب بطرابلس ابن عمه ذا المناقب، وأمره بالمقام بها، ورتب معه الأجناد براً وبحراً، وأعطاهم جامكية ستة أشهر سلفاً، وجعل كل موضع إلى من يقوم بحفظه، بحيث أن ابن عمه لا يحتاج إلى فعل شيء من ذلك، وسار إلى دمشق، فأظهر ابن عمه الخلاف له، والعصيان عليه، ونادى بشعار المصريين، فلما عرف فخر الملك ذلك كتب إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه، وحمله إلى حصن الخوابي، ففعلوا ما أمرهم.
وكان ابن عمار قد استصحب معه من الهدايا ما لم يوجد عند ملك مثله من الأعلاق النفيسة، والأشياء الغريبة، والخيل الرائقة، فلما وصلها لقيه عسكرها، وطغتكين أتابك، وخيم على ظاهر البلد، وسأله طغتكين الدخول إليه، فدخل يوماً واحداً إلى الطعام، وأدخله حمامه، وسار عنها ومعه ولد طغتكين يشيعه.
فلما وصل إلى بغداد أمر السلطان الأمراء كافة بتلقيه وإكرامه، وأرسل إليه شبارته وفيها دسته الذي يجلس عليه ليركب فيها، فلما نزل إليها قعد بين يدي موضع السلطان، فقال له من بها من خواص السلطان: قد أمرنا أن يكون جلوسك في دست السلطان، فلما دخل على السلطان أجلسه، وأكرمه، وأقبل عليه بحديثه.
وسير الخليفة خواصه، وجماعة أرباب المناصب، فلقوه، وأنزله الخليفة وأجرى عليه الجراية العظيمة، وكذلك أيضاً فعل السلطان، وفعل معه ما لم يفعل مع الملوك الذين معهم أمثاله، وهذا جميعه ثمرة الجهاد في الدنيا، ولأجر الآخرة أكبر.
ولما اجتمع بالسلطان قدم هديته، وسأله السلطان عن حاله، وما يعانيه في مجاهدة الكفار، ويقاسيه من ركوب الخطوب في قتالهم، فذكر له حاله، وقوة عدوه، وطول حصره، وطلب النجدة، وضمن أنه إذا سيرت العساكر معه أوصل إليهم جميع ما يلتمسونه، فوعده السلطان بذلك، وحضر دار الخلافة، وذكر أيضاً نحواً مما ذكره عند السلطان، وحمل هدية جميلة نفيسة، وأقام إلى أن رحل السلطان عن بغداد في شوال، فأحضره عنده بالنهروان، وقد تقدم إلى الأمير حسين بن أتابك قتلغ تكين ليسير معه العساكر التي سيرها إلى الموصل مع الأمير مودود لقتال جاولي سقاوو، ليمضوا معه إلى الشام، وخلع عليه السلطان خلعاً نفيسة، وأعطاه شيئاً كثيراً، وودعه، وسار ومعه الأمير حسين فلم يجد ذلك نفعاً، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما أهل طرابلس فإنهم راسلوا الأفضل أمير الجيوش بمصر يلتمسون منه والياً يكون عندهم، ومعه الميرة في البحر، فسير إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب والياً، ومعه الغلة وغيرها مما تحتاج إليه البلاد في الحصار، فلما صار فيها قبض على جماعة من أهل ابن عمار وأصحابه، وأخذ ما وجده من ذخائره وآلاته وغير ذلك، وحمل الجميع إلى مصر في البحر.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في شعبان، أطلق السلطان محمد الضرائب والمكوس، ودار البيع، والاجتيازات، وغير ذلك مما يناسبه بالعراق، وكتبت به الألواح، وجعلت في الأسواق.
وفيها، في شهر رمضان، ولي القاضي أبو العباس بن الرطبي الحسبة ببغداد.
وفيه أيضاً عزل الخليفة وزيره مجد الدين بن المطلب برسالة من السلطان بذلك، ثم أعيد إلى الوزارة بإذن السلطان، وشرط عليه شروطاً منها: العدل، وحسن السيرة، وأن لا يستعمل أحداً من أهل الذمة.
وفيها عاد أصبهبذ صباوة من دمشق، وكان هرب عند قتل إياز، فلما قدم أكرمه السلطان، وأقطعه رحبة مالك بن طوق.
وفيها، سابع شوال، خرج السلطان إلى ظاهر بغداد، عازماً على العود إلى أصبهان، وكان مقامه هذه المرة خمسة أشهر وسبعة عشر يوماً.
وفيها، في ذي الحجة، احترقت خرابة ابن جردة، فهلك فيها كثير من الناس، وأما الأمتعة، والأموال، وأثاث البيوت، فهلك ما لا حد عليه، وخلص خلق بنقب نقبوه في سور المحلة إلى مقبرة باب أبرز، وكان بها جماعة من اليهود، فلم ينقلوا شيئاً لتمسكهم بسبتهم، وكان بعض أهله قد عبروا إلى الجانب الغربي للفرجة، على عادتهم في السبت الذي يلي العيد، فعادوا فوجدوا بيوتهم قد خربت، وأهلهم قد احترقوا، وأموالهم قد هلكت.
ثم تبع ذلك حريق في عدة أماكن منها: درب القيار، وقراح ابن رزين، فارتاع الناس لذلك، وبطلوا معايشتهم، وأقاموا ليلاً ونهاراً يحرسون بيوتهم في الدروب، وعلى السطوح، وجعلوا عندهم الماء المعد لإطفاء النار، فظهر أن سبب هذا الحريق أن جارية أحبت رجلاً، فوافقته على المبيت عندها في دار مولاها سراً، وأعدت له ما يسرقه إذا خرج، ويأخذها هي أيضاً معه، فلما أخذها طرحا النار في الدار، فخرجا، فأظهر الله عليهما، وعجل الفضيحة لهما، فأخذا وحبسا.
وفيها جمع بغدوين ملك الفرنج عسكره وقصد مدينة صور وحصرها، وأمر ببناء حصن عندها، على تل المعشوقة، وأقام شهراً محاصراً لها، فصانعه واليها على سبعة آلاف دينار، فأخذها ورحل عن المدينة، وقصد مدينة صيدا، فحصرها براً وبحراً ونصب عليها البرج الخشب، ووصل الأسطول المصري في الدفع عنها، والحماية لمن فيها، فقاتلهم أسطول الفرنج، فظهر المسلمون عليهم، فاتصل الفرنج مسير عسكر دمشق نجدة لأهل صيدا، فرحلوا عنها بغير فائدة.
وفيها ظهر كوكب عظيم له ذوائب، فبقي ليالي كثيرة ثم غاب.
توفي في هذه السنة، في شعبان، إبراهيم بن مياس بن مهدي أبو إسحاق القشيري الدمشقي، سمع الحديث الكثير من الخطيب البغدادي وغيره.
وتوفي في ذي القعدة أبو سعيد إسماعيل بن عمرو بن محمد النيسابوري المحدث، كان يقرأ الحديث للغرباء، قرأ صحيح مسلم على عبد الغافر الفارسي عشرين مرة.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسمائة
ذكر استيلاء مودود على الموصل
في هذه السنة، في صفر، استولى مودود، والعسكر الذي أرسله السلطان معه، على مدينة الموصل، وأخذوها من أصحاب جاولي سقاوو، وقد ذكرنا سنة خمسمائة استيلاء جاولي عليها، وما جرى بينه وبين جكرمش والملك قلج أرسلان، وهلاكهما على يده، وصار معه بعد ذلك العسكر الكثير، والعدة التامة، والأموال الكثيرة، وكان السلطان محمد قد جعل إليه ولاية كل بلد يفتحه، فاستولى على كثير من البلاد والأموال.
وكان سبب أخذ البلاد منه: أنه لما استولى عليها، وعلى الأموال الكثيرة منها، لم يحمل إلى السلطان منها شيئاً، فلما وصل السلطان إلى بغداد، لقصد بلاد سيف الدولة صدقة، أرسل إلى جاولي يستدعيه إليه بالعساكر، وكرر الرسل إليه، فلم يحضر، وغالط في الانحدار إليه، وأظهر أنه يخاف أن يجتمع به، ولم يقنع بذلك، حتى كاتب صدقة، وأظهر له أنه معه، ومساعده على حرب السلطان، وأطمعه في الخلاف والعصيان.
فلما فرغ السلطان من أمر صدقة، وقتله، كما ذكرناه، تقدم إلى الأمراء بني برسق، وسكمان القطبي، ومودود نب التونتكين، وآقسنقر البرسقي، ونصر بن مهلهل بن أبي الشوك الكردي، وأبي الهيجاء، صاحب إربل، بالمسير إلى الموصل، وبلاد جاولي، وأخذها منه، فتوجهوا نحو الموصل، فوجدوا جاولي عاصياً قد شيد سور الموصل، وأحكم ما بناه جكرمش، وأعد الميرة والأقوات والآلات، واستظهر على الأعيان بالموصل، فحبسهم، وأخرج من أحداثها ما يزيد على عشرين ألفاً، ونادى: متى اجتمع عاميان على الحديث في هذا الأمر قتلتهما، وخرج عن البلد، ونهب السواد.
وترك بالبلد زوجته ابنة برسق، وأسكنها القلعة، ومعها ألف وخمسمائة فارس من الأتراك، سوى غيرهم، وسوى الرجالة، ونزل العسكر عليها في شهر رمضان سنة إحدى وخمسمائة، وصادرت زوجته من بقي بالبلد، وعسفت نساء الخارجين عنه، وبالغت في الاحتراز عليهم، فأوحشهم ذلك، ودعاهم إلى الانحراف عنها، وقوتل أهل البلد قتالاً متتابعاً، فتمادى الحصار بأهلها من خارج، والظلم من داخل إلى آخر المحرم، والجند بها يمنعون عامياً من القرب من السور.
فلما طال الأمر على الناس، اتفق نفر من الجصاصين، ومقدمهم جصاص يعرف بسعدي، على تسليم البلد، وتحالفوا على التساعد، وأتوا وقت صلاة الجمعة، والناس بالجامع، وصعدوا برجاً، وأغلقوا أبوابه، وقتلوا من به من الجند، وكانوا نياماً، فلم يشعروا بشيء، حتى قتلوا، وأخذوا سلاحهم، وألقوهم إلى الأرض، وملكوا برجاً آخر.
ووقعت الصيحة، وقصدهم مائتا فارس من العسكر، ورموهم بالنشاب، وهم يقاتلون، وينادون بشعار السلطان، فزحف عسكر السلطان إليهم، ودخلوا البلد من ناحيتهم، وملكوه، ودخله الأمير مودود، ونودي بالسكون والأمن، وأن يعود الناس إلى دورهم وأملاكهم، وأقامت زوجة جاولي بالقلعة ثمانية أيام، وراسلت الأمير مودود في أن يفرج لها عن طريقها، وأن يحلف لها على الصيانة والحراسة، فحلف، وخرجت إلى أخيها برسق بن برسق، ومعها أموالها وما استولت عليه، وولي مودود الموصل وما ينضاف إليها.
ذكر حال جاولي مدة الحصاروأما جاولي فإنه لما وصل عسكر السلطان إلى الموصل، وحصرها، سار عنها، وأخذ معه القمص، صاحب الرها، الذي كان قد أسره سقمان وأخذه منه جكرمش، وقد ذكرنا ذلك، وسار إلى نصيبين، وهي حينئذ للأمير إيلغازي بن أرتق، وراسله، وسأله الاجتماع به، واستدعاه إلى معاضدته، وأن يكونا يداً واحدة، وأعلمه أن خوفهما من السلطان ينبغي أن يجمعهما على الاحتماء منه. فلم يجبه إيلغازي إلى ذلك، ورحل عن نصيبين، ورتب بها ولده، وأمره بحفظهما من جاولي، وأن يقاتله إن قصده، وسار إلى ماردين.
فلما سمع جاولي ذلك عدل عن نصيبين، وقصد دارا، وأرسل إلى إيلغازي ثانياً في المعاني، وسار بعد الرسول، فبينما رسوله عند إيلغازي بمادرين، لم يشعر إلا وجاولي معه في القلعة وحده، وقصد أن يتألفه ويستميله، فلما رآه إيلغازي قام إليه وخدمه، ولما رأى جاولي محسناً للظن فيه، غير مستشعر منه، لم يجد إلى دفعه سبيلاً، فنزل معه، وعسكرا بظاهر نصيبين، وسارا منها إلى سنجار، وحاصراها مدة، فلم يجبهما صاحبها إلى صلح، فتركاه وسارا نحو الرحبة، وإيلغازي يظهر لجاولي المساعدة، ويبطن الخلاف، وينتظر فرصة لينصرف عنه، فلما وصلا إلى عرابان، من الخابور، هرب إيلغازي ليلاً وقصد نصيبين.
ذكر إطلاق جاولي للقمص الفرنجيلما هرب إيلغازي من جاولي سار جاولي إلى الرحبة، فلما وصل إلى ماكسين أطلق القمص الفرنجي، الذي كان أسيراً بالموصل، وأخذه معه، وسمه بردويل، وكان صاحب الرها وسروج وغيرهما، وبقي في الحبس إلى الآن، وبذل الأموال الكثيرة، فلم يطلق، فلما كان الآن أطلقه جاولي، وخلع عليه، وكان مقامه في السجن ما يقارب خمس سنين، وقرر عليه أن يفدي نفسه بمال، وأن يطلق أسرى المسلمين الذين في سجنه، وأن ينصره متى أراد ذلك منه بنفسه وعسكره وماله.
فلما اتفقا على ذلك سير القمص إلى قلعة جعبر، وسلمه إلى صاحبها سالم بن مالك، حتى ورد عليه ابن خالته جوسلين، وهو من فرسان الفرنج وشجعانها، وهو صاحب تل باشر وغيره، وكان أسر مع القمص في تلك الوقعة، ففدى نفسه بعشرين ألف دينار، فلما وصل جوسلين إلى قلعة جعبر أقام رهينة عوض القمص، وأطلق القمص، وسار إلى أنطاكية، وأخذ جاولي جوسلين من قلعة جعبر فأطلقه، وأخذ عوضه أخا زوجته، وأخا زوجة القمص، وسيره إلى القمص ليقوى به، وليحثه على إطلاق الأسرى، وإنفاذ المال وما ضمنه، فلما وصل جوسلين إلى منبج أغار عليها ونهبها، وكان معه جماعة من أصحاب جاولي، فأنكروا عليه ذلك، ونسبوه إلى الغدر، فقال: إن هذه المدينة ليست لكم.
ذكر ما جرى بين هذا القمص وبين صاحب أنطاكيةلما أطلق القمص وسار إلى أنطاكية أعطاه طنكري صاحبها ثلاثين ألف دينار، وخيلاً، وسلاحاً، وثياباً، وغيره ذلك، وكان طنكري قد أخذ الرها من أصحاب القمص حين أسر، فخاطبه الآن في ردها عليه، فلم يفعل، فخرج من عنده إلى تل باشر، فلما قدم عليه جوسلين، وقد أطلقه جاولي، سره ذلك، وفرح به.
وسار إليهما طنكري، صاحب أنطاكية، بعساكره ليحاربهما، قبل أن يقوى أمرهما، ويجمعا عسكراً، ويلتحق بهما جاولي وينجدهما، فكانوا يقتتلون، فإذا فرغوا من القتال اجتمعوا وأكل بعضهم مع بعض وتحادثوا.
وأطلق القمص من الأسرى المسلمين مائة وستين أسيراً كلهم من سواد حلب، وكساهم وسيرهم.
وعاد طنكري إلى أنطاكية من غير فصل حال في معنى الرها، فسار القمص وجوسلين وأغارا على حصون طنكري، صاحب أنطاكية والتجأ إلى ولاية كواسيل، وهو رجل أرمني، ومعه خلق كثير من المرتدين وغيرهم، وهو صاحب رعبان، وكيسوم، وغيرهما من القلاع، شمالي حلب، فأنجد القمص بألف فارس من المرتدين، وألفي راجل، فقصدهم طنكري، فتنازعوا في أمر الرها، فتوسط بينهم البطرك الذي لهم، وهو عندهم كالإمام الي للمسلمين، لا يخالف أمره، وشهد جماعة من المطارنة والقسيسين: أن بيمند خال طنكري قال له، لما أراد ركوب البحر، والعود إلى بلاده، ليعيد الرها إلى القمص، إذا خلص من الأسر، فأعادها عليه طنكري تاسع صفر، وعبر القمص الفرات، ليسلم إلى أصحاب جاولي المال والأسرى، فأطلق في طريقه خلقاً كثيراً من الأسرى من حران وغيرها.
وكان بسروج ثلاثمائة مسلم ضعفى، فعمر أصحاب جاولي مساجدهم، وكان رئيس سروج مسلماً قد ارتد، فسمعه أصحاب جاولي يقول في الإسلام قولاً شنيعاً، فضربوه، وجرى بينهم وبين الفرنج بسببه نزاع، فذكر ذلك للقمص، فقال: هذا لا يصلح لنا ولا للمسلمين، فقتله.
ذكر حال جاولي بعد إطلاق القمصلما أطلق جاولي القمص بماكسين سار إلى الرحبة، فأتاه أبو النجم بدران، وأبو كامل منصور، ابنا سيف الدولة صدقة، وكانا، بعد قتل أبيهما بقلعة جعبر، عند سالم بن مالك، فتعاهدوا على امساعدة والمعاضدة، ووعدهما أنه يسير معهما إلى الحلة، وعزموا أن يقدموا عليهم بكتاش بن تكش بن ألب أرسلان. فوصل إليهم، وهم على هذا العزم، أصبهبذ صباوة، وكان قد قصد السلطان فأقطعه الرحبة وقد ذكرناه، فاجتمع بجاولي، وأشار عليه أن يقصد الشام، فإن بلاده خالية من الأجناد، والفرنج قد استولوا على كثير منها، وعرفه أنه متى قصد العراق، والسلطان بها، أو قريباً منها، لم يأمن شراً يصل إليه. فقبل قوله، وأصعد عن الرحبة، فوصل إليه رسل سالم بن مالك، صاحب قلعة جعبر، يستغيث به من بني نمير، وكانت الرقة بيد ولده علي بن سالم، فوقب جوشن النميري، ومعه جماعة من بني نمير، فقتل علياً وملك الرقة.
فبلغ ذلك الملك رضوان، فسار من حلب إلى صفين، فصادف تسعين رجلاً من الفرنج معهم مال من فدية القمص، صاحب الرها، قد سيره إلى جاولي، فأخذه، وأسر عدداً منهم، وأتى الرقة، فصالحه بنو نمير على مال، فرحل عنهم إلى حلب، فاستنجد سالم بن مالك جاولي، وسأله أن يرحل إلى الرقة ويأخذها، ووعده بما يحتاج إليه. فقصد الرقة، وحصرها سبعين يوماً، فضمن له بنو نمير مالاً وخيلاً، فأرسل إلى سالم: إنني في أمر أهم من هذا، وأنا بإزاء عدو، ويجب التشاغل به دون غيره، وأنا عازم على الانحدار إلى العراق، فإن تم أمري فالرقة وغيرها لك، ولا أشتغل عن هذا المهم بحصار خمسة نفر من بني نمير.
ووصل إلى جاولي الأمير حسين بن أتابك قتلغ تكين، وكان أبوه أتابك السلطان محمد، فقتله، وتقدم ولده هذا عند السلطان، واختص به، فسيره السلطان مع فخر الملك بن عمار ليصلح الحال مع جاولي، ويأمر العساكر بالمسير مع ابن عمار إلى جهاد الكفار، فحضر عند جاولي، وأمر بتسليم البلاد، وطيب قلبه عن السلطان، وضمن الجميل، إذا سلم البلاد، وأظهر الطاعة والعبودية، فقال جاولي: أنا مملوك السلطان، وفي طاعته، وحمل إليه مالاً وثياباً لها مقدار جليل، وقال له: سر إلى الموصل ورحّل العسكر عنها، فإني أرسل معك من يسلم ولدي إليك رهينة، وينفذ السلطان إليها من يتولى أمرها وجباية أموالها، ففعل حسين ذلك، وسار ومعه صاحب جاولي، فلما وصلا إلى العسكر الذي على الموصل، وكانوا لم يفتحوها بعد، أمرهم حسين بالرحيل، فكلهم أجاب، إلا الأمير مودود فإنه قال: لا أرحل إلا بأمر السلطان، وقبض على صاحب جاولي، وأقام على الموصل، حتى فتحها كما ذكرناه.
وعاد حسين بن قتلغ تكين إلى السلطان، فأحسن النيابة عن جاولي عنده، وسار جاولي إلى مدينة بالس، فوصلها ثالث عشر صفر، فاحتمى أهلها منه، وهرب من بها من أصحاب الملك رضوان، صاحب حلب، فحصرها خمسة أيام، وملكها بعد أن نقب برجاً من أبراجها، فوقع على النقابين، فقتل منهم جماعة، وملك البلد، وصلب جماعة من أعيانه عند النقب، وأحضر القاضي محمد بن بد العزيز بن إلياس فقتله، وكان فقيهاً صالحاً، ونهب البلد، وأخذ منه مالاً كثيراً.
ذكر الحرب بين جاولي والفرنجوفي هذه السنة، في صفر، كان المصاف بين جاولي سقاوو وبين طنكري الفرنجي، صاحب أنطاكية.
وسبب ذلك أن الملك رضوان كتب إلى طنكري، صاحب أنطاكية، يعرفه ما هو جاولي عليه من الغدر، والمكر، والخداع، ويحذره منه، ويعلمه أنه على قصد حلب، وأنه إن ملكها لا يبقي للفرنج معه بالشام مقام، وطلب منه النصرة، والاتفاق على منعه. فأجابه طنكري إلى منعه وبرز من أنطاكية، فأرسل إليه رضوان ستمائة فارس، فلما سمع جاولي الخبر أرسل إلى القمص، صاحب الرها، يستدعيه إلى مساعدته، وأطلق له ما بقي عليه من مال المفاداة، فسار إلى جاولي فلحق به، وهو على منبج، فوصل الخبر إليه، وعلى هذه الحال، بأن الموصل قد استولى عليها عسكر السلطان، وملكوا خزائنه وأمواله، فاشتد ذلك عليه، وفارقه كثير من أصحابه منهم أتابك زنكي بن آقسنقر، وبكتاش النهاوندي، وبقي جاولي في ألف فارس، وانضم إليه خلق من المطوعة، فنزل بتل باشر.
وقاربهم طنكري، وهو في ألف وخمسمائة فارس من الفرنج، وستمائة من أصحاب الملك رضوان، سوى الرجالة، فجعل جاولي في ميمنته الأمير أقسيان، والأمير التونتاش الابري، وغيرهما، وفي الميسرة الأمير بدران بن صدقة، وأصبهبذ صباوة، وسنقر دراز، وفي القلب القمص، صاحب الرها، واشتد القتال، فأزاح طنكري القلب عن موضعه، وحملت ميسرة جاولي على رجالة صاحب أنطاكية، فقتلت منهم خلقاً كثيراً، ولم يبق غير هزيمة صاحب أنطاكية، فحينئذ عمد أصحاب جاولي إلى جنائب القمص، وجوسلين، وغيرهما من الفرنج، فركبوها وانهزموا، فمضى جاولي وراءهم ليردهم، فلم يرجعوا، وكانت طاعته قد زالت عنهم حين أخذت الموصل منه، فلما رأى أنهم لا يعودون معه أهمته نفسه، وخاف من المقام، فانهزم، وانهزم باقي عسكره.
فأما أصبهبذ صباوة فسار نحو الشام، وأما بدران بن صدقة فسار إلى قلعة جعبر، وأما ابن جكرمش فقصد جزيرة ابن عمر، وأما جاولي فقصد الرحبة، وقتل من المسلمين خلق كثير، ونهب صاحب أنطاكية أموالهم وأثقالهم، وعظم البلاء عليهم من الفرنج، وهرب القمص وجوسلين إلى تل باشر والتجأ إليهما خلق كثير من المسلمين، ففعلا معهم الجميل، وداويا الجرحى، وكسوا العراة، وسيراهم إلى بلادهم.
ذكر عود جاولي إلى السلطانلما انهزم جاولي سقاوو قصد الرحبة، فلما قاربها بات دونها في عدة فوارس، فاتفق أن طائفة من عسكر الأمير مودود، الذين أخذوا الموصل منه، أغاروا على قوم من العرب يجاورون الرحبة، فقاربوا جاولي ولا يشعرون به، ولو علموا لأخذوه.
فلما رأى الحال كذلك، علم أنه لا يقدر أن يقيم بالجزيرة، ولا بالشام، ولا يقدر على شيء يحفظ به نفسه، ويرجع إليه، ويداوي به مرضه، غير قصد باب السلطان محمد عن رغبة واختيار، وكان واثقاً بالأمير حسين بن قتلغتكين، فرحل من مكانه وهو خائف حذر، قد أخفى شخصه وكتم أمره، وسار إلى عسكر السلطان، وكان بالقرب من أصبهان، فوصل إليه في سبعة عشر يوماً من مكانه لجده في السير، فلما وصل المعسكر قصد الأمير حسيناً، فحمله إلى السلطان، فدخل إليه وكفنه تحت يده، فأمنه، وأتاه الأمراء يهنونه بذلك، وطلب منه السلطان الملك بكتاش بن تكش، فسلمه إليه، فاعتقله بأصبهان.
ذكر الحرب بين طغتكين والفرنج
والهدنة بعدها.في هذه السنة كانت حرب شديدة بين طغتكين أتابك والفرنج، وسببها أن طغتكين سار إلى طبرية، وقد وصل إليها ابن أخت بغدوين الفرنجي، ملك القدس، فتحاربا واقتتلا، وكان طغتكين في ألفي فارس، وكثير من الرجالة، وكان ابن أخت ملك الفرنج في أربعمائة فارس وألفي رجل.
فلما اشتد القتال انهزم المسلمون، فترجل طغتكين، ونادى بالمسلمين، وشجعهم، فعادوا الحرب، وكسروا الفرنج، وأسروا ابن أخت الملك، وحمل إلى طغتكين، فعرض طغتكين عليه الإسلام، فامتنع منه، وبذل في فداء نفسه ثلاثين ألف دينار، وإطلاق خمسمائة أسير، فلم يقنع طغتكين منه بغير الإسلام، فلما لم يجب قتله بيده، وأرسل إلى الخليفة والسلطان الأسرى، ثم اصطلح طغتكين وبغدوين ملك الفرنج على وضع الحرب أربع سنين، وكان ذلك من لطف الله تعالى بالمسلمين، ولولا هذه الهدنة لكان الفرنج بلغوا من المسلمين، بعد الهزيمة الآتي ذكرها، أمراً عظيماً.
ذكر انهزام طغتكين من الفرنجفي هذه السنة، في شعبان، انهزم أتابك طغتكين من الفرنج.
وسبب ذلك أن حصن عرقة، وهو من أعمال طرابلس، كان بيد غلام للقاضي فخر الملك أبي علي بن علي بن عمار، صاحب طرابلس، وهو من الحصون المنيعة، فعصى على مولاه، فضاق به القوت، وانقطعت عنه الميرة، لطول مكث الفرنج في نواحيه، فأرسل إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، وقال له: أرسل من يتسلم هذا الحصن مني، قد عجزت عن حفظه، ولأن يأخذه المسلمون خير لي دنيا وآخرة من أن يأخذه الفرنج. فبعث إليه طغتكين صاحباً له، اسمه إسرائيل، في ثلاثمائة رجل، فتسلم الحصن، فلما نزل غلام ابن عمار منه رماه إسرائيل، في الأخلاط، بسهم فقتله، وكان قصده بذلك أن لا يطلع أتابك طغتكين على ما خلفه بالقلعة من المال.
وأراد طغتكين قصد الحصن للاطلاع عليه، وتقويته بالعساكر، والأقوات، وآلات الحرب، فنزل الغيث والثلج مدة شهرين، ليلاً ونهاراً، فمنعه، فلما زال ذلك سار في أربعة آلاف فارس، ففتح حصوناً للفرنج، منها حصن الأكمة. فلما سمع السرداني الفرنجي بمجيء طغتكين، وهو على حصار طرابلس، توجه في ثلاثمائة فارس، فلما أشرف أوائل أصحابه على عسكر طغتكين انهزموا، وخلوا ثقلهم ورحلهم ودوابهم للفرنج، فغنموا، وقووا به، وزاد في تجملهم.
ووصل المسلمون إلى حمص، على أقبح حال من التقطع، ولم يقتل منهم أحد لأنه لم تجر حرب، وقصد السرداني إلى عرقة، فلما نازلها طلب من كان بها الأمان، فأمنهم على نفوسهم، وتسلم الحصن، فلما خرج من فيه قبض على إسرائيل، وقال: لا أطلقه إلا بإطلاق فلان، وهو أسير كان بدمشق من الفرنج، منذ سبع سنين، ففودي به وأطلقا معاً.
ولما وصل طغتكين إلى دمشق، بعد الهزيمة، أرسل إليه ملك القدس يقول له: لا تظن أنني أنقص الهدنة للذي تم عليك من الهزيمة، فالملوك ينالهم أكثر مما نالك، ثم تعود أمورهم إلى الانتظام والاستقامة، وكان طغتكين خائفاً أن يقصده بعد هذه الكسرة فينال من بلده كل ما أراد.
ذكر صلح السنة والشيعة ببغدادفي هذه السنة، في شعبان، اصطلح عامة بغداد السنة والشيعة، وكان الشر منهم على طول الزمان، وقد اجتهد الخلفاء، والسلاطين، والشحن في إصلاح الحال، فتعذر عليهم ذلك، إلى أن أذن الله تعالى فيه، وكان بغير واسطة.
وكان السبب ذي ذلك أن السلطان محمداً لما قتل ملك العرب صدقة، كما ذكرناه، خاف الشيعة ببغداد، أهل الكرخ وغيرهم، لأن صدقة كان يتشيع هو وأهل بيته، فشنع أهل السنة عليهم بأنهم نالهم غم وهم لقتله، فخاف الشيعة، وأغضوا على سماع هذا، ولم يزالوا خائفين إلى شعبان، فلما دخل شعبان تجهز السنة لزيارة قبر مصعب بن الزبير، وكانوا قد تركوا ذلك سنين كثيرة، ومنعوا منه لتقطع الفتن الحادثة بسببه.
فلما تجهزوا للمسير، اتفقوا على أن يجعلوا طريقهم في الكرخ، فأظهروا ذلك، فاتفق رأي أهل الكرخ على ترك معارضتهم، وأنهم لا يمنعونهم، فصارت السنة تسير أهل كل محلة منفردين، ومعهم من الزينة والسلاح شيء كثير، وجاء أهل باب المراتب، ومعهم فيل قد عمل من خشب، وعليه الرجال بالسلاح، وقصدوا جميعهم الكرخ ليعبروا فيه، فاستقبلهم أهله بالبخور والطيب، والماء المبرد، والسلاح الكثير، وأظهروا بهم السرور، وشيعوهم حتى خرجوا من المحلة.
وخرج الشيعة، ليلة النصف منه، إلى مشهد موسى بن جعفر وغيره، فلم يعترضهم أحد من السنة، فعجب الناس لذلك، ولما عادوا من زيارة مصعب لقيهم أهل الكرخ بالفرح والسرور، فاتفق أن أهل باب المراتب انكسر فيلهم عند قنطرة باب حرب، فقرأ لهم قوم: " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " إلى آخر السورة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عاد منصور بن صدقة بن مزيد إلى باب السلطان، فتقبله وأكرمه وكان قد هرب، بعد قتل والده، إلى الآن، والتحق أخوه بدران بن صدقة بالأمير مودود الذي أقطعه السلطان الموصل، فأكرمه وأحسن صحبته.
وفيها، في نيسان، زادت دجلة زيادة عظيمة، وتقطعت الطرق، وغرقت الغلات الشتوية والصيفية، وحدث غلاء عظيم بالعراق، بلغت كارة الدقيق الخشكار عشرة دنانير إمامية، وعدم الخبز رأساً، وأكل الناس التمر والباقلاء الخضراء، وأما أهل السواد فإنهم لم يأكلوا جميع شهر رمضان، ونصف شوال، سوى الحشيش والتوت.
وفيها، في رجب، عزل وزير الخليفة أبو المعالي هبة الله بن المطلب، ووزر أبو القاسم علي بن أبي نصر بن جهير.
وفيها، في شعبان، تزوج الخليفة المستظهر بالله ابنة السلطان ملكشاه، وهي أخت السلطان محمد، وكان الذي خطب خطبة النكاح القاضي أبو العلاء صاعد بن محمد النيسابوري، الحنفي، وكان المتولي لقبول العقد نظام الملك أحمد بن نظام الملك، وزير السلطان، بوكالة من الخليفة، وكان الصداق مائة ألف دينار، ونثرت الجواهر والدنانير، وكان العقد بأصبهان.
وفيها توفي مجاهد الدين بهروز شحنكية بغداد، وكان سبب ذلك أن السلطان محمداً كان قبض على أبي القاسم الحسين بن عبد الواحد، صاحب المخزن، وعلى أبي الفرج بن رئيس الرؤساء، واعتقلهما عنده، ثم أطلقهما الآن، وقرر عليهما مالاً يحملانه إليه، فأرسل مجاهد الدين بهروز لقبض المال، وأمره السلطان بعمارة دار المملكة، ففعل ذلك وعمر الدار، وأحسن إلى الناس، فلما قدم السلطان إلى بغداد ولاه شحنكية العراق جميعه، وخلع على سعيد بن حميد العمري، صاحب جيش صدقة، وولاه الحلة السيفية، وكان صارماً، حازماً، ذا رأي وجلد.
وفيها، في شوال، ملك الأمير سكمان القطبي، صاحب خلاط، مدينة ميافارقين بالأمان، بعد أن حصرها وضيق على أهلها عدة شهور، فعدمت الأقوات بها، واشتد الجوع بأهلها فسلموها.
وفي هذه السنة، في صفر، قتل قاضي أصبهان عبيد الله بن علي الخطيبي بهمذان، وكان قد تجرد، في أمر الباطنية، تجرداً عظيماً، وصار يلبس درعاً حذراً منهم، ويحتاط، ويحترز، فقصده إنسان أعجمي، يوم جمعة، ودخل بينه وبين أصحابه فقتله، وقتل صاعد بن محمد بن عبد الرحمن أبو العلاء قاضي نيسابور، يوم عيد الفطر، قتله باطني، وقتل الباطني، ومولده سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وسمع الحديث، وكان حنفي المذهب.
وفي هذه السنة سار قفل عظيم من دمشق إلى مصر، فأتى الخبر إلى ملك الفرنج، فسار إليه وعارضه في البر، وأخذ كل من فيه، ولم يسلم منهم إلا القليل، ومن سلم أخذه العرب.
وفيها، في فصح النصارى، ثار جماعة من الباطنية في حصن شيزر على حين غفلة من أهله في مائة رجل، فملكوه، وأخرجوا من كان فيه، وأغلقوا بابه، وصعدوا إلى القلعة فملكوها، وكان أصحابها بنو منقذ قد نزلوا منها لمشاهدة عيد النصارى، وكانوا قد أحسنوا، إلى هؤلاء الذين أفسدوا، كل الإحسان، فبادر أهل المدينة الباشورة، فأصعدهم النساء في الحبال من الطاقات، وصاروا معهم، وأدركهم الأمراء بنو منقذ، أصحاب الحصن، فصعدوا إليهم، فكبروا عليهم وقاتلوهم، فانخذل الباطنية، وأخذهم السيف من كل جانب، فلم يفلت منهم أحد، وقتل من كان على مثل رأيهم في البلد.
وفيها وصل إلى المهدية ثلاثة نفر غرباء، فكتبوا إلى أميرها يحيى بن تميم يقولون: إنهم يعملون الكيمياء، فأحضرهم عنده، وأمرهم أن يعملوا شيئاً يراه من صناعتهم، فقالوا: نعمل النقرة، فأحضر لهم ما طلبوا من آلة وغيرها، وقعد معهم هو والشريف أبو الحسن، وقائد جيشه واسمه إبراهيم، وكانا يختصان به، فلما رأى الكيماوية المكان خالياً من جمع ثاروا بهم، فضرب أحدهم يحيى بن تميم على رأسه، فوقعت السكين في عمامته فلم تصنع شيئاً، ورفسه يحيى فألقاه على ظهره، ودخل يحيى باباً وأغلقه على نفسه، فضرب الثاني الشريف فقتله، وأخذ القائد إبراهيم السيف فقاتل الكيماوية، ووقع الصوت، فدخل أصحاب الأمير يحيى فقتلوا الكيماوية، وكان زيهم زي أهل الأندلس، فقتل جماعة من أهل البلد على مثل زيهم، وقيل للأمير يحيى: إن هؤلاء رآهم بعض الناس عند المقدم بن خليفة، واتفق أن الأمير أبا الفتوح بن تميم، أخا يحيى، وصل تلك الساعة إلى القصر في أصحابه وقد لبسوا السلاح، فمنع من الدخول، فثبت عند الأمير يحيى أن ذلك بوضع منهما، فأحضر المقدم بن خليفة، وأمر أولاد أخيه فقتلوه قصاصاً، لأنه قتل أباهم، وأخرج الأمير أبا الفتوح وزوجته بلارة بنت القاسم بن تميم، وهي ابنة عمه، ووكل بهما في قصر زيادة بين المهدية وسفاقس، فبقي هناك إلى أن مات يحيى، وملك بعده ابنه علي سنة تسع وخمسمائة، فسير أبا الفتوح وزوجته بلارة إلى ديار مصر في البحر، فوصلا إلى إسكندرية، على ما نذكره إن شاء الله.
وفيها، في المحرم، قتل عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد أبو المحاسن الروياني الطبري، الفقيه الشافعي، ومولده سنة خمس عشرة وأربعمائة، وكان حافظاً للمذهب، ويقول: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من قلبي.
وفيها، في جمادى الآخرة، توفي الخطيب أبو زكرياء يحيى بن علي التبريزي، الشيباني، اللغوي، صاحب التصانيف المشهورة، وله شعر ليس بالجيد.
وفيها، في رجب، توفي السيد أبو هاشم زيد الحسني، العلوي، رئيس همذان، وكان نافذ الحكم، ماضي الأمر، وكانت مدة رئاسته لها سبعاً وأربعين سنة، وجده لأمه الصاحب أبو القاسم بن عباد، وكان عظيم المال جداً، فمن ذلك أنه أخذ منه السلطان محمد في دفعة واحدة سبع مائة ألف دينار لم يبع لأجلها ملكاً ولا استدان ديناراً، وأقام بعد ذلك بالسلطان محمد، عدة شهور، في جميع ما يريده، وكان قليل المعروف.
وفيها، في ذي الحجة، توفي أبو الفوارس الحسن بن علي الخازن، الكاتب المشهور بجودة الخط، وله شعر منه: من المديد
عنت الدنيا لطالبها، ... واستراح الزاهد الفطن
عرف الدنيا، فلم يرها ... وسواه حظاً الفتن
كل ملك نال زخرفها ... حظه مما حوى كفن
يقتني مالاً، ويتركه، ... في كلا الحالين مفتتن
أملي كوني على ثقة ... من لقاء الله مرتهن
أكره الدنيا، وكيف بها، ... والذي تسخو به وسن
لم تدم قبلي على أحد، ... فلماذا الهم والحزن؟
وقيل توفي سنة تسع وتسعين وأربعمائة، وقد ذكر هناك.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسمائة
ذكر ملك الفرنج طرابلس وبيروت
من الشامفي هذه السنة، حادي عشر ذي الحجة، ملك الفرنج طرابلس.
وسبب ذلك أن طرابلس كانت قد صارت في حكم صاحب مصر ونائبه فيها، والمدد يأتي إليها منه، وقد ذكرنا ذلك سنة إحدى وخمسمائة. فلما كانت هذه السنة، أول شعبان، وصل أسطول كبير من بلد الفرنج في البحر، ومقدمهم قمص كبير اسمه ريمند بن صنجيل ومراكبه مشحونة بالرجال، والسلاح، والميرة، فنزل على طرابلس، وكان نازلاً عليها قبله السرداني ابن أخت صنجيل، وليس بابن أخت ريمند هذا، بل هو قمص آخر، فجرى بينهما فتنة أدت إلى الشر والقتال، فوصل طنكري صاحب أنطاكية إليها، معونة للسرداني، ووصل الملك بغدوين، صاحب القدس، في عسكره، فأصلح بينهم، ونزل الفرنج جميعهم على طرابلس، وشرعوا في قتالها، ومضايقة أهلها، من أول شعبان، وألصقوا أبراجهم بسورها، فلما رأى الجند وأهل البلد ذلك سقط في أيديهم، وذلت نفوسهم، وزادهم ضعفاً تأخر الأسطول المصري عنهم بالميرة والنجدة.
وكان سبب تاخره: أنه فرغ منه، والحث عليه، واختلفوا فيه أكثر من سنة، وسار، فردته الريح، فتعذر عليهم الوصول إلى طرابلس ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ومد الفرنج القتال عليها من الأبراج والزحف، فهجموا على البلد وملكوه عنوة وقهراً يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من السنة، ونهبوا ما فيها، وأسروا الرجال، وسبوا النساء والأطفال، ونهبوا الأموال، وغنموا من أهلها من الأموال، والأمتعة، وكتب دور العلم الموقوفة، ما لا يحد ولا يحصى، فإن أهلها كانوا من أكثر أهل البلاد أموالاً وتجارة، وسلم الوالي الذي كان بها، وجماعة من جندها كانوا التمسوا الأمان قبل فتحها، فوصلوا إلى دمشق، وعاقب الفرنج أهلها بأنواع العقوبات، وأخذت دفائنهم وذخائرهم في مكامنهم.
ذكر ملك الفرنج جبيل وبانياسلما فرغ الفرنج من طرابلس سار طنكري، صاحب أنطاكية، إلى بانياس، وحصرها، وافتتحها، وأمن أهلها، ونزل مدينة جبيل، وفيها فخر الملك بن عمار، الذي كان صاحب طرابلس، وكان القوت فيها قليلاً، فقاتلها إلى أن ملكها في الثاني والعشرين من ذي الحجة من السنة بالأمان، وخرج فخر الملك بن عمار سالماً.
ووصل، عقيب ملك طرابلس، الأسطول المصري بالرجال، والمال، والغلال، وغيرها، ما يكفيهم سنة، فوصل إلى صور بعد أخذها بثمانية أيام للقضاء النازل بأهلها، وفرقت الغلال التي فيه والذخائر في الجهات المنفذة إليها صور، وصيدا، وبيروت.
وأما فخر الملك بن عمار فإنه قصد شيزر، فأكرمه صاحبها الأمير سلطان بن علي بن منقذ الكناني، واحترمه، وسأله أن يقيم عنده، فلم يفعل، وسار إلى دمشق، فأنزله طغتكين صاحبها، وأجزل له في الحمل والعطية، وأقطعه أعمال الزبداني، وهو عمل كبير من أعمال دمشق، وكان ذلك في المحرم سنة اثنتين وخمسمائة.
ذكر الحرب بين محمد خان وساغربكفي هذه السنة عاد ساغربك وجمع العساكر الكثيرة من الأتراك وغيرهم وقصد أعمال محمد خان بسمرقند وغيرها، فأرسل محمد إلى سنجر يستنجده، فسير إليه الجنود، واجتمع معه أيضاً كثير من العساكر، وسار إلى ساغربك فالتقوا بنواحي الخشب واقتتلوا فانهزم ساغربك وعساكره وأخذت السيوف منهم مأخذها وكثر الأسر فيهم والنهب، فلما فرغوا من حربهم وأمن محمد خان من شر ساغربك عاد العسكر السنجري إلى خراسان فعبروا النهر إلى بلخ.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في المحرم، سير السلطان وزيره نظام الملك أحمد بن نظام الملك إلى قلعة ألموت لقتال الحسن بن الصباح ومن معه من الإسماعيلية، فحصروهم، وهجم الشتاء عليهم فعادوا ولم يبلغوا منه غرضاً.
وفيها، في ربيع الآخر، قدم السلطان إلى بغداد، وعاد عنها في شوال من السنة أيضاً.
وفيها، في شعبان، توجه الوزير نظام الملك إلى الجامع، فوثب به الباطنية، فضربوه بالسكاكين، وجرح في رقبته، فبقي مريضاً مدة، ثم برأ، وأخذ الباطني الذي جرحه فسقي الخمر حتى سكر، ثم سئل عن أصحابه، فأقر على جماعة بمسجد المأمونية، فأخذوا وقتلوا.
وفيها عزل وزير الخليفة، وهو أبو المعالي بن المطلب، ووزر بعده الزعيم أبو القاسم بن جهير، فخرج ابن المطلب من دار الخليفة مستتراً هو وأولاده واستجار بدار السلطان.
وفيها جهز يحيى بن تميم، صاحب إفريقية، خمسة عشر شينياً وسيرها إلى بلاد الروم، فلقيها أسطول الروم، وهو كبير، فقاتلوهم، وأخذوا ست قطع من شواني المسلمين، ولم ينهزم بعد ذلك ليحيى جيش في البحر والبر.
وسير ابنه أبا الفتوح إلى مدينة سفاقس والياً عليها، فثار به أهلها، فنهبوا قصره، وهموا بقتله، فلم يزل يحيى يعمل الحيلة عليهم، حتى فرق كلمتهم، وبدد شملهم، وملك رقابهم فسجنهم، وعفا عن دمائهم وذنوبهم.
وفيها توفي الأمير إبراهيم ينال، صاحب آمد، وكان قبيح السيرة، مشهوراً بالظلام، فجلا كثير من أهلها لجوره، وملك بعده ولده، وكان أصلح حالاً منه.
وفيها، في ثامن ذي القعدة، ظهر في السماء كوكب من الشرق له ذؤابة ممتدة إلى القبلة، وبقي يطلع إلى آخر ذي الحجة، ثم غاب.
ثم دخلت سنة أربع وخمسمائة
ذكر ملك الفرنج مدينة صيدافي هذه السنة، في ربيع الآخر، ملك الفرنج مدينة صيدا، من ساحل الشام.
وسبب ذلك: أنه وصل في البحر إلى الشام ستون مركباً للفرنج مشحونة بالرجال والذخائر مع بعض ملوكهم ليحج البيت المقدس وليغزو بزعمه المسلمين، فاجتمع بهم بغدوين ملك القدس، وتقررت القاعدة بينهم أن يقصدوا بلاد الإسلام، فرحلوا من القدس، ونزلوا مدينة صيدا ثالث ربيع الآخر من هذه السنة، وضايقوها براً وبحراً.
وكان الأسطول المصري مقيماً على صور، فلم يقدر على إنجاد صيدا، فعمل الفرنج برجاً من الخشب، وأحكموه، وجعلوا عليه ما يمنع النار عنه والحجارة، وزحفوا به، فلما عاين أهل صيدا ذلك ضعفت نفوسهم، وأشفقوا أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت، فأرسلوا قاضيها ومعه جماعة من شيوخها إلى الفرنج، وطلبوا من ملكهم الأمان فأمنهم على أنفسهم، وأموالهم، والعسكر الذي عندهم، ومن أراد المقام بها عندهم أمنوه، ومن أراد المسير عنهم لم يمنعوه، وحلف لهم على ذلك، فخرج الوالي، وجماعة كثيرة من أعيان أهل البلد، في العشرين من جمادى الأولى إلى دمشق، وأقام بالبلد خلق كثير تحت الأمان، وكانت مدة الحصار سبعة وأربعين يوماً.
ورحل بغدوين عنها إلى القدس، ثم عاد إلى صيدا، بعد مدة يسيرة، فقرر على المسلمين الذين أقاموا بها عشرين ألف دينار، فأفقرهم، واستغرق أموالهم.
ذكر استيلاء المصريين على عسقلانكانت عسقلان للعلويين المصريين، ثم إن الخليفة الآمر بأحكام الله استعمل عليها إنساناً يعرف بشمس الخلافة، فراسل بغدوين ملك الفرنج بالشام، وهادنه، وأدى إليه مالاً وعروضاً، فامتنع به من أحكام المصريين عليه، إلا فيما يريد من غير مجاهدة بذلك.
فوصلت الأخبار بذلك إلى الآمر بأحكام الله، صاحب مصر، وإلى وزيره الأفضل، أمير الجيوش، فعظم الأمر عليهما، وجهزا عسكراً وسيراه إلى عسقلان مع قائد كبير من قواده، وأظهرا أنه يريد الغزاة، ونفذا إلى القائد سراً أن يقبض على شمس الخلافة إذا حضر عندهم، ويقيم هو عوضه بعسقلان أميراً. فسار العسكر، فعرف شمس الخلافة الحال، فامتنع من الحضور عند العسكر المصري، وجاهر بالعصيان، وأخرج من كان عنده من عسكر مصر خوفاً منهم.
فلما عرف الأفضل ذلك خاف أن يسلم عسقلان إلى الفرنج، فأرسل إليه وطيب قلبه، وسكنه، وأقره على عمله، وأعاد عليه إقطاعه بمصر.
ثم إن شمس الخلافة خاف أهل عسقلان، فأحضر جماعة من الأرمن واتخذهم جنداً، ولم يزل على هذه الحال إلى آخر سنة أربع وخمسمائة، فأنكر الأمر أهل البلد، فوثب به قوم من أعيانه، وهو راكب، فجرجروه، فانهزم منهم إلى داره، فتبعوه وقتلوه، ونهبوا داره وجميع ما فيها، ونهبوا بعض دور غيره من أرباب الأموال بهذه الحجة، وأرسلوا إلى مصر بجلية الحال إلى الآمر والأفضل، فسرا بذلك، وأحسنا إلى الواصلين بالبشارة، وأرسلا إليه والياً يقيم به، ويستعمل مع أهل البلد الإحسان وحسن السيرة، فتم ذلك، وزال ما كانوا يخافونه.
ذكر ملك الفرنج حصن الأثارب
في هذه السنة جمع صاحب أنطاكية عساكره من الفرنج، وحشد الفارس والراجل، وسار نحو حصن الأثارب، وهو بالقرب من مدينة حلب بينهما ثلاثة فراسخ، وحصره، ومنع عنه الميرة، فضاق الأمر على من به من المسلمين، فنقبوا من القلعة نقباً، قصدوا أن يخرجوا منه إلى خيمة صاحب أنطاكية فيقتلوه، فلما فعلوا ذلك وقربوا من خيمته استأمن إليه صبي أرمني، فعرفه الحال، فاحتاط، واحترز منهم، وجد في قتالهم، حتى ملك الحصن قهراً وعنوة، وقتل من أهله ألفي رجل، وسبى وأسر الباقين.
ثم سار إلى حصن زردنا، فحصره، ففتحه، وفعل بأهله مثل الأثارب، فلما سمع أهل منبج بذلك فارقوها خوفاً من الفرنج، وكذلك أهل بالس، وقصد الفرنج البلدين فرأوهما وليس بهما أنيس، فعادوا عنهما.
وسار عسكر من الفرنج إلى مدينة صيدا، فطلب أهلها منهم الأمان، فأمنوهم وتسلموا البلد، فعظم خوف المسلمين منهم، وبلغت القلوب الحناجر، وأيقنوا باستيلاء الفرنج على سائر الشام لعدم الحامي له والمانع عنه، فشرع أصحاب البلاد الإسلامية بالشام في الهدنة معهم، فامتنع الفرنج من الإجابة إلا على قطيعة يأخذونها إلى مدة يسيرة، فصالحهم الملك رضوان، صاحب حلب، على اثنين وثلاثين ألف دينار، وغيرها من الخيول والثياب، وصالحهم صاحب صور على سبعة آلاف دينار، وصالحهم ابن منقذ، صاحب شيزر، على أربعة آلاف دينار، وصالحهم علي الكردي، صاحب حماة، على ألفي دينار، وكانت مدة الهدنة إلى وقت إدراك الغلة وحصادها.
ثم إن مراكب أقلعت من ديار مصر، فيها التجار ومعهم الأمتعة الكثيرة، فوقع عليها مراكب الفرنج، فأخذوها، وغنموا ما مع التجار، وأسروهم، فسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد، مستنفرين على الفرنج. فلما وردوا بغداد اجتمع معهم خلق كثير من الفقهاء وغيرهم فقصدوا جامع السلطان، واستغاثوا، ومنعوا من الصلاة، وكسروا المنبر، فوعدهم السلطان بإنفاذ العساكر للجهاد، وسير من دار الخلافة منبراً إلى جامع السلطان. فلما كان الجمعة الثانية قصدوا جامع القصر بدار الخلافة، ومعهم أهل بغداد، فمنعهم حاجب الباب من الدخول، فغلبوه على ذلك، ودخلوا الجامع، وكسروا شباك المقصورة، وهجموا إلى المنبر فكسروه، وبطلت الجمعة أيضاً، فأرسل الخليفة إلى السلطان في المعنى يأمره بالاهتمام بهذا الفتق ورتقه، فتقدم حينئذ إلى من معه من الأمراء بالمسير إلى بلادهم، والتجهز للجهاد، وسير ولده الملك مسعوداً مع الأمير مودود، صاحب الموصل، وتقدموا إلى الموصل ليلحق بهم الأمراء ويسيروا إلى قتال الفرنج، وانقضت السنة، وساروا في سنة خمس وخمسمائة، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل نظام الملك أحمد من وزارة السلطان، ووزر بعده الخطير محمد بن الحسين الميبذي.
وفيها ورد رسول ملك الروم إلى السلطان يستنفره على الفرنج، ويحثه على قتالهم ودفعهم عن البلاد، وكان وصول أهل حلب، وكان أهل حلب يقولون للسلطان: أما تتقي الله تعالى أن يكون ملك الروم أكثر حمية منك للإسلام، حتى قد أرسل إليك في جهادهم.
وفيها، في رمضان، زفت ابنة السلطان ملكشاه إلى الخليفة، وزينت بغداد، وغلقت، وكان بها فرحة عظيمة لم يشاهد الناس مثلها.
وفيها هبت بمصر ريح سوداء أظلمت بها الدنيا، وأخذت بأنفاس الناس، ولم يقدر أحد أن يفتح عينيه، ومن فتحهما لا يبصر يده، ونزل على الناس رمل، ويئس الناس من الحياة، وأيقنوا بالهلاك، ثم تجلى قليلاً، وعاد إلى الصفوة، وكان ذلك من أول وقت العصر إلى بعد المغرب.
وفيها، في المحرم، توفي الكيا الهراس الطبري واسمه أبو الحسن علي بن محمد بن علي، وكان من أعيان الفقهاء الشافعية، أخذ الفقه عن إمام الحرمين الجويني، ودرس بعده في النظامية ببغداد، وتوفي بها، ودفن عند تربة الشيخ أبي إسحاق، ودرس بعده في النظامية الإمام أبو بكر الشاشي.
وفيها توفي أبو الحسين إدريس بن حمزة بن علي الرملي الفقيه الشافعي من أهل الرملة بفلسطين، تفقه على أبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي، وعلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، ودخل خراسان، وولي التدريس بسمرقند، فتوفي بها.
ثم دخلت سنة خمس وخمسمائة
ذكر مسير العساكر إلى قتال الفرنج
في هذه السنة اجتمعت العساكر التي أمرها السلطان بالمسير إلى قتال الفرنج، فكانوا: الأمير مودود، صاحب الموصل، والأمير سكمان القطبي، صاحب تبريز وبعض ديار بكر، والأميرين إيلبكي وزنكي ابني برسق، ولهما همذان وما جاورها، والأمير أحمديل، وله مراغة، وكوتب الأمير أبو الهيجاء، صاحب إربل، والأمير إيلغازي، صاحب ماردين، والأمراء البكجية، باللحاق بالملك مسعود، ومودود، فاجتمعوا، ما عدا الأمير إيلغازي فإنه سير ولده إياز وأقام هو، فلما اجتمعوا ساروا إلى بلدة سنجار، ففتحوا عدة حصون للفرنج، وقتل من بها منهم، وحصروا مدينة الرها مدة، ثم رحلوا عنها من غير أن يملكوها.
وكان سبب رحيلهم عنها أن الفرنج اجتمعت جميعها، فارسها وراجلها، وساروا إلى الفرات ليعبروه ليمنعوا الرها من المسلمين، فلما وصلوا إلى الفرات بلغهم كثرة المسلمين، فلم يقدموا عليه، وأقاموا على الفرات، فلما رأى المسلمون ذلك رحلوا عن الرها إلى حران ليطمع الفرنج ويعبروا الفرات إليهم ويقاتلوهم. فلما رحلوا عنها جاء الفرنج، ومعهم الميرة والذخائر، إلى الرها، فجعلوا فيها كل من فيه عجز وضعف وفقر، وعادوا إلى الفرات فعبروه إلى الجانب الشامي، وطرقوا أعمال حلب، فأفسدوا ما فيها، ونهبوها، وقتلوا فيها وأسروا، وسبوا خلقاً كثيراً.
وكان سبب ذلك أن الفرنج لما عبروا إلى الجزيرة خرج الملك رضوان، صاحب حلب، إلى ما أخذه الفرنج من أعمالها، فاستعاد بعضه، ونهب منهم وقتل، فلما عادوا وعبروا الفرات فعلوا بأعماله ما فعلوا.
وأما العسكر السلطاني فلما سمعوا بعود الفرنج وعبورهم الفرات، رحلوا إلى الرها وحصروها، فرأوا أمراً محكماً، قد قويت نفوس أهلها بالذخائر التي تركت عندهم، وبكثرة المقاتلين عنهم، ولم يجدوا فيهم مطمعاً، فرحلوا عنها، وعبروا الفرات، فحصروا قلعة تل باشر خمسة وأربعين يوماً، ورحلوا عنها ولم يبلغوا غرضاً.
ووصلوا إلى حلب، فأغلق الملك رضوان أبواب البلد، ولم يجتمع بهم، ثم مرض هناك الأمير سكمان القطبي، فعاد مريضاً، فتوفي في بالس، فجعله أصحابه في تابوت، وحملوه عائدين إلى بلاده، فقصدهم إيلغازي ليأخذهم، ويغنم ما معهم، فجعلوا تابوته في القلب، وقاتلوا بين يديه، فانهزم إيلغازي، وغنموا ما معه، وساروا إلى بلادهم.
ولما أغلق الملك رضوان أبواب حلب، ولم يجتمع بالعساكر السلطانية، رحلوا إلى معرة النعمان، واجتمع بهم طغتكين، صاحب دمشق، ونزل على الأمير مودود، فاطلع من الأمراء على نيات فاسدة في حقه، فخاف أن تؤخذ منه دمشق، فشرع في مهادنة الفرنج سراً وكانوا قد نكلوا عن قتال المسلمين، فلم يتم ذلك، وتفرقت العساكر.
وكان سبب تفرقهم أن الأمير برسق بن برسق الذي هو أكبر الأمراء كان به نقرس، فهو يحمل في محفة، ومات سكمان القطبي، كما ذكرنا، وأراد الأمير أحمديل، صاحب مراغة، العود، ليطلب من السلطان أن يقطعه ما كان لسكمان من البلاد، وأتابك طغتكين، صاحب دمشق، خاف الأمراء على نفسه، فلم ينصحهم، إلا أنه حصل بنيه وبين مودود، صاحب الموصل، مودة وصداقة، فتفرقوا لهذه الأسباب، وبقي مودود وطغتكين بالمعرة، فساروا منها، ونزلوا على نهر العاصي.
ولما سمع الفرنج بتفرق عساكر الإسلام طمعوا، وكانوا قد اجتمعوا كلهم، بعد الاختلاف والتباين، وساروا إلى أفامية، فسمع بهم سلطان بن منقذ، صاحب شيزر، فسار إلى مودود وطغتكين، وهون عليهما أمر الفرنج، وحرضهما على الجهاد، فرحلوا إلى شيزر، ونزلوا عليها، ونزل الفرنج بالقرب منهم، فضيق عليهم عسكر المسلمين الميرة، ولزوهم بالقتال، والفرنج يحفظون نفوسهم، ولا يعطون مصافاً، فلما رأوا قوة المسلمين عادوا إلى أفامية وتبعهم المسلمون، فتخطفوا من أدركوه في ساقتهم وعادوا إلى شيزر في ربيع الأول.
ذكر حصر الفرنج مدينة صورلما تفرقت العساكر اجتمعت الفرنج على قصد مدينة صور وحصرها، فساروا إليها مع الملك بغدوين، صاحب القدس، وحشدوا، وجمعوا، ونازلوها وحصروها في الخامس والعشرين من جمادى الأولى، وعملوا عليها ثلاثة أبراج خشب، علو البرج سبعون ذراعاً، وفي كل برج ألف رجل، ونصبوا عليها المجانيق، وألصقوا أحدها إلى سور البلد، وأخلوه من الرجال.
وكانت صور للآمر بأحكام الله العلوي ونائبه بها عز الملك الأعز، فأحضر أهل البلد، واستشارهم في حيلة يدفعون بها شر الأبراج عنهم، فقام شيخ من أهل طرابلس وضمن على نفسه إحراقها، وأخذ معه ألف رجل بالسلاح التام، ومع كل رجل منهم حزمة حطب، فقاتلوا الفرنج إلى أن وصلوا إلى البرج الملتصق بالمدينة، فألقى الحطب من جهاته، وألقى فيه النار، ثم خاف أن يشتغل الفرنج الذين في البرج بإطفاء النار، ويتخلصوا، فرماهم بجرب كان قد أعدها، مملوءة من العذرة، فلما سقطت عليهم اشتغلوا بها وبما نالهم من سوء الرائحة والتلويث، فتمكنت النار منه، فهلك كل من به، إلا القليل، وأخذ منه المسلمون ما قدروا عليه بالكلاليب، ثم أخذ سلال العنب الكبار، وترك فيها الحطب الذي قد سقاه بالنفط، والزفث، والكتان، والكبريت، ورماهم بسبعين سلة، وأحرق البرجين الآخرين.
ثم إن أهل صور حفروا سراديب تحت الأرض ليسقط فيها الفرنج إذا زحفوا إليهم، ولينخسف برج إن عملوه وسيروه إليهم، فاستأمن نفر من المسلمين إلى الفرنج، وأعلموهم بما عملوه، فحذروا منها.
وأرسل أهل البلد إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، يستنجدونه، ويطلبونه ليسلموا البلد إليه، فسار في عساكره إلى نواحي بانياس، وسير إليهم نجدة مائتي فارس، فدخلوا البلد، فامتنع من في بهم، واشتد قتال الفرنج خوفاً من اتصال النجدات، ففني نشاب الأتراك، فقاتلوا بالخشب، وفني النفط، فظفروا بسرب تحت الأرض فيه نفط لا يعلم من خزنه.
ثم إن عز الملك، صاحب صور، أرسل الأموال إلى طغتكين ليكثر من الرجال، ويقصدهم ليملك البلد، فأرسل طغتكين طائراً فيه رقعة ليعلمه وصول المال، ويأمره أن يقيم مركباً بمكان ذكره لتجيء الرجال إليه، فسقط الطائر على مركب الفرنج، فأخذه رجلان: مسلم وفرنجي، فقال الفرنجي: نطلقه لعل فيه فرجاً لهم، فلم يمكنه المسلم، وحمله إلى الملك بغدوين، فلما وقف عليه سير مركباً إلى المكان الذي ذكره طغتكين، وفيه جماعة من المسلمين الذين استأمنوا إليه من صور، فوصل إليهم العسكر، فكلموهم بالعربية، فلم ينكرونهم، وركبوا معهم، فأخذوهم أسرى، وحملوهم إلى الفرنج، فقتلوهم وطمعوا في أهل صور، فكان طغتكين يغير على أعمال الفرنج من جميع جهاتها، وقصد حصن الحبيس في السواد، من أعمال دمشق، وهو للفرنج، فحصره، وملكه بالسيف، وقتل كل من فيه، وعاد إلى الفرنج الذين على صور.
وكان يقطع الميرة عنهم في البر، فأحضروها في البحر، وخندقوا عليهم، ولم يخرجوا إليه، فسار إلى صيدا، وأغار على ظاهرها، فقتل جماعة من البحرية، وأحرق نحو عشرين مركباً على الساحل، وهو مع ذلك يواصل أهل صور بالكتب يأمرهم بالصبر والفرنج يلازمون قتالهم، وقاتل أهل صور قتال من أيس من الحياة، فدام القتال إلى أوان إدراك الغلات، فخاف الفرنج أن طغتكين يستولي على غلات بلادهم، فساروا عن البلد، عاشر شوال، إلى عكة، وعاد عسكر طغتكين إليه، وأعطاهم أهل صور الأموال وغيرها، ثم أصلحوا ما تشعث من سورها وخندقها، وكان الفرنج قد طموه.
ذكر انهزام الفرنج بالأندلسفي هذه السنة خرج أذفونش الفرنجي، صاحب طليطلة بالأندلس، إلى بلاد الإسلام بها، يطلب ملكها، والاستيلاء عليها، وجمع وحشد فأكثر، وكان قد قوي طمعه فيها بسبب موت أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فسمع أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين الخبر، فسار إليه في عساكره وجموعه، فلقيه، فاقتتلوا، واشتد القتال، وكان الظفر للمسلمين، وانهزم الفرنج، وقتلوا قتلاً ذريعاً، وأسر منهم بشر كثير، وسبى منهم، وغنم من أموالهم ما يخرج من الأحصاء، فخرج الفرنج، بعد ذلك، وامتنعوا من قصد بلاده، وذل أذفونش حينئذ وعلم أن في البلاد حامياً لها، وذاباً عنها.
وفي هذه السنة، في جمادى الآخرة، توفي الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي، الإمام المشهور.
ثم دخلت سنة ست وخمسمائةفي هذه السنة، في المحرم، سار مودود، صاحب الموصل، إلى الرها، فنزل عليها، ورعى عسكره زروعها، ورحل عنها إلى سروج، وفعل بها كذلك وأهمل الفرنج، ولم يحترز منهم، فلم يشعر إلا وجوسلين، صاحب تل باشر، قد كبسهم، وكانت دواب العسكر منتشرة في المرعى، فأخذ الفرنج كثيراً منها، وقتلوا كثيراً من العسكر، فلما تأهب المسلمون للقائه، عاد عنهم إلى سروج.
وفيها رحل السلطان محمد من بغداد، وكان مقامه هذه المرة خمسة أشهر، فلما وصل إلى أصبهان قبض على زي الملك أبي سعد القمي، وسلمه إلى الأمير كاميار لعداوة بينهما، فلما وصل إلى الري أركبه كاميار على ردابة بمركب ذهب، وأظهر أن السلطان خلع عليه على مال قرره عليه، فحصل بذلك مالاً كثيراً من أهل القمي، ثم صلبه، وكان سبب قبضه أنه كان يكثر الطعن على الخليفة والسلطان.
وفيها كان ببغداد رجل مغربي يعمل الكيمياء، بزعمه، اسمه أبو علي، فحمل إلى دار الخلافة، وكان آخر العهد به.
وفيها ورد إلى بغداد يوسف بن أيوب الهمذاني، الواعظ، وكان من الزهاد العابدين، فوعظ الناس بها، فقام إليه رجل متفقه، يقال له ابن السقاء، فآذاه في مسألة، وعاوده، فقال له: اجلس، فإني أجد من كلامك رائحة الكفر، ولعلك تموت على غير دين الإسلام، فاتفق بعد مديدة أن ابن السقاء خرج إلى بلاد الروم، وتنصر.
وفيها، في ذي القعدة، سمع ببغداد صوت هدة عظيمة، ولم يكن بالسماء غيم حتى يظن أنه صوت رعد، ولم يعلم أحد أي صوت كان.
وفيها توفي بسيل الأرمني، صاحب الدروب، ببلاد ابن لاون، فسار طنكري، صاحب أنطاكية، أول جمادى الآخرة، إلى بلاده طمعاً في أن يملكها، فمرض في طريقه، فعاد إلى أنطاكية، فمات ثامن جمادى الآخرة، وملكها بعده ابن أخته سرخالة، واستقام الأمر فيها، بعد أن جرى بين الفرنج خلف بسببه، فأصلح بينهم القسوس والرهبان.
وفيها توفي قراجة، صاحب حمص، وكان ظالماً، وقام ولده قرجان مكانه، وكان مثله في قبح السيرة.
وفي هذه السنة توفي المعمر بن علي أبو سعد بن أبي عمامة الواعظ البغدادي، ومولده سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وكان له خاطر حاد، ومجون حسن، وكان الغالب على وعظه أخبار الصالحين.
وتوفي أحمد بن الفرج بن عمر الدينوري، والد شهدة، وكان يروي عن أبي يعلى بن الفراء، وابن المأمون، وابن المهتدي، وابن النقور، وغيرهم، وكان حسن السيرة متزهداً.
وتوفي أبو العلاء صاعد بن منصور بن إسماعيل بن صاعد، الخطيب النيسابوري، وكان من أعيان الفقهاء، وولي قضاء خوارزم، وكان يروي الحديث.
ثم دخلت سنة سبع وخمسمائة
ذكر قتال الفرنج وانهزامهم وقتل مودودفي هذه السنة، في المحرم، اجتمع المسلمون، وفيهم الأمير مودود بن التونتكين، صاحب الموصل، وتميرك، صاحب سنجار، والأمير إياز بن إيلغازي، وطغتكين، صاحب دمشق.
وكان سبب اجتماع المسلمين أن ملك الفرنج بغدوين تابع الغارات على بلد دمشق، ونهبه، وخربه، أواخر سنة ست وخمسمائة، وانقطعت المواد عن دمشق، فغلت الأسعار فيها، وقلت الأقوات، فأرسل طغتكين صاحبها إلى الأمير مودود يشرح له الحال، ويستنجده، ويحثه على سرعة الوصول إليه، فجمع عسكراً، وسار فعبر الفرات آخر ذي القعدة سنة ست وخمسمائة، فخافه الفرنج.
وسمع طغتكين خبره، فسار إليه، ولقيه بسلمية، واتفق رأيهم على قصد بغدوين، ملك القدس، فساروا إلى الأردن، فنزل المسلمون عند الأقحوانة، ونزل الفرنج مع ملكهم بغدوين وجوسلين، صاحب جيشهم، وغيرهما من المقدمين، والفرسان المشهورين، ودخلوا بلاد الفرنج مع مودود، وجمع الفرنج، فالتقوا عند طبرية ثالث عشر المحرم، واشتد القتال، وصبر الفريقان، ثم إن الفرنج انهزموا، وكثر القتل فيهم والأسر، وممن أسر ملكهم بغدوين، فلم يعرف، فأخذ سلاحه وأطلق فنجا، وغرق منهم في بحيرة طبرية ونهر الأردن كثير، وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم، ووصل الفرنج إلى مضيق دون طبرية، فلقيهم عسكر طرابلس وأنطاكية، فقويت نفوسهم بهم، وعاودوا الحرب، فأحاط بهم المسلمون من كل ناحية، وصعد الفرنج إلى جبل غرب طبرية، فأقاموا به ستة وعشرين يوماً، والمسلمون بإزائهم يرمونهم بالنشاب فيصيبون من يقرب منهم، ومنعوا الميرة عنهم لعلهم يخرجون إلى قتالهم، فلم يخرج منهم أحد، فسار المسلمون إلى بيسان، ونهبوا بلاد الفرنج بين عكا إلى القدس، وخربوها، وقتلوا من ظفروا به من النصارى، وانقطعت المادة عنهم لبعدهم عن بلادهم، فعادوا ونزلوا بمرج الصفر.
وأذن الأمير مودود للعساكر في العود والاستراحة، ثم الاجتماع في الربيع لمعاودة الغزاة، وبقي في خواصه ودخل دمشق في الحادي والعشرين من ربيع الأول ليقيم عند طغتكين إلى الربيع. فدخل الجامع يوم الجمعة في ربيع الأول، ليصلي فيه وطغتكين، فلما فرغوا من الصلاة، وخرج إلى صحن الجامع، ويده في يد طغتكين، وثب عليه باطني فضربه فجرحه أربح جراحات وقتل الباطني، وأخذ رأسه، فلم يعرفه أحد، فأحرق.
وكان صائماً، فحمل إلى دار طغتكين، واجتهد به ليفطر، فلم يفعل، وقال: لا لقيت الله إلا صائماً، فمات من يومه، رحمه الله، فقيل إن الباطنية بالشام خافوه وقتلوه، وقيل بل خافه طغتكين فوضع عليه من قتله.
وكان خيراً، عادلاً، كثير الخير، حدثني والدي قال: كتب ملك الفرنج إلى طغتكين، بعد قتل مودود، كتاباً من فصوله: أن أمّة قتلت عميدها. يوم عيدها. في بيت معبودها. لحقيق على الله أن يبيدها.
ولما قتل تسلم تميرك، صاحب سنجار، ما معه من الخزائن والسلاح وحملها إلى السلطان، ودفن مودود بدمشق في تربة دقاق صاحبها، وحمل بعد ذلك إلى بغداد، فدفن في جوار أبي حنيفة، ثم حمل إلى أصبهان.
ذكر الخلف بين السلطان سنجر ومحمد والصلح بينهمافي هذه السنة كثر الحديث عند سنجر: أن محمد خان بن سليمان بن داود قد مد يده إلى أموال الرعايا، وظلمهم ظلما كثيراً، وأنه خرب البلاد بظلمه وشره، وأنه قد صار يستخف بأوامر سنجر، ولا يلتفت إلى شيء منها، فتجهز سنجر وجمع عساكره وسار يريد قصده بما وراء النهر، فخاف محمد خان، فأرسل إلى الأمير قماج، وهو أكبر أمير مع سنجر، يسأله أن يصلح الحال بينه وبين سنجر، وأرسل أيضاً إلى خوارزمشاه بمثل ذلك، وسألهما في إرضاء السلطان عنه، واعترف بأنه أخطأ، فأجاب سنجر إلى صلحه على شرط أن يحضر عنده ويطأ بساطه، فأرسل محمد خان يذكر خوفه لسء صنيعه، ولكنه يحضر الخدمة، ويخدم السلطان، وبينهما نهر جيحون، ثم يعاود بعد ذلك الحضور عنده، والدخول إليه، فحسنوا الإجابة إلى ذلك، والاشتغال بغيره، فامتنع، ثم أجاب.
وكان سنجر على شاطيء جيحون من الجانب الغربي، وجاء محمد خان إلى الجانب الشرقي، فترجل وقبل الأرض وسنجر راكب، وعاد كل واحد منهما إلى خيامه، ورجعوا إلى بلادهم، وسكنت الفتنة بينهما.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سار قفل عظيم من دمشق إلى مصر، فأتى الخبر إلى بغدوين ملك الفرنج، فسار إليه، وعارضه في البر، فأخذهم أجمعين، ولم ينج منهم إلا القليل، ومن سلم أخذه العرب.
وفي هذه السنة توفي الوزير أبو القاسم علي بن محمد بن جهير، وزير الخليفة المستظهر بالله، ووزر بعده الربيب أبو منصور ابن الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين وزير السلطان.
وفيها توفي الملك رضوان بن تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان، صاحب حلب، وقام بعده بحلب ابنه ألب أرسلان الأخرس، وعمره ست عشرة سنة، وكانت أمور رضوان غير محمودة: قتل أخويه أبا طالب وبهرام، وكان يستعين بالباطنية في كثير من أموره لقلة دينه، ولما ملك الأخرس استولى على الأمور لؤلؤ الخادم، ولم يكن للأخرس معه إلا اسم السلطنة، ومعناه للؤلؤ، ولم يكن ألب أرسلان أخرس، وإنما في لسانه حبسة وتمتمة، وأمه بنت باغي سيان الذي كان صاحب أنطاكية، وقتل الأخرس أخوين له أحدهما اسمه ملكشاه، وهو من أبيه وأمه، واسم الآخر مباركشاه، وهو من أبيه، وكان أبوه فعل مثله، فلما توفي قتل ولداه، مكافأة لما اعتمده مع أخويه.
وكان الباطنية قد كثروا بحلب في أيامه، حتى خافهم ابن بديع رئيسها، وأعيان أهلها، فلما توفي قال ابن بديع لألب أرسلان في قتلهم والإيقاع بهم، فأمره بذلك، فقبض على مقدمهم أبي طاهر الصائغ، وعلى جميع أصحابه، فقتل أبا طاهر وجماعة من أعيانهم، وأخذ أموال الباقين وأطلقهم، فمنهم من قصد الفرنج، وتفرقوا في البلاد.
وفي هذه السنة توفي ببغداد أبو بكر أحمد بن علي بن بدران الحلواني الزاهد، منتصف جمادى الأولى، روى الحديث عن القاضي أبي الطيب الطبري، وأبي محمد الجوهري، وأبي طالب العشاري وغيرهم، وروى عنه خلق كثير، ومن آخرهم أبو الفضل عبد الله بن الطوسي، خطيب الموصل.
وإسماعيل بن أحمد بن الحسين بن علي أبو علي بن أبي بكر البيهقي الإمام ابن الإمام، ومولده سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وتوفي بمدينة بيهق، ولوالده تصانيف كثيرة مشهورة.
وشجاع بن أبي شجاع فارس بن الحسين بن فارس أبو غالب الذهلي الحافظ، ومولده سنة ثلاثين وأربعمائة، وروى عن أبيه، وأبي القاسم، وابن المهتدي والجوهري وغيرهم.
والأديب أبو المظفر محمد بن أحمد بن محمد الأبيوردي الشاعر المشهور، وله ديوان حسن، ومن شعره:
تنكر لي دهري، ولم يدر أنني ... أعز، وأحداث الزمان تهون
وظل يريني الخطب كيف اعتداؤه ... وبت أريه الصبر كيف يكون
وله أيضاً:
ركبت طرفي، فأذرى دمعه أسفاً ... عند انصرافي منهم، مضمر الياس
وقال: حتام تؤذيني، فإن سنحت ... حوائج لك، فاركبني إلى الناس
وكانت وفاته بأصبهان، وهو ولد عنبسة بن أبي سفيان بن حرب الأموي.
وتوفي أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر الشاشي، الإمام الفقيه الشافعي، في شوال، مولده سنة سبع وعشرين وأربعمائة، سمع أبا بكر الخطيب، وأبا يعلى بن الفراء، وغيرهما، وتفقه على أبي عبد الله محمد بن الكازروني بديار بكر، وعلى أبي إسحاق الشيرازي ببغداد، وعلى أبي نصر بن الصباغ.
وفيها توفي أبو نصر المؤتمن بن أحمد بن الحسن الساجي، الحافظ المقدسي، ومولده سنة خمس وأربعين وأربعمائة، وكان مكثراً من الحديث، وتفقه على أبي سحاق، وكان ثقة.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسمائة
ذكر مسير آقسنقر البرسقي إلى الشام لحرب الفرنجفي هذه السنة سير السلطان محمد الأمير آقسنقر البرسقي إلى الموصل وأعمالها، والياً عليها، لما بلغه قتل مودود، وسير معه ولده الملك مسعوداً في جيش كثيف، وأمره بقتال الفرنج، وكتب إلى سائر الأمراء بطاعته، فوصل إلى الموصل، واتصلت به عساكرها، وفيهم عماد الدين زنكي بن آقسنقر، الذي ملك هو وأولاده الموصل بعد ذلك، وكان له الشجاعة في الغاية.
واتصل به أيضاً تميرك صاحب سنجار وغيرهما، فسار البرسقي إلى جزيرة ابن عمر، فسلمها إليه نائب مودود بها، وسار معه إلى ماردين، فنازلها البرسقي، حتى أذعن له إيلغازي صاحبها، وسير معه عسكراً مع ولده إياز، فسار عنه البرسقي إلى الرها في خمسة عشر ألف فارس، فنازلها في ذي الحجة، وقاتلها، وصبر له الفرنج، وأصابوا من بعض المسلمين غرة، فأخذوا منهم تسعة رجال وصلبوهم على سورها، فاشتد القتال حينئذ، وحمي المسلمون، وقاتلوا، فقتلوا من الفرنج خمسين فارساً من أعيانهم، وأقام عليها شهرين وأياماً.
وضاقت الميرة على المسلمين، فرحلوا من الرها إلى سميساط، بعد أن خربوا بلد الرها وبلد سروج وبلد سميساط وأطاعه صاحب مرعش على ما نذكره، ثم عاد إلى شحنان، فقبض على إياز بن إيلغازي، حيث لم يحضر أبوه، ونهب سواد ماردين.
ذكر طاعة صاحب مرعش وغيرها البرسقيفي هذه السنة توفي بعض كنود الفرنج، ويعرف بكواسيل، وهو صاحب مرعش، وكيسوم، ورعبان وغيرها، فاستولت زوجته على المملكة، وتحصنت من الفرنج، وأحسنت إلى الأجناد، وراسلت آقسنقر البرسقي، وهو على الرها، واستدعت منه بعض أصحابه لتطيعه، فسير إليها الأمير سنقرجة دزدار، صاحب الخابور، فلما وصل إليها أكرمته، وحملت إليه مالاً كثيراً.
وبينما هو عندها إذ جاء جمع من الفرنج، فواقعوا أصحابه، وهم نحو مائة فارس، واقتتلوا قتالاً شديداً ظفر فيه المسلمون بالفرنج، وقتلوا منهم أكثرهم، وعاد سنقرجة دزدار، وقد أصحبته الهدايا للملك مسعود والبرسقي، وأذعنت بالطاعة، ولما عرف الفرنج ذلك عاد كثير ممن عندها إلى أنطاكية.
ذكر الحرب بين البرسقي وإيلغازي وأسر إيلغازيلما قبض البرسقي على إياز بن إيلغازي سار إلى حصن كيفا، وصاحبها الأمير ركن الدولة داود ابن أخيه سقمان، فاستنجده، فسار معه في عسكره وأحضر خلقاً كثيراً من التركمان، وسار إلى البرسقي، فلقيه، أواخر السنة، واقتتلوا قتالاً شديداً صبروا فيه، فانهزم البرسقي وعسكره، وخلص إياز بن إيلغازي من الأسر، فأرسل السلطان إليه يتهدده، فخافه، وسار إلى الشام إلى حميه طغتكين، صاحب دمشق، فأقام عنده أياماً.
وكان طغتكين أيضاً قد استوحش من السلطان لأنه نسب إليه قتل مودود، فاتفقا على الامتناع، والالتجاء إلى الفرنج، والاحتماء بهم، فراسلا صاحب أنطاكية، وحالفاه، فحضر عندهما على بحيرة قدَس، عند حمص، وجددوا العهود، وعاد إلى أنطاكية، وعاد طغتكين إلى دمشق، وسار إيلغازي إلى الرستن على عزم قصد ديار بكر، وجمع التركمان والعود، فنزل بالرستن ليستريح، فقصده الأمير قرجان بن قراجة، صاحب حمص، وقد تفرق عن إيلغازي أصحابه، فظفر به قرجان وأسره ومعه جماعة من خواصه، وأرسل إلى السلطان يعرفه ذلك، ويسأله تعجيل إنفاذ العساكر لئلا يغلبه طغتكين على إيلغازي.
ولم بلغ طغتكين الخبر عاد إلى حمص، وأرسل في إطلاقه، فامتنع قرجان، وحلف: إن لم يعد طغتكين لنقتلن إيلغازي، فأرسل إيلغازي إلى طغتكين: إن الملاجة تؤذيني، وتسفك دمي، والمصلحة عودك إلى دمشق. فعاد.
وانتظر قرجان وصول العساكر السلطانية، فتأخرت عنه، فخاف أن ينخدع أصحابه لطغتكين، ويسلموا إليه حمص، فعدل إلى الصلح مع إيلغازي على أن يطلقه، ويأخذ ابنه إياز رهينة، ويصاهره، ويمنعه من طغتكين وغيره، فأجابه إلى ذلك، فأطلقه، وتحالفا، وسلم إليه ابنه إياز، وسار عن حمص إلى حلب، وجمع التركمان، وعاد إلى حمص، وطالب بولده إياز، وحصر قرجان إلى أن وصلت العساكر السلطانية، فعاد إيلغازي على ما نذكره.
ذكر وفاة علاء الدولة بن سبكتكين
وملك ابنه وما كان منه مع السلطان سنجرفي هذه السنة، في شوال، توفي الملك علاء الدولة أبو سعد مسعود بن أبي المظفر إبراهيم بن أبي سعد مسعود بن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة، بها، وملك بعده ابنه أرسلانشاه، وأمه سلجوقية، وهي أخت السلطان ألب أرسلان بن داود، فقبض على إخوته وسجنهم، وهرب أخ له اسمه بهرام إلى خراسان، فوصل إلى السلطان سنجر بن ملكشاه، فأرسل إلى أرسلانشاه في معناه، فلم يسمع منه، ولا أصغى إلى قوله، فتجهز سنجر للمسير إلى غزنة، وإقامة بهرامشاه في الملك.
فأرسل أرسلانشاه إلى السلطان محمد يشكو من أخيه سنجر، فأرسل السلطان إلى أخيه سنجر يأمره بمصالحة أرسلانشاه، وترك التعرض له، وقال للرسول: إن رأيت أخي وقد قصدهم، وسار نحوهم، أو قارب أن يسير، فلا تمنعه، ولا تبلغه الرسالة، فإن ذلك يفت في عضده ويوهنه، ولا يعود، ولأن يملك أخي الدنيا أحب إلي. فوصل الرسول إلى سنجر، وقد جهز العساكر إلى غزنة، وجعل على مقدمته الأمير أنر، متقدم عسكره، ومعه الملك بهرامشاه، فساروا حتى بلغوا بست، واتصل بهم فيها أبو الفضل نصر بن خلف، صاحب سجستان.
وسمع أرسلانشاه الخبر، فسير جيشاً كثيفاً، فهزماه، ونهباه، وعاد من سلم إلى غزنة على أسوأ حال، فخضع حينئذ أرسلانشاه وأرسل إلى الأمير أنر يضمن له الأموال الكثيرة ليعود عنه، ويحسن للملك سنجر العود عنه، فلم يفعل.
وتجهز السلطان سنجر، بعد أنر، للمسير بنفسه، فأرسل إليه أرسلانشاه امرأة عمه نصر تسأله الصفح والعود عن قصده، وهي أخت الملك سنجر من السلطان بركيارق، وكان علاء الدولة أبو سعد قد قتل زوجها، ومنعها من الخروج عن غزنة وتزوجها، فسيرها الآن أرسلانشاه، فلما وصلت إلى أخيه أوصلت ما معها من الأموال والهدايا، وكان معها مائتا ألف دينار، وغير ذلك، وطلب من سنجر أن يسلم أخاه بهرام إليه.
وكانت موغرة الصدر من أرسلانشاه، فهونت أمره على سنجر، وأطمعته في البلاد، وسهلت الأمر عليه، وذكرت له ما فعل بإخوته، وكان قتل بعضاً وكحل بعضاً من غير خروج منهم عن الطاعة. فسار الملك سنجر، فلما وصل إلى بست أرسل خادماً من خواصه إلى أرسلانشاه في رسالة، فقبض عليه في بعض القلاع، فسار حينئذ سنجر مجداً، فلما سمع بقربه منه أطلق الرسول، ووصل سنجر إلى غزنة، ووقع بينهما المصاف على فرسخ من غزنة، بصحراء شهراباذ، وكان أرسلانشاه في ثلاثين ألف فارس، وخلق كثير من الرجالة، ومعه مائة وعشرون فيلاً، على كل فيل أربعة نفر، فحملت الفيلة على القلب، وفيه سنجر، فكان من فيه ينهزمون، فقال سنجر لغلمانه الأتراك ليرموها بالنشاب، فتقدم ثلاثة آلاف غلام، فرموا الفيلة رشقاً واحداً جميعاً، فقتلوا منها عدة، فعدلت الفيلة عن القلب إلى الميسرة، وبها أبو الفضل صاحب سجستان، وجالت عليهم، فضعف من في الميسرة، فشجعهم أبو الفضل، وخوفهم من الهزيمة مع بعد ديارهم، وترجل عن فرسه بنفسه، وقصد كبير الفيلة ومتقدمها، ودخل تحتها فشق بطنها، وقتل فيلين آخرين.
ورأى الأمير أنر، وهو في الميمنة، ما في الميسرة من الحرب، فخاف عليها، فحمل من وراء عسكر غزنة، وقصد الميسرة، واختلط بهم، وأعانهم، فكانت الهزيمة على الغزنوية، وكان ركاب الفيلة قد شدوا أنفسهم عليها بالسلاسل، فلما عضتهم الحرب، وعمل فيهم السيف، ألقوا أنفسهم، فبقوا معلقين عليها.
ودخل السلطان سنجر غزنة في العشرين من شوال سنة عشر وخمسمائة، ومعه بهرامشاه. فأما القلعة الكبيرة المشتملة على الأموال، وبينها وبين البلد تسعة فراسخ، وهي عظيمة، فلا مطمع فيها، ولا طريق عليها.
وكان أرسلانشاه قد سجن فيها أخاه طاهراً الخازن، وهو صاحب بهرامشاه، واعتقل بها أيضاً زوجة بهرامشاه، فلما انهزم أرسلانشاه استمال أخوه طاهر المستحفظ بها، فبذل له وللأجناد الزيادات، فسلموا القلعة إلى الملك سنجر.
وأما قلعة البلد فإن أرسلانشاه كان اعتقل بها رسول سنجر، فلما أطلقه بقي غلمانه بها، فسلموا القلعة أيضاً بغير قتال.
وكان قد تقرر بين بهرامشاه وبين سنجر أن يجلس بهرام على سرير جده محمود بن سبكتكين وحده، وأن تكون الخطبة بغزنة للخليفة، وللسلطان محمد، وللملك سنجر، وبعدهم لبهرامشاه. فلما دخلوا غزنة كان سنجر راكباً، وبهرامشاه بين يديه راجلاً، حتى جاء السرير، فصعد بهرامشاه فجلس عليه، ورجع سنجر، وكان يخطب له بالملك، ولبهرامشاه بالسلطان، على عادة آبائه، فكان هذا من أعجب ما يسمع به.
وحصل لأصحاب سنجر من الأموال ما لا يحد ولا يحصى من السلطان والرعايا، وكان في دور لملوكها عدة دور على حيطانها ألواح الفضة، وسواقي المياه إلى البساتين من الفضة أيضاً، فقلع من ذلك أكثره، ونهب، فلما سمع سنجر ما يفعل منه عنه بجهده، وصلب جماعة حتى كف الناس.
وفي جملة ما حصل للملك سنجر خمسة تيجان قيمة أحدها تزيد على ألفي ألف دينار، وألف وثلاثمائة قطعة مصاغة مرصعة، وسبعة عشر سريراً من الذهب والفضة. وأقام بغزنة أربعين يوماً، حتى استقر بهرامشاه، وعاد نحو خراسان، ولم يخطب بغزنة لسلجوقي قبل هذا الوقت، حتى إن السلطان ملكشاه مع تمكنه وكثرة ملكه لم يطمع فيه، وكان كلما رام ذلك منع منه نظام الملك.
وأما أرسلانشاه فإنه لما انهزم قصد هندوستان واجتمع عليه أصحابه، فقويت شوكته، فلما عاد سنجر إلى خراسان توجه إلى غزنة، فلما عرف بهرامشاه قصده إياه توجه إلى باميان، وأرسل إلى الملك سنجر يعلمه الحال، فأرسل إليه عسكراً.
وأقام أرسلانشاه بغزنة شهراً واحداً، وسار يطلب أخاه بهرامشاه، فبلغه وصول عسكر سنجر، فانهزم بغير قتال للخوف الذي باشر قلوب أصحابه، ولحق بجبال أوغنان، فسار أخوه بهرامشاه وعسكر سنجر في أثره، وخربوا البلاد التي هو فيها، وأرسلوا إلى أهلها يتهددونهم، فسلموه بعد المضايقة، فأخذه متقدم جيش الملك سنجر، وأراد حمله إلى صاحبه، فخاف بهرامشاه من ذلك، فبذل له مالاً، فسلمه إليه، فخنقه ودفنه بتربة أبيه بغزنة، وكان عمره سبعاً وعشرين سنة، وكان أحسن إخوته صوراً، وكان قتله في جمادى الآخرة سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وإنما ذكرناه هاهنا لتتصل الحادثة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة، في جمادى الآخرة، كانت زلزلة شديدة بديار الجزيرة، والشام، وغيرها، فخربت كثيراً من الرها، وحزان، وسميساط، وبالس وغيرها، وهلك خلق كثير تحت الهدم.
وفيها قتل تاج الدولة ألب أرسلان بن رضوان، صاحب حلب، قتله غلمانه بقلعة حلب، وأقاموا بعده أخاه سلطان شاه بن رضوان، وكان المستولي عليه لؤلؤ الخادم.
وفيها توفي الشريف النسيب أبو القاسم علي بن إبراهيم بن العباس الحسيني، في ربيع الآخر بدمشق.
ثم دخلت سنة تسع وخمسمائة
ذكر انهزام عسكر السلطان من الفرنجقد ذكرنا ما كان من عصيان إيلغازي وطغتكين على السلطان، وقوة الفرنج، فلما اتصل ذلك بالسلطان محمد جهز عسكراً كثيراً، وجعل مقدمهم الأمير برسق بن برسق، صاحب همذان، ومعه الأمير جيوش بك والأمير كنتغدي، وعساكر الموصل والجزيرة، وأمرهم بالبداية بقتال إيلغازي وطغتكين، فإذا فرغوا منهما قصدوا بلاد الفرنج، وقاتلوهم، وحصروا بلادهم.
فساروا في رمضان من سنة ثمان وخمسمائة، وكان عسكراً كثير العدة، وعبروا الفرات، آخر السنة، عند الرقة، فلما قاربوا حلب راسلوا المتولي لأمرها لؤلؤاً الخادم، ومقدم عسكرها المعروف بشمس الخواص، يأمرونهما بتسليم حلب، وعرضوا عليهما كتب السلطان بذلك، فغالطا في الجواب، وأرسلا إلى إيلغازي وطغتكين يستنجدانهما، فسارا إليهم في ألفي فارس، ودخلا حلب، فامتنع من بها حينئذ عن عسكر السلطان، وأظهروا العصيان، فسار الأمير برسق بن برسق إلى مدينة حماة، وهي في طاعة طغتكين، وبها ثقله، فحصرها، وفتحها عنوة، ونهبها ثلاثة أيام، وسلمها إلى الأمير قرجان، صاحب حمص.
وكان السلطان قد أمر أن يسلم إليه كل بلد يفتحونه، فلما رأى الأمراء ذلك فشلوا وضعفت نياتهم في القتال، بحيث تؤخذ البلاد وتسلم إلى قرجان، فلما سلموا حماة إلى قرجان سلم إليهم إياز بن إيلغازي، وكان قد سار إيلغازي، وطغتكين، وشمس الخواص، إلى أنطاكية واستجاروا بصاحبها روجيل، وسألوه أن يساعدهم على حفظ مدينة حماة، ولم يكن بلغهم فتحها.
ووصل إليهم بأنطاكية بغدوين، صاحب القدس، وصاحب طرابلس، وغيرهما من شياطين الفرنج، واتفق رأيهم على ترك اللقاء لكثرة المسلمين، وقالوا إنهم عند هجوم الشتاء يتفرقون، واجتمعوا بقلعة أفامية، وأقاموا نحو شهرين، فلما انتصف أيلول، ورأوا عزم المسلمين على المقام، تفرقوا، فعاد إيلغازي إلى ماردين، وطغتكين إلى دمشق، والفرنج إلى بلادها.
وكانت أفامية وكفرطاب للفرنج، فقصد المسلمون كفرطاب وحصروها، فلما اشتد الحصر على الفرنج، ورأوا الهلاك، قتلوا أولادهم ونساءهم وأحرقوا أموالهم، ودخل المسلمون البلد عنوة وقهراً، وأسروا صاحبه، وقتلوا من بقي فيه من الفرنج، وساروا إلى قلعة أفامية، فرأوها حصينة، فعادوا عنها إلى المعرة، وهي للفرنج أيضاً، وفارقهم الأمير جيوش بكل إلى وادي بزاعة فملكه.
وسارت العساكر عن المعرة إلى حلب، وتقدمهم ثقلهم ودوابهم، على جاري العادة، والعساكر في أثره متلاحقة، وهم آمنون لا يظنون أحداً يقدم على القرب منهم.
وكان روجيل، صاحب أنطاكية، لما بلغه حصر كفرطاب، سار في خمسمائة فارس وألفي راجل للمنع، فوصل إلى المكان الذي ضربت فيه خيام المسلمين، على غير علم بها، فرآها خالية من الرجال المقاتلة، لأنهم لم يصلوا إليها، فنهب جميع ما هناك، وقتل كثيراً من السوقية، وغلمان العسكر، ووصلت العساكر متفرقة، فكان الفرنج يقتلون كل من وصل إليهم.
ووصل الأمير برسق في نحو مائة فارس، فرأى الحال، فصعد تلاً هناك، ومعه أخوه زنكي، وأحاط بهم من السوقية والغلمان، واحتموا بهم، ومنعوا الأمير برسق من النزول، فأشار عليه أخوه ومن معه بالنزول والنجاة بنفسه، فقال: لا أفعل، بل أقتل في سبيل الله، وأكون فداء المسلمين، فغلبوه على رأيه، فنجا هو ومن معه، فتبعهم الفرنج نحو فرسخ، ثم عادوا وتمموا الغنيمة والقتل، وأحرقوا كثيراً من الناس. وتفرق العسكر، وأخذ كل واحد جهة.
ولما سمع الموكلون بالأسرى المأخوذين من كفرطاب ذلك قتلوهم، وكذلك فعل الموكل بإياز بن إيلغازي قتله أيضاً، وخاف أهل حلب وغيرها من بلاد المسلمين التي بالشام، فإنهم كانوا يرجون النصر من جهة هذا العسكر، فأتاهم ما لم يكن في الحساب، وعادت العساكر عنهم إلى بلادها.
وأما برسق وأخوه زنكي فإنهما توفيا في سنة عشر وخمسمائة، وكان برسق خيراً، ديناً، وقد ندم على الهزيمة، وهو يتجهز للعود إلى الغزاة، فأتاه أجله.
ذكر ملك الفرنج رفنية وأخذها منهمفي هذه السنة، في جمادى الآخرة، ملك الفرنج رفنية من أرض الشام، وهي لطغتكين، صاحب دمشق، وقووها بالرجال والذخائر، وبالغوا في تحصينها، فاهتم طغتكين لذلك، وقوي عزمه على قصد بلاد الفرنج بالنهب لها والتخريب، فأتاه الخبر عن رفنية بخلوها من عسكر يمنع عنها، وليس هناك إلا الفرنج الذين رتبوا لحفظها، فسار إليها جريدة، فلم يشعر من بها إلا وقد هجم عليهم البلد فدخله عنوة وقهراً، وأخذ كل من فيه من الفرنج أسيراً، فقتل البعض، وترك البعض، وغنم المسلمون من سوادهم، وكراعهم، وذخائرهم ما امتلأت منه أيديهم، وعادوا إلى بلادهم سالمين.
ذكر وفاة يحيى بن تميم
وولاية ابنه عليفي هذه السنة توفي يحيى بن تميم بن المعز بن باديس، صاحب إفريقية، يوم عيد الأضحى، فجأة، وكان منجم قد قال له في منستير مولده إن عليه قطعاً في هذا اليوم، فلا يركب، فلم يركب، وخرج أولاده وأهل دولته إلى المصلى، فلما انقضت الصلاة حضروا عنده للسلام عليه وتهنئته، وقرأ القراء، وأنشد الشعراء، وانصرفوا إلى الطعام، فقام يحيى من باب آخر ليحضر معهم على الطعام، فلم يمش غير ثلاث خطا حتى وقع ميتاً وكان ولده علي بمدينة سفاقس، فأحضر وعقدت له الولاية، ودفن يحيى بالقصر، ثم نقل إلى التربة بمنستير، وكان عمره اثنتين وخمسين سنة وخمسة عشر يوماً، وكانت ولايته ثماني سنين وخمسة أشهر وخمسة وعشرين يوماً، وخلف ثلاثين ولداً، فقال عبد الجبار بن محمد بن حمديس الصقلي يرثيه ويهنيء ابنه علياً بالملك:
ما أغمد العضب إلا جرد الذكر، ... ولا اختفى قمر حتى بدا قمر
بموت يحيى أميت الناس كلهم، ... حتى إذا ما علي جاءهم نشروا
إن يبعثوا بسرور من تملكه ... فمن منية يحيى بالأسى قبروا
أوفى علي، فسن الملك ضاحكة، ... وعينها من أبيه دمعها همر
شقت جيوب المعالي بالأسى فبكت ... في كل أفق عليه الأنجم الزهر
وقل لابن تميم حزن ما دهما، ... فكل حزن عظيم فيه محتقر
قام الدليل ويحيى لا حياة له، ... إن المنية لا تبقي، ولا تذر
وكان يحيى عادلاً في رعيته، ضابطاً لأمور دولته، مدبراً لجميع أحواله، رحيماً بالضعفاء والفقراء، يكثر الصدقة عليهم، ويقرب أهل العلم والفضل، وكان عالماً بالأخبار، وأيام الناس، والطب، وكان حسن الوجه، أشهل العين، إلى الطول ما هو.
ولما استقر علي في الملك جهز أسطولاً إلى جزيرة جربة، وسببه أن أهلها كانوا يقطعون الطريق، ويأخذون التجار، فحصرها، وضيق على من فيها فدخلوا تحت طاعته، والتزموا ترك الفساد، وضمنوا إصلاح الطريق، وكف عنهم عند ذلك، وصلح أمر البحر، وأمن المسافرون.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في رجب، قدم السلطان محمد بغداد، ووصل إليه أتابك طغتكين، صاحب دمشق، في ذي القعدة، وسأل الرضا عنه، فرضي عنه السلطان، وخلع عليه، ورده إلى دمشق.
وفيها أمر الإمام المستظهر بالله ببيع البدرية، وهي منسوبة إلى بدر غلام المعتضد بالله، وكانت من أحسن دور الخلفاء، وكان ينزلها الراضي بالله، ثم تهدمت وصارت تلاً، فأمر القادر بالله أن يسور عليها سور، لأنها مع الدار الإمامية، ففعل ذلك، فلما كان الآن أمر ببيعها فبيعت، وعمرها الناس.
وفيها، في شعبان، وقعت الفتنة بين العامة، وسببها أن الناس لما عادوا من زيارة مصعب اختصموا على من يدخل أولاً، فاقتتلوا، وقتل بينهم جماعة، وعادت الفتن بين أهل المحال كما كانت، ثم سكنت.
وفيها أقطع السلطان محمد الموصل وما كان بيد آقسنقر البرسقي للأمير جيوش بك، وسير ولده الملك مسعوداً، وأقام البرسقي بالرحبة، وهي إقطاعه، إلى أن توفي السلطان محمد، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها توفي إسماعيل بن محمد بن أحمد بن ملة الأصبهاني، أبو عثمان بن أبي سعيد الواعظ، سمع الكثير، وحدس ببغداد وغيرها، وعبد الله بن المبارك بن موسى السقطي، أبو البركات، له رحلة، وله تصانيف، وكان أديباً.
ثم دخلت سنة عشر وخمسمائة
ذكر قتل أحمديل بن وهسوذانفي هذه السنة، أول المحرم، حضر أتابك طغتكين، صاحب دمشق، دار السلطان محمد ببغداد، وحضر جماعة الأمراء، ومعهم أحمديل بن إبراهيم بن وهسوذان الروادي، الكردي، صاحب مراغة وغيرها من أذربيجان، وهو جالس إلى جانب طغتكين، فأتاه رجل متظلم، وبيده رقعة، وهو يبكي، ويسأله أن يوصلها إلى السلطان، فأخذها من يده، فضربه الرجل بسكين، فجذبه أحمديل وتركه تحته، فوثب رفيق للباطني وضرب أحمديل سكيناً أخرى، فأخذتهما السيوف، وأقبل رفيق لهما وضرب أحمديل ضربة أخرى، فعجب الناس من إقدامه بعد قتل صاحبيه، وظن طغتكين والحاضرون أن طغتكين كان المقصود بالقتل، وأنه بأمر السلطان، فلما علموا أنهم باطنية زال هذا الوهم.
ذكر وفاة جاولي سقاوو
وحال بلاد فارس معهفي هذه السنة توفي جاولي سقاوو، وكان السلطان ببغداد عازماً على المقام بها، فاضطر إلى المسير إلى أصبهان ليكون قريباً من فارس، لئلا تختلف عليه، وقد ذكرنا حال جاولي بالموصل إلى أن ملكت منه وأخذها السلطان، فلما قصد السلطان ورضي عنه أقطعه بلاد فارس، فسار جاولي إليها، ومعه ولد السلطان جغري، وهو طفل له من العمر سنتان، وأمره بإصلاحها، وقمع المفسدين بها، فسار إليها، فأول ما اعتمده فيها أنه لم يتوسط بلاد الأمير بلدجي، وهو من كبار مماليك السلطان ملكشاه، ومن جملة بلاده كليل وسرماه، وكان متمكناً بتلك البلاد.
وراسله جاولي ليحضر خدمة جغري، ولد السلطان، وعلم جغري أن يقول بالفارسية خذوه، فلما دخل بلدجي قال جغري، على عادته: خذوه، فأخذ وقتل، ونهبت أمواله.
وكان لبلدجي، من جملة حصونه، قلعة إصطخر، وهي من أمنع القلاع وأحصنها، وكان بها أهله وذخائره، وقد استناب في حفظها وزيراً له يعرف بالجهرمي، فعصى عليه، وأخرج إليه أهله وبعض المال، ولم تزل في يد الجهرمي حتى وصل جاولي إلى فارس فأخذها منه، وجعل فيها أمواله.
وكان بفارس جماعة من أمراء الشوانكارة، وهم خلق كثير لا يحصون، ومقدمهم الحسن بن المبارز، المعروف بخسرو، وله فسا وغيرها، فراسله جاولي ليحضر خدمة جغري، فأجاب: إنني عبد السلطان، وفي طاعته، فأما الحضور فلا سبيل إليه، لأنني قد عرفت عادتك مع بلدجي وغيره، ولكنني أحمل إلى السلطان ما يؤثره. فلما سمع جاولي جوابه علم أنه لا مقام له بفارس معه، فأظهر العود إلى السلطان، وحمل أثقاله على الدواب، وسار كأنه يطلب السلطان، ورجع الرسول إلى خسرو فأخبره، فاغتر وقعد للشرب، وأمن.
وأما جاولي فإنه عاد من الطريق إلى خسرو جريدة في نفر يسير، فوصل إليه وهو مخمور نائم، فكبسه، فأنبهه أخوه فضلوه، فلم يستيقظ، فصب عليه الماء البارد، فأفاق، وركب من وقته وانهزم، وتفرق أصحابه، ونهب جاولي ثقله وأمواله، وأكثر القتل في أصحابه، ونجا خسرو إلى حصنه، وهو بين جبلين، يقال لأحدهما أنج.
وسار جاولي إلى مدينة فسا فتسلمها، ونهب كثيراً من بلاد فارس منها جهرم، وسار إلى خسرو، وحصره مدة، وضيق عليه، فرأى من امتناع حصنه وقوته، وكثرة ذخائره ما علم معه أن المدة تطول عليه، فصالحه ليشتغل بباقي بلاد فارس، ورحل عنه إلى شيراز، فأقام بها، ثم توجه إلى كارزون فملكها، وحصر أبا سعد محمد بن مما في قلعته، وأقام عليها سنتين صيفاً وشتاء، فراسله جاولي في الصلح، فقتل الرسول، فأرسل إليه قوماً من الصوفية، فأطعمهم الهريسة والقطائف، ثم أمر بهم فخيطت أدبارهم وألقوا في الشمس فهلكوا، ثم نفذ ما عند أبي سعد، فطلب الأمان فأمنه، وتسلم الحصن.
ثم إن جاولي أساء معاملته، فهرب، فقبض على أولاده، وبث الرجال في أثره، فرأى بعضهم زنجياً يحمل شيئاً، فقال: ما معك؟ فقال: زادي، ففتشه، فرأى دجاجاً، وحلواء السكر، فقال: ما هذا من طعامك! فضربه، فأقر على أبي سعد، وأنه يحمل ذلك إليه، فقصدوه، وهو في شعب جبل، فأخذه الجندي وحمله إلى جاولي فقتله.
وسار إلى داربجرد، وصاحبها اسمه إبراهيم، فهرب صاحبها منه إلى كرمان خوفاً منه، وكان بينه وبين صاحب كرمان صهر، وهو أرسلانشاه بن كرمانشاه بن أرسلان بك بن قاورت، فقال له: لو تعاضدنا لم يقدر علينا جاولي، وطلب منه النجدة.
وسار جاولي بعد هربه منه إلى حصار رتيل رننه، يعني مضيق رننه، وهو موضع لم يؤخذ قهراً قط، لأنه واد نحو فرسخين، وفي صدره قلعة منيعة على جبل عال، وأهل داربجرد يتحصنون به إذا خافوا، فأقاموا به، وحفظوا أعلاه.
فلما رأى جاولي حصانته سار يطلب البرية نحو كرمان، كاتماً أمره، ثم رجع من طريق كرمان إلى داربجرد، مظهراً أنه من عسكر الملك أرسلانشاه، صاحب كرمان، فلم يشك أهل الحصن أنهم مدد لهم مع صاحبهم، فأظهروا السرور، وأذنوا له في دخول المضيق، فلما دخله وضع السيف فيمن هناك، فلم ينج غير القليل، ونهب أموال أهل داربجرد وعاد إلى مكانه، وراسل خسرو يعلمه أنه عازم على التوجه إلى كرمان، ويدعوه إليه، فلم يجد بداً من موافقته، فنزل إليه طائعاً، وسار مع إلى كرمان، وأرسل إلى صاحبها القاضي أبا طاهر عبد الله بن طاهر قاضي شيراز، يأمره بإعادة الشوانكارة لأنهم رعية السلطان، يقول: إنه متى أعادهم عاد عن قصد بلاده، وإلا قصده، فأعاد صاحب كرمان جواب الرسالة يتضمن الشفاعة فيهم، حيث استجاروا به.
ولما وصل الرسول إلى جاولي أحسن إليه، وأجزل له العطاء، وأفسده على صاحبه، وجعله عيناً له عليه، وقرر معه إعادة عسكر كرمان ليدخل البلاد وهم غارون، فلما عاد الرسول وبلغ السيرجان، وبها عساكر صاحب كرمان، ووزيره مقدم الجيش، أعلم الوزير ما عليه جاولي من المقاربة، وأنه يفارق ما كرهوه، وأكثر من هذا النوع، وقال: لكنه مستوحش من اجتماع العساكر بالسيرجان، وإن أعداء جاولي طمعوا فيه بهذا العسكر، والرأي أن تعاد العساكر إلى بلادها.
فعاد الوزير والعساكر، وخلت السيرجان، وسار جاولي في أثر الرسول، فنزل بفرج، وهي الحد بين فارس وكرمان، فحاصرها، فلما بلغ ذلك ملك كرمان أحضر الرسول وأنكر عليه إعادة العسكر، فاعتذر إليه. وكان مع الرسول فراش لجاولي ليعود إليه بالأخبار، فارتاب به الوزير، فعاقبه، فأقر على الرسول، فصلب، ونهبت أمواله، وصلب الفراش، وندب العساكر إلى المسير إلى جاولي، فساروا في ستة آلاف فارس.
وكانت الولاية التي هي الحد بين فارس وكرمان بيد إنسان يسمى موسى، وكان ذا رأي ومكر، فاجتمع بالعسكر، وأشار عليهم بترك الجادة المسلوكة، وقال: إن جاولي محتاط منها، وسلك بهم طريقاً غير مسلوكة، بين جبال ومضايق.
وكان جاولي يحاصر فرج، وقد ضيق على من بها، وهو يدمن الشرب، فسير أميراً في طائفة من عسكره ليلقى العسكر المنفذ من كرمان، فسار الأمير، فلم ير أحداً، فظن أنهم قد عادوا، فرجع إلى جاولي وقال: إن العسكر كان قليلاً، فعاد خوفاً منا، فاطمأن حينئذ جاولي، وأدمن شرب الخمر.
ووصل عسكر كرمان إليه ليلاً، وهو سكران، نائم، فأيقظه بعض أصحابه وأخبره، فقطع لسانه، فأتاه غيره وأيقظه وعرفه الحال، فاستيقظ وركب وانهزم، وقد تفرق عسكره منهزمين، فقتل منهم وأسر كثير، وأدركه خسرو وابن أبي سعد الذي قتل جاولي أباه، فسارا معه في أصحابهما، فلم ير معه أحداً من أصحابه الأتراك، فخاف على نفسه منهم، فقالا له: إنا لا نغدر بك، ولن ترى منا إلا الخير والسلامة، وسارا معه، حتى وصل إلى مدينة فسا، واتصل به المنهزمون من أصحابه، وأطلق صاحب كرمان الأسرى وجهزهم، وكانت هذه الوقعة في شوال سنة ثمان وخمسمائة.
وبينما جاولي يدبر الأمر ليعاود كرمان، ويأخذ بثأره، توفي الملك جغري ابن السلطان محمد، وعمره خمس سنين، وكانت وفاته في ذي الحجة سنة تسع وخمسمائة، ففت ذلك في عضده، فأرسل ملك كرمان رسولاً إلى السلطان، وهو ببغداد، يطلب منه منع جاولي عنه، فأجابه السلطان أنه لا بد من إرضاء جاولي وتسليم فرج إليه، فعاد الرسول في ربيع الأول سنة عشر وخمسمائة، فتوفي جاولي، فأمنوا ما كانوا يخافونه، فلما سمع السلطان سار عن بغداد إلى أصبهان، خوفاً على فارس من صاحب كرمان.
ذكر فتح جبل وسلات وتونسفي هذه السنة حصر عسكر علي بن يحيى، صاحب إفريقية، مدينة تونس، وبها أحمد بن خراسان، وضيق على من بها، فصالحه على ما أراد.
وفيها فتح أيضاً جبل وسلات بإفريقية، واستولى عليه، وهو جبل منيع، ولم يزل أهله، طول الدهر، يفتكون بالناس، ويقطعون الطريق، فلما استمر ذلك منهم سير إليهم جيشاً، فكان أهل الجبل ينزلون إلى الجيش، ويقاتلون أشد قتال، فعمل قائد الجيش الحيلة في الصعود إلى الجبل من شعب لم يكن أحد يظن أنه يصعد منه، فلما صار في أعلاه، في طائفة من أصحابه، ثار إليه أهل الجبل، فصبر لهم، وقاتلهم فيمن مع أشد قتال، وتتابع الجيش في الصعود إليه، فانهزم أهل الجبل، وكثر القتل فيهم، ومنهم من رمى نفسه فتكسر، ومنهم من أفلت، واحتمى جماعة كثيرة بقصر في الجبل، فلما أحاط بهم الجيش طلبوا أن يرسل إليهم من يصلح حالهم، فأرسل إليهم جماعة من العرب والجند، فثار بهم أولئك بالسلاح، فقتلوا بعضهم، وطلع الباقون إلى أعلى القصر، ونادوا أصحابهم من الجيش، فأتوهم وقاتلوهم: بعضهم من أعلى القصر، وبعضهم من أسفله، فألقى من فيه من أهل الجبل أيديهم، فقتلوا كلهم.
ذكر الفتنة بطوسفي هذه السنة، في عاشوراء، كانت فتنة عظيمة بطوس، في مشهد علي بن موسى الرضا عليه السلام.
وسببها: أن علوياً خاصم، في المشهد، يوم عاشوراء، بعض فقهاء طوس، فأدى ذلك إلى مضاربة، وانقطعت الفتنة، ثم استعان كل منهما بحزبه، فثارت فتنة عظيمة حضرها جميع أهل طوس، وأحاطوا بالمشهد وخربوه، وقتلوا من وجدوا، فقتل بينهم جماعة ونهبت أموال جمة، وافترقوا.
وترك أهل المشهد الخطبة أيام الجمعات فيه، فبنى عليه عضد الدين فرامرز بن علي سوراً منيعاً يحتمي به من بالمشهد على من يريده بسوء، وكان بناؤه سنة خمس عشرة وخمسمائة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وقعت النار في الحظائر المجاورة للمدرسة النظامية ببغداد، فاحترقت الأخشاب التي بها، واتصل الحريق إلى درب السلسلة، وتطاير الشرر إلى باب المراتب، فاحترقت منه عدة دور، واحترقت خزانة كتب النظامية، وسلمت الكتب، لأن الفقهاء لما أحسوا بالنار نقلوها.
وفيها توفي عبد الله بن يحيى بن محمد بن بهلول أبو محمد الأندلسي، السرقسطي، وكان فقيهاً، فاضلاً، ورد العراق نحو سنة خمسمائة، وسار إلى خراسان، فسكن مرو الروذ، فمات بها، وله شعر حسن، فمنه:
ومهفهف يختال في أبراده، ... مرح القضيب اللدن تحت البارح
أبصرت في مرآة فكري خده، ... فحكيت فعل جفونه بجوارحي
ما كنت أحسب أن فعل توهمي ... يقوى تعديه، فيجرح جارحي
لا غرو إن جرح التوهم خده، ... فالسحر يعمل في البعيد النازح
وفيها، في شعبان، توفي أبو القاسم علي بن محمد بن أحمد بن بيان الرزاز، ومولده في صفر سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وهو آخر من حدث عن أبي الحسن بن مخلد، وأبي القاسم بن بشران.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني، رئيس الشافعية، بمرو، ومولده سنة ست وأربعين وأربعمائة، وسمع الحديث الكثير وصنف فيه، وله فيه أمال حسنة، وتكلم على الحديث، فأحسن ما شاء.
وفيها توفي محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني أبو الخطاب الفقيه الحنبلي، ومولده سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وتفقه على أبي يعلى بن الفراء.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وخمسمائة
ذكر وفاة السلطان محمد
وملك ابنه محمودفي هذه السنة، في الرابع والعشرين من ذي الحجة، توفي السلطان محمد ابن ملكشاه بن ألب أرسلان، وكان ابتداء مرضه في شعبان، وانقطع عن الركوب، وتزايد مرضه، ودام، وأرجف عليه بالموت، فلما كان يوم عيد النحر حضر السلطان، وحضر ولده السلطان محمود على السماط، فنهبه الناس، ثم أذن لهم فدخلوا إلى السلطان محمد، وقد تكلف القعود لهم، وبين يديه سماط كبير، فأكلوا وخرجوا. فلما انتصف ذو الحجة أيس من نفسه، فأحضر ولده محموداً، وقبله، وبكى كل واحد منهما، وأمره أن يخرج ويجلس على تخت السلطنة، وينظر في أمور الناس، وعمره إذ ذاك قد زاد على أربع عشرة سنة، فقال لوالده: إنه يوم غير مبارك، يعني من طريق النجوم، فقال: صدقت، ولكن على أبيك، وأما عليك فمبارك بالسلطنة. فخرج وجلس على التخت بالتاج والسوارين.
وفي يوم الخميس الرابع والعشرين أحضر الأمراء وأعلموا بوفاته، وقرئت وصيته إلى ولده محمود يأمره بالعدل والإحسان، وفي الجمعة الخامس والعشرين منه خطب لمحمود بالسلطنة.
وكان مولد السلطان محمود ثامن عشر شعبان من سنة أربع وسبعين وأربعمائة، وكان عمره سبعاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وأول ما دعي له بالسلطنة، ببغداد، في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين، وقطعت خطبته عدة دفعات على ما ذكرناه، ولقي من المشاق والأخطار ما لا حد له، فلما توفي أخوه بركيارق صفت له السلطنة، عظمت هيبته، وكثرت جيوشه وأمواله، وكان اجتمع الناس عليه اثنتي عشرة سنة وستة أشهر.
ذكر بعض سيرتهكان عادلاً، حسن السيرة، شجاعاً، فمن عدله أنه اشترى مماليك من بعض التجار، وأحالهم بالثمن على عامل خوزستان، فأعطاهم البعض، ومطل بالباقي، فحضروا مجلس الحكم، وأخذوا معهم غلمان القاضي، فلما رآهم السلطان قال لحاجبه: انظر ما حال هؤلاء، فسألهم عن حالهم، فقالوا: لنا خصم يحضر معنا مجلس الحكم، فقال: من هو؟ قالوا: السلطان، وذكروا قصتهم، فأعلمه ذلك، فاشتد عليه وأكره، وأمر بإحضار العامل، وأمره بإيصال أموالهم، والجعل الثقيل، ونكل به حتى يمتنع غيره عن مثل فعله، ثم إنه كان يقول بعد ذلك: لقد ندمت ندماً عظيماً حيث لم أحضر معهم مجلس الحكم، فيقتدي بي غيري، ولا يمتنع أحد عن الحضور فيه وأداء الحق.
فمن عدله: أنه كان له خازن يعرف بأبي أحمد القزويني قتله الباطنية، فلما قتل أمر بعرض الخزانة، فعرض عليه فيها درج فيه جوهر كثير نفيس، فقال إن هذا الجوهر عرضه علي، منذ أيام، وهو في ملك أصحابه، وسلمه إلي خادم ليحفظه وينظر من أصحابه فيسلم إليهم، فسأل عنهم، وكانوا تجاراً غرباء، وقد تيقنوا ذهابه وأيسوا منه، فسكتوا، فأحضرهم وسلمه إليهم.
ومن عدله، أنه أطلق المكوس والضرائب في جميع البلاد، ولم يعرف منه فعل قبيح، وعلم الأمراء سيرته، فلم يقدم أحد منهم على الظلم، وكفوا عنه.
ومن محاسن أعماله ما فعله مع الباطنية على ما نذكره.
ذكر حال الباطنية أيام السلطان محمدقد تقدم ذكر ما اعتمده من حصر قلاعهم، ونحن نذكر هاهنا زيادة اهتمامه بأمرهم، فإنه، رحمه الله تعالى، لما علم أن مصالح البلاد والعباد منوطة بمحو آثارهم، وإخراب ديارهم، وملك حصونهم وقلاعهم، جعل قصدهم دأبه.
وكان، في أيامه، المقدم عليهم، ولقيهم بأمرهم الحسن بن الصباح الرازي، صاحب قلعة ألموت، وكانت أيامه قد طالت، وله منذ ملك قلعة ألموت ما يقارب ستاً وعشرين سنة، وكان المجاورون له في أقبح صورة من كثرة غزاته عليهم، وقتله وأسره رجالهم، وسبي نسائهم، فسير إليه السلطان العساكر، على ما ذكرناه، فعادت من غير بلوغ غرض. فلما أعضل داؤه ندب لقتاله الأمير أنوشتكين شيركير، صاحب آبة، وساوة، وغيرهما، فملك منهم عدة قلاع منها قلعة كلام، ملكها في جمادى الأولى سنة خمس وخمسمائة، وكان مقدمها يعرف بعلي بن موسى، فأمنه ومن معه، وسيرهم إلى ألموت، وملك منهم أيضاً قلعة بيرة، وهي على سبعة فراسخ من قزوين، وأمنهم، وسيرهم إلى ألموت أيضاً.
وسار إلى قلعة ألموت فيمن معه من العساكر، وأمده السلطان بعدة من الأمراء، فحصرهم، وكان هو، من بينهم، صاحب القريحة والبصيرة في قتالهم، مع جودة رأي وشجاعة، فبنى عليها مساكن يسكنها هو ومن معه، وعين لكل طائفة من الأمراء أشهراً يقيمونها، فكانوا ينيبون، ويحضرون، وهو ملازم الحصار، وكان السلطان ينقل إليه الميرة، والذخائر، والرجال، فضاق الأمر على الباطنية، وعدمت عندهم الأقوات وغيرها، فلما اشتد عليهم الأمر نزلوا نساءهم وأبناءهم مستأمنين، وسألوا أن يفرج لهم ولرجالهم عن الطريق، ويؤمنوا، فلم يجابوا إلى ذلك، وأعادهم إلى القلعة، قصداً، ليموت الجميع جوعاً.
وكان ابن الصباح يجري لكل رجل منهم، في اليوم، رغيفاً، وثلاث جوزات، فلما بلغ بهم الأمر إلى الحد الذي لا مزيد عليه، بلغهم موت السلطان محمد، فقويت نفوسهم، وطابت قلوبهم، ووصل الخبر إلى العسكر المحاصر لهم بعدهم بيوم، وعزموا على الرحيل، فقال شيركير: إن رحلنا عنهم، وشاع الأمر، نزلوا إلينا، وأخذوا ما أعددناه، من الأقوات والذخائر، والرأي أن نقيم على قلعتهم حتى نفتحها، وإن لم يكن المقام، فلا بد من مقام ثلاثة أيام، حتى ينفد منا ثقلنا وما أعددناه، ونحرق ما نعجز عن حمله لئلا يأخذه العدو.
فلما سمعوا قوله علموا صدقه، فتعاهدوا على الاتفاق والاجتماع، فلما أمسوا رحلوا من غير مشاورة، ولم يبق غير شيركير، ونزل إليه الباطنية من القلعة، فدافعهم وحمى من تخلف من سوقة العسكر وأتباعه، ولحق بالعسكر، فلما فارق القلعة غنم بالباطنية ما تخلف عندهم.
؟؟
ذكر حصار قابس والمهديةفي هذه السنة جهز علي بن يحيى، صاحب إفريقية، أسطولاً في البحر إلى مدينة قابس، وحصرها.
وسبب ذلك أن صاحبها رافع بن مكن الدهماني أنشأ مركباً بساحلها ليحمل التجار في البحر، وكان ذلك آخر أيام الأمير يحيى، فلم ينكر يحيى ذلك، جرياً على عادته في المداراة، فلما ولي علي الأمر، بعد أبيه، أنف من ذلك وقال: لا يكون لأحد من أهل إفريقية أن يناوئني في إجراء المراكب في البحر بالتجار، فلما خاف رافع أن يمنعه علي التجأ إلى اللعين رجار ملك الفرنج بصقلية، واعتضد به، فوعده رجار أن ينصره ويعينه على إجراء مركبه في البحر، وأنفذ في الحال أسطولاً إلى قابس، فاجتازوا بالمهدية، فحينئذ تحقق علي اتفاقهما، وكان يكذبه.
فلما جاز أسطول رجار بالمهدية أخرج علي أسطوله في أثره، فتوافى الجميع إلى قابس، فلما رأى صاحبها أسطول الفرنج والمسلمين لم يخرج مركبه، فعاد أسطول الفرنج، وبقي أسطول علي يحصر رافعاً بقابس مضيقاً عليها.
ثم عادوا إلى المهدية، وتمادى رافع في المخالفة لعلي، وجمع قبائل العرب، وسار بهم، حتى نزل على المهدية محصراً لها، وخادع علياً، وقال: إنني إنما جئت للدخول في الطاعة، وطلب من يسعى في الصلح، وأفعاله تكذب أقواله، فلم يجبه عن ذلك بحرف، وأخرج العساكر، وحملوا على رافع ومن معه حملة منكرة، فألحقوهم بالبيوت، ووصل العسكر إلى البيوت، فلما رأى ذلك النساء صحن، وولولن، فغارت العرب، وعاودت القتال، واشتد حينئذ الأمر إلى المغرب، ثم افترقوا، وقد قتل من عسكر رافع بشر كثير، ولم يقتل من جند علي غير رجل واحد من الرجالة.
ثم خرج عسكر علي مرة أخرى، فاقتتلوا أشد من القتال الأول، وكان الظهور فيه لعسكر علي، فلما رأى رافع أنه لا طاقة له بهم رحل عن المهدية ليلاً إلى القيروان، فمنعه أهلها من دخولها، فقاتلهم أياماً قلائل، ثم دخلها، فأرسل علي إليه عسكراً من المهدية، فحصروه فيها إلى أن خرج عنها، وعاد إلى قابس، ثم إن جماعة من أعيان إفريقية، من العرب وغيرهم، سألوا علياً في الصلح، فامتنع، ثم أجاب إلى ذلك، وتعاهد عليه.
ذكر الوحشة بين رجار والأمير عليكان رجار، صاحب صقلية، بينه وبين الأمير علي، صاحب إفريقية، مودة وكيدة، إلى أن أعان رافعاً كما تقدم قبل، فاستوحش كل منهما من صاحبه، ثم بعد ذلك خاطبه رجار بما لم تجر عادتهم به، فتأكدت الوحشة، فأرسل رجار رسالة فيها خشونة، فاحترز علي منه، وأمر بتجديد الأسطول، وإعداد الأهبة للقاء العدو، وكاتب المرابطين بمراكش في الاجتماع معه على الدخول إلى صقلية، فكف رجار عما كان يعتمده.
ذكر قتل صاحب حلب واستيلاء إيلغازي عليهافي هذه السنة قتل لؤلؤ الخادم، وكان قد استولى على قلعة حلب وأعمالها، بعد وفاة الملك رضوان، وولي أتابكية ولده ألب أرسلان، فلما مات أقام بعده في الملك سلطانشاه بن رضوان، وحكم في دولته أكثر من حكمه في دولة أخيه، فلما كانت هذه السنة سار منها إلى قلعة جعبر ليجتمع بالأمير سالم بن مالك صاحبها، فلما كان عند قلعة نادر نزل يريق الماء، فقصده جماعة من أصحابه الأتراك، وصاحوا: أرنب، أرنب! وأوهموا أنهم يتصيدون، ورموه بالنشاب، فقتل، فلما هلك نهبوا خزانته، فخرج إليهم أهل حلب، فاستعادوا ما أخذوه.
وولي أتابكية سلطانشاه بن رضوان شمس الخواص يارو قتاش، فبقي شهراً، وعزلوه، وولي بعده أبو المعالي بن الملحي الدمشقي، ثم عزلوه وصادروه.
وقيل: كان سبب قتل لؤلؤ أنه أراد قتل سلطانشاه، كما قتل أخاه ألب أرسلان قبله، ففطن به أصحاب سلطانشاه، فقتلوه، وقيل كان قتله سنة عشر وخمسمائة، والله أعلم.
ثم إن أهل حلب خافوا من الفرنج، فسلموا البلد إلى نجم الدين إيلغازي، فلما تسلمه لم يجد فيه مالاً، ولا ذخيرة، لأن الخادم كان قد فرق الجميع، وكان الملك رضوان قد جمع فأكثر، فرزقه الله غير أولاده، فلما رأى إيلغازي خلو البلد من الأموال صادر جماعة من الخدم بمال صانع به الفرنج، وهادنهم مدة يسيرة تكون بمقدار مسيره إلى ماردين، وجمع العساكر والعود، لما تمت الهدنة سار إلى ماردين، على هذا العزم، واستخلف بحلب ابنه حسام الدين تمرتاش.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في رابع عشر، انخسف القمر انخسافاً كلياً.
وفي هذه الليلة هجم الفرنج على ربض حماة من الشام، وقتلوا من أهلها ما يزيد على مائة رجل وعادوا.
وفيها، في يوم عرفة، كانت زلزلة بالعراق، والجزيرة، وكثير من البلاد، وخربت ببغداد دور كثيرة بالجانب الغربي.
وفيها مات أحمد العربي ببغداد، وكان من عباد الله الصالحين، له كرامات، وقبر يزار بها.
وفي هذه السنة، في شوال، توفي أبو علي محمد بن سعد بن إبراهيم بن نبهان الكاتب، وعمره مائة سنة، وكان عالي الإسناد، وروى عن أبي علي بن شاذان وغيره، والحسن بن أحمد بن جعفر أبو عبد الله الشقاق الفرضي، الحاسب، وكان واحد عصره في علم الفرائض والحساب، وسمع الحديث من أبي الحسين بن المهتدي وغيره.
وفيها مات الكزايكس ملك القسطنطينية، وملك بعده ابنه يوحنا، وسلك سيرته.
وفيها مات دوقس أنطاكية، وكفى الله شره.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وخمسمائة
ذكر ما فعله السلطان محمود بالعراق
وولاية البرسقي شحنكية بغدادلما توفي السلطان محمد، وملك بعده ابنه محمود، ودبر دولته الوزير الربيب أبو منصور، أرسل إلى الخليفة المستظهر بالله يطلب أن يخطب له ببغداد، فخطب له في الجمعة ثالث عشر المحرم، وكان شحنة بغداد بهروز.
ثم إن الأمير دبيس بن صدقة كان عند السلطان محمد، مذ قتل والده، على ما ذكرناه، فأحسن إليه، وأقطعه إقطاعاً كثيراً، فلما توفي السلطان محمد خاطب السلطان محموداً في العود إلى بلده الحلة، فأذن له في ذلك، فعاد إليها، فاجتمع عليه خلق كثير من العرب، والأكراد، وغيرهم، وكان آقسنقر البرسقي مقيماً بالرحبة، وهي إقطاعه، وليس بيده من الولايات شيء، فاستخلف عليها ابنه عز الدين مسعود، وسار إلى السلطان محمد، قبل موته، عازماً على مخاطبته في زيادة إقطاعه، فبلغه وفاة السلطان محمد قبل وصوله إلى بغداد.
وسمع مجاهد الدين بهروز بقربه من بغداد، فأرسل إليه يمنعه من دخولها، فسار إلى السلطان محمود، فلقيه توقيع السلطان بولاية شحنكية بغداد، وهو بحلوان، وعزل بهروز.
وكان الأمراء عند السلطان يريدون البرسقي، ويتعصبون له، ويكرهون مجاهد الدين بهروز، ويحسدونه للقرب الذي كان له عند السلطان محمد، وخافوا أن يزداد تقدماً عند السلطان محمود وحكماً. فلما ولي البرسقي شحنكية بغداد هرب بهروز إلى تكريت، وكانت له.
ثم إن السلطان ولى شحنكية بغداد الأمير منكوبرس، وهو من أكابر الأمراء، وقد حكم في دولة السلطان محمود، فلما أعطي الشحنكية سير إليها ربيبه الأمير حسين بن أزبك، أحد الأمراء الأتراك، وهو صاحب أسداباذ، لينوب عنه ببغداد والعراق، وفارق السلطان من باب همذان، واتصل به جماعة الأمراء البكجية وغيرهم.
فلما سمع البرسقي خاطب الخليفة المستظهر بالله ليأمره بالتوقف إلى أن يكاتب السلطان، ويفعل ما يرد به الأمر عليه، فأرسل إليه الخليفة، فأجاب: إن يرسم الخليفة بالعود عدت، وإلا فلا بد من دخول بغداد. فجمع البرسقي أصحابه وسار إليه، فالتقوا واقتتلوا، فقتل أخ لحسين، وانهزم هو ومن معه، وعادوا إلى عسكر السلطان، فكان ذلك في شهر ربيع الأول، قبل وفاة المستظهر بالله بأيام.
ذكر وفاة المستظهر بالله
في هذه السنة، سادس عشر ربيع الآخر، توفي المستظهر بالله أبو العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله، وكان مرضه التراقي، وكان عمره إحدى وأربعين سنة وستة أشهر وستة أيام، وخلافته أربعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر وأحد عشر يوماً، ووزر له عميد الدولة أبو منصور بن جهير، وسديد الملك أبو المعالي المفضل بن عبد الرزاق الأصبهاني، وزعيم الرؤساء أبو القاسم بن جهير، ومجد الدين أبو المعالي هبة الله بن المطلب، ونظام الدين أبو منصور الحسين بن محمد، وناب عن الوزارة أمين الدولة أبو سعد بن الموصلايا، وقاضي القضاة أبو الحسن علي بن الدامغاني، ومضى، في أيامه، ثلاثة سلاطين خطب لهم بالحضرة، وهم: تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان، والسلطان بركيارق، ومحمد ابنا ملكشاه.
ومن غريب الاتفاق أنه لما توفي السلطان ألب أرسلان توفي بعده القائم بأمر الله، ولما توفي السلطان ملكشاه توفي بعده المقتدي بأمر الله، ولما توفي السلطان محمد توفي بعده المستظهر بالله.
ذكر بعض أخلاقه وسيرتهكان، رضي الله عنه، لين الجانب، كريم الأخلاق، يحب اصطناع الناس، ويفعل الخير، ويسارع إلى أعمال البر والمثوبات، مشكور المساعي لا يرد مكرمة تطلب منه.
وكان كثير الوثوق بمن يوليه، غير مصغ إلى سعاية ساع، ولا ملتفت إلى قوله، ولم يعرف منه تلون، وانحلال عزم، بأقوال أصحاب الأغراض.
وكانت أيامه أيام سرور للرعية، فكأنها من حسنها أعياد، وكان إذا بلغه ذلك فرح به وسره، وإذا تعرض سلطان أو نائب له لأذى أحد بالغ في إنكار ذلك والزجر عنه.
وكان حسن الحظ، جيد التوقعات، لا يقاربه فيها أحد، يدل على فضل غزير، وعلم واسع، ولما توفي صلى عليه ابنه المسترشد بالله، وكبر أربعاً، ودفن في حجرة له كان يألفها. ومن شعره قوله:
أذاب حر الهوى في القلب ما جمدا ... لما مددت إلى رسم الوداع يدا
وكيف أسلك نهج الاصطبار وقد ... أرى طرائق في مهوى الهوى قددا
قد أخلف الوعد بدر قد شغفت به، ... من بعد ما قد وفى دهري بما وعدا
إن كنت أنقض عهد الحب في خلدي ... من بعد هذا، فلا عاينته أبدا
ذكر خلافة الإمام المسترشد باللهلما توفي المستظهر بالله بويع ولده المسترشد بالله أبو منصور الفضل بن أبي العباس أحمد بن المستظهر بالله، وكان ولي عهد قد خطب له ثلاثاً وعشرين سنة، فبايعه أخواه ابنا المستظهر بالله، وهما أبو عبد الله محمد، وأبو طالب العباس، وعمومته بنو المقتدي بأمر الله، وغيرهم من الأمراء، والقضاة، والأئمة، والأعيان.
وكان المتولي لأخذ البيعة القاضي أبو الحسن الدامغاني، وكان نائباً عن الوزارة، فأقره المسترشد بالله عليها، ولم يأخذ البيعة قاض غير هذا، وأحمد بن أبي داود، فإنه أخذها للواثق بالله، والقاضي أبو علي إسماعيل بن إسحاق، أخذها للمعتضد بالله.
ثم إن المسترشد عزل قاضي القضاة عن نيابة الوزارة، واستوزر أبا شجاع محمد بن الربيب أبي منصور، وزير السلطان محمود، وكان والده خطب في معنى ولده، حتى استوزر، وقبض على صاحب المخزن أبي طاهر يوسف بن أحمد الحزي.
ذكر هرب الأمير أبي الحسن
أخي المسترشد وعودهلما اشتغل الناس ببيعة المسترشد بالله، ركب أخوه الأمير أبو الحسن بن المستظهر بالله سفينة، ومعه ثلاثة نفر، وانحدر إلى المدائن، وسار منها إلى دبيس بن صدقة بالحلة، فكرمه دبيس، وعلم منه وفاة المستظهر بالله، وأقام له الإقامات الكثيرة، فلما علم المسترشد بالله خبره أهمه ذلك وأقلقه، وأرسل إلى دبيس يطلب منه إعادته، فأجاب بأنني عبد الخليفة، وواقف عند أمره، ومع هذا، فقد استذم بي، ودخل منزلي، فلا أكرهه على أمر أبداً.
وكان الرسول نقيب النقباء شرف الدين علي بن طراد الزينبي، فقصد الأمير أبا الحسن، وتحدث معه في عوده، وضمن له عن الخليفة كل ما يريده، فأجاب إلى العود، وقال: إنني لم أفارق أخي لشر أريده، وإنما الخوف حملني على مفارقته، فإذا أمنتني قصدته. وتكفل دبيس بإصلاح الحال بنفسه، والمسير معه إلى بغداد، فعاد النقيب وأعلم الخليفة الحال، فأجاب إلى ما طلبه منه.
ثم حدث من أمر البرسقي ودبيس ومنكوبرس ما ذكرناه، فتأخر الحال.
وأقام الأمير أبو الحسن عند دبيس إلى ثاني عشر صفر سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، ثم سار عن الحلة إلى واسط، وكثر جمعه وقوي الإرجاف بقوته، وملك مدينة واسط، وخيف جانبه، فتقدم الخليفة المسترشد بالله بالخطبة لولي عهده ولده أبي جعفر المنصور، وعمره حينئذ اثنتا عشرة سنة، فخطب له ثاني ربيع الآخر ببغداد، وكتب إلى البلاد بالخطبة له، وأرسل إلى دبيس بن مزيد في معنى الأمير أبي الحسن، وأنه الآن فارق جواره، ومد يده إلى بلاد الخليفة وما يتعلق به، وأمره بقصده ومعاجلته قبل قوته، فأرسل دبيس العساكر إليه، ففارق واسط، وقد تحير هو وأصحابه، فضلوا الطريق، ووصلت عساكر دبيس، فصادفوهم عند الصلح، فنهبوا أثقاله، وهرب الأكراد من أصحابه، والأتراك، وعاد الباقون إلى دبيس.
وبقي الأمير أبو الحسن في عشرة من أصحابه وهو عطشان، وبينه وبين الماء خمسة فراسخ، وكان الزمان قيظاً، فأيقن بالتلف، وتبعه بدويان، فأراد الهرب منهما، فلم يقدر، فأخذاه، وقد اشتد به العطش، فسقياه، وحملاه إلى دبيس، فسيره إلى بغداد، وحمله إلى الخليفة، بعد أن بذل له عشرين ألف دينار، فحمل إلى الدار العزيزة، وكان بين خروجه عنها وعوده إليها أحد عشر شهراً.
ولما دخل على المسترشد بالله قبل قدمه، وقبله المسترشد، وبكيا، وأنزله داراً حسنة كان هو يسكنها قبل أن يلي الخلافة، وحمل إليه الخلع، والتحف الكثيرة، وطيب نفسه وأمنه.
ذكر مسير الملك مسعود وجيوش بك إلى العراق وما كان بينهما وبين البرسقي ودبيس
في هذه السنة، في جمادى الأولى، برز البرسقي، ونزل بأسفل الرقة، في عسكره ومن معه، وأظهر أنه على قصد الحلة وإجلاء دبيس بن صدقة عنها.
وجمع دبيس جموعاً كثيرة من العرب والأكراد، وفرق الأموال الكثيرة والسلاح.
وكان الملك مسعود ابن السلطان محمد بالموصل مع أتابكه أي أبه جيوش بك، فأشار عليهما جماعة ممن عندهما بقصد العراق فإنه لا مانع دونه، فسارا في جيوش كثيرة، ومع الملك مسعود وزيره فخر الملك أبو علي بن عمار، صاحب طرابلس، وقسيم الدولة زنكي بن آقسنقر جد ملوكنا الآن بالموصل، وكان من الشجاعة في الغاية، ومعهم أيضاً صاحب سنجار، وأبو الهيجاء، صاحب إربل، وكرباوي بن خراسان التركماني، صاحب البوازيج. فلما علم البرسقي قربهم خافهم.
وكان البرسقي قديماً قد جعله السلطان محمد أتابك ولده مسعود، على ما ذكرناه، وإنما كان خوفه من جيوش بك، فلما قاربوا بغداد سار إليهم ليقاتلهم ويصدهم، فلما علم مسعود وجيوش بك ذلك أرسلا إليه الأمير كرباوي في الصلح، وأعلمه أنهم إنما جاءوا نجدة له على دبيس، واصطلحوا، وتعاهدوا، واجتمعوا.
ووصل مسعود إلى بغداد، ونزل بدار المملكة، ووصلهم الخبر بوصول الأمير عماد الدين منكبرس، المقدم ذكره، في جيش كثير، فسار البرسقي عن بغداد ليحاربه ويمنعه عنها، فلما علم به منكبرس قصد النعمانية، وعبر دجلة هناك، واجتمع هو ودبيس بن صدقة.
وكان دبيس قد خاف من الملوك مسعود والبرسقي، فبنى أمره على المحاجزة والملاطفة، فأهدى لمسعود هدية حسنة، وللبرسقي، وجيوش بك، فلما وصله خبر وصول منكبرس راسله، واستماله، واستحلفه، واتفقا على التعاضد والتناصر، واجتمعا، وكل واحد منهما قوي بصاحبه، فلما اجتمعا سار الملك مسعود، والبرسقي، وجيوش بك، ومن معهم، إلى المدائن للقاء دبيس ومنكبرس، فلما وصلوا المدائن أتتهم الأخبار بكثرة الجمع معهما، فعاد البرسقي، والملك مسعود، وعبرا نهر صرصر، وحفظا المخاضات عليه، ونهبت الطائفتان السواد نهباً فاحشاً: نهر الملك، ونهر صرصر، ونهر عيسى، وبعض دجيل، واستباحوا النساء.
فأرسل المسترشد بالله إلى الملك مسعود والبرسقي ينكر هذه الحال، ويأمرهما بحقن الدماء، وترك الفساد، ويأمر بالموادعة والمصالحة، وكان الرسل: سديد الدولة بن الأنباري، والإمام الأسعد الميهني، مدرس النظامية، فأنكر البرسقي أن يكون جرى منهما شيء من ذلك، وأجاب إلى العود إلى بغداد، فوصل من أخبره أن منكبرس ودبيساً قد جهزا ثلاثة آلاف فارس مع منصور أخي دبيس، والأمير حسين بن أزبك، ربيب منكبرس، وسيروهم، وعبروا عند درزيجان ليقطعوا مخاضة عند ديالى إلى بغداد، لخلوها من عسكر يحميها ويمنع عنها.
فعاد البرسقي إلى بغداد، وعبر الجسر لئلا يخاف الناس، ولم يعلموا الخبر، وخلف ابنه عز الدين مسعوداً على عسكره بصرصر، واستصحب معه عماد الدين زنكي بن آقسنقر، فوصل إلى ديالى، ومنع عسكر منكبرس من العبور، فأقام يومين، فأتاه كتاب ابنه عز الدين مسعود يخبره أن الصلح قد استقر بين الفريقين، فانكسر نشاطه، حيث جرى هذا الأمر ولم يعلم به، وعاد نحو بغداد، وعبر إلى الجانب الغربي، وعبر منصور وحسين فسارا في عسكرهما خلفه، فوصلا بغداد عند نصف الليل، فنزلا عند جامع السلطان.
وسار البرسقي إلى الملك مسعود فأخذ بركه وماله وعاد إلى بغداد، فخيم عند القنطرة العتيقة، وأصعد الملك مسعود، وجيوش بك، فنزلا عند البيمارستان، وأصعد دبيس ومنكبرس فخيما تحت الرقة، وأقام عز الدين مسعود بن البرسقي عند منكبرس منفرداً عن أبيه.
وكان سبب هذا الصلح أن جيوش بك كان قد أرسل إلى السلطان محمود يطلب الزيادة له وللملك مسعود، فوصل كتاب الرسول من العسكر يذكر أنه لقي من السلطان إحساناً كثيراً، وأنه أقطعهما أذربيجان، فلما بلغه رحيلهما إلى بغداد اعتقد أنهما قد عصيا عليه، فعاد عما كان استقر، ويقول إن السلطان قد جهز عسكراً إلى الموصل. فوقع الكتاب بيد منكبرس، فأرسله إلى جيوش بك، وضمن له إصلاح السلطان له وللملك مسعود، وكان منكبرس متزوجاً بأم الملك مسعود، واسمها سرجهان، وكان يؤثر مصلحته لذلك، واستقر الصلح، وخافا من البرسقي أن يمنع منه، فاتفقا على إرسال العسكر إلى درزيجان لينفذ في مقابلته البرسقي ليخلو العسكر منه، ويقع الاتفاق، فكان الأمر في مسيره على ما تقدم.
وكان البرسقي محبوباً لدى أهل بغداد لحسن سيرته فيهم، فلما استقر الصلح، ووصلوا إلى بغداد تفرق عن البرسقي أصحابه وجموعه، وبطل ما كان يحدث به نفسه من التغلب على العراق بغير أمر السلطان، وسار عن العراق إلى الملك مسعود، فأقام معه، واستقر منكبرس في شحنكية بغداد، وودعه دبيس بن صدقة، وعاد إلى الحلة، بعد أن طالب بدار أبيه بدرب فيروز، وكانت قد دخلت في جامع القصر ببغداد، فصولح عنها بمال.
وأقام منكبرس ببغداد يظلم ويعسف بالرعية، ويصادرهم، فاختفى أرباب الأموال، وانتقل جماعة إلى حريم دار الخلافة خوفاً منه، وبطلت معايش الناس، وأكثر أصحابه الفساد، حتى إن بعض أهل بغداد زفت إليه امرأة تزوجها، فعلم بعض أصحاب منكبرس، فأتاه وكسر الباب وجرح الزوج عدة جراحات، وابتنى بزوجته، فكثر الدعاء ليلاً ونهاراً، واستغاث الناس لهذه الحال، وأغلقوا الأسواق، فأخذ الجندي إلى دار الخلافة فاعتقل أياماً ثم أطلق.
وسمع السلطان بما يفعله منكبرس ببغداد، فأرسل إليه يستدعيه، ويحثه على اللحوق به، وهو يغالط ويدافع، وكلما طلبه السلطان لج في جمع الأموال والمصادرات. فلما علم أهل بغداد تغير السلطان عليه، واستدعاءه إياه، طمعوا فيه، فسار حينئذ منكبرس عنهم خوفاً أن يثوروا به، وكفى الناس شره، وظهر من كان مستتراً.
ذكر وفاة ملك الفرنج
وما كان بين الفرنج وبين المسلمينفي ذي الحجة من سنة إحدى عشرة وخمسمائة توفي بغدوين ملك القدس، وكان قد سار إلى ديار مصر في جمع الفرنج، قاصداً ملكها والتغلب عليها، وقوي طمعه في الديار المصرية، وبلغ مقابل تنيس، وسبح في النيل، فانتقض جرح كان به، فلما أحس بالموت عاد إلى القدس، فمات، ووصى ببلاده للقمص صاحب الرها، وهو الذي كان أسره جكرمش، وأطلقه جاولي سقاوو، واتفق أن هذا القمص كان قد سار إلى القدس يزور بيعة قمامة، فلما وصى إليه بالملك قبله، واجتمع له القدس والرها.
وكان أتابك طغتكين قد سار عن دمشق لقتال الفرنج، فنزل بين دير أيوب وكفر بصل باليرموك، فخفيت عنه وفاة بغدوين، حتى سمع الخبر بعد ثمانية عشر يوماً، وبينهم نحو يومين، فأتته رسل ملك الفرنج يطلب المهادنة، فاقترح عليه طغتكين ترك المناصفة التي بينهم من جبل عوف، والحنانة، والصلت، والغور، فلم يجب إلى ذلك، وأظهر القوة، فسار طغتكين إلى طبرية فنهبها وما حولها، وسار منها نحو عسقلان.
وكانت للمصريين وبها عساكرهم، كانوا قد سيروها لما عاد ملك القدس المتوفى عن مصر، وكانوا سبعة آلاف فارس، فاجتمع بهم طغتكين، وأعلمه المقدم عليهم أن صاحبهم تقدم إليه بالوقوف عند رأي طغتكين، والتصرف على ما يحكم به، فأقاموا بعسقلان نحو شهرين، ولم يؤثروا في الفرنج أثراً، فعاد طغتكين إلى دمشق، فأتاه الصريخ بأن مائة وثلاثين فارساً من الفرنج أخذوا حصناً من أعماله يعرف بالحبس، يعرف بحصن جلدك، سلمه إليهم المستحفظ به وقصدوا أذرعات فنهبوها، فأرسل إليهم تاج الملوك بوري بن طغتكين، فانحازوا عنه إلى جبل هناك، فنازلهم، فأتاه أبوه ونهاه عنهم، فلم يفعل، وطمع فيهم، فلما أيس الفرنج قاتلوا قتال مستقتل، فنزلوا من الجبل وحملوا على المسلمين حملة صادقة هزموهم بها، وأسروا وقتلوا خلقاً كثيراً، وعاد الفل إلى دمشق على أسوأ حال.
فسار طغتكين إلى حلب، وبها إيلغازي، فاستنجده، وطلب منه التعاضد على الفرنج، فوعده بالمسير معه، فبينما هو بحلب أتاه الخبر بأن الفرنج قصدوا حوران من أعمال دمشق، فنهبوا وقتلوا وسبوا وعادوا، فاتفق رأي طغتكين وإيلغازي على عود طغتكين إلى دمشق، وحماية بلاده، وعود إيلغازي إلى ماردين، وجمع العساكر، والاجتماع على حرب الفرنج، فصالح إيلغازي من يليه من الفرنج على ما تقدم ذكره، وعبر إلى ماردين لجمع العساكر، وكان ما نذكره سنة ثلاث عشرة، إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة انقطع الغيث، وعدمت الغلات في كثير من البلاد، وكان أشده بالعراق، فغلت الأسعار، وأجلى أهل السواد، وتقوت الناس بالنخالة، وعظم الأمر على أهل بغداد بما كان يفعله منكبرس بهم.
وفيها أسقط المسترشد بالله من الإقطاع المختص به كل جور، وأمر أن لا يؤخذ إلا ما جرت به العادة القديمة، وأطلق ضمان غزل الذهب، وكان صناع السقلاطون، والممزج، وغيرهم ممن يعمل منه، يلقون شدة من العمال عليها، وأذى عظيماً.
وفيها تأخر مسير الحجاج تأخراً أرجف بسببه بانقطاع الحج من العراق، فرتب الخليفة الأمير نظر، خادم أمير الجيوش يمن، وولاه من أمر الحج ما كان يتولاه أمير الجيوش، وأعطاه من المال ما يحتاج إليه في طريقه، وسيره، فأدركوا الحج وظهرت كفاية نظر.
وفيها وصل مركبان كبيران فيهما قوة ونجدة للفرنج بالشام، فغرقا، وكان الناس قد خافوا ممن فيهما.
وفيها وصل رسول إيلغازي، صاحب حلب وماردين، إلى بغداد يستنفر على الفرنج، ويذكر ما فعلوا بالمسلمين في الديار الجزرية، وأنهم ملكوا قلعة عند الرها، وقتلوا أميرها ابن عطير، فسيرت الكتب بذلك إلى السلطان محمود.
وفيها نقل المستظهر إلى الرصافة، وجميع من كان مدفوناً بدار الخلافة، وفيهم جدة المستظهر أم المقتدي، وكانت وفاتها بعد المستظهر، ورأت البطن الرابع من أولادها.
وفيها كثر أمر العيارين بالجانب الغربي من بغداد، فعبر إليهم نائب الشحنة في خمسين غلاماً أتراكاً، فقاتلهم، فانهزم منهم، ثم عبر إليهم من الغد في مائتي غلام، فلم يظفر بهم، ونهب العيارون يومئذ قطفتا.
وفي هذه السنة، في شعبان، توفي أبو الفضل بكر بن محمد بن علي بن الفضل الأنصاري من ولد جابر بن عبد الله، وهو من بلد بخارى، وكان من أعيان الفقهاء الحنفية، حافظاً للمذهب.
وتوفي أبو طالب الحسين بن محمد بن علي بن الحسن الزينبي، نقيب النقباء ببغداد، في صفر، واستقال من النقابة، فوليها أخوه طراد، وكان من أكابر الحنفية، وروى الحديث الكثير.
وفيها، في ذي الحجة، توفي أبو زكرياء يحيى بن عبد الوهاب بن مندة الأصبهاني، المحدث المشهور من بيت الحديث، وله فيه تصانيف حسنة.
وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن الخازن، وكان أديباً، ظريفاً، له شعر حسن، فمنه قوله، وقد قصد زيارة صديق له، فلم يره، فأدخله غلمانه إلى بستان في الدار، وحمام، فقال في ذلك:
وافيت منزله، فلم أر صاحباً ... إلا تلقاني بوجه ضاحك
والبشر في وجه الغلام نتيجة ... لمقدمات ضياء وجه المالك
ودخلت جنته، وزرت جحيمه ... فشكرت رضواناً ورأفة مالك
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وخمسمائة
ذكر عصيان الملك طغرل على أخيه
السلطان محمود
كان الملك طغرل بن محمد لما توفي والده بقلعة سرجهان، وكان مولده سنة ثلاث وخمسمائة في المحرم، وأقطعه والده، سنة أربع، ساوة وآوة وزنجان، وجعل أتابكه الأمير شيركير الذي تقدم ذكره في حصار قلاع الإسماعيلية، فازداد ملك طغرل بما فتحه شيركير من قلاعهم، فأرسل إليه السلطان محمود الأمير كنتغدي ليكون أتابكاً له، ومدبراً لأمره، ويحمله إليه، فلما وصل إليه حسن له مخالفة أخيه، وترك المجيء إليه، واتفقا على ذلك.
وسمع السلطان محمود الخبر، فأرسل شرف الدين أنوشروان بن خالد، ومعه خلع وتحف وثلاثون ألف دينار، ووعد أخاه بإقطاع كثير، زيادة على ما له، إذا قصده، واجتمع به، فلم تقع الإجابة إلى الاجتماع، وأجاب كنتغدي بأننا في طاعة السلطان، وأي جهة أراد قصدناها، ومعنا من العساكر ما نقاوم بها من يرسم بقصده.
فبينما الخوض معهم في ذلك ركب السلطان محمود من باب همذان في عشرة آلاف فارس، جريدة، في جمادى الأولى، وكتم مقصده، وعزم على أن يكبس أخاه، والأمير كنتغدي، فرأى أحد خواصه تركياً من أصحاب الملك طغرل، فأعلم السلطان به، فقبض عليه، فعلم رفيق كان معه الحال، فسار عشرين فرسخاً في ليلة، ووصل إلى الأمير كنتغدي، وهو سكران، فأيقظه بعد جهد، وأعلمه الحال، فقصد الملك طغرل، فعرفه ذلك، وأخذ متخفياً، وقصد قلعة سميران، فضلاً عن الطريق إلى قلعة سرجهان، وكانا قد فارقاها، وجمع العساكر، وكان ضلالهما هداية لهما إلى السلامة، فإن السلطان محموداً جعل طريقه على سميران، وقال: إنها حصنهما الذي فيه الذخائر والأموال، وإذا علما بوصوله إليهما سارا إليها، فربما صادفهما في الطريق، فسلما منه بما ظناه عطباً لهما.
ووصل السلطان إلى العسكر، فكبسه، ونهبه، وأخذ من خزانة أخيه ثلاثمائة ألف دينار، وذلك المال الذي أنفذه له، وأقام السلطان محمود بزنجان، وتوجه منها إلى الري، ونزل طغرل من سرجهان، ولحق هو وكنتغدي بكنجة وقصده أصحابه، فقويت شوكته، وتمكنت الوحشة بينه وبين أخيه محمود.
ذكر الحرب بين سنجر والسلطان محمودفي هذه السنة، في جمادى الأولى، كانت حرب شديدة بين سنجر وابن أخيه السلطان محمود، ونحن نذكر سياقة ذلك: قد ذكرنا سنة ثمان وخمسمائة مسير السلطان سنجر إلى غزنة، وفتحها وما كان منه فيها، ثم عاد عنها إلى خراسان، فلما بلغه وفاة أخيه السلطان محمد، وجلوس ولده السلطان محمود في السلطنة، وهو زوج ابنة سنجر، لحقه حزن عظيم لموت أخيه، وأظهر من الجزع والحزن ما لم يسمع بمثله، وجلس للعزاء على الرماد، وأغلق البلد سبعة أيام، وتقدم إلى الخطباء بذكر السلطان محمد بمحاسن أعماله من قتال الباطنية، وإطلاق المكوس، وغير ذلك.
وكان سنجر يلقب بناصر الدين، فلما توفي أخوه محمد تلقب بمعز الدين، وهو لقب أبيه ملكشاه، وعزم على قصد بلد الجبال والعراق وما بيد محمود ابن أخيه، فندم على قتل وزيره أبي جعفر محمد بن فخر الملك أبي المظفر بن نظام الملك.
وكان سبب قتله أنه وحش الأمراء، واستخف بهم، فأبغضوه وكرهوه، وشكوا منه إلى السلطان، وهو بغزنة، فأعلمهم أنه يؤثر قتله، وليس يمكنه فعل ذلك بغزنة.
وكان سنجر قد تغير على وزيره لأسباب منها: أنه أشار عليه بقصد غزنة، فلما وصل إلى بست أرسل أرسلانشاه صاحبها إلى الوزير، وضمن له خمسمائة ألف دينار ليثني سنجر عن قصده، فأشار عليه بمصالحته والعود عنه، وفعل مثل ذلك بما وراء النهر، ومنها: أنه نقل عنه أنه أخذ من غزنة أموالاً جليلة عظيمة المقدار، ومنها: ما ذكر من إيحاشه الأمراء وغير هذه الأسباب.
فلما عاد إلى بلخ قبض عليه، وقتله وأخذ ماله، وكان له من الجواهر والأموال ما لا حد عليه، والذي وجد له من العين ألفا ألف دينار، فلما قتله استوزر بعده شهاب الإسلام عبد الرزاق ابن أخي نظام الملك، ويعرف بابن الفقيه، إلا أنه لم تكن له منزلة ابن فخر الملك عند الناس في علو المنزلة. فلما اتصل به وفاة أخيه ندم على قتله لأنه كان يبلغ به من الأغراض والملك ما لا يبلغه بكثرة العساكر لميل الناس إليه، ومحله عندهم.
ثم إن السلطان محموداً أرسل إلى عمه سنجر شرف الدين أنوشروان بن خالد وفخر الدين طغايرك بن اليزن، ومعهما الهدايا والتحف، وبذل له النزول عن مازندران، وحمل مائتي ألف دينار كل سنة، فوصلا إليه وأبلغاه الرسالة، فتجهز ليسير إلى الري، فأشار عليه شرف الدين أنوشروان بترك القتال والحرب، فكان جوابه في ذلك: أن ولد أخي صبي، وقد تحكم عليه وزيره والحاجب علي.
فلما سمع السلطان محمود بمسير عمه نحوه، ووصول الأمير أنر في مقدمته إلى جرجان، تقدم إلى الأمير علي بن عمر، وهو أمير حاجب السلطان محمد، وبعده صار أمير حاجب السلطان محمود، بالمسير، وضم إليه جمعاً كثيراً من العساكر والأمراء، فاجتمعوا في عشرة آلاف فارس، فساروا إلى أن قاربوا مقدمة سنجر التي عليها الأمير أنر، فراسله الأمير علي بن عمر يعرفه وصية السلطان محمد بتعظيم سنجر والرجوع إلى أمره ونهيه، والقبول منه، وأنه ظن أن سنجر يحفظ السلطنة على ولده السلطان محمود، وأخذ علينا بذلك العهود، فليس لنا أن نخالفه، وحيث جئتم إلى بلادنا لا نحتمل ذلك، ولا نغضي عليه، وقد علمت أن معك خمسة آلاف فارس، فأنا أرسل إليك أقل منهم لتعلم أنكم لا تقاوموننا، ولا تقوون بنا.
فلما سمع الأمير أنر ذلك عاد عن جرجان ولحقه بعض عسكر السلطان محمود. فأخذوا قطعة من سواده، وأسروا عدة من أصحابه.
وكان السلطان محمود قد وصل إلى الري، وهو بها، وعاد الأمير علي بن عمر إليه، فشكره على فعله، وأثنى عليه وعلى عسكره الذين معه.
وأشير على السلطان محمود بملازمة الري، والمقام بها، وقيل: إن عساكر خراسان إذا علموا بمقامك فيها لا يفارقون حدودهم، ولا يتعدون ولايتهم. فلم يقبل ذلك وضجر المقام، وسار إلى جرجان.
ووصل السلطان محمود والأمير منكبرس من العراق في عشرة آلاف فارس، والأمير منصور بن صدقة أخو دبيس، والأمراء البكجية، وغيرهم، وسار محمود إلى همذان، وتوفي بها وزيره الربيب، واستوزر أبا طالب السميرمي، وبلغه وصول عمه سنجر إلى الري، فسار نحوه قاصداً قتاله، فالتقيا بالقرب من ساوة ثاني جمادى الأولى من السنة، وكان عسكر السلطان محمود قد عرفوا المفازة التي بين يدي عسكر سنجر، وهي ثمانية أيام، فسبقوهم إلى الماء وملكوه عليهم.
وكان العسكر الخراساني في عشرين ألفاً، ومعهم ثمانية عشر فيلاً اسم كبيرها باذهو، ومن الأمراء الكبار: ولد الأمير أبي الفضل، صاحب سجستان. وخوارزمشاه محمد، والأمير أنر، والأمير قماج، واتصل به علاء الدولة كرشاسف بن فرامرز بن كاكويه، صاحب يزد، وهو صهر السلطان محمد وسنجر على أختهما، وكان أخص الناس بالسلطان محمد، فلما تولى السلطان محمود تأخر عنه، فأقطع بلده لقراجة الساقي الذي صار صاحب بلاد فارس، فسار حينئذ علاء الدولة إلى سنجر، وهو من ملوك الديلم، وعرف سنجر الأحوال، والطريق إلى قصد البلاد، وما فعله الأمراء من أخذ الأموال، وما هم عليه من اختلاف الأهواء، وحسن قصد البلاد، وما فعله الأمراء من أخذ الأموال، وما هم عليه من اختلاف الأهواء، وحسن قصد البلاد.
وكان عسكر السلطان محمود ثلاثين ألفاً، ومن الأمراء الكبار: الأمير علي بن عمر، أمير حاجب، والأمير منكبرس، وأتابكه غزغلي، وبنو برسق، وسنقر البخاري، وقراجة الساقي، ومعه تسعمائة حمل من السلاح.
واستهان عسكر محمود بعسكر عمه بكثرتهم وشجاعتهم، وكثرة خيلهم، فلما التقوا ضعفت نفوس الخراسانية لما رأوا لهذا العسكر من القوة والكثرة، فانهزمت ميمنة سنجر وميسرته، واختلط أصحابه، واضطرب أمرهم، وساروا منهزمين لا يلوون على شيء، ونهب من أثقالهم شيء كثير، وقتل أهل السواد كثيراً منهم.
ووقف سنجر بين الفيلة في جمع من أصحابه، وبإزائه السلطان محمود، ومعه أتابكه غزغلي، فألجأت سنجر الضرورة، عند تعاظم الخطب عليه، أن يقدم الفيلة للحرب، وكان من بقي معه قد أشاروا عليه بالهزيمة، فقال: إما النصر أو القتل، وأما الهزيمة فلا. فلما تقدمت الفيلة، ورآها خيل محمود، تراجعت بأصحابها على أعقابها، فأشفق سنجر على السلطان محمود في تلك الحال، وقال لأصحابه: لا تفزعوا الصبي بحملات الفيلة، فكفوها عنهم، وانهزم السلطان محمود ومن معه في القلب، وأسر أتابكه غزغلي، فكان يكاتب السلطان، ويعده أنه يحمل إليه ابن أخيه، فعاتبه على ذلك، فاعتذر بالعجز، فقتله، وكان ظالماً قد بالغ في ظلم أهل همذان، فعجل الله عقوبته.
ولما تم النصر والظفر للسلطان سنجر أرسل من أعاد المنهزمين من أصحابه إليه، ووصل الخبر إلى بغداد في عشرة أيام، فأرسل الأمير دبيس بن صدقة إلى المسترشد بالله في الخطبة للسلطان سنجر، فخطب له في السادس والعشرين من جمادى الأولى، وقطعت خطبة السلطان محمود.
وأما السلطان محمود فإنه سار من الكسرة إلى أصبهان، ومعه وزيره أبو طالب السميري، والأمير علي بن عمر وقراجة.
وأما سنجر فإنه سار إلى همذان، فرأى قلة عسكره، واجتماع العساكر على ابن أخيه، فراسله في الصلح، وكانت والدته تشير عليه بذلك، وتقول: قد استوليت على غزنة وأعمالها، وما وراء النهر، وملكت ما لا حد عليه، وقررت الجميع على أصحابه، فاجعل ولد أخيك كأحدهم.
وكانت والدة سنجر هي جدة السلطان محمود، فأجاب إلى قولها، ثم كثرت العساكر عند سنجر منهم البرسقي، وكان عند الملك مسعود بأذربيجان من حين خروجه عن بغداد إلى هذه الغاية، فقوي بهم. فعاد الرسول وأبلغه عن الأمراء الذين مع السلطان محمود أنهم لا يصالحونه حتى يعود إلى خراسان، فلم يجب إلى ذلك، وسار من همذان إلى كرج، وأعاد مراسلة السلطان محمود في الصلح، ووعده أن يجعله ولي عهده، فأجاب إلى ذلك، واستقر الأمير بينهما، وتحالفا عليه.
وسار السلطان محمود إلى عمه سنجر في شعبان، فنزل على جدته والدة سنجر، وأكرمه عمه، وبالغ في ذلك، وحمل له السلطان محمود هدية عظيمة، فقبلها ظاهراً، وردها باطناً، ولم تقبل منه سوى خمسة أفراس عربية، وكتب السلطان سنجر إلى سائر الأعمال التي بيده كخراسان وغزنة، وما وراء النهر، وغيرها من الولايات، بأن يخطب للسلطان محمود بعده، وكتب إلى بغداد مثل ذلك، وأعاد عليه جميع ما أخذ من البلاد سوى الري، وقصد بأخذها أن تكون له في هذه الديار لئلا يحدث السلطان محمود نفسه بالخروج.
ذكر غزاة إيلغازي بلاد الفرنجفي هذه السنة سار الفرنج من بلادهم إلى نواحي حلب، فملكوا بزاعة وغيرها، وخربوا بلد حلب ونازلوها، ولم يكن بحلب من الذخائر ما يكفيها شهراً واحداً، وخافهم أهلها خوفاً شديداً، ولوا مكنوا من القتال لم يبق بها أحد، لكنهم منعوا من ذلك، وصانع الفرنج أهل حلب على أن يقاسموهم على أملاكهم التي بباب حلب. فأرسل أهل البلد إلى بغداد يستغيثون، ويطلبون النجدة، فلم يغاثوا.
وكان الأمير إيلغازي، صاحب حلب، ببلد ماردين يجمع العساكر والمتطوعة للغزاة، فاجتمع عليه نحو عشرين ألفاً، وكان معه أسامة بن المبارك بن شبل الكلابي، والأمير طغان أرسلان بن المكر، صاحب بدليس وأرزن، وسار بهم إلى الشام، عازماً على قتال الفرنج.
فلما علم الفرنج قوة عزمهم على لقائهم، وكانوا ثلاثة آلاف فارس، وتسعة آلاف راجل، ساروا فنزلوا قريباً من الأثارب، بموضع يقال له تل عفرين، بين جبال ليس لها طريق إلا من ثلاث جهات، وفي هذا الموضع قتل شرف الدولة مسلم بن قريش.
وظن الفرنج أن أحداً لا يسلك إليهم لضيق الطريق، فأخلدوا إلى المطاولة، وكانت عادة لهم، إذا رأوا قوة من المسلمين، وراسلوا إيلغازي يقولون له: لا تتعب نفسك بالمسير إلينا، فنحن واصلون إليك، فأعلم أصحابه بما قالوه، واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا بالركوب من وقته، وقصدهم، ففعل ذلك، وسار إليهم، ودخل الناس من الطرق الثلاثة، ولم تعتقد الفرنج أن أحداً يقدم عليهم، لصعوبة المسلك إليهم، فلم يشعروا إلا وأوائل المسلمين قد غشيتهم، فحمل الفرنج حملة منكرة، فولوا منهزمين، فلقوا باقي العسكر متتابعة، فعادوا معهم، وجرى بينهم حرب شديدة، وأحاطوا بالفرنج من جميع جهاتهم، وأخذهم السيف من سائر نواحيهم، فلم يفلت منهم غير نفر يسير، وقتل الجميع، وأسروا.
وكان من جملة الأسرى نيف وسبعون فارساً من مقدميهم، وحملوا إلى حلب، فبذلوا في نفوسهم ثلاثمائة ألف دينار، فلم يقبل منهم، وغنم المسلمون منهم الغنائم الكثيرة.
وأما سيرجال، صاحب أنطاكية، فإنه قتل وحمل رأسه، وكانت الوقعة منتصف شهر ربيع الأول، فمما مدح به إيلغازي في هذه الوقعة قول العظيمي:
قل ما تشاء، فقولك المقبول، ... وعليك بعد الخالق التعويل
واستبشر القرآن حين نصرته، ... وبكى لفقد رجاله الإنجيل
ثم تجمع من سلم من المعركة مع غيرهم، فلقيهم إيلغازي أيضاً، فهزمهم، وفتح منهم حصن الأثارب، وزردنا، وعاد إلى حلب، وقرر أمرها، وأصلح حالها، ثم عبر الفرات إلى ماردين.
ذكر وقعة أخرى من الفرنجفي هذه السنة سار جوسلين، صاحب تل باشر، في جمع من الفرنج، نحو مائتي فارس، من طبرية، فكبس طائفة من طي يعرفون ببني خالد، فأخذهم، وأخذ غنائمهم، وسألهم عن بقية قومهم من بني ربيعة، فأخبروه أنهم من وراء الحزن، بوادي السلالة، بين دمشق وطبرية، فقدم جوسلين مائة وخمسين فارساً من أصحابه، وسار هو في خمسين فارساً على طريق آخر، وواعدهم الصبح ليكبسوا بني ربيعة، فوصلهم الخبر بذلك، فأرادوا الرحيل، فمنعهم أميرهم من بني ربيعة، وكانوا في مائة وخمسين فارساً، فوصلهم المائة وخمسون من الفرنج، معتقدين أن جوسلين قد سبقهم أو سيدركهم، فضل الطريق، وتساوت العدتان، فاقتتلوا، وطعنت العرب خيولهم، فجعلوا أكثرهم رجالة، وظهر من أميرهم شجاعة، وحسن تدبير، وجودة رأي، فقتل من الفرنج سبعون، وأسر اثنا عشر من مقدميهم، بذل كل واحد منهم في فداء نفسه مالاً جزيلاً وعدة من الأسرى.
وأما جوسلين فإنه ضل في الطريق، وبلغه خبر الوقعة، فسار إلى طرابلس، فجمع جمعاً، وأسرى إلى عسقلان، فأغار على بلدها، فهزمه المسلمون هناك، فعاد مفلولاً.
ذكر قتل منكوبرسفي هذه السنة قتل الأمير منكوبرس الذي كان شحنة بغداد، وقد تقدم حاله.
وكان سبب قتله: أنه لما انهزم مع السلطان محمود وعاد إلى بغداد، ونهب عدة مواضع من طريق خراسان، وأراد دخول بغداد، فسير إليه دبيس بن صدقة من منعه ، فعاد وقد استقر الصلح بين السلطانين سنجر ومحمود، فقصد السلطان سنجر، فدخل إليه ومعه سيف وكفن، فقال له: أنا لا أؤاخذ أحداً، وسلمه إلى السلطان محمود، وقال: هذا مملوكك، فاصنع به ما تريد! فأخذه.
وكان في نفسه منه غيظ شديد لأسباب منها: أنه لما توفي السلطان محمد أخذ سريته، والدة الملك مسعود، قهراً، قبل انقضاء عدتها، ومنها: جرأته عليه، واستبداده بالأمور دونه، ومسيره إلى شحنكية بغداد، والسلطان كاره لذلك لكنه لم يقدر على منعه، ومنها: ما فعله بالعراق من الظلم، إلى غير ذلك، فقتله صبراً، وأراح العباد والبلاد من شره.
ذكر قتل الأمير علي بن عمرفي هذه السنة أيضاً قتل الأمير علي بن عمر، حاجب السلطان محمد، وكان قد صار أكبر أمير مع السلطان محمود، وانقادت العساكر له، فحسده الأمراء، وأفسدوا حاله مع السلطان محمود، وحسنوا له قتله، فعلم، فهرب إلى قلعة برجين، وهي بين بروجرد وكرج، وكان بها أهله وماله، وسار منها في مائتي فارس إلى خوزستان، وكانت بيد أقبوري بن برسق، وابني أخويه: أرغلي بن يلبكي، وهندو بن زنكي، فأرسل إليهم وأخذ عهودهم بأمانه وحمايته.
فلما سار إليهم أرسلوا عسكراً منعوه من قصدهم، فلقوه على ستة فراسخ من تستر، فاقتتلوا، فانهزم هو وأصحابه، فوقف به فرسه، فانتقل إلى غيره، فتشبث ذيله بسرجه الأول، فأزاله، فعاود التعلق، فأبطأ، فأدركوه وأسروه، وكاتبوا السلطان محموداً في أمره، فأمرهم بقتله، فقتل وحمل رأسه إليه.
ذكر الفتنة بين المرابطين وأهل قرطبةفي هذه السنة، وقيل سنة أربع عشرة، كانت فتنة بني عسكر أمير المسلمين علي بن يوسف وبين أهل قرطبة.
وسببها: أن أمير المسلمين استعمل عليها أبا بكر يحيى بن رواد، فلما كان يوم الأضحى خرج الناس متفرجين، فمد عبد من عبيد أبي بكر يده إلى امرأة فأمسكها، فاستغاثت بالمسلمين، فأغاثوها، فوقع بين العبيد وبين أهل البلد فتنة عظيمة، ودامت جميع النهار، والحرب بينهم قائمة على ساق، فأدركهم الليل، فتفرقوا، فوصل الخبر إلى الأمير أبي بكر، فاجتمع إليه الفقهاء والأعيان، فقالوا: المصلحة أن تقتل واحداً من العبيد الذين أثاروا الفتنة، فأنكر ذلك، وغضب منه، وأصبح من الغد، وأظهر السلاح والعدد يريد قتال أهل البلد، فركب الفقهاء والأعيان والشبان من أهل البلد، وقاتلوه فهزموه، وتحصن بالقصر، فحصروه، وتسلقوا إليه، فهرب منهم بعد مشقة وتعب، فنهبوا القصر، وأحرقوا جميع دور المرابطين، ونهبوا أموالهم، وأخرجوهم من البلد على أقبح صورة.
واتصل الخبر بأمير المسلمين فكره ذلك واستعظمه، وجمع العساكر من صنهاجة، وزناتة، والبربر، وغيرهم، فاجتمع له منهم جمع عظيم، فعبر إليهم سنة خمس عشرة وخمسمائة، وحصر مدينة قرطبة، فقاتله أهلها قتال من يريد أن يحمي دمه وحريمه وماله، فلما رأى أمير المسلمين شدة قتالهم دخل السفراء بينهم، وسعوا في الصلح، فأجابهم إلى ذلك على أن يغرم أهل قرطبة المرابطين ما نهبوه من أموالهم، واستقرت القاعدة على ذلك، وعاد عن قتالهم.
ذكر ملك علي بن سكمان البصرةفي هذه السنة استولى علي بن سكمان على البصرة.
وسبب ذلك: أن السلطان محمداً كان قد أقطع البصرة الأمير آقسنقر البخاري، فاستخلف بها نائباً يعرف بسنقر البياتي، فأحسن السيرة إلى حد أن الماء بالبصرة ملح، فأقام سفناً وجراراً للضعفاء والسابلة، تحمل لهم الماء العذب. فلما توفي السلطان محمد عزم هذا الأمير سنقر على القبض على أمير اسمه غزغلي، مقدم الأتراك الإسماعيلية، وهو مذكور، وحج بالناس على البصرة عدة سنين، وعلى أمير آخر اسمه سنقر ألب، وهو مقدم الأتراك البلدقية، فاجتمعا عليه، وقبضاه وقيداه، وأخذا القلعة وما وجداه له.
ثم إن سنقر ألب أراد قتله، فمنعه غزغلي، فلم يقبل منه، فلما قتله وثب غزغلي على سنقر ألب فقتله، ونادى في الناس بالسكون، واطمأنوا.
وكان أمير الحاج من البصرة هذه السنة، أمير اسمه علي بن سكمان أحد الأمراء البلدقية، وكان في نفس غزغلي عليه حقد، حيث تم الحج على يده، ولأنه خاف أن يأخذ بثأر سنقر ألب، إذ هو مقدم البلدقية، فأرسل غزغلي إلى عرب البرية يأمرهم بقصد الحجاج ونهبهم، فطمعوا بذلك، وقصدوا الحجاج فقاتلوهم، وحماهم ابن سكمان، وأبلى بلاء حسناً، وجعل يقاتلهم وهو سائر نحو البصرة إلى أن بقي بينه وبين البصرة يومان، فأرسل إليه غزغلي يمنعه من قصد البصرة، فقصد العوني، أسفل دجلة، هذا، والعرب يقاتلونه، فلما وصل إلى العوني حمل على العرب حملة صادقة، فهزمهم.
وسار غزغلي إلى علي بن سكمان في عدد كثير، وكان علي في قلة، فتحاربا، واقتتلت الطائفتان، فأصابت فرس غزغلي نشابة فسقط وقتل، وسار علي إلى البصرة، فدخلها، وملك القلعة، وأقر عمال آقسنقر البخاري ونوابه، وكاتبه بالطاعة، وكان عند السلطان، وسأله أن يكون نائباً عنه بالبصرة، فلم يجبه آقسنقر إلى ذلك، فطرد حينئذ نواب آقسنقر، واستولى على البلد، وتصرف تصرُّف الأصحاب، مستبداً، واستقر فيه، وأحسن السيرة إلى سنة أربع عشرة، فسير السلطان محمود الأمير آقسنقر البخاري في عسكر إلى البصرة، فأخذها من علي بن سكمان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أمر السلطان سنجر بإعادة مجاهد الدين بهروز سجنكية العراق، وكان بها نائب دبيس بن صدقة، فعزل عنها.
وفيها، في ربيع الأول، توفي الوزير ربيب الدولة، وزير السلطان محمود، ووزر بعده الكمال السميرمي، وكان ولد ربيب الدولة، وزير المسترشد، فعزل، واستعمل بعده عميد الدولة أبو علي بن صدقة، ولقب جلال الدين، وهذا الوزير، وهو عماد الملك الوزير جلال الدين أبي الرضا صدقة، الذي وزر للراشد، والأتابك زنكي على ما نذكره.
وفيها ظهر قبر إبراهيم الخليل، وقبرا ولديه إسحاق ويعقوب، عليهم السلام، بالقرب من البيت المقدس، ورآهم كثير من الناس لم تبلَ أجسادهم، وعندهم في المغارة قناديل من ذهب وفضة، هكذا ذكره حمزة بن أسد التميمي في تاريخه، والله أعلم.
وفيها، في المحرم، توفي قاضي القضاة أبو الحسن علي بن محمد الدامغاني، ومولده في رجب سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وولي القضاء بباب الطاق من بغداد إلى الموصل وله من العمر ست وعشرون سنة، وهذا شيء لم يكن لغيره، ولما توفي ولي قضاء القضاة الأكمل أبو القاسم علي بن أبي طالب الحسين بن محمد الزينبي، وخلع عليه ثالث صفر.
وفيها هدم تاج الخليفة على دجلة للخوف من انهدامه، وهذا التاج بناه أمير المؤمنين المكتفي بعد سنة تسعين ومائتين.
وفيها تأخر الحج، فاستغاث الناس، وأرادوا كسر المنبر بجامع القصر، فأرسل الخليفة إلى دبيس بن صدقة ليساعد الأمير نظر على تسيير الحجاج، فأجاب إلى ذلك، وكان خروجهم من بغداد ثاني عشر ذي القعدة، وتوالت عليهم الأمطار إلى الكوفة.
وفيها أرسل دبيس بن صدقة القاضي أبا جعفر عبد الواحد بن أحمد الثقفي، قاضي الكوفة، إلى إيلغازي بن أرتق بماردين، يخطب ابنته، فزوجها منه إيلغازي، وحملها الثقفي معه إلى الحلة، واجتاز بالموصل.
وفيها، في جمادى الأولى، توفي أبو الوفا علي بن عقيل بن محمد بن عقيل، شيخ الحنابلة، في وقته، ببغداد، وكان حسن المناظرة، سريع الخاطر، وكان قد اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته على أبي الوليد، فأراد الحنابلة قتله، فاستجار بباب المراتب عدة سنين، ثم أظهر التوبة حتى تمكن من الظهور، وله مصنفات من جملتها كتاب الفنون.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وخمسمائة
ذكر عصيان الملك مسعود على أخيه محمود
والحرب بينهمافي هذه السنة، في ربيع الأول، كان المصاف بين السلطان محمود وأخيه الملك مسعود، ومسعود حينئذ له الموصل وأذربيجان.
وكان سبب ذلك أن دبيس بن صدقة كان يكاتب جيوش بك أتابك مسعود، يحثه على طلب السلطنة للملك مسعود، ويعده المساعدة، وكان غرضه أن يختلفوا فينال من الجاه وعلو المنزلة ما ناله أبوه باختلاف السلطانين بركيارق ومحمد ابني ملكشاه على ما ذكرناه.
وكان قسيم الدولة البرسقي، أتابك الملك مسعود، قد فارق شحنكية بغداد، وقد أقطعه مسعود مراغة، مضافة إلى الرحبة، وبينه وبين دبيس عداوة محكمة، فكاتب دبيس جيوش بك يشير عليه بقبض البرسقي، وينسبه إلى الميل إلى السلطان محمود، وبذل له مالاً كثيراً على قبضه، فعلم البرسقي ذلك، ففارقهم إلى السلطان محمود، فأكرمه وأعلى محله وزاد في تقديمه.
واتصل الأستاذ أبو إسماعيل الحسين بن علي الأصبهاني الطغرائي بالملك مسعود، فكان ولده أبو المؤيد، محمد بن أبي إسماعيل، يكتب الطغراء مع الملك، فلما وصل والده استوزره مسعود، بعد أن عزل أبا علي بن عمار، صاحب طرابلس، سنة ثلاث عشرة بباب خوي، فحسن ما كان دبيس يكاتب به من مخالفة السلطان محمود والخروج عن طاعته.
وظهر ما هم عليه من ذلك، فبلغ السلطان محموداً الخبر، فكتب إليهم يخوفهم إن خالفوه، ويعدهم الإحسان إن أقاموا على طاعته وموافقته، فلم يصغوا إلى قوله، وأظهروا ما كانوا عليه، وما يسرونه، وخطبوا للملك مسعود بالسلطنة، وضربوا له النوب الخمس، وكان ذلك على تفرق من عساكر السلطان محمود، فقوي طمعهم، وأسرعوا السير إليه ليلقوه وهو مخفف من العساكر، فاجتمع إليه خمسة عشر ألفاً، فسار أيضاً إليهم، فالتقوا عند عقبة أسداباذ، منتصف ربيع الأول، واقتتلوا من بكرة إلى آخر النهار.
وكان البرسقي في مقدمة السلطان محمود، وأبلى يومئذ بلاء حسناً، فانهزم عسكر الملك مسعود، آخر النهار، وأسر منهم جماعة كثيرة من أعيانهم ومقدميهم، وأسر الأستاذ أبو إسماعيل وزير مسعود، فأمر السلطان بقتله، وقال: قد ثبت عندي فساد دينه واعتقاده، فكانت وزارته سنة وشهراً، وقد جاوز ستين سنة، وكان حسن الكتابة والشعر، يميل إلى صنعة الكيمياء، وله فيها تصانيف قد ضيعت من الناس أموالاً لا تحصى.
وأما الملك مسعود فإنه لما انهزم أصحابه وتفرقوا قصد جبلاً بينه وبين الوقعة اثنا عشر فرسخاً، فاختفى فيه ومعه غلمان صغار، فأرسل ركابية عثمان إلى أخيه يطلب له الأمان، فسار إلى السلطان محمود وأعلمه حال أخيه مسعود، فرق له، وبذل له الأمان، وأمر آقسنقر البرسقي بالمسير إليه، وتطييب قلبه، وإعلامه بعفوه عنه، وإحضاره، فكان مسعود بعد أن أرسل يطلب الأمان قد وصل بعض الأمراء إليه، وحسن له اللحاق بالموصل، وكانت له، ومعها أذربيجان، وأشار عليه بمكاتبة دبيس بن صدقة ليجتمع به، ويكثر جمعه، ويعاود طلب السلطنة، فسار معه من مكانه.
ووصل البرسقي فلم يره، فأخبر بمسيره، فسار في أثره، وعزم على طلبه ولو إلى الموصل، وجد في السير، فأدركه على ثلاثين فرسخاً من مكانه ذلك، وعرفه عفو أخيه عنه، وضمن له ما أراد، وأعاده إلى العسكر، فأمر السلطان محمود العساكر باستقباله وتعظيمه، ففعلوا ذلك، وأمر السلطان أن ينزل عند والدته، وجلس له، وأحضره، واعتنقا، وبكيا، وانعطف عليه محمود، ووفى له بما بذله، وخلطه بنفسه في كل أفعاله، فعد ذلك من مكارم محمود، وكانت الخطبة بالسلطنة لمسعود بأذربيجان، وبلد الموصل، والجزيرة، ثمانية وعشرين يوماً.
وأما أتابكه جيوش بك فإنه سار إلى عقبة أسادباذ، وانتظر الملك مسعوداً، فلم يره، وانتظر بمكان آخر، فلم يصل إليه، فلما أيس منه سار إلى الموصل، ونزل بظاهرها، وجمع الغلات من السواد إليها، واجتمع إليه عسكره، فلما سمع بما فعله السلطان مع أخيه، وأنه عنده، علم أنه لا مقام له على هذا الحال، فسار كأنه يريد الصيد، فوصل إلى الزاب، وقال لمن معه: إنني قد عزمت على قصد السلطان محمود، وأخاطر بنفسي، فسار إليه، فوصل وهو بهمذان، ودخل إليه، فطيب قلبه وأمنه، وأحسن إليه.
وأما دبيس بن مزيد فإنه كان بالعراق، فلما بلغه خبر انهزام الملك مسعود نهب البلاد وخربها، وفعل فيها الأفاعيل القبيحة، إلى أن أتاه رسول السلطان محمود، وطيب قلبه، فلم يلتفت.
ذكر حال دبيس وما كان منهلما كان منه ببغداد وسوادها من النهب والقتل والفساد ما لم يجر مثله، أرسل إليه الخليفة المسترشد بالله رسالة ينكر عليه، ويأمره بالكف، فلم يفعل، فأرسل إليه السلطان وطيب قلبه، وأمره بمنع أصحابه عن الفساد، فلم يقبل، وسار بنفسه إلى بغداد، وضرب سرادقه بإزاء دار الخلافة، وأظهر الضغائن التي في نفسه، وكيف طيف برأس أبيه، وتهدد الخليفة، وقال: إنك أرسلت تستدعي السلطان، فإن أعدتموه، وإلا فعلت وصنعت. فأعيد جواب رسالته: أن عود السلطان، وقد سار عن همذان، غير ممكن، ولكنا نصلح حالك معه.
وكان الرسول شيخ الشيوخ إسماعيل، فكف على أن تسير الرسل في الاتفاق بينه وبين السلطان، وعاد عن بغداد في رجب.
ووصل السلطان في رجب إلى بغداد، فأرسل دبيس زوجته ابنة عميد الدولة بن جهير إليه، ومعها مال كثير، وهدية نفيسة، وسأل الصفح عنه، فأجيب إلى ذلك على قاعدة امتنع منها، ولزم لجاجه، ونهب جشيراً للسلطان. فسار السلطان عن بغداد، في شوال، إلى قصد دبيس بالحلة، واستصحب ألف سفينة ليعبر فيها، فلما علم دبيس مسير السلطان أرسل يطلب الأمان، فأمنه، وكان قصده أن يغالطه ليتجهز، فأرسل نساءه إلى البطيحة، وأخذ أمواله وسار عن الحلة، بعد أن نهبها، إلى إيلغازي ملتجأً إليه، ووصل السلطان إلى الحلة، فلم ير أحداً، فبات بها ليلة واحدة وعاد.
وأقام دبيس عند إيلغازي، وتردد معه، ثم إنه أرسل أخاه منصوراً في جيش من قلعة جعبر إلى العراق، فنظر الحلة، والكوفة، وانحدر إلى البصرة، وأرسل إلى يرنقش الزكوي يسأله أن يصلح حاله مع السلطان، فلم يتم أمره، فأرسل إلى أخيه دبيس يعرفه ذلك، ويدعوه إلى العراق، فسار من قلعة جعبر إلى الحلة سنة خمس عشرة، فدخلها وملكها، وأرسل إلى الخليفة والسلطان يعتذر، ويعد من نفسه الطاعة، فلم يجب إلى ذلك.
وسيرت إليه العساكر، فلما قاربوه فارق الحلة، ودخل إلى الأزير، وهو نهر سنداد، ووصل العسكر إليها وهي فارغة قد أجلي أهلها عنها، وليس بها إقامة، فكانت الميرة تنقل من بغدد، وكان مقدم العسكر سعد الدولة يرنقش الزكوي، فترك بالحلة خمسمائة فارس، وبالكوفة جماعة أخرى تحفظ الطريق على دبيس، وأرسل إلى عسكر واسط يحفظ طريق البطيحة، ففعلوا ذلك، وعبر عسكر السلطان إلى دبيس، فبقي بين الطائفتين نهر يخاض فيه مواضع، فتراسل يرنقش ودبيس، واتفقا على أن يرسل دبيس أخاه منصوراً رهيناً، ويلازم الطاعة، ففعل، وعاد العسكر إلى بغداد سنة ست عشرة.
ذكر خروج الكرج إلى بلاد الإسلام وملك تفليسفي هذه السنة خرج الكرج، وهم الخزر، إلى بلاد الإسلام، وكانوا قديماً يغيرون، فامتنعوا أيام السلطان ملكشاه إلى آخر أيام السلطان محمد، فلما كانت هذه السنة خرجوا ومعهم قفجاق وغيرهم من الأمم المجاورة لهم، فتكاتب الأمراء المجاورون لبلادهم، واجتمعوا، منهم: الأمير إيلغازي، ودبيس بن صدقة، وكان عنده، والملك طغرل بن محمد، وأتابكه كنتغدي، وكان لطغرل بلد أران، ونقجوان إلى أرس، فاجتمعوا وساروا إلى الكرج، فلما قاربوا تفليس، وكان المسلمون في عسكر كثير يبلغون ثلاثين ألفاً، التقوا واصطفت الطائفتان للقتال، فخرج من القفجاق مائتا رجل، فظن المسلمون أنهم مستأمنون، فلم يحترزوا منهم، ودخلوا بينهم، ورموا بالنشاب، فاضطرب صف المسلمين، فظن من بعد أنها هزيمة، فانهزموا، وتبع الناس بعضهم بعضاً منهزمين، ولشدة الزحام صدم بعضهم بعضاً، فقتل منهم عالم عظيم.
وتبعهم الكفار عشرة فراسخ يقتلون ويأسرون، فقتل أكثرهم، وأسروا أربعة آلاف رجل، ونجا الملك طغرل، وإيلغازي، ودبيس، وعاد الكرج فنهبوا بلاد الإسلام، وحصروا مدينة تفليس، واشتد قتالهم لمن بها، وعظم الأمر، وتفاقم الخطب على أهلها، ودام الحصار إلى سنة خمس عشة فملكوها عنوة.
وكان أهلها لما أشرفوا على الهلاك قد أرسلوا قاضيها وخطيبها إلى الكرج في طلب الأمان، فلم تصغ الكرج إليهما فأخرقوا بهما، ودخلوا البلد قهراً وغلبة، واستباحوه ونهبوه، ووصل المستنفرون منهم إلى بغداد مستصرخين ومستنصرين سنة ست عشرة، فبلغهم أن السلطان محموداً بهمذان، فقصدوه واستغاثوا به فسار إلى أذربيجان، وأقام بمدينة تبريز شهر رمضان، وأنفذ عسكراً إلى الكرج، وسيرد ذكر ما كان منهم، إن شاء الله تعالى.
ذكر غزوات إيلغازي هذه السنةفي هذه السنة أرسل المسترشد بالله خلعاً مع سديد الدولة بن الأنباري لنجم الدين إيلغازي، وشكره على ما يفعله من غزو الفرنج، ويأمره بإبعاد دبيس عنه، وسار أبو علي بن عمار الذي كان صاحب طرابلس، مع ابن الأنباري إلى إيلغازي ليقيم عنده، يعبر الأوقات بما ينعم به عليه، فاعتذر عن إبعاد دبيس، ووعد به، ثم سار إلى الفرنج، وكان قد جمع لهم جمعاً، فالتقوا بموضع اسمه ذات البقل من أعمال حلب، فاقتتلوا، واشتد القتال، وكان الظفر له.
ثم اجتمع إيلغازي وأتابك طغتكين، صاحب دمشق، وحصروا الفرنج في معرة قنسرين يوماً وليلة، ثم أشار أتابك طغتكين بالإفراج عنهم، كيلا يحملهم الخوف على أن يستقتلوا ويخرجوا إلى المسلمين، فربما ظفروا، وكان أكثر خوفه من دبر خيل التركمان، وجودة خيل الفرنج، فأفرج لهم إيلغازي، فساروا عن مكانهم وتخلصوا، وكان إيلغازي لا يطيل المقام في بلد الفرنج لأنه كان يجمع التركمان للطمع، فيحضر أحدهم ومعه جراب فيه دقيق، وشاة، ويعد الساعات لغنيمة يتعجلها، ويعود، فإذا طال مقامهم تفرقوا، ولم يكن له من الأموال ما يفرقها فيهم.
ذكر ابتداء أمر محمد بن تومرت
وعبد المؤمن وملكهما
في هذه السنة كان ابتداء أمر المهدي أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت العلوي، الحسني، وقبيلته من المصامدة، تعرف بهرغة في جبل السوس، من بلاد المغرب، نزلوا به لما فتحه المسلمون مع موسى بن نصير، ونذكر أمره وأمر عبد المؤمن هذه السنة إلى أن فرغ من ملك المغرب لنتبع بعض الحادثة بعضاً.
وكان ابن تومرت قد رحل في شبيبته إلى بلاد الشرق في طلب العلم، وكان فقيهاً، فاضلاً، عالماً بالشريعة، حافظاً للحديث، عارفاً بأصولي الدين والفقه، متحققاً بعلم العربية، وكان ورعاً، ناسكاً، ووصل في سفره إلى العراق، واجتمع بالغزالي، والكيا، واجتمع بأبي بكر الطرطوشي بالإسكندرية، وقيل إنه جرى له حديث مع الغزالي فيما فعله بالمغرب من التملك، فقال له الغزالي: إن هذا لا يتمشى في هذه البلاد، ولا يمكن وقوعه لأمثالنا.
كذا قال بعض مؤرخي المغرب، والصحيح أنه لم يجتمع به، فحج من هناك وعاد إلى المغرب، ولما ركب البحر من الإسكندرية، مغرباً، غير المنكر في المركب، وألزم من به بإقامة الصلاة، وقراءة القرآن، حتى انتهى إلى المهدية، وسلطانها حينئذ يحيى بن تميم، سنة خمس وخمسمائة، فنزل بمسجد قبلي مسجد السبت، وليس له سوى ركوة، وعصاً، وتسامع به أهل البلد، فقصدوه يقرأون عليه أنواع العلوم، وكان إذا مر به منكر غيره وأزاله، فلما كثر ذلك منه أحضره الأمير يحيى مع جماعة من الفقهاء، فلما رأى سمته وسمع كلامه أكرمه واحترمه، وسأله الدعاء.
ورحل عن المدينة وأقام بالمنستير مع جماعة من الصالحين، مدة، وسار إلى بجاية ففعل فيها مثل ذلك، فأخرج منها إلى قرية بالقرب منها اسمها ملالة، فلقيه بها عبد المؤمن بن علي، فرأى فيه من النجابة والنهضة ما تفرس فيه التقدم، والقيام بالأمر، فسأله عن اسمه وقبيلته، فأخبره أنه من قيس عيلان، ثم من بني سليم، فقال ابن تومرت: هذا الذي بشر به النبي، صلى الله عليه وسلم، حين قال: " إن الله ينصر هذا الدين، في آخر الزمان، برجل من قيس " ، فقيل: من أي قيس؟ فقال: " من بني سليم " . فاستبشر بعبد المؤمن وسر بلقائه، وكان مولد عبد المؤمن في مدينة تاجرة، من أعمال تلمسان، وهو عائذ، قبيل من كومرة، نزلوا بذلك الإقليم سنة ثمانين ومائة.
ولم يزل المهدي ملازماً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في طريقه إلى أن وصل إلى مراكش دار مملكة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فرأى فيها من المنكرات أكثر مما عاينه في طريقه، فزاد في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فكثر أتباعه، وحسنت ظنون الناس فيه، فبينما هو في بعض الأيام في طريقه، إذ رأى أخت أمير المسلمين في موكبها، ومعها من الجواري الحسان عدة كثيرة، وهن مسفرات، وكانت هذه عادة الملثمين يسفر نساؤهم عن وجوههن، ويتلثم الرجال، فحين رأى النساء كذلك أنكر عليهن، وأمرهن بستر وجوههن وضرب هو وأصحابه دوابهن، فسقطت أخت أمير المسلمين عن دابتها، فرفع أمره إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، فأحضره، وأحضر الفقهاء ليناظروه، فأخذ يعظه ويخوفه، فبكى أمير المسلمين، وأمر أن يناظره الفقهاء، فلم يكن فيهم من يقوم له لقوة أدلته في الذي فعله.
وكان عند أمير المسلمين بعض وزرائه يقال له مالك بن وهيب، فقال: يا أمير المسلمين، إن هذا والله لا يريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما يريد إثارة فتنة، والغلبة على بعض النواحي، فاقتله وقلدني دمه. فلم يفعل ذلك، فقال: إن لم تقتله فاحبسه، وخلده في السجن، وإلا أثار شراً لا يمكن تلافيه. فأراد حبسه، فمنعه رجل من أكابر الملثمين يسمى بيان بن عثمان، فأمر بإخراجه من مراكش، فسار إلى أغمات، ولحق بالجبل، فسار فيه، حتى التحق بالسوس الذي فيه قبيلة هرغة وغيرهم من المصامدة سنة أربع عشرة، فأتوه، واجتمعوا حوله.
وتسامع به أهل تلك النواحي، فوفدوا عليه، وحضر أعيانهم بين يديه، وجعل يعظهم، ويذكرهم بأيام الله، ويذكر لهم شرائع الإسلام، وما غير منها، وما حدث من الظلم والفساد، وأنه لا يجب طاعة دولة من هذه الدول لاتباعهم الباطل، بل الواجب قتالهم، ومنعهم عما هم فيه، فأقام على ذلك نحو سنة، وتابعته هرغة قبيلته، وسمى أتباعه الموحدين، وأعلمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم، بشر بالمهدي الذي يملأ الأرض عدلاً، وأن مكانه الذي يخرج منه المغرب الأقصى، فقام إليه عشرة رجال، أحدهم عبد المؤمن، فقالوا لا يوجد هذا إلا فيك فأنت المهدي، فبايعوه على ذلك.
فانتهى خبره إلى أمير المسلمين، فجهز جيشاً من أصحابه وسيرهم إليه، فلما قربوا من الجبل الذي هو فيه قال لأصحابه: إن هؤلاء يريدونني، وأخاف عليكم منهم، فالرأي أن أخرج بنفسي إلى غير هذه البلاد لتسلموا أنتم. فقال له ابن توفيان من مشايخ هرغة: هل تخاف شيئاً من السماء؟ فقال: لا، بل من السماء تنصرون، فقال ابن توفيان: فليأتنا كل من في الأرض. ووافقه جميع قبيلته، فقال المهدي: أبشروا بالنصر بهذه الشرذمة، وبعد قليل تستأصلون دولتهم، وترثون أرضهم. فنزلوا من الجبل، ولقوا جيش أمير المسلمين، فهزموهم، وأخذوا أسلابهم، وقوي ظنهم في صدق المهدي، حيث ظفروا كما ذكر لهم.
وأقبلت إليه أفرواج القبائل، من الحلل التي حوله، شرقاً وغرباً، وبايعوه، وأطاعته قبيلة هنتانة، وهي من أقوى القبائل، فأقبل عليهم، واطمأن إليهم، وأتاه رسل أهل تين ملل بطاعتهم، وطلبوه إليهم، فتوجه إلى جبل تين ملل واستوطنه، وألف لهم كتاباً في التوحيد، وكتاباً في العقيدة، ونهج لهم طريق الأدب بعضهم مع بعض، والاقتصار على القصير من الثياب، القليل الثمن، وهو يحرضهم على قتال عدوهم، وإخراج الأشرار من بين أظهرهم.
وأقام بتين ملل وبنى له مسجداً خارج المدينة، فكان يصلي فيه وجمع ممن معه عنده، ويدخل البلد بعد العشاء الآخرة، فلما رأى كثرة أهل الجبل، وحصانة المدينة، خاف أن يرجعوا عنه، فأمرهم أن يحضروا بغير سلاح، ففعلوا ذلك عدة أيام، ثم أمر أصحابه أن يقتلوهم، فخرجوا عليهم وهم غارون فقتلوهم في ذلك المسجد، ثم دخل المدينة فقتل فيها وأكثر، وسبى الحريم ونهب الأموال، فكان عدة القتلى خمسة عشر ألفاً، وقسم المساكن والأرض بين أصحابه، وبنى على المدينة سوراً، وقلعة على رأس جبل عال.
وفي جبل تين ملل أنهار جارية، وأشجار، وزروع، والطريق إليه صعب، فلا جبل أحصن منه، وقيل: إنه لما خاف أهل تين ملل نظر، فرأى كثير من أولادهم شقراً زرقاً، والذي يغلب على الآباء السمرة، وكان لأمير المسلمين عدة كثيرة من المماليك الفرنج والروم، ويغلب على ألوانهم الشقرة، وكانوا يصعدون الجبل في كل عام مرة، ويأخذون ما لهم فيه من الأموال المقررة لهم من جهة السلطان، فكانوا يسكنون بيوت أهله، ويخرجون أصحابها منها، فلما رأى المهدي أولادهم سألهم: مالي أراكم سمر الألوان، وأرى أولادكم شقراً، زرقاً؟ فأخبروه خبرهم مع مماليك أمير المسلمين، فقبح الصبر على هذا، وأزرى عليهم، وعظم الأمر عندهم، فقالوا له: فكيف الحيلة في الخلاص منهم، وليس لنا بهم قوة؟ فقال: إذا حضروا عندكم في الوقت المعتاد، وتفرقوا في مساكنهم، فليقم كل رجل منكم إلى نزيله فيقتله، واحفظوا جبلكم، فإنه لا يرام ولا يقدر عليه. فصبروا حتى حضر أولئك العبيد، فقتلوهم على ما قرر لهم المهدي، فلما فعلوا ذلك خافوا على نفوسهم من أمير المسلمين، فامتنعوا في الجبل، وسدوا ما فيه من طريق يسلك إليهم، فقويت نفس المهدي بذلك.
ثم إن أمير المسلمين أرسل إليهم جيشاً قوياً، فحصروهم في الجبل، وضيقوا عليهم، ومنعوا عنهم الميرة، فقلت عند أصحاب المهدي الأقوات، حتى صار الخبز معدوماً عندهم، وكان يطبخ لهم كل يوم من الحساء ما يكفيهم، فكان قوت كل واحد منهم أن يغمس يده في ذلك الحساء ويخرجها، فما علق عليها قنع به ذلك اليوم، فاجتمع أعيان أهل تين مل، وأرادوا إصلاح الحال مع أمير المسلمين، فبلغ الخبر بذلك المهدي بن تومرت، وكان معه إنسان يقال له أبو عبد الله الونشريشي، يظهر البله، وعدم المعرفة بشيء من القرآن والعلم، وبزاقه يجري على صدره، وهو كأنه معتوه، ومع هذا فالمهدي يقربه، ويكرمه، ويقول: إن لله سراً في هذا الرجل سوف يظهر.
وكان الونشريشي يلزم الاشتغال بالقرآن والعلم في السر بحيث لا يعلم أحد ذلك منه، فلما كان سنة تسع عشرة وخاف المهدي من أهل الجبل، خرج يوماً لصلاة الصبح، فرأى إلى جانب محرابه إنساناً حسن الثياب، طيب الريح، فأظهر أنه لا يعرفه، وقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو عبد الله الونشريشي! فقال له المهدي: إن أمرك لعجب! ثم صلى، فلما فرغ من صلاته نادى في الناس فحضروا، فقال: إن هذا الرجل يزعم أنه الونشريشي، فانظروه، وحققوا أمره. فلما أضاء النهار عرفوه، فقال له المهدي: ما قصتك؟ قال: إنني أتاني الليلة ملك من السماء، فغسل قلبي، وعلمني الله القرآن، والموطأ، وغيره من العلوم والأحاديث. فبكى المهدي بحضرة الناس، ثم قال له: نحن نمتحنك، فقال: افعل.
وابتدأ يقرأ القرآن قراءة حسنة من أي موضع سئل، وكذلك الموطأ، وغيره من كتب الفقه والأصول، فعجب الناس من ذلك، واستعظموه.
ثم قال لهم: إن الله تعالى قد أعطاني نوراً أعرف به أهل الجنة من أهل النار، وآمركم أن تقتلوا أهل النار، وتتركوا أهل الجنة، وقد أنزل الله تعالى ملائكة إلى البئر التي في المكان الفلاني يشهدون بصدقي.
فسار المهدي، والناس معه وهم يبكون، إلى تلك البئر، وصلى المهدي عند رأسها، وقال: يا ملائكة الله، إن أبا عبد الله الونشريشي قد زعم كيت وكيت، فقال من بها: صدق! وكان قد وضع فيها رجالاً يشهدون بذلك، فلما قيل ذلك من البئر، قال المهدي: إن هذه مطهرة مقدسة قد نزل إليها الملائكة، والمصلحة أن تطم لئلا يقع فيها نجاسة، أو ما لا يجوز، فألقوا فيها من الحجارة والتراب ما طمها، ثم نادى في أهل الجبل بالحضور إلى ذلك المكان، فحضروا للتمييز، فكان الونشريشي يعمد إلى الرجل الذي يخاف ناحيته، فيقول: هذا من أهل النار، فيلقى من الجبل مقتولاً، وإلى الشاب الغر، ومن لا يخشى، فيقول: هذا من أهل الجنة، فيترك على يمينه، فكان عدة القتلى سبعين ألفاً. فلما فرغ من ذلك أمن على نفسه وأصحابه واستقام أمره.
هكذا سمعت جماعة من فضلاء المغاربة يذكرون في التمييز، وسمعت منهم من يقول: إن ابن تومرت لما رأى كثرة أهل الشر والفساد في أهل الجبل، أحضر شيوخ القبائل، وقال لهم: إنكم لا يصح لكم دين، ولا يقوى إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإخراج المفسد من بينكم، فابحثوا عن كل ما عندكم من أهل الشر والفساد، فانهوهم عن ذلك، فإن انتهوا، وإلا فاكتبوا أسماءهم وارفعوها إلي لأنظر في أمرهم. ففعلوا ذلك، وكتبوا له أسماءهم من كل قبيلة، ثم أمرهم بذلك مرة ثانية، وثالثة، ثم جمع المكتوبات فأخذه منها ما تكرر من الأسماء فأثبتها عنده، ثم جمع الناس قاطبة، ورفع الأسماء التي كتبها، ودفعها إلى الونشريشي المعروف بالبشير، وأمره أن يعرض القبائل، ويجعل أولئك المفسدين في جهة الشمال، ومن عداهم في جهة اليمين، ففعل ذلك، وأمر أن يكتف من على شمال الونشريشي، فكتفوا، وقال: إن هؤلاء أشقياء قد وجب قتلهم، وأمر كل قبيلة أن يقتلوا أشقياءهم، فقتلوا عن آخرهم فكان يوم التمييز.
ولما فرغ ابن تومرت من التمييز، رأى أصحابه الباقين على نيات صادقة، وقلوب متفقة على طاعته، فجهز منهم جيشاً وسيرهم إلى جبال أغمات، وبها جمع من المرابطين، فقاتلوهم، فانهزم أصحاب ابن تومرت، وكان أميرهم أبو عبد الله الونشريشي، وقتل منهم كثير، وجرح عمر الهنتاتي، وهو من أكبر أصحابه، وسكن حسه ونبضه، فقالوا: مات! فقال الونشريشي: أما إنه لم يمت، ولا يموت حتى يملك البلاد. فبعد ساعة فتح عينيه، وعادت قوته إليه، فافتتنوا به، وعادوا منهزمين إلى ابن تومرت، فوعظهم، وشكرهم على صبرهم.
ثم لم يزل بعدها يرسل السرايا في أطراف بلاد المسلمين، فإذا رأوا عسكراً تعلقوا بالجبل فأمنوا. وكان المهدي قد رتب أصحابه مراتب، فالأولى يسمون أيت عشرة يعني أهل عشرة، وأولهم عبد المؤمن، ثم أبو حفص الهنتاتي، وغيرهما، وهم أشرف أصحابه، وأهل الثقة عنده، والسابقون إلى متابعته، والثانية: أيت خمسين، يعني أهل خمسين، وهم دون تلك الطبقة، وهم جماعة من رؤساء القبائل، والثالثة: أيت سبعين، يعني أهل سبعين، وهم دون التي قبلها، وسمي عامة أصحابه والداخلين في طاعته موحدين، فإذا ذكر الموحدون في أخبارهم فإنما يعنى أصحابه وأصحاب عبد المؤمن بعده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب { متن الدرة المضيئة في السيرة}الدرة المضية

    كتاب { متن الدرة المضيئة في السيرة}الدرة المضية بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي  ----------------- قال الشيخ الإمام الحبر الحافظ أبو...